سلسلة الإيمان والكفر - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

الإيمان والكفر [1]

الإيمان والكفر [1] أفضل الكلمات، وأثقلها في الميزان، وأعلاها قدراً عند الرحمن؛ هي كلمة لا إله إلا الله، فبها تفتح القلوب، ويعظم الأجر عند علام الغيوب، ومن أجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وسُفكت الدماء، وفرِّق بين الآباء والأبناء، وخلق الله الجنة والنار.

فضل كلمة (لا إله إلا الله) وحقيقتها

فضل كلمة (لا إله إلا الله) وحقيقتها بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام مجدد القرن الثاني عشر الهجري الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في خطبة جمعة له: الحمد لله الذي فتح أبواب المشاهدات على أرباب المجاهدات بمفتاح لا إله إلا الله، وأحيا نفوس العارفين وملأ كئوس الذاكرين من أقداح لا إله إلا الله، وأبدع المصنوعات، وأوجد المخلوقات ووسمها بميسم لا إله إلا الله، خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بلا إله إلا الله، أرسل الرسل لأجلها مبشرين، وعن ضدها محذرين، فدعوا الناس كلهم إلى العمل بلا إله إلا الله، فهي رأس الملة والدين، وهي حبل الله المتين، فما خاب من تعلق بحبل لا إله إلا الله، غويت أحلام الجاهلين، وضلت أفئدة المعاندين حيث جعلوا إلهين اثنين بعدما طلع بدر لا إله إلا الله. أحمده سبحانه وأشكره إذ جعلنا من أهل لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها إذا خاب أهل الشرك ونجا أهل لا إله إلا الله. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جدد الله به ما درس من معالم لا إله إلا الله، ومع ذلك قال له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق لا إله إلا الله)، فدعا إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، حتى انكشف الغطاء عن وجه لا إله إلا الله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حموا بمرهفاتهم حوزة لا إله إلا الله -والمرهفات: هي السيوف- وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا أيها الناس! اتقوا الله تعالى، وجددوا إيمانكم في المساء والصباح بتأمل معنى لا إله إلا الله، فيا ذوي العقول الصحاح! ويا ذوي البصائر والفلاح! نادوا بالفلاح، فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله. فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام: لا إله إلا الله، فلا قامت السماوات والأرض، ولا صحت السنة والفرض، ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله، ولا جردت سيوف الجهاد، وأرسلت الرسل إلى العباد إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله؛ فانقسم الناس عند ذلك فريقين، وسلكوا طريقين. فريق انقاد للعمل بلا إله إلا الله، والآخر حاد لعلمه أن دين آبائه تبطله لا إله إلا الله. فسبحان من فاوت بين عباده بمقتضى حكمته ومراده، وذلك من أدلة لا إله إلا الله. فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها، وعمل باطناً وظاهراً بمقتضاها، فيكون قد حقق لا إله إلا الله، وويل لمن صاده الشيطان بالأشراك، فرماه في هوة الإشراك، فأبى واستكبر عن الانقياد للا إله إلا الله. ألم تسمعوا قول الله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].

حقيقة لا إله إلا الله

حقيقة لا إله إلا الله حقيقة لا إله إلا الله الذي هو إفراده بجميع العبادات، وتخصيصه بالقصد والإرادات، ونفيها عما سواه من جميع المعبودات التي نفتها لا إله إلا الله، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي لا يبقي في القلب شيئاً لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما به أمر الله. هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله. وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله، فمن صرف لغير الله شيئاً من العبادات، وأشرك به أحداً من المخلوقات، فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله. قيل للحسن رحمه الله تعالى: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله. وقال ابن منبه لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك؛ لأنك في الحقيقة لم تقل: لا إله إلا الله. فيا ذوي الأسماء العتيدة! لا تظنوا أمور الشرك منكم بعيدة، فإن هاهنا مهاوياً شديدة تقدح في لا إله إلا الله. أين من وحد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة؟ أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده؟ كل هذا من معاني لا إله إلا الله. فسارعوا عباد الله إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين قاموا بواجبات لا إله إلا الله، {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51]، وتمسكوا بعرى لا إله إلا الله، فمن نفى ما نفته، وأثبت ما أثبتته، ووالى عليها وعادى؛ رفعته إلى أعلى عليين منازل أهل لا إله إلا الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]. هذه خطبة جمعة كاملة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى تدور حول كلمة النجاة وكلمة الشهادة لا إله إلا الله، وقد أثبت فضائل عظيمة جداً لكلمة الشهادة وكلمة النجاة، وقبل أن نستطرد في الكلام في متعلقاتها، وما ينقضها، وما يصلح فيها وينحرف عن معانيها؛ نتحدث اليوم إن شاء الله في فضائل هذه الكلمة العظيمة.

لا إله إلا الله أفضل الذكر والدعاء

لا إله إلا الله أفضل الذكر والدعاء إن أفضل الذكر على الإطلاق، وأفضل ما ينطق به الإنسان من الأذكار هو أن يقول: لا إله إلا الله، وبقول هذه الكلمة تحقن الدماء، ويعصم المال، ويصبح الإنسان من أهل السعادة بإذن الله. إن لا إله إلا الله هي أفضل ما يذكر الله تبارك وتعالى به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله). لقد فزع إليها الولي لما جاءته المحنة، وكذلك العدو لما جاءته المحنة فزع إليها. أما العدو فهو فرعون لما قرب منه الغرق هرب منه وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ففزع إليها؛ لأنه يعلم أنها منجية، وأما الولي فكما في حق يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. ولذلك قيل: أعظم الدعاء هو دعاء القرآن؛ لأنه ليس هناك كلام أفضل من كلام الله، وأعظم ما في القرآن من الدعاء هو الذي تعقبه الإجابة، ولذلك أعقب الله عز وجل دعاء يونس بقوله تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، وفرق شديد بين حال يونس عليه السلام النبي وهو يفزع إلى كلمة النجاة، وبين حال فرعون العدو المتأله المتكبر حين فزع إلى كلمة النجاة؛ إذ كلاهما فزع إليها عند المحنة، لكن لم تنفع إلا الولي وحرم منها العدو، ومن الفروق بين يونس عليه السلام وفرعون: الفرق الأول: أن يونس عليه السلام لما قال وهو في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة البحر وفي ظلمة الليل: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، كان يحقق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيونس سبقت له المعرفة بالله تبارك وتعالى، وكان يكثر تسبيح الله وعبادته وتوحيده، فكان ينادي الله كما قال عز وجل: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، ثم قال تبارك وتعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]، الذين يسبحون الله، ويصلون لله، ويعبدون الله، {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، لذلك على الإنسان أن يفزع إلى التسبيح إذا وقعت الكربة، وإذا تأزم عليك أي حال من الأحوال فافزع إلى التسبيح أو الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه شيء فزع إلى الصلاة، فمن حفظ الله في الخلوات يحفظه الله في الفلوات: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، وكما جاء في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيونس سبق له المعرفة بالله، فلذلك عرفه الله في الشدة. أما فرعون فتقدم له سبق الكفر؛ بل كان ينادي كما قال عز وجل عنه: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:23 - 24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، فسبق له قبل الغرغرة وقبل نزول الهلاك والغرق أن ادعى الألوهية، ونازع الله تبارك وتعالى في كبريائه وتوحيده جل وعلا. بل كان كما جاء في معنى الحديث: أن فرعون لما أدركه الغرق والهلكة كان يقول: لا إله إلا الله، يقول جبريل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني يا محمد وأنا أدس من وحل البحر في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)، خشي جبريل أن تنفعه هذه الكلمة في ذلك الوقت، ولشدة عداوة جبريل لهذا المتأله الكذاب كان يأخذ من طين البحر فيدسه في فيه حتى لا يعود إلى قول لا إله إلا الله؛ مخافة أن تدركه الرحمة. الفرق الثاني: أن يونس عليه السلام ذكرها مع الحضور والشهادة؛ فقد كان حاضراً مع الله تبارك وتعالى، شاهداً لقوة الله وبأسه وقدرته على إنجائه، ومحبته لله، فقال: لا إله إلا أنت. أما عدو الله فرعون فقد قالها في صيغة الغيبة، قال تعالى: {فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ما قالها في الحضور، وما خاف بها ربه، لكنه قالها على سبيل التقليد لبني إسرائيل في ذلك الوقت: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ))، وكأنه أحال العلم بحقيقتها على غيره، لكن هو لا يعرفها ولا يعلم حقيقتها. الفرق الثالث: أن يونس عليه السلام ذكرها على سبيل الاستذلال مع العجز والانكسار: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء:87]، ثم قال بعدها: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فجمع بين توحيد ربه تبارك وتعالى، وتنزيهه ووصفه بالكمال وجمع إلى ذلك ذم نفسه فقال: ((إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، وهذان هما جناحا العبودية: غاية الحب وغاية الذل معاً، فلذلك كان يقول: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، يقولها عاجزاً ذليلاً لربه، منكسراً لما ألم به، ولذلك صارت مقبولة؛ لأن الله تبارك وتعالى من شأنه أن يجيب المضطر إذا دعاه، ويونس كان مضطراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. الفرق الرابع: أن يونس عليه السلام قالها لما حصل له الانكسار بسبب التقصير في الطاعة والعبودية: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، أما فرعون فذكرها لا للعبودية بل لطلب الخلاص من الغرق، بدليل قوله تبارك وتعالى عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، لما أدركه الغرق أراد فقط أن يستعمل لا إله إلا الله لينجو من الهلكة، كما حكى الله تبارك وتعالى عنه. وعلى كل حال: هذه تأملات في هذه الفضيلة الأولى لكلمة النجاة لا إله إلا الله، وهي: أنها أفضل ما يذكر به الله تبارك وتعالى، والدليل على أفضليتها أن العدو والولي كلاهما فزع إليها عند المحنة، وقالها في الوقت الضيق الذي لا يتسع لغيره، فلا شك أنه ينتقي أعظم طوق للنجاة، ويتمسك بأعظم حبل ينجيه من الهلكة، فمن هنا كانت هذه الكلمة أفضل الأذكار، وأفضل ما ينطق به اللسان من ذكر الله تبارك وتعالى.

شهادة الله تعالى أنه لا إله إلا هو

شهادة الله تعالى أنه لا إله إلا هو أمرنا الله تبارك وتعالى بطاعات كثيرة: بالصلاة، وبالصيام، وبالحج، وبالزكاة إلى آخر هذه الطاعات، ويستحيل أن يوافقك الله تبارك وتعالى في شيء من هذه الطاعات، فأنت تصلي، لكن الله مستحيل أن يفعل ذلك أنت تصوم، تزكي، تحج؛ لكن الله عز وجل هو المعبود الغني عن عباده، ويستحيل أن يوافقنا في شيء من هذه العبادات، لكن الله أمرنا أن نقول: لا إله إلا الله، ثم إنه وافقنا فيها، فهي الذكر الذي يوافقنا الله تبارك وتعالى فيه، وكما نشهد نحن له بها تبارك وتعالى، فهو يقول عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فكررها في أول الكلام وفي آخره، كررها ليواظب العبد على تكرارها طوال عمره، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها، ولقنوها موتاكم)، فلذلك نندب إلى الإكثار من شهادة أن لا إله إلا الله، فلا تزهد في هذا الثواب العظيم، فهي كلما سهلت على لسانك في الدنيا كلما سهلت عليك عند الموت، حتى توفق إلى أن تختم حياتك بلا إله إلا الله. كذلك أيضاً كررها في أول الآية وآخرها ليجعلها العبد أول عمره وآخره حتى ينجو ويفوز، فكما تستقبل الدنيا بسماع الأذان، كذلك يندب للإنسان أن يختم حياته بلا إله إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

فضائل يكتسبها العبد بلا إله إلا الله

فضائل يكتسبها العبد بلا إله إلا الله هذه الشهادة العظيمة (لا إله إلا الله) تمزج المؤمن بأنواع من القرابة المطهرة بأشرف نسب في هذه الدنيا، فلا إله إلا الله هي نسبة ينتسب الإنسان بها إلى طائفة من أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى، فأنت إذا قلت: لا إله إلا الله، أصبح أباك إبراهيم عليه السلام، والدليل قوله تبارك وتعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فلا إله إلا الله تمنحك أبوة إبراهيم، وتجعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتك: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]. أيضاً هذه الكلمة تمنحك أخوة المؤمنين، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. أيضاً تدخلك تحت استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله به في قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. وأيضاً تسبب لك استغفار الملائكة كما قال تبارك وتعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] وأيضاً تعطيك شفاعة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الشفاعة لأهل الكبائر من أمته. أيضاً تصبح أنت مؤمناً فتنال هذا الشرف، وكل ما يترتب على هذا الوصف العظيم الذي تحوزه بنطقك لكلمة التوحيد.

أسماء كلمة: (لا إله إلا الله)

أسماء كلمة: (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد لعظم معانيها تعددت أسماؤها، وقد تكلم العلماء في ذلك كلاماً كثيراً نحاول أن نجمله أولاً ثم نفصله. أول أسماء هذه الكلمة: كلمة التوحيد؛ لأنها تدل على نفي الشرك على الإطلاق، يقول الله تبارك وتعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] أفادت هذه الآية: التوحيد العام الكامل. أيضاً تسمى: كلمة الإخلاص؛ لأن الأصل في هذه الكلمة عمل القلب، وهو كون الإنسان عارفاً بقلبه وحدانية الله تبارك وتعالى.

لا إله إلا الله هي كلمة الإحسان

لا إله إلا الله هي كلمة الإحسان وهي كلمة الإحسان، يقول تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، يعني: هل جزاء الإيمان إلا الإحسان، وقول العبد: (لا إله إلا الله) يدل على اعترافه بأن كل ما سواه عبده ومربوبه، وقال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، اتفق المفسرون على أن المراد من قوله: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)) الذين قالوا: لا إله إلا الله مصدقين بقلوبهم، ثم النطق باللسان والعمل بالأركان، فهؤلاء هم الذين أحسنوا. وهو دليل أيضاً على أنه لو قالها ومات ولم يعمل أي عمل دخل الجنة، كذلك الرجل الذي أتى من بادية بعيدة فلما اقترب استقبله النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (من تريد؟ قال: أريد محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: قد استقبلته) يعني: هو الذي يكلمك، فسأله عن الإسلام، وكيف أصير مسلماً؟ فأخبره بأن يشهد أن لا إله إلا الله فشهد شهادة التوحيد، وقال كلمة الإحسان، ثم بعد ذلك بلحظات وهو يمشي ببعيره بعدما قال: لا إله إلا الله، عثرت رجل البعير في جحر جرذان -تجويف تصنعه الفئران لجحورها، وكانت جروفاً كبيرة في الأرض- فوقع الرجل على أم رأسه ومات في الحال، فاجتمع عليه الصحابة فوجدوه قد مات، فتولى الصحابة رضي الله عنهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم غسله وتكفينه ودفنه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الرجل عمل قليلاً وأجر كثيراً)، رواه الإمام أحمد في مسنده. وفي نفس هذا المعنى حديث من رواية البخاري: أن رجلاً أتى وشهد شهادة التوحيد، ثم خرج في الجهاد فوراً فقتل شهيداً فدخل الجنة، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل عمل قليلاً وأجر كثيراً. فمن قال هذه الكلمة ومات ولم يتفرغ لعمل آخر دخل الجنة، ودخل تحت قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة). وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، هذه الآية ليست كما يتبادر إلى أذهاننا أنها فقط في الدعوة إلى الله، لكن أساساً يدخل فيها المؤذنون، وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، وهذه الآية للمؤذنين أيضاً: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا)) أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله بالأذان ((وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))، وما هذه الفضيلة العظيمة إلا لاشتمال الأذان على لا إله إلا الله. وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، فكما أنه لا قبيح أقبح من كلمة الكفر، فكذلك لا حسن أحسن من كلمة التوحيد. وقال الله تعالى في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، وفي آخرها قال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فالمؤمنون الذين قالوا لا إله إلا الله يفلحون، أما الكافرون الذين استكبروا عنها فإنهم لا يفلحون. وقال تبارك وتعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، ولا شك أن أحسن القول هو لا إله إلا الله. فهي كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص، كلمة الإحسان، وهي أيضاً دعوة الحق، يقول تبارك وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هو قول لا إله إلا الله)، وقوله: (له دعوة الحق) يفيد الحصر، أي: له هذه الدعوة لا لغيره، فلا تقال في حق أحد غير الله، و (له دعوة الحق) مبتدأ وخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر، أي: هذه الكلمة ليست لأحد إلا لله، فلذلك قال ابن عباس في تفسيرها: لا يقال: لا إله إلا الله إلا في حق الله تبارك وتعالى. وهي أيضاً كلمة العدل التي قال تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، قال ابن عباس: (العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص فيها). وهي أيضاً الطيب من القول، كما في قوله عز وجل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:24]، فالهداية ليست بجهودكم ولا بأموالكم ولا بأنسابكم ولا بعرض الدنيا، وإنما هي منة من الله، فليست بجهدك وشطارتك؛ بل منة من الله أن جعلك من أهل لا إله إلا الله، فهي هداية: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]، فانظر كيف عبر عن لا إله إلا الله بالطيب من القول! و (أل) هنا تفيد الاستغراق، فيصح أن تستبدلها بكلمة (كل) حتى تصيب هذا المعنى، ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ)) أي: هدوا إلى كل الطيب من الكلام، وهو كلمة لا إله إلا الله، فلا أطيب ولا أطهر من هذه الكلمة، والطيب عكس الخبيث، فنجد أن المشركين لما استكبروا عن التوحيد وصفهم الله بالكفر، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، ووصف أهل التوحيد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: طهرها بلا إله إلا الله. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، على أحد التفسيرات: (لا يؤتون الزكاة)، أي: لا يقولون: لا إله إلا الله، ولا يزكون أنفسهم بالتوحيد، ولذلك فالمشرك مهما نظف نفسه فهو من أخبث خلق الله؛ لأن قلبه نجس، فقد استكبر عن أن يؤمن بلا إله إلا الله، وأن يقول: لا إله إلا الله، فهو نجس خبيث، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة:28]، فالنجاسة الحاصلة بسبب كفرهم لا تزول، فلو عاش رجل سبعين سنة وهو يشرك بالله في الألوهية -وهو أخبث أنواع الشرك والكفر والعياذ بالله- ثم قال هذه الكلمة مرة واحدة فإنه تزول بهذه الكلمة الطاهرة الطيبة نجاسة سبعين سنة من الكفر، وتطهره تماماً من نجاسة هذا العمر الطويل، ولو أنك تخيلت مثل هذا الخبث الذي يبقى عليه الإنسان سبعين سنة يزول بكلمة يقولها؛ لأنها أطيب ما يقال على الإطلاق.

لا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة

لا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة كذلك سماها الله تبارك وتعالى: الكلمة الطيبة، وهناك حكمة من تسمية لا إله إلا الله بهذا الاسم الشريف فهي كلمة بريئة من الشرك، والتشبيه، والتعطيل، فكما يخرج اللبن خالصاً من بين فرث ودم؛ كذلك تخرج كلمة التوحيد خالصة من بين فرث التشبيه ودم التعطيل. أيضاً صاحبها يكون بها طيب الاسم في الدنيا، يقول تبارك وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] على بعض التفاسير ((الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ))، أي: المؤمنات للمؤمنين، والمؤمنون للمؤمنات، لكن هناك تفسير لعله أشهر وهو: الطيبات من الصفات للطيبين من الناس. وعلى أي الأحوال: مما يفيد صاحبها أنه يكون طيباً في الدنيا، وفي الآخرة تفيده بأن يسكن في مساكن طيبة، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة:72]، وطيبة بمعنى: مقبولة. يقول الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، فما يصعد إليه من الكلم الطيب يقبله وما لا فلا يصعد، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فبما أنه كلم طيب فإن الله يقبل الكلم الطيب، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). وقد شبهها الله تبارك وتعالى بالشجرة الطيبة، قال المفسرون: هي النخلة أقرب مثل للعبد المؤمن؛ لأن المؤمن ينفع الناس على كل الأحوال، ولذلك كان أقرب ما يكون مثلاً له النخلة، فالنخلة لا يرمى منها شيء، وما من شيء في النخل إلا ويستفاد منه، فما هي أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة؟ أولاً: أن كلمة لا إله إلا الله لا تجري على كل لسان، ولا في كل قلب؛ إنما تنبت في قلب المؤمن فقط، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم:24] في قلب المؤمن {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]، إذاً: كلمة التوحيد لا تجري على كل لسان، ولا في كل قلب؛ فليس كل محل قابلاً لأن يهدى لـ: لا إله إلا الله، لكن من اصطفاهم الله وطهر قلوبهم وزكاهم هم الذين تعمر قلوبهم بلا إله إلا الله، فربما تعرض على قلب آخر مشرك نجس فينبذها ويرفضها ولا تنبت فيه، ولا تصلح معه. وكذلك النخل لا ينبت في جميع البلدان بل في بعض دون بعض، فله تربة خاصة، وأماكن معينة ينبت فيها. كذلك كلمة التوحيد هي أعلى الكلمات، والنخلة هي أطول الأشجار، والكلمة الطيبة أصلها ثابت في القلب وهي المعرفة، وفرعها في السماء: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، والنخلة أيضاً ثابتة في الأرض وفرعها في العلو، والإيمان يثاب صاحبه في الدنيا لأجل إيمانه بأهلية الشهادة والولاية والأمانة؛ فكونك تدخل في أهل التوحيد بقولك: لا إله إلا الله؛ فإنك تثاب على ذلك بهذه الكلمة الطيبة في الدنيا لأجل هذا الإيمان، وتصبح أهلاً للشهادة والولاية والأمانة، فأنت تثاب مرات عليها. مرة في الدنيا بهذه الأمور، ومرة في الآخرة وهي الجنة الدائمة والنعيم المقيم، فهي تثمر لك الثمرة الباقية والنعمة الدائمة في الآخرة. كذلك كلمة التوحيد وإن كان معها شيء من المعاصي لكنها تنفع صاحبها؛ لأن كلمة التوحيد مثل الروح بالنسبة للبدن، فإن البدن إذا بتر ذراعه أو قدمه أو أي شيء منه مما يستقيم له الحياة بغيره يظل حياً بعد ذلك، لكنه لا يستطيع أن يعيش بلا روح، وكذلك الإيمان قد تتخلف بعض أركانه، وقد يقع الإنسان في بعض الذنوب، ويضيع بعض الواجبات، ولكن ما دام معه في قلبه لا إله إلا الله فإنه يبقى إيمانه حياً، أما إذا خرجت لا إله إلا الله فهو ميت، ولذلك المشرك الذي لم يقل: لا إله إلا الله هو ميت في صورة حي، ولكن حياته مثل حياة البهائم والأنعام؛ يأكل ويتنفس ويتحرك ويتكاثر، ويعمل كل هذه الوظائف التي يفعلها الحي، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فمن كان معه لا إله إلا الله فهو الحي، ومن حرمها فهو الميت، وإن بدا في صورة الحي، يقول الله تبارك وتعالى لأهل لا إله إلا الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فالنخلة وإن حصل في وسط ثمرتها نواة لا خير فيها؛ فإن قيمة الثمرة لا تنقص بسبب النواة، فالتمر والبلح الذي يؤكل يكون في داخله تلك النواة التي ربما لا ينتفع بها، ولكن هل وجود هذه النواة يقدح في قيمة التمرة أو في قيمة هذه الثمرة؟ كلا، كذلك إذا كان مع الإنسان لا إله إلا الله؛ فإنه لا يقدح في إيمانك إن قصرت ببعض المخالفات. والدين فيه تكاليف شاقة فاصبر على هذه التكاليف، وهذه المشقة تكون مثل الشوك، لكن أعلاه الثمرة الحلوة اللذيذة، وهي معرفة الله، ثم الجنة في الآخرة، كذلك النخلة أسفلها شوك والثمرة في أعلاها. هذه بعض أوجه الشبه التي حاول الرازي رحمه الله في تفسيره أن يجمعها بين النخلة التي هي الشجرة الطيبة، وبين الكلمة الطيبة التي هي لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله هي كلمة التقوى

لا إله إلا الله هي كلمة التقوى هي أيضاً كلمة التقوى؛ لأن صاحبها يتقي أن يصف ربه بما وصفه به المشركون، وهي واقية لبدنك من التيه، ولمالك من الاستغلال من أن يصير غنيمة للمسلمين، ولذمتك من الجزية، ولأولادك من الضياع، فإذا انضاف القلب إلى اللسان صارت واقية لقلبك من الكفر، وإن انضم التوفيق صارت واقية لك من المعاصي: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26].

لا إله إلا الله هي الكلمة الباقية

لا إله إلا الله هي الكلمة الباقية هي أيضاً الكلمة الباقية، فالتوحيد لا يزول بالمعصية، وإن كانت المعاصي تقدح في كمال الإيمان، لكن لا تقدح في أصل الإيمان، فالتوحيد لا يزول بالمعصية، والمعصية تزول بسبب التوحيد، فلذلك هي الكلمة الباقية، يقول تبارك وتعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:26 - 28]، وإن كان هنا لم يذكر كلمة التوحيد، لكن ذكر الكفر بالطاغوت وتوحيد الله: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ))، هذا هو معنى الكفر بالطاغوت ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي))، هذا هو إسناد التوحيد لله تبارك وتعالى والإيمان به، فعبر عن لا إله إلا الله بمعناها، ثم قال بعد ذلك: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً))، ما هي هذه الكلمة الباقية؟ هي لا إله إلا الله. ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، والله سبحانه وتعالى صاحب الدوام والبقاء، والقول تبع المقول، فتبقى حقيقة لا إله إلا الله ثابتة البقاء والدوام.

لا إله إلا الله هي القول الثابت

لا إله إلا الله هي القول الثابت هي أيضاً القول الثابت الذي قال عز وجل فيه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، يضلهم فلا يستطيعون أن يقولوها.

لا إله إلا الله هي الكلمة العليا

لا إله إلا الله هي الكلمة العليا هي أيضاً كلمة الله العليا، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40] وهي لا إله إلا الله، وكلمة الله عليا على الدوام؛ ولذلك لم يعطفها على ما قبلها (كلمة الذين كفروا)، ما قال: وجعل كلمة الله العليا، حتى لا تكون مفعولاً للجعل أو معطوفة على كلمة الذين كفروا، لكن استأنف كلاماً جديداً فقال: ((وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)). وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، فالظهور والعلو هنا لـ: لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله هي المثل الأعلى

لا إله إلا الله هي المثل الأعلى هي أيضاً المثل الأعلى، كما قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، قال قتادة: هو قول لا إله إلا الله، والمثل هنا معناه الصفة، كما يقول عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد:35] يعني: صفة الجنة التي وعد المتقون.

لا إله إلا الله هي كلمة السواء

لا إله إلا الله هي كلمة السواء هي أيضاً كلمة السواء، يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] ما هي هذه الكلمة؟ هي لا إله إلا الله. وبعض الناس من ذوي القلوب المريضة من المنافقين يسيئون استعمال هذه الآية ليداهنوا النصارى وإخوانهم الذين نافقوا، فيفهموا الناس أن الكلمة السواء هي حل وسط، وليست داعية إلى الدخول في الإسلام، فمعنى: ((تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)): أن تدخلوا في دين الله في الإسلام، وتقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وليس كلمة (سواء) حل وسط يرضي جميع الأطراف؛ فإن هذا مما لا يجوز. والدليل على هذا قوله تبارك وتعالى بعدها: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

لا إله إلا الله هي كلمة النجاة

لا إله إلا الله هي كلمة النجاة أيضاً هي كلمة النجاة، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وكما قال المؤمن: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فالنجاة هي في قول لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله هي العهد

لا إله إلا الله هي العهد أيضاً هي العهد الذي أشار إليه تبارك وتعالى في قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] يعني: أوفوا بلا إله إلا الله، ثم قال بعد ذلك {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ} [البقرة:41]، فيكون المراد من العهد الإيمان وقول لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله هي كلمة الاستقامة ومقاليد السماوات والأرض

لا إله إلا الله هي كلمة الاستقامة ومقاليد السماوات والأرض هي أيضاً كلمة الاستقامة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]. وهي أيضاً مقاليد السماوات والأرض، يقول ابن عباس في قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:63]: هو قول لا إله إلا الله، فبها تفتح أبواب السماء عند الدعاء، وأبواب الجنان لا تفتح إلا بها، وأبواب النيران لا تغلق إلا بها، وباب القلب لا يفتح إلا بها، وأنواع الوساوس لا تندفع إلا بها، فبلا إله إلا الله تفتح أبواب السماء عند الدعاء، وبلا إله إلا الله تفتح أبواب الجنة؛ لأنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة موحدة، فلا يمكن أبداً أن مشركاً يدخل الجنة، فالله حرم الجنة على من لم يقل: لا إله إلا الله. إذاً: أبواب الجنان لا تفتح إلا بها، وأبواب النيران لا تغلق إلا بها، وباب القلب لا يفتح إلا بها، وأنواع الوساوس لا تندفع إلا بها؛ فلذلك قال ابن عباس في تفسير قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:63]: هو قول لا إله إلا الله.

لا إله الا الله هي القول السديد

لا إله الا الله هي القول السديد هي أيضاً القول السديد، كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]، سديد فعيل، وتأتي بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فإذا قيل: إنها سديد بمعنى فاعل يعني: يقول قولاً يسد على صاحبه أبواب جهنم، أو إذا قلنا: سديد بمعنى مفعول كما تقول: قتيل بمعنى مقتول؛ يعني: يسد صاحبه عن أن يضيره شيء من الذنوب، ومنه سد يأجوج ومأجوج، فهو سد لدفع ضررهم، وكذلك كلمة التوحيد هي قول سديد؛ لأنك بها تسد عن أن يضرك شيء من الذنوب.

لا إله إلا الله هي البر والدين والصراط

لا إله إلا الله هي البر والدين والصراط هي أيضاً البر، كما قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، إشارة إلى التوحيد المفهوم من لا إله إلا الله. وهي الدين كما قال عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، فحصل الخضوع لله، ودل على أنه لا إله سواه، ولا معبود إلا إياه. وهي الصراط كما قال الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وهو: قول لا إله إلا الله، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

لا إله إلا الله هي كلمة الحق والصدق والعروة الوثقى

لا إله إلا الله هي كلمة الحق والصدق والعروة الوثقى هي أيضاً كلمة الحق، يقول المولى عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86] أي: شهد بلا إله إلا الله. وهي كلمة الصدق كما قال الله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] يعني: جاء بلا إله إلا الله. وهي العروة الوثقى، يقول الله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. هذه بعض أسماء لا إله إلا الله.

فضائل لا إله إلا الله

فضائل لا إله إلا الله من فضائل لا إله إلا الله ما ذكره صاحب معارج القبول في الجزء الأول صفحة (369) قال: وقد حوته لفظة الشهادة فهي سبيل الفوز والسعادة من قالها معتقداً معناها وكان عاملاً بمقتضاها في القول والفعل ومات مؤمناً يبعث يوم الحشر ناج آمناً يقول: (وقد حوته) أي: جمعته واشتملت عليه (لفظة الشهادة) أي: شهادة أن لا إله إلا الله (فهي) أي: هذه الكلمة (سبيل الفوز) بدخول الجنة والنجاة من النار، قال الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، (و) هي سبيل (السعادة) في الدارين، أي: طريقهما لا وصول إليهما إلا بهذه الكلمة، فهي الكلمة التي أرسل الله بها رسله، وأنزل بها كتبه، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة، وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، ويثقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبعدم التزامها البقاء في النار، وبها أخذ الله الميثاق، وعليها الجزاء والمحاسبة، وعنها السؤال يوم التلاق؛ إذ يقول تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، وقال عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. فأما سؤاله تعالى الذين أرسل إليهم يوم القيامة، فمنه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، والآيات قبلها وبعدها وغير ذلك. وأما سؤاله المرسلين فمنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109]، وغير ذلك من الآيات، وهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أن هداهم إليها. فأعظم نعمة في الوجود على الإطلاق: أن هداك الله لقول: لا إله إلا الله والإيمان بها، هذه أعظم نعمة في الوجود كله، ولا شك أن كلمة هذا شأنها تكون أخطر وأعظم كلمة ينطق بها الإنسان، فهي إن قلتها حجبت عن النيران، وتفوز بالبقاء بلا نهاية في الجنة، وإذا حدت عنها واستكبرت؛ تخلد بلا نهاية في أشد أنواع العذاب والإيلام. قال: ولهذا ذكرها الله في سورة النحل التي هي سورة النعم، فقدمها أولاً قبل كل النعم. قدم الله تبارك وتعالى إنعامه على عباده بقول لا إله إلا الله على كل نعمة أخرى في سورة النعم، فقال الله تبارك وتعالى في أول سورة النعم التي هي سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]، فأول نعمة وأعظم نعمة صدرت بها سورة النعم هي نعمة لا إله إلا الله. والقرآن يشير كثيراً جداً إلى أهمية التوحيد، والتوحيد هو لا إله إلا الله، فالقرآن يكثر من الدعوة إلى التوحيد، وتهديم الشرك وأهله، والإخبار عما حل بذويه، وعما يثيب الموحدين ويجزيهم خير الجزاء، فهذا هو شأن القرآن، فهو أفضل كتاب في التوحيد، وكلمة الله في التوحيد، فالقرآن إما عن التوحيد، أو حقوق التوحيد أو جزاء التوحيد، بيان ذلك: أن القرآن إما أنه خبر عن الله، وعن أسمائه وصفاته، وهذا توحيد علمي خبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وهذا التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته؛ فلذلك كان من حق التوحيد الأمر بالصلاة؛ لأنها من حق لا إله إلا الله كما جاء في حديث أبي بكر، فجميع الأوامر والنواهي هي من حقوق التوحيد، وإما خبر عن إكرامه تبارك وتعالى لأهل التوحيد، فهذا يكون جزاء التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك وما يعاقبهم به، فهو جزاء من نبذ التوحيد، وإما إخبار عن هلاك الأمم السابقة الذين رفضوا التوحيد، وهكذا. يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108]، فإذا قلت: ما الدليل على أن كل ما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو في حق لا إله إلا الله؟ فالجواب هو هذه الآية؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقول: ((قُلْ إِنَّمَا)) وهذا أسلوب حصر يعني: كل الوحي الذي أنزل على النبي هو هذا، فكل ما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد، ((قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)). إذاً: الكلام في الصلاة، والزكاة، والصيام، وأحكام الصلاة، والزواج، وأحوال الآخرة، والدنيا، والأمم السابقة، وعاقبة المكذبين؛ كل هذا يدور في فلك لا إله إلا الله، ((قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))، وهذا هو لا إله إلا الله ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فأشار إلى أن ما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول (لا إله إلا الله) لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب. يقول الشيخ حكمي رحمه الله تعالى: ولهذا ذكرها في سورة النحل -وهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أن هداهم إليها- ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم، فقدمها أولاً قبل كل نعمة فقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]. وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وهي أصل الدين وأساسه ورأس أمره، وساق شجرته، وعمود فسطاطه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها، فهي العروة الوثقى التي قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، قاله سعيد بن جبير والضحاك. وهي العهد الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]، لا يملكون الشفاعة إلا من قال: لا إله إلا الله، هذا هو العهد، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: هو شهادة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الحول والقوة إلا بالله، وألا يرجو إلا الله عز وجل. وعن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذه الآية: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]، ثم قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! فعلمنا ماذا تقصد؟ قال: قولوا: (اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة؛ فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد) وكان يلحق ابن مسعود بهن: (خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك). وهي الحسنى في قول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] قاله أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك ورواه عطية عن ابن عباس. وهي كلمة الحق التي ذكر الله عز وجل في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. وهي كلمة التقوى التي ذكر الله عز وجل في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]. وهي القول الثابت الذي ذكر الله عز وجل إذا يقول تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلاً في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]. قال علي بن طلحة عن ابن عباس: أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد. وهي الحسنة التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]. قال أبو ذر: قلت: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها، قلت: يا رسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات، قال: هي أحسن الحسنات). وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل:89] بلا إله إلا الله {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89] يعني: أكثر ثواباً {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]. وهي المثل الأعلى الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27]. وهي سبب النجاة كما في الحديث: (إن الله حرم على النار من

الإيمان والكفر [2]

الإيمان والكفر [2] جعل الله لكلمة التوحيد العظيمة شروطاً ضمنها كتابه، وشملتها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي وإن لم يأت دليل يعدّدها لكنها مبثوثة منشورة في نصوص الوحي، وكل منها مكمل للآخر، وهي: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة.

الإيمان والكفر والقضايا المتعلقة بهما

الإيمان والكفر والقضايا المتعلقة بهما إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد شرعنا في دراسة متعلقات قضية الكفر والإيمان، وتكلمنا في فضائل كلمة التوحيد، وشرعنا في ذكر شروط كلمة التوحيد، وهذه السلسلة ما من شك أن لها حساسية خاصة، وتحتاج إلى أن يكون البناء فيها طبقاً فوق طبق في التثقيف؛ بحيث نمر على أغلب القضايا المهمة المتعلقة بها. وسوف نناقش حكم تارك شيء من أركان الإسلام العملية، ولا شك أن الإجماع منعقد على كفر من أخل بالشهادتين، فهو لا يعد مسلماً، أما من أتى بالشهادتين وأتى بشيء من الأركان الإسلامية بالذات الصلاة، وغيرها من الأركان كالزكاة والحج وغيرها، فسنذكر التفاصيل في ذلك بإذن الله، وسنذكر حكم تارك الصلاة، وهل يعد كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة أم لا؟ كذلك نناقش القواعد، إذ لابد من الإحاطة بها حتى نحكم على الفعل أنه كفر -إذا كان وصف في الأحاديث بأنه كفر- وهل هو كفر أكبر أم أصغر؟ كذلك نثبت انقسام النفاق إلى أكبر وأصغر، والشرك إلى أكبر وأصغر وانقسام شعب الإيمان، وشعب الكفر، وما هو الميزان الذي به نحكم على الفعل إن كان مخرجاً من الملة أم لا؟ وسنعقد باباً واسعاً في معنى لا إله إلا الله، وأنواع التوحيد، وكيف نوحد الله تبارك وتعالى؟ ثم نعقبه بكلام مفصل في ما يضاد التوحيد وهو الشرك، وأغلب صور الشرك منتشرة بين الناس، والتي منها مثلاً: الحكم بغير ما أنزل الله. كذلك أيضاً نتعرض لظاهرة المجازفة في إطلاق الحكم بالتكفير أو الكفر، وخطأ الاندفاع أو التهور في إطلاق الكفر بدافع الحماس، أو النظرة الجزئية لبعض النصوص مع إهمال الأخرى. ثم نناقش ما يخرج من الملة، ونواقض التوحيد؛ لأنها أمور محصورة منذ زمن بعيد، والعلماء حصروا تماماً ما هي الأشياء التي يخرج بها فاعلها من الملة، ويصير كافراً، وما يترتب على الحكم بالكفر من الأحكام الدنيوية والأخروية. كذلك إن شاء الله نناقش قضية أهل الفترة ومن في حكمهم، وماذا عن مسئولياتهم تجاه الدعوة إلى التوحيد في الدنيا والآخرة. ثم القضية التي ابتلينا بها والتي تتفجر من آن لآخر، ويكثر الإخوة السؤال والكلام حولها، وهي: قضية العذر بالجهل، وقضية حد الإسلام. ثم بعض المسائل المتعلقة بالإيمان كمعنى الإيمان والإسلام، ومسألة أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه قول وعمل واعتقاد، وأن أهل الإيمان يتفاضلون فيه، وهذه القضايا بالذات من القضايا التي تفترق فيها الفرق؛ فلذلك نفردها بالذكر، فتجد أهل السنة في قضايا القدر وسط بين الفرق، كما أن أهل القبلة وأهل الإسلام وسط بين أهل الديانات الأخرى، كذلك نجد على طرفي نقيض المعتزلة الوعيدية من جانب، والمرجئة المتساهلين من جانب آخر، فهذه المسائل التي يخالفون أهل السنة فيها، أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه قول وعمل واعتقاد بالقلب، وأن أهل الإيمان يتفاضلون فيه، ثم الكلام على فاسق أهل القبلة، ونثبت أنه مؤمن ناقص الإيمان، وأنه لا يكفر بالمعصية. أيضاً نناقش قضية أن العاصي الموُحد لا يخلد في النار، وأمره إلى الله، وأن المؤمن لا يكفر بالمعاصي إلا إذا استحلها، والتوبة إذا استكملت شروطها فهي مقبولة من كل ذنب حتى الكفر. ثم نذكر بعض الفرق الأساسية في قضية الكفر والإيمان التي حادت عن منهج أهل السنة والجماعة، ونظرت إلى جانب من النصوص وأهملت النصوص الأخرى مثل الخوارج والمعتزلة والمرجئة، وغيرهم. ثم نناقش ظاهرة التكفير التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وبدأت تظهر من جديد نفس هذه الفرق، ولكن في ثوب جديد، وتحت أسماء جديدة، كما هو معروف سواء جماعة التوقف والتبيّن، أو ما سمي بالتكفير والهجرة أو غير ذلك من الاتجاهات، فنناقش الدوافع التي دفعت إلى ذلك، ونناقش أيضاً تفاصيل هذه الحقائق، فهذا مجمل مختصر لعامة القضايا التي سنمر عليها بإذن الله، وفي أثناء ذلك أيضاً هناك قضايا أخرى نتعرض لها بإذن الله في حينها. وأوصي الإخوة لو استطاعوا أن يدرسوا كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه من أعظم الكتب في هذا الباب.

شروط كلمة التوحيد

شروط كلمة التوحيد شروط لا إله إلا الله جمعها الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في كتابه: معارج القبول، وهو شرح لمتن يسمى: سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد شرحه الناظم في كتابه العظيم: معارج القبول بشرح سلم الوصول. يقول رحمه الله: وبشروط سبعة قد قيدت وفي نصوص الوحي حقاً وردت فإنه لم ينتفع قائلها بالنطق إلا حيث يستكملها العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه قوله هنا: (وبشروط سبعة قد قيدت)، أي: قيد انتفاع قائلها بها في الدنيا والآخرة، من الدخول في الإسلام، وعصمة الدم والمال، والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة، أما من لم يستوف هذه الشروط حتى وإن قالها بلسانه، ولفظ بها، فلا ينجو بذلك في الآخرة. وأقرب ما يتطرق إلى أذهاننا حينما نذكر ذلك هم المنافقون، فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله؛ ليعصموا بها أرواحهم وأموالهم في الدنيا، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله). (وفي نصوص الوحي حقاً وردت) يعني: هذه الشروط ليست محدثة ولا مخترعة، ولا باجتهاد المؤلف، وإنما وردت وقيد انتفاعه بها بتوفر هذه الشروط بأدلة من القرآن والسنة. (فإنه لم ينتفع قائلها)، أي: قائل لا إله إلا الله. (بالنطق إلا حيث يستكملها) لا يكفيه النطق بها، ولا تنفعه حتى يستكمل هذه الشروط السبعة، والمعنى: أن يجمعها في قلبه، ويلتزم هذه الشروط دون أن يأتي بما يناقض شيئاً منها، وليس المراد بالشروط السبعة: أن يعدها ويحصيها ويحفظها ويسردها سرداً، كلا، بل المقصود الالتزام بها، وبراءته مما يناقضها، وكم من رجل عامي اجتمعت فيه هذه الشروط، وإذا سألته ما هي شروط لا إله إلا الله؟ لا يدري، لكنه ينتفع بها، وتستكمل هذه الشروط قلبه ويلتزمها، ولو قيل له: اعددها؟ لم يحسن ذلك، وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، ومع ذلك تراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله، وبه سبحانه وتعالى المستعان. ثم شرع يفصل هذه الشروط، ويذكر أدلتها من القرآن والسنة فقال: العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه

العلم المنافي للجهل

العلم المنافي للجهل أول هذه الشروط: العلم: المراد بالعلم بمعنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، وهذا العلم ينافي الجهل، فلابد للإنسان أن يعلم معنى لا إله إلا الله، فإن الله عز وجل قد أمر نبيه وهو خير من قال: لا إله إلا الله، وخير من أدى شروطها، ومع ذلك قال له تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] يعني: شهد بلسانه بلا إله إلا الله، وهو يعلم بقلبه ما نطق به لسانه، وهذا أيضاً دليل على اشتراط العلم، فهم: شهدوا بلا إله إلا الله، وهم يعلمون معنى ما نطقت به ألسنتهم من أن لا إله إلا الله. فلا يكون الإنسان مثل جهاز التسجيل الذي يتكلم وينطق، من الممكن أن تسجل عليه لا إله إلا الله، لكن هذا جهاز جامد لا يفقه ما يقول، كذلك الشخص الذي يرددها دون أن يعيها فما من شك أن ذلك لا ينفعه، وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، يعني: وشهد أولوا العلم أيضاً بهذه الشهادة العظيمة بأن لا إله إلا الله، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، لكن أوضح دليل على اشتراط العلم، هو قوله تعالى هنا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. وفي الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، هذا الحديث وأمثاله مما يأتي فيه ذكر هذه الشروط، وهو مقيد لمطلق الأحاديث التي فيها مثلاً: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، هذا لا نفهمه وحده، لكن نفهمه بضمه إلى هذه الأحاديث التي قيدت لا إله إلا الله بقيود معينة منها: العلم، وسائر الشروط المذكورة، فدليل العلم، ودليل تقييدها بالعلم: قوله عليه الصلاة والسلام هنا: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله) يعني: يقول: لا إله إلا الله، ويكون عالماً بمعناها: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).

اليقين المنافي للشك

اليقين المنافي للشك الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك: وذلك بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يكون فيه إلا علم اليقين، لا علم الظن، وما من شك أن الظن أعلى من الشك، ومع ذلك الإيمان لا يصلح فيه الظن، ولابد من اليقين، فإذا دخل الريب والشك في القلب نقض الإيمان، ولا يلتفت في ذلك إلى الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب المؤمن، وإنما هذه حيل من الشيطان ليدخل القلب فيسرق منه الإيمان، فقد يوسوس للإنسان أحياناً ببعض الأفكار، لكنها لا تستقر في قلبه، إنما تمر مروراً عابراً حين يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذه من علامات الإيمان الصريح، كما قال عليه الصلاة والسلام حينما شكا له الصحابة منه، فقال: (ذلك صريح الإيمان)، ولا يجزع الإنسان إذا ابتلي بشيء من هذه الوساوس، لكن يفزع إلى الذكر، وأن يكف عن هذه الوساوس؛ لأن السارق لا يدخل بيتاً يعلم أنه بيت خرب، لا يوجد فيه أي شيء له قيمة، لماذا يدخله؟ وماذا يسرق منه؟ لكنه يدخل البيت الذي يحتوي على الأشياء الثمينة حتى يسرقها، فكذلك الشيطان رد الله كيده، وعلى المؤمن أن يصبر على وسوسته، فإذا ذكرت الله انخنس وهرب؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام لما شكا له الصحابة ذلك: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، لا يستطيع أكثر من ذلك، فلا عبرة بهذه الوسواس الذي طرق قلب المؤمن من فعل الشيطان الرجيم، وإنما الذي يناقض اليقين هو الريب والشك في أمر الله والعياذ بالله! أن يشك إنسان في وحدانية الله، أو في وجود الله، أو في أن عيسى هو الله إذا شك في عقيدة من هذه العقائد المعلومة من الدين بالضرورة نقض إيمانه وهدمه تهديماً، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، الشرط: لا يرتاب أبداً فيما لديه من الإيمان؛ ولذلك أصل كلمة العقيدة من العقد أو العقدة، حينما تربط العقد وتعقده فهذه العقدة المفروض أنها تدخل الإيمان في قلبك وتعقد عليها بحيث لا يستطيع القلب أن يتفلت من هذه الأعقاد، فهذا معنى العقدة التي يعقدها الإنسان في قلبه فلا ينقضها ولا يحلها أبداً، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي: لم يشكوا، أما الريبة فمعلوم أنها من شأن المنافقين الذين يشكون في إيمانهم، وقد قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا أدخله الجنة). واليقين ليس شرطاً أن نأتي به بدون دليل، وإنما يفهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله) أي: وهو يعلم معناها، بدليل هذا الحديث الأول: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). كذلك يضاف إليه: من مات وهو يقول هذه الكلمة بلسانه، ويعلم معناها، ويوقن بها غير متردد في صدقها وأحقيتها، والدليل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)، وفي رواية: (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما لا يحجب عن الجنة)، أي: لا يحجب عن الجنة من لقي الله وهو موقن غير شاك بهاتين الشهادتين. وفي الصحيح عنه أيضاً رضي الله عنه في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه، فقال: من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه، فبشره بالجنة)، فاشترط في دخول قائلها الجنة: أن يكون مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيهما، ومعلوم أنه إذا انتفى الشرط انتفى المشروط. فهذه الشروط التي نذكرها لابد من اجتماعها كلها، ولا يصلح بعضها مع فقدان واحد منها.

