سلسلة التربية لماذا

محمد حسان

التربية لماذا؟! [1]

التربية لماذا؟! [1] مع هذه الصحوة المباركة في أرجاء المعمورة، ونتيجة للانفصام الموجود عند المستقيمين، وعدم ترتيب الأعمال والأولويات، وكذلك نتيجة مخالطة الشباب أصحاب المنح والدراسات الخارجية للمجتمعات الغربية، ثم رجوعهم بفكر آخر، وقد انصهروا في بوتقة الغرب متأثرين تمام التأثر، ومؤثرين في بلدانهم كذلك، لأجل هذا وغيره لابد من التربية الإسلامية الصحيحة، التي تنشئ المسلم العقدية والعبادية والأخلاقية وغيرها من الجوانب.

أسباب اختيار موضوع: (التربية لماذا؟)

أسباب اختيار موضوع: (التربية لماذا؟) إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأطهار الأخيار، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، إنه على كل شيء قدير. أحبائي: يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالبا وما طلبوا إلا حقير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق مرحباً بأحبابي مرحباً بإخواني مرحباً بالأطهار الأخيار أسأل الله عز وجل أن يحشرني وإياكم في زمرة سيد الدعاة وإمام النبيين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. لقاء هام، ألا وهو لقاؤنا في هذه الليلة الكريمة المباركة: التربية لماذا؟

السبب الأول: الصحوة المباركة وحاجتها إلى منهج تربوي أصيل

السبب الأول: الصحوة المباركة وحاجتها إلى منهج تربوي أصيل أيها الأحبة! لقد شاء الله جل وعلا في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض للقضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، شاء الله أن يبزغ في الأفق، نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، وكيف لا وهي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، يتمثل في صحوتكم الإسلامية العالمية المباركة، فها نحن نرى بفضل الله جل وعلا كوكبة كريمة، وثلة مباركة عظيمة، من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تلك الكوكبة الكريمة المباركة التي جاءت بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، جاءت من جديد لتمضي على طريق الدعوة الطويل، الضارب في شعاب الزمان، من لدن نوح إلى نبينا صلى الله عليه وسلم. جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطا، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بنهاية الطريق، وبانتصار الحق ومحق الباطل، وأن الحق ظاهر خالد، والباطل زاهق زائل. فحيثما توجهتم -أيها الأحباب- وجدتم صحوة عارمة عالمية مباركةً، فلقد أقمت في أمريكا منذ ثلاثة أشهر فقط، بدعوة كريمة للمشاركة في ثلاثة مؤتمرات إسلامية، وأبشركم -ولله الحمد- فقد حضر المؤتمر في قلب قلعة الكفر ما يزيد على ستة آلاف موحد وموحدة، احتلوا ساحة أكبر فندق في مدينة تريت وصدح المؤذن بكلمة التكبير والتوحيد في قلب قلعة الكفر خمس مرات، من منا كان يتوقع أن تصل الصحوة إلى قلعة الكفر؟! من منا كان يظن أن يكون هذا العمل المنظم الدقيق للإسلام في قلب أمريكا؟! إنه وعد الله. صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تقتحم المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحجب نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا: تطرف جيلنا لما سما قطراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أو كان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من جعلوا البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق اتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك قدوة فهو الذي الصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً سوف تبقى بالتزامك أسمقا هذه الصحوة المباركة هي السبب الأول من أسباب اختياري لموضوع ليلتنا هذه (التربية لماذا؟) فإن هذه الصحوة -أيها الأطهار- في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، يقود خطاها وسيرها ومسراها، حتى لا يضيع جهد هذه الصحوة المباركة سُدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، من أجل أن تكون صحوةً مثمرةً بناءهً قويةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى هذا المنهج التربوي المنبثق من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، بفهم سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم جميعاً، هذا هو السبب الأول من أسباب اختياري لهذا العنوان.

السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير

السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير أما السبب الثاني فهو: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير. أيها الأخيار! إن المجتمع الإسلامي الذي شاد القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته المتينة العظيمة القوية، على يد أعظم مرب عرفته الدنيا صلى الله عليه وسلم-بأبي هو وأمي- كان مجتمعاً فريداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، كان مجتمعاً تمثلت فيه العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتتمثل هذه العبودية فيما يلي: أولاً: في العقيدة الصحيحة الصافية الخالصة، امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] . وتمثلت هذه العبودية ثانياً في العبادة الصحيحة، بكمال ركنيها من كمال حب، وكمال ذل، وبشرطيها من إخلاص واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتمثلت هذه العبودية ثالثاً: في الجانب التعبدي والتشريعي في تطبيق شريعة الله جل وعلا امتثالاً عملياً لقول الله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . وتمثلت هذه العبودية رابعاً: في الجانب الأخلاقي والسلوكي والمعاملات امتثالاً عملياً، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] . وتمثلت هذه العبودية خامساً: في المحبة الصادقة والاتباع الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجسد هذا الاتباع الصادق وهذه المحبة الخالصة صحابي جليل جاء إلى الحبيب المصطفى ليقول له يوماً: (يا رسول الله! والله إنك لأحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من ولدي ومالي، وإني إذا كنت في بيتي فذكرتك يا رسول الله لا أصبر حتى آتي لأنظر إليك، وإني تذكرت موتك اليوم يا رسول الله، وعرفت أنك بعد موتك سترفع مع النبيين في الجنة، وإذا مت أنا فلن أستطيع أن أراك يا رسول الله، فبكيت) فلم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم جواباً أمام هذا الحب المتدفق الحاني، فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69-70] . عبودية كاملة -أيها الأحباب- إنه مجتمع رباه القرآن وطهر ظاهره وباطنه، ورباه المصطفى صلى الله عليه وسلم فنقله من الكفر والعصبية والعنصرية البغيضة إلى واحة التوحيد والتسامح والمحبة والإخاء، لا فرق في هذا المجتمع بين أحد، ولا فضل لمن ارتفع على من تواضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، بل الكل سواء لا فضل لأحدهم إلا بالتقوى مصداقاً لقول ربنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] هذه بعض سمات العبودية الكاملة في هذا المجتمع لله جل وعلا وحده لا شريك له.

مظاهر الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير

مظاهر الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير وظل هذا المجتمع -أيها الأحباب- يرفل في ثوب التوحيد والعبودية الكاملة لله جل وعلا، حتى ابتعد هذا المجتمع رويداً رويداً عن أصل عزه، ومعين شرفه، ونبع كرامته، وراح يلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، فوقع في هذا الانفصام الذي عنونت له بقولي: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، وإليكم بعض مظاهر هذا الانفصام النكد، بين المنهج والواقع: ففي جانب العقيدة، نرى العقيدة اليوم تذبح شر ذبحة على أيدي أبنائها إلا من رحم ربك جل وعلا، فسمعنا ورأينا من يسأل غير الله، ويذبح لغير الله، ومن ينذر لغيره، ومن يستعين بغيره، ومن يلجأ إلى غيره، ومن يفوض الأمر إلى غيره، ومن يتوكل على غيره، ومن يطوف بغير بيته، بل وسمعنا ورأينا على شاشات التلفاز في احتفال مولد السيد البدوي من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب. فأين الله؟! أين الله؟! ذبحت العقيدة شر ذبحة، ولوثت العقيدة ودنس التوحيد، وصرفت العقيدة والعبادة لغير الله العزيز الحميد، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (من ذبح لغير الله فقد أشرك، ومن نذر لغير الله فقد أشرك، ومن حلف بغير الله فقد أشرك) ويوصي ابن عباس وصيته الخالدة: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقل لربك بقلبك وجوارحك ولسانك وعملك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فضائلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! أخلصوا العبادة لله، فمن مظاهر الانفصام في جانب العقيدة، أننا نرى العقيدة قد ذبحت شر ذبحة على يد أبنائها إلا من رحم ربك جل وعلا. وفي جانب العبادة: نرى كثيراً من الناس قد صرف العبادة لغير الله، بل ومن أبناء الأمة من يدعي الآن ويقول: إنني ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تسير شئونه وتدبر نظامه، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] الملك ملكه، والكون كونه، والأمر كله له، لا تسأل أحداً دونه ولا غيره، حتى ولو كان الحبيب صلى الله عليه وسلم. وفي جانب التشريع: وقعت الطامة الكبرى التي لم تكن تخطر لأحد ألبتة على بال، نعم فلقد نحي شرع الله جل وعلا، ووقع في الأرض المنكر الأكبر، بتنحية شرع الله وتحكيم القوانين الوضعية الكافرة الجائرة، واستبدل المسلمون بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، والرحيق المختوم حريقاً محقاً مدمراً، يوم أن نحّو شريعة الله واستبدلوا بها شريعة المهازيل من البشر من العلمانيين والديمقراطيين والشيوعيين، وأصحاب الأهواء والشبهات والشهوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات. أما في جانب الأخلاق والسلوك والمعاملات حدث عن هذا الانفصام ولا حرج، فإن هذا الانفصام النكد في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك إنما هو أمر حتمي، وهي نتيجة حتمية للتخلف العقدي والتعبدي والتشريعي مع غياب المنهج التربوي الأصيل المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة. كذلك في الجانب النفسي نرى هزيمةً نفسيهً مدمرةً ومنكرةً. هذه -أيها الأحبة- بعض مظاهر الانفصام النكد، بين المنهج المنير والواقع المرير.

الذوبان في بوتقة مناهج الغرب الدخيلة

الذوبان في بوتقة مناهج الغرب الدخيلة أما السبب الثالث من أسباب طرحي لهذا الموضوع هو: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فلقد هزمت الأمة هزيمة نفسية نكراء، وراحت تنظر إلى هذه الحضارة الغربية المادية نظر الملهوف الذي فقد كل شيء، وأصبح مستعداً للذوبان في أي شيء، وللتفاعل مع أي منهج، حتى ولو كان يخالف العقيدة والسنة النبوية الصحيحة، فانساحت الأمة، وراحت تحاكي محاكاة عمياء، تقلد الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وهانحن الآن نراها تدور في فلك الوسط مرة ثالثة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم وراءهم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) فمن غير هؤلاء؟ اتبعت الأمة طريق المغضوب عليهم من اليهود، وطريق الضالين من النصارى، وتركت طريق الأطهار الأخيار الأبرار، تركت أصل عزها، ونبع شرفها ومجدها وكرامتها وسيادتها بل وبقائها، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهنا قد يئن الإخوة ويقولون بنظرة حزن وألم: فما هو الحل، وما هو العلاج، وما هو السبيل إلى الإصلاح؟ والجواب في كلمة واحدة، نعم في كلمة واحدة ألا وهي: التربية. قد يئن الآن بعض الأحبة ويقول: أهذا هو الطريق، وذاك هو العلاج؟! فأقول: نعم. يقول: آه والله إنه لطريق طويل. وA إنه على الرغم من طوله فإن هذا الطريق هو الذي سلكه أعظم مربٍ عرفته الدنيا. لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة -أيها الأحباب- فما هي المنهجية الصحيحة لإقامة دولة الإسلام؟ اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنرى كيف أقام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. والله ما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتربية، بتربية أفراد قلائل من الصحابة الأطهار الأخيار الكرام، خلا بهم بعيداً عن هذا المجتمع الجاهلي الذي كفر بالله وأشرك به، في دار منعزلة بعيدة، لأنه لا بد من الانفصال ولا بد من التميز، ولا بد من المفاصلة، أما أن نعيش وسط هذا المجتمع، وأن نحاكيه، وأن نقلده، وألا نعتز بعقيدتنا، أو نستعلي بديننا، أو ننفصل بإيماننا، أو نظهر للدنيا توحيدنا وإسلامنا، فلن نستطيع أن ننقل للدنيا هذا النور الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم. خلا النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الأطهار في دار بعيدة متواضعة، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبدأ مع هؤلاء، ليربيهم على القرآن، وعلى السنة الصحيحة، ليصقل نفوسهم، وليهذب ضمائرهم، وليربي أخلاقهم وقلوبهم، ثم قام بهم ومعهم وعلى أكتافهم ليقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. وانتبه -أيها الشاب الحبيب- والله إني لأعلم أن دماء الإخلاص تتدفق في عروقك حباً لهذا الدين، وأنك الآن على استعداد لأن تقدم دمك وروحك ونفسك لدين الله جل وعلا، وهذا خير عظيم كثير، واحمد الله أن شرفك الله بحمل همِّ هذا الدين، فغيرك يسير ويمشي في هذه الدنيا بلا غاية ولا هدف، لا يعرف له غاية، ولا يعرف له هدفاً، بل ولا يعرف له مصيراً، فاحمد الله أن شرفك بهذا الدين: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا أيها الحبيب! لا تتعجل، ولا تتعجلوا النتائج -أيها الأطهار- فإن دين الله قادم -إي وربي- كقدوم الليل والنهار، لا تتعجلوا النتائج؛ لأن الله جل وعلا لن يسألنا لماذا لم تنتصروا؟ ولكن الله جل وعلا سيسألنا لماذا لم تعملوا؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] أما النتائج فعلمها عند ربي، ومن الأدب مع الله جل وعلا ألا نتعجل النتائج، وألا نقول لربنا: يا رب! لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا أحد. يا رب! لقد دعونا كثيراً وما زال الطغاة والطواغيت والظلمة والمتكبرون والمتجبرون هم الذين بيدهم القوة والسطوة، وهم الذين بيدهم السلطان، وإن أهل التوحيد يعذبون ويضطهدون، ويصب البلاء على رءوسهم صباً، وتصب المحن على رءوسهم صباً. هذا من سوء أدبنا مع الله جل وعلا، ابذل دمك وروحك، وابذل جاهك ووقتك، واحمل همَّ الدين في قلبك، وتحرك لدين الله، واعلم بأن النتائج ليست عليك، ولن يسألك الله عن نتائج دعوتك. اصبروا، والله لقد جاء صحابي متحمس كتحمس شبابنا الأطهار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يوماً ليقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا! ألا تستنصر لنا! والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ يجلس، ويحمر وجهه ويغضب من هذا الطرح ويقول: والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل يؤتى به من قبلكم، فينشر بالمنشار أو يوضع المنشار في مفرق رأسه ويشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم، فما يصده ذلك عن دين الله، فوالله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) . أيها الشباب! اصبروا، والله ذلكم وعد الله، ووعد من لا ينطق عن الهوى: (والله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) والحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وهو حديث صحيح الإسناد من حديث تميم الداري رضي الله عنه. هذا وعد الله، وكلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3-5] . فلا ينبغي أبداً أن يعادي بعضنا بعضاً، أو يحقر بعضنا بعضاً، أو يسخر بعضنا لمنهج البعض الآخر، أبداً، وإنما نعلم جميعاً أن كل جهد يبذل لدين الله فهو على خير، وأسأل الله أن يصحح لي ولكم النيات، وأن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال.

المصادر التي يجب أن نستقي المنهج التربوي منها

المصادر التي يجب أن نستقي المنهج التربوي منها لقد حان الوقت -أيها الأحبة- لتتربى هذه الجموع الغفيرة التربية الصحيحة على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وحان الوقت لواضعي ومخططي المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا في المدارس والجامعات، حان الوقت أن يتخلصوا من عقدة النقص أمام المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا، فإننا نحمل الإسلام الذي يملك وحده المنهج التربوي الأصيل الصحيح، القادر على أن يقود البشرية بل والإنسانية كلها إلى ذروة المجد والعلى، وواحة الهناء والسعادة في الدنيا والآخرة. فينبغي أن نعلم أن المصادر الأصيلة الصافية الصحيحة التي ينبغي أن تُستقى منها مناهج تربيتنا هي ما يلي: أولاً: القرآن الكريم. ثانياً: السنة الصحيحة. ثالثاً: منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. وأقول تفصيلاً:

المصدر الأول: القرآن الكريم

المصدر الأول: القرآن الكريم القرآن الكريم فهو النبع الأول، والمعين الصافي الذي ينبغي أن يكون مصدراً أولاً للمناهج التربوية الإسلامية الحديثة الصحيحة، لماذا؟ لأنه كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم، فلا بد من العودة إلى هذا النبع الكريم الصافي المبارك، القرآن بين أيدينا هو مصدر التربية الأول لجيل الصحابة وللرعيل الأول، وما زال القرآن بحروفه وألفاظه ورسمه لم يتغير منه حرف، ولم تتبدل منه كلمة، ولم تحذف منه آية، هو القرآن الذي ربى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لا زال نوره وحرفه بين أيدينا. وإن للقرآن منهجه التربوي الفريد في لمس القلوب، وتحريك العواطف، واستجاشة الوجدان، ولقد بدأ هذا القرآن -لحكمة من الله جل وعلا- يتنزل ليربي على فترات: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء:106] يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: فالفرق مقصود، والمكث مقصود لحكمة من الله جل وعلا: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] كان القرآن يتنزل بحسب المشاكل والحاجات ليربي الصحابة تربية عملية واقعية سلوكية، وهم بدورهم حولوا القرآن إلى منهج عملي، وإلى مجتمع متحرك مرئي، ومنظور ومسموع. القرآن الكريم الذي بدأ يربي الصحابة وكانت أولى خطواته في التربية: ترسيخ العقيدة، ومن ثم -أيها الدعاة، والشباب، والمدرسون، والآباء- إنني اليوم لا أخاطب فئة واحدة، ولكني أخاطب كل من نصبه الله لمهمة التربية، أخاطب الدعاة والعلماء، وأخاطب الشباب والآباء، وأخاطب المدرسين والمدرسات، أخاطب الأمهات، أخاطب كل من أمنه الله هذه الأمانة العظيمة، أمانة التربية. لقد بدأ القرآن أول ما بدأ -ليربي الصحابة- بترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأنه والله لا تصح تربية على الإطلاق إلا إذا تربى الناس على العقيدة الصحيحة، وعرفوا ابتداءً من خالقهم، ومن رازقهم، ومن إلههم، ومن الذي ينبغي أن تصرف العبادة له؟ من الذي يستحق أن يسأل؟ ومن الذي يستحق أن يذكر؟ هذه أول لبنة من لبنات التربية التي لا بد أن تؤسس على بينة ووضوح وجلاء. بدأ القرآن بترسيخ العقيدة في القلوب، فعرفهم خالقهم، وللقرآن -كما ذكرت- أسلوبه بدون تعقيد، بمنتهى البساطة والوضوح، وانظر معي هذه الآيات من سورة النمل كيف حركت قلوب هؤلاء، واستجاشت عواطفهم، ولامست وجدانهم، وعرفتهم -في النهاية- بخالقهم ورازقهم وإلههم ومعبودهم جل وعلا، اسمع معي -أيها الحبيب- يقول الحق تبارك وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60-64] آيات عجيبة، تخاطب القلب، تخاطب أعماق الفطرة: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60] حدائق ذات بهجة، ذات جمال، ذات نضرة. فللواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسي سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] لا رب غيره، ولا معبود سواه. الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت صخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] . {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33-40] . {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] . يا أحمد بن حنبل ما الدليل على وجود الله؟ فقدم ورفع البيضة، وقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره وخرج منه حيوان سميع بصير. القرآن له أسلوبه، ولذا خاف المشركون على أنفسهم من أسلوب القرآن في التربية، وحذر بعضهم البعض الآخر: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] بل والله لتعجبون -أيها الأحباب الأطهار الخيار الكرام- أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة من البعثة المباركة، في مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً، خرج ليصلي في الكعبة المشرفة، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، ومن بين يديه جلس المشركون، وجلس صناديد الكفر والشرك، وقرأ سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ قوارع تطير لها القلوب والأفئدة: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57-62] وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم وخر ساجداً لله فلم يتمالك المشركون أنفسهم فقاموا خلفه وخروا سجداً لله جل وعلا، وهم على الشرك والكفر. وقصة سجود المشركين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الإمام البخاري في صحيحه، وعنون لهذا الباب بعنوان: باب: سجود المسلمين مع المشركين، ورواه مختصراً من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة النجم وسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] إنه جلال القرآن، إنه كلام الحق جل وعلا، هذا هو مصدر التربية الأول، عرف القرآن الإنسان مَنْ خالقه؟ وبعدما أجابه على هذا السؤال، عرفه على مصيره، ما هو مصيره؟ وما هي الغاية؟ وما هو الهدف؟ ولماذا تعيش؟ وما هذه النتيجة؟ أجاب بمنتهى الوضوح، وعرفه بأنه لا بد أن يأتي يوم سيقف فيه بين يدي الله ليسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] أجاب القرآن، وهذا هو الأسلوب التربوي الصحيح، أن يجيب المنهج على كل تساؤل واستفسار، إجابة مقنعة وواقعية ومنطقية، إجابة تريح القلب والعقل، وتريح الوجدان والفؤاد. ولذا أنادي الآن أساتذتي وأحبابي من المدرسين والمدرسات ألا يضيق صدره بسؤال طالبه، وإنما ينبغي أن يفتح صدره لطلابه وأن يجيب عليهم، وأن يحاول أن يقنعهم بالجواب، وأن يربطهم بالجواب ربطاً واقعياً عملياً سلوكياً حت

المصدر الثاني: السنة المطهرة

المصدر الثاني: السنة المطهرة المصدر الثاني من مصادر التربية: السنة المطهرة وهناك صنف خبيث يدندن حول القرآن دون السنة، ويقولون: إننا لا ننكر القرآن، ونريد أن نأخذ بالقرآن، ولكن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلا داعي إذاً للأخذ بالسنة، ويكفينا أن نأخذ بالقرآن، ولا يدري أنه إذا أخذ القرآن وضيَّع السنة فقد ضيع القرآن والسنة معاً. وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ذلك، وبيّن أنه سيأتي من أبناء الأمة من يقول هذا، كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصحح إسناده شيخنا الألباني من حديث المقدام بن معد يكرب، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) وفي رواية: (ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلا بد -أيها الأحبة- من السنة مع القرآن، بل لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك وصححه أيضاً الشيخ الألباني، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وأرجو الله ألا ننساها. أقول: إذا كان كل طالب علم يتأثر بالمنهج الذي يدرسه، فما ظنكم إذا كان المنهج الذي يدرس هو القرآن والسنة؟! وإذا كان كل طالب علم يتأثر بأستاذه الذي يأخذ عنه فما ظنكم إذا كان الأستاذ هو محمد صلى الله عليه وسلم؟! شخصية النبي صلى الله عليه وسلم منهج تربوي متكامل، وسنته صلى الله عليه وسلم كذلك، ولا أستطيع أبداً أن أقف وأبين من خلال سيرته وحياته أركان وعناصر وبنود هذا المنهج التربوي الأصيل، بل سأكتفي بمثال واحد تربوي فذ لأبين لكم أن شخصيته صلى الله عليه وسلم كانت منهجاً تربوياً فريداً متكاملاً. حديث رواه أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: [جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله سؤالاً عجيباً غريباً] هل يا ترى جاء الشاب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله؟ أم جاء يسأله عن الإنفاق في سبيل الله؟ أم جاء يسأله في أن يخرج معه للغزو؟ كلا ولكنه جاء يسأل سؤالاً غريباً، أتدرون ما الذي سأله هذا الشاب؟ جاء ليقول لرسول الله: (يا رسول الله؟ أتأذن لي بالزنا؟!) ما غضب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ارتفع صوته، ولا احمر وجهه، ولا أمر الصحابة أن يحملوه من بين يديه ومن خلفه ليلقوه خارج المسجد ولكنه ابتسم في وجهه ابتسامة حانية مشرقة، ونظر إليه وقال: (ادن) واقترب الشاب من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي همسات تربوية حانية يقول له المربي الأعظم، والأستاذ الحبيب: (أترضاه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، وكذلك لعماتهم وخالاتهم) . ثم بعد هذا كله مد الحبيب يده الحانية -فإنه بحر الرحمة، وينبوع الحنان، وأستاذ التربية- ووضعها على صدر هذا الشاب، وتضرع إلى الله بالدعاء وقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وحصن فرجه) أي تربية هذه يا إخوان؟! وكلكم يعلم قصة الأعرابي الذي جاء ليبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلكم يعلم قصة ماعز وكيف رده النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوبه، وكلكم يعلم قصة الغامدية وكيف ردها النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب، فهو نبي الرحمة، وينبوع الحنان. والرسول صلى الله عليه وسلم شخصيته منهج تربوي فضلاً عن سنته، وإذا كانت العظمة تحب لذاتها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب لذاته فضلاً عن أنه رسول من عند الله جل وعلا، وهذا الحب بين المربي وطلابه والأستاذ وتلاميذه هو المفتاح الأول للتربية الصحيحة. والله لقد أحب أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حباً ليس له في تاريخ العالمين نظير، فلقد جاء عروة بن مسعود الثقفي رسول من قبل قريش في صلح الحديبية، وقف يكلم النبي عليه الصلاة والسلام -وكان من عادة العرب إذا أرادوا أن يتوددوا إلى من يتكلمون معه أن يمد أحدهم يده ليعبث بلحية من يتكلم معه- فمد عروة بن مسعود يده ليداعب شعرات طيبات من لحية الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة بن شعبة رضوان الله عليه يقف عند رأس النبي عليه الصلاة والسلام يظلل عليه من الشمس، وبيده السيف، فإذا مد عروة يده ليداعب شعرات لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضربه المغيرة بنصل السيف على يده وهو يقول: [أخر يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك] يعجب عروة بن مسعود ويرجع إلى قومه ليسجل هذه الشهادة، ويقول: يا قوم! والله لقد وقفت على الملوك، ولقد أتيت كسرى في ملكه، والنجاشي وقيصر، والله ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً! والله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا تكلم أنصتوا له، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم حباً ليس له في تاريخ الدنيا ولا في تاريخ العالمين نظير، فشخصية النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن سنته منهج تربوي أصيل متكامل. ومن أراد أن يتتبع سيرة المصطفى فسيجد المنهج التربوي الأصيل الذي به وعليه تربى الجيل الأول، ووالله لن نصل إلى ما وصلوا إليه إلا إذا عدنا إلى هذا النبع الصافي، وكيف لا وقد رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه في حِلْمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وسلم.