القبول لما اقتضته كلمة التوحيد

القبول لما اقتضته كلمة التوحيد الشرط الثالث: القبول: أي: قبول ما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلنا، فمعلوم أن هذه الكلمة قد أنجت كثيراً من الأمم، وانتقم ممن ردها وأباها، كما قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، يفخرون بأمجاد الآباء والأجداد، وهم حطب من حطب جهنم، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:24 - 25]، يعني: المكذبين بلا إله إلا الله. وقال عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:103]، وقال أيضاً: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. كذلك أخبرنا بما وعد به القائلين لها من الثواب، وما أعده لمن ردها من العذاب، فقال عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:22 - 24]، ثم قال عز وجل في نفس السياق: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، يستكبرون عن أن يقولوها، وينقادوا لما تقتضيه، فهذا معنى الاستكبار عن الانقياد، فهؤلاء لم ينقادوا لما تضمنته وما تقتضيه كلمة: لا إله إلا الله من القبول بالقلب واللسان، {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فجعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، فلم ينفوا ما نفته. فقول: (لا إله): كفر بكل إله يعبد من دون الله من الطاغوت، وتعريف الطاغوت: هو من طغى، وأصل الكلمة من الطغيان، والطغيان: هو المجاوزة للحد، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فكل من تجاوزت به حده فقد اتخذته طاغوتاً، في كل شيء من المخلوقات سواء كان حجراً أو شجراً أو شمساً أو كواكب أو أصناماً أو إنساناً أو غير ذلك وتجاوزت به حده الذي ينتهي إليه، وحد العبودية لله عز وجل، إلى أن تتخذه إلهاً تعبده من دون الله، فهذا معنى أن هذا نوع من الطغيان، طغى عن حده: صعد إلى أن ادعى الألوهية ونازع الله في الربوبية، ويأتي إن شاء الله ذكر أنواع الطاغوت بالتفصيل. فهم لم ينفوا ما نفته كلمة التوحيد، ولم يثبتوا ما أثبتته لا إله إلا الله، بل قالوا إنكاراً واستكباراً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فتجد حال الكفار كما قال عز وجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، هل أحد يعبد عجلاً؟!! وهل ثَم إنسان عاقل مكرم يعبد العجل أو يعبد البقرة؟! ومع ذلك تجدهم أشربوا حب هذا العجل، وزين لهم سوء عملهم، بل قد يقاتلون ويضحون بالأموال والدماء والأنفس وكل شيء في سبيل هذه العقيدة الباطلة، ولعلكم سمعتم بما يحصل في إحدى الولايات الهندية من حرب ضارية بين المسلمين وهؤلاء الكافرين من الهندوس الذين يريدون أن يهدموا مسجداً ويعيدوا بناء معبد هندوسي على أنقاض هذا المسجد، ومصير هذه الحرب الضارية التي لا تتوقف لا يعرف، والتي أطاحت بالحكومة الجديدة، وما زالت المشكلة قائمة حتى الآن، فهم يحاولون من جديد هدم المسجد ويشنون حملة من أجل هدمه؛ لأنهم يعتقدون أن إلههم مدفون تحت هذا المسجد، سبحان الله! إله ميت مدفون، فانظر إلى هذا السخف؟ وكيف أن الكفر يغطي على بصائر القوم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وذكرنا من قبل في مناسبة أخرى عن هؤلاء الهنود: أن بعض الشيوخ اطلع على قصر من الرخام الأبيض في منتهى الفخامة يعبدون فيه الفئران! وكان غاندي يمتدح البقرة ويفضلها على أمه، وأنه ينبغي أن نشكر البقرة؛ لأنها ترزقنا وتفعل وتفعل، الحاصل: أن كل هذه الحرب حتى يهدم هذا المسجد بالذات؛ لأن إلههم في تصورهم مدفون تحت أطباق الثرى في أعماقه، فسبحان الله! الكفر فنون! على أي الأحوال هذا حال هؤلاء الكافرين: يستكبرون عن قول لا إله إلا الله، ويكذبون من جاء بها، ولا ينفون ما تنفيه، ولا يثبتون ما أثبتته، بل يواجهون الحق إنكاراً واستكباراً، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:5 - 7]، وقالوا هاهنا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]، فكذبهم الله عز وجل ورد عليهم دفاعاً عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37]، وهذا اليقين الذي تكلمنا عنه آنفاً جميع الخلق سوف يشاهدونه، لكن في دار الجزاء: العبرة بأن يكون عندك يقين وأنت هنا في دار الامتحان، أما في دار ظهور النتائج فما ينفعك اليقين، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. (إِنَّا مُوقِنُونَ) وهذا حين لا ينفعه الندم، ولا ينفعه اليقين في الدار الآخرة؛ ولذلك تقبل توبة العبد ما لم يغرغر؛ لأنه إذا غرغر انتقل إلى دار الآخرة وعاين الملائكة، وما كان يسمعه من قبل أن الملائكة تأتي وتقبض الروح يراه، وقد انكشفت الحجب، وبان له زيف ما كان عليه، وصار يقيناً لما هو مقبل عليه من عذاب الله وغضبه وسخطه، وهذا اليقين لا ينفعه، العبرة باليقين في دار الامتحان، وليس في دار ظهور النتائج. ثم قال عز وجل في شأن من قَبِلَ لا إله إلا الله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:40 - 43]، وقال تبارك وتعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) ذكرنا أن الحسنة هي: لا إله إلا الله (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)، يعني: له ثواب عظيم. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به). هذا مثل في اختلاف قلوب الناس في تقبل كلمة التوحيد، وما يتفرع عنها، فمن الناس من تنبت في قلبه الأعمال الصالحة، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ}، قلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]؛ فهذا الحديث يضرب مثلاً لتفاوت الناس في تقبل هذا الحق، والانفعال به.

الانقياد لما دلت عليه كلمة التوحيد

الانقياد لما دلت عليه كلمة التوحيد الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه: وهذا الانقياد ينافي ترك ذلك، قال الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22] والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] ومعنى (يُسْلِمْ وَجْهَهُ)، أي: ينقاد إلى الله تبارك وتعالى، ومن لم يسلم وجهه إلى الله، ولم يك محسناً، فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهو المعني بقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24]، وفي حديث مختلف في صحته -ولعله يكون حسناً إن شاء الله- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وهذا هو تمام الانقياد وغايته. الهوى أصلاً مذموم، وأغلب النصوص يأتي الهوى مذموماً فيها، لكن في مثل هذا النص لا يكون المقصود به الهوى المذموم، وهو مثل قول عائشة رضي الله عنها: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك)، أو كما قالت رضي الله عنها.

الصدق المنافي للكذب

الصدق المنافي للكذب الخامس: الصدق المنافي للكذب: الصدق في قولك: لا إله إلا الله، أي: يقولها بلسانه ويواطئ القلب اللسان في النطق بها، ولا يكون كالمنافقين الذين يقولونها بألسنتهم وترفضها وتأباها قلوبهم، يقول الله عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] صدقوا بظهور أمارات الصدق في أعمالهم. وقال تبارك وتعالى في شأن المنافقين الذين قالوا: لا إله إلا الله، لكن بغير صدق مع الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ -النفاق- فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10]، قالوا: آمنا وهم كاذبون، وقالوا: لا إله إلا الله وهم غير صادقين في تلك الشهادة، ومعلوم ما ذكره الله تبارك وتعالى من شأن المنافقين، وكم أفاض وأعاد في كشف أستارهم وهتكها، وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه، فمن السور التي فيها مظان الكلام على المنافقين وأحوالهم وصفاتهم: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والتوبة، والأنفال، وسورة كاملة سميت باسمهم وهي سورة المنافقون، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله؛ صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)، فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقاً من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما من قصة الأعرابي ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام فأخبره، قال: هل علي غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع قال: والله لا أزيد عليها، ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي بعض الروايات: (إن صدق ليدخلن الجنة)، انظر إلى هذا الشرط: (أفلح إن صدق) فعلق الفلاح على الصدق.

الإخلاص

الإخلاص الشرط السادس: الإخلاص: وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تبارك وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، لا تقصد بعبادتك إلا وجه الله وحده تبارك وتعالى، وأن تمحص العمل وتمحضه لوجه الله. وقال تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:145 - 146]، اشترط أيضاً الإخلاص، وغير ذلك من الآيات. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو نفسه). وفي الصحيح عن عتبان بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل). فهذا الشرط يقيد عموم الأحاديث التي فيها إنجاء كلمة لا إله إلا الله لمن قالها، (من مات وكان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، بشرط أن تتوفر فيها هذه الشروط والأدلة كما ذكرنا.

المحبة لكلمة التوحيد ولما اقتضته ودلت عليه

المحبة لكلمة التوحيد ولما اقتضته ودلت عليه الشرط السابع: المحبة أي: محبة هذه الكلمة، ومحبة ما اقتضته ودلت عليه، ومحبة أهلها والعاملين بها، والملتزمين بشروطها، وبغض ما يناقض ذلك. أن تحب هذه الكلمة، وتحب معانيها، وحقوقها، وأهلها، وتبغض ما ينافيها من المعاني والألفاظ، قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، يعني: يتخذون الأنداد والأضداد والشركاء لله، فيحبونهم كحب الله، وليس معناه: أنهم يساوون في المحبة بين الله وبين هذه الأنداد، لكن المقصود هو كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فأخبرنا الله عز وجل: أن عباده المؤمنين أشد حباً له، وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحداً؛ لأن أصل الإله من الألوهة، وهي المحبة الشديدة لله تبارك وتعالى، والمؤمنون لم يشركوا في محبة الله أحداً كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحبه. ونرى للأسف ممن ينتسبون زوراً إلى الإسلام من هو شديد المحبة للأنداد الذين يتخذون من دون الله، حتى وإن كانوا من أولياء الله الصالحين، تجد أن الناس يحلفون كذباً بالله تبارك وتعالى، بل يحلف اليمين الغموس الذي تغمسه في جهنم كاذباً بالله تبارك وتعالى، فإذا طلب منه أن يحلف على ذاك الشيء بـ البدوي أو الدسوقي يتلعثم ويرتعش، ويقر بأنه كان كاذباً، ويرفض أن يحلف بغير اسم الله تبارك وتعالى كاذباً، ويتجرأ ويتجاسر على أن يحلف بالله عز وجل وهو كاذب في ذلك، انظر -والعياذ بالله- إلى مدى بعد هؤلاء الناس عن حقيقة التوحيد. يقول الله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، فعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه. هذه علامة محبة الله عز وجل، وهذا شأن المحبوب دائماً، أما المحبة بدون طاعة وانقياد فلا تسمى محبة، فهذه كذب ودعوى، فكذلك من ادعى محبة الله تبارك وتعالى فعلامة صدقه في هذه المحبة: أن يقدم ما يرضي الله على ما تهواه نفسه، ويدفعه إليه هواه، ويبغض ما يبغضه ربه وإن مال إليه هواه. وقد حقق السلف معنى الولاء والبراء لله عز وجل أعظم التحقيق، ومحبة أهل لا إله إلا الله، وبغض من خالفهم، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رأى رجلاً نصرانياً، فأغمض عينيه، فقيل له: هل حرام أن تنظر إلى النصراني؟ قال: ليس حراماً، ولكني لا أطيق أن أملأ عيني ممن يشرك بالله، وهذه لا نقول: إنها سنة، أو إنها من الدين، وأنك إذا رأيت نصرانياً أو يهودياً تغمض عينيك، لكن انظر إلى هذا الانفعال والبغض للكفر وأهله، حتى أن الإمام أحمد ما أطاق أن يملأ عينه ممن يسب الله، هذا الرجل يشتم الله، ويقول: إن محمداً كذب على الله، وأنه ادعى الرسالة، وأن الوحي ينزل عليه، وأنه ألف هذا القرآن ونسبه إلى الله والعياذ بالله! ومع ذلك تجد المسلم في هذا الزمان يرى أشياء يعجب لها الإنسان، وعلامة حب العبد لربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، وقبول هداه. وكل هذه العلامات شروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها، قال الله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]. إذاً هذا مقتضى قولك: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله، فـ (لا) نافية للجنس، ولا يصح أن نقدر خبر (لا) النافية للجنس (بموجود) هنا فنقول: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة تعبد من دون الله كثيرة جداً، ونأتي بالأدلة من القرآن، قال الله تبارك تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فكلمة إله أعم من لفظ الجلالة الله، فهي تطلق على إله الحق والباطل، أما لفظ الجلالة (الله) فهو علم على الذات المقدسة لا يمكن أبداً أن يسمى أحداً بهذا الاسم، فالهوى إله يعبد من دون الله، والدليل هنا قوله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] إلى آخر الآية، فالمال إله كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، يدعو عليه عليه الصلاة والسلام بأنه إذا دخلت شوكة في جلده فلا تخرج، ويظل يتألم منها فهذا عبد المال. قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، هذه الآية تتزلزل لها القلوب، يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: ليحذر أحدكم يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر؛ لهذه الآية: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ)، فمن يواد ويوالي اليهود والنصارى فإنه منهم ويصبح كافراً مثلهم، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وغير ذلك من الآيات. وقال عز وجل مشترطاً اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32] وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ)، كما ذكر بعض السلف: أن هذه الآية حينما ادعى قوم محبة الله عز وجل امتحنهم الله وابتلاهم بهذه الآية؛ ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، من أحب الله أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنك إذا أحببت الله معناه أنك تحب أن تعبد الله، وكيف تعبد الله؟ كيف تعلم كيفية الصلاة والصيام والزكاة؟ وكيف نكون منفذين لما يحبه الله؟ لا طريق لمعرفة ما يحبه الله وما يقرب إلى الله إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام علامة صدق هذه المحبة، ثم بين أنه يكافئهم بما هو أعظم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)، فإن اتبعتموني كيف يكافئكم الله؟ (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، فليس الشأن في أن يحب العبد ربه، هذا هو رد الفعل الطبيعي، والقلوب جبلت على محبة من يحسن إليها، فكونك تحب الله لما أنعم به عليك من النعم العظيمة والجسيمة، فهذا ليس فيه شأن كبير، هذا أقل ما ينبغي، أنت مقصر على كل الأحوال، لكن الشأن في أن يحبك الله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32]، وصفهم بالكفر بسبب توليهم عن مقتضى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، من أراد أن يذوق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان فلينظر أين هو من هذه الثلاث؟ أولاً: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، انظر إلى شدة بغضه للكفر والمعاصي، وكل ما يمقته الله ويمقت فاعله. وهذا الحديث في الصحيحين. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، بل ولا يتم إيمانه حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ بحيث إذا تصورت أنه يوشك أنك تموت من العطش، وأمامك جرعة ماء يمكن أن تنقذ حياتك إذا شربتها، فتكون على يقين جازم بأنه إذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام موجوداً معك الآن، ويريد أن يشرب هو هذا الماء، وأنت ستموت وتهلك وتخرج روحك إذا لم تشرب هذا القدر من المياه، فيجب عليك حتماً أن تقب

الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد

الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينها وبين تلك الأحاديث التي ورد فيها الوعيد، يعني: أن هناك مجموعة من النصوص فيها بيان أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة، ولا إله إلا الله سبب للنجاة من النار، بدليل الأحاديث التي ذكرناها والتي فيها المزيد من الشروط كما جمعناها في هذه الشروط السبعة؛ لكن هناك نصوص أخرى في أحاديث الوعيد: من فعل كذا دخل النار، لعن الله من فعل كذا، من فعل كذا استحق عقوبة كذا، ما العلاقة بين هذه النصوص وتلك التي ظاهرها التعاطف؟ يمكن الجمع بين هذه النصوص، بأنها جنان كثيرة، فمثلاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يلج حاضرة القدس مدمن خمر) و (حاضرة القدس): مكان معين في الجنة، من شرب الخمر في الدنيا ومات على التوحيد فمآله إلى الجنة سواء عذاب أم لم يعذب فإذا دخل الجنة فإنه لا يدخل مرتبة معينة من الجنة، وهي محرمة عليه؛ بسبب شربه الخمر، وكذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة قتات)، أي: نمام. فإنه يدل على أنه لا يدخل مكاناً معيناً من الجنة، لكن لا نسلك سلوك الوعيدية الخوارج المبتدعين حينما يقولون: هذا دليل على كفره، لماذا أهل السنة هم الوسط والعدول؟ لأنهم يأخذون جميع أطراف النصوص ويجمعون بينها، فلا يفرطون ولا يفرطون، لا يغلون ولا يجفون، فهذه من الأمثلة التي فيها جمع بين النصوص مثل قوله هنا: (لا يدخل الجنة قتات)، وكذا حديث مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر: فكان يسعى بالنميمة بين الناس)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فوضع الجريدتين الرطبتين على القبرين، وقال: (اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، ودخولهما تحت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنهما مسلمان، لو كانا مشركين لما جاز أن يترحم عليهما، أو أن يتشفع لهما، ويدعو لهما، فهذا يدل على أنهما وإن ماتا على الذنب، لكن ماتا على أصل التوحيد، وهذا يدل على أنهما موحدان يدخلان الجنة، لكن قوله عليه الصلاة والسلام مثلاً: (لا يدخل الجنة نمام)، يفيد أنه لا يدخل مع أول الداخلين، بل يتأخر، إما في العذاب في النار أو لغير ذلك في الحساب، وقوله: (لا يدخل الجنة)، يريد به منزلة معينة من الجنة لا يدخلها كما في حديث مدمن الخمر، ويمكن الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن أهل الجنة أيضاً متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل، فيتفاوتون في الأسبقية في دخول الجنة، ويتفاوتون بعد دخولها أيضاً في المنازل، كما قال عز وجل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) [آل عمران:163]، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي أعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، وهذا مفهوم للعارف بلغة العرب. كذلك لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل هاتين الشهادتين على النار، وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمماً، لإمكان الجمع: بأن من مات على شيء من الكبائر أو الذنوب ولم يتب منها، ولو عذبه بدخول النار فإنه سيدخل الجنة؛ لأن من الموحدين من يدخل النار بلا شك، وهناك من تكون له الشفاعة إما برحمة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، وإما بشفاعة الشافعين، ثم يغمسون في نهر الحياة ويدخلون الجنة؛ حينئذ يحرمون على النار فلا تمسهم بعد ذلك، فيكون هذا معنى: (من قال: لا إله إلا الله، حرم الله جسده على النار)، فإذا دخلها وقد ارتكب ذنباً يستحق به دخول النار، فإنه يدخل لكنه لا يخلد فيها. أو يكون المراد: أنهم يحرمون مطلقاً على النار التي أعدت للكافرين؛ لأن هناك طبقة -والعياذ بالله- من النار لا يخرج منها من دخل فيها، فهم يحرمون على النار الخاصة بالكافرين التي من دخلها لا يخرج منها أبداً، لا يموت فيها ولا يحيا، فهي ما عدا الطبقة العليا من النار، فالطبقة العليا من النار يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله سبحانه وتعالى عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [3]

الإيمان والكفر [3] أهل السنة وسط بين فرق أهل الإسلام كما أن الإسلام وسط بين غيره من الملل، ولما كانوا وسطاً وفقهم الله لاختيار القول الوسط الجامع لأدلة الدين الوسط، فلا يغلوا ويتجاوزوا، ولاهم فرطوا وضيعوا، وهم وسط أيضاً في قضايا الكفر والإيمان بين طرفي نقيض.

أمثلة لنصوص الكفر غير المخرج من الملة

أمثلة لنصوص الكفر غير المخرج من الملة ورد استعمال كلمة الكفر في كثير من النصوص دون أن يفهم منها خروج صاحب هذا الفعل الذي وصف بالكفر من الملة المحمدية، وقضية ضوابط الكفر والإيمان من القضايا التي إن لم يجتهد فيها الإنسان، ويعمل على الإحاطة بالنصوص الواردة في المسألة؛ فربما أخذ أحد طرفي النقيض، وانحرف في فهم هذه النصوص، ونزلها على غير منازلها. فمثلاً يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)، فهذا أطلق عليه الكفر؛ لكنه ليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وإنما هو كفر النعمة. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً فيما رواه الشيخان: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم فيمن أنكر نسبه: (تبرؤه من نسب وإن دق كفر بعد إيمان) أي: تبرؤ الرجل من الانتساب إلى والده، أو إنكاره ولده (وإن دق كفر بعد إيمان). وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر). وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فوصفهم بالكفر لوقوع التقاتل بينهم. لكن عندنا أدلة أخرى إذا ضممناها إلى هذه الأدلة نفهم أن وقوع القتال بين المسلمين يسمى كفراً كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا الكفر أكبر مخرج من الملة؟ A لا، ومن الأدلة التي تؤيد أن وقوع القتال لا يعد كفراً أكبر مخرجاً من الملة وإن كان يسمى كفراً: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، فوصفهم أولاً بالإيمان، وأثبت لهم هذا الإيمان، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، وإن كان ليس فيه لفظ الكفر الذي نتكلم عنه. ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فوصف الطائفتين المتقاتلتين والجيشين بأنهم من المسلمين رغم وقوع القتال بينهما. وقال عليه الصلاة والسلام: (تمرق مارقة على حين فرقة من أمتي تقتلها أولى الطائفتين بالحق). وقوله تبارك تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] إلى أن قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فناداهم في صدر الآية بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ووصفهم وخاطبهم بالإيمان، ثم قال تبارك وتعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، أي: إن عفى ولي الدم عن أخيه، فأثبت له أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال بينهما. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). وقال أيضاً: (من حلف بغير الله فقد كفر)، هل كفر بمعنى: خرج من الملة وصار مثل اليهودي أو النصراني؟ كلا. كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت). وهذه الأحاديث لها نظائر كثيرة كالأحاديث التي نفت الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فالمقصود: لا إيمان كاملاً. ومعروف تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، قال ابن عباس: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه. وقال طاوس: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال أيضاً: كفر لا ينقل عن الملة. وقال سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وهذا فيمن رفع راية التوحيد، ورفع راية تحكيم الشريعة، ويكون ذلك في حال الخلافة الإسلامية، ثم إن قاض من القضاة حكم بغير ما أنزل الله، وهو يعلم أنه عاص بفعله ذلك، كأن يكون حكم برشوة أخذها، أو محسوبية لبعض أقاربه، أو مجاملة لبعض الناس، أو اتباعاً للهوى؛ فهذه معصية أو كفراً دون كفر، وليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وهذا بخلاف من نبذ الدين خلف ظهره، ولم يرفع بذلك رأساً، كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل فيما بعد. ومن المسائل التي وصف فاعلها بالكفر: ترك الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن ترك الصلاة فقد كفر)، وقوله: (بين المرء وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، إلى جملة أخرى من النصوص التي فيها وصف تارك الصلاة بالكفر. إذاً: ما هو الضابط؟ وما هو الميزان الذي نستطيع أن نعرف به أن الكفر أكبر أم هو كفر دون كفر؟ كذلك الظلم: هل الظلم أكبر يخرج من الملة أم هو ظلم دون ظلم لا يخرج فاعله من الملة وإن كان ينقص من الإيمان؟ فالكفر الأكبر يذهب بأصل الإيمان، والكفر الأصغر يذهب بكمال الإيمان، ينقص الإيمان لكن لا يطيح به بالكلية، كالشجرة إذا قطعت عنها بعض أغصانها أو فروعها تظل حقيقتها قائمة بخلاف ما إذا اجتثثتها من جذورها وأذهبتها بالكلية، فكيف نستطيع أن نضع ميزاناً دقيقاً لهذه الأشياء؟ ما ضابط الحكم على الفعل بأنه كفر دون كفر أو كفر أكبر، والظلم هل هو ظلم أكبر أو ظلم دون ظلم؟ فهناك بعض الناس لم يلتفت إلى هذه النصوص، فمن أجل ذلك جازفوا في الحكم على الناس بالكفر، وهو يعتمد على دليل شرعي لكنه يضعه في غير موضعه، فمثلاً يسمع أن من حلف بغير الله فقد أشرك فيحكم عليه بالشرك والكفر! لماذا تفعل هذا؟ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)! وبذلك التقى مع الخوارج الوعيدية في تكفير المؤمنين الموحدين الذين ارتكبوا بعض هذه المخالفات.

ضابط الإيمان والكفر

ضابط الإيمان والكفر هذه المسألة وضحها الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه: (حكم تارك الصلاة)، ومعرفتها مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي أو الإثبات بعد ذلك. فالكفر والإيمان متقابلان متضادان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر، فإذا زال الإيمان عن الإنسان ثبت له وصف الكفر؛ إذ لابد لكل واحد من الناس من إحدى هاتين الصفتين: إما أنه كافر وإما أنه مؤمن. أما مسألة التوقف في الحكم على شخص، والإتيان بالمقاييس والكلام الفاسد، مثل قولهم مثلاً: هذا حرير طبيعي، وهذا حرير صناعي، وكلاهما ناعم الملمس، فنحن لا نستطيع أن نحكم على أحدهما حتى نتبين حقيقة كل منهما، فهذا كلام لغو، وعندما يريد الإنسان أن يميز بين شيئين فإنه ينبغي أن يركز على وجه الافتراق وليس على وجه الاتفاق، يقول لك: هذا رجل مسلم، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو يلبس ملابس المسلمين، أو يقول: السلام وعليكم، أو يظهر أي شعيرة من شعائر الإسلام. وأيضاً هناك آخرون كفروا من وجهة نظرهم هم، أو كفروا بالفعل، ويتلبسون ببعض هذه المظاهر الإسلامية، فيقول: هذا يظهر هذه الشعائر وهذا يظهرها، وأنا لا أدري من الصادق فيهما من الكاذب، إذاً: لابد أن نتوقف حتى نتبين صدق إيمانه بضوابط وقواعد اخترعوها وأحدثوها في دين الله تبارك وتعالى. في أي نوع من العلوم حينما تعقد مقارنة بين جهاز وجهاز، خلية وخلية، أو أي شيء تضع أوجه المقارنة وتقارن بينهما، وهل تذكر أوجه الاتفاق أم تميز بينهما بما يفترقان فيه؟ عند عقد المقارنة ينبغي أن تبحث عن وجه الافتراق وليس عند وجه الاتفاق، مثلاً: مسلم ونصراني، هذا يقول الشهادتين لكنه سب الدين، أو خرج من الملة بأي فعل من أفعال الكفر، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون. والمقصود أن الكفر والإيمان متقابلان، ولابد أن كل إنسان يكون في حالة من حالتين: إما أن يكون مؤمناً أو كافراً، أما المنزلة بين المنزلتين فهذا كلام خارج عن أصول وقواعد أهل السنة والجماعة. لكن الإيمان أصل وأساس، ثم يتفرع عن هذا الأصل شعب وفروع متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان يجوز أن يطلق عليها إيماناً، فمثلاً: الصلاة شعبة من شعب الإيمان؛ لذلك تسمى أحياناً: إيماناً، كما في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنهم سألوا عن ذلك بعد تحويل القبلة إلى مكة المكرمة، فقالوا: فكيف بالصلاة التي كنا نصلي من قبل مستقبلين بيت المقدس؟ وماذا عن المسلمين الذين ماتوا قبل أن تحول القبلة وقد صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: ليحبط صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنكم في الحالين مستسلمون لأمر الله عز وجل. فشعبة الإيمان تسمى إيماناً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، والمقصود من الحديث: نفي الإيمان عمن أساء الجوار، لكن هل الإنسان الذي يسيء إلى جاره يعتبر كافراً كاليهودي أو النصراني؟ كلا، لماذا؟ لأن شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن الإيمان له أصل، وهذا الأصل إذا ذهب زال الإيمان بالكلية وحل محله الكفر. أما شعب الإيمان فإذا زالت فهي تنقص الإيمان لكن لا تحبطه بالكلية. فالإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج يسمى إيماناً، والصيام كذلك، وليس هذا في الأعمال الظاهرة فقط بل أيضاً في الأعمال القلبية الباطنة كالتوكل على الله عز وجل، والخشية من الله، والإنابة إليه كل هذه الأعمال الباطنة تسمى إيماناً، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان). إذاً: هذه هي القاعدة: شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن ليس معنى ذلك أن شعب الإيمان التي هي فروع الأصل هي كل الإيمان؛ بحيث إذا زالت زال كل الإيمان، لكنها تسمى إيماناً بوجودها، وازديادها يزيد الإيمان، وبذهاب بعضها ينقص الإيمان ما دام النقص في الشعب لا في الأصل نفسه. فشعب الإيمان عبارة عن مراتب أعلاها: لا إله إلا الله، ثم تأتي أفعال أخرى من الإيمان تصل إلى سبعين شعبة، فالصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة، والحج، والصيام وهكذا، ثم تأتي الأعمال الباطنة: الحياء، والتوكل، والخوف، والرجاء إلى آخره، ثم تنتهي بآخر درجة من شعب الإيمان، وهي: إماطة الأذى عن الطريق؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، وقوله أيضاً في الحديث الآخر: (نحي الأذى عن طريق المسلمين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. كلما اقتربت الشعبة من الصلاة أو الشهادتين ازدادت خطورتها، بحيث إذا زالت من قلب المؤمن ومن سلوكه فإنها تهز إيمانه هزاً شديداً. كذلك توجد شعب إيمان أخرى قد تقترب من شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وكلما كانت أقرب لشعبة إماطة الأذى عن الطريق كان تخلفها أهون مما عداها. يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: الكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، وإذا زالت زال الإيمان تماماً عن الإنسان وصار كافراً، مثل الشهادتين وكلمة التوحيد، رجل عنده حياء وكرم وصدق، وقل ما شئت من شعب الإيمان لكنه لم يشهد شهادة التوحيد، لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فزوال شعبة التوحيد التي هي أصل الإيمان ينهي كل إيمانه ولا يعتد به. ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، فمن رأى قشرة موز أو زجاجة أو أي شيء يؤذي الناس في الطريق ولم يزله فهو مقصر، وينقص إيمانه بحسب ما يترك من هذه الشعب، لكن إذا أساء بترك إماطة هذا الأذى هل يصبح كافراً بمجرد ذلك؟ كلا، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً. إذاً: ما بين كلمة التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق شعب تتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن هذه الشعب ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. كذلك الكفر له أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر. فالحياء شعبة من شعب الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، فكل شعبة إذا كان وجودها من شعب الإيمان فزوالها يعد من شعب الكفر. الصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر. الحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر. والقاعدة: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، هذا الأمر الثاني الذي نريد أن نستصحبه. خلاصة الكلام: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، ويمكن أن تسمى أحياناً كفراً كما في النصوص التي ذكرناها، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.

شعب الإيمان والكفر وأنواعهما

شعب الإيمان والكفر وأنواعهما شعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وشعب الكفر أيضاً قولية وفعلية.

شعب الإيمان القولية والفعلية

شعب الإيمان القولية والفعلية شعب الإيمان القولية منها شعبة يكون بزوالها زوال الإيمان، مثل كلمة التوحيد فهي شعبة من شعب الإيمان القولية. كذلك شعب الكفر قولية وفعلية، فقد يأتي الإنسان بشعبة من شعب الكفر يكون بقولها زوال الإيمان بالكلية مثل سب الدين، وسب نبي من الأنبياء، والاستهزاء بالله تبارك وتعالى، فهذا إذا صدر من إنسان فهو يذهب كل الإيمان، فهو شعبة من شعب الكفر القولية كالنطق بكلمة الكفر مثلاً اختياراً، فهذا يحبط الإيمان فيصبح الإنسان كافراً خارجاً من الملة. كذلك أيضاً يكفر بفعل شعبة من شعب الكفر الفعلية التي تحبط الإيمان تماماً مثل تمزيق المصحف، أو من يهين المصحف -والعياذ بالله- وهو يعلم بذلك، ومتعمد له، أو شخص سجد لصنم، فهذه شعبة من شعب الكفر الفعلية. فشعب الإيمان منها قولية ومنها فعلية، وشعب الكفر منها شعب قولية ومنها فعلية، وكل هذه الأنواع في شعب الإيمان إذا زالت -القولية أو الفعلية- ممكن أن تزيل الإيمان بالكلية، كذلك هناك شعب من شعب الكفر إذا تعرض الإنسان لها فقد تزيل إيمانه بالكلية. هذا أصل.

قول وعمل اللسان والقلب

قول وعمل اللسان والقلب الأصل الآخر هو: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وقول اللسان، قول القلب: بالاعتقاد والتصديق، يعني: تصديقك بأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله، والقرآن كتاب الله، وهذه الأوامر هي أوامر الله، وهذه النواهي هي نواهي الله، فهذا هو التصديق الذي هو جزء من حقيقة الإيمان. إذاً: حقيقة الإيمان: قول وعمل، القول: قول بالقلب وهو التصديق، وقول باللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. أما العمل فعملان أيضاً: عمل القلب وعمل الجوارح، عمل القلب: بأن يعمل الأعمال الصالحة بنية وإخلاص ومحبة وانقياد في العمل. إذاً: حقيقة الإيمان تتركب من قول وعمل، لكن عندما نفصلها تتركب من أربعة: قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل بالأركان أو بالجوارح. قول القلب: التصديق والاعتقاد. وعمل القلب: انقياد القلب لهذه الأوامر وهذه التكاليف، والمحبة والانقياد لحكم الله تبارك وتعالى، فإذا زالت هذه الأربع: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح زال الإيمان كله، أما إذا زال من إنسان تصديق القلب لكن تكلم بكلمة الإسلام، وعمل بعمل الجوارح، وأتى بعمل القلب، فهل تنفعه باقي الأجزاء؟ لا. هذا هو المنافق. وأما إذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، كمن يصدق بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومؤمن بأن الأمر بالصلاة من عند الله، وأن القرآن من عند الله، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله حقاً، ولا ينطق عن الهوى، ولكنه لم ينقد لشريعته، ولا لأحكامه، فهذه المسألة من المعارك الكبرى بين أهل السنة وبين المرجئة، فإن المرجئة يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة! أما أهل السنة فهم مجمعون على زوال الإيمان إذا انتفى عمل القلب مع وجود التصديق، لماذا؟ لأن إبليس حينما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود كان عنده تصديق بأن الأمر بالسجود من عند الله، وكان يعلم أن الذي يأمره بالسجود هو الله تبارك وتعالى، لكن عمل قلبه وانقياد قلبه لهذا الحكم لم يتواجد، وزال عمل القلب مع وجود التصديق، فلم ينفعه وصار إمام الكافرين. فرعون هل كان مصدقاً بموسى أم لم يكن مصدقاً بأن موسى رسول الله؟ نعم كان مصدقاً، والدليل: قوله تبارك وتعالى في سورة النمل في شأن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا) أي: بالآيات {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، هذا القرآن يخبرنا أنهم كانوا على يقين كامل من صدق موسى عليه السلام، لكن كفرهم كان كفر جحود وعناد واستكبار، لكن في قلوبهم كانوا يصدقون. مشركو قريش أيضاً كانوا يصدقون أن الرسول عليه الصلاة والسلام من عند الله؛ ففي قلوبهم وجد قول القلب باعتقاد الصدق، والدليل قوله تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام:33]، يعني: من وصفهم إياك بأنك كذاب {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، كان يشق على النبي صلى الله عليه وسلم حينما يسمع أذية المشركين له وهم يتهمونه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله القرآن لإخباره بهذه الحقيقة التي يعلمها الله وحده تبارك وتعالى، (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)، من اتهامك بهذه التهمة الشنيعة الكذب على الله والعياذ بالله، (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)، اعلم أنهم في الحقيقة لا يكذبونك (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، فمشركو قريش كانوا على يقين بأن محمداً رسول الله حقاً، فالتصديق الذي هو قول القلب بالاعتقاد كان موجوداً لكن لم يوجد عمل القلب بالانقياد لهذا الدين، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نفي عنهم الإيمان. كذلك أهل الكتاب كانوا كذلك، والدليل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وآيات أخرى كثيرة تدل على أن أهل الكتاب كانوا على يقين أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن الله، لكن انتفى عمل القلب بالانقياد، وجد عمل القلب بالتصديق أن هذا من عند الله، لكن لم يشفعوه بانقياد القلب ومحبة وامتثال ما أمر به صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً عمل القلب داخل في حقيقة الإيمان، وحقيقة التصديق يدخل فيها العمل، والدليل على ذلك: قوله تبارك وتعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105]، فمتى وصفه الله تبارك وتعالى بتصديق الرؤيا؟ إبراهيم عليه السلام لما استيقظ من نومه بعد أن أوحي إليه في المنام أن يذبح ابنه كان مصدقاً بذلك، ولو لم يكن مصدقاً لما أقدم على ذبح ولده؛ لأنه يعلم أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ومع ذلك لما امتثل قلبه وجوارحه لهذا الأمر الإلهي الذي أريه في منامه حينئذ وصف بالتصديق: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، لما انضم إليه انقياد القلب والعمل. خلاصة الكلام: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، القول: قول القلب: وهو اعتقاد الصدق. وقول باللسان: وهو النطق بكلمة التوحيد. ثم عمل: وهو عمل القلب بالنية والإخلاص والمحبة والانقياد، ثم عمل الجوارح، وإذا زالت هذه الأربع زال الإيمان كله بكماله، وإذا زال تصديق القلب زال الإيمان ولم تنفع بقية الأجزاء.

عقيدة أهل السنة إذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق

عقيدة أهل السنة إذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق هذا هو موضع المعركة بين أهل السنة والمرجئة، حيث إن أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان إذا انتفى عمل القلب مع وجود التصديق، وذكرنا أمثلة إبليس وفرعون واليهود والمشركين، هؤلاء جميعاً كانوا يعتقدون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه الكذب، لكن قالوا: لا نتبعه ولا نؤمن به، وما كانوا بذلك مؤمنين. الخلاصة: ليس الإيمان مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، كما أن اعتقاد التصديق -وإن سمي تصديقاً- ليس هو التصديق المستلزم للإيمان، والدليل قوله عز وجل: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]. إذاً: معرفة الحق وتبينه هذا نوع من الهدى، فمن رأى الحق حقاً لكن لم يرزقه الله اتباعه، فهذا في المرتبة الثانية من الهداية، لكن هل هذه المرتبة تستلزم الاهتداء؟ كلا، أما الهدى الذي يترتب عليه الانقياد والعمل والامتثال فهذه هي المرتبة الثالثة التي تستلزم الاهتداء، فهؤلاء الذين ذكرنا أمثلتهم من المشركين أو فرعون أو إبليس أو غير ذلك من اليهود أو النصارى؛ عرفوا الحق ولكنهم لم ينقادوا له، فبذلك لم يصيروا مؤمنين. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: وها هنا أصل آخر، وهو: أن حقيقة الإيمان مؤكدة بالقول والعمل، والقول قسمان: قول القلب: وهو الاعتقاد، وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به، مثل أبي طالب لما قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا فـ أبو طالب كان يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول من عند ربه، لكنه لم ينقد بقلبه لشرائعه؛ فلم ينفعه ذلك.

أنواع الكفر

أنواع الكفر الأصل التاني هو: أن الكفر نوعان: كفر اعتقاد وكفر عمل، قال ابن القيم رحمه الله: وهنا أصل آخر، وهو: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، أي: أن كفر الجحود والتكذيب يضاد الإيمان ولا يمكن أن يجتمع مع الإيمان؛ ففاعله كافر كفراً أكبر. إذاً: كفر الاعتقاد كله يخرج من الملة إذا كان كفر جحود. أما كفر العمل فمنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، وقد يجتمع مع الإيمان مع تسميته كفراً. يقول: وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم كفر عملي، لكن من أي النوعين هو: هل هو مما يجتمع مع الإيمان أم مما يضاده من كل وجه؟ السجود للصنم، والامتهانة للمصحف، وقتل النبي، وسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من الأنبياء؛ هذا كله يضاد الإيمان، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يجتمع الإيمان مع وجود شيء من هذه الأفعال، هذا وإن كان كفراً عملياً فمنه ما يخرج تماماً من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، مثل: الحكم بغير ما أنزل الله كما ذكرنا ووضحنا، ومثل: ترك الصلاة، فتركها كفر عملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفى عن فاعل هذا الوزر اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه، فالله تبارك وتعالى سمى من يحكم بغير ما أنزل الله كافراً، فقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تارك الصلاة كافراً، ولكنه كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً، ولا يطلق عليهما اسم الكفر! فهما يستحقان اسم الكفر لكن الخلاف: هل هذا كفر يخرج من الملة، ويضاد الإيمان تماماً، أم لا يضاد الإيمان ولا يحبطه بالكلية؟ أيضاً نفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان عن الزاني فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وأخبر عمن شرع في هذه المعصية -والعياذ بالله- أنه يخرج الإيمان من قلبه، ويبقى فوق رأسه مثل المظلة أو السحابة، ثم يرجع إليه الإيمان. وكذلك السارق إذا سرق: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). كذلك نفى الإيمان عن شارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، فإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، لكن ينتفي عنه كفر الجحود والاعتقاد، فالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك مما وصف بالكفر كفر عملي، وقد يجامع الإيمان وقد لا يجامع كما بينا. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)؛ فيؤخذ من هذا الحديث: أن القتال بين اثنين من المسلمين أو طائفتين من المسلمين من الكفر، لكن هذا الكفر من الكفر العملي، فهو لا يخرج من الملة، ولا يضاد الإيمان تماماً. إذاً: الكفر العملي منه ما لا يضاد الإيمان، وقد يوجد في الإنسان، وكما قلنا: إن شعب الإيمان -البضع والسبعون- تسمى إيماناً، وشعب الكفر تسمى كفراً، فعندما يفعل الإنسان شعبة من شعب الكفر يقال: إن هذا الشخص فعل شيئاً من أفعال الكفر، وهذا الفاعل كما جاءت الأحاديث يسمى فاعله كافراً، لكن يحكم له بالإيمان ووجود أصل الإيمان، وإن نقص إيمانه بحسب ما ارتكب من هذه المخالفات، مثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فهذا كفر عملي.

قاعدة أهل السنة والجماعة في تكفير المعين

قاعدة أهل السنة والجماعة في تكفير المعين قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري يعني: رجع بها أحدهما، لماذا؟ لأن هذا المسلم إن كان فعل فعلاً من أفعال الكفر مثل سب الرسول، أو الدين، أو إهانة المصحف، فإذا قال له: يا كافر؛ فإن كان كما قال وكان صادقاً في الحكم عليه ببينة فهو فعلاً كافر، لكن هذا المسلم إذا لم يكن مستحقاً بأن يوصف بالكفر فإن هذا الشخص الذي وصفه بالكفر يعود عليه الحكم بالكفر؛ ولذلك دائماً نقول: إن القوم الذين يعتقدون أنه لا يوجد كفر دون كفر، وأن كل الكفر يخرج من الملة، نقول: أنتم أولى بالتورع عن إطلاق الحكم بالكفر على المسلمين؛ لأننا أهل السنة والجماعة إذا اعتقدنا أن الشخص إذا حكم على آخر بالكفر، وقال له: يا كافر! ظلماً وعدوناً؛ فإنه يأثم بذلك، ويسمى كافراً، ويقال: إنه أتى بشعبة من شعب الكفر العملي، وهي شعبة تنقص إيمانه، ولكن لا يخرج بها من الملة، أما هم فإذا أخطئوا في الحكم على شخص بالكفر، وكان هذا الشخص غير كافر في الحقيقة؛ فبنص الحديث سيعود حكم الكفر عليه هو، فيصبح كافراً، وهو لا يعتقد أن هناك كفراً دون كفر، وكل الكفر عنده يخرج من الملة، فإذاً هذا يستلزم فيه مزيداً من الاحتياط في حقه هو؛ لأنه إذا وصف أحداً بالكفر واستحق الكفر إذا أخطأ في الحكم على أخيه بالكفر، فسيكون كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة في اعتقاده لا كما هو الأمر في الحقيقة؛ فلذلك يجب الحذر في حقه من إطلاق الكفر أكثر من غيره. وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به، قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84]، (تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ) المقصود: إخوانكم؛ لأن من شدة الرابطة بين المؤمنين وأصحاب العقيدة الواحدة أن الله تبارك وتعالى يعبر بالأنفس عن الإخوان في الله، فهذا دليل من هذه الأدلة: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ) يعني: لا تخرجون إخوانكم في الدين، ومثل هذا قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] يعني: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يعني: على إخوانكم على بعض التفاسير، وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:84 - 85] يعني: إخوانكم، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. فأخبر سبحانه وتعالى أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم بأنه لا يقتل بعضهم بعضاً، وشهدوا بذلك، ولا يخرجوا بعضهم بعضاً من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخر، وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه، فهذا الإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.

قول أهل السنة في أهل المعاصي

قول أهل السنة في أهل المعاصي قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، ففرق بين قتاله وسبابه، وجعل السباب- فسوقاً لا يكفر به، والآخر -القتال- كفراً، ومن المعلوم أنه أراد هنا الكفر العملي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان، هذا التفسير هو قول الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله، وأعلم الأمة بالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين الذين أتوا بعد الصحابة ما فهموا كما فهم الصحابة، فانقسموا فريقين: فريق أخرجوا العاصي من الملة بالكلية وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، واستدلوا بالأدلة التي فيها نص على بعض الكبائر بالكفر وقالوا: من يفعل هذه الأشياء كافر وخارج من الملة. وفريق آخر اشتط في الجانب الآخر وجعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، وهم المرجئة، فالخوارج ومن تابعهم غلوا وهؤلاء فرطوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل: أن هذا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم.

الظلم على قاعدة أهل السنة

الظلم على قاعدة أهل السنة قال سفيان بن عيينة: عن هشام بن جحير عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه، قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع: عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً، ويسمى الجاحد ما أنزله على رسوله أيضاً كافراً، وليس الكافران على حد سواء، ويسمى الكافر ظالماً، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، فسمى الكافرين ظالمين، وسمى المتعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً، فقال تبارك وتعالى بعدما أشار إلى بعض أحكام الطلاق: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]؛ فوصفه بالظلم، والكافرون أيضاً وصفهم بالظلم كما قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، لكن هل هذا الظلم مثل هذا الظلم؟ لا، فتماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، بل قال يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فهل قوله: (من الظالمين) يعني: من الكافرين؟ كلا. لكن هذا ظلم دون ظلم بل هي في حق الأنبياء من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه معاصي في حق الأنبياء بالنسبة إلى علو مقامهم، لكنها في حق غيرهم من البشر لا تكون معاصي على الإطلاق، إنما يكون النبي يفعل فعلاً معيناً وهو يظن أنه يرضي الله، ويتضح بعد ذلك أنه لم يوافق مرضاة الله تبارك وتعالى، أو يفعل فعلاً كان الأولى ألا يفعله لكنه لا يأثم بذلك، وقد عقد الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه (الفصل) فصلاً طويلاً تتبع فيه جميع النصوص التي فيها ما يوهم نسبة المعاصي إلى الأنبياء، وبين تنزيههم عن المعاصي. وهؤلاء المبتدعة أدى بهم الجهل الفاحش إلى إنكار أن يكون هناك ظلم دون ظلم، وقالوا: إن كل ظلم هو كفر مخرج من الملة، فكان بعض الإخوة حينما يناقشونهم يقول: سنأتي لهم بأدلة تفحمهم تماماً ويسكتون على المعارضة، فقال: قال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فقالوا: يونس أيضاً كان كافراً، والعياذ بالله! وقالوا: آدم كفر ثم دخل في الإسلام من جديد: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ففسروا الظلم هنا على أنه ظلم أكبر، وقالوا: إن الأنبياء كفروا والعياذ بالله، سبحان الله! الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الكفر، وعن كبائر الذنوب، بل وعن صغائرها على القول الراجح، فقول آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، هذا ظلم دون الظلم الذي جاء في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. وقول موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وموسى عليه السلام ما تعمد قتل ذلك الرجل، ولكنه كان شديد القوة عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وما تعمد أن يقتله؛ لذا قال هنا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، فوصف نفسه بالظلم، فهل هذا مثل الظلم في قوله تبارك وتعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)؟ ليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، هل الظلم هنا ظلم دون ظلم أم ظلم أكبر؟ ظلم أكبر، والدليل قوله تبارك وتعالى حاكياً عن لقمان: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذا ظلم أكبر، وشرك يخرج من الملة تماماً، كما في قوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

الفسق على قاعدة أهل السنة

الفسق على قاعدة أهل السنة كما سمي الكافر كفراً أكبر ظالماً يسمى أيضاً فاسقاً، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:26 - 27]، فهذا الفسق فسق أكبر مخرج من الملة. ويقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99]، فهذا فسق أكبر، وهو كثير في القرآن، وليس الفسق كله أكبر، فهناك فسق دون فسق، كما في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فهذا فسق لكنه فسق دون فسق. كذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة:282]. وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فمن قذف المحصنات وصف بالفسق، لكن هل هو الفسق الأكبر المخرج من الملة؟ كلا. والدليل: أن إقامة الحد عليه دون حد المرتد، ولو أن الذي يقذف المحصنات يصير فاسقاً فسقاً أكبر مخرجاً من الملة، فلو أقيم عليه حد لكان حد الردة لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، لكن حد هذا جلد ثمانين جلدة، وهو حد القاذف، فدل على أنه مسلم. على أي الأحوال: من الأبحاث المهمة: أن بعض الأفعال اختلف علماء أهل السنة في أنها إذا تركت ينقض الإيمان، مثل ترك الإنسان شيئاً من أركان الإسلام بلا جحود، فهذه مسائل خلاف، مثل ترك الصلاة أو الزكاة أو الحج أو غير ذلك، لكنه كافر كفراً أكبر إذا جحدها، أما إذا تركها تكاسلاً أو اتباعاً للهوى أو بخلاً أو نحو هذا؛ فهناك خلاف بين العلماء، والخلاف الحاصل في تارك الصلاة أقوى من الخلاف في غيرها، وجمهور العلماء لا يكفرون تارك الصلاة كفراً يخرجه من الملة، مع اتفاقهم على أنه أشد وزراً من السارق والزاني وقاتل النفس وشارب الخمر والمرابي، فكل هذه الآثام ترك الصلاة أشد إثماً منها، وهذا على قول من لا يكفره. أما تارك الزكاة فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يكفر بذلك إلا إذا جحد، وكذلك تارك الحج وسائر الأركان. يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، ففسق إبليس هل كان فسقاً أكبر أم كان فسقاً دون فسق؟ هو فسق أكبر. ويقول تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهل هذا الفسوق كفسق إبليس؟ وهل هذا الفسوق كقوله: (والكافرون هم الفاسقون)؟ كلا.

الجهل والشرك على قاعدة أهل السنة

الجهل والشرك على قاعدة أهل السنة كما أن الكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، فإن الجهل جهلان، مثل قوله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وهناك جهل غير مكفر، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، فهنا جهل عملي، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء إذا خرج من البيت: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ). وكما يقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فهذا جهل عملي، وليس بالجهل الأكبر المخرج من الملة. كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، ويخرج من الملة، وهو الشرك الأكبر، وهناك شرك دون شرك، وهو الشرك الأصغر؛ كشرك العمل (الرياء). قال تبارك وتعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فهذا شرك أكبر. وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. أما ما دون ذلك، فقال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وهذا شرك الرياء كما فسره العلماء بذلك، وهو أن يعمل عملاً لغير الله، يعمله مراءاة للناس، فهذا شرك دون شرك. والشرك الأصغر يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من قال: واللات، فليقل: لا إله إلا الله)، فهذه معصية كفارتها أن تقول كلمة التوحيد. أيضاً من هذا الشرك الذي هو دون شرك، ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشرك في هذه الأمة -أي: الأمة المحمدية- أخفى من دبيب النمل)، وذكر صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث صورة لذلك فقال: (أن يقوم الرجل في صلاته فيطيلها لما يعلم من نظر الناس إليه)، فهذا أيضاً شرك عملي، أو شرك دون شرك. فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها.

النفاق على قاعدة أهل السنة

النفاق على قاعدة أهل السنة النفاق نوعان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد: هو الذي أنكره الله تبارك وتعالى على المنافقين في القرآن، وهو الذي أوجب لهم الدرك الأسفل من النار. ونفاق العمل، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وفي الصحيح أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان). وهذا نفاق عملي قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من كن فيه -يعني: استحكمت فيه- كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)، لكن إذا اجتمعت تماماً وتمكنت في هذا الشخص، فهذا في الغالب يكون منافقاً نفاقاً أكبر. يقول إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، يخرج من الإيمان الكامل، ويرتفع عنه هذا الوصف الشريف، لكن ما زال في دائرة الإسلام. ونحو قوله: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن). ونحو قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. قال إسماعيل بن سعيد: فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.

أصل أهل السنة في اجتماع الكفر والإيمان في الشخص

أصل أهل السنة في اجتماع الكفر والإيمان في الشخص الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة: أنها قد تجتمع هذه الأشياء في الرجل الواحد، وخالفهم في ذلك غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم. أما القرآن: فيقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فهذه الآية تدل على أنه قد يجتمع الإيمان مع الشرك الذي يخالفه، فأثبت لهم إيماناً به سبحانه وتعالى مع الشرك، لكن لابد أن نتذكر أن هناك نوعاً من الشرك لا يمكن أن يقترن مع الإيمان، يعني: إذا كان أصل الإيمان موجوداً قد يجتمع مع أشياء يطلق عليها شرك، لكن ليس بالشرك الذي يخرج من الملة. قال تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14]، فأثبت لهم إسلاماً وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه. والإيمان المطلق هو مثل الذي في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15]، وهؤلاء الذين ورد ذكرهم في آخر سورة الحجرات ليسوا بمنافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون معهم شيء من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر. يقول الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن -يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاك- فهو مسلم ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون ذلك -يريد دون الكبائر- سميته مؤمناً ناقص الإيمان، ودل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق)، فدل على أن النفاق يجتمع مع أصل الإيمان، وأن الرجل قد يجتمع فيه نفاق وإسلام، وكذلك الرياء شرك، فإذا اجتمع في رجل الشرك والإسلام، حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، وهو ملتزم بالإسلام وشرائعه؛ فقد قام فيه كفر وإسلام، لكن تذكروا أنه كفر لا ينقل عن الملة، وكفر لا ينافي أصل الإيمان. وقد بينا أن من المعاصي ما هي شعب من شعب الكفر، كما أن من الطاعات ما هي شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمناً وقد لا يسمى، كما أنه قد يسمى بشعب الكفر كافراً، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم. أيضاً لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، مثلاً: رجل كافر ولكنه كريم يحسن إلى الفقراء والمساكين والضعفاء واليتامى، فهذا قامت به شعبة من شعب الإيمان، وهي الإحسان إلى الخلق، لكن هل يسمى بذلك مؤمناً؟ كلا، فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قامت به شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً وإن كان ما قام به كفراً. ولذلك نذكر الناس عموماً بهذه المسألة: بعض الناس يتعامل مع بعض الكفار أو النصارى أو غيرهم فيزين له الشيطان أن يمتدح هؤلاء الكافرين فيقول: هذا رجل صادق، ويفي بوعده، ويحترم مواعيده، ويثني على هذا الكافر، ويتعامى عن أمر خطير جداً؛ لأنه قد يفضله على المسلمين والعياذ بالله! وهذا من الخذلان، لأنه يجب على الإنسان أن يعدل في الغضب والرضا، فهل تساوي المسلم الذي معه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج برجل عنده حياء أو كرم أو إحسان إلى الخلق؟! من الجور الغفلة عن هذا الأمر. فأصل الإيمان الموجود مع المسلم لا يمكن أن يساويه أبداً من أتى شعباً من الإيمان، ولا يصر بذلك مؤمناً. إذاً: القاعدة الأخيرة هي: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، فمثلاً الإحسان إلى الجار إيمان، فإن وجد يهودي أو نصراني فيه إحسان إلى الجار لا يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به هو في حد ذاته إيماناً. كذلك لا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، فلو أنك أتقنت دراسة مسألة من مسائل العلم في الطهارة أو الصلاة أو غير ذلك، وكنت عارفاً بهذه الجزئية، فهل تستحق بذلك أن تسمى العالم الفلاني الجليل الكبير أو العلامة؟ كلا، لا تسمى عالماً بمجرد إتقانك لجزئيات بعض المسائل. كذلك لا يلزم من معرفة بعض مسائل الطب كالبول السكري مثلاً لمن يعيش فيها ليل نهار، وقرأ فيها كثيراً، ويعرف الأدوية والجرعات والمضاعفات وكل شيء عن حالة من الحالات؛ أن يسمى طبيباً بمجرد أنه علم أو تعلم كل ما يمكن أن يعرف عن حالة معينة من حالات الطب، ولا يسمى طبيباً بمجرد ذلك. ولا يمتنع كذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيماناً، وشعبة النفاق نفاقاً، وشعبة الكفر كفراً، يعني: لا يمتنع مع هذا أن المؤمن أو المسلم قد يفعل فعلاً من أفعال الكفر، والفعل نفسه يسمى كفراً، لكنه لا يسمى كافراً، أو الكافر يفعل فعلاً من أفعال وشعب الإيمان، ولكنه لا يسمى بذلك مؤمناً. قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر)، فمن صدرت منه خلة من الخلال الكفرية فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، يعني: لا يأخذ حكم الكافر المطلق، لكن قد يوصف فعله بأنه كفر، وكذا يقال لمن ارتكب محرماً: إنه فعل فسوقاً، وإنه فسق بذلك المحرم؛ دلالة على أنه خرج عن طاعة ربه، ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه، وهكذا الزاني والسارق والشارب للخمر لا يسمى مؤمناً وإن كان معه إيمان، كما أنه لا يسمى كافراً وإن كان ما أتى به هو من خصال الكفر وشعبه؛ إذ المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، فتارك الصلاة يسلب عنه اسم الإيمان المطلق، وسلب اسم الإسلام عنه محل خلاف. يقول الإمام ابن القيم في حق تارك الصلاة: سلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، (فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)؛ فلا يسمى تارك الصلاة مسلماً ولا مؤمناً وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام والإيمان، لكن هل ينفعه ما معه من الإيمان من قول واعتقاد كلمة التوحيد في عدم الخلود في النار؟ وهنا نصل إلى الميزان الذي نزن به مثل هذه الأفعال التي يوصف فاعلها بأنه كفر، لكن نريد أن نعرف: هل الكفر يخرج من الملة أم لا يخرج من الملة؟ هل وصف تارك الصلاة بالكفر هو الكفر الذي يحبط أصل الإيمان بالكلية أم دون ذلك؟ هل ترك الصلاة يحبط كلمة التوحيد؟ هل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الإيمان واعتباره، وإن كان المتروك شرطاً في اعتبار الإيمان لم ينفعه؛ لأن شعب الإيمان مترابطة، وبعض شعب الإيمان تكون شرطاً في صحة شعبة أخرى؛ كالوضوء شعبة من شعب الإيمان، والصلاة شعبة من شعب الإيمان، لكن هل تصح شعبة الصلاة بدون شعبة الوضوء والطهارة؟ كلا، فإذا فقدت شعبة الوضوء قبل شعبة الصلاة فإنها تحبط هذه الصلاة، فلا يصح لشخص أن يصلي دون أن يكون متطهراً، فشعبة الصلاة تحبط إذا فقد شرط الطهارة. كذلك شعبة التوحيد (لا إله إلا الله) شرط في صحة الإيمان واعتباره حتى تنفع قائلها وتنجيه في الآخرة؛ لأن بعض الكفار يعملون أعمالاً صالحة في الدنيا فيوفون جزاءهم هنا في الدنيا فقط، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]. فالكافر إذا عمل أشياء من الأعمال الحسنة أو الخيرية فإنه يجازى بها في الدنيا فقط أما الآخرة فتكون هباء منثوراً. فشعبة التوحيد (لا إله إلا الله) هي شرط في انتفاع العبد بجميع شعب الإيمان في اليوم الآخر، ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته، وأنه لا إله إلا هو، من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى النصارى الذين يعيشون في أواسط المسلمين يقولون: نحن نقول: إله واحد، ويموهون بذلك على ضعفاء المسلمين ويشوشون عليهم، واليهود يقولون: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقط ولم يقل معها: محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنها لا تنفعه، ويحبط كل ما أتى به من الأعمال الخيرية. كذلك لا تنفع الصلاة من صلاها عمداً بغير وضوء، فشعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق المشروط بشرطه وقد لا يكون كذلك. هذا هو الميزان، وإذا أردت أن تحكم على شيء وصف الشرع فاعله بالكفر، مع وجود بعض شعب الإيمان فيه كالشهادتين مثلاً، فإذا ترك هذا الفعل هل ينفعه في الآخرة؟ A ينفعه إذا لم يكن هذا المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان واعتبارها، لكن إذا كان المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان فلا ينفعه ذلك ويكون مستوياً بالكافر الأصلي. الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى بين أن تارك الصلاة يعد خارجاً من الملة، وأن كفره كفراً أكبر، وهذا البحث إن شاء الله سنذكره بالتفصيل، وعلى أي الأحوال نهمس دائماً في أذن من يترك الصلاة: هل تقبل أن يكون إيمانك وإسلامك وانتسابك إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى هذا النبي وهذا الدين محل خلاف؟! عالم يقول: أنت كافر كفراً أكبر مثل فرعون وأبي لهب والمشركين واليهود والنصارى، وتستحق القتل، وإذا مت لا تكفن ولا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن مع المسلمين ولا ترث ولا تورث؛ لأنك كافر تماماً مثل أي كافر أصلي، والبعض الآخر من العلماء يقولون: لا، بل هو مسلم عاص فاسق أشد شراً من السارق والزاني والقاتل والمرابي وفاعل هذه الكبائر العظمى، فكل العلماء متفقون على أن تارك الصلاة أشد وزراً من هؤلاء أجمعين، وتطبيقاً لقاعدة الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال: فيبقى النظر في الصلاة: هل هي شرط لصحة الإيمان؟ وهذا هو سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة، فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، وإن أتى بها صورة. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع)، وفي قوله: (إن أول ما ينظر في أعماله الصلاة، فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من أعماله بعد). فهذا باختصار تطبيق الحافظ ابن القيم لقاعدته الأخيرة، فهو يذهب إلى أن الصلاة شرط في اعتبار باقي الأعمال، واستدل بهذا الحديث: (فإن جازت له الصلاة نظر في سائر أعماله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من أعماله بعد)، فبهذا الحديث استدل بأن الصلاة شرط فيما عداها من الأعمال مثل شعبة الشهادتين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [4]

الإيمان والكفر [4] عندما يتخلى الناس عن علمائهم الربانيين، ويبدءون في الأخذ من الكتب دون الرجوع إلى أهل العلم المتخصصين، تبدأ نقطة التخبط الأولى، فتفسر النصوص حسب الهوى، ويأخذ كل فريق منها ما يراه على ما يريد، فتكون النتيجة الحتمية التطرف إلى أقصى اليمين أو الشمال، وعلى هذا نشأت كل الفرق الضالة، ومنها فرقة الخوارج الذين امتد فكرهم إلى عصرنا وإن اختلفت التعبيرات والأسماء.

نشوء ظاهرة التكفير وأفكارها

نشوء ظاهرة التكفير وأفكارها الكلام في قضايا الكفر والإيمان ينقسم إلى شقين: الأول: يتناول أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة في قضايا الكفر والإيمان، وغالباً ما ينص علماء التوحيد -سواء في القديم أو الحديث- في مؤلفاتهم على قضايا كثيرة ويركزون على قضايا معينة، وبالذات القضايا التي خالف فيها أهل البدع أهل السنة والجماعة، فلذلك تجدهم ينصون في عقائدهم على ما يدحض بدعة المرجئة والخوارج والمعتزلة في قضايا الكفر والإيمان. أما الشق الثاني: وهو ما يتعلق بقضايا الكفر والإيمان فهو يتعلق إلى حد كبير بالجانب التاريخي؛ فمن المهم جداً أن نلم بتاريخ الاتجاهات التكفيرية لأهل التوحيد أو أهل القبلة؛ لأن هذا له أنواع كثيرة جداً خاصة إذا لاحظنا أن كثيراً من البدع التي عادت من جديد هي عبارة عن تكرار وطبع لما نشأ في القرون البعيدة، وتصدى لها أهل الإسلام وأهل التوحيد بالرد والدحض والتفنيد. بل ربما يفاجأ الكثير من الناس الذين ساروا وراء هذه الجماعات الخارجية أو المعتزلية إذا علموا أن نفس هذه المعتقدات التي هم عليها هي ما تصدى له علماء أهل السنة والجماعة من قبل، وشددوا النكير على أهلها. هذا أمر. أما الأمر الآخر فهو: أننا حينما نناقش ظاهرة التكفير وتاريخ التيار التكفيري في العصر الحديث، فإننا لا ننكر أن لمصر دوراً رائداً في تصدير الخير والفساد إلى العالم الإسلامي شرقه وغربه. وقد كان شكري مصطفى -إمام الخوارج الجدد- له اتجاه جديد في بعض الأمور، حيث ابتدع تفسيراً لكلمة (أم القرى)، فكان هذا من التفسيرات المحدثة المبتدعة التي اخترعها؛ وذلك أنه فسر (أم القرى) لا بأنها مكة -وهذا الذي عليه عامة المفسرين في القديم والحديث- وإنما قال: إن أم القرى هي أعظم مركز للتأثير الثقافي أو العلمي في محيط العالم الإسلامي، أو العالم ككل، فقال: إن أم القرى فيما سبق مكة، أما أم القرى في هذا الزمان فهي مصر! ونقول: لا يصح أبداً أن تحرف معاني القرآن، فأم القرى هي مكة قطعاً بنص القرآن. لكن هذا الكلام في حد ذاته يعكس فعلاً الواقع، ومصر كثيراً ما صدرت الخير وأيضاً بجانبه الشر إلى بلاد المسلمين وبالذات في العصور المتقدمة، ولو أردنا الكلام في هذا لطال الكلام جداً، وأول ما نشير إلى ذلك أن كثيراً من الحروب التي وقعت مع أعداء الإسلام كانت مصر تتصدى دائماً لكثير من هذه الحملات على الإسلام وبالذات الحملات الصليبية والفاطمية وغير ذلك، بل مصر لم تقم بتأييد الدعوة الوهابية السلفية في الجزيرة العربية، بل قامت بدور سلبي في تحطيمها، فكان لها أيضاً دور سيئ في قهقرة هذه الدعوة إلى حين. وجذور هذه البدعة جاءت من مصر كما انتشرت إلى جميع العالم بما في ذلك أفغانستان وحتى أوروبا وأمريكا، وهذه البدع صُدرت من مصر كما صدرت مصر الفنانين والراقصين والخبثاء إلى شرق الأرض وغربها. أيضاً بدعة التكفير هذه نشأت في مصر وترعرعت، ونحن كما ندرس الجذور التكفيرية ابتداءً من الشيعة أو الخوارج وغيرهم، أيضاً نحتاج إلى الاطلاع على الظروف التي نشأت فيها بدعة التكفير هنا في مصر، فما من شك أن هذا التطرف إنما نشأ كرد فعل لأوضاع معينة، وربما لم ينضبط الذين انفعلوا بهذه الأحداث بالقاعدة القرآنية العظيمة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. فكان يقع أحياناً ظلم، وعوامل أخرى كثيرة أدت إلى رد فعل أن بعض الناس ما استطاعوا أن يعبروا عن شعورهم بالقهر والظلم إلا باختراع أو ترديد صدى صوت الكثير من البدع القديمة كوسيلة للتنفيس عما يرونه من ظلم واضطراب.

أسباب ظاهرة التكفير ومبرراتها

أسباب ظاهرة التكفير ومبرراتها أحتاج للحديث عن موضوع التكفير إلى أن أستعير مقدمة للدكتور: نعمان عبد الرزاق السامرائي الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كتابه: (التكفير جذوره وأسبابه ومبرراته)، وهذه المقدمة تعبر عما يدور في نفس الإنسان حينما يواجه عقيدة أو ظاهرة التكفير، والعوامل التي أدت إلى ظهورها من جديد، وطبيعة الناس الذين قامت على ظهورهم هذه الدعوة. يقول الدكتور: أتيحت لي فرصة زيارة مصر حيث سجلت طالباً بالدكتوراه في جامعة القاهرة، فكنت أسافر في كل إجازة خلاصة الكلام: أنه احتك بكثير من الشباب في تلك الفترة هنا في مصر، ويقول: إن هذه الأفكار الخارجية -أفكار التكفير- ولدت في بطون الكتب، وقل من كان يبحث أو يفتش عنها، ولكن جاء اليوم من ينفض عنها الغبار، ويحاول أن يعيد إليها الحياة، وفي كثير من الأحيان -كما يبدو لي- لم يكن الطارحون الجدد الذين طرحوا هذه الأفكار على علم مسبق، ولكنه لون غريب من التوافق في التفكير أدى إلى عين النتائج. حصل توافق في التفكير والمنهج بينهم وبين فرق أخرى لم يكونوا هم على علم بها، ولذلك لم يستنكفوا -مثلاً- أن يتبعوا منهج المعتزلة أو الخوارج الأول وأن يشعروا بذلك. يقول: كما يمكن أن يكون البعض قد درس هذه الفرق وتأثر بمعتقداتها، وبما توصلت إليه من أفكار، وما استشهدت به من حجج.

جذور فكرة التكفير

جذور فكرة التكفير يقول: والملاحظ لتاريخنا يجد قضية التكفير أو الردة قد طرحت بعمق وبقوة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين ارتد العرب لجملة أسباب، ثم استطاعت الدولة الإسلامية ردهم إلى الإسلام, وتجلوا بحرب أهلية طاحنة، وبعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهم قامت فرق عدة مثل: الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة؛ فناقشت فيما ناقشت قضية مرتكب الكبيرة، وهل هو مسلم أم كافر، فطرحت قضية التكفير طرحاً فكرياً، وحاولت كل فرقة أن تسهم في هذا النقاش، وتستدل بالنصوص على ما ذهبت إليه، ثم نسيت القضية أو كادت، واستودعت في بطون الكتب، ومرت قافلة أهل السنة والجماعة في طريقها، ونبذت وتناست وتجاهلت هؤلاء المنحرفين؛ حتى طرحت مجدداً في الستينيات من القرن العشرين، وكان لابد للطرح الجديد أن يعتمد على النصوص، وأن يدخل قضايا جديدة ويناقشها، ويصدر أحكاماً حولها. وقضية التكفير تكتنف الكثير من المحاذير، ولها أضرار كثيرة، وإثارتها باستمرار على عموم الناس الذين ليس لهم رصيد كافٍ من العلم الشرعي ربما أوقع كثرة الكلام فيها إلى تهوين أمور المعاصي في عيونهم؛ نظراً لكثرة الكلام على العذر بالجهل، وأن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، وهكذا، فنقع في نفس المحذور الذي حذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبر معاذ بن جبل رضي الله عنه، وما منعه من أن يخبر الناس من قبل إلا خشية الإثم، وهو قوله: (من مات وكان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: أفلا أبشر بها الناس؟ قال: إذاً يتكلوا)، فكثرة الكلام أمام الناس الذين لا تطيق عقولهم ضبط هذه القضايا قد يوقعهم في هذا الاتكال، ويقعون فريسة لتغيير الشيطان، حتى إن بعض الناس ربما ظن أن الجهل شيء يعذر به، مما يدفعه إلى أن يتمادى فيه حتى لا تقوم عليه الحجة، فينبغي الحذر وأن نرفع تلك القاعدة التي أرساها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فيراعي الإنسان طبيعة الذين يخاطبهم في هذه القضية، لما يكتنفها من الكثير من الشبهات.

أهمية بيان خطأ التكفير

أهمية بيان خطأ التكفير ولذلك يقول الدكتور السامرائي: ويبقى سؤال هام: لمن أكتب هذا الكتاب؟ ربما إن كان الكلام يحمل بعض الحق قد يتفق عرضاً مع المصالح التي يقصدها من وراء هذا الكلام مع هوى من لا يريدون بالدعوة الإسلامية خيراً، فدرأً لهذه الشبهة يقول: يبقى سؤال هام: لمن أكتب هذا الكتاب، هل أكتبه للشباب المتحمس عسى أن يراجع نفسه، ويصوب بعض مقولاته؟ وجوابه: نعم، أطمع بذلك، وأرجو ألا أكون متهماً في نظرهم فيسقط الكتاب قبل قراءته. هل أكتب للشباب المؤمن طلائع الصحوة الإسلامية المباركة حتى لا يسقطوا في التكفير؟ يقول: نعم، أكتب لهم، وأملي أن يقرءوا كلامي بعقل واعٍ لا يقبل قضية إلا محملة بدليلها من كتاب أو سنة، وأقوال الأئمة المعتبرين لدى الأمة، وأن يرفضوا كل قضية لا ينهض دليلها مهما كانت وجيهة، أو صادرة من وجيه كبير، ثم يقول: هل أكتب للحكومات المنحرفة -وما أكثرها في عالم اليوم- لكي تستعمل كتابي هذا حجة ضد الشباب المؤمن المتحمس؟ أذكر هذا وأبرأ إلى الله منه. هل أكتب هذا ليطلع عليه بعض علماء المخابرات ليستخدموه حسب هواهم، ووسيلة لكسب السحت من حكام فقدوا جميع القيم، وقادوا أمتهم إلى الذل والهوان من أجل الحفاظ على مناصبهم، والبقاء أطول مدة في الحكم؟ أعوذ بالله من ذلك، وأرجو ألا يقع في أي شبر من هذه الأرض، فعلماء السوء إذا ما أرادوا تسخير علمهم لخدمة السلطة وصاحبها فعندهم الكثير -يعني: يأخذوا من غير كتابي هذا ما يريدونه- وأرجو ألا يستعينوا بجهودي المتواضعة. إذاً: بكل وضوح أنا أوجه كلامي إلى الشباب؛ من سقط منهم في التكفير ومن لم يسقط.

أهمية تسخير الجهود للحد من التكفير اللامسئول

أهمية تسخير الجهود للحد من التكفير اللامسئول يقول: يبقى سؤال هام: هل مثل هذا الجهد يكفي وحده؟ أجيب صراحة: لا؛ لأن الكثير من الحكومات التي تحكم شعوباً مسلمة تضغط عليهم ضغطاً لا يمكن حصوله إلا من عدو، أو من حاكم متواطئ مع العدو، أو عامل بنصائح الأعداء، فهذه السجون التي تغط بالشباب المسلم، وهذه المقاتل بالسر والعلن التي تنصب للشباب المسلم كلها ستدفعه ليكفر هؤلاء الحكام. يقول: وهل سمع أحد بوزير داخلية في دولة تحترم نفسها يصرح بأن قوانين الطوارئ لا تنفذ إلا على الجماعات الإسلامية، ثم لا يكون من بين ردود الفعل تكفير مثل هذا الحاكم أو ذاك. يقول: لكن هذا التعسف باستعمال السلطة ضد الشباب المسلم، والذي يصفق له العالم بشرقه وغربه، لا يعفينا من مسئولية بيان الحق من الباطل والصواب من الخطأ، فإن كانت الحكومات جادة في محاربة التطرف -كما تسميه- فلتكف هي عن السماع للشيطان، فإنه لا ينصح إلا بإعدام هذا الشباب؛ لأنه يعاديه حتى الموت، لا لأنه متطرف، بل لأنه مسلم، فالحقيقة جريمة هؤلاء الشباب أنهم يعادون لأنهم متدينون، ولأنهم مسلمون، ثم يغطي القوم هذه الحرب بتلك التسمية الخبيثة: متطرف. يقول: والمسلم الملتزم صار أكثر خطورة من غيره في نظرهم. ثم ذكر بداية التقائه ببعض العائدين من هؤلاء الشباب الذين قابلهم في القاهرة في السبعينات التي حضر فيها رسالة الدكتوراه، يقول: التقيت بعض الشباب الذين قد كانوا خرجوا من السجن، وشعرت بأن ثمة تركيزاً كبيراً على قضية التكفير، فلما علموا أن موضوع البحث الذي كان يعده كرسالة هو موضوع الردة أو ظاهرة الردة دهش الشباب، وعلق بعضهم قائلاً: هل أنت من هواة الفقه أم من المحترفين؟! ثم قال له: حالك وهيأتك توحيان بأنك مجرد هاوٍ على أي الأحوال، هو يشير أيضاً إلى فكر جديد طرأ في الساحة الإسلامية في ذلك الوقت: أن الإنسان حتى يوصف بأنه رجل شريف موثوق به لابد أولاً أن يكون قد دخل السجن، وإن لم يكن سجن فهو متهم ومشكوك في نيته. يقول: يكفي في البلاد العربية أن يسجن الإنسان لغير جريرة حتى تحكم عليه بأنه شريف، وعلى حد قول أحد الأساتذة المصريين: لقد جمع الحكم العلي الظالم كل الشرفاء، وأودعهم السجون، ومن بقي فلا شرف له، يقول هذا الأستاذ: وأنا منهم. يعني: أن من لم يسجن يصير متهماً بغير ذلك.

لقاء مع شباب من جماعة التكفير

لقاء مع شباب من جماعة التكفير يقول: استقبلت هؤلاء الشباب بعضهم من الطب وأحدهم من معهد التمثيل، وثالث في كلية العلوم، وكان كل نقاشهم وحديثهم عن الردة، وهال الدكتور نعمان اندفاع الشباب الشديد نحو قضية التكفير، حتى كونوا أحكاماً عجيبة وفقهاً لا مثيل له، قال: ودائماً يزخرفون كلامهم بما يسمعونه عن إهدار كرامة الإنسان، وما يلقاه من عنت وبالذات المسلمين. ويقول: صرت حينئذٍ أقدر دوافعهم، وكلما ذكرت لهم ذلك استراحت نفوسهم وأشرقت وجوههم، ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه، فالمحاضن الأولى التي نشأ فيها فكر التكفير هي زنازين السجون، والمعاملة التي لقيها هؤلاء الشباب، فكان رد الفعل المقابل أن تصرفوا هم أيضاً في استنباط هذا الفكر الجديد الذي كان صدى لصوت الخوارج والمعتزلة، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا. يقول الدكتور نعمان: ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه، وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً. يعني: استقلالهم بفهم الآيات والأحاديث، واسبتدادهم بتفسيرها بمعزل عن علماء الأمة من أهل السنة والجماعة، فأدى إلى أنهم قالوا نفس كلام الخوارج، حتى كان شكري مصطفى يقول: إن الرجل لو أصر على صغيرة فإنه يكفر كفراً يخرجه من الملة، ولو مات على ذلك فهو كافر مثل فرعون وأبي لهب. إلى مقولات كثيرة جداً وغريبة جاءت نتيجة هذه الأشياء، وكان بعضهم يستدل -مثلاً- بالخلود في النار لمن أصر على المعصية، ويقولون: قال الله تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ويستدل بعضهم بهذه الآية التي وردت في وعيد قاتل المؤمن عمداً، فهكذا يأتون ببعض النصوص فيفسرونها بمعزل عن فهم أهل العلم والمتأهلين لتفسير القرآن والسنة، فنتجت هذه الغرائب. يقول: وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً، لقد قاله الخوارج كلهم، وقال ببعضه المعتزلة، فدهش الشباب ونظر بعضهم إلى بعض، فكررت ذلك عليهم، فرد أحدهم: مستحيل! فهذه الأحكام وليدة الزنزانات، والفقه البعيد عن أي كتاب؛ إذ لم يكن مع الجميع كتاب واحد، أي: أنهم لما أنتجوا هذا الفكر لم يكن معهم أي كتاب، بل ما ولدت هذه الأفكار إلا في داخل الزنازين. حتى المصاحف كانت تصادر منهم، وما توصل إليه الشباب فهو اجتهاد يقوم على ما يفقهون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال: وأردت تطييب خواطرهم فقلت: حالكم ليس فريداً في تاريخنا. أي أنه: أراد أن يلاطف هؤلاء الشباب ويواسيهم فيما كانوا عليه من الوحدة في الزنازين التي أدت إلى ردة هذا الفعل، ومع ذلك أيضاً لا يمنعه هذا من أن يقول لهم: حالكم ليس فريداً في تاريخنا، فهذا الإمام السرخسي الحنفي أملى مبسوطه في عشرين جزءاً وهو مسجون؛ لأن السرخسي سجن في سجن أوزجد في فرغانة، سجنه أميرها حين قبض عليه، فسجن في داخل البئر، وهذه طريقة غريبة للسجن، فكان تلامذته يأتون ويجلسون على قف البئر، وقف البئر هو: السور من الطوب يكون على بئر مثل السور لأعلى البئر، فكان التلامذة يأتون يجلسون على قف البئر والإمام السرخسي مسجون في ظلمة الجب، فكان يملي عليهم هذا الكتاب من ذاكرته رحمه الله. وكتاب المبسوط معروف أنه من أكبر كتب الفقه الحنفي وأقدمها، وهو في ثلاثين جزءاً بالقطع الكبير أملاه من ذاكرته على تلامذته وهو في السجن. والإمام أحمد في محنته كان يجلد بالسياط؛ لأنه يمتنع عن القول بخلق القرآن، والطلبة في الخارج كانوا يمسكون بأقلامهم ومحابرهم عساهم يسمعون شيئاً من الرجل الممتحن ليسجلوه. والإمام مالك جلد جلداً شديداً لفتوى أفتاها لم تعجب الحاكم الظالم. ثم قلت: أنتم من هذه الأمة وعلى طريقها، ولو حدتم لحزتم الكثير من متاع الدنيا، ولكن ما تذكرون تجدونه لدى الشهرستاني في الملل والنحل. يعني: مع ما أنتم عليه من الابتلاء بسبب الدين وما تقولونه من أفكار، إن أردتم توثيقها ورجعتم إلى كتب الفرق والملل والنحل ستجدون نفس هذه الأفكار مدرجة في قوائم أهل البدع والضلال كالخوارج وغيرهم، سواء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني، أو الإمام البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، والأشعري في مقالات الإسلاميين. يقول: وأقول لكم بحدود ما أعلم: ليس هناك جديد فيما تذكرون، فدهش الشباب دهشة كبيرة، واعترف بعضهم بأنه لم يسمع بهذه الكتب، وقال بعضهم: إنه سمع بها، ولكنه لم يرها، قلت: يا شباب! إذا كنا لم نطلع أو نقرأ فلنسمع إلى العلماء وهم في مصر كثر، ونظر بعضهم إلى بعض، وكأني قلت منكراً من القول وزوراً! أي: كيف يقول: إن مصر فيها علماء؟! وقال أحدهم: أنت غريب وحسن الظن، ما تراه هنا هم تجار يبيعون دينهم وعلمهم للحاكم الكافر عوض دراهم معدودة، وتملقاً بلا ثمن في أحوال كثيرة، ثم راحوا يذكرون قضايا تخزي أمة بكاملها، ويستحي منها الفجار، ولا يقدم عليها إنسان فيه وزن بعوضة من دين، قال أحدهم بحسرة: كانوا يأتون ببعض هؤلاء التجار وكانوا يناقشوننا في بدهيات يعرفها الطلبة في المدارس الابتدائية، ويدافعون عن تصرفات الحاكم بما لا يفعل مثله الحاكم أو زبانيته من الشرطة والجلادين. فانظر إلى الفتنة والظروف التي كان هؤلاء الشباب يعيشون فيها؛ فأنتجت رد الفعل هذا وعدم الثقة في بعض الشيوخ، يقول: إن بعض هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يأتون بهم ليناظروهم ويقنعوهم وأيديهم مقيدة بالأغلال والسيوف على رقابهم، ويأتي هؤلاء الشيوخ ليناظروهم وليقنعوهم وليقيموا الحجة عليهم. يقول: كان بعض هؤلاء المحاضرين يقول لهم: إنه تفاهم مع المسئولين عن التعذيب لتخفيف ذلك على من يستجيب ويترك التشدد والانحراف، فإذا قام له بعض الشباب وقالوا: ليس هناك تشدد ولا انحراف، وإن الأمة وأصحاب المذاهب جميعاً يقولون بأن من أحل الحرام أو حرم الحلال فقد كفر، قهقه الشيخ وقال بسخرية: لا ترجع لهذه المذاهب وخذ عني، فأنا متخصص بمقارنة الأديان، فرد عليه الشباب قائلين: الإسلام ليس فيه بابا ولا قسس يفسرونه للناس، وقرأ عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وفصل الكلام في قضية التشريع، وأن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، فكان يرد الشيخ عليهم كلما يستدلون بهذه الآية، يقول له: يا بني! هذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام. يقول: فنقول له بأن الإمام البخاري رحمه الله ذكر في دعاء الصلاة الدعاء المعروف: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، هذا الدعاء يردده كل مسلم، وبعض العلماء يقولون: تقول: وأنا من المسلمين، والبعض يقول: بل تقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). فرد عليهم ذلك الشيخ بقوله: إني قرآني، والبخاري صواب لكن القرآن حق، والحق مقدم على الصواب. وخلاصة الكلام: أنه أنكر الأحاديث، وقال: إنه لا يعترف بالسنة مطلقاً، وإنما يعترف بالقرآن. على أي الأحوال هو يذكر بعض القصص، إلى أن ينتهي إلى قوله: قلت: وأين أنتم عمن تثقون به من العلماء؟ قال الشباب بحسرة: العلماء الذين نثق بهم ليس بمقدورنا الاتصال بهم ومناقشتهم كما نريد، فحكى لهم حكاية عن صديق له أستاذ في الجامعة تقدمت به السن، وكانوا يلحون عليه في الزواج، وكان كلما عاتبوه في عدم زواجه مع تقدم سنه يقول: إن شاء الله. يقول: ومرة انفردت به وقلت له: ماذا تنتظر؟ لماذا لا تتزوج؟ فقال: يا فلان! أنا في حيرة، فمن أريدها زوجة وأرضاها وأتمناها لا ترضى بي، ومن ترضى بي وتريدني لا أرغب بها ولا أرضاها زوجة، وهذه مشكلتي، ضحك الشباب، يقول: وقليلاً ما يضحكون، وقالوا: هذه هي مشكلتنا، فمن تأتي بهم الحكومة لمناقشتنا كلهم من جواسيس الظالم وأعوانه، وعلمهم من علم إبليس فلا نثق بهم، يقولون: حتى لو كان ما يقولونه حقاً، ومن نثق به وبعلمه لا نصل إليه، وهذه مشكلتنا. وهنا يدخل الشيخ في نقطة مهمة جداً ويقول: الذي أخشاه: أن فقد الثقة بالعلماء سيحملكم على أحد الأمرين، أو على الأمرين معاً: الاجتهاد من غير استعداد كافٍ ومعرفة تؤهل لذلك، أو العودة للكتب والأخذ عنها دون الاستعانة بأحد، وفي الاثنين من المخاطر ما فيهما! وقال أحد الشباب: لقد وقعنا في الاثنين معاً، ففي السجن الاجتهاد، والذي يخرج من السجن يقرأ الكتب، وبعضنا لم يدرس اللغة العربية إلا في المدارس الرسمية، والذين درسوا في القسم العلمي لا يذكرون من العربية وقواعدها وآدابها شيئاً، وهم داخل السجون يفتون، وكل اعتمادهم على القرآن والسنة. وهذا الكلام أنا لا أقصد به التشجيع، لكن لننظر الظروف التي نشأ فيها هذا النوع من الفكر، حتى إني أعرف بعض الإخوة من الشباب حديثي السن كان يلقب في داخل السجن بالإمام الفلاني.

الجذور التاريخية لفكر التكفير

الجذور التاريخية لفكر التكفير ثم تطرق الشيخ إلى بحث مهم جداً يتعلق بالجذور التاريخية لفكر التكفير، وبدأ بظاهرة التكفير عند الشيعة، يقول: ينبغي أولاً استعراض الفترة من مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما لحق بذلك من اقتتال المسلمين في حروب الجمل وصفين والنهروان. يعني: وقع ما يمكن أن يسمى بالحروب الأهلية بين المسلمين، وكان من البداهة أن يثور الجدل والنقاش حول من يكون الحق معه، ومن هو على غير الحق، لماذا يقف هؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف آخر، بينما يقف آخرون على الحياد؟ يقول الشيخ المودودي رحمه الله: نتيجة لهذه الأسئلة ولدت بعض النظريات المستقلة بذاتها، كانت في أصلها نظريات سياسية خالصة، ثم ما لبث دعاتها أن اضطروا شيئاً فشيئاً لأن يرتبوا لها بعض الأسس الدينية، كي يقووا جانبهم ويحصنوا موقفهم، فتبدلت الفرق السياسية رويداً رويداً إلى فرق مذهبية، وما حصل في البداية من قتل وسفك دماء، واستمر بعد ذلك في عهد بني أمية وبني العباس فلم تبق القضية قاصرة على مجالات العقيدة إلخ. ومعروف قضية الاختلاف حول الخلافة. وحصل تطور في عقيدة الشيعة عن طريق عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء أدى إلى تبلور المذهب الشيعي في صور عقائدية محددة كانت تخرج بأصحابها عن أصول الدين، وأصول العقيدة، ومعروف قصة الوصي، وحينما ادعى ابن سبأ أن لكل نبي وصياً، وأن وصي النبي عليه الصلاة والسلام هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحينما وضع مصطلح الإمامة بدل مصطلح الخلافة، واعتقدوا في الأئمة أنهم يكونون كذا، وأنهم لا ينسون، ولا يخطئون، وكل ما يصدر عنهم فهو حق وصواب، وأن علياً هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة واجبة على الله -تعالى الله عن ذلك- وليست واجبة على الأمة، وحصروا الأئمة في الإثني عشر المعروفين، وأن الإمامة تكون بالنص وليست بالاختيار، وهكذا تفرقت طوائف الشيعة وتعددت، وحصل انحراف شديد جداً، حتى إن بعض هؤلاء الفرق الضالة من الشيعة زعموا بأن علياً هو الله، وزعموا أنه الإله، وأنه حي ويسكن القمر. فحصل تكفير من طوائف الشيعة الأخرى لأمثال هؤلاء، هذه نظرة على أحد عوامل التكفير الأولى التي حصلت بتحول الخلافات السياسية إلى خلافات عقائدية، فبرزت أول ظاهرة في فرقة الشيعة وما لديهم من أفكار. أما الخوارج فهم يأتون بعد الشيعة في هذه المسألة، وكانوا في البداية من أتباع وأنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا يقاتلون تحت رايته ويؤيدونه، ثم في حرب صفين لما طلب معاوية رضي الله عنه إيقاف القتال واللجوء إلى التحكيم لتصفية هذا النزاع، كان رأي علي رضي الله عنه استمرار القتال، ولكن جيشه رفض وطالب بقبول التحكيم، فاضطر لذلك، فلما خرج التحكيم خرج عليه طائفة من أتباعه رفضوا هذا التحكيم، ورفعوا هذا الشعار: لا حكم إلا لله، ففهموا أن تحكيم الرجال انحراف في قضية الحاكمية، فمن حَكَّم غير الله فقد كفر بالله، فكان رد علي بن أبي طالب عليهم بالكلمة المشهورة: (كلمة حق أريد بها باطل)، ثم بعث لهم عبد الله بن عباس لمناقشتهم وإقامة الحجة عليهم، فرجع الكثير منهم عن آرائهم، ولكن بقيت جموع منهم كبيرة مصرة على التكفير. ثم انقسمت الخوارج أيضاً إلى فرق متعددة: إذ إن من خواص أهل البدع حصول هذا الانشقاق الداخلي الذي يجعل الفرقة الواحدة فرقاً شتى. أما خلاصة نظريات الخوارج فتتلخص في أنهم يقولون بصحة خلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقالوا: إنه انحرف -والعياذ بالله- في آخر خلافته عن العدل والحق، فكان يستحق القتل أو العزل، وإن علياً رضي الله عنه ارتكب كبيرة بتحكيمه غير الله، وإن الحكمين: عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري ومن نصبهما من جميع أصحاب علي ومعاوية كلهم مذنبون، وأيضاً الذين اشتركوا في حرب الجمل جميعاً ارتكبوا ذنباً عظيماً، والذنب والمعصية عندهم تعني الكفر! فيكفرون كل مرتكب كبيرة ما لم يتب منها، ولذلك كفروا كل هؤلاء الصحابة الذين سبق سرد أسمائهم، بل لم يتورعوا عن لعنهم وسبهم، على أنهم كفروا عامة المسلمين أيضاً؛ لأنهم لم يستغفروا من الذنوب، فكفروا عامة المسلمين أيضاً بهذا؛ لأن عامة المسلمين يعتبرون الصحابة رضي الله عنهم ليسوا مؤمنين فحسب، بل يتخذونهم أئمة لهم، ويثبتون الأحكام الشرعية بالأحاديث التي تؤثر عن طريقهم. أيضاً قالوا: إن الخلافة لا تنعقد إلا بالانتخاب الحر بين المسلمين وليست عن طريق آخر، وكانوا ينكرون ضرورة أن يكون الخليفة قرشياً، ويوجبون قتال الخليفة أو عزله أو قتله إذا حاد عن طريق العدل والصلاح، وكانوا يقبلون القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي. أما السنة والإجماع فلهم فيها سبيل مختلف وشاذ عن سبيل عامة المسلمين، هذا هو السبب في موقف الخوارج من جمهور الصحابة الذين نقلوا السنة والإجماع. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فقال هؤلاء الخوارج: من مات إما مؤمناً أو كافراً، المؤمن هو من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم أيضاً كذلك، فقالوا: إن عثمان وعلياً ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله، ظلموا وصاروا كفاراً، ومذهب هؤلاء باطل كما سيأتي -إن شاء الله- إثبات بطلانه بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة. وافترقت الخوارج أيضاً وتشعبت إلى فرق شتى، وأهم خصائص هذه الفرق المنشطرة: أنهم يكفر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، ويستحل بعضهم حرمات بعض، وقد انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة من أشدها المحكمة والأزارقة، ومن أقلها تعصباً الإباضية، وهم منتشرون حتى الآن في بعض البلاد العربية، ولهم السطوة في عمان، وعمان أصلاً دولة خارجية يغلب عليها مذهب الخوارج، وربما يوجدون أيضاً في الصحراء الإفريقية، أو ليبيا وبلاد المغرب العربي، ومع ذلك فهم يقولون بكفر كافة المسلمين، ويقولون: هم غير مشركين، وبالتالي يقبلون شهادتهم ويتزوجون منهم ويتوارثونهم. وهناك فرقة من فرق الخوارج تسمى: النجدات العامرية، وصلت إلى ما نسميه اليوم بالفوضوية، فقالت: إن قيام دولة الخلافة غير ضروري إطلاقاً، وبإمكان المسلمين أن يعملوا بشكل جماعي متبعين الحق، ولكن يجوز انتخاب الخليفة إذا لزم ذلك. أيضاً مما يلفت النظر بالنسبة للخوارج: أن الخوارج كانوا على درجة كبيرة جداً من الاجتهاد في العبادة، بل وربما وصفوا بالإخلاص، ولهم في ذلك أخبار لا ينقضي منها العجب، من شدة قراءة القرآن والتعبد والتبتل والتورع الزائد عن الحد، حتى إن أحدهم كان يمر فمر به خنزير لرجل من أهل الكتاب فقتله، فقالوا له: أنت ظلمت هذا الرجل الذمي، وقاموا عليه قياماً شديداً ولم يسكتوا حتى عوضوا ذلك الرجل وأرضوه. وسقطت بلحة من النخل فالتقطها واحد منهم فأكلها، فثاروا عليه وقالوا: أكلتها بغير حقها، وأنكروا عليه حتى أخرجها، وهكذا كانوا يتورعون في أخف الأشياء، ثم هم على جانب كبير جداً من العبادة، ومع ذلك كانوا يتجاسرون ويجترئون على القدح في خيار الأمة، كما أشرنا من قبل إشارة عابرة إلى فرقة المعتزلة حين تكلمنا عن تاريخ الفرق، ثم بعد ذلك ظهرت فرقة الخوارج. فإذا كانت الشيعة تقف في أقصى اليمين تكفر من خالف علياً رضي الله عنه، أو غالبه أو نازعه، فقد وقع الخوارج في أقصى اليسار، فهم يكفرون علياً ومن حاربه، ثم ظهرت فرقة المرجئة -والإرجاء بمعنى التأخير- فلم يعجبها تصرف كلا الفريقين: الخوارج والشيعة، فمالت نحو الحياد التام، وقالت: نحن نؤجل الكلام فيهم، وأمرهم متروك إلى الله يفصل فيه يوم القيامة. ثم تطورت معاني الإرجاء إلى أن وصلت إلى مدرسة فكرية محددة، وأهم آرائهم: أن الإيمان هو الاعتراف بالله وبالرسول فحسب، وأن العمل ليس ضرورياً في الإيمان، وعلى هذا فالمرء يبقى مؤمناً حتى لو كان تاركاً للفرائض مرتكباً للكبائر، يعني: أن الفروق الأساسية بين أهل السنة والمرجئة: أنهم يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، وإن أهله لا يتفاضلون فيه، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. على أي الأحوال لم تستجب الأمة الإسلامية بأسرها لهذه الاتجاهات، وكان الجمهور الأعظم والسواد الأعظم من الأمة الإسلامية بعيداً كل البعد عن الانخراط وراء هذه الفرقة، بالذات في عهد الخلفاء الراشدين، وكان جمهور المسلمين في تلك العصور الأولى ينظرون إلى هذه النظريات على أنها فرق ضالة خارجة عن عقيدة أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية.