المصدر الثالث: منهج السلف الصالح

المصدر الثالث: منهج السلف الصالح أما المصدر الأخير بإيجاز فهو: منهج السلف الصالح باعتباره يمثل التصديق العملي للقرآن والسنة. واعلموا -أيها الإخوة- أن السلفية ليست جماعة، وليست حكراً على أحد، وليست حزباً لأحد، بل إن السلفية تيار ممتد إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وإلى التابعين، وإلى الأئمة الراشدين المهديين، فمن سلك طريق هؤلاء فهو منتسب إلى سلف الأمة الصالح، حتى ولو لم يعاصرهم بالمكان والزمان، ومن تنكب عن طريقهم وسلك طريقاً غير طريقهم، ودرباً غير دربهم فليس منهم وإن جمع بينه وبينهم الزمان والمكان، فلا ينبغي أبداً أن يأتي أحد أحبابنا ليجعل من السلفية جماعة حزبية ضيقة، وإنما السلفية تيار ممتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبناء الطائفة المنصورة في كل زمان، وكان هؤلاء الذين يسيرون على طريق المصطفى، وعلى طريق سلف الأمة الصالح، وعلى طريق التابعين وتابع التابعين، وعلى طريق الأئمة الراشدين المهديين من بعدهم، من سار على هذا الطريق فهو منتسب إلى سلف الأمة الصالح، وأي شرف هذا، وأي نسب هذا!! فلا ينبغي هذا التعصب، وهذا التحزب والتخلف. يا أحبابي! إننا الآن نقبل على مرحلة حرجة، وعلى مرحلة خطيرة تحتاج منا أن نكون جميعاً يداً واحدة، وأن نكون جميعاً قلباً واحداً، وأن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، لا شك، وأعلم علم اليقين أن من بين إخواننا من هو على خطأ عقدي، بل ومنهجي، بل وفكري، بل وقد يكون على خطأ حركي، ولكن إذا تخليتم أنتم عنه، وتخليت أنت فمن الذي سيأخذ بأيدي إخواننا إلى الصواب والحق؟ فلننصهر جميعاً في بوتقة الحب في الله مع تصحيح الأخطاء، لا أقول: أن ندني رءوسنا في الرمال كالنعام لا. مع تصحيح الأخطاء العقدية، والمنهجية، والفكرية، بل والحركية، ولكن في ساعة من الحب الندي، والتعرف الجياش، والرحمة الواسعة، فلنكن كمجتمع الصحابة الأول إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. أيها الأحبة! اعتصموا بالله، وتوكلوا، واجتمعوا على الحق كرجل واحد، والله إن الله جل وعلا سائلنا عن هذا الدين، وإن أعظم خطر علينا هو هذه الفرقة، وهذا الشتات والتزمت، وأنتم تعلمون جميعاً أن أهل الباطل على اختلاف مشاربهم، وأيدلوجياتهم وقوانينهم ونظمهم ما اتفقوا على شيء مثل اتفاقهم على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، وأهل الحق متفرقين، متشتتين متناحرين، ومتطاحنين متشرذمين. أيها الحبيب! أنا بشر، أخطئ وأصيب، إياك أن ترفعني إلى مرتبة الملائكية أو الرسالة! كلا. فإن أخطأت أنا من يصحح لي الخطأ، من يأخذ بيدي إلى الصواب إن تركتني وأنت أخي وحبيبي في الله، ولكن الحقيقة ألا يجسوا الأخطاء، وإنما ينبغي أن يتحركوا في ذل وتجرد وتواضع لله، وذلة لأخيك وانكسار لتأخذ بيمينه إلى الحق. ووالله -أقولها- إن الأخ لو وجد أن أخاه قد أتاه مخلصاً صادقاً محباً له متجرداً لله يدعوه إلى الحق، ويقول: يا أخي في الله، ويا حبيبي هذا غلط، وهذا باطل، والدليل من القرآن والسنة الصحيحة كذا وكذا، لو علم الله منك صدق النية لذلل لك القلوب، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. أسأل الله جل وعلا أن يردنا وإياكم إلى هذا المنهج التربوي الأصيل، إلى القرآن والسنة الصحيحة، بفهم سلف الأمة، باعتبار هذا الفهم يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. أسأل الله جل وعلا أن يجزيكم خير الجزاء على هذا العناء والمشقة والكلف والنصب فجزاكم الله خيراً أيها الأحباب، وأسأل الله أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأسأل الله أن يحرم وجوهكم جميعاً على النار. اللهم لا تخرج واحداً من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، وأقر أعيننا بنصر الإسلام وعز المسلمين. اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم ارفع عن أبنائنا وشعبنا الغلاء والوباء يا رب العالمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

التربية لماذا؟! [2]

التربية لماذا؟! [2] من خصائص التربية خاصية التكامل والشمول، فإن المنهج -كما هو معروف- إذا كان صادراً عن شخص فإنه يناسب أناساً معينين وزماناً معيناً، ومكاناً معيناً، فلا يتعدى إلى غيره، وهذا ما نراه واضحاً بيناً في القوانين الوضعية. أما المنهج الرباني فهو كامل وشامل لكل زمان ومكان؛ لأنه كلام من (يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

مقدمة عن التربية ومصادرها وأهميتها

مقدمة عن التربية ومصادرها وأهميتها الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، لا أحصي ثناءً عليه فهو كما أثنى على نفسه، جل ثناؤه، وعظم جاهه، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقنا إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعاً -أيها الأخيار الأطهار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله أن يجزيكم على هذا الحضور وعلى هذه الخطا خير الجزاء، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته على منابر من نور مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك ومولاه. أيها الأحبة الكرام! إن لقاءنا الليلة هو امتداد للقاء الأول الذي بدأناه في مجمع التوحيد بعنوان "التربية لماذا؟ " وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في المحاضرة السالفة: تكلمت عن أسباب اختياري لهذا الموضوع في هذا التوقيت الحرج بالذات، ولخصتُ هذه الأسباب في ثلاثة أسباب: أولها: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوةً قويةً بناءةً مثمرةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثقٍ من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، حتى يحميها من الإنسياح والذوبان في أطر ومناهج تربوية غربية دخيلة. وحتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وحتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملاً خاطئاً مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لا بد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، حتى لا تميل يمنة ولا يسرة، وإنما تسير على الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] تسير على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة، دون أن تتعصب -هذه الصحوة- إلى جماعة بعينها، أو إلى منهج بعينه، أو إلى أمير بذاته، أو إلى شيخ برأسه، بل إنها لا تتعصب إلا للحق، لا تتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للمناهج والجماعات والأفراد والشيوخ؛ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، بل إنها تتعصب للحق على لسان أي أحد، لا يهمها على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت كلمة الحق ستقال، لا يهمها من الذي سيرفع راية التوحيد ما دامت راية التوحيد ستظل خفَّاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء. إن الصحوة في حاجة إلى هذا المنهج المنضبط بالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف، ليس معنى ذلك أنني أقول: بأنه يجب على كل فرد أن ينطلق حراً طليقاً بمفرده ليعمل لدين الله، كلا! إننا نعيش الآن عصراً يسمى بعصر التكتلات، ولا نجد الآن اتفاقاً على شيء قدر اتفاق الغرب الكافر والشرق الملحد على الكيد للإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ومن ثم وجب على جميع أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة بشتى انتماءاتهم وبشتى جماعاتهم أن تتحد قلوبهم على الأقل، إن لم أقل يتحدون في جماعة واحدة، وتحت مسمىً واحد، أقول: وجب أن تلتقي هذه القلوب على المنهج الصحيح الثابت الذي لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح عليه عنزان، ألا وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، وليعمل كل أخ تحت لواء جماعته، التي رأى أنها هي الأقرب إلى الحق والصواب، ليعمل بكل طاقته وقدراته وإمكانياته لدين الله عز وجل، دون أن يحتقر جماعة أو يمتهن شيخاً أو يحقر عالماً أو يجرح إماماً. فإننا الآن بحاجة إلى تضميد الجراح، وإلى توحيد الصف والقلوب، فليتنازل كل أحد عن زعامته، وعن ريادته وقيادته، ليتحرك الجميع في بوتقة واحدة، في بوتقة الحب في الله، لنرفع جميعاً راية لا إله إلا الله في وقت أعلن فيه العلمانيون والمنافقون والمجرمون الحرب سافرةً لا على الإرهاب ولا على التطرف -زعموا- وإنما على الله ورسوله. يا شباب الصحوة! يا أطهار! يا أخيار! يا أبرار! يا أصحاب الحق! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! لا نريد فرقة وتمزقاً وتشتتاً. أعلم أن بعض الأحبة الآن سيقول لي: كيف تفكر وأنت تعلم يقيناً أن من بين أبنائنا وإخواننا ممن ينتمون إلى بعض الجماعات التي تعمل في الساحة على خطأ عقدي ومنهجي وحركي؟ أقول: يا أخي! أعلم ذلك يقيناً، ولكن إذا تناول كل أخ أخاه بالتجريح على المنابر فامتهن منهجه، واحتقر أسلوبه، وسفه دعوته، ولم يذهب إليه لينصهر معه في بوتقة الحب في الله، ويقول له بتواضع وذلة وانكسار: يا حبيبي في الله! هذا خطأ عقدي أنت عليه، والدليل على خطئك من كتاب الله كذا، ومن السنة الصحيحة كذا، وأقسم بالله العظيم لو رأى الأخ منك انكساراً لله، وذلاً وتواضعاً له، ورحمة به، وحكمة في نصحه وعرض الدليل عليه لأذعن للحق؛ لأنه يقيناً -وأنا أثق بكلمتي- يقيناً والله ما انطلق إلا وهو يريد الحق ونصرة دين الله ونصرة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ربما أخطأ الطريق وانحرف عن المنهج بعض الشيء، فوجب على أحبابه وإخوانه أن يقتربوا إليه في رحمة وحكمة ليبينوا له الحق بالدليل، وحينئذٍ سنرى الجميع إن شاء الله جل وعلا، حتى ولو كان تحت ظل راية جماعته التي يعمل لها، سنرى الألفة والمحبة والأخوة والمودة، وسنرى حبيبنا من الجماعة الإسلامية يعانق أخاه وحبيبه من الإخوان، وسنرى الأخ من الإخوان يعانق حبيبه من الجماعة السلفية، أو من جماعة أنصار السنة، أو من جماعة التبليغ، ونرى الإخوان جميعاً قد انصهروا في بوتقة الحب في الله، ومن منا على خطأ يصحح له إخوانه ذلك الخطأ بالرحمة والحكمة. يا أطهار! يا أخيار! أقسم بالله أن الشرق والغرب قد اتحدوا على حرب الإسلام، ونحن لا زلنا ومعنا الحق مختلفين، متناحرين، متطاحنين، لماذا؟! فليفتش كل واحد منا في نفسه هل يريد الله ورسوله والدار الآخرة، أم يريد الدنيا؟ دعاة الآخرة وعلماؤها متحابون متوادون، وعلماء الدنيا ودعاتها متناطحون متصارعون، فليفتش كل واحد منا في نفسه، هل أريد نصرة دين الله، أم أريد لنفسي الزعامة، والريادة، والقيادة، أم أريد لجماعتي أنها هي التي تظهر على الساحة، أم أريد لأميري أنه هو الذي تسمع كلمته، وأن قوله هو الحق الذي لا هزل ولا جدال فيه، وأن فتواه قرآن لا بد ألا يخالف، وسنة لا بد أن تتبع؟ فتشوا يا أحباب. والله إن أول من تسعر بهم النار عالم وقارئ للقرآن ومجاهد سقط في الميدان، لماذا؟ لأن العالم ما ابتغى بعلمه وجه الله، أراد السمعة والشهرة، وأراد بعلمه أن يصرف وجوه الناس إليه، وفي الحديث الصحيح من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) . لا أريد أن أستطرد فإن اللقاء طويل وإن البنود كثيرة، وإنما أريد أن أقول: إن الصحوة الإسلامية بشتى فصائلها، وبمختلف جماعاتها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل يصحح سيرها، ويقود خطاها، ذلكم المنهج المنضبط هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ ستلتقي القلوب على الحق جل وعلا، أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد صفنا، وألا يشتت شملنا، وأن يجعل هذه الصحوة شوكة في حلوق المنافقين والعلمانيين. السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير: وشرحنا ذلك مفصلاً، ونوهت لذلك في أول فقرة اليوم من خطبة الجمعة بقولي: إن ما تحياه الأمة الآن، إنما هو نتيجة حتمية لابتعادها عن المنهج الرباني، فإننا نرى الآن انفصاماً مريراً بين منهجنا المنير وواقع الأمة المرير الأليم. السبب الثالث: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة: فإننا رأينا الأمة بعدما هزمت هزيمة نفسية نكراء، رأينا عندها الاستعداد للتقليد الأعمى، وللمحاكاة المطلقة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) . ذابت الأمة، وأصبحت مستعدة للإنسياح في هذه المناهج والأطر، وبعد مرحلة طويلة جنت الأمة من وراء ذلك حنظلاً، ورأت أنها قد زرعت شوكاً وجنت جراحاً. لقد بينت بعد ذلك المصادر التي يجب على الأمة أن تستقي منها منهجها التربوي الأصيل، وركزت هذه المصادر في ثلاثة: المصدر الأول هو القرآن الكريم: فالقرآن الكريم هو مصدر التربية الأول، وهو المعين الذي يجب على أبناء الأمة أن تستقي منه التربية. المصدر الثاني هو السنة: والسنة الصحيحة لا غنى للقرآن عنها على الإطلاق، فهي مبينة ومكملة وموضحة للقرآن الكريم، وضحت الصلاة، وبينت الزكاة، وفصلت الحج إلى آخر أركان هذا الدين ما وضحت ذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن السنة منهج تربوي كامل متكامل، فضلاً عن أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم منهج تربوي متكامل كذلك. المصدر الثالث منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه

خصائص التربية

خصائص التربية بعد هذه المقدمة ننتقل إلى موضوع هام يتعلق بموضوع التربية ألا وهو: خصائص التربية. وسوف أركز الحديث في عناصر محددة وهي: خصائص التربية التي سأتكلم عنها: أولاً: التكامل والشمول. ثانياً: التوازن والاعتدال. ثالثاً: التميز والمفاصلة. تلك هي خصائص التربية التي سأتحدث عنها، وأرجو الله أن يبارك لنا في وقتنا لنتحدث ولو عن خاصية واحدة ألا وهي: خاصية التكامل والشمول.

من خصائص التربية التكامل والشمول

من خصائص التربية التكامل والشمول خاصية التكامل والشمول خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، لأنه منهج رباني من عند الله خالق الإنسان الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، إذ من المستحيل -يا أحبابي- أن يصنع الإنسان لنفسه منهجاً متكاملاً شاملاً. لماذا؟ لأن الإنسان محدود بالزمان وبالمكان، فإن عاش الإنسان المقنن للمنهج الذي يحاربه، أو يحاد منهج الله، إن عاش هذا الإنسان المقنن لهذا المنهج عاماً فلن يعيش في العام القادم، وإن عاش في مكان فهو عاجز عن رؤية بقية الأماكن، وهذا هو قولي: إن الإنسان محدود بالزمان ومحدود بالمكان، ومن ثم إن وضع الإنسان لنفسه منهجاً تربوياً ظناً منه أنه يمتاز بالتكامل والشمول، سيأتي منهجه -حتماً- جزئياً قاصراً قد يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لنوعية من البشر ولا يصلح لنوعية أخرى، إذ من المستحيل أن يضع الإنسان لنفسه منهجاً كاملاً؛ لأنه لا يجوز أن يضع برنامج الرحلة كله إلا من يعلم الطريق بأكمله، ولا يعلم الأمر كله من أوله إلى آخره إلا خالق هذا الإنسان. وأنا أعجب -أيها الأحبة- إذا تعطلت سيارة لإنسان ما، فإلى أي الأماكن يذهب لإصلاحها، هل يذهب إلى صيدلية، أم يذهب إلى طبيب، أم يذهب إلى بائع فاكهة؟ كلا، ولكنه يذهب إلى متخصص في (الميكانيكا) ليصلح له سيارته؛ لأنه عرف بفطرته وبعقله أن هذه السيارة لا بد لها من مصلح، ومصلحها هو الذي يعرف هذه (الميكنة) فيها، كذلك أنت أيها الإنسان أنت خلق من؟ وصنعة من؟ أنت خلق الله جل وعلا، والله وحده هو الذي يعرف ما يفسدك وما يصلحك، ومن ثم وضع لك المنهج الذي يضمن لك السعادة في الدنيا والآخرة، وحينئذٍ إذا رأى الإنسان في نفسه عطباً، وإذا رأى في طريقه عفناً، وجب عليه أن يبحث عن هذا العطب، وليصحح هذا المسار من منهج الكبير المتعال، الذي قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] .

عواقب ترك منهج الخالق سبحانه وتعالى والتصورات الفاسدة لحقيقة الألوهية

عواقب ترك منهج الخالق سبحانه وتعالى والتصورات الفاسدة لحقيقة الألوهية أيها الأحبة! لما تحدى الإنسان خالقه وأراد لنفسه أن يضع لها منهجاً تربوياً شاملاً كاملاً وقع في أخطاء فاضحة، ففي الجانب العقدي: وضعت هذه المناهج التربوية المنحرفة تصورات فاسدة لحقيقة الألوهية، وانتبه! فمن بين هذه المناهج المنحرفة حينما تحدَّت منهج الله الخالق من عبد الشمس واتخذها إلهاً له من دون الله، وانظروا -يا أحبابي- إلى قيمة وقدر العقل البشري حينما ينفصم عن المنهج الرباني. ذهبنا إلى أمريكا وكندا وفرنسا، فرأينا العقل البشري قد وصل إلى قمة الإبداع، ناطحوا السحاب، وغاصوا في أعماق البحار، وفجروا الذرة، وحولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، وبالرغم من ذلك قلت لهم حينما رأيت المعصية، ورأيت الدعارة والفسق والانحلال في كل مكان، في السيارة والطيارة، في القطار والمطار، في الفندق والجريدة والتلفاز، في كل مكان، نظرت إلى أحبابي من حولي وقلت: اسجدوا لله شكراً، وانظروا إلى هذه العقول عرفت كل شيء في الكون إلا خالقها. وأنت -أيها المسلم- البسيط، انظر إلى أبي وأبيك، رجل فلاح لم يذهب إلى جامعة، ولم يتخرج من كلية، ولم يأخذ الماجستير، ولم يحضر الدكتوراة، وبالرغم من ذلك فإنه ساجد شاكر لمولاه. أي نعمة هذه؟! وأي فضل علينا؟! إنه فضل الله ابتداء وانتهاء: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

عبادة أهل سبأ للشمس

عبادة أهل سبأ للشمس هذه المناهج المنحرفة لما تحدت منهج الله الخالق وقعت في تصورات فاضحة لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، فمن بين هذه المناهج من اتخذ الشمس إلهاً له من دون الله، وقد حكى الله ذلك عن الهدهد الموحد، الذي جاء مغضباً إلى نبي الله سليمان، حينما رأى أهل سبأ يسجدون للشمس من دون الله، وعاد يعلن غضبته على التوحيد الذي دنسه البشر، وعلى العقيدة التي لوثت على يد بعض الخلق، جاء الهدهد ليعلن غضبته، وليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر، وهو يقول لنبي الله سليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:22-26] .

عبادة قوم إبراهيم للقمر والنجوم

عبادة قوم إبراهيم للقمر والنجوم ومن بين هذه المناهج المنحرفة من يعبد القمر والنجوم من دون الله، هذا تصورهم لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، كما فعل قوم إبراهيم، وحكى الله جل وعلا ذلك عنهم في القرآن، وقام إبراهيم ليقم عليهم الحجة الدامغة البليغة، ليأخذ بعقولهم الشاردة إلى الحق والحقيقة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75-79] الله أكبر! أراد أن يقيم عليهم الحجة بمفهومهم، وباستدلالاتهم، وبآياتهم التي يعبدونها من دون الله.

عبادة بني إسرائيل للعجل

عبادة بني إسرائيل للعجل ومن بين هذه المناهج من وقعت في هذا التصور الفاضح لحقيقة الألوهية فعبدت العجل من دون الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92] عبد بنو إسرائيل العجل من دون الله، هذا تصورهم لحقيقة الألوهية، وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:89-91] .

عبادة البقر والفئران وغيرها في الهند

عبادة البقر والفئران وغيرها في الهند الآن في عصر الذرة، في العصر الذي يتغنى فيه العلمانيون بالعلم، وبعبادة العلم والعقل، في هذا العصر، ليعلم العلمانيون أنه ما زال إلى الآن من بين الناس من يعبد البقر من دون الله جل وعلا، ففي الهند وحدها ما يزيد على مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله، ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة لا تستطيع سيارة مهما كان قائدها على أن يخطو خطوة واحدة، إلا إذا تفضلت صاحبة الجلال البقرة بالانصراف، وناهيك إذا دخلت البقرة محلاً من المحلات العامة وبالت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة، وقال بملء فمه: لقد حل عليه اليوم بركات الإله، في عصر الذرة!! وفي الهند ذاتها تقام المعابد الضخمة الفخمة التي تهدى إليها النذور والقرابين، ولكن ستعجبون وستضحكون بملء أفواهكم إذا علمتم أن الآلهة التي تقرب إليها هذه النذور وتلك القرابين في هذه المعابد إنما هي الفئران! إي وربي! وفي بعض القبائل عُبد عضو الذكورة عند الرجل، الرجال يعبدون عضو المرأة، والنساء يعبدن عضو الرجل. اسجد لربك شكراً أيها الموحد: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] أسأل الله أن يتم علي وعليكم النعم، وأن يحفظ علي وعليكم نعمة الإيمان، وأن يثبتنا عليها لنلقاه بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عبادة البشر من دون الله

عبادة البشر من دون الله ومن بين هذه المناهج المنحرفة التي وقعت في تصور فاضح لحقيقة الألوهية من عبد البشر من دون الله جل وعلا، فلقد عبد اليهود عزيراً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ولقد عبدت النصارى عيسى بن مريم: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] . ورحم الله ابن القيم إذ يقول: أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غداه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازمه فهل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه أإله مع الله؟! لا إله إلا الله. تصور فاضح أن يُعبد عبد يأكل ويشرب ويقضي حاجته، ويحمل البصاق في فمه، ويحمل العرق تحت إبطيه، ويحمل القذر في مثانته وأمعائه، أن يعبد هذا من دون الله جل وعلا! كما قال فرعون، وكما يقول الفراعنة في كل زمان ومكان: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فعبدوه من دون الله جل وعلا. ومن بين هذه المناهج من عبد العلم ومنها من عبد العقل، ومنها ومنها ومنها إلى آخر هذا الركام الهائل من هذه الآلهة المكذوبة المدعاة التي عبدت اليوم في الأرض من دون الله جل وعلا.