أسباب التكفير في العصر الحاضر

أسباب التكفير في العصر الحاضر أما عودة التكفير في عصرنا الحاضر، فكان له عدة أسباب: أولها: الاضطهاد السياسي. ثانيها: فقدان الثقة بالعلماء الرسميين. ثالثها: محاولة أخذ الأحكام من القرآن مباشرة دون معرفة كافية. رابعها: الخلط بين الكفر الأصغر، والكفر الأكبر، سواء كان كفر الاعتقاد أو كفر الأعمال. خامسها: التعلق بنصوص بعض المفكرين الإسلاميين وبالذات بـ سيد قطب والمودودي رحمهما الله، فقد كان لهما بعض عبارات فهمت بطريقة أو بأخرى أدت إلى تغذية هذه الأفكار منذ البداية. وهناك تفاصيل كثيرة عن الاضطهاد السياسي لا نطيل بذكرها، لكن لعلنا نوهنا بها منذ البداية أنها كانت أحد العوامل التي أثمرت رد الفعل على ذلك. أما فقدان الثقة بالعلماء الرسميين فقد أشرنا إليها إشارة عابرة، لكن نقف قليلاً عند محاولة أخذ الأحكام من القرآن مباشرة، فيمكن أخذ أحكام القرآن مباشرة إذا كانت صادرة عن القرون الأولى أو في عهد الصحابة، فهذا لابد أن يكون مقبولاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بفطرتهم السليمة، وبفهمهم للغة العربية، وبمعرفتهم بأسباب النزول، وبمعاشرتهم للوقائع التي نزلت فيها الآيات، وأسباب ورود الحديث الشريف كانوا يفهمون المقصود، فلذلك كان يمكن أن يأخذوا من القرآن مباشرة. أما بعد أن تطورت هذه القرون، ومرت هذه الأزمان، ووجد شباب لا حظ له لا من علوم اللغة، ولا من علوم القرآن، ولا من علوم السنة، ولا من أدوات النظر المباشر في القرآن الكريم تجاسر هؤلاء الشباب على أخذ هذه النصوص، بحيث أثمروا وأنتجوا هذا الفكر، وقد وقعت بعض حوادث قليلة من بعض الصحابة ربما يكونون أخطئوا في فهم بعض آيات القرآن، لكن سرعان ما كانوا يرجعون إلى الصواب في ذلك، مثال ذلك: ما وقع من عمثان بن مضعون رضي الله عنه حينما شرب الخمر في خلافة عمر رضي الله عنه، وقال: إن التقوى والصلاح تزيل أثر هذه الحرمة، واستشهد على فعله بقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، فأوضح له أمير المؤمنين خطأه في فهم هذه الآية، وتركه ليحاور بعض فقهاء الصحابة الذين ذكروا أن الآية نزلت بعد تحريم الخمر. وعلى أي الأحوال هذا نموذج معروف. وأيضاً: بعض الناس فهم من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، فقالوا: لا حاجة للسعي بين الصفا والمروة؛ لأن الآية فيها رفع الجناح، ورفع الجناح يعني: عدم الوجوب، فلما سمعت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ليس الأمر كما فهمت، ولكن بعض المسلمين كان يسعى في الجاهلية بين الصفا والمروة والأصنام هناك، فلما أسلم صار يتحرج أن يفعل كما كان يفعل من السعي، فأنزل الله هذه الآية لرفع هذا التحرج الذي وجد في صدورهم. ومما وقع فيه بعض الشباب من هذه النماذج في هذا الزمان: أن بعضهم يرى أن المسلم متى ارتكب معصية صغيرة أو كبيرة فيلزمه التوبة فوراً، وإلا صار كافراً، واستشهدوا بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17]، ولم يجمعوا هذا النص الحكيم بغيره من النصوص، وبالذات الآية التي تلي هذه الآية، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فقوله: (من قريب) يعني: عند حدوث الموت، فإذا أضفنا إلى ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه). تبين أن التوبة لها أجلان: أجل في حق عمر الدنيا، وأجل في حق عمر الإنسان، فلو أن رجلاً أذنب ذنباً، وأخطأ بأن سوَّف في التوبة، وعاش فترة بعد ذلك، فهل يعيش هذه الفترة كافراً بهذا الذنب؟ فاستدلالهم بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] استدلال فيه نظر، فأجل التوبة يكون إما بحضور الأجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وأما في عمر الدنيا فحين تطلع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة. فالشاهد: أن بعض الناس ربما بتروا نص القرآن عن جملة ما ورد من النصوص في ذلك، فينشأ عن ذلك هذا التحريف في المعاني. كذلك أيضاً استدلالهم بمثل قوله تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]. قالوا: ((سَيِّئَةً)) هنا تعم كل معصية، وقوله: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) إشارة إلى الإصرار عليها إلى أن يموت عليها. والرد على ذلك: أن هذه الآية نزلت في اليهود، فقوله: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً)) يعني: مثل سيئتكم أيها اليهود! وكفر مثل كفركم، أو شرك مثل شرككم، والسياق يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:78 - 79] ((وَقَالُوا)) أي: اليهود {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، يعني: الأيام المعدودة التي عبدوا فيها العجل، {قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80 - 81] فلا يقاس أبداً المسلم الذي ارتكب المعصية على المشرك، أو الذي ارتكب هذه السيئة الكبيرة التي فعلها اليهود. وكذلك استدلالهم بقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]. ومعلوم الخلاف في تفسير هذه الآية، والأقرب إلى منهج أهل السنة والجماعة والصحيح: أن قاتل المؤمن إذا تاب فإنه تقبل توبته، ولا يخلد في نار جهنم، وإنما المقصود بالخلود هنا طول المكث، والدليل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فأثبت لهم أخوة الإيمان مع وجود هذا الاقتتال، فدل على أنه لم يكفرهم بذلك. أيضاً: حصل بعض الانحراف لديهم، بحيث قرر بعض الناس مقولة: المنزلة بين المنزلتين، فيقولون: هذا الشخص لا نحكم عليه بأنه مسلم ولا نحكم عليه بأنه كافر، بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن لا يستعملون تعبير المعتزلة؛ لأنهم لم يكونوا قد وقفوا عليه، وإنما قالوا: نتوقف فيه. أيضاً تخبطهم في ضابط الحكم على الكفر بأنه أكبر أو أصغر، وأحد أسباب شيوع ظاهرة التكفير هو الخلط بين هذين النوعين من الكفر، فهناك كفر النعمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، فالكفر هنا بمعنى جحود وكفران النعمة وعدم شكرها. كذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حق النساء: (وتكفرن العشير، قالوا: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير: تحسن إلى إحداهن الدهر، فإذا رأت منك ما تكره قالت: ما رأيت منك خيراً قط). فسماها كافرة بمعنى: كفر النعمة أو الجحود بفضل الزوج عليها. أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر). ومع ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وقال بعدها: ((إنما المؤمنون إخوة))، فمع وجود الاقتتال أثبت لهم الإيمان، فدل على أن هذا الكفر لا يخرج من الملة. كذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من ادعي إلى غير أبيه فقد كفر). يعني: من انتسب إلى غير أبيه فقد كفر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر). وهناك خلاف في قضية ترك الصلاة، حيث أطلق عليها في الأحاديث أيضاً لفظ الكفر، والأحاديث بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل والكفر ترك الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وجمهور العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة يفهمون هذه الأحاديث في ضوء قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل، من جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد؛ إ

الإيمان والكفر [5]

الإيمان والكفر [5] الإيمان قول وعمل، فهو قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والأركان، وكل قول وعمل من الإيمان يقابله قول وعمل من الكفر والجحود والنكران، وذلك واضح من حديث جبريل عليه السلام، فقد قسم مراتب الدين إلى ثلاث: إسلام، ثم إيمان، ثم الإحسان، وللإيمان شروط صحة، وشروط كمال.

أسباب ظهور بدعة تكفير المسلمين في الوقت الحاضر

أسباب ظهور بدعة تكفير المسلمين في الوقت الحاضر لقد تكلمنا فيما سبق عن الجذور التاريخية لبدعة تكفير المسلمين، وتكلمنا عن تطور هذه التوجهات المنحرفة في قضية التكفير، ابتداء بالشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المرجئة، وتكلمنا أيضاً عن أسباب ظهور بدعة تكفير المسلمين في العصور الحاضرة، وذكرنا أن الظروف التي نشأت فيها هذه البدعة كانت ظروفاً خاصة، وكانت لأسباب منها: الاضطهاد السياسي الذي كان التكفير رد فعل مقابل له، ومنها: فقدان الثقة بعلماء السلطة، ومنها: محاولة جمع من الفتية أخذ الأحكام من القرآن مباشرة دون الرجوع إلى فهم أهل العلم لأدلة القرآن والسنة، وبسبب عدم تأهلهم ربما نظروا من خلال أطراف من النصوص مع إهمال البعض الآخر. ومن هذه الأسباب: الخلط بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر، أما آخر أسباب هذه الظاهرة فهي تعلق هؤلاء ببعض ما قاله الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله، والشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى؛ وذلك أن الشيخين صدر منهما في بعض المؤلفات عبارات فهمت خطأ، أو تكون هي نفسها إذا عرضت على ميزان عقيدة أهل السنة والجماعة يكون فيها بعض النظر، خاصة ما ورد في مقدمة سورة الأنعام في تفسير الظلال، وما جاء في كتاب (المصطلحات الأربعة) للشيخ: أبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، والقاعدة التي أرساها الإمام مالك رحمه الله تعالى؛ بل حكاها عنه الشافعي حينما حضر عليه في المسجد النبوي بالمدينة، كان يجلس الإمام مالك رحمه الله بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما ناقشه أحد في قضية خالف فيها الدليل، فكان الإمام مالك يمد يده ويقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويشير أو يضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فنناقش إن شاء الله تعالى بالتفصيل موقف المودودي وسيد قطب رحمهما الله في قضية الكفر والإيمان، وما هي المواضع المحددة المعينة التي أدت إلى تغذية فكر التكفير من خلال عبارات معينة صاغها الشيخان. يرى الشيخ المودودي في كتابه: (المصطلحات الأربعة) أن هناك فهماً للمصطلحات الأربعة التي هي: العبادة، والرب، والدين، والإله. هذا الفهم كان عند العرب موجوداً بحكم السليقة العربية، وفقههم لمعاني الكلام في اللغة؛ فلذلك كان أحدهم إذا نطق بكلمة التوحيد؛ فإنه كان يدرك تماماً ما يستتبعها من معان ولوازم، فإذا ما جاء بعد ذلك من ليس على نفس هذه السليقة العربية ونطق بكلمة التوحيد دون أن يحيط علماً بمعانيها ومرامها ولوازمها فهذا لم يدخل في الإسلام أصلاً. وهذا الكلام الغريب لم يعهد من قبل، ولم يصدر فيما نقل من كلام العلماء إلا فيما ذهب إليه العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في كتابه: (تطهير الاعتقاد عن أدران الكفر والإلحاد) فقد قال من قبل هذه المقولة، وأنكر عليه كثير من العلماء حين قال: إن من لم يحط علماً بلوازم هذه الكلمات: العبادة، والرب، والدين، والإله كما كان السلف أو كما كان الصدر الأول، بسبب علمهم باللغة العربية؛ فمن نطق بها ولم يعلمها كما علموها فهو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام أصلاً، ولا شك أن في هذا مصادمة صريحة لنصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تثبت الإسلام لمن نطق بالشهادتين. وردد الأستاذ سيد قطب رحمه الله في مواضع كثيرة عبارات المودودي رحمه الله؛ ونظراً لأن الاكتظاظ في الكلام في هذه المواضع قد يؤدي إلى سوء فهمها نرجئها إلى موضعها المناسب، ونتكلم فيها إن شاء الله بعد ذلك بالتفصيل.

أصول أهل السنة والجماعة في الإيمان والكفر

أصول أهل السنة والجماعة في الإيمان والكفر أما عن أصول أهل السنة والجماعة في قضية الإيمان فهي متعلقة بمعنى كلمة الإسلام والإيمان، وخلاصة الكلام في تعريف الدين أنه عبارة عن قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح. والقول بالقلب هو التصديق، وأن يوقن الإنسان بأحقية هذا الذي يؤمن به ويصدقه، وقول اللسان هو النطق بالشهادتين. أما عمل القلب فهو ما لا يؤدى إلا بالقلب كالنية، الإخلاص، الخوف، الرجاء، المحبة، الإنابة، الإخبات، التوكل، الانقياد، الإقبال على الله، ولوازم هذه الأعمال القلبية. أما عمل اللسان فهو ما لا يؤدى إلا باللسان من العبادات، كالذكر، وقراءة القرآن، والاستغفار، والتهليل، والحوقلة، والحلف، والنذر وهكذا. وعمل الجوارح فهو ما لا يؤدى إلا بالجوارح، كالصيام، والصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد وغير ذلك، فهذا هو جماع معنى الدين، قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح. أما الكفر فهو على أنواع أربعة مقابلة لأنواع الإيمان التي هي: قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، فإذا انتفى التصديق الذي هو قول القلب؛ فسوف يكون هذا هو النوع الأول من الكفر، وهو كفر الجهل والتكذيب؛ لأنه انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق. النوع الثاني: كفر الجحود، وهو كتم الحق مع العلم بصدقه، هذا نوع آخر من الكفر، فهو يعلم أن هذا حق؛ لكنه يكتمه، وهذا هو كفر الجحود: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. النوع الثالث: كفر العناد والاستكبار، فينفي في هذا الكفر عمل القلب والجوارح مع المعرفة للقلب والاعتراف باللسان، فهو يعرف أن هذا حق؛ لكن ينتفي عمل القلب من الانقياد والمحبة، والخوف والرجاء إلى آخر أعمال القلب، فينفي عمل القلب، وينتفي عن صاحبه عمل الجوارح مع وجود المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان أن هذا حق، هذا مثل كفر إبليس وأغلب اليهود لعنهم الله، ومثل كفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً، ويوضع السيف على رقبته ويقال له: إما أن تصلي أو تقتل فيختار القتل، فما من شك أن هذا لا يمكن أن يكون في قلبه تصديق؛ لأن الصلاة فرض من فروض الدين؛ ولأنه إذا وجد التصديق في القلب لوجد العمل، فإذا انتفى مع وجود هذه الحالة يخير بين القتل وبين الصلاة، فيختار القتل على الصلاة، فحصل هذا العناد منه بسبب غياب التصديق في قلبه. النوع الرابع: كفر النفاق، وفي هذا النوع ينتفي عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة، ففي النفاق تنقاد الجوارح الظاهرة؛ لأن المنافق يظهر شعائر الإسلام، يصلي ويصوم ويزكي ويفعل جميع الأفعال الظاهرة؛ لكن ينتفي عمل قلبه. إذاً: أنواع الكفر كل منها على حدة يخرج من الملة بالكلية، فإذا انضمت كلها ووجدت في شخص واحد فهي ظلمات بعضها فوق بعض وزيادة في الكفر، كفر الجهل والتكذيب، كفر الجحود، كفر العناد والاستكبار، كفر النفاق.

تعريف الإسلام والإيمان لغة واصطلاحا

تعريف الإسلام والإيمان لغة واصطلاحاً هناك تعريف لغوي للإسلام والإيمان لغوي وتعريف اصطلاحي. الإسلام في اللغة: الانقياد والإذعان. أما الإسلام في الشرع فيأتي على حالين: الأول: يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فحيثما أطلقت كلمة الإسلام ولم يقترن بها لفظ الإيمان، فحينئذٍ يراد به الدين كله، أصوله وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله. الثاني: إذا أطلق الإسلام مقترناً بالإيمان، أو مقترناً بالاعتقاد فينصرف فقط إلى الأعمال والأقوال الظاهرة. أما الإيمان لغة: فهو التصديق. أما الإيمان شرعاً: فيطلق أحياناً على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام؛ فيراد به هنا الدين كله، أو تأتي كلمة الإيمان وتطلق مقرونة بالإسلام، فهنا يفسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة. وبالتالي: ينطبق علينا القول المعروف: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. إذا اجتمعا في لفظ واحد، كما في حديث جبريل، فيكون الإسلام عبارة عن الأفعال الظاهرة، والإيمان عن الأشياء الباطنة، أما إذا أتت كلمة الإسلام مطلقة بدون ما تقرن بالإيمان، أو أتت كلمة الإيمان مطلقة بدون أن تقترن معها الإسلام، فبهذه الحالة كل منهما على حدة ينصرف إلى كل أمور الدين والظاهر والباطن والاعتقادات وغير ذلك، وكما أن الإيمان المقيد الذي يأتي مع الإسلام في لفظ واحد يكون تصديقاً بأمور مخصوصة، والإسلام يكون إظهار أعمال مخصوصة، كما أن العالم لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد؛ فكذلك المعتقد لا يكون مؤمناً كاملاً إلا إذا عمل، وسيأتي إن شاء الله ذكر التفصيل في ذلك.

أركان الإسلام والإيمان

أركان الإسلام والإيمان

تفنيد مذهب المنحرفين في تعريف الإيمان

تفنيد مذهب المنحرفين في تعريف الإيمان يقول بعضهم الإيمان هو مجرد التصديق فقط بما عند الله. وهذا الذي قاله ابن الراوندي، ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم. أما الجهم بن صفوان فزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط. والمرجئة والكرامية قالوا: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، وقال آخرون: هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان. أما الخوارج والعلاف ومن وافقهم فقالوا: الإيمان هو الطاعة بأسرها فرضاً كانت أو نفلاً. وقال الجبائي وأكثر المعتزلة: هو الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل، وقال الباقون من المعتزلة: هو العمل والنطق والاعتقاد، ونحاول أن نوضح المخالفات الموجودة في كلام كل منهم على حدة. أما الكلام في مسمى معنى الدين والإسلام والإيمان، فنحتاج أن نصدره بالحديث الشهير حديث جبريل عليه السلام، وقد رواه مسلم بسنده عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف، قال ابن عمر: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف عليه عبد الله بن عمر؛ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! -ولكن من أدب الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتريثون ولا يتعجلون الاستفصال عن هذا، لكنهم كتموا في أنفسهم هذا التعجب، كيف يسأله ثم يقول له: صدقت؟! - قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وروايات هذا الحديث كثيرة نكتفي منها بهذه الرواية.

الأركان الجامعة للدين

الأركان الجامعة للدين يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في كتابه (معارج القبول): اعلم بأن الدين قول وعمل فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل يعني: اعلم بأن الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه، وأمر ألا يعبد إلا به، ولا يقبل من أحد سواه، ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه، ولا أحسن ديناً ممن التزمه واتبعه. اعلم بأن الدين قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، فهذه أربعة أركان جامعة لأمور دين الإسلام.

الركن الأول: قول القلب

الركن الأول: قول القلب إن قول القلب هو تصديقه وإيقانه، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:33 - 34]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، يعني: صدقوا بالله ورسوله ثم لم يشكوا في هذا التصديق، وفي حديث الدرجات العلى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والمرسلون، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين)، والشاهد قوله: (وصدقوا المرسلين)، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، أي: يصدقون بالغيب، وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136]، وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15]، وغير ذلك من الآيات التي فيها بيان أن من الإيمان قول القلب بالتصديق واليقين. وفي حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)، وفي الحديث الآخر فيقال: (انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان)، فالشاهد هنا قوله: (في قلبه). وقال تبارك وتعالى في المكذبين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، يعني: لا يصدقون، وقال تعالى في المرتابين الشاكين: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167]، وقال فيهم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] لأنهم يقولون هذا بلسانهم، أما قلوبهم فليس فيها تصديق ولا يقين: ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))، أي: في قولهم: نشهد، فهم كذبوا لا يشهدون بذلك بقلوبهم، وإنما هو بألسنتهم تقية ونفاقاً ومخادعة. فهذا هو الركن الأول من الدين وهو قول بالقلب. هذه الأركان لابد من وجودها جميعاً في كل مؤمن، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل بالأركان.

الركن الثاني: قول اللسان

الركن الثاني: قول اللسان أما قول اللسان: فهو النطق بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ} [القصص:53]، وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15]، وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذه الشهادة تكون باللسان.

الركن الثالث: عمل القلب

الركن الثالث: عمل القلب هناك فرق بين قول القلب وبين عمل القلب؛ لأن قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو العبادات القلبية التي لا تؤدى إلا بالقلب، مثل: النية، الإخلاص، المحبة، الانقياد، الإقبال على الله عز وجل، التوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] عمل القلب في قوله: ((يُرِيدُونَ وَجْهَهُ))، وقال عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]، هذا هو عمل القلب، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]، هذه أيضاً أعمال القلب، النية والإخلاص لله، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فهنا ذكر من أعمال القلب وجل القلب والخوف من الله تبارك وتعالى وذلك من أركان الإيمان. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] ومعلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يؤتون ما آتوا فقالت: (هل هم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون المحرمات ويشربون الخمر، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا ابنة الصديق! بل هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم)، فهذا هو تفسير النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا))، يعني: من الأعمال الصالحة، ومع ذلك هم خائفون وجلون ألا يتقبل منهم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فالشاهد هنا في قوله: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ))، فالوجل والخوف من أعمال القلب. وقال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، وقال أيضاً: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وقال عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، والإخلاص عمل قلبي، وقال أيضاً: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وهذا عمل قلبي: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، والنية عمل قلبي، وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] والحب عمل قلبي. فهناك أعمال في القلب لابد أن تؤدى، وحتى تحقق التوحيد في الأعمال القلبية ينبغي ألا توجهها إلا إلى الله تبارك وتعالى، كما أن من أعمال البدن السجود، الركوع، الصيام، الجهاد، هذه كلها من أعمال البدن، حتى توحد الله بأعمال البدن لا توجه هذه العبادات إلا إلى الله تبارك وتعالى، فلا تسجد ولا تركع إلا لله تبارك وتعالى؛ كذلك أعمال القلب ينبغي ألا توجه إلا إلى الله عز وجل، فلا تخاف إلا الله، ولا تحب إلا الله عز وجل وفي الله، ولا تتوكل إلا على الله، فإن وجهت التوكل إلى غير الله ففي هذه الحالة تكون اتخذته شريكاً مع الله تبارك وتعالى, يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، وقال أيضاً: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125]، وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، وقال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، هذا الدليل واضح جداً في اشتراط عمل القلب في الإيمان، ولا يتحقق الإيمان حتى تجتمع هذه الأشياء: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). قوله: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ونحتج بالحديث على أن من يعمل عملاً مخالفاً للشرع ثم يقول: نيتي صحيحة؛ كمن يسرق ليتصدق، نقول له: لابد أن يكون العمل صالحاً، إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ولو عمل عملاً صالحاً يريد به غير وجه الله لا ينفعه أيضاً، فلابد من الاثنين أن يكون العمل صالحاً موافقاً للشرع، وأن يكون خالصاً يبتغى به وجه الله تبارك وتعالى، وتقدم الكلام على ما ينافي الإخلاص من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، هذا أيضاً عمل قلبي، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، فهذا غاية الانقياد؛ إذ لم يكن له هوى غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع وغير ذلك من أعمال القلوب فأدلتها كثيرة جداً يطول الكلام بإحصائها واستقصائها. الشاهد: كما أن قول القلب هو بالتصديق واليقين بالحق؛ كذلك لابد أن ينضم إليه: قول اللسان بالنطق بالشهادتين.

الركن الرابع: عمل اللسان والجوارح

الركن الرابع: عمل اللسان والجوارح أما عمل اللسان فهو ما لا يؤدى إلا به، مثل: العبادات التي مناطها اللسان، كتلاوة القرآن، والأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار ونحو ذلك. أما عمل الجوارح فما لا يؤدى إلا بها، كالقيام في الصلاة والركوع والسجود، والمشي في مرضاة الله عز وجل كالخطى إلى المساجد، وإلى الحج والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر:29]، هذا عمل باللسان، ويمكن أن يكون عملاً بالجوارح على اعتبار أن اللسان أحد الجوارح. {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، وقال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وقال تبارك وتعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، فهذا أمر بالعمل باللسان. وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] وهي كما جاء في الحديث الصحيح: (خذوا جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات -أي: من الجنبين تحيط بالإنسان ومن قدامه ومن خلفه- وهن الباقيات الصالحات)، هذا الحديث نص في أن الباقيات الصالحات هن هؤلاء الكلمات. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] والقيام من عمل جوارح، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77 - 78]، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64]، وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، فهذه فيها أعمال القلب والجوارح. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] وهذا بالجوارح: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] إلى آخره، ثم قال عز وجل: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]، فالآيات والأحاديث كثيرة جداً في أن أعمال الجوارح ركن من أركان الدين وداخله في مسماه.

أنواع الكفر المخرجة من الملة

أنواع الكفر المخرجة من الملة إن أصل أصول الدين هو أن الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلب وباللسان، وعمل بالقلب وبالأركان بما فيها اللسان، فإذا حقق الإنسان هذه الأمور الأربعة تحقيقاً بالغاً، وعرف ما يراد بها معرفة تامة، وفهم فهماً واضحاً، ثم أمعن النظر في أضدادها ونواقضها، تبين له أن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق، وكل واحد منها يخرج من الملة بالكلية، وإن اجتمعت في شخص فظلمات بعضها فوق بعض والعياذ بالله من ذلك؛ لأنه إما أن تنتفي هذه الأمور كلها فلا يكون عنده قول القلب ولا عمله، ولا قول اللسان ولا عمل الجوارح، أو ينتفي بعضها، فإن انتفت كلها فقد اجتمعت أنواع الكفر غير النفاق، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، فإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق، فهذا كفر الجهل والتكذيب، قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]، فلما انتفى تصديق القلب مع الجهل بالحق فهذا هو كفر الجهل والتكذيب، وقال تبارك وتعالى: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، كذب وجهل بالحق، فهو جمع بين التكذيب والجهل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:83 - 84] فإذا كتم الحق مع العلم به وبصدقه فهذا كفر الجحود والكتمان، يعني: قلبه يعلم بالحق لكنه يكتمه ويجحده، كما قال عز وجل في فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} [البقرة:89]-اليهود- {مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، هم يعرفون أن الرسول حق، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً؛ لكنهم جحدوا واستكبروا، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:146 - 147]. أما إذا انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح، فهو يصلي ويصوم ويزكي ويشهد الشهادتين؛ لكن انتفى عمل القلب، فلا نية ولا إخلاص ولا محبة ولا إذعان بالقلب، فهذا هو كفر النفاق؛ سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى، وسواء انتفى بتكذيب أو شك، يقول عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:8 - 10] إلى قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان، كمن لا يوجد له عمل بالقلبس ولا عمل بالجوارح؛ لكن عنده معرفة بالقلب واعتراف باللسان؛ فهذا كفر العناد والاستكبار، ككفر إبليس؛ لأن قلبه لم ينقد لأمر الله تبارك وتعالى، وانتفى عمل الجوارح؛ لأنه لم يمتثل الأمر بالسجود، مع معرفته بقلبه أن هذا الأمر بالسجود صادر من الله تبارك وتعالى، فهو يصدق أن هذا أمر الله. وكذلك كفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه، أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود هو من هذا الباب، وكذا كفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً.

معنى قول أهل السنة: الإيمان هو التصديق

معنى قول أهل السنة: الإيمان هو التصديق محال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فمن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في تعريف الإيمان: هو التصديق، فعلى ظاهر اللغة، كما قال الله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] فهو إنما يقصد التصديق الذي يستلزم الانقياد والإذعان لا مجرد المعرفة كما يقول المرجئة؛ كما في قوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103 - 105] ومعلوم أن هذه الرؤيا كانت وحي من الله فقط، وما أطلق عليها تصديقاً حتى انضم إليها الانقياد بأن أسلم هو وولده وتله للجبين حينئذ لما انضاف إلى التصديق العمل والانقياد والإذعان، فالقلب هو ملك البدن، فإذا وجد عمل القلب بالإذعان، فلابد أن يذعن في الظاهر بأعمال الجوارح، والدليل هذا الحديث: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، يعني: إذا وجد عمل القلب من الإذعان والخضوع والانقياد والمحبة إلى غير ذلك، ينعكس ذلك على الجوارح، فهذا عكس ما يردده أغلب الناس ويسيئون تطبيق هذا الحديث بعد أن يسيئوا فهمه، فيقولون: الإيمان في القلب، وهذا الحديث حجة عليه، كما قال شيخ الإسلام: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية وحديث لإثبات باطله إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، وهذه من آيات الله أنك إذا عكست الدليل عليه تجد الحجة قائمة عليه تماماً؛ فكذلك هنا قوله: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، فالقلب يؤثر في البدن، والظاهر أيضاً يؤثر في القلب، هناك تفاعل مشترك بين الأمرين؛ فمثلاً الذي يحلق لحيته ويقول: إن الأعمال بالنيات، وإن قلبي سليم! نقول له: كذبت وخالفت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلح القلب صلح الجسد، وانعكس على ظاهره الأعمال الصالحة سواء من إعفاء اللحية والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وسائر الأعمال الظاهرة، فهذه تكون عنواناً على سلامة هذا القلب؛ كذلك القلب السليم ينضح بهذه الأعمال الصالحة. فالمقصود أن من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق؛ فإنما أراد التصديق على أساس أصل اللغة؛ لكن الإيمان في الاصطلاح هو التصديق المستلزم للانقياد. وهذا مقياس في الظاهر والباطن ليس فقط في الظاهر، فلم يعنوا مجرد التصديق، والدليل: أن إبليس لعنه الله لم يكذِّب ولم يشك في أن الأمر له بالسجود هو من عند الله تبارك وتعالى، وإنما الذي تخلف عن إبليس هو عمل القلب وهو بالانقياد في هذا الأمر، لذا كان إباؤه كفراً واستكباراً. كذلك اليهود كانوا يعتقدون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتبعوه جحوداً وعناداً، وفرعون كان يؤمن أن موسى رسول الله حقاً، والأدلة على ذلك موجودة في القرآن الكريم وهي كثيرة، منها: قوله تبارك وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ويقول تبارك وتعالى في آخر سورة الإسراء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، فماذا أجاب موسى وموسى صادق مصدوق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟ {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، فهذا دليل على أن فرعون كان عنده يقين ومعرفة أن هذا رسول الله حقاً وصدقاً؛ لكنه لم ينقد له. وهناك آيات أخرى في سورة الأعراف وغيرها من السور فيها إثبات أن القوم لما كان ينزل بهم سخط الله وعذابه كانوا يهرعون إلى موسى، يقول: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، ثم ينقضون العهد بعد ذلك كما هو معلوم في سورة الزخرف والأعراف أيضاً. فالشاهد أن هؤلاء كانوا يعرفون صدق الرسول؛ لكن لم ينقادوا إليه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينقد له، بل جحد بآيات الله ظلماً وعلواً، فأين هذا التصديق من تصديق من قال الله تعالى فيه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]؟ وحتى تتمثل الأمر بوضوح؛ لأنه ربما يلتبس على الإنسان الفرق بين قول القلب وعمله، نقول: فرعون كان عنده القول بالقلب؛ وإبليس كان عنده القول بالقلب، واليهود الذين صدقوا بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام كان عندهم القول بالقلب، لكن لم يوجد عندهم عمل القلب، وهو الانقياد والإذعان والمحبة وغير ذلك من الأعمال القلبية. إذاً: تذكر قوله عز وجل في حق فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وقارن هذا التصديق الذي كان عليه فرعون وقومه بالتصديق الذي جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، قارن أيضاً تصديق اليهود الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46]، و: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76]، فقارن بين هذا التصديق وتصديق الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فلابد أن نفرق بين قول القلب وبين عمل القلب، قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو الانقياد والمحبة والإذعان لما أمر الله تبارك وتعالى به، فهذا خلاصة شرح قول صاحب سلم الوصول إلى الأصول: اعلم بأن الدين قول وعمل فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل يعني: ما اشتمل عليه هذا الكلام من أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح.

مراتب الدين

مراتب الدين قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: كفاك ما قد قاله الرسول إذ جاءه يسأله جبريل على مراتب ثلاث فصله جاءت على جميعه مشتمله الاسلام والإيمان والإحسان والكل مبني على أركان قوله: (كفاك) يعني: كفاك يا طالب الحق ما قد قاله الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (إذا جاءه يسأله) يعني: حين جاءه يسأله عن مراتب الدين وشرائعه، وهو جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح السابق. قوله: (على مراتب ثلاث فصله) أي: بتلك الأجوبة الصريحة. قوله: (جاءت) يعني: الثلاث المراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. قوله: (على جميعه) يعني: على جميع الدين مشتملة؛ ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمور كلها بقوله: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). والكلام في قضية الإيمان يصبح رداً قوياً جداً على الذين يصفون هذه الأعمال سواء كانت أعمال القلب أو غيرها، يقول: أنتم تهتمون بأمور نظرية فلا يترتب عليها عمل، كلا. هذه عمل في الحقيقة، كما ذكرنا عمل القلب بالانقياد والإذعان، كما يقول عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]، فالقلب له كسب وعمل أيضاً.

مرتبة الإسلام

مرتبة الإسلام قوله: (الإسلام) أي: مفصل من مجمل المراتب، وهو بدل بعض من كل. الاسلام والإيمان والإحسان والكل مبني على أركان هذه هي المرتبة الأولى كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة حينما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام. نأتي أولاً بالمعنى اللغوي ثم بالمعنى الاصطلاحي، فالإسلام لغة: الانقياد والإذعان. وأما في الشريعة فله حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، هنا أتى الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان، فيشمل كل أمور الدين، الباطن والظاهر والأقوال والأعمال والاعتقادات، وكل شيء يدخل تحت مسمى الدين يدخل في كلمة الإسلام؛ لأنها أتت مفردة مطلقة دون أن ترتبط بلفظ الإيمان في وقت واحد: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ومثلها: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فيشمل هنا كل أمور الدين، وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، السلم هنا المقصود به الإسلام، أي: التزموا بجميع أمور الدين والإسلام سواء الاعتقادات أو الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة. وهذه الآية من أقوى الأدلة التي نرمي بها في نحور الذين يقسمون الدين إلى أمور نظرية، ويفترون على الله حينما يسمونها تافهة ويسخرون منها وهي من أركان الإيمان؛ لأن قوله: (كافة) يعني: جميع ما يتعلق بالإسلام من الأقوال والأعمال والنيات والأحوال وغير ذلك، هذا كله مأمور بالدخول فيه سواء في ذلك العقيدة أو الفقه والعمل. إذاً: في هذه الآية دليل ضد الذين يسخرون من أمور الفقه أو العلم، ويسخرون في ذلك من طلاب العلم، ويقولون: متى تخرجون من فقه دورة المياه؟ يسخرون من فقه الطهارة، ويسخرون من بعض العلماء أو طلاب العلم، ويقولون: علماء الحيض والنفاس، ولا يدرون أنهم بذلك يهلكون؛ لأن هذه تدخل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، لا يسمى أبداً شيء من أمر الدين أو أمر به النبي عليه الصلاة والسلام أو أقره لا يمكن أن يسمى تافهاً أو سخيفاً، إنما يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) معالي الأمور مقاصد الدين، أما السفساف فهي أمور الدنيا الحقيرة؛ لكن أن تعمد إلى قضية من قضايا الدين وتسخر منها أو تقول: هذه قشور أو أمور شكلية أو مظاهر لا حاجة لنا بها، فهذا كله إعراض عن المقصود الشامل من قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، أي: في كل ما يتعلق بالدين والإسلام. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله معاوية بن حيدة: (ما الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله)، إلى آخر الحديث، وحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟)، الحديث فهنا يعتبر كدليل على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت مفردة غير مقترنة بلفظ الإيمان فإنها تشمل كل أمور الإسلام، وكل أمور الدين، والظاهر والباطن وغير ذلك. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله عز وجل) يدخل فيه عمل القلب وقوله: (وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) هذا فيه عمل الجوارح واللسان. وقوله: (قال: فأي الإسلام أفضل؟) إذاً: الإسلام كلمة عامة، ثم يسأل عن أفضل ما يدخل في هذه الكلمة الشاملة الإسلام، قال: (فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ففي هذا الحديث أطلقت كلمة الإسلام ويدخل في معناها أيضاً الإيمان بهذا النص، (قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)، فهذا دليل واضح على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت وأفردت دون أن تقيد بالإيمان تشمل الظاهر والباطن. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان جزءاً من الإسلام وهو أفضله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها)، فالانقياد ظاهراً بدون إيمان لا يكون حسن إسلام، بل هو النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ فقوله هنا: (حسن إسلامه) يشمل كل أمور الإسلام باطناً وظاهراً، أي: حسن باطنه وظاهره، أما إذا حسن الظاهر فقط فهذا شأن المنافقين الذين كانوا يخرجون مع المسلمين في الجهاد، وكانوا يصومون ويصلون الجماعة ويحجون ويفعلون كل هذه الأشياء، فهو حسن إسلام في الظاهر وانقياد ظاهري، ولكن تخلف الانقياد الباطني الذي هو عمل القلب، فلا يمكن أن يكون بالمقصود من قوله: (فحسن إسلامه) صلاح الظاهر فقط، بل لابد أن يكون في ظل هذا الحديث اشتراط حسن الإيمان القلبي والانقياد الباطني، فهذه الحالة الأولى من حالة ورود لفظة الإسلام. الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترناً بالإيمان، فهو حينئذ يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة فقط، إذا جاءك نص قرن فيه بين الإسلام والإيمان، ينطبق عليه قاعدة: إذا اجتمعا في لفظ واحد افترقا في المعنى لكن إذا افترقا اجتمعا. إذاً: الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترناً بالاعتقاد فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هنا اقترن الإيمان بالإسلام. وربما يقول قائل: حديث عمرو بن عبسة أليس فيه إدخال الإسلام بالإيمان؟ نقول: نعم؛ ولكن جاءت قرينة تدل على أن الإسلام في أول الحديث المقصود به كل أمور الدين؛ لأنه نص على أن الإيمان جزء من الإسلام، والإسلام يشمل هذا ويشمل ما عداه. وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال له سعد رضي الله عنه: (ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً)، يعني: هلا أطلقت عليه لفظة الإسلام لا لفظة الإيمان؟ لأنك تخبر عن علمك أنت، فعلمك يكون حسب الظاهر، فلا تقل: مؤمناً، لكن قل: مسلماً؛ لأنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة، فهنا قوله: (إني أراه مؤمناً)، قصد بالإيمان الأمر الباطن، والرسول عليه الصلاة والسلام قصد بالإسلام الأمر الظاهر. وفي رواية النسائي: (لا تقل: مؤمناً، وقل: مسلماً)، وكحديث عمر أيضاً الذي سقناه في بداية الكلام، قال: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -كلها أعمال ظاهرة- وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن -هذه أعمال باطنة بالقلب- بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

مرتبة الإيمان

مرتبة الإيمان الإيمان لغة: التصديق، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، يعني: ما أنت بمصدق لنا. أما في الشريعة فللإيمان أيضاً حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، فحينئذ يراد به الدين كله، كقوله عز وجل في الذين آمنوا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، (فآمنوا) هنا تشمل الظاهر والباطن. وقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، وقوله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، تشمل أيضاً الظاهر والباطن، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)، هنا تشمل الظاهر والباطن؛ لأنها مفردة غير مقيدة بالإسلام؛ ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطناً وظاهراً، في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2]، يعني: لا يوجد الإيمان إلا في هؤلاء؛ فانظر إلى صفتهم وأفعالهم، وسوف تجد أفعالهم وأعمالهم باطنة وظاهرة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] هذه باطنة: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، أيضاً باطنة: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، أعمال باطنة بالقلب: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، ظاهرة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4] فأطلق الإيمان وحصره فيمن جمع بين الظاهر والباطن، وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، هذه أعمال قلبية: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، (في سبيل الله)، عمل قلبي بالنية؛ لأنه يريد إعلاء كلمة الله. وقال عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17]، فسرهم بمن اتصف بذلك كله أيضاً في قوله عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2 - 5]، ووصفهم أيضاً بالإيمان في قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] إلى آخر الآيات، وقال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]، إلى آخر الآيات. ثم قال جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، وقال أيضاً -وهي من أوضح الأدلة في ذلك-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، الذين من صفاتهم: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:2 - 11]، وقال أيضاً: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:2 - 3]، وغير ذلك من الآيات. بل أتى أيضاً نصاً صريحاً جداً فسر الإيمان بهذه الأعمال كلها، كما في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن أبا ذر رضي الله عنه سأله فقال له: (ما الإيمان؟ فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)) [البقرة:177] إلى آخر الآية)، فأتى بهذه الآية جواباً عن سؤاله عن الإيمان، ثم قال له أيضاً: (ما الإيمان؟ فتلاها عليه، فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك)، يعني: هذه أيضاً علامة من علامات الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، هذه علامة من علامات الإيمان. وأيضاً فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالباطن والظاهر، كما في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما: (آمركم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، هذه عادة الصحابة في الجواب حينما يسألون أن يقولوا: الله ورسوله أعلم، بعض الناس يكررون هذه الكلمة الآن في غير موضوعها، تسأله عن الشيء الفلاني حصل أو لم يحصل؟ يقول: الله ورسوله أعلم لو قلت له: أين الكتاب الفلاني؟ قال: الله ورسوله أعلم. كلا. كيف: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته كان ينزل عليه الوحي فيخبره بهذه الأشياء؛ لذلك كان يقول الصحابة: الله ورسوله أعلم، لكن هل الرسول يعلم كل شيء؟ نعم، حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم لا يجوز أبداً أن تقول: الله ورسوله أعلم في كل شيء. (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس)، فهذه أعمال ظاهرة دخلت في مسمى الإيمان، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان إيماناً واحتساباً من الإيمان، وكذا قيام ليلة القدر، وأداء الأمانة، والجهاد والحج، واتباع الجنائز، وغير ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، تماماً مثل كلمة الإسلام في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، تشمل الظاهر والباطن؛ لأنها غير مقترنة بالإسلام وقد أتت مفردة: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقة، منها ما هو من قول القلب، ومنها ما هو من عمل القلب، ومنها ما هو من قول اللسان، ومنها ما هو من عمل اللسان أو الجوارح، ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمل القلب، وقول اللسان وعمل اللسان وعمل الجوارح، سماها الله تعالى إيماناً، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]؛ لأن الصلاة مشتملة على جميع أنواع الإيمان، فقد روى سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله (إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بالغيب، ثم قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3])، فهنا حمل معناها عل

الإيمان والكفر [6]

الإيمان والكفر [6] من قواعد أهل السنة والجماعة المنعقد عليها إجماع السلف: أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأن الأعمال ركن من أركان الإيمان لا تتخلف عنه، فإن تخلفت عنه لم يعد صاحبه مؤمناً، وإلا لاشترك كل الناس في الإيمان حتى إبليس وفرعون.

تعريف الإسلام والإيمان

تعريف الإسلام والإيمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تقدم الكلام في مسمى الإسلام والإيمان، وقلنا: إن الإسلام له تعريف لغوي وآخر اصطلاحي أو شرعي، وأن الإسلام لغة: الانقياد والإذعان. أما الإسلام في الشرع فحسبما ورد اللفظ بالإسلام، فإذا ذكر بالإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، ففي هذه الحالة يراد به كل الدين أصوله وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله، أما إذا أطلق مقترناً بالإيمان أو بالاعتقاد، فإنما تطلق كلمة الإسلام على الأعمال والأقوال الظاهرة، ويدل على ذلك حديث جبريل: (قال: ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة)، إلى آخر الحديث. ذكر الأعمال الظاهرة، ثم لما سأله عن الإيمان في نفس الحديث فسره بالأعمال الباطنة. إذاً: إذا اقترن الإسلام بالإيمان ينصرف معنى الإسلام إلى الأعمال الظاهرة، والإيمان إلى الأعمال الباطنة؛ لأنهما اجتمعا في النص، وافترقا في المعنى، أما إذا افترقا في النص وأتى كلاً منهما مفرداً، فإنهما يجتمعان في المعنى في هذه الحالة. أما الإيمان فهو في اللغة: التصديق، كما قال الله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: ما أنت بمصدق لنا، فهذا معنى الإيمان لغة: التصديق. أما معنى الإيمان شرعاً: فيأتي على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، وفي هذه الحالة يراد به الدين كله تماماً، مثل لفظ الإسلام إذا أطلق فيشمل أصول الدين، وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله، أما إذا أطلق مقروناً بالإسلام، فيفسر الإسلام بأنه إظهار أعمال مخصوصة، ويفسر الإيمان بأنه تصديق بأمور مخصوصة، وكما أن العامل الذي يعمل الأعمال الصالحة لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد وآمن، كذلك المؤمن المعتقد لا يصير مؤمناً كاملاً إلا إذا عمل.

إبطال مذهب المرجئة في الإيمان

إبطال مذهب المرجئة في الإيمان ذكرنا أيضاً مذاهب المنحرفين في مسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقلنا: إن منهم من يقول: إن الإيمان مجرد التصديق فقط، ومنهم من يقول: الإيمان مجرد المعرفة بالله فقط، وذكرنا مذهب المرجئة والكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، إلى آخر الأمثلة التي ذكرناها من أهل البدع والضلال في هذا، لكن نقف وقفة يسيرة عند مذهب المرجئة. يقول الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه. يشير إلى أهل الإرجاء، وسئل إبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه -أوه اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر أو أتوجع- لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم! وقال إبراهيم: المرجئة أخوف عندي على الإسلام من الأزارقة، المرجئة أخوف عندي على الإسلام إذا كان هناك عدد يوازيهم من الأزارقة -والأزارقة: فرقة من فرق الخوارج- فالمرجئة يكونون أشد خطراً منهم. وقال أيوب: قال لي سعيد بن جبير: رأيتك مع طلق! قلت: بلى، فما له؟! قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك. ويحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه، وهذا موقف من مواقف السلف في البراءة من أهل البدع ومجانبتهم، فضلاً عن الجلوس معهم. وكان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وذكر عند الضحاك بن مزاحم قول من قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، يعني: بعض المرجئة يستدلون بمثل هذه النصوص على أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون عقد القلب، فقال الضحاك بن مزاحم: هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض، لكن بعدما حدت الحدود، ونزلت الفرائض صارت هذه داخلة في مسمى الإيمان الذي ينجي صاحبه، فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد إلى آخره، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا، ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: أن الله عز وجل أمرهم أولاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ثم بعد ما امتثلوا لذلك، واستقر الإيمان في قلوبهم أمرهم بالشرائع بالصلاة والصيام والزكاة والحج، هل يأمرهم لمجرد الأمر فقط أم أن هذا الأمر مطلوب منهم الامتثال له؟ إذاً: الله عز وجل يريد منهم الامتثال والعمل، وتطبيق الأوامر التي أمرهم بها، فهؤلاء المرجئة مقتضى كلامهم أن الله أمرهم بهذه الأعمال ولم يلزمهم أن يعملوها، وهذا فيه مخالفة لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعد أن صدق المؤمنون في إيمانهم أمرهم الله بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض والحدود، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول فقط، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، فقد خالف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، معنى كلمة (َأَتْمَمْتُ): أنه كان ينزل شيئاً بعد شيء حتى اكتمل الدين في هذه الصورة النهائية، وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت). فجمع إلى الشهادتين في نفس القوة أركان البناء، وأعمدة الإسلام الأربعة الأخرى غير الشهادتين، ولا شك أنها أعمدة يقوم بها الدين، فمن ضيعها فقد ضيع الدين. أما من قال: إن الإيمان مجرد المعرفة، والتصديق بأن هناك إلهاً وأن الله موجود فيلزمه أن إبليس مؤمن. ويتصور الناس أن الملحد هو الذي يقول: لا إله، فهذا غير صحيح؛ لا من حيث الشرع، ولا من حيث اللغة، فالإلحاد: هو الميل عن القصد، فأي شخص منحرف في عقيدته أو سلوكه يوصف بالإلحاد. فيلزم مما يزعمونه من أن الإيمان هو مجرد المعرفة: أن إبليس كان مؤمناً؛ لأنه كان يقر بوجود الله، وعرف ربه تبارك وتعالى؛ لأنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، وقال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، كذلك يلزم من ذلك أن اليهود مؤمنون، فإن الله تبارك وتعالى قال في حقهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وقال تبارك وتعالى أيضاً: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. ثم أليس الفرق بين الإسلام والكفر هو العمل؟! أما مذهب أهل الإرجاء واعتقادهم أن الإيمان هو مجرد الإقرار باللسان أو المعرفة، فيترتب على ذلك أن المرجئ يعتقد ما يأتي: أولاً: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل. ثانياً: أنه مؤمن عند الله حقيقة. ثالثاً: أنه مؤمن مستكمل الإيمان. رابعاً: أنه مؤمن حقاً. ولا يقولون بتفاضل أهل الإيمان فيه؛ لأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يكون الرجل أقوى إيماناً من الآخر، بل إيمان أقل واحد من المسلمين مثل إيمان جبريل وميكائيل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك يقولون: الشخص المدمن للخمر الذي لا يصحو من الخمر والسكر إيمانه تماماً مثل إيمان جبريل وميكائيل. كذلك يقولون: من قال: لا إله إلا الله، لم تضره الكبائر أن يعملها. فيقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة كذلك لا تضر مع الإيمان معصية، والإيمان في نظرهم هو مجرد الإقرار أو المعرفة، فيقولون: من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن المرجئ البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً والفاجر يكونان سواءً. وهذا واضح مصادمته للقرآن، فهو من المنكرات العظيمة، يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، هذه الآية يسميها السلف: مبكاة العابدين؛ لأنها كانت تبكي العابدين كثيراً، وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وتتفاضل الطائفتان من المؤمنين في الأعمال الصالحة درجات، ونفس أهل الإيمان هم أنفسهم درجات، كما قال الله عز وجل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]. إذا كان أهل الإيمان أنفسهم فيما بينهم متفاوتون فما بالك بأهل الطاعة والمعصية الذين يكون التمايز بينهم أشد؟! فأهل الإيمان أنفسهم متفاوتون في هذه الصلاة، ولعلهم جميعاً واقفون في صف واحد، وفي مسجد واحد، وراء إمام واحد، وذلك لتفاوت أحوال قلوبهم، يقول الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]. فهذا مجمل ما يئول إليه كلام المرجئة.

تعريف الإيمان والإسلام إذا اجتمعا

تعريف الإيمان والإسلام إذا اجتمعا قلنا: الإيمان لغة: التصديق، وشرعاً له حالتان: الأولى: إما أن يأتي مفرداً، فبالتالي يشمل كل أمور الدين، والحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقروناً بالإسلام، وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل وما في معناه، وكما في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، حيث اقترن الإيمان بالعمل الصالح، فدل على أن الإيمان هو الأمور الباطنة، وكما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء الجنازة: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)، وما الحكمة في التعبير عن الشخص الحي بالإسلام، والمتوفى بالإيمان؟ الحكمة أن الإسلام إذا كان مجرد الأعمال الظاهرة كالصلاة والصيام والحج والزكاة إلى آخره، فعند الوفاة وعند خروج الروح لا يوجد متسع لعمل البدن، وإنما يوجد متسع لأعمال القلب، وأن يموت على الإيمان الكامل، فالأعمال المتعلقة بالجوارح إنما يتمكن منها في الحياة، فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله, لحديث أنس عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب). فهنا اجتمعا في النطق فيفترقان في المعنى. الحاصل: أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله، وإن فرق بين الاثنين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث: (الإسلام علانية والإيمان في القلب). والمجموع مع الإحسان هو الدين، أي: أن الإسلام مع الإيمان مع الإحسان هو الدين، كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله ديناً فقال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام، والإسلام بالإيمان. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث جبريل عليه السلام وسؤاله عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو: أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها. كالفقير مع المسكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بقوله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. يقول الخطابي: والصحيح أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، يعني: كما فعل بعض السلف: نرسم دائرة كبيرة تمثل الإسلام، وفي داخلها دائرة أصغر منها هي دائرة الإيمان، فكل من كان في دائرة الإيمان فهو أيضاً داخل في دائرة الإسلام، لكن ليس كل من كان في دائرة الإسلام يكون في دائرة الإيمان، فمن خرج عن الإيمان بقي في دائرة الإسلام، وقد يخرج عن الإيمان بالمعاصي، ولا يخرج عن الإسلام إلا بالكفر، فالمعاصي تخرج من الإيمان إلى الإسلام، والأحاديث معروفة في ذلك، مثل: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، نعم الإيمان موجود في قلبه، والتصديق بأن هذا الفعل حرام، لكن يغيب عنه حضور هذا الشعور، وتجنب هذا الذنب ساعة هذا الفعل، فيخرج الإيمان من قلبه ولا يبقى في قلبه، فإذا نزع وتاب دخل ثانية في الإسلام. يقول: وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص من الأصول المهمة جداً عند أهل السنة والجماعة المتعلقة بقضايا الإيمان: أن الإيمان يزيد وينقص. يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: إيماننا يزيد بالطاعات ونقصه يكون بالزلات هذه هي المسألة الأولى من المسائل الستة التي ذكرها الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول في الجزء الثاني، وهي: أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا ترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل يزيد وينقص، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، الإيمان يزيد مثل الترمومتر يرتفع وينزل، فالإيمان شيء يخص كل إنسان في نفسه، كلما ازددت من الطاعات ومن الأعمال الصالحة تشعر بزيادة الإيمان، إذاًً: هذا هو الداء الذي يشكو منه كثير من الناس، يشكون من نقصان الإيمان في قلوبهم، ونقصان اليقين، حتى التصديق في حد ذاته واليقين الذي هو عمل من أعمال القلب. هذا أيضاً يزيد بكثرة التأمل والتفكر في خلق الله تبارك وتعالى وفي آياته، ألم تر إلى إبراهيم عليه السلام: هل كان يشك أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحيي الموتى؟ لا، وبلا شك أن إبراهيم عليه السلام كان موقناً بذلك {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، أي: أنا مؤمن ومصدق بذلك عن علم ويقين، فهو يريد حق اليقين وأن يرى ذلك بنفسه، أو يرى عين اليقين بعينه {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، إذاً: كان عنده أصل الإيمان والتصديق واليقين القوي في قدرة الله، لكن لا يوجد العلم الذي هو أقوى؛ لأن العلم درجات، فهناك: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، لو أخبرتك بأن في هذه الحجرة إناء فيه عسل فصدقتني ولم تشك في أمري، فهذا علم اليقين، فإذا أدخلتك فيها ورأيته فهذا عين اليقين لأنك رأيته بعينك، فإذا ذقته فهذا حق اليقين، إذا سمعت بأن هناك كعبة في مكة المكرمة، وكنت لا تتردد في ذلك أبداً في التصديق بهذا الخبر، فهذا علم اليقين، فإذا ذهبت هناك ورأيتها فهذا عين اليقين، فإذا لمستها فهذا حق اليقين، فلذلك لما قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، إذاً: اليقين يزداد ويقوى بزيادة التدبر، ورؤية آلاء الله عز وجل، وإعمال الفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. كذلك الكفار يقول تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، فالكافر يزداد كفراً على كفره، ويزداد ظلمات فوق الظلمات، وقال تبارك وتعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] إذاً: الهداية أيضاً تزيد، وقال عز وجل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وقال تبارك وتعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31]، وذلك لما أتى الخبر بأن عدد خزنة النار من الملائكة تسعة عشر {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]؛ فانقسم الناس إزاء هذا الخبر إلى أقسام، فالمؤمن هو مؤمن أصلاً، فحينما يعرف شيئاً جديداً من مسائل دينه وأركان عقيدته ويؤمن به يزداد إيماناً قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] بهذا الخبر، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31]؛ لأن أهل الكتاب سيجدون أن هذا موافق لما عندهم في كتبهم، فلا يشك في صدقه، وأنه يخرج من مشكاة واحدة. أما الكافرون فيزدادون كفراً؛ لأنهم أصلاً غير مصدقين، فإذا كذبوا بشيء جديد من أقوال الوحي فإنهم يزدادون بعداً من الله ويزدادون في الكفر والعياذ بالله! قال تبارك وتعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]. وقال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: باب في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان، وساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله). فانظر إلى كلمة: (أكمل)، فهذا دليل أيضاً على أن الإيمان يزيد ويكتمل، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار). والشاهد: قوله في آخر الحديث: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن). كما يقول بعض الشعراء: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا لأن كيدهن عظيم إذا لم يتقين الله، فلذلك تجد المرأة مع ضعفها قد تغلب الرجل وتقهره وتتسلط عليه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين)، مع نقصان عقلهن ودينهن إلا أنهن يقدرن على أن يغلبن ذوي الألباب، (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن)، الشاهد هنا قوله: ناقصات العقل والدين، ناقصات العقل المقصود به: شهادة المرأة، فهي بنصف شهادة الرجل، أما في الدين: فإنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، في حين أن الرجل يصوم ويصلي. المقصود: أن كل مرأة لا تؤدي هذه الفرائض بسبب الحيض، فإن ذلك يعد نقصاناً في دينها، فهذا أيضاً يثبت هذه القاعدة. وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله)، وفي بعض الروايات: (بضع وستون)، وفي بعضها: (بضع وسبعون شعبة)، أيضاً الإمام النسائي حينما ترجم للحديث قال: باب زيادة الإيمان. وذكر في باب زيادة الإيمان حديث الشفاعة؛ لأن حديث الشفاعة في حد ذاته بمنطوقه يدل على تفاضل أهل الإيمان فيه، فمنهم من يدخل الجنة مع السابقين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يدخل النار، ثم يخرج من بقي في قلبه مثقال حبة من إيمان من أهل التوحيد؛ فهذا كله يدل على أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه، أما الزيادة والنقص فدلالته عليها مفهوماً لا منطوقاً، يعني: الزيادة ثابتة بهذه الأدلة، أما النقص فيأتي إن شاء الله تفصيل الكلام فيها. بعض العلماء يرى أن النقص مأخوذ من هذه الأدلة عن طريق المفهوم لا عن طريق المنطوق، والمنطوق: هو اللفظ الوارد في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير). أما المفهوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه). فهذه الأدلة فيها أن الإيمان يزيد، وكل ما كان قابلاً للزيادة فهو قابل للنقصان، فبعض الناس كان يحتج بالأحاديث الواردة في عقوبة من اقتنى كلباً لغير صيد أو ماشية، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان)، فكل يوم ينقص من أجره قيراطان. فتباً لهؤلاء الذين يقلدون الكفار! تجدهم يعتنون بالكلاب أشد عناية، حتى المجلات تحاول أن تزرع هذه المفاهيم الكفرية في الأطفال الصغار، فتجد مثلاً في بعض المجلات صورة فأر، فيعودون الطفل على استحسان الفأر ومحبته واستظرافه، أو خنازير، أو كلاب إلخ. وهكذا إلى أن يرسخ حبه في قلبه بعد موته، فيحتفظ بجسم هذا الصنم في البيت وفاءً لذكراه، غير النعي الذي يكتب في الجرائد لموت الكلب، وسيما القداس في الكنيسة لأجل موته إلى آخر هذه الأشياء التي نحمد الله أن عصمنا منها، فيريد بعض الإمعات أن يعيدوا لنا مظهراً من مظاهر التقدم إلى الوراء، الشاهد: فهذا كلب يعامل هذه المعاملة، في حين أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخوفنا أن من اقتنى كلباً لغير هذين الهدفين كلب صيد أو ماشية أو حراسة أرض؛ فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم، يعاقب أن ينقص أجره من الأعمال الصالحة التي يعملها قيراطان كل يوم. يقول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (رأيت الناس وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي) إلى آخره، فهذا يفهم منه تفاوت الناس في الإيمان، حتى قال: (وعرض علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)، يعني: قوته وشدته في دينه، رضي الله تبارك وتعالى عنه. ويقول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، روى طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قالوا له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ} [المائدة:3]. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة، وعلى ذلك ترجم أبو داود وغيره من أئمة السنة. أيضاً استدل بها الإمام مسلم بن الحجاج وذكر بسنده عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا لقي بعضهم بعضاً يطمئنون على أحوالهم الإيمانية، كيف حالك مع الله؟ أنت في ازدياد أم في نقصان؟ فهذا هو الذي ينبغي أن يشغل المسلمين، لا أ

آثار السلف وأقوالهم في زيادة الإيمان ونقصانه

آثار السلف وأقوالهم في زيادة الإيمان ونقصانه تكلم الإمام الآجري رحمه الله تعالى في بحث الإيمان يزيد وينقص، فروى رحمه الله تعالى بسنده عن محمد بن عبد الملك المصرفي أبي عبد الله، قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة، فسأله رجل عن الإيمان، فقال: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم. فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم. فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم، ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله! هذا رأس شيخ الكافرين، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم ولا هجرتهم، ولا قتالهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً، وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم ولا صلاتهم. فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده، قال عز وجل سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. فمن ترك خلة -أي: صفة- من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً -واضح من السياق أنه يقصد الجحود-ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها أدبناه، وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس. فعلق الحافظ الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله فقال: هذا بيان لمن عقل: اعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد وما أشبه ذلك. قال الأوزاعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع. قد يتشدق بعض الناس ويقولون: لا دليل صريح على أن الإيمان ينقص، لكن عندنا أدلة على أنه يزيد، فإجماع السلف على أنه كما أنه يزيد ينقص، والدليل هو مفهوم هذه النصوص التي ذكرناها. ثم ذكر الإمام الآجري رحمه الله: باب: ذكر ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه، يقول: في القرآن أدلة كثيرة على زيادة الإيمان، وقال: قيل لـ سفيان بن عيينة: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرءون القرآن، {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173]؟ فقيل له: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد -أي: سيئاته- زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]). وعن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه. وعن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيماناً، فيجلسون ويذكرون الله تبارك وتعالى حتى يزداد إيمانهم. وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً ثم ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لألباب ذوي الرأي منكن). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، يعني: ساعة السرقة يخرج منه الإيمان كما جاء في الحديث: (يرتفع الإيمان من قلبه ويصبح مثل الظلة فوق رأسه، ثم يعود إليه إذا نزع عن هذا الفعل، أو تاب منه). ذلك لأنه لا يوجد عنده استحضار الشعور بتحريم هذا الشيء، ومثله الزاني والعياذ بالله ساعة هذا الفعل يخرج من الدائرة الصغرى دائرة الإيمان، ولكن ما زال في دائرة الإسلام، فإذا استحل فإنه يخرج من الإسلام تماماً. فالتوبة تدخل المشرك في دائرة الإسلام العامة، كذلك أيضاً التوبة من المعصية تدخله ثانية إلى دائرة الإيمان، وما الدليل على ذلك؟ لأن الخوارج المكفرين للمسلمين العصاة يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي عنه الإيمان وأنت تصفه بأنه مسلم كيف هذا؟ ما الدليل على أنه ما زال في دائرة الإسلام؟ نقول: إذا كان خرج بالفعل من الإيمان بالكلية فهذا يستحق أن يقتل ردة، لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإقامة الحد هو تطهير، مثل حديث المرأة الغامدية وغير ذلك من الأحاديث التي فيها الحكم عليهم بعد الاستغفار لهم، فلو خرج غير المحصن بالزنا من الإسلام لكان ردة، لكنه يجلد ولا يقتل، كذلك الشارب يجلد، والسارق يقطع، فدل على إسلامه، ثم الحد كفارة لذنبه، وهذا لا يكون إلا لمسلم، وفي حديث أبي ذر: (وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر)، يعني: إذا مات على التوحيد؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد). عن فضيل بن يسار قال: قيل لـ أبي جعفر رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). قال: فدور دائرة وقال: هذا الإسلام، ثم دور حولها دائرة فقال: وهذا الإيمان محصور في الإسلام، فإذا سرق أو زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك. وعن الفضل بن يسار قال: قال محمد بن علي رضي الله عنه: هذا الإسلام دائرة كبيرة، ودور دائرة في وسطها أخرى، وهذا الإيمان الذي في وسطها محصور في الإسلام، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) ثم قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب تاب الله عليه، ورجع إلى الإيمان. يقول الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: ما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما! وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص. انظر إلى هذا التعبير الدقيق! يقول: لا تقل في الإسلام: إنه يزيد وينقص، لكن الذي يزيد وينقص هو الإيمان، لأن الإنسان بالطاعة يزيد إيمانه، وبالمعصية يضعف إيمانه، وهذه الأحاديث في الزاني والسارق وشارب الخمر تدل على أنه يخرج من الإيمان ساعة الفعل، ويبقى في الإسلام، فلا يقال في الإسلام: يزيد وينقص، وإنما يقال: الزيادة والنقصان في الإيمان؛ لأنه حتى لو كان متلبساً بالمعصية فما زال في دائرة الإسلام. نعيد عبارة الإمام الآجري رحمه الله معلقاً على قول محمد بن علي رضي الله عنهما قال: وما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما! وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الإسلام: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر). وقال ابن عباس رضي الله عنهما لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه، فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: الإيمان نزه يعني: موصوف بالنزاهة، والنزيه لا يقبل أن يجتمع معه الخبيث، فالإيمان الموجود في قلب المؤمن لا يمكن أبداً أن يجتمع ويبقى في قلب يفعل مثل هذه الفواحش أو هذه المحرمات، الإيمان يتنزه عن أن يتواجد في مثل هذا القلب، فسرعان ما يخرج منه والعياذ بالله! يقول أبو هريرة: الإيمان نزه، فمن زنى فارق الإيمان، فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً). وقال ابن عيينة: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة وكان أصغر منه: يا أبا محمد! لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بل حتى لا يبقى منه شيء. لأن المعاصي

الإيمان والكفر [7]

الإيمان والكفر [7] الاستثناء في الإيمان هو أحد المسائل التي أخذ فيها المبتدعة بجانب واحد من الأدلة وأغفلوا الجانب الآخر فضلوا، ووفق الله تعالى أهل السنة والجماعة إلى الأخذ بجميع أطراف النصوص فاهتدوا، فقد ذهبوا إلى جواز إلى جواز الاستثناء في الإيمان باعتبار وعدم جوازه باعتبار آخر. ثم إن أهل الإيمان متفاوتون فيه، وبحسب هذا التفاوت يكون نعيم الجنة، وعلو الدرجات فيها.

كلام الآجري في الاستثناء في الإيمان

كلام الآجري في الاستثناء في الإيمان هناك قضية أقحمت إقحاماً في قضايا الكفر والإيمان، وهي: الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا قيل لك: هل أنت مؤمن، فبماذا تجيب؟ هل تقول: نعم أنا مؤمن، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو ماذا تقول؟ فهذه القضية وإن كانت ليست من صلب قضايا الإيمان لكن لها تعلق بما سبق أن ذكرناه في قضية الإيمان ومركبات الإيمان. ونعرض أولاً لقول الإمام أبي بكر الآجري رحمه الله تعالى في كتاب الشريعة حيث قال: باب ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه. يعني: أنه يجوز أن تستثني في الإيمان دون أن تقصد بهذا الاستثناء الشك، فإذا قيل لك: هل أنت مؤمن؟ فلك أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا تقصد بكلمة: (إن شاء الله) الشك والريب؛ لأن الريب ينافي الإيمان كما ذكرنا من قبل في شروط لا إله إلا الله، فمن شروطها: اليقين المنافي للشك، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فلا يجوز الشك في الإيمان، فالذي يعتمده الإمام الآجري رحمه الله: أنه يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، بدون أن تقصد من كلمة: (إن شاء الله) الشك في الإيمان، فمن صفة أهل الحق كما يقول الآجري: الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك، ولكن من أجل خوف التزكية للنفس بالاستكمال للإيمان، فالإنسان لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، فيقول: نعم أنا مؤمن، أو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله دون أن يقصد بذلك تزكية نفسه. وقد ذكرنا من قبل: أن الإيمان يتركب من تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح بما فيها اللسان، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا الاستثناء لا يمكن أبداً أن يدخل في تصديق القلب ولا في قول اللسان، وإنما يكون الاستثناء فيما يتعلق بعمل الجوارح الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، فلا يمكن أبداً أن يصح الإيمان من رجل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقصد التصديق بالقلب، فهذا لا يدخله استثناء، بل لابد فيه من اليقين الراسخ المنافي تماماً للريب وللشك. وكذلك لا يمكن أن تكون قاصداً بقولك: (إن شاء الله) النطق باللسان، لكن قولك أنا مؤمن إن شاء الله، يكون فيما يتعلق بالجزء الثالث وهو عمل الجوارح. هذا هو الذي يصح أن تستثني فيه. والناس عند السلف على الظاهر مؤمنون يتوارثون ويتناكحون؛ لأن ظاهر الناس في حياتهم في المجتمع الإسلامي أنهم مؤمنون مسلمون، وبهذا الإيمان يتوارثون، وإلا لو لم يكونوا مؤمنين لما ترتب على ذلك حصول الميراث بين المسلم وقريبه المسلم. وبه يتناكحون أيضاً وهكذا يتم التناكح على أساس الحكم بالإيمان، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه وحسب ما بينه العلماء من قبل، إنما ينصرف إلى الأعمال التي توجب حقيقة الإيمان، وليس المقصود بالاستثناء ما في القلب، ولا الذي هو قول باللسان، إنما الاستثناء يكون في أعمال الجوارح، وهو عبارة عن مخافة واحتياط فقط، ولا يمكن أبداً أن يكون على الشك؛ نعوذ بالله من الشك في الإيمان. أما الأدلة على أن الاستثناء يكون بغير شك فمنها: قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، فهل يمكن أن نقول: إن كلمة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، هنا على الشك؟ A هذا لا يمكن؛ لأن هذه بشارة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فالله علم أنهم داخلون الحرم الشريف آمنين، فهذا دليل على أن الاستثناء يكون بغير شك، وليس شرطاً أن تنصرف كلمة: (إن شاء الله) إلى الشك كما في هذه الآية. كذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقبرة ودعا للمؤمنين ختم دعاءه بقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، فهل هذا على الشك؟ الجواب: كلا، بل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل)، وهذا أيضاً ليس على سبيل الشك، ولكنه عبر عنه بقوله: (إني لأرجو). وروي أن رجلاً قال عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فلما سمعه ابن مسعود يقول: أنا مؤمن، قال: أفأنت من أهل الجنة؟ قال الرجل: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ أي: كما أنك لم تجزم في الأخيرة بأنك من أهل الجنة، ووكلت ذلك إلى علم الله، كذلك في الدنيا أيضاً لا تزكي نفسك، ولا تجزم بأنك مستحق للجنة. أيضاً: في سؤال الملكين في القبر جاء في الحديث أنهما يقولان للمؤمن: (على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)؛ فإن كان هذا المؤمن مات على اليقين وعلى الإيمان، فلا يمكن أن يكون المقصود من قول الملكين: (إن شاء الله) الشك؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فهذا نص على أنه مات على اليقين، ويقال للكافر: (على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)، فقالا: إن شاء الله، لا على سبيل الشك. وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله - يعني: الإمام أحمد رحمه الله يعجبه الاستثناء في الإيمان. أي: يعجبه أن الرجل إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فقال له رجل: إنما الناس رجلان: مؤمن وكافر؟ فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]؟ يعني: ماذا تقول في هذا؟ وهذه الآية في سورة التوبة في بعض المؤمنين كما هو معلوم. وقال الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء. يعني: ما أدركت أحداً من الأئمة السابقين من أئمة السلف إلا على الاستثناء في الإيمان، وكأن أحدهم كان إذا سئل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. قال الأوزاعي في الرجل سئل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي سألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله عز وجل علمه في ذلك، حين يزعم أن علمه وعلم الله عز وجل في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعد ما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فأشربتها قلوب طوائف منهم، واستحْلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف، ولست بيائس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً دون أسلافكم؛ فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله عز وجل وبعثه فيهم، فوصفه بهم فقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. هذا كلام الأوزاعي رحمه الله، وهو يدل على أن هذا السؤال من الأشياء المحدثة، ونحن نقر بذلك، وأنه لم يكن من أدب الصحابة ولا سلوكهم أن يسألوا مثل هذه الأسئلة، وإنما أراد من اخترع هذا السؤال أن ينازع في علم الله تبارك وتعالى، وأن يثبت بأن علمه فيك مثل علم الله فيك، فينكر عليك إذا قلت: إن شاء الله؛ لأنه يريد أن تقول له: أنا مؤمن؛ حتى توافقه على ذلك، ويقول: أنا أعلم منك أنك مؤمن، وأنت حينما تقول: إن شاء الله، هي إحالة إلى علم الله تبارك وتعالى، وهو يريد أن يساوي بين علمه هو وعلم الله عز وجل فيك. وقيل لـ سفيان بن عيينة: الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: قل: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة. يعني: لا أشك لا في تصديقي بالقلب، ولا في نطقي باللسان. فهذا أيضاً نوع من محاصرة السائل بحيث يفوت عليه مقصده، ثم قال: وتقول: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد أي: يمكن أن تجيب هذا السائل الذي يسألك: أأنت مؤمن؟ -فتقول له: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، أمقبول عملي أم لا. وعن ابن خليفة قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. فجمعت هنا بين التصديق بالقلب، وبين النطق باللسان، وفوّتَّ عليه الكلام في الجزء الثالث؛ ولذلك لم تحتج هنا إلى الاستثناء. وعن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136] إلى آخر الآية. الشاهد: أنك تتلو عليه هذه الآية؛ لأن الله أمرك بأن تقولها: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136] فحينما تقول: آمنت بالله، وبما جاء من عند الله، أفضل من أن تقول: أنا مؤمن. وتسكت، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتعني أنك إن شاء الله لست شاكاً في إيمانك. وعن

كلام ابن أبي العز في الاستثناء في الإيمان

كلام ابن أبي العز في الاستثناء في الإيمان هذه المسألة أيضاً تعرض لها شارح الطحاوية رحمه الله تعالى بشيء من التفصيل، وهذه المسألة أحياناً يترتب عليها خلافات عديدة ومذمومة في نفس الوقت، فعند بعض المذاهب -كالأحناف- من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، يقولون: هذا شاك في إيمانه، ومن ثم قال بعضهم: إن الحنفي لا يصح أن يتزوج شافعية؛ لأن الشافعية تشك في إيمانها؛ لأنهم يجيزون أن تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله، فخرج عالم من المتأخرين لعله أبو السعود العمادي صاحب تفسير: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، خرج الشيخ أبو السعود رحمه الله بقول أعجب من ذلك فقال: بل يجوز للحنفي نكاح الشافعية قياساً على الكتابية! ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول شارح الطحاوية رحمه الله: ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه. أي: من الناس من يوجب أن تجيب وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويوجب الاستثناء، ومنهم من يقول: يحرم عليك أن تقول: إن شاء الله، بل تقول: أنا مؤمن. ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار. وهذا أصح الأقوال. يعني: أنه يقول: المسألة فيها تفصيل، ولكن هذا أصح الأقوال. قال: أما من يوجبه -أي: الاستثناء- فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة -باعتبار حالة التوفي؛ فإنما الأعمال بالخواتيم- وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. فالإيمان الحقيقي والنافع هو ما ختم لصاحبه به، فالعبرة بعلم الله بخاتمتك ونهايتك أن تكون على الإيمان أم على غير ذلك، والعياذ بالله! فهذا هو علم الله عز وجل بخاتمتك، أما ما قبل الخاتمة فلا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان؛ كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب. وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد. يعني: باعتبار النظر إلى المآل والخاتمة. وليس هذا -كلام للكلابية- موافقاً لأقوال السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه. يعني: أن السلف لما كان يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، قصدوا معنى معيناً. أما الكلابية ومن وافقهم إنما قالوا: إن الاستثناء واجب، فإنما نظروا إلى هذا التعليل، وهذا التعليل ليس موافقاً لكلام السلف، وهو أن الله عز وجل إنما ينظر للخاتمة ولا عبرة بقبل ذلك، وأن الكافر الذي كتب أنه سيختم له بالإسلام محبوب عند الله حتى قبل أن يكون كافراً، وكذلك -مثلاً- الصحابة قبل أن يسلموا كانوا محبوبين عند الله باعتبار مآلهم وخاتمة أعمالهم بالإسلام والإيمان، وكذلك في حق إبليس وفي حق من ارتد بعد إسلامه، فالله يبغضه قبل أن يفعل ما فعل من الكفر بالنظر إلى الخاتمة وإلى المآل، فيقول: ليس هذا قول السلف ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتباع الرسول شرط للمحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة، هذا رد على ما عللوا به. ثم صار إلى هذا القول -القول بوجوب الاستثناء- طائفة غلوا فيه غلواً جداً وتطرفوا في الأخذ بالاستثناء حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، وأوجبوه في قولك: أنا مؤمن، ثم عمموا إيجاب الاستثناء في كثير من الأعمال حتى ما لا يليق أن ينسب فيه الاستثناء، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. وللأسف أن بعض الإخوة يفعلون هذا فتقول لأحدهم، ما اسمك؟ يقول: أنا أخواك كذا كذا إن شاء الله وهذا شيء لا يحتمل الاستثناء، وليس في مثل هذا استثناء، وإن قلت له: أين كنت بالأمس؟ يقول: كنت بالمكان الفلاني إن شاء الله، وهذا غير صحيح، فإنما تستثني بما يكون في المستقبل، أو في مثل هذه المواضع. يقول: حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، ويقول: صليت إن شاء الله. ثم صار كثير منهم -أشد غلواً- يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه، يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره. فعلقوا الأمر وعللوه بتعلقه بإرادة الله وعلمه تبارك وتعالى، فهذا هو المأخذ الأول الذي علل به من أوجب الاستثناء في الإيمان مذهبه. أما المأخذ الثاني: فهو أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، فبهذا الاعتبار شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين. فما زلنا نناقش مذهب من يوجب الاستثناء، وقلنا: إن لهم مأخذين: المأخذ الأول: النظر إلى سابق علم الله بما تكون عليه خاتمتهم؛ ولذلك أوجبوا أن تقول: إن شاء الله، ثم حصل غلو بصورتين ذكرناهما. المأخذ الثاني: أن من قال: أنا مؤمن ولم يقل: إن شاء الله، شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين -لأن المؤمن هو من قام بكل ما أمر به، وانتهى عن كل ما نهاه الله عنه؛ فهو يشهد لنفسه ويزكيها- القائمين بجميع ما أمروا به، وتركوا كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال. وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون. فإذاً: لم نوافقهم في التعليل الأول، ولكن يوافقهم السلف في التعليل الثاني، وأنك إذا سئلت: أنت مؤمن؟ تقول: نعم أنا مؤمن، قالوا: إن (أنا مؤمن) هذه فيها تزكية للنفس؛ لأن المؤمن هو الموصوف بما في مقدمة سورة الأنفال، قال الله عز وجل عنهم بعدما ذكر مجموعة من خصال المؤمنين، قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فإذا أنت وصفت نفسك بالإيمان ولم تستثن، فمعنى ذلك: أنك زكيت نفسك. قال: وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا صرف الاستثناء بمعنى آخر. فالسلف الذين اعتبروا هذا المأخذ دليلاً على جواز الاستثناء في الإيمان يجوزون عدم الاستثناء، لكن يقصد بكلمة الإيمان معنى آخر، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، يعني ليس معنى أنك تقول: أنا مؤمن إن شاء الله: أنك شاك في إيمانك، لكن يقولون: يجوز أن تقول: إن شاء الله فيما لا شك فيه، من حيث القلب واللسان، لكن من حيث عمل الجوارح هذا الذي أشرنا إليه في المأخذ الثاني. كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لا حقون)، وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله). ونظائر هذا. وأما من يحرمه -الفريق الذي يحرم أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله- فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم بالشكاكة. يعني: متشككين في إيمانهم. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه. يعني: أن قوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)). الاستثناء فيه متعلق بأنكم ممكن أن تكونوا آمنين وممكن ألا تكونوا آمنين، لكن الدخول واقع واقع، فأعادوا الاستثناء إلى الأمن من عدم الأمن، وهذا تكلف لا شك فيه، فقالوا: إن الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، حتى إن بعضهم اخترع تفسيراً آخر فقال: قوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))، يعني: لتدخلن جميعكم أو بعضكم، فهذا هو مأخذ الاستثناء؛ لأنه علم أن بعضهم يموت قبل هذا الحادث أو هذا الوقت. وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين؛ لأن الله عز وجل قال: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ))، وهذه حال، يعني: تدخلون حال كونكم آمنين. مع علمه تبارك وتعالى بذلك؛ فلا شك في الدخول، ولا شك في الأمن، ولا شك في دخول الجميع أو البعض؛ لأن الله قد علم من يدخل، فكان قوله: ((إِنْ شَاءَ اللَّهُ)) تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله! لأفعلن كذا إن شاء الله. وهذا الشيء ليس بسبب شك في عزمه وإرادته؛ لأنه لو شك ما عرف، لكن يترتب عليها فقط حكم شرعي وهو: أنه إذا حلف واستثنى فحنث لا تجب عليه الكفارة. فقوله: والله! لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما يقولها حتى لا يحنث في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن المستقبل، فقوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ))، هذا تأديب للمؤمنين: أنه إذا أخبرت عن شيء تفعله في المستقبل أن تستثني، وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه لم يسبق الكلام له، إلا أن يكون مستنبطاً من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين وكلاهما عجيب، حتى إن بعض العلماء وصفه بالمسكين، حيث قال: فأجاب الزمخشري بجوابين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله، فأثبت قرآناً، أو أن الرسول قاله. يعني: كأن كلام الملك أو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في القرآن؛ فيصبح قرآناً بمجرد ذلك. ولا حول ولا قو

تفاضل أهل الإيمان

تفاضل أهل الإيمان يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: وأهله فيه على تفاضل هل أنت كالأملاك أو كالرسل يعني: أن أهل الإيمان في هذا الإيمان على تفاضل، فهل أنت كالأملاك أو كالرسل؟! الآن في الحقيقة المرجئة يقولون: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل؛ لأن الإيمان عندهم مجرد المعرفة بلا عمل. فالناس ليسوا سواءً في الإيمان، بل بعضهم يكون أفضل من بعض في الإيمان، كما ذكر الله تبارك وتعالى أقسامهم التي قد قسمهم عليها بمقتضى حكمته، فقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163].

آيات وأحاديث في الرجاء

آيات وأحاديث في الرجاء يقول عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] إلى آخر الآيات، فهنا انظر إلى قوله: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا))، يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم: ((الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))، ثم ذكر أقسام هؤلاء المصطفين الأخيار فقال: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)) بالمعاصي، فدل على أن العاصي لا يخرج من الإسلام، ولا يخرج من الإيمان بمجرد المعصية، بدليل أنه ذكرهم ضمن من سيرحمهم الله تبارك وتعالى: ((وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ))، أي: اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:32 - 33]، فبعض العلماء قال: إن هذه أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي، والإنسان إذا أشرف على اليأس أو القنوط أو خروج روحه؛ فإنه يتذكر نصوص الرجاء أو يُذكر بها حتى يلقى الله وهو حسن الظن به، أو إذا كان في حالة غير حالة الاحتضار، وغلب عليه الخوف بحيث خشي أن يئول أمره إلى القنوط من رحمة الله عز وجل، فعليه أن يذكر نفسه بنصوص الرجاء هذه، فبعض العلماء يقولون: حق لهذه الواو التي في قوله: ((يَدْخُلُونَهَا))، والتي تعود على الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات حق لها أن تكتب بماء العين؛ ولذلك عد بعض العلماء هذه الآية أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي. كذلك من الآيات التي يقال عنها: إنها أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وكذا قوله تعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فبين أنك إما أن تؤاخذ بالذنوب في الدنيا، وإما أن الله يعفو عنك، وما تبقى من ذلك سيعفو الله تبارك وتعالى عنه. وكذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، لكن لما قيل لبعض الناس: إن هذه أرجى آية في القرآن، قالوا: لكن هذه فيها المشيئة في قوله: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، لكن أيضاً هي من آيات الرجاء العظيمة؛ لأن الإنسان إذا كان على التوحيد ومات عليه، فهو داخل في مشيئة الله، والله أرحم الراحمين، ويرجى له ذلك. وكذا أطول آية في القرآن، وهي آية الدين؛ لأن الله عز وجل من تعظيمه لحق المؤمن حتى في الدراهم أو الدنانير المعدودة أنزل أطول آية في القرآن لأجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، وكما تعلمون فيها الكثير من الأحكام الشرعية لحفظ حق المسلم ومصلحته في أشياء يسيرة، فيرجى من الله عز وجل في الآخرة أن تكون رحمته للمؤمن، وتقديره الخير والسعادة له أعظم وأعظم من ذلك، فإذا كان هذا في مجرد دراهم قليلة في الدنيا أنزل أطول آية حتى يضمن لك هذه المصلحة، فكيف تكون رحمته في الآخرة؟ فنؤمل خيراً من ذلك. ومثل هذا أيضاً: بعض الآثار التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن أحداً من أمته يبقى في النار، وقد ساقوا في ذلك أشعاراً منها: ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطى فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله! ترضى وفينا من يعذب أو يساء المقصود: أن النبي عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، فكما أن الله عز وجل في جانب الرحمة يعفو عمن يستحق ذلك، ويعلمه الله أهلاً لذلك، فكذلك من كماله أن يكون عادلاً في من عصى أمره، وعاند شريعته، وخرج عن طاعته، فمن عصى الله والرسول يحب أن يعاقب، لكن على كل حال قد يرشح هذا الأمر حديث قدسي في صحيح مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا دعاء إبراهيم لقومه، ودعاء عيسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا رب! أمتي أمتي، وبكى)، أي: أنه لما وجد إبرهيم دعا لقومه وعيسى دعا، قال: (يا رب! أمتي أمتي)، فأرسل الله عز وجل إليه ملكاً فقال: (قل له: يا محمد! ما يبكيك؟ فقال: يا رب أمتي أمتي)، أشفق عليه الصلاة والسلام على أمته، فأوحى الله إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام: (قل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك)، وهذا أيضاً مما يدخل ضمناً في معنى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، يعني: يرضيك بما يشرح صدرك بالنسبة لمصير أمتك في الآخرة. وآيات الرجاء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فالشاهد: أن هؤلاء المجرمين الذين عادوا أولياء الله وأحرقوهم وعذبوهم هذا التعذيب، واستحقوا بذلك أن يكونوا أشد الناس عذاباً في الآخرة؛ لأن من عذب الناس في الدنيا يعذبه الله عذاباً أشد من ذلك في الآخرة، ومع ذلك اشترط عدم التوبة في حصول العقوبة لهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فأي رحمة أعظم من ذلك؟! كذلك في سورة الفرقان بعد أن ذكر الله عز وجل جملة من كبائر الذنوب قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70] إلى آخر الآية. كذلك قال الله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، الشاهد في نفس هذه الآية، وهو قوله: {وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، على أن هذه الآية من آيات الرجاء في القرآن، وقد نزلت في مسطح لما قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد وصفه بأنه من المهاجرين في سبيل الله رغم أنه فعل هذه الكبيرة وهي قذف أم المؤمنين، هذا هو الشاهد؛ لأنه دل على أن هذه المعصية الكبيرة التي أنزل الله فيها ما أنزل في سورة النور تنزيهاً لأم المؤمنين، وتبرئة لها رضي الله عنها، فمثل هذا الذنب العظيم الذي فعله مسطح لو كان يحبط ما سبق من أعماله الصالحة لما استقر له وثبت وصف الهجرة في سبيل الله، لكن ثبوت هذا الوصف لـ مسطح مع ارتكاب هذه الكبيرة دل على أن معصيته لا تحبط ما سبق من أعماله الصالحة، ففي هذا بشرى للمؤمن أن المعصية وإن كانت تنقص إيمانه لكنها لا تذهبه بالكلية، ولا تحبط أعماله السابقة.

تفاوت أهل الطاعات

تفاوت أهل الطاعات على أي الأحوال هذا استطراد ربما نكون خرجنا به عن الموضوع، ففي هذه الآية وهي قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، هل هؤلاء المؤمنون المصطفون يستوون في إيمانهم؟ A كلا؛ فهذا التقسيم يدل على تفاوت إيمانهم، فقسم الناجين منهم إلى مقتصدين، وهم الأبرار أصحاب اليمين الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه، وإلى سابق بالخيرات: وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وتركوا ما لا بأس به خوفاً مما به بأس، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، إلى آخر معنى الحديث السابق، فبه يسمعون، وبه يبصرون، وبه يبطشون، وبه يمشون، وبه ينطقون، وبه يعدلون. وأما الظالم لنفسه ففي المراد به عن السلف الصالح قولان: القول الأول: أن المراد به الكافر، فيكون كقول الله عز وجل في تقسيم الناس في سورة الواقعة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7 - 11]، وقسمهم عند الاحتضار أيضاً كذلك، فقال عز وجل: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94] فإن تفاضل أهل الإيمان في تقسيم هذه السورة إنما هو على درجتين: سابقين مقربين وأبرار، وهؤلاء هم أصحاب اليمين، وأما أصحاب الشمال الذين هم المكذبون الضالون فليسوا من أهل الإسلام باتفاق، وإنما الخلاف في الظالم نفسه في آية فاطر، هل هو الكافر، أم غير ذلك؟ فالقول الأول: أن الظالم نفسه كالكافر، فيكون التقسيم على هذا التفسير موافقاً لما في الآيات التي ذكرناها. القول الثاني: أن المراد به عصاة الموحدين؛ فإنهم ظالمون لأنفسهم، ولكن ظلم دون ظلم، لا يخرجهم من الدين، ولا يخلدهم في النار، فعلى هذا يكون هناك قسم ثالث لتفاضل أهل الإيمان، ورجح هذا القول ابن القيم رحمه الله تعالى، فإذا كان أتباع الرسل بينهم تفاوت على حسب درجات إيمانهم: ظالم لنفسه، مقتصد، سابق بالخيرات، فكيف بتفاوت ما بينهم وبين رسلهم؟ لا شك أن التفاوت بعيد جداً، بل الرسل أنفسهم فيما بينهم متفاضلون، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253].

تفاوت المؤمنين في درجات الجنة ونعيمها

تفاوت المؤمنين في درجات الجنة ونعيمها أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم متفاوتون في الإيمان في باب التكليف، وكذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها، فالجميع في الجنة، ولكن بتفاوت مراتب إيمانهم يتفاضلون، وما كان هذا التفاضل في الجزاء في الجنة إلا بسبب تفاضلهم في إيمانهم في الدنيا، قال عز وجل في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب، فلك الحمد، كما قال الجن حينما سمعوها من النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لقد قرأتها -يعني: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، قالوا: ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد). قال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:49 - 55]، إلى أن قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، فدل على التفاوت في الجزاء في الآخرة. وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون، وأنها أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين، وكذلك في سورة المطففين قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:22 - 28]، وغير ذلك من الآيات. وقال صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن). وقال الله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]، وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم ليتراءون أهل عليين، يعني: ويرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي. هذه حقيقة سوف يدركها كل من امتن الله عز وجل عليه بدخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم. فأهل الجنة الذين هم أقل من أهل عليين يرون أهل عليين كما ترى أنت الكوكب الدري، وذلك أنك حينما تخرج من صلاة الفجر ترى كوكباً في السماء ذاك الكوكب هو الدري الغابر الذي يظهر في السماء، فانظر إلى مسافته إنه بعيد جداً عنا، ومع ذلك فإن أهل الجنة سيرون أهل عليين كما ترون أنتم في الدنيا هذا الكوكب الدري الغابر في الأفق الشرقي أو الغربي. أيضاً هم متفاوتون في الأزواج، والفواكه والمطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات، ويا سبحان الله! شتان بين من يعيش ليدرك هذا النعيم، وبين من يعيش ويشقى ويركبه الهم والغم والحزن. فمثلاً: إذا أغري رجل بشقة صفتها كذا وكذا كأفخم ما تكون، أو قصر في هذه الدنيا، كيف تكون علو همته في تحصيل هذا الأمر، فالناس ليس عندهم يقين أن هذا واقع فعلاً، وأن هذه دار إقامة لا موت فيها ولا انقطاع، فما من شك أن الإنسان إذا كان عالي الهمة لا يطمح فقط في دخول الجنة، ولكنه يطمع في رحمة الله، ويسأل الله الفردوس كما أوصانا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر إلى التفاوت حتى في المراتب، فعالي الهمة يطلب المراتب العليا. والناس يتفاوتون في الفرش والملبوسات وفي الملك والجمال والنور، ويتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، وزيارتهم إياه، ومقاعدهم يوم المزيد -الذي هو يوم الجمعة- في الجنة. وأيضاً حديث الشفاعة فيه: أن بعض الموحدين تمسهم النار بقدر ذنوبهم، بل معروف أيضاً في مشاهد يوم القيامة أن العرق يبلغ من الإنسان بقدر ذنوبه، فمن الناس من يكون العرق عند قدميه، ومنهم من يكون عند ركبته، حسب المعاصي في الدنيا، ومنهم من يبلغ العرق إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق، والعياذ بالله! فبماذا يكون هذا؟ يكون بقدر الذنوب، وتفاوت الناس في قوة الإيمان. أيضاً: عصاة الموحدين في النار تمسهم النار بقدر ذنوبهم، والسير على الصراط أيضاً يكون بقدر قوة الإيمان، وهذا فيه تفاوت، فهناك من يمشي بسرعة البرق، ومن هو بسرعة الريح، ومن يحبو، ومن يقع وهكذا، فهذا كله بمقدار الذنوب.

تفاوت أهل النار في الدركات والعذاب وبيان فساد مذهب المرجئة

تفاوت أهل النار في الدركات والعذاب وبيان فساد مذهب المرجئة ثم يوجد تفاوت في النار؛ فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود؛ لذلك جاء في حديث الشفاعة أن الملائكة حينما يدخلون النار من أجل أن يخرجوا من مات على التوحيد إنما يعرفونهم ويميزونهم بمواضع السجود، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود)، فيا خيبة ويا حسرة تاركي الصلاة الذين تخلو وجوههم من علامات السجود! ولا نعني بذلك العلامة المعروفة التي -كما يقول بعض السلف-: قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، فإنه يسهل أن يطرح هذه العلامة بطرق شتى، لكن العبرة بما ذكره الله عز وجل في قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، فالعبرة بالخشوع والتواضع والسكينة، وهذا دليل استدل به من كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وقال: لا حظ لمن لا يصلي في هذا الأمر؛ لأن الملائكة إنما تخرج من كان يصلي، فاستدلوا بذلك على كفر تارك الصلاة، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك بالتفصيل. كذلك الناس يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها، وسرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبداً، فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه يضيء تارة وينطفئ أخرى؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]؟ في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، فهذا أيضاً دليل على التفاوت. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يمدح عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فكلمة: (أضعف)، تدل على أن الدرجة الوسطى أوسط، والدرجة الأولى هي أقوى الإيمان، فدل على ضعف وقوة في الإيمان، وكذا زيادته ونقصانه وتفاوت وتفاضل أهله فيه، بخلاف قول المرجئة ومن وافقهم في أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه، بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، فبالتالي يترتب على كلامهم: أن إيمان جبرائيل وإسرافيل وميكائيل والملائكة وحملة العرش مثل إيمان أدنى واحد من المؤمنين، فإيمان هؤلاء الذين يعاينون الغيب مثل إيمان أقل واحد من المسلمين، فأين قائل هذا من هذه النصوص الواضحة التي تبطل هذا المذهب الفاسد؟! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان أهل الأرض لرجح.

اتصال العمل بالإيمان في نصوص الشرع

اتصال العمل بالإيمان في نصوص الشرع وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله أول الأنفال حتى بلغ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل. يعني: كلمة: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فهل مدحهم الله بالقول فقط، أم بالأعمال أيضاً؟ قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4]، فقوله: (حقاً): يعني: أن حق الإيمان هو ما اقترن فيه القول بالعمل، فقال الفضيل: إن هذه الآية ستخبرك أن الإيمان قول وعمل. ثم يقول: وإن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله؛ مكذب أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، فيا سفيه ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله! لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك، كما يقول بعض السلف: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فرحمة الله عز وجل تسع كل شيء، لكن لا تأمن مكر الله تبارك وتعالى، وخف سوء الخاتمة، وسوء السابقة. يقول: والله! لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه: قول وعمل، وقرأ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فسماه: دين القيمة بعد أن وصفه بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]، وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته. والتفرق فيه ترك العمل، والتفريق بين القول والعمل، هذا هو تفسير: ((وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))، يعني: لا تفصلوا القول عن العمل، بل صلوا ما أمر الله به أن يوصل من القول مع العمل، قال الله تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا)) أي: المشركين: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله تعالى قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بجانب كلمة التوحيد. وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراءً على الله وخلافاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وللدفاع عن الأحناف وأصحاب الرأي في هذه القضية نقول: إنهم حينما يقولون: الإيمان بمعنى التصديق؛ فإنهم يقصدون التصديق المستلزم للانقياد والعمل، وهناك بحث وافٍ طويل في شرح الطحاوية حول هذه القضية. يقول: ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة. وقال الفضيل: يقول أهل البدعة: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، إنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان، قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر. يعني: أن الإيمان نفسه لو كان هو التصديق فقط، فإن التصديق يتفاوت، كما قال عز وجل: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فمن قال ذلك: يعني: من قال: إن الإيمان واحد، والناس كلهم متساوون في الإيمان، لكن يتفاضلون بالأعمال فقط، وأما في الإيمان فلا يتفاضلون. قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فكلمة: (أفضلها)، يدل على وقوع التفاضل بين شعب الإيمان، ومن يقول: إن الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فمن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره، ويقول أهل السنة: إن الله تعالى قد قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:82]، فوصل العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه منقطع غير موصول، فيقولون: (الذين آمنوا)، ويفصلونها عن: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) يعني: هذه جملة فيها مبتدأ جديد، وليست موصولة بما قبلها. وقال أهل السنة: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:124]، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع، فقال أهل السنة: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] ربط السعي والعمل بالإيمان، فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا، فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون كان من عصى وارتكب المعاصي أو المحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أدلة تفاضل أهل الإيمان فيه

أدلة تفاضل أهل الإيمان فيه قد ذكرنا الأدلة على مسألة: أن أهل الإيمان متفاضلون فيه، ومنها قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، وقوله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فإذا كان التفضيل يحصل بين الرسل أنفسهم، فأولى أن يقع التفضيل بين الرسل وأتباعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كذلك قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، إلى أن قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، فدل على تفاوت الثواب، مما يدل على تفاوت الإيمان، وكذا قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163] وكذلك أيضاً في سورة الواقعة قسَّم الله تبارك وتعالى الناس إلى طوائف متفاوتين في إيمانهم، وفي سورة المطففين ميز بين الأبرار وبين المقربين، وقد ذكرنا جملة من الأحاديث التي تدل على أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما يتراءى الناس في الدنيا الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وهناك تفاوت في الأزواج، والمطاعم، والمشارب، والفرش والملبوسات، والملك، والحسن والجمال والنور، والقرب من الله عز وجل، وكثرة زيارة الله عز وجل إياهم في الجنة، والمقاعد يوم المزيد، وفي أمور لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وذكرنا أيضاً حديث الشفاعة، وكيف أن الذنوب تجعل أهل العصاة الموحدين يبقون في النار بقدر ذنوبهم، وهم في ذلك متفاوتون تفاوتاً عظيماً في مقدار ما تأخذ منهم النار، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم إلى ركبتيه، أو حقويه، أو كله، إلا مواضع السجود فقد حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود. وكذلك هم متفاوتون في مقدار لبثهم في النار، ومتفاوتون في سرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد، فهذا كله يدل على تفاضل أهل الإيمان فيه، وأنهم ليسوا كلهم على مرتبة واحدة من الإيمان كما يزعم بعض المبتدعة. أيضاً ذكرنا أنهم لولا ما كان في قلوبهم من الإيمان والتوحيد لما خرجوا من النار، وإنما يتفاوتون في مدة أخذ النار منهم في مدة لبثهم فيها، أو سرعة خروجهم منها؛ والسبب هو تفاوتهم في الإيمان، وتفاوتهم في التوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا من الكفار الخالدين المخلدين فيها أبداً والعياذ بالله! فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان)، يعني: أن أصل التوحيد موجود في جميع أوساط أهل التوحيد، وأصل التوحيد قاسم مشترك بينهم جميعاً، لكن هذا التوحيد وهذا الإيمان متفاوت بدليل أمره لهم في الحديث: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان) وهذا نص صريح على تفاوت أهل الإيمان فيه، وأيضاً قدمنا من قبل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها: لا إله إلا الله)، وهذا يدل على وجود التفاضل بين شعب الإيمان، فأين مثل هذا الشخص الذي في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه؟ يقول تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. أيضاً: أوردنا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيحين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، يعني: قوته وشدته في دينه وزيادة إيمانه رضي الله عنه. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحداً يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه) والمشاش هو: رأس العظام التي يمكن أن تمضغ، وهي الغضاريف، والمقصود: قوة وزيادة إيمان عمار بن ياسر رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فهذا دليل على تفاضل أهل الإيمان فيه، قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان)، يدل على أن الإيمان يتفاضل أهله فيه، فأقوى الإيمان لمن كان مستطيعاً أن ينكر المنكر بيده بشروطه، (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). وكما قدمنا: إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يوجد مسلم عاجز عن الإنكار بالقلب حتى في حالة الإكراه، قال عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلم يقل: فمن لم يستطع؛ لأنه ليس وراء ذلك إيمان، بل أضعف الإيمان إنكاره بقلبه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح). يعني: لرجح إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه على سائر أهل الأرض. وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أول الأنفال حتى بلغ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فهذه الصفات التي جاءت في أول سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، إلى أن قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا))، قال الفضيل بن عياض: إنها تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وإن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب به، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان، ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه! ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله! لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه: قول وعمل وقرأ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فقد سمى دين القيمة بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فالدين هو التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته: ((وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) فالتفرق: ترك العمل، والتفريق بين القول والعمل، قال الله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ))، تابوا بالتوحيد، والآية هذه في حق المشركين {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فلم يسمهم إخواناً في الدين حتى ضم العمل إلى القول. وقال فضيل: يقول أهل البدع الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، ومن يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست هي الإيمان، أي: أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه بناءً على أن الفرائض ليست داخلة في حد الإيمان، فميز أهل البدعة العمل من الإيمان، وفصلوا وعزلوا العمل من مسمى الإيمان؛ ولذلك قالوا: إن الناس يتفاوتون بالعمل ولا يتفاوتون في الإيمان. ومن قال ذلك فقد أعظم على الله الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره. ويقول أهل ال

الإيمان والكفر [8]

الإيمان والكفر [8] إن أهل الإيمان يتفاضلون فيه بحسب تفاوت الأعمال القلبية وأعمال الجوارح، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن المؤمن تضره المعصية، وتنقص من إيمانه، فإذا استحق دخول النار ببعض هذه الذنوب وقد مات على التوحيد فإنه لا يخلد فيها، وهذا بخلاف قول الخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود فيها.