المنهج الرباني يقدم التصور الصحيح لحقيقة الألوهية

المنهج الرباني يقدم التصور الصحيح لحقيقة الألوهية جاء المنهج الرباني التربوي ليقدم التصور الصحيح لحقيقة الألوهية في أوجز لفظ وأعجز أسلوب، فقال بمنتهى البلاغة ليقدم لنا التصور الصحيح للإله الحق الذي ينبغي أن يعبد فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1] هكذا ببساطة، وببلاغة وإعجاز {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] . وقال جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:163-164] آيات توحد خالقها، ومدبر أمرها. ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد *** قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا بل سائل المبصر يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى من الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا أإله مع الله؟! لا إله إلا الله. {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60-64] . {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24] هكذا بمنتهى البساطة، وبمنتهى الاعجاز يقدم المنهج التربوي هذا التصور لحقيقة الألوهية، وأن الذي يستحق أن يعبد، هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي يستحق العبادة والتضرع، وهو الذي يستحق الدعاء والذبح والنذر، وهو الذي يستحق الحكم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] .

التكامل والشمول في حقيقة الكون والحياة والإنسان

التكامل والشمول في حقيقة الكون والحياة والإنسان وبهذا التكامل والشمول في جانب تصور الإله الذي ينبغي أن يعبد، قدم المنهج التربوي أيضاً بتكامله وشموله حقيقة هذا الكون والحياة والإنسان، فأخبر أن الكون كله ما خلق بالهزل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:16-17] وأن هذا الكون بما اكتشف الإنسان فيه بأمر الله، وبما لم يتكشف بقدر الله، -باستثناء كفرة الجن والإنس- ساجد لله مسبح بحمد مولاه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] وبنفس هذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي تصوراً عن حقيقة الإنسان: مم خلق؟ وما هي غاية وجوده؟ وما هو مصيره؟ فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14] . مم خلق؟ أجاب المنهج التربوي الإسلامي الرباني. وما هي غاية وجوده في هذه الحياة؟ قال الله جل وعلا -بعدما أعلن كرامته وتكريمه-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] وفي مقابل هذا التكريم حمله الله بأمانة عظيمة ومسئولية كبيرة، فقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] . أقول: أيها الأحبة الكرام! بهذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي الإسلامي الرباني تصوراً لحقيقة الحياة، بعدما قدم تصوراً لحقيقة الإنسان ولحقيقة الكون، فأخبر أن هذه الحياة ليست غاية وليست هدفاً، ولكنها وسيلة لغاية ولدار خالدة باقية هي دار الحيوان ودار القرار، قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] . وبهذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي تصوراً كاملاً شاملاً للجانب التعبدي، وللجانب التشريعي، وللجانب الاقتصادي، وللجانب الأخلاقي، وللجانب الحضاري، ولجميع جوانب الحياة. لماذا؟ لأن هذا المنهج إنما هو في الأول والأخير منهج الله الذي قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] لأن هذا المنهج منهج حياة متكامل، فإن الإسلام -يا أحبابي- منهج حياة، دين ودولة، عقيدة وشريعة، عبادة وأخلاق، سيف وقلم، جهاد ودعوة، دنيا وآخرة.

الإسلام كل لا يتجزأ

الإسلام كل لا يتجزأ الإسلام كلٌ لا يتجزأ، ومن ثم لا أريد أن أتوقف مع كل جانب من هذه الجوانب لأبين كيف قدم الإسلام تصوراً شاملاً كاملاً، فإن هذا معلوم لكل أحد، ومن أراد أن يبحث سيجد كل هذه التفصيلات كاملة شاملة، ولكني أقول بهذا التكامل والشمول: يجب على المسلمين أن يأخذوا الإسلام ويطبقوه، لماذا؟ لأن الله جل وعلا قد عاب وأنكر أشد الإنكار على اليهود الذين أخذوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، فقال جل وعلا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] . وأقول بملء فمي: ورب الكعبة، لقد وقع بعض أبناء المسلمين فيما وقع فيه اليهود، فلقد آمن بعض أبناء الأمة ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، إن لم يكن بقلوبهم فبسلوكهم وأعمالهم، وإذا كذَّب العمل القلب حكم على صاحب هذا بالنفاق بكلام الحق جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60-61] فمن صد عن كتاب الله وسنة رسول الله فهو منافق بحكم الله. إننا نرى صنفاً يريد الإسلام عقيدة مجردة، ويكفيه وحسبه أن يتلفظ بالشهادتين، ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، يردد الشهادتين بغير عبادة، وبدون عمل، وهو يعتقد أنه بذلك من أهل الجنة، بل وقد يقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: إن لم أدخل الجنة أنا فمن يدخلها؟! وظن أن مجرد النطق بالشهادتين يعطي صكاً لدخول الجنة والنجاة من النار، ووالله لقد نطق بالشهادتين رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فعصمت دمه، وحفظت عليه ماله، وتزوج من المسلمات المؤمنات، وحضر الجمعات والجماعات، واقتسم الغنائم في الغزوات، إن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فلن تنفعه في الآخرة، كما قال الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] . فكلمة التوحيد قد قيدت بشروط ثقال، لا ينبغي أن نغفل عنها -أيها الأحبة- وأكتفي بذكر حديث واحد مقيد للأحاديث المطلقة، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل) هذا حديث عند علماء الأصول يسمى بالحديث المُقيِّد، أو مُقيَّد يقيد الأحاديث المطلقة التي وردت في فضل النطق بالشهادتين. فلا بد أن نعرف لها شروطها، وأن نحقق مقتضياتها وأركانها، لتنفعنا هذه الشهادة في الآخرة كما نفعتنا في الدنيا أرجو الله ذلك، فمن الناس من يريد الإسلام عقيدة مجردة، حسبه أن ينطق بالشهادتين ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، بغير عبادة وبدون عمل. ونرى صنفاً ثانياً يريد الإسلام عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا عبادة. ونرى صنفاً ثالثاً يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، إنما يريد قانون أوروبا أو أمريكا الكافرة أو الشرق الملحد. يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، فهو في المسجد مسلم يؤدي الفرائض ويقرأ القرآن، ويقرأ آية الكرسي، ويتبرك بها في سورة البقرة، وفي السورة نفسها يمتثل أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وفي السورة نفسها يضيع أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] . ويضيع أمر الله في نفس السورة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] . يمتثل أمر الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ولا يمتثل أمر الله، بل ويتحدى أمر الله في السورة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44-45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] . {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] ورب الكعبة، لقد أخزى الله الأمة في الحياة الدنيا إلا من رحم ربك جل وعلا؛ لأن الأمة آمنت بالبعض وكفرت بالبعض الآخر، أخذت ما تشتهي وتريد، وضيعت ما شاءت وأرادت، وهانحن الآن نرى الذل الذي أصاب الأمة؛ لأنها قد حرّفت وغيّرت وبدّلت وابتعدت عن منهج الله جل وعلا {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} [البقرة:85] ونسأل الله السلامة والعافية، إن لم نتب، وإن لم نرجع إلى الله ونحقق منهج الله، وإن لم نحقق قرآن الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألفها إلى يائها، نخشى أن يتحقق شطر الآية الثاني أسأل الله لي ولكم العافية. هذه لمحات سريعة لا أريد أن أطيل أكثر من هذا -أيها الأطهار الأخيار- في معنى التكامل والشمول، كخاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، ففي كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مجال من مجالاتها قدم المنهج التربوي تصوراً كاملاً شاملاً، ومن ثم إذا ضيع الإنسان هذا المنهج الكامل الشامل، وراح ليضع لنفسه منهجاً يحاكي هذا المنهج الرباني، وقع في هذه الفضائح، وفي هذا الخلط الشائن والانفصام النكد، ولا سعادة له في الدنيا ولا في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124-126] . يبقى لنا من خصائص المنهج التربوي: التوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة. أرجو الله في محاضرة قادمة أن أكمل لحضراتكم هذه الخصائص لنواصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى هذه السلسلة التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن يتكلمون في الجماعات والدعاة

نصيحة لمن يتكلمون في الجماعات والدعاة Q هناك بعض الإخوة الكرام الذين نحبهم في الله تعالى -وهكذا ينبغي أن يكون الأدب والحب والرحمة والإخاء والألفة- لا همَّ لهم إلا النقد للجماعات الأخرى، ونقد كتباً مضيئة ككتب الشيخ سيد سابق، وكتاب الظلال، فنرجو من فضيلتكم أن تقدموا كلمة لهم مع وافر التحية وجزاكم الله خيراً؟ A شكر الله لأخينا وحبيبنا، وقد نوهت على ذلك وأقول لكم -أيها الأحباب الكرام-: لقد مضى زمن العصمة بموت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فما من بشر على ظهر هذه الأرض إلا ويخطئ ويصيب، ويؤخذ من قوله ويرد عليه إلا الحبيب صلى الله عليه وسلم. وأنا أقول دائماً: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرفون بالحق. أيها الحبيب! يقول الله جل وعلا في قرآنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] يقول الإمام الشافعي العلَم رضي الله عنه وأرضاه: لقد ألفت كتباً، واجتهدت فيها جهدي، ولكن أبى الله إلا أن يكون الكمال لكتابه مصداقاً لقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فما وجدتم في كتبي موافقاً للقرآن والسنة الصحيحة فخذوه، وما وجدتم في كتبي مخالفاً للقرآن والسنة الصحيحة فاضربوا به عُرض الحائط. هذا إمام من الأئمة المعتبرين، بل ولقد قال هذه العبارة أو معناها: كل إمام يخطئ ويصيب، وما من شريف ولا فاضل إلا وله زلة، ولكن من الناس من ينبغي ألا تذكر زلاتهم، لأنها إذا وضعت بجوار أفضالهم وخيراتهم وحسناتهم غفرت تلك الأفضال والخيرات هذه الزلات، وهذا هو حساب الله لنا يوم القيامة، إن الله إذا حاسب عبده وازن له بين حسناته وسيئاته، فإذا رجحت الحسنات سعد، وإذا رجحت السيئات هلك، فإذا كان ربنا يوازن بين حسناتنا وسيئاتنا، فما لنا لا ننظر نحن -ونحن أصحاب الخطايا والذنوب والزلات- إلا إلى السيئات ونتغاضى بأعين واسعة عن الخيرات والحسنات؟! هذا ليس من الإنصاف -يا أحباب- إن أغلى شيء في هذه الدنيا هو العدل، وأرجو الله أن أخصص للأحباب محاضرة بعنوان: "تجرد وعدل وإنصاف" وهي خاطرة كتبتها في كتاب لي "تجرد وعدل وإنصاف" إن أعز شيء في هذه الدنيا هو العدل، هو أن تكون منصفاً حتى للمخالف لك، إذا كان على حق تذكر له حقه، وإذا كان على صواب لا تخفي صوابه، وإذا كان على باطل تدندن حول الباطل، إن أردت الله تعالى والرسول والدار الآخرة فبين الباطل للناس دونما تجريح لهذا الشخص أو تعريض له، إلا إن كان -والعياذ بالله- ممن يجهر بباطله ويعلن به ولا حول ولا قوة إلا بالله!

التربية لماذا؟! [3]

التربية لماذا؟! [3] إن الناظر إلى أحوال الأمم اليوم التي تدعي السبق في الحضارة والصناعة والاقتصاد، يجد أنها في جانب الأخلاق متردية في الانحطاط والرذيلة ومحاربة الفضيلة، فحياتها كحياة البهائم وأشد، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها أطهر الأمم وأنزهها وأشرفها وأفضلها؛ لأنها التزمت منهج المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمها الله بالتوازن والاعتدال في كل مناهج الشرع، وفي كل مناحي الحياة.

مقدمة في بيان الأسباب التي دعت إلى التحدث عن موضوع التربية

مقدمة في بيان الأسباب التي دعت إلى التحدث عن موضوع التربية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلّ -اللهم- وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله أصحاب الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله أنفسهم، وشرح الله صدروهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياهم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأخص بالتحية مربية الأجيال وصانعة الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فمرحباً مرحباً بك يا صاحبة النقاب والحجاب في عهد الغربة الثانية للإسلام التي أخبر عنها النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فحياك الله يا صاحبة النقاب ويا صاحبة الحجاب. يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غربية العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب؟ وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب؟ هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل مني وأحبابي جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياهم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! هذه هي السلسلة المنهجية التي ابتدأناها في أحد المساجد الطيبة المباركة، والتي عنونا لها بهذا العنوان: (التربية لماذا؟) . وليعرني القارئ قلبه وسمعه؛ فإن المواضيع المنهجية تحتاج إلى حسن متابعة وشدة تركيز؛ حتى لا يشتكي القارئ من صعوبة الطرح، أسأل الله سبحانه أن يذلل لي ولكم الصعاب، وأن ييسر لي ولكم الأسباب، وأن يفتح لي ولكم؛ إنه هو الفتاح الوهاب. أيها الحبيب الكريم! هناك أسباب هي التي دعتني لطرح هذا الموضوع الهام ولخصت هذه الأسباب في التالي: أولا: الصحوة الإسلامية المباركة فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة الآن إلى منهج تربوي أصيل يقود خطها ويصحح سيرها ومسراها؛ حتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملاً خاطئاً مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً دقيقاً بين دلالات هذه النصوص وحركة الواقع. إن هذا المنهج التربوي هو الذي يحفظ الصحوة من الانسياح والذوبان في هذه المناهج المنحرفة، وهو الذي سيحفظ على الصحوة جهدها، فلا يضيع جهدها سدىً كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب. السبب الثاني: هو الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، لاسيما بعدما هزمت الأمة هزيمتها النفسية النكراء يوم أن تخلت عن أصل العز والشرف وراحت تحاكي أمم الشرق الملحد وأمم الغرب الكافر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذه الحالة تحتاج الآن إلى منهج تربوي أصيل منبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وإنه قد آن الأوان ليتخلص واضعوا ومخططوا المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا من عقدة النقص أمام هذه المناهج الغربية الدخيلة على عقيدتنا وإسلامنا وديننا. السبب الثالث من هذه الأسباب: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير فإننا نرى الآن انفصاماً نكداً بين منهجنا وواقعنا، وهذا الانفصام كائن في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب التشريع، وفي جانب الاتباع، وفي جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك.

المصادر التي يجب على الأمة الرجوع إليها

المصادر التي يجب على الأمة الرجوع إليها إن المصادر التي يجب على الأمة الآن أن تستقي منها منهجها التربوي الأصيل هي: أولاً: القرآن الكريم. فالقرآن هو كتاب التربية الأول، ومصدر ومعين التربية الذي لا ينضب ولا ينتهي ولا يجف، ووجب على الأمة أن ترجع إلى كتاب تربيتها الأول، وإلى مصدر تربيتها الأول، إلى كتاب ربها جل وعلا وإلى سنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وللقرآن الكريم أسلوبه التربوي الفذ الفريد، الذي يخاطب أعماق الوجدان، ويحرك العواطف السليمة، ويخاطب القلوب الحية والعقول النيرة، ومن ثم لم يتنزل القرآن دفعة واحدة، بل نزل القرآن منجماً مفرقاً حسب الحوادث والأحداث؛ ليربي الصحابة وليربي الجيل على هذه التربية وعلى أسس هذا المنهج التربوي حسب الحاجات ووفق المتغيرات. أما المصدر الثاني فهو السنة، وقلنا: إن الذي يريد أن يفصل السنة عن القرآن مضيع للقرآن والسنة معاً، وقد جمع النبي بين هذين الوحيين في حديثه الذي رواه الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تركت فيكم شيئين إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) . وفي الحديث الذي رواه ابن حبان وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث المقداد بن معد يكرب أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل) . فالسنة هي المصدر الثاني من مصادر التربية، ولا يجوز على الإطلاق أن نقتصر على القرآن دون السنة أبداً؛ فإن السنة هي البيان التوضيحي والعملي لقرآن ربنا جل وعلا، بل إن شخصية الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم بمفردها منهج تربوي متكامل. أما المصدر الثالث فهو منهج السلف. منهج سلف الأمة؛ لأن المنهج السلفي هو الذي يمثل التطبيق العلمي للقرآن والسنة، وأكتفي بقول عبد الله بن مسعود: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) . هذه هي مصادر التربية أيها الأحباب.

من خصائص منهج الله التربوي التوازن والاعتدال

من خصائص منهج الله التربوي التوازن والاعتدال كنت قد تحدثت عن خصائص المنهج التربوي، وتكلمت عن خصائص التربية، وركزت الحديث في هذه الخصائص التالية: قلت: إن أهم خصائص هذا المنهج التربوية هي: أولاً: خاصية التكامل والشمول. ثانياً: التوازن والاعتدال. ثالثاً: التميز والمفاصلة. وتكلمت في محاضرة عن خاصية واحدة من هذه الخصائص، ألا وهي التكامل والشمول، وقلت: إن التكامل والشمول صفة فريدة من صفات المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني من عند الله لا من صنع البشر؛ إذ من المستحيل أن يصنع الإنسان لنفسه منهجاً تربوياً متكاملاً شاملاً؛ لأن الإنسان محدود من ناحية الزمان ومن ناحية المكان، ومحكوم بضعفه وجهله وشهواته ونزواته ورغباته. ومن ثم إذا تحدى الإنسان المنهج الرباني، وانطلق مستكبراً ومستعلياً مغروراً ليضع لنفسه منهجاً تربوياً متكاملاً شاملاً -زعم- يأتي هذا المنهج الإنساني الأرضي المنحرف قاصراً، فإن قدم حلاً لجزء غفل عن حلول أخرى، وتراه يقدم الحلول لصنف من الناس ولا يقدم الحل لصنف آخر، وتراه صالحاً لمكان دون مكان، ولزمان دون زمان، وهذه هي الحقيقة، وهذا هو الحق والعدل؛ لأنه لا يملك أن يضع المنهج التربوي المتكامل الذي يصف الحياة كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا من خلق هذا الكون وهذا الإنسان، الذي قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . قدم المنهج الإسلامي تكاملاً وشمولاً لجميع جزئيات الحياة في كل جوانب الحياة، قدم المنهج التربوي الإسلامي تصوراً ناصعاً لكل هذه الجزئيات؛ لأن الإسلام منهج حياة، فهو عقيدة وعبادة، ودين ودولة، وسيف وقلم، ودنيا وآخرة. وقلت: إنه يجب على الأمة الآن أن تأخذ هذا المنهج التربوي بكماله وشموله، أما أن نأخذ ما اشتهينا وندع ما شئنا فهذه شنشنة قديمة خطيرة أنكرها الله على يهود، فقال تعالى:: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] . وأقول بملء فمي: والله لقد وقع كثير من أبناء الأمة الآن فيما وقع فيه أبناء يهود. وذكرت مثالين: فقلت: إننا نقرأ بل بعد كل صلاة آية الكرسي في سورة البقرة لنتبرك بها، وفي نفس السورة نلتزم بقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، وفي نفس السورة نضيع قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] . وقلت: إننا نلتزم بقول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، ونضيع في نفس السورة قول الله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] . ونأخذ بقول الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. } [المائدة:6] الآية، نأخذ بهذا الأمر الإلهي الكريم، ونضيع في نفس السورة قول الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] و (الظالمون) و (الفاسقون) . فيا أيها الأحبة! أقول: إن المنهج التربوي الإسلامي قدم هذا المنهج المتكامل الشامل، ووجب علينا نحن المسلمين أن نأخذ هذه المنهج بتكامله وشموله، فلا نأخذ ما نشاء وندع ما نشاء، وهذا فعل اليهود، أسأل الله أن لا نقع فيما وقع فيه يهود، وأن لا يجعل خاتمتنا كخاتمة يهود؛ إنه ولي ذلك ومولاه.

ظاهرة التوازن ليست في المنهج فحسب

ظاهرة التوازن ليست في المنهج فحسب التوازن والاعتدال والتميز والمفاصلة. التوازن والاعتدال خصيصة أخرى من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، وظاهرة التوازن والاعتدال لا تقتصر على المنهج التربوي فحسب، كلا. بل إنها ظاهرة في الكون كله الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء، ليل ونهار، توازن واعتدال، نور وظلمة، حرارة وبرودة، صيف وشتاء، ماء ويابس، قال تعالى:: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:1-4] . واقرأ قول الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:36-39] أحدب، وتربيع أول، وتربيع ثان وهلال، وبدر إلى آخره: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:39-40] . لا يحيد شيء من هذه المخلوقات عن مداره أو عن حده الذي حده له خالقه جل وعلا، توازن وتناسق واعتدال ليس في المنهج التربوي الإسلامي فحسب، بل في الكون كله؛ لأن الذي قَنَّن وشرع المنهج هو الذي خلق الكون وخلق الإنسان، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. أقول: ظاهرة التوازن والاعتدال لا تقتصر على منهجنا التربوي، كلا. وإنما هي ظاهرة للكون كله؛ لأن الذي خلق الكون وقنن المنهج هو الواحد جل وعلا.

مقارنة بين المنهج التربوي الإسلامي وغيره من المناهج الأرضية

مقارنة بين المنهج التربوي الإسلامي وغيره من المناهج الأرضية التوازن والاعتدال خاصية بارزة في المنهج التربوي الإسلامي، لا يستطيع على الإطلاق -يا أحبابي- منهج تربوي أرضي أن يضع منهجاً متوازناً معتدلاً أبداً يجمع بين الروح والمبدأ، وبين الثبات والتغير، وبين الفردية والجماعية، وبين النظرة إلى الواقع والنظرة إلى الغير، لا يمكن على الإطلاق أن يقدم منهجٌ تربويٌ أرضيٌ هذا التوازن والاعتدال بين كل هذه الخصائص والصفات والأركان أبداً، فإن قدم المنهج الأرضي جانباً فرط في جانب آخر، وإن اهتم بجانب نسي جوانب أخرى. فنرى -مثلاً- جانباً من هذه المناهج الأرضية يهتم بالروح فقط، فيغذي الروح، ويركز على غذاء الروح، إلى أن يصبح الإنسان كائناً مشلولاً عن كل ما يمت إلى هذه الحياة بصلة. ونرى جانباً تربوياً آخر من المناهج الأرضية المنحرفة يركز على جانب العقل، فينفخ في العقل، ويشبع العقل، ويضع العقل فوق طاقته وقدرته وإمكانيته ومكانته التي ينبغي أن تكون، إلى أن يصبح الإنسان كائناً مغروراً ينظر إلى هذا الكون كله من خلال هذا العقل القاصر. ونرى منهجاً أرضياً منحرفاً يركز على جانب البدن فقط، فيغذي البدن، ويعطي البدن ما يشاء من مأكل ومشرب، وملبس وشهوات وجنس إلى غير ذلك، إلى أن يصبح الإنسان بهيمياً لا يعيش إلا من أجل شهواته ونزواته ورغباته، لا يفكر في آخرة ولا يهتم بموت، ولا يفكر في غاية ولا يسعى لهدف، وإنما يعش كالأنعام. وهذا الحكم ليس من عندي حتى لا أتهم بسوء الأدب والتطرف، وإنما هذا قول الله جل وعلا، حكم الله على هذا الصنف الفارغ الذي لا يعيش إلا لشهواته ونزواته، ولا يعيش إلا لعرشه وكرشه وفرجه، لا يعيش إلا كما تعيش الأنعام، فقال ربنا جل وعلا عن هذا الصنف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} [الأعراف:179] حكم الله: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] ، أضل من الأنعام: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . وهكذا -أيها الأحباب- إذا قدم المنهج الأرضي علاجاً لجانب قصر في الجوانب الأخرى، رأيت في أمريكا هذا الرجل الأمريكي الذي فجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وناطح السحاب بعماراته وفنادقه المذهلة، وحول العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية العلمية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، ومع هذا وبالرغم من كل هذا ركزوا على العقل تارة، وركزوا على البدن تارة، ونسي هؤلاء جانب الروح والأخلاق، فترى هذا الرجل يعيش كما تعيش البهائم، ترى الدعارة والرذيلة في كل مكان ورب الكعبة، في الشارع، وفي الطيارة، وفي السيارة، وفي المطار، وفي القطار، وفي التلفاز، وفي المجلة، وفي الجريدة، وفي كل مكان تراه يعيش كالبهيمة في هذا الجانب. وإذا أردتم أن تتعرفوا على هذه الحقيقة فاقرأوا إن شئتم آخر إحصائيات للجريمة بين هذا الشعب الذي وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي العلمي المذهل؛ لتعلموا يقيناً أن الحياة ليست كلها مادة، ولا يمكن لطائر على الإطلاق أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد، وإنما إن حلق لفترة وإن طالت فحتماً سيسقط منكسرا. إن الحياة روح ومادة، ودنيا وآخرة، ثم جاء المنهج الإسلامي ليقدم التوازن والاعتدال في أجلى وأجل صورة، توازن بين العقل والروح والجسم، وتوازن بين النظرة إلى الواقع والنظرة إلى الغير، وتوازن بين الدين والدنيا، وتوازن بين رغبات الإنسان وأشواقه وما ينبغي عليه، وتوازن في كل أمور الحياة؛ لأن الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه ويفسده هو الذي وضع له المنهج، وهو الله رب العالمين. فجاء منهجنا التربوي الإسلامي متوازناً معتدلاً في كل جزئيات وجوانب الحياة بلا استثناء.

التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة

التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة سأضرب مثالين اثنين لهذا التوازن والاعتدال في جانبين فقط: مثال في جانب التوازن والاعتدال بين الروح والمادة، أو بعبارة أخرى: بين الدين والدنيا. ومثال آخر لتوازن المنهج في التشريع. المثال الأول: التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة. إن المتتبع لصفحات تاريخ بني الإنسان يرى جماعات وأفراداً قد ركزوا على إشباع الجانب المادي في الإنسان، وعلى إشباع الجانب المادي في هذه الحياة. فعلى مستوى الأمم والجماعات كلنا يعرف قصة عاد وخبر ثمود وحال يهود. وعلى مستوى الأفراد كلكم يعلم قصة صاحب الجنتين الذي دخل مغروراً بثروته؛ لأن التركيز على الجانب المادي فقط دون التركيز على الجانب الروحي يورث الترف، لا يعرف آخرة، ولا يعرف رباً، ولا يعرف ديناً، ولا يعرف موتاً، ولا يؤمن بعذاب قبر ولا بنعيم قبر، وإنما لا يؤمن إلا بالكرسي الزائل، ولا يؤمن إلا بالمنصب الفاني، إذا أتيت لتذكره بالله ولتذكره بالآخرة لن تجد أي تأثير لتذكرتك ولا لموعظتك؛ لأنه لا يعيش إلا لجانب واحد، مات فيه الجانب الآخر منذ زمن، وأنت إذا ما ذكرته تريد أن تضرب على هذا الوتر الحساس لتذكر فيه الجانب الخير بالله جل وعلا، فإذا عاش الإنسان للدنيا ولشهوات بدنه يورثه هذا العيش ترفاً وغروراً، وكبراً واستعلاءً، وظلماً وغطرسة وبطشاً. هذا صاحب الجنتين يدخل بهذه الروح المستعلية ليقول لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:34-36] روح الاستعلاء والغطرسة والغرور والكبر. وعلى مستوى الأفراد أيضاً: قارون الذي طغى على قومه وأهله، وقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فبالرغم من ذلك نسي فضل الله عليه، وعظمة الله عليه، ونعم الله عليه، وظن أن هذا المال وهذا الخير إنما هو بإدارته وبعلمه وبعقله وبفكره، وبصبيانه وبأولاده وبجنوده، ونسي أن الأمر كله لله، وقال بروح الاستعلاء هذه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] . وهذا هو فرعون بنفس هذه الروح ما عاش إلا لهذا الجانب الدنيوي، ومن خلاله استعبد قومه ونظر إليهم نظرة المتأله عليهم وقال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] انظر كيف يخرجون من هذا الجانب المادي إلى الجانب الآخر! إلى أن يؤله الواحد منهم نفسه، وأن يجعل هؤلاء عبيداً له: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] ، والحمد لله، فقد أجراها من فوقه. وأنتم تعرفون ما حصل لـ قارون، وما حصل لفرعون، وما حصل لكل الفراعنة، فإن هذه سنة كونية ثابتة، أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان إذاً فالتوازن والاعتدال، صنف من الناس عاش وركز على الجانب المادي في الإنسان وعلى الجانب المادي في الحياة، وفي مقابله نرى صنفاً آخر ركز على جانب الروح، ونظر إلى الجانب المادي في الإنسان على أنه رجس، ونظر إلى هذا الجسد على أنه من الشيطان، ونظر إلى الجانب المادي في هذه الحياة المادية على أنه من المحرمات، فحرم على نفسه الطيبات، وعاش ليغذي الروح، ابتدع رهبانية ما كتبها الله عليه، وهؤلاء هم النصارى كما قال ربنا جل وعلا في القرآن. وبين هاتين النزعتين المتطرفتين -النظرة المادية، والنظرة الروحية- جاء الإسلام بتوازن واعتدال بين هاتين النزعتين، وبين هاتين النظرتين. أيها الحبيب! جاء الإسلام ليقول بأن هذا الإنسان خلق من طين وروح، ومن حكمة الله أن يخلق الله هذا الإنسان من هذين العنصرين من الطين ومن الروح، فبعنصره الطيني إنما هو قادر على أن يسعى في هذه الأرض، وعلى أن يعمرها، وعلى أن يصلحها، أما إن كان فيه الجانب الروحي متيقظاً أيضاً فسيستغل هذه العمارة لطاعة الله، وللقرب من مولاه جل وعلا. وقال سبحانه مبيناً هذا التركيب في قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71-72] ، جاء القرآن ليقول بأن الإنسان من طين وروح، ومن حكمة الله أن يكون الإنسان كذلك، ثم جاء القرآن ليبين لنا أنه لابد من العمل للدنيا، وفي نفس الوقت لابد من العمل للآخرة، وأن لا يطغى جانب على حساب جانب. اقرأ معي هذه الآيات التي هي العمدة في هذه الجزئية، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] . آية عجيبة، إذا نودي للصلاة تعال واترك التجارة، واترك العمل وأقفل المحل، إننا الآن نرى المرء ممن يتسمون بالمسلمين يسمع النداء من الله جل وعلا حي على الصلاة حي على الفلاح وتراه بمنتهى البجاحة ومنتهى قلة الحياء كأنه ما سمع شيئاً، ولا مانع على الإطلاق أن يرفع صوته عليك بعد ذلك ليقول: إنني مسلم. يسمع النداء وهو مضيع لحق الله، وبالرغم من ذلك قد تراه يتبجح عليك إذا ما ذكرته، وهو يقول: أنا أصلي لماذا؟! الأولون صلوا فما الذي حصلوا؟ وليس كل من لم يصل مجرماً! إنا لله وإنا إليه راجعون. فإذا نودي عليك للصلاة اترك العمل وأغلق المحل، واترك التجارة، واترك الأولاد، واترك الزراعة، واترك المنصب، وانزل من علي الكرسي لتضع أنفك وجبينك في التراب ذلاً للخالق جل وعلا صاحب الفضل والنعم عليك، ورحم الله من قال: تأتي للصلاة في فتور وكأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاءِ ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي يوماً بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء وإن كُنْتَ المُجالس يوماً أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيها بحب أو صفاء إنا لله وإنا إليه راجعون، اترك عملك، واترك تجارتك، واترك أولادك، واترك مكتبك، واترك كرسيك، وإذا نودي عليك للصلاة فلب أمر الله جل وعلا، وضع أنفك وجبينك على الأرض ذلاً لخالقك ورازقك ومولاك سبحانه وتعالى. وإذا ما أتيت الصلاة وأنهيت الصلاة وأديت حق الله جل وعلا فانطلق إلى عملك، وإلى تجارتك، وإلى أولادك، وإلى مزرعتك، واسع في الأرض، وكل من الحلال الطيب، لا يحرم الإسلام عليك هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] فإذا أنهيتم الصلاة: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] . واسمع إلى قول الله جل وعلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] . توازن عجيب بين الدين والدنيا. ولنا في رسولنا وأستاذنا وقدوتنا المثل الأعلى والقدوة الطيبة، فهو الذي وازن بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة موازنة تتألق سمواً وروعة وجلالاً وكمالاً، الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو القدوة الذي جمع بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة، لم يغلب جانباً على حساب جانب، ولم يفرط في جانب على حساب جانب، كلا. وانظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم. بل من أعجب ما قرأته له صلى الله عليه وآله وسلم دعاءٌ من دعائه، والحديث في صحيح مسلم، فقد كان الحبيب يدعو ربه جل وعلا ويقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ، انظر إلى المنهج النبوي في التوازن والاعتدال: (اللهم أصلح لي ديني) ، هو الأصل، لو ابتليت في دينك فهذه هي المصيبة بعينها، وإن ابتليت في الدنيا فإن الأمر هين إن شاء الله جل وعلا، مصيبة الدين هي المصيبة، فإن من الله عليك بالإيمان والتوحيد، والثقة به والتوكل عليه، واليقين فيه، والتفويض إليه والرجاء فيه فاسجد لربك شكراً، مهما كان ابتلاؤك في الدنيا بعد ذلك، فغيرك يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم. (يؤتى بأنعم رجل) والحديث في الصحيح: (بأنعم رجل من أهل الدنيا) ، ولكنه من أهل النار في الآخرة، كان منعماً في الدنيا، ما وطئت رجله الأرض، إذا نزل من السيارة وضع له السجاد ليمشي عليه حتى لا تطأ قدمه الأرض على الإطلاق، رجل منعم ولكنه ما عرف الله، وما عرف مولاه وما سجد لله، بل حارب الله وحارب رسول الله، وصد عن سبيل الله، يؤتى هذا يوم القيامة ويغمسه الله غمسة واحدة في جهنم، ويخرجه ويقول له: (هل رأيت

التوازن والاعتدال في التشريع

التوازن والاعتدال في التشريع بإيجاز أتحدث عن التوازن والاعتدال في التشريع نفسه، فالمنهج التربوي الإسلامي منهج متوازن معتدل بين التحليل والتحريم، بين التحريم الذي أفرطت فيه اليهودية، وبين الإباحة التي أفرطت فيها النصرانية، فاليهودية أسرفت في التحريم، كما قال الله عز وجل {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] حرمت عليهم طيبات. ربنا سبحانه وتعالى قال لهم: اذبحوا بقرة، فقالوا: ما هو شكلها؟ وما هو لونها وأوصافها وسنها؟ وماذا تأكل؟ فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، أسرفوا في التحريم فزاد عليهم ما حرم. وجاءت النصرانية وأفرطت في الإباحة، وأحلت أشياء حرمتها التوراة، مع أن الإنجيل قد أقر بأن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض التوراة بل ليكملها وليتمها. فجاء الإسلام بمنهجه التربوي ليضع التوازن والاعتدال في الحل والحرمة، وجعل هذا الحق لله وحده ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحليل والتحريم ليس من حق أحد، لا من حق فرد، ولا من حق مجلس، ولا من حق هيئة، ولا من حق برلمان، بل ولا من حق دولة، وإنما التحليل والتحريم حق لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مانع أن يأتي ولي الأمر المسلم ليقنن أموراً من خلال هذه القواعد الكلية والأصول الشرعية من القرآن والسنة. ويتجلى التوازن والاعتدال في جانب التشريع في أن الله عز وجل ما أحل إلا الطيب النافع، وما حرم إلا الخبيث الضار، وما أمر عباده إلا بما هم قادرون على أدائه وفعله، مصداقاً لقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالأوامر والنواهي في نطاق المكلفين، والناس يفهمون الآية على عكس المراد، فإن قلت لبعضهم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: يا أخي! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. لماذا لا تزكي؟ يقول لك: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وإن قلت له: زوجتك متبرجة يقول لك: والله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وأصبح كأنه مفتي سبحان الله! أخي الحبيب! ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى أن الله جل وعلا ما أمر بأمر وما نهى بنهي وما حد حداً إلا وهو في مقدور وطاقة المكلفين؛ لأنه جل وعلا قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . ويوضح هذا الحكم هذا الحديث الكريم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم ... ) أصبحت عقيدة الولاء والبراء باهتة في القلوب، هذا مع حسن ظني، هذا مع إحسان الظن، فأنا الآن أعتقد أن عقيدة الولاء والبراء موجودة لكنها بهتت، لم يعد هناك تميز ولا مفاصلة، فالتميز والمفاصلة من خصائص المنهج الإسلامي، المنهج الإسلامي يصوغ المسلم صياغة عقدية عبادية تشريعية أخلاقية سلوكية لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج أرضي آخر، بل وعاش المسلم الأول في هذا المنهج التربوي بصفة التميز والمفاصلة حتى بين أظهر المشركين والمنافقين، في الثياب، وفي الكلام، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي الكلام، وفي المعاملة، وفي الأخلاق، وفي السلوك، وفضلاً عن الاعتقاد والتعبد لله جل وعلا. المسلم متميز في كل شيء، نعم يجب أن يعرف المسلم قدره، ويجب أن يعرف المسلم شأنه، فهو كريم عزيز بتوحيده واتباعه لله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو مهان ذليل إن تخلى عن هذا المنهج الرباني القرآني النبوي، ولا قيمة له، فإننا لا نفخر بأنساب، ولا بعصبيات، ولا بقوميات، ولا برايات، ولا بمصالح، ولا بمغانم، وإنما نردد مع سلمان. أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فالمسلم عزيز بهذا النسب، وذليل إن ترك وقطع حبل هذا النسب، والمنهج الإسلامي منهج متميز، منهج مفاصل مخالف لكل المناهج المحرفة المزورة، ويجب على المسلم أن يكون متميزاً، وأن يكون مبايناً لكل هذا المناهج الأرضية المحرفة المزورة الكافرة التي تعادي منهج الله جل وعلا. وأختم بهذا المشهد، فإن هذا الموضوع طويل، وأقول: هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكلنا يعرف أنه كان مستضعفاً مطروداً من بيته ومن أهله ومن ماله ومن ولده، وهاجر إلى المدينة فآووه ونصروه رضوان الله عليهم جميعاً، لكن كان في المدينة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وفي يوم من الأيام ركب عليه الصلاة والسلام حماراً، فمر على رأس النفاق هو ومن معه فغبر الحمار الذي يركبه النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، فقال رأس النفاق: غبر علينا ابن أبي كبشة. واللفظ هنا للبزار، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، هو الرجل الذي كان متزوجاً بـ حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن عبد الله بن أبي بن سلول يريد أن ينتقص من قدر النبي عليه الصلاة والسلام وأن يقلل من شأنه بقوله: غبر علينا ابن أبي كبشة. وسمع عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ابن رأس النفاق أن أباه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وانظر إلى التميز والمفاصلة العجيبة حتى مع أقرب الناس، فيجب على المسلم أن يحقق هذا المنهج الآن، لاسيما ونحن نعيش زماناً قد اختلطت فيه الأوراق. فماذا قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول؟ قال: يا رسول الله! والله لو أمرتني لأتيتك برأسه، فلو كان اليوم لسموه إرهابياً مباشرة، قال: والله لو أمرتني لأتيتك برأسه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كلا. بل اذهب لبر أبيك ولحسن صحبته. فصلى الله عليه وآله وسلم، وأي خلق هذا؟ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يقول هذا الكلام! فانظر إلى هذا الموقف الذي تتجلى فيه أروع صور التميز والمفاصلة حتى مع أقرب الناس إليه، قال رأس النفاق: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، ويريد رأس النفاق العزة لنفسه والذلة لحبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (يا عبد الله! هل سمعت أباك ما قال؟ فقال له: ماذا قال يا رسول الله؟ قال له: قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ، والقصة رواها الإمام الطبري بسند صحيح. أتدرون ماذا قال عبد الله؟ قال: صدق والله أبي يا رسول الله، -والله- أنت الأعز وهو الأذل يا رسول الله، ولقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله، وانطلق عبد الله بسيفه ووقف على باب المدينة، فلما جاء رأس النفاق وقف ابنه في وجهه وقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من رسول الله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل. أي تميز وأية مفاصلة؟ فالرجل صرخ ونادى وقال: يا للخزرج! ولدي يمنعني بيتي! وذهبوا إلى نهر الرحمة وينبوع الحنان صلى الله عليه وآله وسلم، إلى صاحب الخُلُق وأخبروه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: فليأذن لأبيه. فلما جاءه الأمر من رسول الله نظر إلى والده وقال: أما وقد جاءك الإذن الآن فلتدخل لتعلم من العزيز ومن الذليل. أيها الأحبة! الموضوع طويل ومرير بقدر بعدنا عن هذا المنهج المنير، فهذه بعض خصائص المنهج التربوي، التكامل والشمول، والتوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة. أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم للعودة إلى هذا المنهج الرباني الكريم، إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا بفهم سلفنا رضوان الله عليهم، وأسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

التربية لماذا؟! [4]

التربية لماذا؟! [4] التربية الإيمانية في الأمة جزء من حياتها وسلوكها، فأمة بلا تربية ليس لها ذكر، وأمة بلا سلوك أمة مهزومة ذليلة خانعة! ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الجانب، فربى جيلاً خلد ذكره التاريخ، وسطر عظمته الدهر، وإذا نظرت إلى المعلم والمربي عليه الصلاة والسلام وجدت أنه ما كان يأمرهم بأمر إلا كان أول الممتثلين له، وما نهاهم عن شيء إلا كان أول المنتهين والمجتنبين له، فكان قدوة مثلى في الأخلاق والقيم، فتعلقت به قلوب أصحابه، وأحبته، وعملت بكل ما أرشد إليه، وحث عليه، وهذه هي التربية بالقدوة التي هي من مهمات الأسرة المسلمة.

ملخص لما مضى من المحاضرات السابقة

ملخص لما مضى من المحاضرات السابقة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لأمره. وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وتعالى أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة في الله! أعلن أحبابنا في هذا المسجد الطيب المبارك عن محاضرة الليلة بعنوان: أمة القرآن بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا العنوان أنا الذي أعطيتهم إياه، ولكني رأيت أنه من الأفضل أن نواصل سلسلتنا التربوية المنهجية التي بدأناها في مساجد هذا البلد الكريم. لذا فإن لقاءنا الليلة هو اللقاء الرابع من لقاءات هذه السلسلة المنهجية التي أعلنا لها بعنوان: التربية لماذا؟ وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في اللقاءات الماضية، وإن هذه السلسلة المنهجية من الأهمية بمكان، يحتاجها كل داعية وكل مرب، بل وكل مسلم، بل وكل مسلمة، فإنا في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة لفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم جميعاً. ألخص لحضراتكم أهم العناصر التي ذكرناها في اللقاءات الماضية في عجالة سريعة وأقول: تكلمنا عن أهم الأسباب التي أدت إلى طرح هذا الموضوع في هذه الآونة. ولخصت هذه الأسباب فيما يلي: أولاً: هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة، وهذه لا ينكرها أحد على الإطلاق، ولكن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة، لا يضيع جهدها كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، فإنها في حاجة ماسة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة؛ حتى لا تقع الصحوة في أي تعامل خاطئ مع النصوص الخاصة أو العامة، بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة والعامة التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع. السبب الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فإننا نرى الأمة يوم أن هزمت هزيمة نفسية نكراء غدت مستعدة للذوبان في أي بوتقة لأي منهج تربوي حتى ولو كان هذا المنهج يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتها وأخلاقها وسلوكها. ومن ثم وجب علينا أن نقدم هذا المنهج ليتخلص واضعو ومخططو المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا من عقدة النقص أمام هذه المناهج الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا وإسلامنا. السبب الثالث: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، فإنا نرى الآن انفصاماً نكداً بين منهجنا الرباني وواقع الأمة في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك، وبعد هذه الأسباب بينت المصادر التي يجب على الأمة أن ترجع إليها مرة أخرى لتستقي منها منهجها التربوي. وقلت: إن هذه المصادر هي: القرآن الكريم؛ فإن القرآن هو مصدر التربية الأول الذي يجب على جميع أفراد الأمة أن يعودوا إلى نبعه الفياض الذي لا ينبضب، وأن يستقوا منه منهجهم في كل مناحي الحياة، في جانب السياسية في جانب الإعلام في جانب التعليم في جانب التربية في جانب الاقتصاد في جانب الاتباع في جانب الأخلاق في جانب السلوك في كل جوانب الحياة؛ لأن القرآن منهج حياة. المصدر الثاني من مصادر التربية: هو السنة، فمن نادى بعودة الأمة إلى القرآن بدون السنة فإنما هو مخادع، فهو على كذب وعلى وباطل؛ لأن من آمن بالقرآن وقد ضيع السنة فقد ضيع السنة والقرآن معها. فلا بد من التمسك بالسنة مع القرآن؛ لأن السنة توضح وتبين آيات الحق جل وعلا. المصدر الثالث: هو منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. ثم تكلمت بعد ذلك -أيها الأحباب- عن خصائص التربية، وقلت: إن المنهج التربوي ينفرد بخصائص كثيرة ومن أهمها ما يلي: أولاً: خاصية التكامل والشمول. ثانياً: التوازن والاعتدال. ثالثاً: التميز والمفاصلة. التكامل والشمول: خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني ليس من صنع البشر؛ إذ من المستحيل أن يقدم منهج بشري منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأن الإنسان محدود من ناحية الزمان والمكان، ومحال أن يقدم الإنسان منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأنه إن قدم منهجاً يصلح لجانب فإنه لن يصلح لجانب آخر، وإن صلح هذا المنهج لزمان فإنه لا يصلح لزمان آخر؛ لأن الإنسان محكوم بفقره، محكوم بضعفه، محكوم بعجزه، محكوم بقصر عمره، محكوم بشهواته وضعفه ونزواته. لذا أيها الأحباب! فإن المنهج الوحيد الذي يمتاز بالتكامل والشمول في جميع مناحي الحياة إنما هو المنهج الرباني؛ وليس ذلك إلا لأنه منهج من وضع وصنع الله جل وعلا، الذي خلق الكون والإنسان وهو القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . الخاصية الثانية من خصائص المنهج التربوي: هي التوازن والاعتدال، وقلت في اللقاء الماضي: بأن خاصية التوازن والاعتدال ليست سمة للمنهج التربوي فحسب، ولكنها خاصية للكون كله، إننا نرى التوازن والاعتدال ليس في المنهج فقط، وإنما في الكون كله؛ لأن الذي خلق الكون ووضع المنهج إنما هو الله الواحد جل وعلا. ليل ونهار، ضياء وظلام، صيف وشتاء، حرارة وبرودة، ماء ويابس، لا يطغى عنصر على مقابله، ولا يحيد عن مداره أو عن فلكه الذي حدده الله، فإننا نرى التوازن والاعتدال في الكون كله؛ لأن الذي أبدع الكون كله إنما هو الله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] . ومن هذا التوازن في الكون كله استمد المنهج التربوي توازنه واعتداله، وضربت عدة أمثلة لهذا التوازن والاعتدال في جانب الروح والمادة أو الدين والدنيا، وضربت مثلاً لهذا التوازن والاعتدال في أمر التشريع وقلت: بأن جميع المناهج الأرضية إن كانت قد نبغت في جانب فإنها قد تعطلت في جانب آخر، فنرى منهجاً أرضياً منحرفاً ركز على ما يشبع الروح في هذا الإنسان، فأعطى للروح كل ما تشتهيه حتى أصبح الإنسان كائناً مشلولاً عن كل ما يمت إلى المادة والحياة بصلة، كالرهبانية التي ابتدعها بعض طوائف النصارى، ونرى منهجاً قد ركز على الجانب المادي في الإنسان فأعطى للإنسان -أي: لهذا البدن- كل ما يشتهي من أكل وشراب وطعام، وشهوات ونزوات، وأصبح الإنسان لا يعيش إلا لعرشه لا يعيش إلا لكرشه لا يعيشه إلا لفرجه لا يعيش إلا لشهواته ونزواته، كالأنعام تماماً بتمام كما حكى ربنا عن هذا الصنف، فقال جل وعلا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . والخاصية الثالثة: هي خاصية التميز والمفاصلة؛ وكم كنت أتمنى أن أفرد لهذه الخاصية محاضرات لا محاضرة واحدة، ولكن نسأل الله أن يفرج الكرب، وأن يكشف الغمة عن الأمة، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أقول: يوم أن كان المسلم متميزاً مفاصلاً لكل أفراد المجتمع الذي يعيش فيه -أي: من المشركين والمنافقين الذين يخالطونه في هذا المجتمع- ويوم أن كانت الأمة متميزة مفاصلة لمجتمعات الشرك والكفر والضلال، كانت الأمة حينئذٍ علماً على رأس الدنيا، فلما تركت الأمة هذا التميز والمفاصلة أصبحت نكرة في هذه الدنيا، لا وزن لها ولا اعتبار، بل سمعنا بأم آذاننا من يقول على الكافر: والله إنني أراه الآن أفضل من المسلمين، ورب العالمين يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . ذلكم حكم الله، فيأتي موتور تربى على موائد العلمانيين ليقول بملء فمه: إنني أرى الكافر الآن أفضل من كثير من المسلمين. فالتميز والمفاصلة من أهم خصائص المنهج التربوي، فالمنهج التربوي الإسلامي يربي المسلم تربية فريدة فذة، تربية عقائدية وتعبدية، وسلوكية وأخلاقية، وفكرية وحضارية، لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج تربوي أرضي منحرف من صنع البشر من المهازيل، ممن تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والنزوات من العلمانيين الشيوعيين والديمقراطيين، والفارغين والساقطين الذين تقدموا الآن ليقننوا وليشرعوا، وليقودوا دفة التوجيه ودفة التربية ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!