تفاضل أهل الإيمان في الأعمال القلبية

تفاضل أهل الإيمان في الأعمال القلبية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. بعد أن تكلمنا في بحث مسمى الإيمان، وحقيقة الإيمان، شرعنا في دراسة ست مسائل تتعلق بمباحث في أصول الدين: الأولى: كون الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والثانية: تفاضل أهله فيه، أي: أن أهل الإيمان متفاضلون وليسوا على مرتبة واحدة في الإيمان. الثالثة: أن فاسق أهل الملة الإسلامية لا يكفر بذنب دون الشرك ولوازمه إلا إذا استحله. والرابعة: أن المسلم الفاسق لا يخلد في النار. والخامسة: أن المسلم في العقاب وعدمه تحت المشيئة. السادسة: أن التوبة في حق كل فرد مقبولة ما لم يغرغر، سواء من كفر أو من أي ذنب كان. وقد فرغنا من الكلام على القضية الأولى: وهي أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وشرعنا في دراسة القضية الثانية وهي: أن أهل الإيمان متفاضلون فيه، كما قال حافظ حكمي: وأهله فيه على تفاضل هل أنت كالأملاك أو كالرسل والآيات والأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين في باب إثبات تفاضل أهل الإيمان أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تنكر. والمقصود بيانه أن الناس متفاوتون في الدين بتفاوت الإيمان في قلوبهم، ومتفاضلون فيه بحسب ذلك، فأفضلهم وأعلاهم في قوة الإيمان أولو العزم من الرسل. ومعروف أن أعلى أولو العزم من الرسل إيماناً هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلى وأفضل الناس إيماناً هم أولو العزم من الرسل، وأدناهم وأقلهم إيماناً المخلصون من أهل التوحيد، وبين ذلك مراتب ودرجات لا يحيط بها إلا الله عز وجل الذي خلقهم ورزقهم.

تفاوت أهل الإيمان في الأعمال الظاهرة

تفاوت أهل الإيمان في الأعمال الظاهرة كما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، يعني: حالات القلوب وإيمان القلوب يتفاوت من حيث قوة اليقين، وفي أعمال الإيمان أيضاً يتفاوتون، بل يتفاضلون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد وفي مكان واحد، فهناك الآلاف الذين يقفون على عرفات وهم يمارسون نفس العبادة في نفس الأرض وفي نفس الوقت يوم عرفة، كلهم موجودون في مكان واحد وفي عبادة واحدة وفي وقت واحد، ومع ذلك بين الواحد منهم والآخر تفاوت عظيم الله أعلم به. أيضاً يقف الناس في الصلاة صفاً واحداً في الظاهر كلهم يصلون نفس العبادة والمكان والوقت، وهم يستوون في العمل الظاهر، لكنهم يتفاوتون في عمل القلب والخضوع والخشوع. وكما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، بل والله يتفاوتون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد، وفي مكان واحد. فإن الجماعة في الصلاة صافون كلهم في رأي العين مستوون في القيام والركوع والسجود، والخفض والرفع، والتكبير والتحميد، والتسبيح والتهليل والتلاوة وسائر الأذكار، والحركات والسكنات، في مسجد واحد ووقت واحد وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والتفاضل ما لا يحصى، فهذا واحد منهم تجد قرة عينه في الصلاة وأثقل شيء عليه أن يقترب وقت التسليم حين يخرج من هذه الصلاة؛ فيود إطالتها مادام عمره، وآخر يرى نفسه في أضيق سجن، يود انقضاءها في أسرع من طرفة عين، أو يود الخروج منها، بل يتندم على الدخول فيها، وهذا يعبد الله على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يشاهد الله، وآخر قلبه في الفلوات، قد تتعدد به الضيعات، وتتفرق به الطرقات، حتى لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، ولا كم صلى. هذه حقيقة، فبعض الناس يتسلط عليهم الشيطان في الصلاة، فتجده متى ما دخل في الصلاة، ذكره الشيطان بكل شيء نسيه من أمور الدنيا، وكل مكان يجد فيه لذته، وأشياء كثيرة يكون نسيها في الأحوال العادية؛ فيأتي الشيطان ليذكره بها، ويظل يتشعب قلبه في كل أودية الدنيا، وتحضر كل المشاكل في أثناء الصلاة، ولا تنتهي هذه المشاكل إلا بانتهاء الصلاة، وعندما يسلم تضيع هذه المشاكل. انظر لشهر رمضان كل الناس يصومون، ثم انظر إلى التفاوت بينهم في فرحهم بهذا الشهر وابتهاجهم بدخوله واستعدادهم له، قارن مثلاً بين الذي يفرح بقدوم رمضان؛ لأنه سيرى الفوازير والتمثيليات والمسابقات ويأكل ويشرب ويتلهى ويتسلى مع أصدقائه ومعارفه، وبين من كلما مرت ساعة أو لحظة من رمضان تندم عليها؛ لأنه لم يستثمرها أكثر مما استثمرها، حتى إذا حضر آخر رمضان كأنه في مأتم، وأن أحب شيء إليه قد فارقه وهو أحوج ما كان إليه، كيف تتقطع قلوب المؤمنين بفوات رمضان وسرعة ذهابه. انظر إلى ذلك العاصي الفاسق الذي يفرح فرحاً شديداً لذهاب رمضان وانصرافه، حتى إن بعض الشعراء قال: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق ما كان أطوله على ألافها وأقله في طاعة الخلاق قوله: (رمضان ولى هاتها يا ساقي) أي: أنه امتنع عن شرب الخمر والعياذ بالله في أثناء رمضان، فيقول فرحاً: رمضان ولى فهات هذا الخمر التي حرمنا منها في رمضان. قوله: (ما كان أطوله على ألافها) ما كان أطول شهر رمضان على عبيد الخمر والعياذ بالله الذين تعودوا عليه. فهذا يصور نفس هذا المعنى الذي نشير إليه، ولذلك كان من الكبائر أن يتمنى الإنسان بقلبه أن يتأخر رمضان، ومن علامات الإيمان عند المؤمن الصادق أنه يفرح ويتمنى أن يكون غداً رمضان، ولا يتمنى أن يكون يوم غدٍ هو الثلاثين من شعبان. هذه من الآداب القلبية التي تدل وتعكس تفاوت الإيمان في عبادة واحدة. وإذا ذهبنا نستقصي أبواب الخير في عبادة مثل الصيام يتبين لدينا بصورة واضحة تفاوت الناس في العمل الواحد، وإن اشتركوا فيه في الظاهر. وهذا ترفع صلاته تتوهج من نوره حتى تخترق السماوات إلى عرش الرحمن عز وجل، وهذا تخرج صلاته مظلمة لظلمة قلبه، فتغلق أبواب السماء دونها؛ فتلف كما تلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، كما جاء في بعض الآثار أنها تقول له: (ضيعك الله كما ضيعتني). وهذا يكتب له أضعافها وأضعاف مضاعفة، وهذا يخرج منها وما كتب له إلا نصفها، إلا ربعها، إلا ثمنها، إلا عشرها، وهذا يحضرها صورة ولم يكتب له منها شيء، وهذا منافق يأتيها رياء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، هذا والناظر إليهم يراهم مستوين في فعلها، ولو كشف له الحجاب لرأى من الفرقان ما لا يقدر قدره إلا الله الرقيب على كل نفس بما كسبت، الذي أحاط بكل شيء علماً فلا تخفى عليه خافية. وكذلك الجهاد ترى الأمة من الناس يخرجون مع إمام واحد، ويقاتلون عدواً واحداً على دين واحد متساوين ظاهراً في القوى والعدد، فهذا يقاتل حمية وعصبية، وهذا يقاتل رياء وسمعة؛ لتعلم شجاعته ويرى مكانه، وهذا يقاتل للمغنم ليس له هم غيره، وهذا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا هو المجاهد في سبيل الله لا غير. وهذا هو الذي يكتب له بكل حركة أو سكون أو نصب أو مخمصة عمل صالح. وهكذا الزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع أعمال الإيمان، الناس فيها على هذا التفاوت والتفاضل بحسب ما وقر في قلوبهم من العلم واليقين، وعلى ذلك يموتون وعليه يبعثون، وعلى قدره يقفون في عرق الموقف، وعلى ذلك يكون الوزن والصحف، وعلى ذلك تقسم الأنوار على الصراط بحسب أعمال القلوب وغيرها، وبحسب ذلك يمرون عليه، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وبذلك يتسابقون في دخول الجنة، وعلى حسبه ترفع درجاتهم أيضاً في الجنة، وبقدره تكون مقاعدهم من ربهم تبارك وتعالى في يوم المزيد، وبمقدار ذلك ممالكهم فيها ونعيمهم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقضية تفاضل أهل الإيمان فيه مما يخالف فيها المرجئة وغيرهم من الفرق.

بيان حقيقة أن الإيمان قول وعمل

بيان حقيقة أن الإيمان قول وعمل الإيمان مركب من القول ومن العمل، وله معنيان: الأول: تصديق خبر الله تبارك وتعالى وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: الالتزام بالأوامر التي أمر الله بها هؤلاء المصدقين. هل يجوز أن نحكم بالإيمان لمن صدق بقلبه فقط ولم يلتزم بالعمل؟ بمعنى آخر: هل يكون مؤمناً من شهد أن لا إله إلا الله بقلبه ولكنه لم يعمل ما أمره الله به، ولم ينته عما نهاه الله تعالى عنه؟ الجواب عن ذلك يذكره فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه (الحد الفاصل بين الإيمان والكفر) يقول في الصفحة الخامسة عشرة: إن الفصل بين عقيدة القلب، أي: تصديقه، وبين الإذعان أي: الانقياد العملي، والتسليم لأمر الله، وفعل ما يطلبه سبحانه من المؤمنين، فصل لتقريب هذه الدراسة من الفهم، وليس له في الواقع حدوث ولا ظل. يعني: مسألة تقسيم الإيمان إلى قول وعمل، هذا في حد ذاته ليس هو أمر حقيقي، لكنه مجرد تسهيل وتبسيط لهذه الدراسة حتى نعرف مركبات الإيمان، لكن لا يعني ذلك أن الإيمان ينفصل وينفك عن العمل. فإنه لا يتصور عقلاً وجود إنسان ما يسمع كلام الله، يقول الله عز وجل له: أي عبدي! إن هناك يوم قيامة، فيه سأحاسبك على أعمالك، فإن أحسنت أدخلتك الجنة، وإن أسأت أدخلتك النار، ثم يقول رداً على ذلك: أي رب! إني أصدق كلامك، وأؤمن بما تقول، ولكني أعتذر عن العمل بأوامرك؛ لأنني كسول، هل هذا يليق؟ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يعقل إيمان رجل يعلم وجوب الصلاة، ويسمع نداء الله تبارك وتعالى كل يوم وليلة من حياته يناديه: حي على الصلاة، وهو لا يستجيب لهذا النداء مرة واحدة في حياته. ويقول الشيخ: ولقد كنت أضرب مثلاً لإخواني على هذه الحقيقة فأقول لهم: أرأيتم لو أن قائلاً قال لنا ونحن جلوس الآن: إن هذا المكان تحيط به النار، وإن لم تفروا الآن لحقت بكم وأهلكتكم، أيبقى منا أحد يصدق هذا الخبر إلا بادر بالخروج والهرب، أو يعقل أن ترى بيننا إنساناً يقول لذلك النذير: لقد سمعنا مقالتك وفهمنا تحذيرك، ولكنني أعتذر عن القيام من مكاني لأني كسلان. إذا وجد شخص بهذا الطراز، فإنما هو مجنون أو مكذب بالخبر، ويستحيل أن يوجد عاقل يصدق هذا الخبر ويرد هذا الرد. فإيمان القلب وامتثال الجوارح بالإذعان والمسارعة إلى فعل المأمور به، هما في الحقيقة قضية واحدة لا انفصال بينها، فإذا وجد الإيمان في القلب فإن صاحب هذا الإيمان سوف يبادر فوراً إلى العمل والامتثال. هذا الدليل دليل عقلي، لا يماري فيه إلا مقلد أعماه التقليد، أو جاحد جاهل. أما من حيث النقل فالأدلة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفهم من بعضها للنظر البادئ أن إيمان القلب وتصديقه يؤهل لدخول الجنة بعد عذاب في النار لا يعلم أمده إلا الله عز وجل، وأنه لا يخلد في النار خلوداً أبدياً كخلود الكفار المكذبين. المقصود إثبات أن تارك العمل مستحق للدخول في النار، وهو من جملة المعاقبين قطعاً؛ وهذه المسألة تمهيد لدراسة المسألة الثالثة من المسائل الستة، وهي: أن فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، فربما تهاون بعض الناس في المعاصي، وظنوا أنهم بالتوحيد سوف ينجون، ويزين له الشيطان أنه سوف يدخل النار قليلاً ثم بعد ذلك يخرج مادام على التوحيد، ولا يدري المسكين أن المعاصي هي البريد الذي يقود إلى الكفر؛ فمن تساهل في الصغائر يترقى حتى يقع في الكبائر، ثم ربما هان الأمر على قلبه حتى مات، ثم ربما يستدرجه الشيطان إلى أن يوقعه في الكفر والعياذ بالله. فالمعاصي وسيلة المواصلات التي توصل صاحبها إذا أصر عليها إلى الكفر. هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أنه لا يوجد إنسان عاقل أبداً يقدم على معصية الله تبارك وتعالى ويتعرض لعقابه بهذه الحجج الواهية. فالمقصود هنا في هذا البحث: أن الشخص الذي يترك العمل يستحق دخول النار، وهو من جملة المعاقبين، أما قضية الخلود في النار، وأن الخلود أساساً هو للكافرين الذين لم يوحدوا الله تبارك وتعالى، فهذه قضية أخرى.

تارك العمل يستحق دخول النار

تارك العمل يستحق دخول النار هناك أصل لابد أن نقرره، وهو: أن فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، لكن لابد أن نعرف أن تارك العمل يستحق دخول النار والمعاقبة على ذلك كما سنفصل إن شاء الله فيما بعد. وكما أن الكفر في القرآن والسنة قد يراد به الكفر الأكبر الذي يخرج الإنسان من الملة تماماً، وقد يراد به الكفر الأصغر الذي لا ينقل صاحبه عن الملة. فمسألة الخلود في النار هي الحد الفاصل بين نوعي الكفر؛ إذ الكفر الذي يخرج من الملة هو الذي يستوجب صاحبه الخلود في النار، أما الكفر الذي هو دون كفر فهو الذي لا يخرج من الملة، لكنه ينقص الإيمان وإن كان يوجب دخول النار. فالنوع الأول: يوجب لصاحبه الخلود في النار. والنوع الثاني: يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار. وليس هذا تهويناً من شأن الكفر الأصغر، فإنك إذا تخيلت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بأنعم أهل النار من أهل الدنيا، فيصبغ في جهنم صبغة، أو يغمس فيها غمسة واحدة، ثم يخرج منها ويقال له: يا ابن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت نعيماً قط، ثم يؤتى بأبأس وأشد أهل الجنة من أهل الدنيا، فيغمس في الجنة غمسة، ويخرج منها، فيقال له: يا ابن آدم! هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، يحلف وهو صادق؛ لأن هذا الذي رآه أنساه كل ما رآه في الدنيا من بلاء، مع أنه كان أشد الناس بلاءً في الدنيا، لكنه كان مؤمناً. فإذا كان أنعم الناس في الدنيا إذا غمس في النار غمسة سوف تنسيه هذه الأهوال كل النعيم، وإذا كان أهون الناس عذاباً في النار من تكون قدماه على جمر من النار تغلي منها دماغه، فكيف يتعرض الإنسان لمثل هذه النار التي قال الله تبارك وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]؟ هذا الإنسان الذي ينتحر ويقتل نفسه، ويضيع هذه الأمانة التي وهبها الله إياه، ويعجل الموت لنفسه، وفي الغالب يكون السبب ضائقة مالية، أو مرضاً أو بلاءً لا يصبر له، فهو لقصور عقله يريد الراحة، ولو فقه لعلم أنه يجلب لها تعباً لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، وسيظل يتعذب بهذا العذاب إلى ما شاء الله عز وجل؛ لأنه عاجل الله بنفسه، وضيع هذه الأمانة وهذه النعمة نعمة الحياة، جاء في الحديث: (فمن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه إلى يوم القيامة، ومن ألقى نفسه من أعلى جبل يعذب في القبر بنفس هذا العذاب إلى يوم القيامة، ويظل يلقي بنفسه من شاهق) إلى غير ذلك من الأحاديث. فالشاهد أن الشيطان قد يهون على الإنسان الأمر، ويقول: أنت على التوحيد فلا تبالي، لكن المعاصي بريد الكفر، والعاقل لا يتعرض لغضب الله عز وجل، كما يقول بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. ويقول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال؛ فإن لها من الله طالباً، وإنهن يجتمعن على رجل حتى يهلكنه، وضرب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً بقوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم -أي: وقت الطعام- فجعل الرجل يجيء ببعرة، والرجل يجيء بعود، حتى جمعوا منها قدراً عظيماً وأججوا ناراً عظيمة) ومعظم النار من مستصغر الشرر. فعندما تتهاون في شيء وتضم بجانبه شيئاً آخر، حتى يضيع تعظيم حرمات الله من قلبك، فتجتمع عليك محقرات الأعمال فتهلكك بذلك. وما من شك أن النبي عليه الصلاة والسلام لو أراد من قريش أو غيرهم ممن دعاهم إلى الإسلام الإيمان بمجرد قول كلمة لا إله إلا الله، ولا امتثال وراءها ولا أعمال ولا تكاليف؛ لسارع الناس في الدخول في الإسلام، لكنه أراد الكلمة وما بعدها من امتثال وإذعان لحكم الله عز وجل، ولذلك أخذ العهود من الأنصار على النصرة، وأخذ العهود من المهاجرين على بذل المال والهجرة، وأخذ من المهاجرين والأنصار العهود على الموت في سبيل الله تبارك وتعالى، وما وعد كل أولئك إلا الجنة بعد العمل والجهاد، فهل يظن بعض ضعاف النفوس أن تكون لهم الجنة بمجرد كلمة يقولها أحدهم بلسانه لا يكلف نفسه بعدها عناء؟ لا ركوع ولا سجود ولا صيام ولا يخرج حتى قليلاً في سبيل الله، ولا يقول لله كلمة حق، ويزعم بعد ذلك أن الجنة نصيبه! هيهات هيهات، فإن الإيمان عقيدة والتزام، تصديق وعمل، وليس هناك إيمان بغير هذا.

أثر المعاصي على الإيمان

أثر المعاصي على الإيمان نذكر كلاماً للأستاذ محمد سرور بن نايف زين العابدين في كتابه: (الحكم بغير ما أنزل الله وآفة الغلو) وهو أحد المراجع التي تناقش فكر ما يسمى بجماعة التكفير والهجرة. وهذا مصطلح سياسي؛ لأنهم سموا أنفسهم: جماعة المسلمين، وهذا مسمى خطير بلا شك؛ لأنه يعني أن من ليس في جماعتهم فليس مسلماً، وهذه من المجازفات التي سوف نتعرض لها إن شاء الله. وقبل أن نناقش كلامه في قضية التكفير نتقدمه بهذا التنبيه الذي فيه التحذير من المعاصي، وأن الإنسان لا يتهاون بها، وإذا كنا سنناقش فعلاً أن العاصي لا يخلد في النار، وأن الفاسق الموحد الفاسق لا يخرج من الإيمان بالكلية، وإنما ينقص إيمانه، فليس معنى هذا أن يتهاون الناس في المعاصي. يقول: حبب الله تعالى إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وأمرنا بطاعته وتقواه في السر والعلن، وحذرنا من الذنوب والمعاصي؛ لأنها تميت القلوب، وتورث الذل والندامة. يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]. كفى المذنبين العصاة ما توعدهم به ربهم على لسان خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله: (لا يدخل الجنة قتات، أي: نمام). وقوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، يعني: التاجر حين يبيع فيحلف أنه لا يكسب منها إلا كذا وكذا، فينفق السلعة، وكما جاء في الحديث: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة). صحيح أنه يروج السلعة على المشتري، لكن في نفس الوقت هذا الحلف يذهب بركة هذا البيع، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره، فويل لمن كان الله خصمه يوم القيامة)، ويل له إذا لم يسارع إلى التوبة والاستغفار، وقد خاب وخسر من لا يكلمه الله تعالى ولا ينظر إليه ولا يزكيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. أيضاً كيف لا يقلع المسلم عن الذنوب والمعاصي وهو يقرأ تهديد الله عز وجل ووعيده؟! وكيف يقع في المعصية ويغلق الباب على نفسه ويتوارى عن أعين الناس، ويخجل أشد الخجل إذا كشف أمره، أو رآه أحد من الناس؟! كيف يفعل هذا من يعلم أن الله سبحانه وتعالى يراه ويسمعه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟! كيف يفعل هذا من يعلم أن ملائكة الله ترافقه في حله وترحاله، تكتب كل عمل يعمله حسناً كان أو سيئاً؟ يقول تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. ويقول الشاعر: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى ويقول آخر: ومعظم النار من مستصغر الشرر والإصرار على المعصية مهما كانت صغيرة ظلم للنفس، واستسلام للهوى، وانقياد لأوامر الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) المقصود بقوله: (تعرض الفتن)، أي: تلصق الفتن بالقلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه، فمن نام على الحصير وقد كشف عن جنبه فتجد أن الحصير ينطبع أثره بجسده، ويؤثر في جنبه ويترك الخطوط الطويلة للحصير. فهذا هو أثر الفتن والمعاصي على القلب، لا بد أن تنطبع عليه وتؤثر فيه. قوله: (فأي قلب أشربها)، أي: تمكنت منه وحلت محل الشراب، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، المقصود: أشربوا في قلوبهم حب العجل، وإن كان بعض المفسرين يفسرون تفسيراً بظاهره: أنهم لما ألقي العجل الذي كان يعبده بنو إسرائيل في اليم، شربوا هذا الماء، فيفسرونه تفسيراً حسياً، ولكن المقصود: ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ))، يعني: اشربوا في قلوبهم حب العجل، ومنه قولهم: بياض مشرب بحمرة، أي: خالطته مخالطة لا انفكاك لها. (فأي قلب أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها -أنكر الفتن وتبرأ منها- نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً -شدة البياض في سواد، وقيل: أي لونه بين السواد والغبرة- كالكوز مجخياً -يعني: مائلاً أو منكوساً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وفي رواية: حتى تغلق قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]). فالآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وهذا يبين فساد قول المرجئة ومن نحا نحوهم، ممن يعتقدون بأنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ لأن نفس معنى كلمة الإيمان يدخل في مركباتها بجانب التصديق العمل. الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعملية فصل الإيمان إلى قول وعمل هي مجرد مسألة لتسهيل دراسة القضية فقط، ولمعرفة مركبات الإيمان، وليس معناها أن يفصل الإيمان عن العمل بحيث يقال: إن عدم العمل لا يؤثر في صحة الإيمان وقوته. فانظر إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تبارك وتعالى عنهم ورضوا عنه، كيف كانوا يرجون رحمة الله ويخشونه أشد الخشية، ويخافون من ناره ويطمعون في جنته، يقول الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56]. لا بد من الإحسان بالقول وبالعمل. ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ويقول سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، فأطلق الرجاء على العمل. لأن من طلب شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولاً: محبة ما يرجوه. ثانياً: خوفه من فواته. ثالثاً: سعيه في تحصيله حسب الإمكان. لو أن إنساناً أراد أن ينجح في الثانوية العامة، فهذا أمل بالنسبة إليه، فأول شيء أنه يحب هذا الشيء الذي يرجوه، حتى يكون راجياً له يحبه، ثم يخاف من فواته، يخاف أن يرسب أو لا يأتي بالمجموع الذي يريده، ثم يسعى في تحصيله حسب الإمكان. فبدون هذه الأركان يعد رجاؤه غروراً واغتراراً، بل لا يعد ولا يسمى رجاءً، بل يسمى حماقة، فمن يقول: نم وارتاح وسيأتيك النجاح، يضحك الناس منه. بل لابد من أخذ الأسباب ومن السعي في تحصيلها بحسب الإمكان، ويفرح إذا حصل ويحزن إذا فاته هذا الأمر، وهذا في كل أمور الدنيا، الإنسان إذا رجا أن يزرع ويحصد لابد أن يبذر، ويعالج الأرض ويسقي الزرع ويرعاه، حتى يحصل هذه الثمرة وهذه النتيجة، لكن من يقول: أنا موحد والله معي، ثم يقصر في الأسباب، فهذا لا يكون رجاء، فإنما يكون الرجاء الحقيقي إذا انضمت إليه هذه الأركان الثلاثة. يقول الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] قوله: ((يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) أي: بالأعمال الصالحة. فمن الاغترار بالله عز وجل أن يزين الإنسان لنفسه ويتعلق بنصوص الرجاء، ويظن أن يحصل له النجاة والسلامة دون أن يسعى في تحصيلها بما أمكنه من الأسباب.

فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان

فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان المسألة الثالثة: فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، لا نقول: مؤمن مطلقاً، ولا نقول: غير مؤمن مطلقاً. يعني: لا هو يكفر ولا يبقى إيمانه سليماً، بل فاسق أهل القبلة الذي خرج عن طاعة ربه بفعل المعاصي يترتب على ذلك أنه لا يوصف بالإيمان التام، كالمؤمن الذي اتقى هذه المعاصي، ولا يسلب عنه مطلق الإيمان، وإنما يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه وتصديقه فاسق بمعصيته. يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: والفاسق الملي ذو العصيان لم ينف عنه مطلق الإيمان لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاص يعني: أن فاسق أهل القبلة لا ينفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، المؤمن الموحد إذا ارتكب معصية لا ينفى عنه مطلق الإيمان، ولا يقال: هو غير مؤمن تماماً، ولا يوصف أيضاً في نفس الوقت بالإيمان التام، لكنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. والمراد بالفسق هنا هو الأصغر، وهو عمل الذنوب والكبائر التي سماها الله ورسوله فسقاً وكفراً وظلماً، مع إجراء أحكام المؤمنين على عاملها، فإن الله تعالى سمى الكاذب فاسقاً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، ومع هذا لم يخرج ذلك الرجل الذي نزلت فيه هذه الآية من الدين بالكلية، ولم ينف عنه الإيمان مطلقاً، ولم يمنع من جريان أحكام المؤمنين عليه. كذلك أيضاً في الآية: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقد استبَّ بعض الصحابة على عهده وفي حضرته صلى الله عليه وسلم، وأصلح بينهم ولم يكفرهم، بل بقوا أنصاره ووزراءه في الدين. وقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وصفهم بالإيمان مع وقوع الاقتتال، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، وسمى وأمر بالإصلاح بينهما ولو بقتال الباغية، ثم قال: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، ثم لم ينف عنهم أخوة الإيمان، بل أثبت أخوة الإيمان مطلقاً، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. أيضاً قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فأثبت أيضاً الإيمان بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، ثم قال: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ))، فأثبت أخوة الإيمان، لكن نذكر أنفسنا هنا بأنه ليس الإيمان المطلق، صحيح وصفهم بالإيمان، لكن القاتل يعتبر مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته أو معصيته، أو هو مؤمن ناقص الإيمان بسبب هذه المعصية، كذلك هؤلاء الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، سماهم أيضاً مسلمين بعد أن رجعوا كذلك، فقال في صفة الخوارج: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق)، تنبأ عليه الصلاة والسلام بحصول فرقة بين المسلمين، وهو ما كان بين معاوية رضي الله عنه وجيشه، وما كان من علي رضي الله عنه وجيشه، فهذه فرقة من المسلمين، فأثبت لهم صفة الإسلام، ثم قال: (تمرق مارقة) في هذه الفترة وهي فرقة الخوارج. وقال عليه الصلاة والسلام في الحسن بن علي رضي الله عنهما: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فرقتين عظيمتين من المسلمين)، فأصلح الله تعالى بالفعل بـ الحسن رضي الله عنه بين هاتين الفرقتين بعد موت أبيه رضي الله عنهما في عام الجماعة. لا فرق بين تسمية العمل فسقاً وتسمية عامل هذا العمل فاسقاً، وبين تسميته مسلماً وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفراً، ولا كل ما سمي كفراً وظلماً يكون مخرجاً من الملة، حتى ينظر إلى لوازمه وملزماته؛ وذلك لأن الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: أكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية، والضابط الذي يميز بين الكفر الأكبر والأصغر هو الخلود في جهنم والعياذ بالله. أما ما دون ذلك فهو الأصغر. أما الأصغر فهو الذي ينقص الإيمان ولا يخرج صاحبه من الملة بالكلية، فهناك كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ونفاق دون نفاق، يقول تبارك وتعالى في بيان الكفر الأكبر: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:167 - 169] هذا في الكفر الأكبر. وقال صلى الله عليه وسلم في الكفر الأصغر: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر). وقال تعالى في الظلم الأكبر: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقال في الظلم الأصغر: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، فقوله: ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ))، هذا ظلم دون ظلم، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. فهذا ظلم، لكن دون ظلم الشرك. وقال في الفسق الأكبر: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، وقال أيضاً: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، وقال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26]. وقال في النفاق الأكبر: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقال صلى الله عليه وسلم في النفاق الأصغر: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر). فهذه الخصال كلها نفاق عملي لا يخرج من الدين إلا إذا صاحبه النفاق الاعتقادي المتقدم. إن ما تمسك به الخوارج والمعتزلة وأضرابهم من التشبث بنصوص الكفر والفسوق الأكبر، واستدلالهم به على الأصغر، فذلك مما جنته أفهامهم الفاسدة وأذهانهم البعيدة وقلوبهم الغلف. فضربوا نصوص الوحي بعضها ببعض، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فقالت الخوارج: المصر على كبيرة من زنا، أو شرب خمر، أو ربا كافر مرتد خارج من الدين بالكلية، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو أقر لله تعالى بالتوحيد وللرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وصلى وصام وزكى وحج وجاهد، وهو مخلد في النار أبداً مع إبليس وجنوده، ومع فرعون وهامان وقارون. وقالت المعتزلة: العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نسميهم فاسقين، فإذا سألناهم ما معنى الفسق عندكم؟ قالوا: الفسق منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا هو أصل بدعة التوقف، يقول: أتوقف حتى يتبين لي، ولا نحكم له بإسلام ولا بكفر، وهذا إن شاء الله سنناقشه بالتفصيل. لكن المعتزلة قضوا بتخليده في النار أبداً، فوافقوا الخوارج مآلاً، وخالفوهم مقالاً، وكان الكل مخطئين ضلالاً. وقابل ذلك المرجئة، وكانوا على الطرف الأقصى، يعني: هؤلاء غلو، وأما المرجئة ففرطوا، وقالوا: لا تضر المعاصي مع الإيمان، يعني: المعاصي لا تحدث النقص في الإيمان ولا تنافيه؛ لأن الإيمان عندهم هو مجرد القول فقط أو المعرفة، وقالوا: ولا يدخل النار أحد بذنب دون الكفر بالكلية، ولا تفاضل عندهم بين إيمان الفاسق الموحد، وبين إيمان أبي بكر وعمر، فالفاسق الذي وحد الله عز وجل وأتى بالمعرفة والقول فقط إيمانه تماماً مثل إيمان أبي بكر ومثل إيمان عمر، بل إيمانه مثل إيمان جبريل، بل إيمانه مثل إيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. بل لا تفاضل بينهم وبين الملائكة، ولا فرق عندهم بين المؤمنين والمنافقين، يلزم من هذا على قول المرجئة: أنه لا يوجد شيء اسمه نفاق؛ لأن المؤمن والمنافق أتوا بنفس القول؛ والكل مستوف النطق بالشهادتين كما قدمنا اعتقادهم في بحث الإيمان، نسأل الله تعالى العافية.

عقيدة الخوارج والمعتزلة والمرجئة في الفاسق من أهل القبلة

عقيدة الخوارج والمعتزلة والمرجئة في الفاسق من أهل القبلة إن ما تمسك به الخوارج والمعتزلة وأضرابهم من التشبث بنصوص الكفر والفسوق الأكبر، واستدلالهم به على الأصغر، فذلك مما جنته أفهامهم الفاسدة وأذهانهم البعيدة وقلوبهم الغلف. فضربوا نصوص الوحي بعضها ببعض، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فقالت الخوارج: المصر على كبيرة من زنا، أو شرب خمر، أو ربا كافر مرتد خارج من الدين بالكلية، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو أقر لله تعالى بالتوحيد وللرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وصلى وصام وزكى وحج وجاهد، وهو مخلد في النار أبداً مع إبليس وجنوده، ومع فرعون وهامان وقارون. وقالت المعتزلة: العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نسميهم فاسقين، فإذا سألناهم ما معنى الفسق عندكم؟ قالوا: الفسق منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا هو أصل بدعة التوقف، يقول: أتوقف حتى يتبين لي، ولا نحكم له بإسلام ولا بكفر، وهذا إن شاء الله سنناقشه بالتفصيل. لكن المعتزلة قضوا بتخليده في النار أبداً، فوافقوا الخوارج مآلاً، وخالفوهم مقالاً، وكان الكل مخطئين ضلالاً. وقابل ذلك المرجئة، وكانوا على الطرف الأقصى، يعني: هؤلاء غلو، وأما المرجئة ففرطوا، وقالوا: لا تضر المعاصي مع الإيمان، يعني: المعاصي لا تحدث النقص في الإيمان ولا تنافيه؛ لأن الإيمان عندهم هو مجرد القول فقط أو المعرفة، وقالوا: ولا يدخل النار أحد بذنب دون الكفر بالكلية، ولا تفاضل عندهم بين إيمان الفاسق الموحد، وبين إيمان أبي بكر وعمر، فالفاسق الذي وحد الله عز وجل وأتى بالمعرفة والقول فقط إيمانه تماماً مثل إيمان أبي بكر ومثل إيمان عمر، بل إيمانه مثل إيمان جبريل، بل إيمانه مثل إيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. بل لا تفاضل بينهم وبين الملائكة، ولا فرق عندهم بين المؤمنين والمنافقين، يلزم من هذا على قول المرجئة: أنه لا يوجد شيء اسمه نفاق؛ لأن المؤمن والمنافق أتوا بنفس القول؛ والكل مستوف النطق بالشهادتين كما قدمنا اعتقادهم في بحث الإيمان، نسأل الله تعالى العافية.

عقيدة أهل السنة في الفاسق من أهل القبلة

عقيدة أهل السنة في الفاسق من أهل القبلة عقيدة أهل السنة على أن الفاسق من أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم فينفى عنه الإيمان بالكلية، وإنما يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه وما معه من التصديق، فاسق بكبيرته ومعصيته. والكفر والفسوق والعصيان والظلم والنفاق والشرك والجهل منه ما يخرج من الملة، ومنه ما هو دون ذلك، فهناك كفران: كفر أكبر يخرج من الملة، وكفر دون كفر، وكذلك النفاق والشرك وغير ذلك. والحد الفاصل بين النوعين هو ما يترتب على الفعل من الخلود في النار، فإن ترتب الخلود في النار فهو كفر أكبر، وإن كان لا يترتب عليه الخلود في النار فهو كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. فهناك مجموعة من الأدلة تثبت أن المؤمن تضره المعصية وتنقص من إيمانه، وإن استحق دخول النار، لكنه إن مات على التوحيد لا يمكن أن يخلد في النار، فأهل النار نوعان: منهم من يخلدون في النار كسائر المشركين والكفرة الذين كفروا بالله تبارك وتعالى، وأشركوا معه غيره. أما الطائفة الأخرى، فهم الذين لا يخلدون في النار، وهم أهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله تبارك وتعالى شيئاً، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت سيئاتهم، وغلبت على حسناتهم، وخفت موازينهم، فأولئك يدخلون النار ويبقون فيها أمداً يعلمه الله تبارك وتعالى، ثم يخرجون منها إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة الله تبارك وتعالى، حتى إن الله عز وجل بمحض رحمته ومشيئته يخرج أقواماً لم يعملوا خيراً قط، لكن هم من أهل التوحيد، ولا يخرج من النار إلا من مات على التوحيد: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، ولذلك كانت كثير من النصوص تثبت أن من فعل هذه الذنوب، فإنه يتوعد بدخول النار.

الإيمان والكفر [9]

الإيمان والكفر [9] كثيرة هي النصوص التي أتت بإثبات العذاب لعصاة الموحدين الذين ماتوا قبل أن يتوبوا من ذنوبهم تلك، وكثير هي أيضاً تلك النصوص التي أتت بإثبات خروجهم من النار كأحاديث الشفاعة، ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، لكن ينبغي للمسلم أن يحذر الذنوب والمعاصي؛ لأنها بريد الكفر، وطريق النار.

شرح حديث: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة)

شرح حديث: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة) ما زلنا في استعراض المباحث الستة المتعلقة بمسائل الإيمان والكفر، وأنهينا الكلام فيما سبق على فاسق أهل القبلة، وأن الفاسق من أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم فينفى عنه الإيمان بالكلية، وإنما يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه وما معه من التصديق، فاسق بكبيرته ومعصيته، وذكرنا أمثلة كثيرة على أن الكفر والفسوق والعصيان والظلم والنفاق والشرك منه ما يخرج من الملة ومنه ما هو دون ذلك، فهناك كفران: كفر أكبر يخرج من الملة، وكفر دون كفر، وكذلك النفاق والشرك وغير ذلك. والاعتقاد بعقائد الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة شذوذ، وهذا من أكبر الضلال الذي يستوجب فساد العقيدة، وبالتالي دخول النار. فقد روى أبو داود والدارمي والإمام أحمد والحاكم وغيرهم عن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة) قال الحاكم بعد أن ساق أسانيده: هذه الأسانيد تقام بها الحجة. وصحح بها الحديث، ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو حديث صحيح مشهور، وصححه الشاطبي في الاعتصام وغيره من العلماء. إلا أن الشيخ صديق حسن خان في كتابه: (يقظة أولي الاعتبار) ذهب إلى أن هذه الزيادة في آخر الحديث: (كلها في النار إلا واحدة)، قال: هذه زيادة ضعيفة، ونقل تضعيف هذه الزيادة عن شيخ شيوخه الشوكاني، ومن قبله ابن الوزير، ومن قبله أيضاً ابن حزم، واستحسن قول من قال: إن هذا الزيادة من دسيس الملاحدة؛ فإن فيها التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه، وهذا غير صحيح من الناحية الحديثية، فالنقد العلمي الحديثي كما قال بذلك الجهابذة المحققون دل على صحة هذه الزياد: (كلها في النار إلا واحدة) فلا عبرة بقول من ضعفها إذا كان ليس من أهل العلم الراسخين في علم الحديث، كما قال الإمام الحافظ العراقي رحمه الله في ألفيته: فاعن به ولا تخضن بالظن ولا تقلد غير أهل الفن قوله: (فاعن به) أي: علم الحديث. فينبغي للحكم بالتصحيح والتضعيف أن يتحرى اتباع أهل فن وعلم الحديث الخبراء فيه، وإلا يكون غير ممتثل تلك البيعة التي بايع عليها الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، فيترك الأمر لأهله أهل الحديث؛ إذ هم الذين يتكلمون، فعلماء الحديث صححوا هذا الحديث، والتقليد الذي أشار إليه الحافظ العراقي ليس هو التقليد المذموم في الفقه الذي هو أخذ قول غيره بغير دليل في المسائل الفقهية، لكن التقليد هنا من باب قبول شهادة هذا العالم أو الإمام الذي حكم بالتصحيح؛ لأن قول الإمام العراقي أو غيره من الأئمة: هذا الحديث صحيح، يعني: أنه تحرى وتتبع طرق الحديث ورجاله إلى أن حكم عليه بهذه الصحة. المقصود أن من صحح هذه الزيادة أكثر وأعلم من ابن حزم، خاصة أنه معروف عند أهل العلم بالتشدد في نقل الأحاديث، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف وقد خالفه هؤلاء الأئمة. أيضاً ابن الوزير يرد هذه الجهة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، قال: إن فيها تنفيراً عن دخول الإسلام. وهذا يقتضي أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، بينما النصوص الثابتة الصحيحة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير، وأنهم سيبلغون نصف أهل الجنة. كيف يكون الجواب؟ يجاب عليهم أولاً: بأن الثلاث والسبعين فرقة كلهم من أهل القبلة، ولكن الفرقة الواحدة التي هي أهل الجماعة يدخلون الجنة، ولكن الفرق الاثنتين والسبعين لها نصيب من النار، وسوف يدخلون الجنة. ثانياً: أنهم لا يخلدون في النار. ثالثاً: ليس معنى أن الأمة ستنقسم إلى ثلاثة وسبعين فرقة أن يكون أكثر هذه الأمة في النار؛ لأن أكثر هذه الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، وعدد الفرق الضالة بالنظر إلى مؤسسيها والذين يضعون قواعدها وأصولها قليل؛ فهؤلاء هم الذين يشذون ويستحقون ذلك الوعيد، أما العوام فهم من أهل السنة، وما من شك أنهم الأغلبية في كل عصر وفي كل مصر. رابعاً: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من المسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهؤلاء الذين يتبنون أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها تركوا من أجلها نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة. أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فكونهم يختلفون في مسألة من المسائل أو مسألتين فليسوا بذلك يعدون فرقة من الفرق. خامساً: هذه الزيادة، وهي: قوله صلى الله عليه وسل (كلها في النار إلا واحدة)، دلت على أن الفرق المخالفة في النار لكنها لم توجب لها الخلود في النار، مع أن بعض هذه الفرق لديها بعض البدع التي تكفر وتخرج من الملة وتخلد أهلها في النار، كغلاة الشيعة الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر كالإسماعيلية والنصيرية والبهائية ونحو ذلك، حتى إنه وجد في مصر من طالبوا بأن يوضع في خانة الديانة في البطاقات الشخصية بدل مسلم يكتب: بهائي، وهذا مما طالب به بعض البهائية منذ زمن. المقصود أن أهل هذه الفرق الذين شذوا عن أهل السنة والجماعة لا يستوجبون بذلك في كل الأحوال الخلود في النار، بل منهم فرق قليلة تخرج من الإسلام بالكلية وتستوجب الخلود في النار كهذه الفرق، ومنهم من خالف أهل السنة في مسائل عظيمة كبيرة من مسائل أصول الدين، لكنها لا تصل إلى حد الكفر. فهؤلاء وإن لم يكن لهم وعد مطلق بدخول الجنة، لكنهم تحت مشيئة الله تبارك وتعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وقد تكون لبعضهم أعمال عظيمة صالحة تنجيهم من النار، وقد يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين تبارك وتعالى. يوجد قسم من الفرق التي تستوجب دخول النار بسبب الذنوب ولا يخلد أصحابها في النار وإن دخلوها بسبب هذه الذنوب.

ذنوب توعد الشرع أهلها بالنار

ذنوب توعد الشرع أهلها بالنار

الامتناع عن الهجرة

الامتناع عن الهجرة أما عن الممتنعين من الهجرة من ديار الكفار مع القدرة؛ فلا يجوز للمسلم أن يقيم في دار الكفر إذا وجدت دار الإسلام، خصوصاً إذا كان مكثه في دار الكفر يعرضه للفتنة في دينه، فالله تبارك وتعالى لم يقبل عذر الذين تخلفوا عن الهجرة، وأخبرنا في القرآن الكريم كيف أن الملائكة تبكت وتوبخ هذا الصنف من الناس، وذلك حينما تأتيهم عند الاحتضار وعند خرج أرواحهم؛ وكذلك الملائكة لا تعذرهم حينما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:97 - 98]، فلم يعذر الله من هؤلاء الذين أقاموا وسط الكفار بمحض إرادتهم، إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى دار الإسلام، أما اليوم فللأسف الشديد صارت كلمة الهجرة يراد بها الهجرة إلى أستراليا أو أمريكا أو أوروبا، بدلاً من أن تكون الهجرة من دار الكفر إلى بلاد المسلمين انعكس الحال وصارت الهجرة عندهم إلى بلاد الكفرة، غير مبالين بذلك الوعيد الشديد، وغير مبالين بقول النبي صلى الله عليه وآله سلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في ديارهم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وفي الحقيقة كان كثير من الإخوة يثير هذه القضية لسبب أو لآخر، فكان مما قلت في بعض المناسبات لأحد الإخوة: إن هذه السفارات التي تشتكي من الزحام على أبوابها بالذات سفارة أمريكا وغيرها لو أنهم فقهوا لعلقوا جزءاً من آية في سورة البقرة على باب القنصلية الأمريكية والسفارة الأمريكية، فلعل بعضاً أو كثيراً من المسلمين يرعوي إذا رأى هذه الآية، هذا الجزء من الآية هو قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، لو أنهم علقوها على أبواب القنصليات والسفارات لأبى الشباب أن يخرج من بلاد المسلمين إلى حيث لا أذان إلا ما شاء الله، وحيث الفتن العظيمة والدنيا التي تفتن الناس، فتنة الأهل والأولاد والمعاصي، وحيث الكفر عال وظاهر، وحيث المنكر معروفاً والمعروف منكراً، حيث ضعف الدين فلا تكاد تجد إنساناً يذهب إلى هذه الأماكن ويرجع أحسن مما كان، فمن ذهب إليها وعاد بإيمانه سليماً فهذه بطولة، أما أن يزيد فليس هناك مظنة الزيادة في الدين، لكن مظنة الدين أن تنتقل إلى المكان الذي يكون فيه دينك أقوى، حتى لو كان في غير البلاد الإسلامية، في بعض البلاد قد يعاني المسلم إما من ضيق الرزق أو غير ذلك من الأذى؛ فيبحث عن المكان الذي يعينه على دينه أكثر، فيكون المقياس ما هو الأسلم لدينك؟ {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]. كما قال تعالى، وهي ما زالت واسعة وسوف تبقى واسعة لكن العبرة بالصدق، فمن تحرى وأخذ بالأسباب؛ فإن الله تبارك وتعالى وعد من يتقيه بأن يجعل له مخرجاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فإذا أنت حاولت وعانيت ثم لم تجد مخرجاً؛ فهذا يدل على أن في تقواك نقصاً ولم تحقق التقوى، حقق فعل الشرط وعلى الله جوابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] فمن لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجاً، فمن أراد أن يعالج أزمة ضيق الرزق بالخروج إلى بلاد الكفار وربما هناك يشتغل في المحرمات والشبهات كالخمر والخنزير، وربما بأفعال غير مناسبة للمسلم وتتصادم مع عقيدته ودينه فهذا لم يتق الله، فكيف يظن أن الله سيجعل له مخرجاً؟! على أي حال هذه من الذنوب التي يتهاون فيها كثير من الناس؛ لضعف تعظيم الدين في قلوبهم إلا من رحم الله، هناك حالات استثنائية بلا شك لكن ليس كل من يذهبون يخضعون لهذا الاستثناء، فالناس هناك إما معذورون وإما آثمون ببقائهم في وسط ديار الكفار، حتى تصل الفتنة والعياذ بالله ببعض الناس من شدة حاجتهم إلى المال أن ينضم إلى الجيش الأمريكي؛ لما يعطى من المميزات والأموال.

الجور في الحكم

الجور في الحكم من هؤلاء الذين توعدهم الله تبارك وتعالى بالنار وهم من أهل التوحيد: الجائرون في الحكم، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، وفرض على الحكام والقضاة الحكم بالعدل وعدم الجور: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)، هذا الثالث قضى للناس على جهل حتى لو صادف حكمه الحق فإنه يكون في النار؛ لأنه قضى بجهل.

الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الذنوب الخطيرة: الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، هذه من كبائر الذنوب والعياذ بالله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد)؛ لأن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله سلم يستوجب أن يضاف إلى الشريعة ما ليس منها؛ لأن سنته حجة، فأهل السنة يعتبرون هذا من الكبائر المهلكة المستوجبة دخول النار، وإن لم يكفروا صاحبها ويخلدوه في النار خلافاً للخوارج.

الكبر

الكبر من هذه الذنوب: الكبر، يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)، وفي رواية: (أذقته النار). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)، رواه مسلم.

قتل النفس التي حرم الله

قتل النفس التي حرم الله من هذه الذنوب: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وهذا الذنب بالذات من الأشياء المختلف في خلود صاحبها في النار، لكن عموم أهل السنة والراجح: أن قاتل النفس ليس مخلداً في النار، بل هو تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فلا يجوز أبداً قتل النفس التي حرم الله إلا بإحدى ثلاثة أفعال كما جاء في الحديث المتفق عليه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس -قصاص-، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، يعني: المرتد المفارق لجماعة المسلمين، ومما يؤسف له تلاعب بعض الجماعات الجاهلة والمبتدعة بمثل هذه النصوص، فيستدلون بهذه النصوص التي وردت بشأن جماعة أهل الإسلام وجماعة المسلمين في حق جماعتهم، فإن من يخرج عن جماعتهم يستحلون قتله، بسبب سوء فهمهم لمثل هذا النص، كما حصل من جماعة التكفير والهجرة، أو بتعبير أدق كما كانت تسمي نفسها: جماعة المسلمين، بمعنى أنهم هم جماعة المسلمين ومن لم يدخل في جماعتهم ويبايع أميرهم فليس من المسلمين، وهو خارج عن الإسلام وكافر، ويجب الانتماء لهذه الجماعة حتى تكون مسلماً، فهذا أيضاً من التلاعب بنصوص الوحي من السنة الشريفة، إنما المقصود بقوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، ما جاء في الرواية الأخرى: (قتل النفس التي حرم الله، أو زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لم يزل المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله). وحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون أن يقاتل المسلمين بعضهم بعضاً، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، ولذلك فإن ذلك العبد الصالح ابن آدم أبى أن يقاتل أخاه خشية أن يكون من أهل النار، فباء القاتل بإثمه وإثم أخيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:27 - 29].

أكل الربا

أكل الربا من هذه الذنوب التي تستوجب دخول النار: أكل الربا، يقول الله تبارك وتعالى في حق الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله إياه: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130 - 131] مع أن الخطاب للمؤمنين لكن يذكر بعض العلماء أنها أخوف آية في القرآن؛ لأن الله يخوفهم هذه النار إذا أكلوا الربا، فهو يخوفهم النار التي خلقت أصلاً للكافرين، ((وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ))، ومعروف أن النبي عليه الصلاة والسلام عد أكل الربا من السبع الموبقات، فقال في الحديث: (اجتنوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).

أكل أموال الناس بالباطل

أكل أموال الناس بالباطل أيضاً من هؤلاء الذين يستوجبون عذاب النار: الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، فهذا من الظلم العظيم الذي يستوجب العقوبة بالنار، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30]، وما أكثر صور أكل أموال الناس بالباطل في هذا الزمان، كأكل أموال اليتامى ظلماً، وخص الله تبارك وتعالى هذه المعصية بالذكر لضعف اليتامى عن متابعة أموالهم، وسهولة أكل أموالهم ممن لا خلاق له، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].

التصوير

التصوير أيضاً من أشد الناس عذاباً حتى لو كان من الموحدين: المصورون الذين يضاهئون ويتشبهون بخلق الله تبارك وتعالى، ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فيعذبه الله في جهنم)، متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة في النمرقة التي كان فيها التصاوير (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم) يعني: أنتم تتشبهون بفعل الله فهيا أحيوا ما خلقتم. ووصل افتتان بعض هؤلاء المصورين أنه بعدما صنع بعض التماثيل، ومن شدة فتنته وخذلان الله إياه أنه صرخ في التمثال بعدما صنعه قائلاً: هيا انطق، إمعاناً في مضاهاة خلق الله تبارك وتعالى، فتصوير ذوات الأرواح هذا من خصائص الله عز وجل، فلا يجوز للإنسان أبداً أن يرسم بيده صورة شيء له روح أو تماثيل، والتصوير نقطة، واتخاذ التصاوير نقطة أخرى، فحتى من يبيح بعض أنواع التصوير فعليه أيضاً ألا يبيح اتخاذها وتعلقيها في مواطن التعظيم على هيئة التوقير، كما يفعل بصور المشايخ والأقارب والأجداد؛ فهذا من أقبح الذنوب، واتخاذ الصور معصية إضافية بجانب ذنب التصوير في حد ذاته، فينبغي ألا تتخذ وألا تصور، وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله)، يعني: يتشبهون بخلق الله تبارك وتعالى، فالذي يصور وينازع الله تبارك وتعالى في هذه الخصيصة، من تصوير ذوات الأرواح، فهو يضاهي ويتشبه بفعل الله، فكما يحرم تشبيه الله بخلقه، يحرم تشبه المخلوق بفعل الخالق الذي اختص به الله تبارك وتعالى. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة) متفق عليه. ومعروف أن هناك فرقاً من اليهود والنصارى يحرمون التصوير، فلسنا وحدنا المتطرفين في هذا الباب مع التجوز في هذا التعبير، ففي فترة من الفترات أعلن عن أحداث معينة حصلت في المسجد الأقصى عن طائفة من اليهود لعنهم الله، كانوا يتظاهرون ويستنكرون التصوير، ويقولون: الدين اليهودي لا يبيح التصوير، فلذلك هم يستنكرون ذلك، ووصفوهم آنذاك بالتطرف، وأيضاً توجد طوائف من النصارى تحرم التصوير، وتحرم اتخاذ الصور والتماثيل.

الركون إلى الظالمين وموالاتهم

الركون إلى الظالمين وموالاتهم من الأسباب التي تدخل النار: الركون إلى الظالمين، وموالاة أعداء الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، فهذا أيضاً نص على أن من يركن إلى الظالمين أو يوالي أعداء الله تبارك وتعالى ويوادهم، فإنه يستحق دخول النار.

الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس

الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس من هؤلاء أيضاً: الكاسيات العاريات، والذين يجلدون ظهور الناس، فهذه الأنواع من أهل النار، هؤلاء النسوة الفاسقات المتبرجات اللواتي يفتن عباد الله، ولا يستقمن على طاعة الله، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)، أخرجه مسلم وغيره. يقول القرطبي في الذين رآهم كأذناب البقر: يبدو أن السياط بهذه الصورة التي نعتاد نحن الآن على معرفتها، وتكون مثل أسياط البقر؛ مدبب من نهايته ورفيع، ثم يكون سميكاً من أعلى ويبدو أنها لم تكن معروفة من قبل؛ فلذلك وصفها لهم النبي عليه الصلاة والسلام على أنها شيء غريب، وبعضهم كان يقول: نحن قد رأيناها وصفتها كذا وكذا، أما نحن الآن فهذا شيء نعتاده من كثرة ما شاع وذاع، يقول القرطبي: وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن. وقال صديق حسن خان معلقاً على قول القرطبي: بل هو مشاهد في كل زمان ومكان، ويزداد يوماً فيوماً عند الأمراء والأعيان؛ فنعوذ بالله من جميع ما كرهه الله، وهذا معروف في كثير من البلاد؛ إذ ما زالت حتى الآن تستعمل هذه السياط في جلد أبشار الناس.

تعذيب الحيوان

تعذيب الحيوان من هؤلاء أيضاً: الذين يعذبون الحيوان، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها -هنا السببية-، ربطتها فلم تطعهما ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً)، إذا كان هذا حال من يعذب هرة فكيف بمن يتفنن في تعذيب العباد؟! وكيف أيضاً إذا كان هذا التعذيب ليس للفاسقين وإنما للصالحين من الشباب المسلمين؛ بسبب إيمانهم وإسلامهم واستقامتهم على طاعة ربهم؟! فالله المستعان!

الرياء في طلب العلم

الرياء في طلب العلم أيضاً من هذه الذنوب التي تستوجب دخول النار حتى ولو كان فاعلها موحداً: عدم الإخلاص في طلب العلم، المصيبة أن هناك من يتعلم العلم ابتغاء الرياء وابتغاء مدح الناس، أو ليماري به العلماء أو يجادل به السفهاء، ويصرف وجوه الناس إليه، وهذا ليس فقط يحبط عمله ويكون لا له ولا عليه، ويكون فيه نوع من السلامة والعافية له، لكنه يعذب بسبب هذا الشرك وهذا الرياء، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرْف الجنة يوم القيامة)، يعني: رائحة الجنة، ومنه قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] يعني: طيبها لهم على أحد التفاسير. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس؛ فمن فعل ذلك فالنار النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار).

الشرب في آنية الذهب والفضة

الشرب في آنية الذهب والفضة من هذه الذنوب التي تستوجب دخول النار: أن يشرب الإنسان في آنية الذهب والفضة، بعض الناس يتفاخرون أنهم يملكون أواني الذهب والفضة، وأن فلانة لما تزوجت كان من أثاثها آنية الفضة وملاعق الفضة، وهذا مما لا يجوز بأي حال من الأحوال، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وفي رواية لـ مسلم: (إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير والديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة)، متفق عليه.

قطع شجر السدر

قطع شجر السدر من هذه الذنوب قطع شجر السدر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار)، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (إن الذين يقطعون السدر - الأشجار - يصبون في النار على رءوسهم صباً). الشاهد: أن هذا الذنب سواء قلنا: إن هذا من باب الذي يقطعه وهو داخل الحرم أو لا؛ فإن من يقطعون شجر السدر داخل الحرم فإنما: يصبون في النار على رءوسهم صباً.

الانتحار

الانتحار من هذه الذنوب التي تستوجب عذاب النار والعياذ بالله: الانتحار، أن يبادر الإنسان بقتل نفسه والعياذ بالله، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)، هو يريد أن يتخلص من بعض الهموم الدنيوية والمصيبة في ماله، أو غير ذلك فيوقع نفسه في عذاب لا ينتهي والعياذ بالله، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار).

التحذير من التساهل بالمعاصي

التحذير من التساهل بالمعاصي هذه جملة من الأحاديث تدل على أن هناك صنفاً من أهل النار لا يخلدون فيها، وكون الإنسان إذا مات على التوحيد فإنه ينجو من الخلود في النار، لكن إذا كان له ذنوب فإنه يعذب بها في جهنم، بعض الناس قد تتساهل في الأمر، وتقول: سواء طالت المدة أم قصرت سنخرج من النار، ضمن لك أنك ستموت على الإيمان وعلى التوحيد؟ أتظن أن الأمر في يدك أنت؟! هذا لا يملكه إلا الله تبارك وتعالى الذي يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم إن من المعروف أن المعاصي هي بريد الكفر، حيث تتدرج بالإنسان حتى توقعه في الكفر، والإنسان إذا تساهل في المعاصي ربما تنتهي به إلى الكفر والردة عن الإسلام. أيضاً يتخيل هذا الإنسان ويجرب تجربة هو يقول: ماذا سيحصل لو أمكث في النار خمسة آلاف سنة أو عشرة آلاف سنة أو مليون سنة، وبعد ذلك أخرج منها؟ نقول له: ضع يدك في هذه النار من نار الدنيا ثم انظر كم تتحمل هذه النار التي هي جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن ناركم هذه الذي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، فهذا من أتفه الناس عقلاً الذي يتهاون بالمعاصي، ويغتر بربه الكريم، ويظن أن المسألة يسيرة وهينة، وسبق أن تلونا الحديث الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يخرج منها ويقال له: يا ابن آدم! هل مر بك نعيم قط؟ هل رأيت خيراً قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت نعيماً قط، وما مر بي خير قط)، هذا بمجرد أن يغمس غمسة في جهنم فقط ينسى كل النعيم وقد كان أنعم إنسان في الدنيا. إذاً: فهذه بعض النصوص التي ترد على المرجئة الذين يقولون: إن المعاصي لا تضر أهل الإيمان ولا تؤثر في إيمانهم، وعلى الخوارج الذين يقولون: هذه المعاصي تكفر فاعلها وتخرجه من الملة بالكلية. وأهل الحق وسط بين إفراط هؤلاء وتفريط أولئك فهم يقولون: إن المسلم العاصي يبقى في دائرة الإسلام وفي دائرة التوحيد، لكن إيمانه ينقص بهذه المعاصي، ويستوجب عقوبة الله تبارك وتعالى، لكنه لا يخلد في جهنم، ولا يستوي مع من كفر بالله وأشرك به تبارك وتعالى.

العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله

العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في كتابه المبارك (معارج القبول) عنون لها بقوله: العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله، وقال في المسألة الثالثة: فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان قال: والفاسق الملي ذو العصيان لم ينف عنه مطلق الإيمان لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاص ثم قال: ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا أخذه بقدر ذنبه وإلى الجنان يخرج إن مات على الإيمان قوله: (ولا نقول إنه في النار)، يعني: لا نقول: إن الفاسق الذي فسق المعاصي التي لا توجب كفراً إنه في النار مخلد فيها. قوله: (بل أمره للباري) أي: بل أمره وحكمه مردود للباري، إما أن يجازيه بذنبه، وإما أن يعفو عنه تبارك وتعالى. قوله: (تحت مشيئة الإله النافذة) أي: تحت مشيئة الإله النافذة في خلقه، فلا يدخل تحت المشيئة إلا من كان موحداً. قوله: (إن شا عفا عنه) يعني: عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله لذلك الإنسان، مهما ترى من إنسان مقيماً على المعاصي دعه وربه، نعم تنكر عليه وتنصحه لكن لا تتألى على الله، لا تقل له: أنت ستدخل جهنم، أو أنت من أهل النار، لا تقل هذا أبداً خشية أن يعاقبك الله أشد العقوبة، فلا يجوز أبداً أن ننظر إلى ذنوب الناس نظرة أننا أرباب، كما جاء في الأثر عن عيسى عليه السلام: (ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى، ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. لكن كون الإنسان يتطاول ويستطيل على خلق الله بأنه يصلى والآخر لا يصلي وبأنه مستقيم والآخر مبتلى بالخمر أو بأي شي من هذه المعاصي، هذا لا ينبغي، نعم يجب عليك الإنكار بالقلب وباللسان أو اليد حسب الاستطاعة، لكن ليس معنى هذا أن تتحكم في رحمة الله: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]. إذاً: أمور القلوب لا يعلمها ولا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى؛ فرب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، فهي خير من طاعة أورثت عزة واستكباراً، كما قال بعض السلف: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحب إلى من أبيت قائماً وأصبح معجباً. أي: بعمله، فالإنسان لا يغتر؛ لإن قلبك ليس في يدك إنما هو ملك الله سبحانه وتعالى يقلبه كيف يشاء، فلا تتطاول على عباد الله، من هنا كان خطر التمادي في قضية التكفير، فكون الإنسان دائماً يضع نفسه في موقع الحكم على خلق الله ومحاكمتهم وإدخالهم الجنة أو النار فهذا ليس إلينا، فينبغي الحذر من التمادي في هذا الباب، وإلا فإننا سوف ننازع الله تبارك وتعالى في صفات ربوبيته، وكأننا لا نرضى إلا بمحاكمة الناس طبقاً لما في قلوبهم، لا نرضى بظاهرهم. الشاهد أنه يجب عليك أن تنكر المنكر حسب استطاعتك، لكن في نفس الوقت ليس لك شأن بالجنة والنار، لا تقل لفلان: أنت لست من أهل الجنة، وربنا سيدخلك النار، فإن هذا من التألي على الله، وعقوبته شديدة كما قدمنا. ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا أخذه بقدر ذنبه وإلى الجنان يخرج إن مات على الإيمان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابة: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له)، قوله: (من أصاب من ذلك شيئاً) يعني: غير الشرك مثل: السرقة والزنا والقتل إلى آخره. قوله: (فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) يعني: إذا أقيم الحد على الإنسان فهذه كفارته، ثم قال: (ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه) يعني: إن شاء عفا عنه بمحض رحمته تبارك وتعالى. قد يرتكب الإنسان ذنوباً صغيرة جداً، لكن جرأته على الله تبارك وتعالى واستهانته بهذه المعصية قد ترفعه إلى حد الكبيرة، وربما إنسان يرتكب كبيرة، لكن يقترن بهذه الكبيرة من الاستحياء من الله، والخوف من عذابه، والوجل من هيبته تبارك وتعالى قد يلحقها بالصغيرة، بل قد يعفو الله تبارك وتعالى عنها، فهذه أحوال القلوب لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى. يقول عبادة: (فبايعناه على ذلك). فيخرج من النار إن كان مات على الإيمان، كما جاء في حديث الشفاعة: (وأنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، بل يخرج منها برحمة أرحم الراحمين، ثم بشفاعة الشافعين).

معنى الحساب اليسير للعبد يوم القيامة

معنى الحساب اليسير للعبد يوم القيامة يقول الشيخ: والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عذبا قوله: (والعرض تيسير الحساب في النبا)، يعني: جاءنا في النبأ والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحساب اليسير هو العرض، إشارة إلى تفسير النبي صلى الله عليه وآله سلم لقوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]. وجاء في صحيح البخاري وغيره من طرق عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) يعني: إذا حصلت مناقشة وأخذ ورد مع المرء هذا لا بد أنه سيعذب، أما الحساب اليسير فهو مجرد عرض الأعمال فقط. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله! جعلني الله فداك! أليس يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، قال ذلك: العرض). معروف أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا صح عنه تفسير آية من كتاب الله فيجب المصير إلى تفسيره؛ لأنه أعرف الناس بكلام الله عز وجل، ولا يجوز النظر فيما خالفه، فهنا يجب تفسير كلمة الحساب اليسير بعرض الأعمال على الله عز وجل، يعني: يقول الله تبارك وتعالى للعبد: أتذكر يوم كذا؟ أتذكر يوم كذا؟ أتذكر يوم كذا؟ ويذكره بجميع الذنوب التي فعلها، أحصاه الله ونسوه.

طبقات العصاة من أهل التوحيد

طبقات العصاة من أهل التوحيد إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي أثبتته الآيات القرآنية والسنن النبوية، ودرج عليه السلف الصالح والصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة التفسير والحديث والسنة: أن العصاة من أهل التوحيد على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فهؤلاء سيدخلون الجنة من أول وهلة ولا تمسهم النار أبداً، اللهم اجعلنا منهم. الطبقة الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وتكافأت، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار. فالسيئات التي فعلوها منعتهم من دخول الجنة، والحسنات التي فعلوها لم تجاوزهم عن النار، فهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، كما ذكر تبارك وتعالى ذلك بعد أن دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، كما في سورة الأعراف يقول تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45] بعض الناس يستغربون: كيف ستتم مخاطبة أهل الجنة وأهل النار؟ هناك آيات كثيرة في القرآن تدل على وقوع التخاصم والأخذ والرد بين الطرفين، سبحان الله! إن كان في الدنيا هنا يستطيع إنسان وهو في مكان آخر ومن خلال الشاشات التلفزيونية أو تليفونات أن يرى من يكلمه على جهاز التلفون، فالله سبحانه وتعالى أقدر من البشر بلا شك على أن يقع هذا بقدرته تبارك وتعالى. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46]، يعني: هذا السور الذي بين الجنة والنار {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:46 - 49]، فهذه الطبقة الثانية تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وهم أصحاب الأعراف. الطبقة الثالثة: قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش. إن التوبة من كل ذنب مقبولة، لكن بشرط أن تأتي في زمان التوبة، والتوبة لها أجلان: أجل في حق عمر الإنسان، وأجل في حق عمر الدنيا، فالتوبة بالنسبة لعمر الإنسان تقبل منه ما لم يغرغر غرغرة الروح حين الاحتضار وخروج روحه، فالتوبة ساعتها لا تنفع ولا تقبل، أما في حق عمر الدنيا؟ فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. فمن لقي الله تبارك وتعالى وهو مصر على المعاصي دون أن يتوب منها ومعه أصل التوحيد، فترجح سيئاتهم على حسناتهم، هؤلاء هم الطبقة الثالثة الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم فوق ذلك، حتى إن منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود، فحسب المعاصي يتفاوت حظهم من النار والعياذ بالله. ولما يذكر مثل هذه الأشياء حذار أن يتخيل الإنسان أن هذا الكلام لغيرنا، كأن الحق فيه على غيرنا وجب، وكأن الموت فيه على غيرنا كتب، فالإنسان يستحضر أنه ربما إن لم يرحمه الله تبارك وتعالى يكون من هؤلاء الهالكين والخاسرين، فالله عز وجل حرم على النار أن تأكل أثر السجود، فمنهم من تأكل النار كل جسده إلا أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله تبارك وتعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء من بعده، والأولياء والملائكة ومن شاء الله أن يكرمه. فعادة أهل البدع والضلال أنهم يؤصلون أصولاً موافقة لأهوائهم ثم يتحكمون بها في نصوص الشرع، فلذلك تجد الخوارج المبتدعة لما وجدوا أحاديث الشفاعة مع أنها أحاديث متواترة تصدم عقيدتهم وأصلهم الذي أصلوه، وتثبت أن هناك قوماً يدخلون النار ثم يخرجون منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين أو برحمة الله، فلذلك كذبوا بأحاديث الشفاعة بالكلية. المقصود أن هؤلاء الذين ماتوا مصرين على بعض الكبائر والمعاصي يشفع الله تبارك وتعالى فيهم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره، فيحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم يحد لهم حداً آخر فيخرجونهم وهكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم برة، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيراً، أي: لم يبق في جهنم أحد في قلبه حتى أقل من أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من الخير، ويخرج الله تعالى من النار أقواماً لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولن يخلد في النار أحد من الموحدين ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيماناً وأخف ذنباً كان أخف عذاباً في النار، وأقل مكثاً فيها، وأسرع خروجاً منها، وكل من كان أضعف إيماناً وأعظم ذنباً كان بضد ذلك والعياذ بالله، والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة، وأشار إلى هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، فهذا يفهم منه أن من مات على التوحيد، وكان عنده بعض هذه الذنوب التي لم يتب منها، فربما أصابه ما يصيبه من العذاب عند الاحتضار عند خروج الروح أو في القبر أو في البرزخ أو في أهوال يوم القيامة أو بالنار نفسها والعياذ بالله، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، هذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. بقي الكلام على مسألة واحدة من هذه المسائل الستة ويتبقى في نفس هذه المسألة كلام مهم جداً للإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في الجمع بين النصوص المتقابلة والتي احتج بها كل فريق من المرجئة أو الخوارج والمعتزلة.

الإيمان والكفر [10]

الإيمان والكفر [10] إن لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لوازم ومقتضيات، فمن أتى بها كمل إيمانه، واستقام إسلامه، ومن اكتفى بمجرد المعرفة للكلمة، أو النطق باللسان فقط، أو معرفة القلب كما هي مذاهب المرجئة والجهمية فقد خرج بفهمه السقيم عن فهم السلف الصحيح الجامع لأطراف النصوص المستلزمة للإتيان باللوازم والمقتضيات.

طبقات عصاة الموحدين وشفاعة الشافعين فيهم يوم القيامة

طبقات عصاة الموحدين وشفاعة الشافعين فيهم يوم القيامة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تقدم الكلام عن المبحث الثالث من مباحث أصول الدين، التي ذكرها الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في كتابه (معارج القبول) في الجزء الثاني، فشرح فيها قوله: والفاسق الملي ذي العصيانِ لم ينف عنه مطلق الإيمانِ لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاصِ ولا نقول إنه في النارِ مُخلّدٌ بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا آخذه بقدر ذنبه وإلى الجنانِ يخرج إن مات على الإيمانِ والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عُذّبا تقدم الكلام في هذه المسألة، وهي: أن العاصي إذا مات على التوحيد لا يخلد في النار، وإنما هو تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، والعاصي يحمل على من لم يتب؛ لأنه التوبة إذا استوفت شروطها فهي مقبولة، أما إذا مات ولم يتب من ذنبه، فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء آخذه وعذبه، لكن إن مات على التوحيد فإنه لا يخلد في النار. فقوله: (ولا نقول إنه)، أي: العاصي، الذي ارتكب من المعاصي التي ليست كفراً تخرج من الملة، إنه في النار مخلد، بل أمره للباري. والقاعدة: أنه متى ما دخل الإنسان بعد الموت في المشيئة فهذا دليل على أنه لا يخلد في النار؛ لأن الذي يكون تحت المشيئة هو الذي يموت على التوحيد، فإن شاء الله عذبه بذنوبه، وإن شاء عفا عنه ولم يؤاخذه. تحت مشيئة الإله النافذة إن شا عفا عنه وإن شا آخذه بقدر ذنبه وإلى الجنانِ يخرج إن مات على الإيمانِ يؤاخذه بقدر ذنبه، ثم بعد ذلك يئول أمره إلى الجنة. والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يُناقش الحساب عُذّبا فيكنى عن هذا إشارة إلى تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، وثبت في صحيح البخاري، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله! جعلني الله فداك! أليس يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟! قال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك)، وفي رواية: (ومن نوقش الحساب عُذّب)؛ فمجرد أن يعرض الله على العبد جميع أفعاله التي فعلها، فهذا العرض هو الحساب اليسير، حتى أن الإنسان حين يذكره الله تبارك وتعالى بكل ذنوبه، ويقول: أتذكر يوم كذا؟ وفعلت كذا وكذا، فيذكر له كل شيء من أفعاله، حتى يظن العبد أنه هالك لا محالة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، فإذا انتهى من عرض أعماله عليه يقول الله تبارك وتعالى له: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أما من يناقش: لماذا فعلت كذا؟ وتحصل المناقشة في الحساب فهذا علامة على أنه سوف يعذب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عُذّب)، فإذاً يجب تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، بأنه سوف تعرض عليه أعماله فقط، وهذا هو الحساب اليسير، أما إذا نوقش زيادة على هذا العرض فلا بد أنه معذب والله أعلم. والسلف الصالح رحمهم الله وأئمة العلم والحديث قد قسموا العصاة من أهل التوحيد إلى ثلاث طبقات، حتى أن أعلى طبقة من أهل التوحيد هم من المذنبين؛ لأنه ليس أحد معصوم إلا الأنبياء عليهم السلام، أما ما عدا ذلك فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). فالطبقة الأولى من العصاة من أهل التوحيد: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبداً. الطبقة الثانية: هم أصحاب الأعراف، وهم قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وتكافأت فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فهؤلاء يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا، ثم بعد ذلك يؤمر بهم إلى الجنة برحمة الله تبارك وتعالى، والآيات معروفة في سورة الأعراف. أما الطبقة الثالثة: فهم قوم لقوا الله تبارك وتعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش، أي: أن من أتى بهذه المعاصي ولم يتب منها حتى مات، أي: مات من غير توبة، فهؤلاء هم الطبقة الثالثة، ومعهم أصل التوحيد، لكنهم لقوا الله مصرين على بعض الكبائر والفواحش والمعاصي، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من هو فوق ذلك، حتى أن منهم من لم يحرّم الله تبارك وتعالى من جسده على النار إلا موضوع السجود، وأصحاب هذا القسم هم الذين يأذن الله تبارك وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام ولغيره من الشفعاء في الشفاعة فيهم، وأحاديث الشفاعة متواترة. أما أهل البدع فهم يضعون أصولاً، ثم يتحاكمون بها في النصوص الأخرى، وقد أمروا أن يتحاكموا إليها، فالخوارج لما اخترعوا بدعتهم بتكفير هذا القسم، وأنه كافر كفراً أكبر مخرج من الملة في المعاصي إن لم يتب منها، كانت أحاديث الشفاعة تزعجهم وتقلقهم كعادة أهل البدع، فردوها بالكلية وكذبوا بحديث الشفاعة، لماذا؟ لأن أحاديث الشفاعة تبطل مناهجهم، هل يمكن أن يقال في أحاديث الشفاعة: أخرجوا من النار من ليس فيها؟! هم يقولون: إن من يدخل النار لا بد أن يكون كافراً، ولا يخرج منها أبداً، فأحاديث الشفاعة تثبت أن أهل التوحيد العصاة -وهم هذه الطبقة الثالثة- الذين ماتوا وهم مصرون على بعض المعاصي، هؤلاء يمكن أن يشفع فيهم الأنبياء، ويشفع فيهم النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الأحاديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يعني: الذين لم يتوبوا، أما من تاب واستوفت توبته الشروط فهي مقبولة كما دلت على ذلك النصوص، فمن تاب إلى الله تاب الله عليه، فالشاهد: أنهم قد أزعجتهم هذه النصوص، وتعارضت مع بدعتهم فردوها، وأثبتوا بدعتهم، ولذلك أولوها. فأحاديث الشفاعة تبطل وتهدم مذاهبهم؛ لأنه لا يعقل أبداً أن يقال: أخرجوا من النار من ليس في النار! إنما يقال: أخرجوا من النار من دخل في النار، فهذا يثبت أن العصاة يستحقون النار خلافاً لمذهب المرجئة، وخلافاً للخوارج، فيخرجون من النار إن ماتوا على أصل التوحيد، وهذا من الأصول المتقررة عند أهل السنة والجماعة. ومن أعجب الأشياء أن يبرز في مثل هذا الزمان أناس غرقوا في الضلال إلى آذانهم، فيخرج أيضاً كتاباً فيه فكر الخوارج بمنتهى الحماس والقوة والصراحة، ويدعي أن من دخل النار لا يخرج منها، وأن أي معصية تخرج فاعلها من الملة، كما سنبين بإذن الله فيما بعد. الشفاعة من أهم أقسامها في هذا القسم الثالث من أوساط الموحدين في إخراجهم من النار، والشافع هو النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى، وغيره من الأنبياء من بعده، ثم شفاعة الأولياء {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، دل على أن غير الأنبياء يشفعون، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالشخص الذي يكثر اللعن لا يصلح للشفاعة لغيره يوم القيامة، كما أن الأحاديث تثبت أن الشهيد يشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فيحد لهؤلاء الشفعاء حداً فيخرجونهم، ثم يحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم هكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم بره، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك، إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيخرج الله تعالى من النار أقواماً لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولا يخلد في النار أحداً من الموحدين أبداً، حتى ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيماناً وأخف ذنباً كان أخف عذاباً في النار وأقل مكثاً فيها، وأسرع خروجاً منها، وكل من كان أضعف إيماناً، وأعظم ذنباً كان بضد ذلك والعياذ بالله تعالى. والأحاديث في هذه الباب لا تحصى كثرة، وقد ذكرنا بعضها، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، وهذا يشير إلى أن الذي يموت على التوحيد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، لابد هي نافعته، حتى ولو أصابه قبل ذلك ما أصابه من عذاب النار أو ما دون ذلك، فهذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].

مناقشة أهل الضلال في تعريفهم للإيمان وأدلة ذلك

مناقشة أهل الضلال في تعريفهم للإيمان وأدلة ذلك نذكر الآن فصلاً عقده الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى -الملقب بإمام الأئمة رحمه الله- في كتاب التوحيد، وإثبات صفة الرب عز وجل بعد أن سرد أحاديث الشفاعة بأسانيدها، قال: قد روينا أخباراً عن النبي صلى الله عليه وسلم يحسب كثير من أهل الجهل والعناد أنها خلاف هذه الأخبار التي ذكرناها مع كثرتها، وصحة سندها، وعدالة ناقليها في الشفاعة، وفي إخراج بعض أهل التوحيد من النار بعدما دخلوها بذنوبهم وخطاياهم، وليست بخلاف تلك الأخبار عندنا بحمد الله ونعمته. والإمام ابن خزيمة هنا يشير إلى بعض الناس ممن تفسد أفهامهم ويأخذون بأطراف الأحاديث، يعني: فريق يأخذ بطرف من الأحاديث، والآخر يأخذ بالطرف الآخر، ولا يجمعون بين النصوص ويؤلفون بينها، فتنتشر البدع والضلالات، وهذا هو منشأ انحراف كثير من الخلق، أي: الإفراط أو التفريط الغلو أو الجفاء، ودائماً تكون الجماعة الوسط هم جماعة أهل السنة والجماعة الذين سلكوا مسلك السلف الصالح، لذلك نحن حينما نقول: الكتاب والسنة لا نتركها بدون قيد، فلا تقل: الطريقة الصحيحة هي الكتاب والسنة وتسكت، بل لا بد أن تضع قيداً حتى تسد الطريق على أهل البدع، فتقول: نأخذ بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، بفهم أهل السنة والجماعة؛ لأنه ممكن أن يكون في الكتاب والسنة بعض العمومات، فيستدل بها بعض أهل الضلال لتأييد بدعتهم، كما يقول بعض الشعراء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزّلُ بل يصل الأمر أحياناً ببعض الملاحدة والزنادقة أن يستدلوا بآيات من الكتاب على ما هم عليه من الضلال والفاسد، كما قال ذلك الزنديق: ما قال ربك ويل للأولى سكروا لكنما قال ويل للمصلينا! يعني: أنه يدعو لشرب الخمر وترك الصلاة!! فالضال الذي يريد أن يستدل بعمومات النصوص سيجد متسعاً في ذلك، ولكنك إذا قيدته بقولك: نأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح، فإنك بهذا تسد عليه طريق البدع، فإذا أبى جادلته في مسألة وجوب التحاكم إلى فهم السلف الصالح، والمؤهلات التي أهلهم الله بها. المقصود: أن إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة يناقش هؤلاء المرجئة أو الوعيدية الخوارج، وكيف أن كل فريق يستدل بالنصوص على بدعته، والآخر أيضاً يستدل بالنصوص، فهؤلاء يسيرون إلى أقصى اليمين، والآخرون يسيرون إلى أقصى اليسار، وأهل الحق أمة وسط كما وصاهم الله تبارك وتعالى. يقول: وأهل الجهل الذين ذكرتهم في هذا الفصل صنفان: صنف منهم الخوارج والمعتزلة، أنكرت إخراج أحد من النار ممن يدخل النار. أي أنهم قالوا: إن كل من يدخل النار لا يخرج منها أبداً، إذ لا يمكن أنه يدخل النار ثم يخرج منها. وأنكرت هذه الأخبار التي ذكرناها في الشفاعة. الصنف الثاني: الغالية من المرجئة، التي تزعم أن النار حرمت على من قال: لا إله إلا الله. فهذا الطرف الذي يقول: من يدخل النار لا يخرج منها، يستدلون بالأحاديث التي فيها وصف بعض المعاصي بالكفر، وما خالفهم ينكرونه، والطرف الآخر من المرجئة الغلاة يستدلون بالنصوص التي حرمت النار على من قال لا إله إلا الله، أو (من قال: لا إله إلا الله حرم الله جسده على النار) إلى آخر هذه الأحاديث وأشباهها، فهؤلاء جفوا، وأولئك غلوا. فيقول: أول ما نبدأ بذكر الأخبار بأسانيدها وألفاظ متونها، ثم نبين معانيها بعون الله ومشيئته، ونشرح ونوضح أنها ليست بمخالفة للأخبار التي ذكرناها في الشفاعة، وفي إخراج من قضى الله إخراجهم من أهل التوحيد من النار. ثم ساق منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقاً من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم على النار: لا إله إلا الله). وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يوافي عبد يوم القيامة وهو يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله إلا حرم على النار)، وفي رواية: (فإن الله قد حرم على النار أن تأكل من قال: لا إله إلا الله). وحديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة). وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه دخل الجنة)، يعني: وهذا يقوي الحديث الذي قبله: ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة؟ وهل كل الإيمان أن تقول: لا إله إلا الله؟ كلا. لكن لا شك أنه ينضم إليه من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فلو أن أحداً مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، لكنه أبى ورفض أن يقول: محمد رسول الله، فهل ينطبق عليه هذا الحديث؟ A لا، إذاً: لابد أن تجمع النصوص بعضها إلى بعض، وتفهم النصوص في ضوء بعضها البعض، ولا تأخذ بالعمومات، وإنما عليك أن تربط النصوص بعضها ببعض، وفهمها في ضوء جمع أطرافها، مما شابهها وقاربها. فإن قيل: في هذا الحديث: (من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله دخل الجنة)، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكذب بوجود الملائكة، فهل يكون مؤمناً؟ قلنا: لا، ولا ينفعه هذا الحديث. إذاً: الإيمان مجموعة من الحقائق المتلازمة التي لا ينفصل بعضها عن بعض، والقدح في شيء منها يهدم كل الإيمان وينقصه، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد. فمثلاً: لو شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وصلى وصام وزكى وحج وفعل كل أركان الإيمان، لكن كذب مثلاً بأن عيسى رسول الله وأنكر نبوة المسيح عليه السلام، أو قال: لم ينزل الله كتاباً اسمه التوراة، أو كذب بأي نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة، فهل ينفعه الإيمان ببقية أركان الإيمان؟ الجواب: لا، بل يصبح مرتداً خارجاً من الملة، يستوي مع من لم يقل هذه الكلمة، إذاً لابد من جمع أطراف النصوص وفهمها في ضوء بعضها البعض. أيضاً: حديث جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فقال: اذهب فنادِ في الناس: أن من شهد أن لا إله إلا الله موقناً -أو مخلصاً- دخل الجنة). وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! ما تركت من حاجة ولا داجة إلا أتيت عليها)، يعني: أنه ما ترك أي شيء من المعاصي أو الآثام إلا وقد أتى عليها وارتكبها، قال: (أو تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فإن هذا يأتي على ذلك كله). وعن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤذن الناس: أن من يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً فله الجنة، قال عمر: يا رسول الله! إذاً يتكلوا، قال: فدعهم)، يعني: إذا خشيت من الناس أن تقصر أفاهمهم عن فهم حقيقة هذه النصوص ويتكلوا على ذلك فيدعون العمل، فلا تبلغهم هذا العلم الذي يسيئون فهمه. وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وجبت له الجنة). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ولم يدخل النار، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق). وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قرأ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، قلت: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وإن زنى وسرق ورغم أنف أبي الدرداء، فلا أزال أقرأها كذلك حتى ألقاه)، رواه ابن خزيمة في التوحيد، وابن أبي شيبة في المصنف، والإمام أحمد في المسند، والنسائي في سننه الكبرى، وفي (عمل اليوم والليلة)، والبزار وأبو يعلي وابن جرير. وقال محقق الكتاب: وهو حديث صحيح يشهد له ما تقدم، وهو غير حديث أبي ذر المعروف في الصحيحين. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة، وأنا أقول أخرى، قال: من مات وهو يجعل لله نداً دخل النار، قال: وأقول: ومن مات وهو لا يجعل لله نداً دخل الجنة)، إشارة إلى التوحيد. قال أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: قد كنت أمليت أكثر هذا الباب من كتاب الإيمان، وبينت في ذلك الموضع معنى هذه الأخبار، وأن معناها ليس كما يتوهمه المرجئة، فالمرجئة يستدلون بمثل هذه الأحاديث على أن الإيمان يثبت بمجرد الكلمة، وذلك بأن يشهد أن لا إله إلا الله. وكما ذكرنا من قبل ليس هذا هو فقط الإيمان. يقول: وبيقين يعلم كل عالم

رد شبهات أهل الضلال بحجج عقلية ونقلية

رد شبهات أهل الضلال بحجج عقلية ونقلية قال الإمام أبو بكر رحمه الله تعالى: ولئن جاز لجاهل أن يقول: إن شهادة أن لا إله إلا الله جميع الإيمان إذ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن قائلها يستوجب الجنة ويعاذ من النار، لم يؤمن أن يدعي جاهل معاند أيضاً أن جميع الإيمان القتال في سبيل الله فواق ناقة -أي: مقدار حلب الناقة- فيحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة دخل الجنة)، معناه: أن من يقاتل في سبيل الله دقائق معدودة يدخل الجنة، فهل يؤخذ من هذا أن جميع الإيمان هو أن تقاتل في سبيل الله هذه البرهة القصيرة؟ كلا، هذه فقط في فضيلة القتال في سبيل الله، لكن لا يؤخذ منه أن كل الإيمان المنجي والمستوجب عدم دخول النار هو فقط هذا الفعل، كاحتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة). ويقول معاند آخر جاهل: إن الإيمان بكماله المشي في سبيل الله حتى تغبر قدما الماشي، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)، ويحتج أيضاً ذلك الجاهل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل المسلم). ويدعي جاهل آخر: أن الإيمان كله عتق رقبة مؤمنة، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه النار). ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان البكاء من خشية الله تبارك وتعالى، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى). ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان صوم يوم في سبيل الله، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً). ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان قتل كافر، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، يحمل الحديث على فضيلة قتل الكافر، لكن: هل أي كافر يقتل؟ هل النصراني أو اليهودي الذمي المستأمن في بلاد المسلمين بذمة وعهد يستوجب ذلك؟ كلا، قال القاضي: يحتمل أن يختص هذا الحديث بمن قتل كافراً في الجهاد، فيكون ذلك مكفراً لذنوبه حتى لا يعاقب عليها، وأن يكون عقابه بغير النار، أو يعاقب في غير محل عقاب الكفار، ولا يجتمعان في أدراكها. ثم قال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب. يعني: لو أخذنا كتاب الترغيب والترهيب، ففيه آلاف الأحاديث في فضائل الأعمال في الصالحات، ابتداءً من قول: لا إله إلا الله، وانتهاءً بإماطة الأذى عن الطريق، وسوف تجد أحاديث في فضل أعمال كثيرة، فهل يصلح أن يقال: الإيمان فقط هو واحدة من هذه الشعب؟ كلا، بل لابد من الإتيان باللوازم والشروط. يقول: وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب، وفي قدر ما ذكرنا غُنية وكفاية لما له قصدنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بفضائل هذه الأعمال التي ذكرنا، وما هو مثلها، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن كل عمل ذكره أعلم أن عامله يستوجب بفعله الجنة أو يعاذ من النار؛ أنه جميع الإيمان، وكذاك إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أو حرم على النار). المقصود: فضيلة هذا القول، لا أنه جميع الإيمان كما ادعى من لا يفهم العلم ويعاند، فلا يتعلم هذه الصناعة من أهلها، وهم: أهل العلم الراسخين، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، يقول: هذه لفظة مختصرة، ثم أتى بالرواية الأخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمعان في النار اجتماعاً)، يعني: أحدهما مسلم قتل كافراً، ثم سدد المسلم وقارب. قال أبو بكر: فلذاك نقول في فضائل الأعمال التي ذكرنا: من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال ثم سدد وقارب سدد: أتى بالأعمال على وجهها مائة بالمائة، وقارب: هذا يكون فيما عجز عن الإتيان به على الوجه الأكمل، فيقترب من السداد بقدر الاستطاعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (سددوا وقاربوا)، وهي مأخوذة من تسديد السهم في الرماية، فالتسديد: أن تصيب القلب والمركز، والمقاربة: أن تقترب من الهدف بقدر استطاعتك. فالمعنى: إذا عجز عن الإتيان بالتكليف الشرعي على الوجه الأكمل وهو السداد فلينتقل إلى المقاربة، ولا يترك العمل بالكلية. فالمسلم إذا سدد وقارب ومات على إيمانه دخل الجنة، فمن جاهد في سبيل الله وقَتَل كافراً ثم سدد وقارب -أي: ثبت على الأعمال الصالحة والإيمان- حتى مات على الإسلام دخل الجنة ولم يدخل النار، المقصود لم يدخل النار إن مات وهو لا يستحق دخول النار، فهل يتعارض هذا مع هذا الحديث: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)؟ A لا، فالمراد لا يجتمعان في منزلة واحدة من النار، وهي المختصة بالكافرين، لكن إذا قضي له دخول النار فهو يدخل الطبقة التي هي خاصة بعصاة الموحدين. يقول: من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال ثم سدد وقارب ومات على إيمانه دخل الجنة ولم يدخل النار موضع الكفر منها، لذلك لا يجتمع قاتل الكافر إذا مات على إيمانه مع الكافر المقتول في موضع واحد من النار، لا أنه لا يدخل النار ولا موضعاً منها، وإن ارتكب جميع الكبائر. هل يصح الاستدلال بهذا الحديث: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، على أنه لا يجتمع حتى لو مات مصراً على بعض المعاصي أو الكبائر، نعم؛ يمكن أن يدخل النار، لكن لا يجتمع في نفس المنزلة إن مات ذلك على التوحيد وإن أتى بهذه المعاصي، حتى ولو ارتكب جميع الكبائر خلا الشرك بالله عز وجل، إذا لم يشأ الله تعالى أن يغفر له ما دون الشرك، فقد أخبر الله عز وجل أن للنار سبعة أبواب، فقال لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، إلى قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44]. فأعلَمَنا ربنا عز وجل أنه قسم تابعي إبليس من الغاوين سبعة أجزاء، على عدد أبواب النار، فجعل لكل باب منهم جزءاً معلوماً، واستثنى عباده المخلصين من هذا القسم، فكل مرتكب معصية زجر الله عنها فقد أغواه إبليس ((إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))، هل مرتكب الكبيرة من الغاوين أم ليس من الغاوين؟ الجواب: هو ممن أغواهم إبليس، والله عز وجل قد يشاء غفرن كل معصية يرتكبها المسلم دون الشرك وإن لم يتب منها، والدليل على ذلك مثلاً قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وانظر إلى قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ -الغرغرة- قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فهذه الآية تدل على أيضاً على أن من مات مصراً على بعض المعاصي ولم يتب منها فإنه لا يخلد في النار، وأن بعضهم يتوب عند الموت فلا تقبل توبته، فهذا هو المصر، وهو ليس بكافر بدليل أن الله فصله عن الكافر. قال: لا يتوب الله على هذا {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، والذين يموتون وهم كفار قسم آخر، فدل هذا على أن القسم الأول ليسوا من الكفار، ولكنهم في المشيئة، بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فما دون الشرك من المعاصي فصاحبه داخل في المشيئة، ودخوله في المشيئة دل على أنه موحد؛ لأنه لا يدخل تحت المشيئة إلا الموحد. فلذلك يقول تبارك وتعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، وأعلمنا خالقنا عز وجل أن آدم الذي خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأمر ملائكته بالسجود له عصاه فغوى، وأنه عز وجل برأفته ورحمته اجتباه بعد ذلك فتاب عليه وهدى، ولم يحرمه الله بارتكاب هذا الحوب بعد ارتكابه إياه، فمن لم يغفر الله له حوبته التي ارتكبها، وأوقع عليه اسم غاو فهو داخل في باب من أبواب النار السبعة. وفي ذكره آدم في قوله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، ما يبين ويوضح أن اسم الغاوي قد يقع على مرتكب خطيئة قد زجر الله عن إتيانها وإن لم تكن تلك الخطيئة كفراً ولا شركاً ولا ما يقاربهما ويجزاهما، ومحال أن يكون من وحد الله عز وجل قلبه ولسانه المطيع لخالقه في أكثر ما فرض الله عليه وندبه إليه من أعمال البر غير المفروض عليه، وانتهى عن أكثر المعاصي، وأتى بأمور وأركان الإيمان، وصلى وصام وحج وفعل كل طاعة يقدر عليها، لكن ارتكب بعض المعاصي هل يستوي هذا في الغواية والضلال أو الانحراف مع من استكبر عن أن يقول لا إله إلا الله؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، فهل يستوي هذا المؤمن بفعل بعض هذه المعاصي مع من لم يوحد الله تبارك وتعالى أصلاً، أو من كفر بالله، أو دعا معه آلهة أخرى، أو قال: إن الله له صاحبة أو ولد؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل يستوي هذا العاصي الموحد مع من لم يؤمن بشي

الإيمان والكفر [11]

الإيمان والكفر [11] إن فهم النصوص الشرعية يكون بضم بعضها إلى بعض، ويكون ذلك على ضوء فهم سلف الأمة لها، فهذا هو المخرج من الزلل، والناظر في مناهج أهل البدع يجد أنهم قد سلكوا عكس الطريق المطلوب للوصول إلى سلامة المعتقد، وصحة المنهج، فقاموا بضرب النصوص بعضها ببعض، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.