من وسائل التربية

من وسائل التربية أيها الأحبة! وبعد الانتهاء من مصادر التربية وخصائص التربية فإننا الليلة سنبدأ الحديث عن عنصر آخر من عناصر هذا المنهج التربوي ألا وهو: وسائل التربية، كيف نربي؟ وبعد الانتهاء من الوسائل إن شاء الله جل وعلا إن قدر لنا البقاء واللقاء فسوف أتحدث عن صفات المربي، أي: من الذي ينبغي أن يتصدى للتربية؟ وقبل هذه تعالوا لنبدأ الليلة عنصراً جديداً من عناصر هذا المنهج التربوي ألا وهو: وسائل التربية، وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في الوسائل التالية: أولاً: التربية بالقدوة. ثانياً: التربية بالموعظة. ثالثاً: التربية بالقصص القرآني والنبوي. رابعاً: التربية بالمثل القرآني والنبوي. خامساً: التربية بالعادة والأحداث الجارية. سادساً: التربية بالعبادة. وأخيراً: التربية بالعقوبة.

من وسائل التربية القدوة الصالحة

من وسائل التربية القدوة الصالحة وأرجو الله أن يبارك لي في وقتي وفي وقتكم، لنتحدث الليلة عن الوسيلة الأولى ألا وهي: التربية بالقدوة. والحق أقول: والله يا إخواني إنني وأنا أتحدث الآن عن التربية بالقدوة أراني أتجاوز قدري، وأتعدى حدودي، ويرن في أذني الآن قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم ولكن المرء -أيها الأحباب- قد ينطلق في حديثه لا من منطلق شعوره بأنه قدوة، ولا من منطلق الشعور بالأهلية، وإنما ينطلق من منطلق الشعور بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) . فأسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يتقبل منا وإياكم صالح أعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الحبيب الكريم! إن التربية بالقدوة من أهم وأخطر وسائل التربية، وإننا نرى الآن كثيراً من شباب الأمة يتخبط في حيرة، يرى انفصاماً نكداً ورهيباً، لا يرى قدوة عملية بعدما صمت آذانه بكثير الكلام، وهنا يعيش كثير من شبابنا في هذا الصراع النفسي القاتل، لماذا؟ لأنه يسمع كلاماً ككلام جحا الذي صنع يوماً ساقية على النهر، تأخذ الماء من النهر فترد نفس الماء إلى نفس النهر، لم يكن عندنا غير هذا الأسلوب، والحمد لله كلكم أهل علم وأهل فهم. أقول: كـ جحا الذي صنع ساقية على النهر، لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فتعجب الناس وقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية تأخذ الماء من النهر لترد نفس الماء إلى نفس النهر، فقال: جحا: يكفيني نعيرها، وهذا هو الواقع، يكفينا أننا نسمع هذا الصياح. وهذا هو الواقع المر أيها الأحباب! أعني هذا الانفصام، بل إن شئت فقل: هذا الصراع النفسي الذي يعيشه كثير من شباب الأمة -لا أقول في مصر وحدها، بل في جميع أرجاء المعمورة- إنما هو نتيجة حتمية؛ لأن شباب الأمة يسمع ولا يرى، يسمع كلاماً كثيراً ولا يرى القدوة العملية الحية، ورحم الله من قال قديماً: مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه نرى طالب العلم جريئاً على الفتيا، نرى طالب العلم لا يحسن الأدب مع العلماء إلا من رحم الله جل وعلا؛ لأن طالب العلم يرى الآن رحى الصراع دائرة بين علمائه وشيوخه، وبين من يتلقى المنهج على أيديهم، هذا صراع نفسي، والله إني أعذر طلاب العلم حينما يرون هذا، فلذا أيها الأحباب! أقول: إن أعظم خطوة عملية نخطوها الآن لتصحيح المسار والمنهج، ولتصحيح الطريق إنما هي أن نقدم لشباب الأمة ولأبناء الأمة القدوة العملية، ليرى الشباب القدوة تتحرك بين أيديهم، يرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، حينئذ لا ترى هذا الصراع النفسي القاتل المدمر. فحينئذ قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية كساقية جحا بالضبط، ونقدم منهجاً دقيقاً محكماً، وكيف لا وسوف نقدم منهجاً نقول فيه: قال الله قال رسوله فعل السلف الصالح، منهج نظري دقيق محكم، ولم لا وهو قرآن وسنة وفعل سلف. ولكن ليست العبرة بأن نقدم المنهج النظري فحسب، بل سيظل هذا المنهج حبراً على ورق ما لم يتحول إلى منهج عملي وواقع يتحرك في دنيا الناس، كل عالم نظري يقدم المنهج النظري، وكثير من طلبة العلم وشباب الأمة حافظين المنهج النظري، لكن المنهج هذا ليس له قيمة والعياذ بالله! ليس في ذاته وإنما في حياتنا لماذا؟ لأن المنهج سيظل حبراً على ورق مثل القوانين التي هي محبوسة في أدراج مجلس الشعب لتقنين وتطبيق الشريعة، حبر على ورق لا قيمة له، ليس في ذاته فهو الخير كله ولكن في حياتنا وواقعنا، سيظل المنهج حبراً على ورق إلى أن يتحول في حياة الناس إلى منهج عملي، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور. يا أخي! هب أن الله جل وعلا قد أرسل رسوله للناس ملكاً، فهل ينفع؟ لا ينفع. لو جاء هذا الملك وصام رمضان ثلاثين يوماً، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ليس من خلقتنا، وليس من طينتنا، ولو جاء وصلى الخمس الصلوات في اليوم، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ولو جاء وأدى الأمانة وأدى جزئيات وأركان المنهج، وحولها إلى واقع لقال الناس: إنه ملك هيئ وأعد لهذا، أما نحن فلا نستطيع أن نفعل ما فعله، ولكن الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- لم يرسل رسوله ولا نبيه إلا من جنس البشر: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام:9] . سبحان الله! لابد أن يكون من صنف البشر لماذا؟ حتى ولو جاء هذا الرسول ليحول المنهج التربوي الإسلامي إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة متحرك ومرئي ومسموع ومنظور، ويرى الناس بأعينهم، ويسمع الناس بآذانهم، يعرف الناس حينئذ أن هذا المنهج حق، حول في دنيا الناس إلى واقع؛ فيتبعونه بدون انفصام وصراع. ومن هنا أرسل الله القدوة والمثل للعالمين جميعاً؛ ليحول هذا المنهج الرباني إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله سلم القدوة الطيبة والمثل الأعلى ليحول المنهج النظري إلى واقع، وقال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] . أقول: أعظم وسائل التربية: التربية بالقدوة، متى يخرج الولد محباً للصلاة؟ إذا رأى أباه يصلي، وإذا رأى أمه تصلي. متى تخرج البنت الصغيرة محبة للحجاب والعفة؟ إذا رأت أمها محبة للحجاب ملتزمة به. متى يخرج الولد راقصاً؟ إذا رأى أباه راقصاً، وإذا رأى أمه عارية. متى تخرج البنت مستهترة لا تعترف بفضيلة ولا تقدس إلا الرذيلة؟ إذا نشأت في بيت يحارب الفضيلة ويقدس الرذيلة، وهكذا كما ذكرت في أبياتي التي ذكرتها منذ قليل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الصدق إذا رأى أباه كاذباً لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الأمانة إذا رأى أمه تخون أباه لا يمكن على الإطلاق أن تتربى البنت على الفضيلة إذا رأت أمها مستهترة تحب الرذيلة!

الأستاذ والمعلم هو القدوة الصالحة

الأستاذ والمعلم هو القدوة الصالحة جاء تلميذ يوماً لأستاذه وقال: يا أستاذي! أريد أن تعلمني اسم الله الأعظم، الله أكبر شيء عظيم! التلميذ يفكر في مثل هذا. الأستاذ قال له: يا بني أنت تظن أن المسألة سهلة، وأن العملية بسيطة؟! من الذي يعرف اسم الله الأعظم؟ ومعظم الأحاديث التي وردت وحددت الاسم الأعظم ضعيفة، لكن الأستاذ كان قدوة أراد أن يقنع تلميذه بالدليل والمنطق، وبالحجة وبالواقع، ما نهره وما طرده، وما سفه سؤاله، كلا، وهذا هو المربي الناجح، إياك أن تتهرب من أسئلة ولدك أجب، وإن عجزت عن الجواب فسل أهل العلم لتجيب على ولدك إجابة صادقة صحيحة، ابنك يقول لك: أين الله؟ تقول له: الله في كل مكان، تبقى داهية، وكثير من الدعاة لو سألته: أين الله؟ يقول: والله قرأتها الليلة الماضية في كتاب مطبوع لعالم كبير بعيني يقول: أين الله؟ ويجيب على نفسه: في كل مكان. والجارية التي لم تدخل جامعة من الجامعات، ولا كلية من الكليات، ولم تحصل على الماجستير، ولم تأخذ الدكتوراه، لما سألها الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال لها: {أين الله؟ قالت: في السماء) . {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض} [الملك:16] الآيات، قال: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فالتفت إلى وليها وقال: أعتقها فإنها مؤمنة) . الجارية لا درست في جامعة ولا كلية، ولا معها ماجستير ولا دكتوراه، أين الله؟ قالت: في السماء، لكن اليوم لو سألت كثيراً: أين الله؟ يقول لك: في كل مكان، يا أخي! اتق الله، لا تجعل ذات الله في أماكن الأقذار والأنجاس وإنما: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] بعلمه بسمعه ببصره بقدرته بإحاطته بمعيته، ولا تقل بذاته لتقع فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد. حتى أني قرأت يوماً لرجل من هؤلاء، أنه دخل ليزور رجلاً من العلماء، وكان الرجل العالم عنده غنم أعزكم الله، فهو جالس فسمع غنم عالمه تعير؛ فرد عليها العالم قائلاً: لبيك يا سيدي!! الله! نظر الرجل حوله فما وجد أحداً فقال له: هل يوجد شيء؟ قال له: ألا تعلم أن الله قد حل فيها وينادي عليّ الآن؟! المسلم البسيط الفلاح لا يعرف شيئاً أبداً إلا رب العزة بالفطرة، وليس عنده إلا ملكة الفطرة، فقال: بالله هل ترضى ذلك عن ملك الملوك وجبار السماوات والأرض جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ؟ سئل إسحاق بن راهويه: يا إسحاق! كيف تزعمون أن الله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ويدع عرشه؟ فقال إسحاق: يا هذا! إن كنت لا تؤمن بإله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأول، فنحن نؤمن به جل وعلا، واعلم بأن الله قادر على أن يتنزل من عرشه ولا يخلو منه عرشه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، ولا يحيطون به علماً، استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته؛ الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته. فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. عظم ربك جل وعلا، عظم الله جل وعلا، واعرف قدر الله تبارك وتعالى، والله جل وعلا يقول: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] . ووالله ما تجرأنا على أن نتحدى الله وشرع الله، وعلى أن نتحدى سنة رسول الله، وعلى أن نعصي الله في الليل والنهار إلا يوم أن غاب في قلوبنا قدر العزيز الغفار جل وعلا. ولذا قال أحد السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. هذه العبارة عجيبة يا إخوان! لا تنظر إلى صغر المعصية، يا أخي! فالذنوب إذا وقعت من المؤمن رآها في عينه كالجبل، أما المنافق فهو الذي يرى ذنبه كذبابة سقطت على أنفه، فقال بها هكذا فطارت، لكن المؤمن وقاف عند ذنوبه ومعاصيه. ورحم الله ابن المعتز إذ يقول: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى أيها الحبيب الكريم! جاء التلميذ لأستاذه ليطلب منه أن يعلمه اسم الله الأعظم، الأستاذ، فما طرده ولا نهره وإنما قال له: سأعطيك أمانة تذهب بها إلى فلان، فإذا رجعت علمتك، قال له: فما هي الأمانة؟ فأحضر أستاذه فأراً ووضعه في صندوق مغلق بحيث لا يظهر الذي فيه، وأعطاه وقال له: هذه الأمانة اذهب بها إلى فلان وعندما ترجع أعلمك. أخذ التلميذ هذا الصندوق، وبداخله الفأر، فجعل الفأر يلعب ويتحرك في الصندوق فالولد تعجب ماذا يوجد في الصندوق؟! ودائماً الممنوع مرغوب. وهذه ركيزة في أي إنسان فهو دائماً يريد أن يعرف ما الذي خلف الجدار، فالولد مسكين! هو حامل للصندوق وإذا الفأر يلعب فيه، فهو يقول: ما هذا الذي في الصندوق؟ إذاً: هناك شيء لو فتحت الصندوق وعرفت الذي فيه ثم أوصلت الأمانة وهل سيبقى بعد هذا أميناً يا إخوان؟! لا. ففتح التلميذ غطاء الصندوق، فهرب الفأر ورجع الغطاء على الصندوق ثم رجع إلى أستاذه فقال: يا أستاذ! هل يوجد أحد في الدنيا يهدي لأخيه فأراً؟ وهل هذه هدية؟ فقال له: أنت رأيت الفأر قال له: هو نط من الصندوق وجرى، فقال أستاذه: اسمع -وهذا محل الشاهد- يابني! إنك لم تستأمن على فأر فكيف تستأمن على اسم الله الأعظم؟! هنا التربية يا إخوان بالقدوة، المعلم ما نهره، لكن علمه درساً عمره ما سيأتي مرة ثانية يسأل هذا السؤال. وهذا أستاذ يريد أن يربي أولاده وطلابه وتلاميذه الصغار على المراقبة لله، يريد أن يعلمهم درساً عملياً، فقال لهم: يا أولاد! كل واحد يأخذ هذه الدجاجة ويذهب يذبحها في مكان، بشرط أن لا يوجد أحد في المكان ينظر إليه أبداً، قالوا: هذا أمر سهل. فالناس كانوا يربون أبناءهم على المراقبة واليوم القانون يريد أن يربي الناس على مراقبة المهازيل العمي من البشر، يعني: أنا أذكر وأنا في الجيش كنت أذهب فألقي الكلمة في طابور الصباح، ويأتي الأول برتبة صغيرة فلا يبالون، فإنا أتى صاحب الرتبة الكبيرة يكثر الصمت ويسود الهدوء، فعلى قدر الرتبة يسود الهدوء، حتى يأتي من هو أعلى رتبة والنجمات تلمع فالكل يسكت، سبحان الله! فإذا ذهب هذا العميد وركب سيارته تجد الذي يقوم والذي يقعد والذي يلف، ويرتفع الهرج والمرج حتى يسود الطابور كله. فسبحان الله! جلست مع بعض الإخوة وأردت أن أعملهم من خلال هذا المشهد كيف يجب علينا أن نربي قلوبنا على أن تراقب الله وحده، فقلت لهم: يا إخوان! انظروا الضابط الكبير الذي يمشي ما الذي يحصل؟ وقلت لهم: أيش رأيكم في الألوف المؤلفة التي تقف وراء الإمام في صلاة الجمعة، الإمام يقف فيلتفت للصف الأول فقط ويقول: استووا اعتدلوا استقيموا ثم يعطي المأمومين ظهره، فإذا ما أعطاهم ظهره هل ينصرف منهم أحد؟ هل يجلس منهم أحد؟ هل يخرج منهم أحد؟ لأن هؤلاء ما وقفوا مراقبين للإمام، بل وقفوا مراقبة لله جل وعلا! فنحن نريد أن نربي قلوبنا على أن نراقب الله لا على أن نراقب عين القانون الأعمى؛ لأن القانون لو نظرنا في مكان وفي ساعة، فلن يرانا في مكان آخر وفي ساعة أخرى، رب قلبك ونفسك وابنك وزوجتك وبنتك على مراقبة الله جل وعلا. المهم: كل تلميذ الدجاجة، فبعضهم ذهب تحت شجر السلم، وبعضهم دخل الغرفة وقفل على نفسه، وكل منهم ذهب مكاناً كهذا وذبح دجاجته، ثم رأى الأستاذ تلميذاً رجع بالدجاجة وهي حية، فقال له: لمَ لم تذبح دجاجتك؟ قال له: يا أستاذ! أنت اشترطت علينا أن نذبح الدجاجة في مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت فيه إلا وعلمت أن الله يراني، فأين أذهب إذاً؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

محمد صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول والقدوة المثلى

محمد صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول والقدوة المثلى أيها الحبيب! أقول: إن التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، ولذا لما علم الله جل وعلا أن المنهج التربوي لا يمكن أن يتحول في دنيا الناس إلى واقع عملي إلا بالقدوة، بعث الله القدوة الطاهرة، والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وعلى وآله وسلم، فأدبه ربه وزكاه في كل شيء، ويحلو لي أن أكرر هذه التزكية في كل زمان ومكان: زكاه ربه في عقله فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] . وزكاه ربه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] . وزكاه في بصره فقال سبحانه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] . وزكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] . وزكاه سبحانه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] . وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] . وزكاه في حلمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] . وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] . وزكاه كله وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . صلى الله عليه وآله وسلم، أعظم قدوة يا إخوان! نريد أن نأخذ القدوة هذه مثلاً أعلى، في وقت قدم فيه الفارغون والتافهون، والساقطون والراقصون ليكونوا القدوة والمثال، ساقط داعر يقدم للشعب ولأبناء الأمة على أنه قدوة، وعلى أنه مثل يقتدى به، اسأل اليوم كثيراً من شباب الأمة، ماذا تعرف عن محمد بن مسلمة؟ ماذا تعرف عن معاذ بن جبل؟ ماذا تعرف عن خالد بن الوليد؟ ماذا تعرف عن عادل إمام الكلب؟ سبحان الله! قدم الساقطون والفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، وأخر الأطهار الأبرار الأخيار، السادة القادة، أهل العظمة البشرية بكل معانيها وصورها، أخر هؤلاء وحذف تاريخهم حتى لا يشب الجيل على سير هؤلاء الأطهار، وإنما ليشب الجيل على سير هؤلاء الأوباش الأقزام وإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذا يلقي عبئاً كبيراً على الدعاة بصفة خاصة وعلى الآباء بصفة عامة، لا تكتف بأن يكون ابنك داخل مدرسة، أنت اطمئن على المنهج، اطمئن على عقيدة ولدك، اطمئن على فكر ولدك، اطمئن على سلامة منهجه، لا تتكل على هذا، وإذا كنت لا تجيد هذا الاطمئنان فخذ ولدك إلى أهل العلم والفضل إلى أهل الخير الذين يصححون المسار والطريق، ويصححون المنهج ويزيلون عنه الشوائب والشبهات والشكوك. رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وارفعوا رءوسكم لتناطح كواكب الجوزاء، وأعلنوها للدنيا وقولوا: قدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، رجل وشخصية جمع الله جل وعلا فيها شخصيات كثيرة في آن واحد، فهو رسول الله، ورحم الله من قال وغفر له: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم بشر تجمعت فيه شخصيات متخصصة متجمعة في آن واحد، فهو رسول يتلقى الوحي من الله، ليربط الأرض بالسماء في أعظم رباط، وهو رجل سياسة من الطراز الأول يبني أمة من الفتات المتناثر، فإذا بها بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. أقول العبارة مرة ثانية: رجل سياسة من الطراز الأول، يبني دولة وأمة من الفتات المتناثر، فإذا هي بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. وهو رجل حرب من الطراز الأول، يقود الجيوش، ويضع الخطط، ويقف في غرفة العمليات ليوجه الجند والصف، بل إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، كان الحبيب في مقدمة الصفوف يعلن بأعلى صوته للجمع ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) . وأب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات، من نفقات الوقت من نفقات الجهد من نفقات الشعور من نفقات الفكر من نفقات العقل من نفقات التربية من نفقات التوجيه، فضلاً عن نفقات المادة، فقام الحبيب بهذا الدور خير قيام. وهو رجل إنساني من الطراز الأول، تشغله هموم الناس، وتملأ نفسه مشاعرهم وآلامهم وأحزانهم، فيمنحهم من وقته وفكره وعقله وجهده، بل ومن روحه، بل ومن ماله، بل ومن تربيته، بل ومن توجيهه كرجل إنساني القلب قد شغلته في هذه الدنيا هموم الناس فحسب. وهو رجل عابد خاشع خاضع أواب، كرجل تفرغ للعبادة فقط لا يشغله هم من هموم الدنيا، ولا تؤثر فيه شهوة من شهواتها أو نزوة من نزواتها. هذه الشخصيات كلها في رسول الله، فضلاً عن أنه كان صاحب دعوة أخذت عقله ووقته وجهده وروحه وفكره بل ودمه، ومع هذا كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في كل مجال وميدان من هذه الميادين المتفرقة. نعم أيها الأحباب! أمر النبي أصحابه بالعبادة فكان القدوة، تورمت قدماه من العبادة، فلا تقل لابنك: صل، وأنت جالس في البيت، ولا تقل لابنك: لا تدخن، وأنت تدخن في وجهه كل ليلة، أين القدوة؟ حتى لو امتثل الولد سيمتثل بخلل، وبدون اتزان وتوافق أبداً، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعبادة فتورمت قدماه من العبادة وقيل له: (يا رسول الله! أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال الحبيب: أفلا أكون عبداً شكوراً) . فهذا هو القدوة يا إخوان! أمرهم بالجود والإنفاق والبذل والعطاء فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سئل على شيء في الإسلام إلا وأعطاه، ولقد جاءه يوماً رجل فسأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فانطلق الرجل يسوق الغنم كلها بين يديه -وعاد إلى قومه ليقرر هذه الحقيقة الكبرى وليصرخ في قومه ويقول-: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) . أيها الأحبة! أقول: إن القدوة العملية التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بل وللدنيا كلها، يجب علينا أن نقف أمامها طويلاً طويلاً، لنحول فعل النبي صلى الله عليه وسلم الآن إلى واقع، لنقدم القدوة عملية واقعية سلوكية مرة أخرى كما فعل الحبيب مع أصحابه، بل ومع أمته. أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالعبادة فكان سيد العباد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالإنفاق فكان أجود بالخير من الريح المرسلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم بالحلم والرحمة والتواضع فكان سيد هذه الصفات، واحتل ذروة سنامها. نعم أيها الأحباب! ولا أريد أن أتوقف مع كل صفة وإلا لطالت وقفتنا. أقول: أيها الحبيب الكريم! يكفي أن تقف مع هذا المشهد الحي، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن، وابن سعد في الطبقات وهو حديث صحيح: (أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فارتعدت فرائصه واضطربت جوارحه -فماذا قال له الحبيب؟ - فقال له: هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في مكة) انظروا التواضع يا إخوان! ونحن الآن في أمس الحاجة -يا طلاب العلم- إلى أن نتواضع، تاج الداعية التواضع؛ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل التواضع. تاج طالب العلم التواضع، إذا من الله عليك بالعلم فتواضع ليرفعك الله، ليزيدك الله جل وعلا، فمن تواضع لله رفعه، لا تتعال على إخوانك وأحبابك وعلى طلابك، ولا تقل بلسان الحال: أنا العالم وأنتم الجاهلون، وأنا الطائع وأنتم المذنبون، وأنا الموفق وأنتم المقصرون، لا يا أخي! تذكر فضل الله عليك ونعمة الله عليك، فورب الكعبة لو تخلى الله عنك برحمته طرفة عين لهلكت، من أنت حتى تغتر بعملك؟ من أنت حتى تغتر بمالك؟ من أنت حتى تغتر بجاهك؟ أنت لا شيء بدون ستر الله، وبدون فضل الله، وبدون رحمة الله: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، كنت ضالاً فهداك، وكنت وضيعاً فرفعك، وكنت فقيراً فأغناك، وكنت ذليلاً فأعزك، فاعرف فضل الله عليك، ووالله لو تخلى الله عنك طرفة عين لكنت بمثابة الشاة التي احتوشتها الذئاب من كل ناحية: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] . وهكذا أيها الأحباب! ما أمرهم النبي بأمر إلا وكان أول الممتثلين له، وما نهاهم عن شيء إلا وكان أول المجتنبين له، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد. ومن هنا تعلقت به قلوب أصحابه، هذا أعظم سبب لتعلق القلوب بالقدوة، أن يرى الناس بالقدوة النموذج الحي لكل ما يقول. ومن هنا تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال وفعل، وقدم القدوة العملية المشرقة في أروع وأجل صورها! وأختم بعبارة مهمة جداً، وأرجو الله أن تحفر في القلوب قبل العقول، وأقول: قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما قدم الإسلام هذه القدوة فإنه ما قدمها لجيل الصحابة فحسب، وإنما قدم الإسلام هذه القدوة لتظل خالدة على مر الأجيال والقرون، ولم يقدمها الإسلام لتكون قدوة باهتة ليتعامل الناس معها تعاملاً نظرياً بحتاً، وإنما ليحول الناس هذه القدوة مرة أخرى في حياتهم إلى منهج حياة، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] . فيا أيها المسلم! يا أيها الأستاذ! يا أيها المربي! يا أيها الأب الكريم! يا أيتها الأم الفاضلة! يا من حملك الله أمانة التربية، وأمانة التوجيه، وأمانة ال

التربية لماذا؟! [5]

التربية لماذا؟! [5] من أعظم وسائل التربية: التربية بالقدوة الحسنة حين تترجم إلى واقع عملي مشاهد، كما كان حال المعلم الأول والمربي العظيم عليه الصلاة والسلام. ومن وسائل التربية أيضاً: التربية بالقصص القرآني والنبوي؛ لأنه يتسم في كل فصوله بالواقعية مع الحفاظ على عنصر الطهر والعفاف والأخلاق الحميدة، بخلاف القصص المعاصر الذي يروج للشهوة والدعارة، ويحرك الغرائز الكامنة.

أهمية دروس التربية

أهمية دروس التربية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة في الله! إن لقاءنا هذا هو اللقاء الخامس من هذه السلسلة المنهجية التربوية التي عنونا لها بعنوان: التربية لماذا؟ فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة في الله! لقد بدأنا الحديث عن هذه السلسلة بأسباب اختياري لهذا الموضوع، وركزت الحديث في الأسباب التالية: أولاً: أن الصحوة الإسلامية في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل يصحح سيرها ومسراها، حتى لا تقع الصحوة في أي تعامل خاطئ مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لابد منها للربط بين دلالة النصوص وحركة الواقع ربطاً صحيحاً. السبب الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة؛ فإننا نرى كثيراً من المسئولين عن وضع المنهج التربوي لأبنائنا وبناتنا طيلة السنوات الماضية قد ضعفوا أمام المناهج التربوية الغربية الدخيلة، ووجدوا أنفسهم ينسابون في هذه الأطر وفي تلك المناهج، ومن ثمَّ وجب علينا أن نبين أننا نملك -وبكل ثقة- المنهج التربوي الأصيل الذي يصلح لكل زمان، ويصلح لكل مكان، ويصلح لجميع مستويات البشر؛ لأن الذي وضعه هو خالق البشر جل وعلا، الذي قال -وهو أصدق القائلين-: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . ثالثاً: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير؛ فإننا نرى انفصاماً كثيراً بين منهجنا المشرق وبين واقع الأمة في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب التشريع، وفي جانب الأخلاق، وفي جانب المعاملات والسلوك، ونرى كثيراً من أخلاق الإسلام قد أعرض كثير من المسلمين عنها في هذه الأيام، ومن ثمَّ وجب على الأمة أن تعود مرة أخرى إلى هذا المنهج التربوي الذي جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. ثم تكلمت عن مصادر التربية وقلت: إن أهم المصادر التي يجب على الأمة أن ترجع إليها مرة أخرى لتستقي منها منهجها التربوي هي: - القرآن الكريم. - والسنة. - ومنهج السلف، باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. ثم تكلمت بعد ذلك عن خصائص التربية، وركزت الحديث في الخصائص التالية: أولاً: التكامل والشمول. ثانياً: التوازن والاعتدال. ثالثاً: التميز والمفاصلة، وتحدثت عن هذا بالتفصيل. ثم تكلمت في اللقاء الماضي عن وسائل التربية، وقلت: إنني سوف أركز الحديث عن الوسائل التالية: أولاً: التربية بالقدوة. ثانياً: التربية بالقصص القرآني والنبوي. ثالثاً: التربية بالمثل القرآني والنبوي. رابعاً: التربية بالموعظة. خامساً: التربية بالعادة والأحداث. سادساً: التربية بالعبادة. وأخيراً: التربية بالعقوبة.

التربية بالقدوة الحسنة

التربية بالقدوة الحسنة تكلمت في اللقاء الماضي عن أعظم وسائل التربية ألا وهو: التربية بالقدوة، وقلت: يا أحبابي! إن شبابنا الآن يعيش صراعاً نفسياً داخلياً رهيباً؛ لأنه قد فقد القدوة الطيبة الصالحة في جانب التربية، وفي جانب الدعوة، وفي جانب الأبوة. يعيش شبابنا اليوم صراعاً نفسياً رهيباً؛ إذ إنه فقد القدوة الطيبة والمثل الأعلى في هذه الأيام، لاسيما وقد قُدم الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال. أيها الأحبة! من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية، أمر ميسور أن يجلس مقنن أو مرب أو مبدع أو مفكر ليضع منهجاً تربوياً نظرياً غاية في الإتقان والإبداع، ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق -لا قيمة له على الإطلاق- ما لم يتحول في حياة الناس إلى واقع يتحرك. فالمنهج النظري ليس له قيمة إلا إذا تحول في حياة الناس إلى منهج عملي، فنحن نتغنى بالصدق، ولكن ندر الصادقون! ونتغنى بالأمانة، ولكن قلَّ أهل الأمانة! ونسعد بالوفاء بالعهد والوعد، ولكن ندر الموفون بوعودهم وعهودهم! وهكذا. فالمنهج النظري حتى وإن كان رائعاً جميلاً يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى واقع يتحرك في دنيا الناس. ولذلك لما شرع الله جل وعلا هذا المنهج التربوي المعجز علم -وهو العليم الخبير- أنه لابد لكي يتحول هذا المنهج التربوي في حياة الناس إلى واقع أنه لابد للناس من قدوة تتحرك بهذا المنهج في دنيا الناس، فيعي الناس أن هذا المنهج حق؛ لأنهم رأوه بأعينهم واقعاً يتحرك في دنياهم، ومن ثمَّ بعث الله أعظم قدوة وأطهر مثل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتتحرك هذه القدوة وليتحرك هذا المثل بين الناس، فيعلم الناس علم اليقين أن هذا المنهج حق لا مراء فيه؛ لأنهم يرونه يتجسد في هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى؛ في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد زكى الله هذه القدوة تزكية مطلقة -بأبي هو وأمي- زكاة في عقله في علمه في صدقه في فؤاده في قلبه في صدره في حلمه وفي كل شيء؛ لتكون هذه القدوة وليكون هذا المثل مستمراً على مدار الأزمان والأيام؛ لأن الإسلام وهو يقدم هذه القدوة لا يقدمها للإعجاب السالف، ولا لنتغنى بقدوته وأخلاقه وصدقه؛ ثم يتوقف حالنا عند هذا الحد، كلا! وإننا نرى كثيراً من أبناء الأمة الآن يتغنون بأخلاق الحبيب المصطفى، بل ويعلنون على مدى الأزمان والأيام أن قدوتهم الطيبة ومثلهم الأعلى هو رسول الله، في الوقت الذي لا نرى فيه اتباعاً عملياً لهذه القدوة الطيبة، ولهذا المثل الأعلى. فالإسلام حينما يجعل قدوته الطيبة ومثله الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقدم هذه القدوة للإعجاب السالف، أو للتفكير النظري التجريدي، كلا! وإنما يقدم الإسلام هذه القدوة الطيبة ليحول الناس أخلاقها إلى منهج حياة، وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس. فالرسول عليه الصلاة والسلام كان آية من آيات الله، وعجيبة من عجائب الكون، ومعجزة من معجزاته، جمع الله في شخصه شخصيات كثيرة؛ فهو رسول من عند الله، يتلقى الوحي من السماء؛ ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة. وهو رجل سياسة من الطراز الأول، يقيم دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء لا يطاوله على الإطلاق بناء. وهو رجل حرب، وكأنه لا يجيد إلا فن النزال والقتال، كان يضع الخطط والبرامج، ويكون في مقدمة الصفوف، وإذا حمي الوطيس واشتدت المعركة وخاف الناس؛ وقف الحبيب في المقدمة ينادي بأعلى صوته إذا صمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف الحبيب يعلن بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) عليه الصلاة والسلام. وهو رجل إنساني من طراز فريد، امتلأت نفسه من هموم الناس وآلامهم، فأعطاهم -بالرغم من كل هذه المسئوليات- من وقته ومن عطفه ومن حنانه ومن خلقه، بل ومن ماله، وكأنه رجل إنساني لا يعيش إلا لآلام الناس وآمالهم. وهو زوج وأب ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات؛ من نفقات الوقت، ومن نفقات الفكر، ومن نفقات الشعور، ومن نفقات المسئولية، فضلاً عن نفقات المال؛ فكان الحبيب يقوم بهذا الدور الكبير على أعظم وأتم صورة عرفها التاريخ وشهدتها الأرض. وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك، فهو رجل دعوة، أخذت الدعوة منه وقته وروحه وجهده وعرقه، بل ودمه. هذه القدوة الطيبة وهذا المثل الأعلى، ما أحبه أصحابه، وما تعلقت به قلوب أبنائه وطلابه إلا لأنه ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المؤتمرين به، وما نهاهم عن شيء إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد؛ ومن هنا تعلقت به القلوب صلى الله عليه وسلم!

أهمية القدوة الحسنة في التربية

أهمية القدوة الحسنة في التربية كيف يتعلق الطالب بأستاذه وهو يرى أستاذه يأمر بأمر ويخالفه؟! كيف يتعلم الولد الصدق وهو يرى أباه يكذب؟! كيف تتعلم البنت الفضيلة وهي ترى أمها مستهترة؟! إن أعظم وسائل التربية هي القدوة، وهي أن يرى الابن والطالب والشاب هذه القدوة العملية تتحرك أمام عينيه وبين يديه. عندما رأى الحسن والحسين رضوان الله عليهما شيخاً كبيراً لا يحسن الوضوء، لم ينتهراه، ولا سخرا منه؛ لأن هؤلاء تربوا في مدرسة النبوة، وتربوا في بستان الأخلاق، وتربوا في حضن المصطفى وكفى! فماذا فعل الحسن والحسين؟ قال الحسين: (هلا أتيت لتحكم بيننا، ولترى من لا يحسن الوضوء؛ فإن الحسن يتهمني أني لا أحسنه، وأنا أقول: بل أنت الذي لا تحسن الوضوء؟! فتوضأ الحسن فأتم وأكمل، وتوضأ الحسين فأتم وأكمل) . فهم الرجل هذا الأسلوب التربوي الفريد بالقدوة الطيبة والمثل الأعلى، فنظر إلى الحسن والحسين وقال: كلاكما على صواب، وأنا المخطئ، فجزاكم الله عني خيراً يا آل بيت رسول الله! فهذه هي القدوة الطيبة، والمثل الأعلى. أعظم وسيلة من وسائل التربية: القدوة، أن يرى الشباب قدوته تتحرك أمام عينيه وبين يديه، وتخيل لو أننا في مصلحة من المصالح الحكومية، ورزق الله هذه المصلحة بقائد تقي نقي مؤمن، فإذا ما استمع إلى أذان الظهر قام من مكتبه على الفور ليجدد وضوءه، ثم نزل إلى مكان قد أعده للصلاة ليصلي؛ فماذا ستكون النتيجة؟ بالله عليكم! إذا كان هذا هو رئيس المصلحة فهل سيتخلف عن الصلاة موظف في هذا المكان؟ A لا يمكن؛ لأن الرجل الأعلى في هذا المكان قام بالقدوة الطيبة؛ ليعلمهم أنه إذا حان وقت الصلاة وجب على الجميع أن يترك كل أعمال الدنيا ليضع أنفه وجبينه في التراب ذلاً لخالقه ورازقه جل وعلا. الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر الصحابة بالإنفاق كان أجود بالخير من الريح المرسلة، جاءه رجل يسأله فقال له: (خذ الغنم الذي بين الجبلين، فساق الرجل الغنم كلها، وذهب إلى قومه ليقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) . عندما يأتي طالب العلم الصغير فيرى أحد شيوخه يتعامل مع أحد الدعاة بمنتهى التواضع والإجلال والأدب؛ سيتعلم بالقدوة أنه هكذا ينبغي أن يكون التعامل بين أهل العلم وأهل الفضل، وإذا رأى أستاذه وشيخه يجل رجلاً كبيراً ذا لحية بيضاء فسيتعلم بالقدوة كيف يكون الإجلال لأصحاب الشيبة في الإسلام، وهكذا. وأنا والله! أعلم يقيناً أنه لا ينبغي لمثلي أن يتكلم عن القدوة، ولا أقول هذا تواضعاً؛ فإنه لا ينبغي لمثلي على الإطلاق أن يتكلم عن القدوة إلا إذا توافرت فيه شروط الأهلية والعملية، ولكنني أتكلم من منطلق شعوري بالمسئولية لا من منطق شعوري بالأهلية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ، فأسأل الله أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! تعمدت أن أطيل بعض الشيء في التربية بالقدوة؛ لأنها أعظم الوسائل في التربية.

التربية بالقصص القرآني

التربية بالقصص القرآني ثانياً: التربية بالقصص القرآني والنبوي: أيها الحبيب الكريم! إن للقصص القرآني والنبوي وظيفة تربوية بليغة، لا يمكن أن يقوم مكانها أي لون آخر من الأداء اللغوي. وذلك لما للقصص القرآني والنبوي من ميزات نفسية تخاطب أعماق الفطرة، وتحرك الوجدان، وتهز الشعور، مع الحفاظ على كل ملامح الواقعية في كل جزئيات القصة من أولها إلى آخرها. فالقصص القرآني والنبوي يقدم ملامح الواقعية في القصة في كل أشكالها وصورها وجزئياتها، بل في كل شخصياتها، بل في كل كلماتها، بل في كل حروفها، ولم يتخل القصص القرآني والنبوي بالرغم من هذا عن طابعه النظيف الطاهر في موقف واحد، ولم ينشئ القصص القرآن والنبوي ذلك المستنقع الكريه الآثم، ولم يثر الغرائز الكامنة، والشهوات الهاجعة كلا! لو قرأت أي قصة من قصص القرآن أو من قصص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجدت منها كل ملامح الواقعية، بخلاف كتاب القصة الواقعية المعاصرة؛ فإنهم يقولون: من أجل أن يبقى الكاتب واقعياً فإنه يعزف على وتر الجنس، وعلى وتر الدم، وعلى وتر العنف، وعلى وتر الدعارة، وعلى وتر ابتزاز غرائز القراء؛ بحجة الواقعية في القصة، وبحجة الكمال الفني في الأداء. والذين يشاهدون التلفاز يعرفون هذا الكلام، فالكتاب المعاصرون يعزفون على هذه الأوتار بحجة الواقعية، يعني: لابد أن تكون القصة مطابقة للواقع، وعليه فلابد أن يجسد الكاتب هذه الشخصيات، وفي الوقت ذاته يثير الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة، وينشئ هذا المستنقع الآثم من الوحل والرذيلة والعفونة والعار. والله! لا أنسى أبداً وأنا طالب في الكلية حين دخل عليّ شاب من الإسكندرية، وكنت حينئذٍ أصلي بالإخوة إماماً، وكان مقرراً علينا قصة لـ نجيب محفوظ، فدخل عليّ هذا الشاب وهو يبكي، فقلت: ما الذي يبكيك؟ فقال: جلست الليلة لأقرأ ما قرر علينا في هذه القصة، فلم أتمالك نفسي فعصيت الله جل وعلا، وأنزلت شهوتي بيدي! فقلت: سبحان الله! ولمَ؟ قال: ألم تقرأ القصة؟ قلت: لا. ما قرأتها بعد، وما دام أنها مقررة علينا مددت يدي إلى الكتاب وفتحت على الباب الذي كان يقرؤه أخونا، فوالله الذي لا إله غيره! لقد قرأت كلاماً يحول النساك العباد إلى فساق فجار. فماذا تريد من شاب تجسد له الفاحشة تجسيداً دقيقاً، بتصوير دقيق رهيب، وهو شاب له نفس بشرية فيها الإقبال والإحجام، وفيها الطاعة والمعصية، وفيها الفجور والتقوى، وفيها الإيمان والكفر؟! قال عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] ! فرجل في سن الشباب يرى فتاة جامعية جميلة تجلس إلى جواره، بل وتلصق فخذها بفخذه، ويقرأ هذا الكلام، ماذا تنتظرون منه؟! هل هو ملك مقرب أو نبي مرسل؟ A لا هذا ولا ذاك، والنفس البشرية ضعيفة، كما قال عز وجل: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53] أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن رحم، وأي إنسان -يا إخوان- قد يزل، بل لقد زل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. بعض الصحابة وقع في الزنا فجاء إلى النبي ليقيم عليه حد الرجم؛ لأنه كان متزوجاً، وجيء برجل من أصحاب النبي شارباً للخمر؛ فالنفس البشرية فيها الطاعة والمعصية، وفيها الإقبال والإحجام، فكتَّاب القصة الواقعية المعاصرة -بحجة الواقعية، وبحجة الكمال الفني في الأداء- لا يعزفون إلا على وتر الجنس والدعارة والدم وابتزاز غرائز القراء، والحجة المزعومة: الإبداع الفني في القصة الواقعية المعاصرة!! وهذا والله! لا ينطلي إلا على أصحاب العقول القاصرة الضعيفة، فإذا كان هؤلاء يعبرون عن تجاربهم الشخصية بكل ما فيها من شذوذ وانحراف فهم صادقون مع أنفسهم على كل حال، لكن السؤال الخطير الذي يفرض نفسه: ما الداعي لتقديم هذه الأعمال الهابطة، وهذه التجارب الساقطة لشباب الأمة؟ نحن الآن في أمس الحاجة إلى أن نربي الشباب على الرجولة، وعلى البذل، وعلى العمل، وعلى الإنتاج, وعلى العطاء؛ لنوفر لكثير من أبناء الأمة رغيف الخبز! يقدم كتَّاب القصة الواقعية المعاصرة هذا اللون دون مراعاة لعقيدة أو لمنهج أو لخلق أو لفضيلة، بل دون رغبة صادقة في صناعة حياة شريفة هادئة!!

الواقعية في القصص القرآني وبيان ذلك في قصة يوسف

الواقعية في القصص القرآني وبيان ذلك في قصة يوسف يمتاز القصص القرآني والنبوي بأنه يعرض القصة الواقعية بكل صورها، وبكل ملامح حياتها، مع أنه لم يتخل في موقف واحد من مواقف القصة -من البداية إلى النهاية- عن الأسلوب الجميل النظيف الطاهر، وسأضرب لكم مثالاً واحداً بقصة قرآنية واحدة؛ لأدلل على أن القصة القرآنية ما تخلت في موقف من مواقفها، بل في كلمة من كلماتها، عن الأسلوب النظيف الطاهر الذي يهدف في النهاية إلى تربية القلب والعقل والروح والبدن إنها قصة يوسف. وبالمناسبة فقصة يوسف هي القصة الوحيدة في القرآن الكريم كله التي وردت بكمالها وطولها في سورة واحدة؛ لأن القصص القرآن حتى وإن ورد في سور أخرى بكاملها فإنه يأتي مجملاً، ويأتي مختصراً، ولكن القصة الوحيدة التي وردت بالتفصيل في سورة واحدة هي قصة يوسف، فهي القصة الوحيدة التي تتجسد فيها كل ملامح الواقعية في كل شخصية، وفي كل موقف، بل وفي كل كلمة. وقد عرضت القصة الصورة الشخصية الرئيسية وهي: شخصية يوسف عليه السلام، وبلغة الكتَّاب المعاصرين هو البطل، فعرضت القصة الشخصية الرئيسية بكل واقعية من أول لحظة إلى آخر لحظة، ابتداءً بفتنة الإلقاء في غيابة الجب، قال عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:11-12] . وفي الأخير: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] . ومروراً بفتنة البيع بثمن بخس: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] . ومروراً بفتنة التربية في بيت الملك: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . ومروراً بأعصف فتنة مرت بهذا البطل ذي الشخصية الطاهرة الكريمة، إنها فتنة الشهوة، وفتنة اجتماع النسوة عليه، وكانت الفتنة في أول الأمر تتمثل في امرأة واحدة، ثم بعد ذلك تضخمت الفتنة فاجتمعت عليه نسوة، فالتجأ إلى الله وقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33-34] . ومروراً بفتنة السجن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف:35-36] إلى آخره. ومروراً بفتنة الملك والوزارة مرة أخرى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:54-55] . وبعد ذلك تنهي القصة الحديث عن هذه الشخصية الفذة، وعن هذا العبد الصالح، وكيف نجاه الله من كل هذه الفتن، وكيف نجاه الله من كل هذه المحن، وكيف خرج طاهراً من كل هذه الابتلاءات، وهي تسلط عليه الضوء وهو يضرع إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الخاشع الأواب المنيب: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] . ما تخلت القصة عن طابعها النظيف الطاهر في أي موقف من هذه المواقف أبداً، إنها قمة النظافة قمة الإبداع قمة الجمال التعبيري. وبالإضافة إلى هذه الشخصية الرئيسية هناك شخصية الأب الملهوف، والنبي الموصوف، إنه نبي الله يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قدمته القصة بكل واقعية منذ اللحظة الأولى حينما قال لولده يوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، ومروراً بحالة الخوف وهو يقول لبنيه: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13] . ومروراً بالحالة القاسية وهو يبكي بالليل والنهار ويقول لبنيه: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] . ويوصي أبناءه بالرجاء وأن ينطلقوا ليبحثوا عن أخيهم وعن ابنه الذي أحبه من كل قلبه: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] . وانتهاءً بهذا المشهد الكريم الذي تجسد فيه القصة فرحة هذا الأب الكريم حينما يأتي البشير ليلقي قميص يوسف على وجه يعقوب عليه السلام، فيرد الله إليه بصره: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:96-98] ؛ إنها قمة الواقعية! وجسدت القصة أيضاً صورة شخصية أخرى رئيسية، ألا وهي شخصية امرأة العزيز، بمنتهى الواقعية، ولم تتخل القصة عن الأسلوب الجميل الطاهر النظيف حتى في لحظات التعري النفسي والجسدي، يوم أن تقدمت المرأة وقد تجردت من كل حياء أنثوي، ومن كل كبرياء نفسي، ومن كل مركز اجتماعي؛ لتعلن عن شهوتها الجامحة بكل قوة وبكل جرأة وهي تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] . وانظر إلى كيد المرأة الرهيب، وكيف فكرت في أن ترد الكيد والتهمة عن نفسها مع حفاظها على أن يبقى حبيبها أمام عينيها وبين يديها، فما أمرت بقتله وإنما أمرت بسجنه؛ ليظل أمام عينيها تراه حينما تريد، قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف:25] فذكرت التهمة وحددت الجزاء: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] بكل واقعية تعرض القصة شخصية هذه المرأة، حتى في اللحظات الأخيرة وهي تعترف في تبتل وخشوع وهي تقول: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:51-53] . وإلى جانب هذه الشخصيات هناك إخوة يوسف، فقد عرضتهم القصة أيضاً بكل واقعية، وعرضت كيف نما الحقد في قلوبهم، وكيف حجبت الكراهية قلوبهم وضمائرهم عن هذه الجريمة البشعة النكراء، وهم يلقون أخاهم في غيابة الجب، بل وهم يقولون في وجهه: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] ، بل وهم يصرخون بين يديه ويعترفون بأن الله قد أعزه عليهم، وبأن الله قد رفع درجته عليهم {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ، فيرد عليهم يوسف برحمة وشفقة وحنان: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] إلى آخر كلماتهم في القصة، {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:97-98] . وإلى جانب هذه الشخصيات هناك شخصية العزيز، وهناك شخصية الملك، بل وهناك البيئة التي جسدتها القصة تجسيداً دقيقاً حتى بملامحها التاريخية، ذلكم هو الإبداع الرباني والقرآني في القصة القرآنية؛ لأنه كلام الحق جل وعلا.

دروس من قصة يوسف

دروس من قصة يوسف وبعد كل ذلك -أيها الأحباب- أقول: إن المربي الناجح -وهذا هو الهدف- هو الذي يعرف كيف يوظف القصة توظيفاً تربوياً؛ فالمربي الناجح هو كالأب في بيته، فإذا كنت تحكي قصة يوسف لابنك فانظر ما هي الدروس التربوية التي يجب عليك أن تقف أمامها لتعزف على وترها، ولتغرس معانيها في قلب ولدك. أيها الأستاذ في جامعتك، وفي فصل مدرستك! احرص على الدروس التربوية التي يجب عليك أن تقف أمامها لتغرسها في قلوب وعقول طلابك وأبنائك إذا ما وقفت يوماً لتقص عليهم قصة قرآنية؛ لأن هذا هو الهدف، والمربي الناجح هو الذي يعرف كيف يوظف القصة القرآنية توظيفاً تربوياً كريماً ليربي عقول وقلوب طلابه وأبنائه، فتدمع عيونهم، وتخشع قلوبهم، وتخضع جوارحهم، ولن يتسع الوقت للوقوف مع كل الدروس التربوية في القصة، وإنما سأقف عند دروس محددة:

الابتلاء سنة كونية

الابتلاء سنة كونية الدرس الثالث من الدروس التربوية في قصة يوسف هو الابتلاء: فها هو نبي من أنبياء الله يبتلى بإخوانه، ويبتلى بالرق والعبودية، ويبتلى بفتنة الشهوة، ويبتلى بفتنة الملك، ويبتلى بالسجن، قال عز وجل: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] . فالابتلاء سنة جارية، ما من نبي ولا رسول على الإطلاق إلا وابتلي أبداً من لدن آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، ونحن من نحن حتى لا نتعرض للمحن ولا نبتلى؟! فهؤلاء رسل الله وأنبياء الله قد تعرضوا للمحن والفتن والابتلاءات، فالابتلاء سنة جارية ثابتة؛ لتمحيص الصف، وتمييز الخبيث من الطيب. أرجو من الشباب أن يفهموا هذا الدرس جيداً، وإياكم وأن تظنوا أن الابتلاء لأهل الحق إنما هو غضب من الله على أهل الحق، فهل غضب الله على حبيبه المصطفى؟! كلا! فليس أحد أغير على الحق وأهله من الملك، ولكن الابتلاء هو كما قال ربنا جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3] ، وقال جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . فالابتلاء سنة جارية؛ لتمحيص الصف، وتمييز الخبيث من الطيب، فأرجو من أحبابي وإخواني إذا ابتلي الواحد منهم أن يصبر على الابتلاء. نسأل الله جل وعلا أن يستر ذنوبنا، اللهم استر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا وأعمالنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

وحدة العقيدة

وحدة العقيدة ثانياً: وحدة العقيدة: وهذا من أعظم الدروس التربوية في قصة يوسف، فما من نبي ولا رسول إلا وقد أرسل بعقيدة واحدة، وكل الأنبياء والمرسلين عقيدتهم واحدة. والدليل من القصة قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39-40] ، فهذه هي عقيدة يوسف، وعقيدة إبراهيم، وعقيدة نوح، وعقيدة موسى، وعقيدة عيسى، وعقيدة يعقوب، وعقيدة سليمان، وعقيدة لوط، وعقيدة محمد، فهي عقيدة واحدة، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . أيها الأحباب الكرام! والله إن الله لا يقبل إلا الإسلام، فليس عند الله يهودية، ولا نصرانية، ولا إبراهيمية، ولا موسوية، ولكن الديانة عند الله هي الإسلام، قال جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] . فالإسلام دين نوح، قال الله حكاية عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72] . والإسلام دين إبراهيم، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127-128] . والإسلام دين يعقوب، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] . والإسلام دين لوط، ودين يوسف، ودين عيسى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52] . والإسلام دين سليمان، قال تعالى: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28] فقالت ملكة سبأ حينما أرادت أن تدخل في دين هذا النبي: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] . والإسلام دين مؤمني الجن، قال تعالى عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن:14] . والإسلام دين سيد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد خاطبه ربه جل وعلا بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فالإسلام دين الله جل وعلا. عقيدة التوحيد هي عقيدة كل نبي ورسول بعثه الله جل وعلا لقومه، فما من نبي ولا رسول إلا ودعا قومه أول ما دعاهم إلى التوحيد، وكل الأنبياء دعوا أقوامهم إلى الإيمان بالله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له. فعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كانت الكلمات الأولى له وهو الصبي الصغير الذي ما زال في لفافته أن قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:30-36] ، فاعبدوه أي: وحدوه كما قال ابن عباس، والعبادة هي الخالصة بكل صورها وأشكالها الظاهرة والباطنة. فوحدة العقيدة درس عظيم ينبغي أن نقف أمامه طويلاً؛ ويتجلى ذلك في قولة يوسف {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:39-40] ، فهذه الآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت إنما هي آلهة باطلة مكذوبة مدعاة، والذي يستحق العبادة إنما هو الإله الحق جل جلاله.

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أول درس من الدروس التربوية في قصة يوسف: أن القصة كاملة إنما هي تسلية لقلب المصطفى عليه الصلاة والسلام، لأن سورة يوسف مكية، نزلت على قلب رسول الله وهو في مكة لتثبت فؤاده صلى الله عليه وسلم، وكأن الله جل وعلا أراد أن يقول للمشركين في مكة: إن الله هو الذي نجى يوسف عليه السلام من غيابة الجب، ونجاه من الأسر، ومن العبودية والرق، ورباه في بيت الملك، ونجاه من الشهوات والفتن في بيت العزيز، ومكنه من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، حيث جعله وزيراً للاقتصاد في مصر، ثم رد الله عليه أهله بعد ذلك وجمع شمله بهم، إن الله الذي فعل ذلك قادر على أن ينجي محمداً وأصحابه، وسوف يخرجهم من بين أظهركم، وسوف يعيده مرة أخرى إلى بلدكم ظاهراً ظافراً منتصراً. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مطروداً من بيته ومن ماله ومن أهله، وفي سنوات قليلة جداً عاد النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة مرة أخرى في أكثر من عشرة آلاف موحد؛ ليفتح مكة، وليرتقي بلال على سطح الكعبة، بلال ذلك العبد الأسود الذي أغاظ الكفار والمشركين حتى قال أحدهم: ألم يجد محمداً إلا هذا الغراب الأسود ليرتقي على سطح الكعبة؟ يعود النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الجموع الموحدة ليأمر بلالاً أن يرتقي على سطح الكعبة؛ ليعلن -ولأول- مرة كلمة التوحيد وكلمة التكبير: الله أكبر، ويعلن الوحدانية لله: أشهد أن لا إله إلا الله، ويعلن النبوة لمحمد بن عبد الله: أشهد أن محمداً رسول الله؛ لتبكي حجارة الكعبة فرحاً وطرباً، بعدما طهرها الحبيب من الشرك، وكان يشير بعود في يده إلى هذه الأصنام التي قبعت على سطح الكعبة وفي جدرانها، وكلما أشار النبي بهذا العود إلى صنم من هذه الأصنام التي كانت تعبد بالأمس القريب يخر هذا الصنم على وجهه، ويتلو الحبيب قول ربه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] . من كان يصدق هذا؟ لقد كان رسول الله وحده في مكة يقول: لا إله إلا الله، ولم يجد أحداً ينصره، ولقد خرج على قدميه المتعبتين الداميتين -بأبي هو وأمي- إلى الطائف، ومشى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين كيلو يا إخوان -أي: مائة وأربعين كيلو ذهاباً وإياباً- مشى على رجليه، لم يركب سيارة مكيفة ولا طائرة، بل ولا حتى دابة، خرج الحبيب على قدميه وذهب إلى الطائف، والله! ما يريد مالاً، ووالله! ما يريد جاهاً، ووالله! ما يريد منصباً، ووالله! ما يريد كرسياً زائلاً، وإنما أراد أن ينتشلهم من أوحال الكفر والشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان. فماذا فعلوا به وهو حبيب الله وهو رسول الله وهو خليل الله وهو الذي كان يحمل في قلبه نور الله، وهو الذي ذهب إليهم يحمل لهم سعادة الدنيا والآخرة؟ رموه بالحجارة، وسلطوا عليه الصبيان والسفهاء، حتى نزف الدم الشريف منه، وأنزل الله إليه ملك الجبال في عودته -والحديث في البخاري - وقال له ملك الجبال: يا رسول الله! لقد أرسلني الله إليك فمرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت. ووالله! لو كان رسول الله ممن ينتقم لذاته، وممن ينتقم لقطرات دم نزفت منه، وممن ينتقم لمكانته، وممن ينتقم لشخصيته؛ لأمر ملك الجبال أن يحطم تلك الرءوس، وأن يهدهد تلك الجماجم؛ لتسيل الدماء من الطائف فيراها أهل مكة بمكة، ولكنه نهر الرحمة وينبوع الحنان، إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي ما خرج إليهم إلا وهو يعلم يقيناً أن هذه الأصلاب تحمل ربيعاً قادماً، وتحمل أملاً يشرق كالفجر، ويتحرك كالنسيم؛ ولذا قال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، إنما أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله عز وجل) . واليوم أرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا الدعاة قد يثأر لذاته، وقد يثأر لشخصه، وقد يغضب إذا ما تكلم أحد الطلاب أو أحد الدعاة في حقه، يأتي من منطلق أنه يريد أن يبين الحق فيثأر لذاته، وينتقم لشخصه من مدخل شيطاني لا يشعر به. وأذكر نفسي وإياكم أيها الدعاة! وأيها الشباب! أنه يجب علينا أن نجعل أنفسنا وذواتنا في الوحل والتراب والطين نصرة لمنهج رب العالمين، فإذا كنت ممن يريد الحق فبين الحق دون تجريح، وإذا كنت ممن يريد الله ورسوله والدار الآخرة فما الداعي لأن تجرح أخاك، إذا كنت ممن يريد الله ورسوله والدار الآخرة فاحفظ لسانك وبين الحق دون أن تتعرض لتجريح أحد، أما إن كنت ممن يثأر لنفسه، وممن يثأر لذاته، وممن يثأر لشخصه، فقل ما شئت، واجرح من شئت، وعدِّل من شئت، وغداً سنقف بين يدي الله جل وعلا؛ وسنندم على كل كلمة تلفظت بها الألسنة، وعلى كل حركة أدتها الجوارح ولم تكن لمرضاة الله، ولا في مرضاة الله، مصداقاً لقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، ومصداقاً لقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] . رسول الله لم يثأر لذاته قط، ولم يثأر لنفسه قط، وما غضب لنفسه أبداً كما قال أنس، ولكن كان إذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب غضباً شديداً، كما في قصة المرأة المخزومية التي سرقت، وجاء أسامة بن زيد رضي الله عنه الحب ابن الحب ليشفع فيها، ولكن لم يكن هناك محسوبية، ولم يكن في المجتمع النبوي الكريم الطاهر مجاملة لأحد على حساب المنهج أبداً. ولما سمع النبي من أسامة ذلك غضب، وقام على المنبر وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! والذي نفس محمد بيده! -وفي لفظ- وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، وبين أن السبب الرئيسي من أسباب هلاك الأمم الماضية أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فالشريف يبرأ لأن له الواسطة وله المحسوبية، لكن المظلوم الفقير لا يبرأ لأنه لا واسطة له، وهذا سبب من أسباب هلاك الأمم والدول، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إذاً: الدرس الأول من الدروس التربوية هو: أن القصة بكاملها تسلية وتثبيت لقلب النبي عليه الصلاة والسلام، وللقلة المؤمنة التي آمنت به واتبعته، وأن لله قادر على أن ينصرهم ويعزيهم، وقد تحقق وعد الله، فأعز الله النبي والصحابة، وعادوا بعد سنوات -لا تساوي في حساب الزمن شيئاً- فاتحين لمكة منتصرين موحدين لله رب العالمين.

التربية لماذا؟! [6]

التربية لماذا؟! [6] إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى انحرافاً كبيراً عن منهج الله تعالى، فعلى الدعاة والمربين أن يعملوا جادين في تصحيح مسار المسلمين، وتقويم اعوجاجهم، وإن من أهم الأمور التي يجب استخدامها في ذلك: تربية المسلمين على القصص القرآني والنبوي؛ لما فيها من تأثير قوي يدخل إلى أعماق القلوب محدثاً تأثيراً قوياً فيها، ومن ذلك قصة: الأعمى والأقرع والأبرص، فإن فيها من العبر والدروس الشيء الكثير، ففيها: أن الدنيا دار ابتلاء، وأن كفر النعم سبب لزوالها، وأن الإنفاق وشكر النعم سبب لبقائها.

الأسباب التي دعت إلى طرح موضوع سلسلة التربية

الأسباب التي دعت إلى طرح موضوع سلسلة التربية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أعلم جيداً أيها الأحبة أننا الآن نمر بأزمة عارمة في جميع بيوتنا، ألا وهي أزمة (بعبع) الثانوية العامة التي تؤثر على الآباء والأمهات قبل الأبناء، وكم تمنيت أن تتوقف اللقاءات كلها حتى ينتهي أحبابنا وإخواننا الطلاب من أداء الاختبارات، فاسمحوا لي أن أقدم المحاضرة ولا أريد أن أشق على أحبابنا وإخواننا من الآباء والأمهات الحاضرين أو على إخواننا القليلين الحاضرين من الطلاب. وبداية أضرع إلى الله جل وعلا أن يذلل لهم الصعاب، وأن ييسر لهم الأسباب، وأن يفتح لهم الأبواب، وأن يذكرهم في الاختبارات ما نسوا، وأن يعلمهم ما جهلوا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة في الله! هذا هو لقاؤنا السادس مع سلسلتنا المنهجية بعنوان: التربية لماذا؟ وفي عجالة أذكر أحبابي وإخواني بما ذكرناه في اللقاءات الماضية. قلت: إن الأسباب التي دعتني لطرح هذا الموضوع هي: أولاً: الصحوة، فإن الصحوة الإسلامية التي لا ينكرها إلا جاحد، هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوة بناءة راشدة فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي، لا أقول: إلى منهج نظري، فإننا لا نعدم الآن المنهج النظري، بل إن رفوف المكتبات تكاد تئن من الأحمال الثقيلة من الكتب، وإن عجلة المطبعة تنتج كل يوم الكثير والكثير، ولكننا في أمس الحاجة إلى أن نحول هذا المنهج النظري إلى منهج تربوي واقعي يتحرك بيننا في دنيا الناس. ثانياً: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فلما هزمت الأمة راحت تحاكي الحضارة المنتصرة في كل شيء، ولم تفرق الأمة بين الحضارة المادية وبين الحضارة الأخلاقية، فراحت تنقل كل ما عند الغربيين دونما تفرقة، وصدق فيها قول نبينا صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم أو لتبعتموهم. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) . ثالثاً: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، فإن الأمة قد ابتعدت كثيراً عن المنهج الرباني في جانب العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق والاتباع إلى آخره، ومن ثم وجب أن نطرح هذا الطرح لنحول -جميعاً- هذا المنهج النظري إلى منهج تربوي واقعي يتحرك بيننا في دنيا الناس. ثم تكلمت بعد ذلك عن مصادر التربية، وقلت: كل جديد طيب لا يتناقض مع القرآن والسنة الصحيحة، بل إننا نقر بكل جديد لا يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا أو منهجنا التربوي.

خصائص المنهج التربوي

خصائص المنهج التربوي ثم تحدثت بعد ذلك عن خصائص هذا المنهج التربوي، وركزت الحديث عن الخصائص التالية: أولاً: أعظم خاصية يتميز بها منهجنا التربوي هي: خاصية التكامل والشمول، فإن أي منهج من صنع البشر قد يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لطائفة من الناس ولا يصلح لأخرى، أما منهج الله فهو الصالح لكل زمان ولكل مكان ولكل الخلق؛ لأن واضعه هو خالق الإنسان {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . الخاصية الثانية من خصائص المنهج التربوي هي: التوازن والاعتدال، فإننا لا نجد منهجاً جمع بين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدنيا كما جمع بينهما منهج الله تبارك وتعالى، ومنهج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. أما إن نظرت إلى مناهج الدنيا التي وضعها البشر فإنك سترى منهجاً يركز في الجانب المادي، ويغفل عن الجانب الروحي، أو العكس، أما منهج الله فقد جمع بين التوازن وبين الاعتدال في آن واحد. الخاصية الثالثة التي يتميز بها منهجنا التربوي هي: خاصية التميز والمفاصلة، أعني: قضية الولاء والبراء التي تميعت، وهذا مع حسن ظني، ولا أكون مغالياً إن قلت: التي ضاعت وتلاشت عند كثير من المسلمين إلا من رحم ربك جل وعلا، فأصبحنا نرى من أبنائنا وإخواننا من يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله! وإنا لله وإنا إليه راجعون. فالمنهج التربوي منهج متميز، منهج متفاصل، لا يلتقي فيه الكفر مع الإيمان، ولا يلتقي فيه الحق مع الباطل، وإن المجاملة على حساب المنهج الحق تفرق ولا تجمع، فلابد من التميز، لابد من المفاصلة، بل كانت هذه من أولى الخطوات التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم ليربي أعظم جيل عرفته الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها -في مجموعه- بلا منازع على الإطلاق، تميز بهذا الرعيل الأول، حيث فاصل به بيئة الكفر وبيئة الشرك التي ترعرع بين تربتها وجدرانها، فلما تميز الرسول صلى الله عليه وسلم بمنهجه بفكره بأخلاقه بسلوكه بتصوره الاعتقادي بتصوره الاجتماعي بتصوره الأخلاقي؛ أحس المجتمع الشركي بأن نبتة طيبة ذات رائحة زكية عطرة بدأت تنبت في هذه البيئة، ولن يحس المجتمع بهذا التميز والتفاصل إلا إذا تميز أهل الحق، وفاصلوا كل البيئة الكفرية، وكل أهل الضلال. يجب عليك -أيها المسلم- أن توالي من والى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تعادي من عادى الله ورسوله والمؤمنين.

وسائل المنهج التربوي

وسائل المنهج التربوي ثم تكلمت بعد ذلك عن وسائل التربية، وقلت: إن أعظم وسيلة من وسائل التربية: هي التربية بالقدوة، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى هذا المنهج، وإلى هذه الوسيلة المتجددة، وكما قلت وأكرر عن عمد: كان ينبغي ألا يتحدث عن التربية بالقدوة إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولكن قد يتحدث المرء لا من منطلق شعوره بالأهلية، وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويتردد في أذني في كل مرة وأنا أذكر أحبابي بالقدوة كأعظم وسيلة من وسائل التربية قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم فالله أسأل أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا. الله جل وعلا علم أنه لن يتحول المنهج التربوي في حياة الناس إلا من خلال قدوة، فإن تقديم المنهج النظري ليس أمراً عسيراً، ولكن هذا المنهج التربوي النظري سيظل حبراً على ورق، ولن يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتحول هذا المنهج التربوي في حياة الأمة إلى واقع، فإن المناهج النظرية تكدست في المكتبات، لكن ما هي النتيجة؟ هل الثمرة التي نقطفها الآن تساوي قيمة الكتب ومقدار المناهج التي قدمت طيلة السنوات الماضية؟ أقول بملء فمي: لا ورب الكعبة. إذاً: لابد أن يتحول هذا المنهج النظري في حياتنا إلى واقع، إننا لا نريد بهذا الطرح التربوي مجرد الثقافة الباردة التي لا تتعامل إلا مع الأذهان، والتي لا تتعامل إلا مع التلذذ والاستمتاع بحسن البيان، وفصاحة الأسلوب، ودقة العبارة، وحسن عنصرة الموضوع، كلا، إننا لا نريد هذا، بل إن العقول قد كلت وملت من هذا، إنما الذي نريده وأنقله بقلبي وروحي ودمي إليكم أن نحول هذا المنهج النظري التربوي في حياتنا إلى واقع. أين أخلاق الإسلام؟ أين الدين؟ إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد للإسلام شهادة واقعية، عملية، أخلاقية، سلوكية، بعدما شهدنا له جميعاً من قبل شهادة قولية. كلنا شهد الإسلام بلسانه، لكن من منا شهد الإسلام بسلوكه؟ من منا شهد الإسلام بأخلاقه؟ من منا قال للدنيا كلها: هذا هو إسلامي وهذا هو ديني. أيها المسلم! قم ودثر العالم كله ببزدتك ذات العبق المحمدي، قم واسق الدنيا كأس الفطرة، لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موات، قم وأسمع العالم كله خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، قم وأظهر للدنيا كلها حقيقة إسلامك في صورة عملية وضّاءة مشرقة تتألق روعة وسمواً وجلالاً، إن عجزت أن تبين للدنيا كلها بلسانك حقيقة الإسلام، فلا تعجز عن ذلك بأفعالك، فإن الإسلام ما انتشر في المرحلة الأولى إلا عن طريق الرعيل الذي حول الإسلام في حياته إلى منهج حياة، وإن العالم اليوم كله يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم. لقد قرأت لعالم ألماني شهير أعلن إسلامه، وأراد أن يأتي إلى بلاد المسلمين ليملأ عينه بحقيقة الإسلام في صور عملية مشرقة، فحج إلى مكة، ورأى الناس في الحج، ورأى الصراع، ورأى القسوة، ورأى الغلظة، ورأى الفضاضة، ورأى القوي يريد أن يقتحم وينتقم من الضعيف، ورأى المرأة العجوزة الشمطاء تصرخ على الشاب القوي الفتي وتنادي عليه: أعطني شربة ماء فيأبى! وقد جاء ليحج بيت الله الحرام! ولقد رأيت بعيني رأسي في حج العام الماضي شاباً ضعيفاً وطئته الأقدام، وسقط تحت أرجل الفرسان الذين يطوفون حول بيت الله الرحيم الرحمن، وصرخ ولكن من الذي يغيثه؟! ومن الذي ينقذه؟! ومن الذي يمد إليه يد العون؟! فوطئته الأقدام حتى انفجر بطنه، ونجس الصحن بأكمله! هذا الرجل لما رأى هذه الصور المؤلمة لحقيقة المسلمين قال قولته المشهورة: الحمد لله الذي عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين. وهذه حقيقة مرة جداً، ولا ينبغي أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام وننكرها، فهذا ليس حلاً، وإنما الحل أن نشخص الداء لنستطيع أن نحدد الدواء بدقة، فإن تحديد الدواء يتوقف تماماً على تشخيص الداء، وإلا لو ذهبت إلى طبيب وصرف لك دواءً لا يتفق مع دائك فربما يأتي الضرر. إذاً: التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، فلا يمكن أن تربي ابنك على الصدق وأنت تكذب أمامه، ولا يمكن أن تتربى البنت على الفضيلة وهي ترى أمها تخون أباها! ولا يمكن أن تتربى الفتاة على الطاعة وهي ترى أمها لا تسمع ولا تطيع أباها، فأعظم وسيلة للتربية هي التربية بالقدوة. مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد مشيته بنوه فقال على ما تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه ولا أريد أن أطيل في هذا، ووالله لا أمل التكرار والتذكرة بهذه الوسيلة فإنها بلا منازع من أعظم وسائل التربية التي يجب على كل معلم، وعلى كل والد، وعلى كل أم، وعلى كل أخت، وعلى كل من ولّاه الله أمانة التربية أن يحول المنهج التربوي في حياة تلاميذه وطلابه وأبنائه إلى واقع ليتعلم أبناؤه هذا المنهج من خلال القدوة.

أهمية التربية على القصص القرآني والنبوي

أهمية التربية على القصص القرآني والنبوي تكلمت في اللقاءات الماضية عن وسيلة التربية بالقصص القرآني والنبوي، وقلت: إن التربية بالقصص القرآني والنبوي مهمة جداً؛ لأن القصص القرآني والنبوي له أسلوبه الخاص في التربية، عن طريق إثارة الوجدان والمشاعر والترقب والتخوف والمراقبة للقصة من البداية إلى النهاية، والقصص القرآني والنبوي له وظيفة تربوية لا يمكن على الإطلاق أن يحل محلها أي لون من ألوان الأداء اللغوي الآخر أبداً، فالقصة القرآنية لها دور لا يقوم به المثل القرآني، والقصة النبوية لها دور لا تقوم به الموعظة، وكل له دوره. القصة لها دور عظيم في التربية، والمربي الناجح هو الذي يستطيع كيف يوظف القصة القرآنية والنبوية التوظيف التربوي الذي ينفذ من خلاله إلى قلب طلابه وأبنائه؛ ليخرج بعد ذلك بالدروس والعظات والعبر، أما أن يسرد القصة كسرد قصة ألف ليلة وليلة دون أن يقف مع المواعظ والعظات والعبر، وإنما مجرد استمتاع حسي وعقلي وانتهى الموضوع؛ فليست هذه هي الوظيفة التربوية للقصة. القصص القرآني والنبوي له أسلوب فريد، فأول القصة يشد الانتباه، ويحرك الوجدان خوف ترقب انفعال معين بالرضا أو بالسخط، فتعيش مع أحداث القصة وكأنك تراها، فما ظنك إن عشت بقلبك مع كلام الحق جل جلاله. القصة القرآنية والنبوية تجسد الواقعية بكل ملامحها، أما كتاب القصة المعاصرون -مع الأسف- فنراهم قد اتجهوا اتجاهاً سيئاً؛ بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة لأشخاص القصة ومواقف القصة! فتراهم يعزفون على وتر الجنس والدعارة، والعنف والدم، وابتزاز غرائز القراء بأسلوب متدن هابط، ابتداءً من العنوان، وانتهاءً بالمضمون، وفي النهاية يقولون: بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة للقصة، مع أن القرآن قد ذكر القصة بكل واقعيتها ولم يتدن في جملة، بل ولا في لفظة، بل ولا في حرف، حتى في لحظات التعري الجسدي والنفسي لم ينزل القرآن في كلمة واحدة عن أسلوبه الطاهر النظيف؛ لأنه ابتداءً وانتهاء كلام الله خالق الإنسان. وضربنا مثلاً بقصة يوسف، ففي لحظة التعري الجسدي تجد قمة السمو، قمة الجلاء، قمة الروعة، تقف مع هذه المواقف ومع الشخصيات وكأنها تتحرك أمام عينيك وبين يديك، ومع ذلك لم تتحرك الغرائز الهاجعة، ولم تتحرك الشهوات الكامنة، أسلوب طاهر نظيف نقي، في كل لحظة من لحظات القصة، وفي كل موقف من مواقفها، بل ومع كل شخصية، بل ومع كل كلمة. واكتفيت بقصة يوسف في القرآن، وسأضرب لكم مثالين بقصتين نبويتين، وندلل على دور القصص النبوي، وكيف يقف المربي الناصح الفاهم ليأخذ الدروس التربوية من القصة النبوية، فيعلم أبناءه وأتباعه وتلاميذه.

قصة الأبرص والأقرع والأعمى

قصة الأبرص والأقرع والأعمى القصة الأولى: قصة جميلة وردت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر للصحابة قصة حدثت في بني إسرائيل فقال: (إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن يبتليهم؛ فأرسل إليهم ملكاً، فأتى الملك الأبرص -أبرص يعني: مريض بمرض البرص- فقال له الملك: أي شيء أحب إليك؟ قال له: أحب شيء إليّ لون حسن، وجلد حسن، وأن يذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس -يعني: يذهب هذا البلاء عني- فمسحه -أي: الملك- فأعطي لوناً حسناً، وجلداً حسناً -الملك مسح لكن الذي أعطى هو الله جل وعلا- ثم قال له الملك: أي شيء من المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطاه الملك ناقة عشراء، وقال له: بارك الله لك فيها، ثم انصرف. ثم أتى الملك الأقرع وقال له: أي شيء أحب إليك؟ قال له: شعر حسن، ولون حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه -أي: الملك- فأعطي شعراً حسناً، ولوناً حسناً، ثم قال له: أي الأموال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطاه الملك بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها، ثم انصرف. ثم أتى الملك الأعمى وقال له: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ بصري فأبصر الناس، فمسحه الملك فرد الله إليه بصره، قال: أي شيء من المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه الملك شاة والداً، وقال: بارك الله لك فيها. فأنتج هذان، وولد هذا، فأصبح لهذا واد من الإبل، وأصبح لهذا -أي: الثاني- واد من البقر، وأصبح لهذا -أي: الثالث- واد من الغنم -ما شاء الله! الأموال كثرت، وبورك فيها-. فأتى الملك الرجل الأول في صورته التي كان عليها من قبل -يعني: بصورة رجل أبرص مسكين فقير- وقال له: مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال -أي: الأسباب- في سفري، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال؛ بعيراً أتبلغ به في سفري، قال له: الحقوق كثيرة، فقال له الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت -يعلق الحافظ ابن حجر في الفتح على هذا ويقول: ظاهر النص النبوي: أن الله قد صيره إلى ما كان-. فأتى الملك الرجل الثاني، وقال: مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والشعر الحسن، والمال؛ بقرة واحدة أتبلغ بها في سفري، فقال له كما قال الأول، قال الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت. ثم أتى الملك الرجل الثالث وقال: مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالله الذي رد عليك بصرك وأعطاك المال؛ شاة واحدة أتبلغ بها في سفري، فقال: لقد كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم في شيء أخذته لله عز وجل، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) . وفي هذه القصة العجيبة دروس تربوية بليغة، ينبغي أن نستخرجها من هذه القصة القصيرة البليغة، وسآخذ أهم الدروس، وسأترك المجال لكل طالب علم نبيه، ولكل أستاذ كريم ووالد حبيب، وأخت فاضلة، أن يستخرجوا ما بقي في القصة من دروس تربوية ناجعة ناجحة.

ما يستفاد من قصة الثلاثة

ما يستفاد من قصة الثلاثة الدرس الأول: هو من أهم الدروس: أن الدنيا دار ابتلاء، وبوتقة اختبار، وهذا درس مهم جداً {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1-2] . فإن كثيراً منا الآن يعيش في الدنيا وكأنه يعيش الدار الخالدة الباقية، مع أن الله جل وعلا قد حذرنا تحذيراً متكرراً من الدنيا في أكثر من سورة من سور القرآن. اسمع إلى الله سبحانه وتعالى وهو يقول: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45-46] ، ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] . آيات كثيرة يحذرنا الله فيها من حقيقة الدنيا. وأريد أن أركز على جزئية هامة ألا وهي: أنني أرى كثيراً من الدعاة إذا ما تعرضوا للحديث عن الدنيا عقّدوا الناس في عيشتهم، وترى الرجل الذي من الله عليه بشيء منّ الدنيا يجلس في مثل هذه المحاضرات مكسوف البال، مطأطئ الرأس، وكأنه المقصود بالكلام! يا أخي! الدنيا مزرعة للآخرة، يا أخي! الدنيا مصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، فأذكر نفسي وإخواني الشباب من الدعاة الطيبين أن يكونوا متوازنين، تذكر الناس بحقيقة الدنيا، وأنها دار فناء، ودار زوال، وبوتقة ابتلاء، وبوتقة اختبار، وأن الإنسان مبتلى، وإن منَّ الله عليك بالمال فأنت مبتلى، وإن ابتلاك الله بالشدة فأنت مبتلى؛ لكن لابد أن تركز على الجانب الآخر وهو أهمية الدنيا، وأنه ينبغي أن نعمر الدنيا، وأن نتاجر، وأن نصنع، وأن نزرع. إلخ، بل لقد أمرك الحبيب المصطفى لو كانت بيدك فسيلة واستطعت أن تغرسها قبل أن تقوم الساعة فاغرسها، ولا تقل: متى تكبر؟! ومتى تثمر؟! ومن يأكل؟! فهذا ليس إليك، وليس بالضرورة أن تأكل أنت من ثمر يدك، ولكن ازرع واعمل لإخوانك ولأحبابك، والنتائج ليست لك، وليست عليك، إنما هي بيد مسبب الأسباب جل جلاله. يا أيها الحبيب الكريم! بين للناس حقيقة الدنيا، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلو أنك زرعت فيها بنية طيبة أجرت. ومتى تكون الدنيا ملعونة؟ إذا صدتك عن الله، وأبعدتك عن الله، وأخذتك من الآخرة، لكن {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] . أما قولهم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) فليس حديثاً نبوياً، فإن كثيراً من الناس يظنه حديثاً، وإنما هو من كلام علي بن أبي طالب، فلا مانع من أن نزرع ونصنع ونتاجر، ولكن بشرط: ألا تشغلنا الدنيا عن الآخرة. فإذا سمعت الأذان اقفل المكتب واقفل المحل، واستجب لنداء الحق تبارك وتعالى، ولنضع الأنوف والجباه في التراب ذلاً لخالقنا ورازقنا جل جلاله، فلابد من توازن، فبعضهم يجلس أمام التلفزيونات ويأذن العصر والمغرب والعشاء والفجر، وهو لا يتحرك! وبالمناسبة كنت مرة في محاضرة في السويس، وكنت أتكلم عن التلفزيون واشدد فيه، فقال لي رجل -قد توفي، أسأل الله أن يغفر لنا وله وأن يرحمه، وأن يسكنه فسيح جناته-: يا شيخ! أنت تتكلم على التلفزيون، فهل يعني هذا أنه ليس عندك تلفزيون؟! قلت له: نعم ليس عندي، والحمد لله. قال: هل هذا ممكن؟! قلت له: والله ليس عندي، قال: والله حرام عليك! المهم أن بعض الناس يقضون الليل كله، ومنهم -ولا أقول: كلهم- من لا يقوم لصلاة الفجر، مع أنه قد قضى الليل كله في اللهو والمعصية، ما شاء الله! أقام الليل كله مع كأس المرارة والخمر، لكن هل يستطيع أن يقوم في الليل لله ساعة أو ساعتين؟! الشيطان يثقل عليه النوم. فيا أيها الحبيب الكريم! الدنيا مزرعة الآخرة، وهي محط ابتلاء وبوتقة اختبار، فاعرف حقيقتها حتى لا تغتر بها، كان علي بن أبي طالب إذا جاءته الدنيا يقول لها: (غري غيري، غري غيري) ، وهل هذا يعني أن أبيت الليل والنهار في المسجد، وأترك التجارة، وأعتكف وأعتزل المجتمع؟ لا، بل هو الفارس الذي وقف في ساحة الميدان والبطولة والشرف يوم خرست الألسنة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف علي بن أبي طالب يدافع عن دين الله جل وعلا. كان هناك توازن واعتدال حتى عند سيد الرجال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أنه جاء ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، فقال الأول: أما أنا. إلى آخره، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وفي نفس الحديث قال: (أما إني والله لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل) فالمهارة كيف توازن بين الدنيا وبين الآخرة، إياك وأن تأخذك الدنيا فتشغلك عن الآخرة، وتنسى حق الله تبارك وتعالى، وتنسى أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر. ثانياً: من الدروس البليغة التي يجب أن نقف أمامها في هذه القصة النبوية المباركة: أن كفران النعم سبب لزوالها، فقد جاء السائل إلى الأبرص وقال له: (مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، بعيراً أتبلغ به في سفري، قال: الحقوق كثيرة، قال: والله لكأني أعرفك! ألم تكن أبرص يشمئز الناس منك وينصرف الناس عنك؟ قال: كلا بل ورثت هذا المال كابراً عن كابر) فالإنسان قد ينسى أصله، وينسى فقره وضعفه وعجزه، من أنت أيها الإنسان؟! أنت ابن التراب، ومأكول التراب غداً، اقصر فإنك مأكول. روى أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي بسند حسن (أن الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصق يوماً على كفه، ووضع أصبعه عليها وقال الحبيب: قال الله تعالى: يا بن آدم! أنى تعجزني وقد خلقت من مثل هذه؟!) {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5-6] وهو المني {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:7-8] فأصلك من التراب، وفصلك من النطفة، أصلك يوطأ بالأقدام، وفصلك تطهر منه الأبدان! ولا يمكن أن نقف مع كل حكمة من حكم التشريع، وإنما الإسلام استسلام وإذعان لأمر الله جل وعلا وأمر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو وقفنا مع حكم التشريعات والتكليفات لطالت بنا الوقفة، لماذا فرض الله علينا الظهر أربعاً ولم يفرضها خمساً أو عشراً؟ إلى آخره، فيجب عليك أن تذعن وأن تستسلم لأمر الله، فإن الإسلام استسلام وإذعان لأمر الله وأمر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. فلا نريد كلام من يقول: إنما شرعت الصلاة لأنها رياضة، وهي مفيدة للعمود الفقري. إلخ، ولكن لا مانع أن نستأنس بمثل هذا، لكن لا نستدل به، ففرق بين الاستدلال والاستئناس. مر أحد السلف على رجل يلبس جبة من الخز -أي: من الحرير- وهو يتبختر فيها، فاقترب منه الرجل الصالح وقال: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله، قال: ألا تعرف من أنا؟ قال له: أعرفك والله! فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8] ، فإذا منّ الله عليك بمنصب فتواضع لله، وإذا أكرمك بكرسي فتواضع لله، والله العظيم لو دام الكرسي لغيرك ما وصل إليك! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجاء منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فلا تبقى إلا السمعة الطيبة والكلمة الطيبة، فيقولون: فلان رحمه الله رحمة واسعة، فيسر لييسر الله عليك، (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) ، (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) والله العظيم! لما أقف مع هذا الحديث يكاد شعر رأسي أن يقف! أفرج عن أخي مسلم كربة من كرب الدنيا، مثلاً: جاء رجل يريد مائة جنيه أو خمسين جنيه، أو جاء يريد مصلحة فاقضها له، فرج عنه الكربة البسيطة ليفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، أعلمت كرب يوم القيامة؟! كربة الميزان كربة الصراط كرب

النظر في أحوال أهل البلاء يجلب الشكر

النظر في أحوال أهل البلاء يجلب الشكر قمت بزيارة لمستشفى الأمراض العقلية في حلوان، وعملت محاضرة في المعادي، وحضرها جمع كبير قرابة خمسين ألفاً، فطلب الإخوة المنظمون للمحاضرة أن نستغل هذا الجمع المبارك لنجمع قليلاً من المال لصالح مرضى الأمراض العقلية في مستشفى الأمراض العقلية، فقلت: والله فكرة طيبة، وتكلمت وجمع الإخوة مبلغاً كبيراً جداً، بل وأسجل لكم الآن أني والله -لا أقولها مبالغة- ما رأيت أطيب ولا أنقى من أهل مصر في الغالب، فرأيت مشهداً يثلج الصدور، فبفضل الله عز وجل جمع الإخوة مبلغاً طيباً، والأعجب منه أنني رأيت مع الإخوة منديلاً كبيراً ملأه الأخوات ذهباً، التي خلعت العقد، والتي خلعت الأسورة، والتي خلعت الخاتم، والتي خلعت الحلق من الأذن، وجاءنا منديل مليء بالذهب بفضل الله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهل مصر طيبون؛ لأن الذي دفع هو في أمس الحاجة إلى ما دفع، وهنا العظمة، أن تنفق من سعة ومن عطاء فهذا خير لكن أن تنفق من قلة ومن ضيق هذه عظمة، هذه العظمة بأسرها وبعينها، حتى وإن كان المبلغ قليلاً بالنسبة لما يدفع من مبالغ كبيرة طائلة من أماكن أخرى، والمثل الشعبي عندنا يقول: (ما بتهونش إلا على الفقير) ، وهذا في الغالب إلا من رحم الله سبحانه وتعالى من الأغنياء. ثم ذهبت مع الإخوة لزيارة عنابر المستشفى، والله -يا إخواني- حينما دخلت أول عنبر للأخوات بكيت بكاءً مريراً وكأني لم أبك من قبل، ولم أستطع أن أكمل معهم الزيارة، وقلت: من أراد أن يتعرف على فضل الله عليه وعلى نعم الله عليه فليأت إلى هذا المكان ليسجد لربه حمداً وشكراً أن منَّ عليه بنعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان. والله العظيم إن نعمة العقل نعمة عظيمة، من منا فكر فيها؟! أنا أقول عن نفسي: والله ما فكرت في هذه النعمة إلا بعدما رأيت أولئك الذين سلبوها، والله ما أحسست بها إلا يومها، ومن يومها وأنا أسأل الله جل وعلا أن يثبت علينا نعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان، منَّ الله عليك بلسان ذاكر، وبقلب شاكر، وبجسد على البلاء صابر، وبجسد تتحرك به {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] . كان بعض السلف إذا دخل الخلاء على قدميه وقضى حاجته، خرج حامداً شاكراً لمولاه، ووضع يده على بطنه ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا لها من نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس! فإن من الناس من لا يقضي حاجته إلا عن طريق زوجته، أو عن طريق أمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، إنها مسألة في غاية الحرج، حتى مع أقرب الناس إليه مع زوجته يحس بحرج شديد؛ لأنها هي التي تساعده على هذه المسألة، أما أنا وأنت فإننا ندخل ونخرج، ومن منا فكر في هذه النعمة العظيمة؟! إنها نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس. خرج ملك من الملوك في رحلة صيد، ونفد عليه الماء؛ فطلب من خادمه ابن السماك ماء بارداً، فأحضر له خادمه ابن السماك كوباً من الماء البارد، وقبل أن يشرب قال ابن السماك لسيده: أستحلفك بالله يا سيدي! لو منع منك هذا الكوب فبكم تشتريه الآن؟ قال: بنصف ملكي. قال: أستحلفك بالله! لو حبس فيك فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بملكي كله. فبكى ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء! اعرف فضل الله عليك، تذكر نعم الله عليك، ولا تستغلها في معصية الله، إن منّ الله عليك بالنعم فتواضع لربك، واخفض جناح الذل لخلق الله؛ ليحفظ الله عليك النعمة، واحمد الله واشكره على هذه النعمة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] . الآن نسأل كثيراً من أهالينا وأحبابنا عن معيشتهم، ويكون البيت مليئاً بالخيرات، والثلاجة تبرد الطعام والشراب، والمروحة شغالة، والتلفزيون قابع على الصدور في وسط الصالة؛ فيجيب الواحد منهم قائلاً: هي عيشة والسلام، والله الحال غم. نعوذ بالله! احمدوا الله، كانوا في الزمان الماضي يقولون: ما أحد يموت من الجوع، أما في هذا الزمان فهناك الآلاف يموتون من الجوع، كما حدث في الصومال والبوسنة وكشمير والفلبين وطاجاكستان وتركستان، أما أنت فإنك تأكل وتشرب وتعيش آمناً، فهذه نعمة عظيمة، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] فكفر النعمة سبب من أسباب زوالها، فإذا كفرت بالنعمة وأنكرت فضل الله عليك فاعلم بأن هذا سبب خطير من أسباب زوال النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قصة صاحب الجنتين وعاقبة كفران النعم

قصة صاحب الجنتين وعاقبة كفران النعم كلكم قرأ قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، فقد كانت لرجل حديقة مزهرة مثمرة، ودخل هذه الحديقة متكبراً بنعمة الله عليه قال الله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف:32-35] أي: حديقته وبستانه، {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:35-36] قال له صاحبه: ويحك! اصبر لا تتكبر {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} [الكهف:37-42] ما الذي حصل؟ صارت خاوية على عروشها بلمح البصر، انظر سرعة الأحداث كيف حصلت! والتعبير القرآني يتناسب مع هذه السرعة المذهلة في أحداث القصة، تأتي هذه النتيجة الفجائية بدون مقدمات: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42] . وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26-30] . وفي حديث بسر بن جحاش: (بصق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على كفه وقال: قال الله تعالى: يا بن آدم! أنى تعجزني وقد خلقت من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق وأنى أوان الصدقة؟) قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99-100] وهذه الكلمة لا يجيبها الله، ولا وزن لها عند الله؛ لأنها كلمة خرجت من كاذب يعلم الله كذبه، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] . فكفر النعم سبب من أسباب زوال النعم، قال ابن القيم رحمه الله: الشكر هو الحافظ والجالب، هو الحافظ للنعم الحالية، والجالب للنعم المستقبلية بأمر الله جل وعلا، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] .

الإنفاق في سبيل الله من أعظم القربات

الإنفاق في سبيل الله من أعظم القربات الدرس الثالث من دروس قصة الثلاثة: أن من أعظم القربات إنفاق الأموال ابتغاء مرضاة رب الأرض والسماوات، فالإنفاق قربة عظيمة، ولكن الشح والبخل فرخ وباض في قلوب كثير من الناس إلا من رحم ربك جل وعلا، الشح والبخل سبب من أسباب الكذب، البخيل يكذب خوفاً على المال، الشحيح يكذب خوفاً على المال، فما من منفق أنفق إلا ودعا له الملك قائلاً: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) . الحقيقة -يا إخوان- إذا أراد الواحد أن يتكلم عن مشاكل الإنفاق، ويريد أن يستشهد ببعض النماذج لأصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يقف عيياً أمام هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار، ما الفرق بيننا وبينهم؟ كانوا إذا دعوا للإنفاق ساهموا وسارعوا، فما بالنا إذا دعينا اثاقلنا إلى الأرض؟! فالواحد منا قبل أن يخرج المال ينظر بطرف عينه إلى المال، فإذا وجد الورقة كبيرة أدخلها بسرعة، وذهب يبحث عن الورقة الأقل، أنا مقدر لظروف الناس، والمعيشة التي يعيشها الناس معيشة صعبة جداً، لكن أحدث القادر الذي يستطيع البذل والإنفاق. السلف كانت الدنيا في أيديهم فسهل عليهم العطاء، أما نحن فأصبح المال في قلوبنا فعز علينا العطاء، يقول ابن القيم رحمه الله -ملخصاً حياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كلام قوي، وأختم به المحاضرة، ونكمل إن شاء الله الدروس والقصة النبوية في وقت آخر-: هذا هو أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، ثم تركه هنالك وعلى أغصان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح وهو يتلو في حقه قول ربه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] . وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله لإخواني وأحبابي الطلاب أن يرزقهم التوفيق والصواب والسداد، وأن ييسر لهم كل أمر عسير، وأن يبارك فيهم، وأن يحفظنا وإياهم من الفتن، وأن يدخل على أهليهم وآبائهم وأمهاتهم السعادة والهناء والسرور. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1