إبطال مذهب المرجئة في الإيمان

إبطال مذهب المرجئة في الإيمان ما زلنا في الكلام على قضية الرد على طرفي الانحراف في قضية الإيمان والكفر، وهم الغلاة من المرجئة، ثم في الطرف الآخر الخوارج والمعتزلة، وذلك ضمن حديثنا عن ستة مباحث تتعلق بمسائل أصول الدين، كما ذكرها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في معارج القبول، يقول: ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا أخذه بقدر ذنبه وإلى الجنان يخرج إن مات على الإيمان والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عذبا وذكرنا في الرد على المرجئة كلام إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى، وملخصه: أن المرجئة يأخذون بطرف من النصوص ويهملون الطرف الآخر الذي يفسرها ويوضحها ويبينها؛ فهم يزعمون أن النار حرمت على كل من قال: لا إله إلا الله، ولا يمكن أن يدخل النار أبداً، وهم بالتالي يؤولون كل ما خالف هذا الاعتقاد من النصوص، فذكرنا في رد الإمام أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى على هؤلاء حينما ذكر بعض أدلتهم مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، ومثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، إلى غير ذلك من النصوص، فقلنا: إن هذه النصوص ليست على إطلاقها، بل لابد من تقييدها وفهمها في ضوء جملة أخرى من النصوص، فمثل هذه النصوص إنما تأتي في فضيلة عمل معين من الأعمال الصالحة فقط، لكن لا تعني أن كل الإيمان هو ما ورد في هذا الحديث، فلا يجوز أن تقول: إن من قال: لا إله إلا الله. قد أتى بكل الإيمان، فهذه النصوص إنما هي في فضائل هذه الأعمال، وليست هي جميع الإيمان، بدليل أنه لا يخالف أحد أبداً في أن من قال: لا إله إلا الله ثم ضم إليها شهادة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ثم هو في نفس الوقت مع أنه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه لم يؤمن بأي واحد من الأنبياء، فلم يشهد بعيسى ولا بموسى ولا بنوح ولا بهود ولا بغير ذلك من الأنبياء الذين يشهد لهم بالنبوة والرسالة، فهل يكون مسلماً مؤمناً؟! وهل يحرم على النار أم أنه يكفر بذلك؟! لاشك أنه يكفر بذلك؛ لأن الإيمان عبارة عن حقيقة مركبة من أجزاء لا تنفك ولا ينفصل بعضها عن بعض أبداً بأي حال من الأحوال، فالتكذيب بنبي واحد تكذيب بجميع الأنبياء، ولذلك يقول تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، ومع أن الذي أرسل إليهم كان رسولاً واحداً، لكن التكذيب برسول واحد هو تكذيب بجميع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلا يمكن أبداً ولا يوجد أبداً في علماء المسلمين من يقول: إن من قال: لا إله إلا الله حرم على النار، أو دخل الجنة، حتى ولو لم يشهد بالنبوة وبالرسالة، أو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكذب بالجنة أو النار أو البعث والنشور، هل يعد مؤمناً مسلماً أم أنه يكفر بذلك؟ كلا لا ينطبق عليه هذا الحديث، فإذا صح أن يستدل بمثل هذه الأحاديث في فضيلة كلمة التوحيد صح بالتالي أن يحتج جاهل معاند بحديث: (من علم أن الصلاة عليه حق واجب دخل الجنة) إذا صح هذا الحديث جاز أن يدعي جاهل آخر بأن كل الإيمان هو أن تؤمن وتصدق أو تعلم بأن الصلاة عليك حق واجب، وتكون مؤمناً بمجرد ذلك وإن لم تقر بلسانك ولم تصدق بقلبك بشيء مما أمر الله بالتصديق به، وأنك إذا علمت أن الصلاة حق واجب فأنت تدخل الجنة حتى لو أتيت جميع المحرمات وعطلت جميع الواجبات. وبالتالي أيضاً يمكن أن يأتي جاهل ثالث فيستدل بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها حرمه الله على النار)، يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فإن فعل هاتين الصلاتين فقط توجب دخول الجنة، حتى ولو لم يأت الإنسان بأي شيء من المأمورات ولم يجتنب شيئاً من المنهيات. هذه الأحاديث وأمثالها إنما هي في فضيلة هذا العمل، ولا يمكن أن يفهم منها أن جميع الإيمان هو أن تأتي بما ورد في مثل هذه النصوص. فحقاً لا إله إلا الله كلمة النجاة وكلمة التوحيد، لكن للا إله إلا الله لوازم ومقتضيات وشروط قُيد دخول الجنة باستيفائها. أنت حينما تقدم أوراقاً لأي جهة رسمية، فهناك أوراق أساسية تطلب منك، وإذا قصرت في تقديم إحدى هذه الأوراق المطلوبة يقال لك: مطلوب منك استيفاء باقي الأوراق، فكذلك للا إله إلا الله شروط ومقتضيات ولوازم لابد من الإتيان بها، وإذا كانت لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، لكن كل مفتاح له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك، والأسنان هي الأعمال ومقتضيات هذا الإيمان. فكل ما ورد في فضيلة لا إله إلا الله لا يفهم منه أن كل الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فعلى هذه الطريقة المعوجة في فهم النصوص يمكن أن يأتي إنسان جاهل فيقول: إن كل الإيمان هو أن تقاتل في سبيل الله فواق ناقة، وهو الوقت ما بين حلبة وأخرى للناقة، وقت يسير جداً ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)، فهل كل الإيمان أن تقاتل في سبيل الله هذه الفترة القصيرة من الزمن؟ أو هل كل الإيمان أن تغبر قدماك في سبيل الله، وتستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)؟ هل يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان فقط بأن تغبر قدماه في سبيل الله حتى ولو عطل كل الأوامر؛ فما صلى ولا صام ولا زكى وشرب الخمر وفعل الفواحش وسرق إلى آخر هذه المحرمات؛ ولأنه اغبرت قدماه في سبيل الله دخل الجنة وحرم على النار؟ كلا. أو هل كل الإيمان أن يعتق الإنسان رقبة مؤمنة حتى ينجو؛ ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار)؟ هذا فقط يستدل به على فضيلة عتق الرقبة، لكن لا يقال: هذا هو كل الإيمان. كذلك أيضاً هل كل الإيمان أن يبكي الإنسان من خشية الله، ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى)؟ كلا، هذه في فضيلة البكاء من خشية الله، وليس معنى الحديث أن كل الإيمان أن تأتي بهذا العمل. أو هل كل الإيمان أن تصوم يوماً تطوعاً في سبيل الله، وتستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)؟ كلا، هذا إنما هو في فضيلة هذا العمل الصالح، وليس معنى ذلك أن كل الإيمان الإتيان بهذه الشعب من الأعمال الصالحة.

إبطال مذهب الخوارج والمعتزلة في الإيمان

إبطال مذهب الخوارج والمعتزلة في الإيمان بعد أن استعرض الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى هذه الجملة من النصوص لإبطال مذهب المرجئة شرع في بيان ما تشبث به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: إن من فعل أي معصية يدخل النار ولا يخرج منها؛ لأنه يكفر بالمعصية حتى لو بالذنب دون الشرك ودون الكفر، والله تبارك وتعالى بين أن هناك من الذنوب ما هو شرك وما هو دون الشرك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهم يعدون أن كل من أتى ذنباً حتى لو كان من الذنوب غير المكفرة، فإنه إذا دخل النار -بناء على النصوص التي تثبت أن المعاصي تستوجب النار- لا يخرج منها، ومن ثم كذبوا بأحاديث الشفاعة؛ لأنها تبطل مذهبهم بالكلية، وإلا فهل يجوز أن يقال: أخرجوا من النار من ليس فيها؟ أو أن يقال: يخرج من النار من ليس في النار؟ كلا. فلأن أحاديث الشفاعة تبطل مذهبهم الباطل، ومنها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)؟ فلذلك كذبوا بها حتى لا تزعجهم ولا تقلقهم.

عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة

عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة يقول الإمام رحمه الله تعالى الإمام ابن خزيمة: باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة من جهة النقل جهل معناها فرقتان: فرقة المعتزلة والخوارج، احتجوا بها وادعوا أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار محرم عليه الجنان. الكلام بالنسبة للخوارج فيمن فعل الكبيرة ولم يتب منها، هم يقولون: إذا فعل المعاصي فقد كفر وارتد وعاد إلى الإسلام بالتوبة، فبالتالي لا يختلفون في أن من تاب فهو ناج بغض النظر عن تكييف هذه التوبة، أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون: أن من تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه، حتى ولو من أكبر الذنوب وهو الشرك بالله تبارك وتعالى، فباب التوبة مفتوح له ولا يغلق أبداً حتى تطلع الشمس من المغرب، أو قبل الغرغرة في حق عمر الإنسان، فليست القضية معهم في شأن الذي تاب؛ لأن الذي تاب توبته مقبولة، وهو ناج إن شاء الله؛ ما دامت التوبة صحيحة مستوفية لشروطها، لكن أهل السنة يعتقدون أن إيمانه ينقص بهذه المعصية، والخوارج يعتقدون أن إيمانه يحبط تماماً، وأنه إذا تاب يعود إلى الإسلام من جديد، حتى وصل الأمر أنهم كفروا الأنبياء، بعض الخوارج الجدد يعتقدون بتكفير بعض الأنبياء، فلما كنا نستدل عليهم في بعض المناقشات ببعض النصوص ونعتقد أنها سوف تفحمهم، ونقول لهم قال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]، وقال يونس عليه السلام: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قالوا: إن يونس كفر ثم عاد إلى الإسلام بالتوبة والعياذ بالله، فتجرءوا حتى على مقامات الأنبياء، بل حتى على خاتم الأنبياء وسيدهم عليه الصلاة والسلام، فالعياذ بالله من هؤلاء الهالكين الجهال الضالين، وذلك تبعاً لانحرافهم في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]. فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، وإنما أخذ على نفسه أن يجتنب العسل؛ لما يصدر عنه من رائحة اشتكت منها بعض أزواجه. هذه قضية أخرى، ولم يكن تحريماً لما أحل الله. على أي الأحوال وصل بهم الجهل إلى هذا الحد من العدوان والظلم والبهتان، فادعى الخوارج والمعتزلة أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها فهو مخلد في النار محرم عليه الجنان. أما المرجئة فقد كفرت بهذه الأخبار وأنكرتها ودفعتها، جهلاً منها بمعانيها.

بيان معاني نصوص الوعيد التي يستدل بها المعتزلة والخوارج

بيان معاني نصوص الوعيد التي يستدل بها المعتزلة والخوارج يقول: وأنا ذاكرها بأسانيدها وألفاظ متونها، ومبين معانيها بتوفيق الله، ثم ذكر بأسانيده حديث أسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من انتسب لغير أبيه لم يرح بريح الجنة، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاماً)، فمثل هذه الأحاديث يفهم منها أنه حرمت عليه رائحة الجنة، فأخذوا منها أنه كافر كفراً أكبر، مثل: المشرك النصراني الذي يعتقد أن الله ثالث ثلاثة، ومثل: اليهود والمجوس كلهم سيان، ويستدلون بمثل هذا الحديث: (فالجنة عليه حرام)، كذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات)، أي: نمام. ففهموا أن الشخص الذي يمشي بين الناس بالنميمة يحرم عليه الجنة، فيستدلون بهذه النصوص على كفر من ارتكب هذه المعصية. والجواب على هذا: أن نجمع بين هذا الحديث وبين مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم جريدتين رطبتين على قبريهما وقال: اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، يعني: ما دامت الجريدتان رطبتين لينتين؛ فيدعو الله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا. الظاهر من الحديث أنهما ماتا بغير توبة؛ لأنهما إذا كانا تابا توبة صحيحة فالتوبة مقبولة. فالشاهد قوله: (اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، فدخولهما تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم يؤيد أنهما ليسا بكافرين وليسا من المشركين؛ لأن الله حرم المغفرة والاستغفار والجنة على المشركين، ففي ضوء هذا يفهم هذا الحديث: (لا يدخل الجنة قتات)، يعني: نمام. وحديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك)، الأراك هو عود السواك، لو كان الذي اغتصبه أو سرقه بهذا اليمين أو استولى عليه بغير حق هو عبارة عن عود من السواك فقد حرم الله عليه الجنة. وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام، ولا عاق، ولا مدمن خمر)، وحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع)، أي: قاطع رحم، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء)، أي: المرأة المسترجلة التي تتشبه بالرجال في ملابسها أو هيئتها أو كلامها إلى آخره، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بما أعطى)، وحديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفساً معاهدة بغير حقها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها)، يعني: من قتل يهودياً أو نصرانياً من الذين لهم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحرم عليه الجنة؛ فهذا يحرم قتله لأنه معصوم، والمعصوم إما المسلم وإما الذمي. إذاً: الذمي المعاهد لا يجوز ظلمه ولا قتله ولا الاعتداء على ماله ولا نفسه؛ لأنه إذا كان من أهل الذمة فبينه وبين المسلمين ذمة وعهد؛ فلا يجوز أن تخفر هذه الذمة أو تنقض.

كلام ابن خزيمة في معنى أحاديث الوعيد

كلام ابن خزيمة في معنى أحاديث الوعيد قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى: معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين: أحدهما: لا يدخل الجنة. أي: بعض الجنان. يعني: لا يدخل جنة معينة، أو أن جزءاً معيناً من الجنة محرم على من أتى هذه الذنوب. يقول: أحدهما: لا يدخل الجنة، أي: بعض الجنان؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أنها جنان من جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فالجنة مراتب ودرجات متفاوتة تفاوتاً عظيماً. وهذه الأخبار التي ذكرها: من فعل كذا لبعض المعاصي حرم الله عليه الجنة، أو لم يدخل الجنة، معنى ذلك: لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيماً وسروراً وبهجة وأوسع؛ أنه أراد لا يدخل شيئاً من تلك الجنان التي هي في الجنة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد بين خبره الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر)، بين أنه إنما أراد حضيرة القدس من الجنة على أحد المعنيين. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق، ولا منان). فهذا الحديث يوضح الحديث الأول. فتحمل بعض هذه النصوص على هذا الاحتمال الأول، أو على الثاني: منطقة معينة من الجنة تحرم على من أتى هذه الذنوب. قال: ولكنه يدخل الجنة، لكن جنات معينة ودرجات معينة من الجنة يدخلها من لم يأت بهذه المعاصي، أما من أتى بها فهو وإن دخل الجنة لكن يكون في مرتبة دون تلك التي دخلها من عافاه الله منها. قال: والمعنى الثاني: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له. يعني: من فعل كذا فهو في النار، أو حرم الله عليه الجنة، أو لا يجد ريح الجنة إلا أن يعفو الله عنه. فيقدر هذا الشرط لفهم الحديث فهماً صحيحاً. فيقول: إن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له ويصفح ويتكرم ويتفضل، فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة، إذ الله عز وجل قد أخبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر دون الشرك من الذنوب، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذا قيل لك: ما الدليل على الاشتراط؟ فالدليل هو: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، فلا يدخل تحت المشيئة إلا من سلم من الشرك وإن استحق دخول النار، وقد يعافى من دخول النار إذا شاء الله أن يعافيه ويعفو عنه بسبب من أسباب كثيرة جداً سنذكرها إن شاء الله في حينها. يقول: واستدللت أيضاً بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وساق بإسناده إلى قيس بن محمد بن الأشعث: أن الأشعث وهب له غلاماً فغضب عليه بعدما وهبه الغلام، وقال: والله ما وهبت لك شيئاً، فلما أصبح رده عليه ثانية وندم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين صبراً ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). الشاهد تعليق العقوبة على مشيئة الله تبارك وتعالى، وقد تقدم حديث عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه في قصة البيعة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه؛ فبايعناه على ذلك). الشاهد أنه بعدما أخذ عليهم ألا يشركوا بالله تبارك وتعالى شيئاً أخذ عليهم أيضاً ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم في جملة أخرى من المعاصي، ثم قال: (فمن وفى منكم فأجره على الله) هذا المسدد الموفق الذي وفى بالبيعة ولم يخالف ولم يرتكب شيئاً من هذا. قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له)، المقصود من أتى بشيء دون الشرك يستوجب حداً من الحدود فعوقب في الدنيا بإقامة الحد عليه، فإقامة الحد تطهير وكفارة لهذا الذنب، سواء أقر عند الحاكم أو شهد عليه الشهود بأنه فعل فأقيم عليه الحد، لكن إذا ستره الله فليستر على نفسه طمعاً في رحمة الله، كما ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة، لكن لا يفضح نفسه ولا يكشف ستر الله تبارك وتعالى عليه. وذلك لقوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). الشاهد: دخول السارق أو الزاني أو القاتل أو فاعل أي شيء من هذه المخالفات تحت المشيئة، وهذا يدل على أنه فعل شيئاً دون الشرك، وعلى أنه مؤمن ناقص الإيمان بمعصيته، لكن ليس مؤمناً إيماناً مطلقاً كما بينا ذلك مراراً. يقول الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: فاسمعوا الخبر المصرح بصحة ما ذكرت أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها على الانفراد، فيستدل بذلك على صحة تأويلنا الأخبار التي ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لبعض المعاصي لم يدخل الجنة، إنما أراد بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأفضل وأنبل وأكثر نعيماً وأرفع، إذ محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة. يريد: لا يدخل شيئاً من الجنان، ويخبر أنه يدخل الجنة، فتكون إحدى الكلمتين دافعة للأخرى، وأحد الخبرين دافعاً للآخر. ففي الحديث: (من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه دخل الجنة أو حرمه الله على النار) إلى آخر الجملة الأخرى من الأحاديث، فمن يقول: لا إله إلا الله، فهو بذلك يستحق الجنة، ثم يأتي نص آخر فيكون هذا الشخص الذي فعل معصية معينة تحرم عليه الجنة أو يدخل النار. فالمقصود أن هناك تعارضاً في الظاهر لا يقع في الحقيقة بين النصوص، فهذا الجنس من الأخبار لا يدخله النسخ؛ لأنه يلزم من ذلك التضارب في أشياء لا يدخل فيها النسخ، لكن هذا من ألفاظ العام الذي يراد به الخاص.

درجات الجنة وتعددها

درجات الجنة وتعددها ساق بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنبأني عن حارثة أصيب يوم بدر، فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال: يا أم حارثة، إنها جنان في جنة، وإنه أصاب الفردوس الأعلى) رضي الله عنه، فهذا نص على أنها جنان في جنة، يعني: الجنة الكبرى مكونة من جنان تتفاوت في منازلها وسعتها وشرفها. قال أبو بكر بن خزيمة: قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة وبُعد ما بين الدرجتين، منها: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء، لتفاضل ما بينهم، فهم يتراءون وينظرون إلى منازلهم وهم في الجنة كما تنظرون أنتم وأنتم في الأرض إلى الكوكب الدري الغابر في أفق من آفاق السماء، كم يكون بعيداً عنكم؟! فهذا تفاضل ما بين أهل الغرف وأصحاب الغرفات، هؤلاء الذين شرفهم الله بهذه المنزلة، فهذا يدل على أن الجنة نفسها درجات، كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]، فدرجات الجنة تذهب علواً ودركات النار تذهب سفلاًً. وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم لما حكى هذا الحديث وأخبرهم: (أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء؛ لتفاضل ما بينهم، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، يعني: هذه المنزلة قد يبلغها أناس ليسوا من الأنبياء ولا من المرسلين، بل هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. يقول: وأمليت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام، بين كل درجتين مسيرة تقطع في مائة سنة. فمعنى هذه الأخبار التي فيها ذكر أن من يرتكب بعض الذنوب لا يدخل الجنة، أي: لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين إلا الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والحوبات والخطايا. ثم قال: وقد يجوز أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة. يريد لم يدخل الجنة التي يدخلها من لم يرتكب هذه الحوبة؛ لأنه يحبس عن دخول الجنة إما للمحاسبة على الذنب، أو لإدخاله النار ليعذب بقدر ذلك الذنب، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب العقاب، إن لم يسمح الله ويصفح ويتكرم فيغفر ذلك الذنب ويدخل الجنة مع أول الداخلين، بل يحبس حتى يقتص منه، أو إذا كان الذنب يستوجب النار فيدخل النار فترة حتى يتطهر، ثم يدخل الجنة إن كان مات على التوحيد، فهذه الأخبار إذا لم تحمل على هذه المعاني كانت على وجه التهاتر والتكاذب، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) يعني: ظنوا بكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن وأهدى الظن، وأهدى الفهم وأتقاه لله وأهناه. فخلاف هذا المسلك الذي سلكه العلماء هو مسلك القاصرين الجهلاء الذين ينظرون بعين واحدة هي عين الرجاء، أو عين التخويف والوعيد والتهديد دون أن يجمعوا بين النصوص بهذا الجمع.

ثناء حافظ حكمي على طريقة ابن خزيمة

ثناء حافظ حكمي على طريقة ابن خزيمة يقول الشيخ حافظ حكمي بعدما سرد هذا الكلام: انتهى كلامه باختصار، وهذا كلام متين من إمام متضلع من معاني الكتاب والسنة، ذي خبرة وعلم لمواردها ومصادرها. وقوله رحمه الله تعالى: وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعن رحمه الله التأويل الفاسد الذي اصطلح عليه المتكلمون المتأخرون من صرف النصوص عن معانيها إلى الاحتمالات البعيدة، هذا هو التأويل الفاسد الذي هضموا به معاني النصوص بما اقتضته عقولهم السخيفة، وليس ذلك من طريقته -أي: ابن خزيمة - ولا من شأنه رحمه الله، وإنما عنى ما أشار إليه في غير موضع من كتبه من حمل المجمل على المفسر، والمختصر على المتقصي، والمطلق على المقيد، والعموم على الخصوص، وما أشبه ذلك من التأليف بين النصوص ومدلولاتها؛ لئلا تكون متناقضة يرد بعضها معنى بعض، لأن هذا التناقض مما ينزه عنه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فهذه طريقة جميع أئمة المسلمين من علماء التفسير والحديث والفقه في أصول الدين وفروعه رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

الجمع بين عفو الله وعقابه لمن رجحت كفة سيئاته

الجمع بين عفو الله وعقابه لمن رجحت كفة سيئاته يقول: مسألة: فإن قيل: وما الجمع بين ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في من ارتكب حداً لم يقم عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، وبين ما صرحت به النصوص التي في الميزان والحساب والجنة من أن من رجحت خطاياه وسيئاته بحسناته تمسه النار ولابد؟ يعني: لا إشكال في ذلك ولا منافاة ولله الحمد، وقد حصل جمع فاصل للنزاع بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي ذكرناه: بأن من يشأ الله عز وجل أن يعفو عنه يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض، وبين أن من نوقش الحساب عذب، فهو يحاسب، لكن صورة حساب الشخص الذي مات على ذنب من هذه الذنوب واستوجب الحد ولم يقم عليه وستر الله عليه؛ فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. ف A أن من شاء الله أن يعفو عنه فإنما يحاسب حساباً يسيراً، ما الحساب اليسير؟ مجرد عرض الأعمال عليه، ثم يقال له: (فإني أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا). أما الشخص الذي مات على معصية دون أن يتوب منها فهذا سوف يحاسب حساباً عسيراً، كيف يكون الحساب؟ بالمناقشة، متى ما نوقش وحصل أخذ ورد، في هذه الحالة يكون الله قد شاء أن يعذبه. يقول عليه الصلاة والسلام: (يدنو أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرره بها، ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)، وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم فهم ممن يناقش الحساب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، نسأل الله عز وجل أن ييسر حسابنا، ويتجاوز عنا، ويغفر لنا بمنه وكرمه آمين.

مرتكب الكبيرة يكفر باستحلاله إياها

مرتكب الكبيرة يكفر باستحلاله إياها المسألة الخامسة من مسائل هذه البحوث: أن مرتكب الكبيرة يكفر باستحلاله إياها. يعني: لا نكفر أحداً من أهل التوحيد بالذنب، لكن هناك ذنوب يكفر مرتكبها إذا اعتقد استحلال الذنب والمعصية. نحن قلنا: الإيمان مركب من قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان والجوارح، ففي كل عمل أنت تعمله هناك عمل قلبي، مثلاً: من يشرب الخمر والعياذ بالله انتفى عنه العمل، لكن لابد أن يكون معتقداً في قلبه تحريمها، فالعقيدة والإيمان مرتبط بالعمل، فالذي يشرب الخمر في قلبه إيمان أن هذا حرام، لكنه تخلف عمل القلب نتيجة اتباعه الشيطان في العمل فشرب الخمر وارتكب هذه الموبقة، فهذا مرتكب كبيرة من الكبائر مستحق للعذاب، لكن إذا شرب الخمر واعتقد بقلبه أنها حلال، فهل هذا الذنب يكفره أم لا يكفره؟ يكفره؛ لأنه استحل الحرام، فصارت كبيرة القلب ومعصية القلب أشد من معصية الجوارح. فإذاً: لا نقول: إن العبد لا يكفر بالذنب، لكن نقول: لا نكفر المؤمن بكل ذنب إشارة إلى أن الذنب يكفر به فاعله إذا استحله إذا استحله، ولذلك يقول الشيخ حافظ حكمي في سلم الوصول: ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى يقول: (ولا نكفر بالمعاصي)، يعني: المعاصي التي لا توجب كفراً، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك ولا تستلزم الشرك، ولا تنافي اعتقاد القلب ولا عمله. قوله: (مؤمناً) أي: مقراً بتحريم هذه المعاصي، معتقداً أنها حرام، مؤمناً بالحدود المترتبة عليها، ولكن نقول: يفسق بفعلها، ويقام عليه الحد بارتكابها، وينقص إيمانه بقدر ما ارتكب منها. إن كلمة لا إله إلا الله هي مثل الروح للبدن، والإنسان إذا قطعت ذراعه يبقى حياً، وأعمالنا هي أركان البدن والجوارح والأعضاء. أما التوحيد والعقيدة فهي روح هذا البدن، فالإنسان إذا فقئت إحدى عينيه يمكن أن يعيش لكن بعاهة، وإذا قطعت يده أو رجله يعيش وتنقص أركانه وأعضاؤه، وإذا فقد جزءاً من أجزاء البدن يبقى حياً، أو عامة جوارحه إذا بترت منه يبقى حياً، لكن إذا خرجت روحه مع سلامة جميع الجوارح هل يبقى حياً؟ لا، فكذلك العقيدة والتوحيد إذا خرجا من القلب حبط جميع إيمانه وذهب أصله بالكلية. أما ما عدا ذلك من الأعمال فيمكن للإنسان أن يبقى حياً بدونها لكن ينقص بقدرها من كفاءاته، وينقص إيمانه بالمعاصي، فالمعاصي لها تأثير لا كما تزعم المرجئة أن المعاصي لا تأثير لها على الإيمان، وتنقص من الإيمان، فإذا استحلها أحبطت كل الإيمان، وصار كافراً مشركاً بذلك.

الإيمان والكفر [12]

الإيمان والكفر [12] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن من عصى الله وتجاوز حدوده وهو يعلم أن فعله حرام أنه لا يكفر، وأما من استحل ما حرم الله من العاصي فإنه يكفر وإن لم يفعلها، لكن من تاب في زمن التوبة فإنها تقبل منه ولو كانت من الكفر والشرك.

تقرير كفر من ارتكب المعصية إذا استحلها

تقرير كفر من ارتكب المعصية إذا استحلها يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى أي: لا نكفر من ارتكب المعصية إلا إذا استحلها، وأشرنا إلى عمل القلب في أمر المعاصي، وفي التفريق بين الكفر والإيمان، فهناك عمل القلب وهناك عمل الجوارح، سواء في الطاعات أو المعاصي، فالشخص الذي يسرق ويشرب الخمر ويفعل الفواحش له شقان: شق هو اعتقاد قلبه تجاه هذه الأشياء، وشق يتعلق بالناحية العملية، وإذا ارتكب شخص شيئاً من هذه المحرمات فهنا يعد عاصياً فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة أو ذنباً من الذنوب، ولا يكفي هذا لتكفيره؛ لأنه ما زال في قلبه التصديق بأن هذا الشيء حرام، إنما غلبه هواه أو زين له شيطانه أو حرضه رفقاء السوء، أو أي عامل من العوامل التي مهدت له الوقوع في هذه المخالفة، لكنه بقلبه يعتقد أن الخمر حرام وأن السرقة حرام، فهذا نوع من الجريان مع الهوى والميل مع الشيطان، فلا يكفي ذلك لتكفيره، بل هذا ينقص إيمانه. رجل آخر لا يشرب الخمر ويقول: إنها تضر بالصحة، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفراً أكبر، حتى ولو لم يذق قطرة من الخمر، وخارج من الملة مثل: فرعون وهامان وأبي لهب؛ لأن هذا استحل بقلبه وإن لم يفعل بجوارحه هذه المعصية. إن اعتقاد المسلم هو وجود عمل القلب بالتصديق بحكم الله في هذه المسائل حتى في حالة المعصية، ولذلك يفرق بين المسلم مرتكب المعصية الذي يفسق بفعلها، أو ينقص إيمانه بفعلها، وبين الشخص الذي لم يفعل المعصية لكنه كافر لاستحلاله إياها بقلبه. وأشرنا من قبل إلى الأدلة التي تثبت أن فاعل المعصية لا يخرج من الملة، وذكرنا بعض هذه الأدلة سواء من القرآن الكريم أو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن قتل النفس التي حرم الله هذا من الكبائر، واقتتال طائفتين من المسلمين هو من أكبر الكبائر، ورغم ذلك أثبت لهم القرآن أخوة الإسلام، فقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] قوله: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) أثبت لهم صفة الإيمان. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]. هذا قتال بغاة، وفرق كبير في الأحكام الفقهية بين قتال البغاة وقتال الكفار، مثلاً في قتال الكفار الأسير الجريح تجهز عليه؛ لأنك تستحل دمه، وإذا فر تتبعه حتى تقضي عليه، وتسبى نساؤهم وتغنم أموالهم. وقتال البغاة هذا لم يقع أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة). يعني: أنه أول من طبق فقه قتال أهل القبلة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم في الفتنة الكبرى حينما اقتتل جيش علي وجيش معاوية رضي الله عنهما، كانوا إذا أتى وقت الصلاة يوقفون القتال ويصلون، وكان إذا قتل أي واحد من القتلى أي فريق من الاثنين يأخذه ويصلي عليه ويكفنه ويؤدي حق المسلم معه، ولم يسبوا نساءهم ولم يستحلوا أموالهم، وما كانوا يجهزون على الجريح؛ لأن المقصود كما قال الإمام الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل؛ قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، والبغاة عبارة عن طائفة من المسلمين تخرج بتأويل سائغ على الخليفة، تكون لها قوة ومنعة وزعيم ومطالب محددة أو تأويل لبعض النصوص؛ فيخرجون على الخليفة الحق، فهؤلاء تطبق عليهم أحكام قتال البغاة، ولم يحصل هذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن وجود الرسول عليه الصلاة والسلام كان رحمة للأمة من أن يصطرعوا أو يتقاتلوا، لكن وقعت الفتنة كما قدر الله تبارك وتعالى فحصل ما حصل، فلذلك كان أول مجال عملي طبق فيه فقه مقاتلة البغاة هو الحرب بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فلذلك لم يحصل سبي للنساء؛ لأن هذا فرق بين قتال المسلمين وقتال الكافرين، ولذلك الخوارج كفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وخرجوا عليه، قالوا: لماذا لا تسبي نساءهم؟ فقال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها؟ فلم يحصل أي شيء. إذاً: المقصود من قتال البغاة هو إضعاف شوكتهم وليس المقصود استحلال دمائهم، فلذلك إذا فر من المعركة وهرب لا يتبعه أحد، وإذا جرح وعجز عن مواصلة القتال لا يجهز عليه، ولا تسبى النساء، ولا تغنم الأموال، ولكن الكافر يباح دمه ويقتل ويجهز عليه كما هو معلوم. الشاهد أن التطبيق العملي لهذه الآية التي تتحدث عن قتال البغاة تؤكد أن المعاملة كانت بين جيشين متقاتلين معاملة البغاة، وليست معاملة المرتدين أو الكافرين. أيضاً الذي يقتل أخاه لأي هوى دافع من العصبية أو الصراع على دنيا أو أي شيء، قال تبارك وتعالى عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] القصاص لا يحصل إلا بعد أن يكون هناك قاتل ومقتول، ومع ذلك خاطبهم بلفظ الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، أي: إذا عفا ولي الدم عن القاتل؛ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فأثبت لهم الأخوة مع وجود هذه المقاتلة. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178]. لوكان هذا القاتل مرتداً لما سماه الله أخاً؛ لأنه لا أخوة البتة بين مؤمن وكافر. كذلك حاطب بن أبي بلتعة، مع أنه من البدريين رضي الله عنه فقد ارتكب معصية كبيرة من الكبائر، حينما أرسل كتاباً إلى أهل مكة من المشركين يخبرهم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم ويقصد مقاتلتهم وغزوهم، وأنه جهز جيشاً لفتح مكة، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه فتتبعوا المرأة التي كانت تحمل هذه الرسالة، وفعلاً هددوها إما أن تخرج الكتاب، وإما أن يرفعوا الثياب ويكشفوها حتى يفتشوا عن ذلك، فأخرجت المرأة هذا الكتاب وأحضروه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحينئذ نزل قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا)) خاطبه بوصف الإيمان مع ارتكابه لهذه المعصية الكبيرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]. حينئذ اعتذر حاطب رضي الله تعالى عنه بأن كل واحد من الصحابة له عصبة ورجال يحمون ذويهم في قريش من الكفار، فهو أراد أن يبذل بعض الجميل للكفار؛ لأنه ليس له ولا لذويه في قريش هذه المنعة، فأراد أن يصنع لهم يداً بحيث يكفوا شرهم عن أهله في مكة، فمن أجل هذا التأويل تجاوز له الله عن هذا الفعل؛ لأنه لم يقصد خيانة الله ورسوله، فحينما استأذن عمر رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب عنق حاطب، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فحينئذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أن عمر رضي الله عنه وصف حاطباً بالنفاق، مع ذلك امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله بهذا الفعل؛ لأنه باق على أصل الإسلام مع ارتكاب هذه المعصية، والمقصود من قوله: (لعل الله اطلع على أهل بدر)، يعني: علم ما خواتيم جميع من شاركوا في غزوة بدر، وأن كلاً منهم إذا أذنب رجع إلى الله عز وجل، وليس معناه أن بدرياً يستحل المعاصي، ويقول: أنا بدري وسيغفر الله لي، لكن معناه أن الله اطلع على خواتيمهم، وعلم من شأنهم وأحوالهم أنه لا يوجد بدري إلا إذا أذنب ذنباً يتوب منه، ولا يصر عليه فيتوب الله عليه. كذلك ليس كل من خاض في حديث الإفك من المنافقين، بل فيهم مؤمنون كما هو معلوم، ومع ذلك أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، المقصود منها أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان له قريب يدعى: مسطحاً، وكان أبو بكر ينفق عليه ويتصدق عليه، فحينما وقع في أم المؤمنين أقسم أبو بكر رضي الله عنه أن يقطع عنه هذا الرزق، فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، فحينئذ قال أبو بكر رضي الله عنه: (بلى يا رب والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرد على مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً). وإنما كان ذلك لما أظهر مسطح الندامة. والإنس

وجوب معاملة الناس بظاهرهم لا بما في قلوبهم

وجوب معاملة الناس بظاهرهم لا بما في قلوبهم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -يعني: هجمنا في الصباح على هذه القبيلة من جهينة- فأدركت رجلاً من الكفار، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته! مع أنه قال: لا إله إلا الله؛ فوقع في نفسي من ذلك! فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ!) قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين يعني: أسامة رضي الله عنه، قيل: لأنه كان له بطن عظيم، فقال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. هذا الحديث يجب أن يوضع نصب عين كل من لا يقتنع بأن يحاسب الناس على ما يظهرون، شأن العبيد مع العبيد فبعض الناس يريد أن يحاسب الناس على ما في قلوبهم لا يكتفي بما يظهرونه، ويظل يتتبع ويتحرى حتى ظهرت هذه البدعة الضالة: التوقف والتبين! يقول لك: يتبين، ولسان حالهم يقول: أريد أن أعاملك على أساس ما في قلبك لا على أساس ما تظهره؛ ويتعنت ويتعسف في بذل الجهد في إنقاص عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذه هي المهمة التي يعيش من أجلها: كيف يخرج الناس من الإسلام؟! كيف يحكم عليهم بالكفر؟! فمعاملة العبد لعبد لا تنبني إلا على ما يظهر هذا الإنسان، أما الذي يعامل الناس على ما في قلوبهم فهو الله سبحانه؛ لأنه وحده الذي يطلع على ذلك، معلوم قول النبي عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى: (إني لم أؤمر أن أنقب عما في قلوب الناس أو أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وفي بعض الآثار كما في الموطأ عن عيسى بن مريم عليه السلام قال: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). فالإنسان الذي يعامل الناس على ما في قلوبهم تجد أنه ينازع الله في ربوبيته. أما في حالة أسامة هذه فإن الظاهر أن هذا الرجل لما لاذ بالشجرة أو اختبأ، وقال: لا إله إلا الله، ولنفرض جدلاً أنه قال هذه الكلمة لكي تعصم دمه في الحال، فلا ينبغي حينها أبداً أن يلتمس مثل هذه المعاذير. إن قلة الفقه بهذه القضايا هي التي أوجدت مثل هذه الأمور التي نسمع بها من بعض إخواننا في أفغانستان؛ لعدم وجود الفقه والبصيرة والعلم الشرعي، كان بعض الإخوة إذا لاقوا الجنود من حكومة أفغانستان الشيوعية تجد جرأة على إراقة الدماء، فيقولون: لا إله إلا الله ومع ذلك يقتلونهم، هذا انحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لماذا؟ يقول: هو ما قال ذلك إلا بعد ما قدرت عليه وكدت أن أقتله؛ هذا نفس ما حدث مع أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، ومع ذلك زجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قد يطرأ Q لماذا لم يؤاخذ النبي عليه الصلاة والسلام أسامة بقتله ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله؟ A لم يؤاخذه لوجود الشبهة في هذا الأمر، وأنه ظن أنه إنما قالها تعوذاً؛ فلو قال إنسان هذه الكلمة حتى لو كان الظاهر أنه يتعوذ بها فإنها تحميه، وفي قصة بني جذيمة حينما عرض عليهم خالد الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا. فصبأنا من حيث اللغة تعني تغيير الدين، أما هو فقد فهمها بخلاف ذلك؛ لأن فيها نوعاً من عدم الصراحة في إثبات أنهم مسلمون أو غير مسلمين، وكان ينبغي أن يتحرى خالد رضي الله عنه لكنه عرضهم على السيف وقتلهم؛ فحينما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وأرسل دية هؤلاء القوم حتى ميلغة الكلب)؛ أي: حتى الإناء الذي يلغ فيه الكلب دفع النبي عليه الصلاة والسلام تعويضاً عنه. الشاهد أن الإنسان ينبغي أن يحترز في مثل هذه الأشياء، وألا يجترئ على إراقة الدماء، وللأسف نسمع الكثير من الناس يسمون قتل المسلمين جهاداً في سبيل الله، هذه مصيبة من المصائب، وهي تنم عن الجهل الفاحش والجرأة على اقتحام حرمات الله تبارك وتعالى. يظن الإنسان أنه إذا خاض في قتال الفتنة أنها ما هي إلا لحظات ثم يقفز ويطرح حيث يشاء، ويظن أن ذلك شهادة، ولا يدري لعله قد يلج نار جهنم بإراقة هذه الدماء أو إذا قُتِل في مثل هذه الفتن، فينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها، فالجهاد: هو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله، هذا عند الإطلاق صحيح، وتوجد صور أخرى من الجهاد؛ كجهاد النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من الجهاد، طلب العلم جهاد، السعي في طلب الرزق جهاد، الخروج على الحاكم إذا جاز الخروج عليه هذا نوع من الجهاد. لقد شوه الجهاد الآن حتى صار إذا ذكرت كلمة: (جهاد)، تنصرف إلى أحد هذه الأنواع، وإن كان تعريف الجهاد في أي كتاب من كتب الفقه ينصرف عند الإطلاق إلى قتال المشركين لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى. الشاهد من حديث أسامة رضي الله عنه أنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ!)، يقول: تمنيت أني قبل هذه اللحظة ما كنت مسلماً، وأن هذه بداية إسلامي؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وبالتالي تكون صفحته بيضاء، ثم قال رجل أثناء رواية سعد رضي الله عنه للحديث، وذلك حينما دعي إلى الخوض في فتنة القتال بين المسلمين، قال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين- يعني: أسامة - فقال رجل يعاتب سعداً رضي الله عنه على عدم خوضه في هذا القتال فقال: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]؟ فقال سعد: لقد قاتلنا، يعني: قاتلنا لما كانت الراية واضحة لإعلاء كلمة الله وفي سبيل الله. لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة! وفي رواية أخرى لـ مسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقتلته؟ قال -أي: أسامة -: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!).

الأدلة على عدم تكفير العصاة

الأدلة على عدم تكفير العصاة عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف! فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك)، الشاهد هو: دخول بعض أهل المعاصي تحت المشيئة، هذا لا يكون إلا للمسلم. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ألا يعذبهم). في رواية أخرى لـ مسلم فيها هذه الزيادة، قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، يعني: يعتمدوا على ذلك ويتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. ولو أن معاذاً رضي الله عنه فهم أن هذا النهي للتحريم لما أخبر بهذا الحديث، لكنه فهم أن هذا النهي عن التبشير ليس للتحريم، ولذا أخبر به عند موته تأثماً وخوفاً من كتمان العلم. أيضاً من الأدلة على عدم تكفير العصاة: إقامة الحدود، فالله تبارك وتعالى شرع كثيراً من الحدود في بعض المخالفات، والأدلة متواترة على ذلك في القرآن والسنة والإجماع. ومن أهم هذه الحدود: حد الزنا: فالمحصن يرجم، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً أو الجلد فقط على خلاف، شارب الخمر يجلد من أربعين إلى ثمانين جلدة، وغير ذلك مما فيه حد. وهذه هي حدود الله تبارك وتعالى التي يعطلها الناس في هذا الزمان، وربما خرجت منهم عبارات تخرجهم تماماً من الملة من وصف الحدود الشرعية بأنها عقوبات وحشية، أو نحو ذلك من هذه العبارات الفظة المكفرة لمن يقولها ويعتقدها. وهؤلاء الذين يقننون القوانين يخدعون الناس بمثل هذه العبارة: الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، وهي كما قال بعض العلماء في مناسبة من المناسبات: إن كلمة: الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، تعني بالضبط كما لو قال قائل: إن الله تبارك وتعالى هو الخالق الرئيسي لهذا الكون. والمعنى: أن هناك خالقين آخرين مع الله، وهناك شركاء مع الله تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يحلون ويحرمون ويعطلون حكم الله تبارك وتعالى؛ فالتشريع حق لله عز وجل وحده. والشرك في العبادة تماماً نفس الشرك في الحاكمية أو في الأحكام، قال الله تبارك وتعالى في العبادة: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال عز وجل في الحكم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، كما لا يقبل أن يشرك به في العبادة كذلك لا يقبل أن يشرك به في الحكم، قال عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. السارق تقطع يده، القاتل يقتل، السن بالسن، العين بالعين، الإصبع بالإصبع، وكذلك سائر الجروح، المحاربون تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، والمرتدون يقتلون: (من بدل دينه فاقتلوه) التعزير هو عقوبة من الإمام فيما لا حد فيه. فإذاً: لو كان هؤلاء كفاراً لماذا تفاوتت الحدود في النوعية والمقادير؟ إن تفاوت الحدود واختلاف أنواعها له دلالة، حتى القتل هل يقتل ردة أم يقتل حداً؟ فإن كان مسلماً قتل حداً، وبالتالي تجري عليه سائر أحكام المسلمين بعد قتله، من كونه يغسل ويصلى عليه ويورث ويدفن مع المسلمين، أما إذا قتل ردة فيعامل بعد قتله معاملة الكافر والمرتد. هذا أحد الأدلة أيضاً التي يستدل بها أبو عبيد في رده على الخوارج في كتاب الإيمان: ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم -أي: الخوارج- وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوبتهم القطع والجلد، وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو وأخذ دية ولكنه القتل، لو أن القاتل كفر بالقتل لما وجب في حقه إلا حد الردة؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه)، لكن الله عز وجل وسع في الأمر، وجعل لولي المقتول سلطاناً: إما أن يعفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178]، وإما أن يقبل الدية، وإما أن يصر على أن يقتل كما قتل قريبه.

قبول التوبة إذا استكملت شروطها

قبول التوبة إذا استكملت شروطها هناك قضية أيضاً مر أجزاء منها في الكلام لكن نخصها مرة أخرى بالكلام، إذ كل الكلام السابق متعلق بمن مات مصراً على الكبيرة ولم يتب، أما من تاب فما من شك أن التوبة التي استوفت شروطها الشرعية أن الله تبارك وتعالى يقبلها. يقول الشيخ حافظ حكمي في سلم الوصول: وتقبل التوبة قبل الغرغرة كما أتى في الشرعة المطهرة وهذه هي المسألة السادسة وهي: أن التوبة إذا استكملت شروطها فهي مقبولة من كل ذنب، سواء كان هذا الذنب كفراً أو دون الكفر.

دعوة الله الناس جميعا إلى التوبة وأمره بالرفق في ذلك

دعوة الله الناس جميعاً إلى التوبة وأمره بالرفق في ذلك لقد دعا الله عز وجل جميع عباده إلى التوبة، حتى من قال: إن المسيح هو الله، حتى من قال: إن الله ثالث ثلاثة، وحتى اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة؛ فما من أحد إلا ودعاه الله عز وجل إلى التوبة، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]. فالتوبة من أي ذنب سواء كان كفراً أو دون الكفر إذا استوفت شروطها فهي مقبولة. أيضاً دعا الله إليها من قال: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ومن ادعى له الصاحبة والولد قال لهم جميعاً بعدما ذكر جميع هذه الأقسام، قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. بل دعا إليها من هو أعظم محادة لله عز وجل من هؤلاء جميعاً، هل هناك أعظم عناداً وكفراً من فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فقال الله تبارك وتعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:17 - 18]، فانظر إلى التلطف في العبارة: ((هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى))، وانظر أيضاً إلى دقة موسى عليه السلام ما قال: هل لك إلى أن أزكيك؟ أو ائت حتى أربيك وأنظف قلبك من الشرك والنجس والدنس، لم يضف التزكية إلى نفسه عليه السلام وإنما أضافها إلى فرعون: ((هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى))، أي: تتزكى أنت، وهذا من التلطف في العبارة، واستجابة لتوصية الله عز وجل لموسى عليه السلام وهارون {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. فإذاً: القول اللين الذي لا مداهنة فيه لا ينافي أبداً التمسك بالدين، بعض الناس يظن أن الغلظة والجفاء والقسوة وخشونة العبارة أسلوب ينم عن عزة المسلم وتمسكه بدينه، فربما خاطب بعض الناس في مقام الدعوة والنصيحة بمثل هذه الأساليب، ويظن أنه إذا ألان له القول فهو مداهن، أو أن هذا ضعف وذل، كلا! لا يوجد أحد أشر في عصره من فرعون، ومع ذلك أمر الله نبيين من صفوة أنبيائه فقال لهما: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا))؛ لأن الهدف هو أن يستجيب للحق؛ فأي شيء قد يقف عائقاً دون هذه الاستجابة فينبغي اطراحه: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، فالرفق والتلطف في العبارة أمر مطلوب وليس من الضعف. يقول الله عز وجل فيما أوصى به بني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، كلمة الناس هذه تعم اليهودي والنصراني فكيف بالحنيفي المسلم إذا أردت أن تنصحه؟! لاشك أنه أولى بذلك، وهو حث على الخلق الحسن مع كل من على وجه الأرض، والمسلم مطالب بحسن الخلق في جميع أحواله ومع كل الناس بلا استثناء، والدليل قوله تبارك وتعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا). وقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام في آية أخرى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء:10 - 11]، وفي الآية الأخرى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. ودعا إلى التوبة من عمل أكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، والزنا؛ فقال تبارك وتعالى بعد ما ذكر كل هذه المعاصي في آخر سورة الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]، حسب قوة التوبة؛ فمن رحمة الله عز وجل أنه يكافئ هذا العبد لشدة إخلاصه في التوبة بأن يبدل سيئاته حسنات في ميزانه. يقول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (ليتمنين أناس يوم القيامة أن لو أكثروا من السيئات)، في لحظة معينة يوم القيامة بعض الناس يتمنون أن لو كانوا أكثروا من المعاصي والسيئات، هؤلاء هم الذين بدل الله سيئاتهم حسنات. أما البطالون إذا سمعوا هذا الحديث يقولون: نكثر من السيئات ونتوب فيما بعد حتى تكثر حسناتنا، نقول لهم: هذا غرور وتسويل من الشيطان، لكن المقصود أن الشخص الذي تاب توبة صادقة نصوحاً لا معصية بعدها ووفق بعدها إلى أن مات، فهذا من شدة إخلاصه في التوبة يكافئه الله على ذلك بأن هذه السيئات يبدلها في ميزانه حسنات كرماً ومنة من الله تبارك وتعالى. كما دعا الله تبارك وتعالى إلى التوبة من ارتكب كبيرة كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160]. ودعا إليها المشركين قاطبة، فقال بعدما أمر بقتلهم حيث وجدوا: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:5]، يعني: أسلموا {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. ودعا أيضاً المنافقين نفاقاً أكبر إلى التوبة، فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:145 - 146]. ودعا إليها جميع المسرفين بكل ذنب، فقال تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54] وغير ذلك مما لا يحصى من الآيات. ومن رحمة الله عز وجل بالعاصي بل بالكافر والمشرك الذي يسب الله ويشرك بالله تبارك وتعالى أنه يسد عليه كل الأبواب ما عدا باب التوبة، حتى باب القنوط من رحمة الله يسده الله عليه فانظر إلى الكرم!

وجوب التوبة من الذنوب على الفور

وجوب التوبة من الذنوب على الفور إن تأخير التوبة في حد ذاته ذنب، يقول بعض العلماء: تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه؛ فيجب عليك أيها المسكين التوبة على الفور لا على التراخي، قال عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] وهكذا يجب أن يبادر الإنسان إلى التوبة، فالتوبة في كل وقت يحتاجها الإنسان من كل ذنب, فالله عز وجل حينما زكى وامتدح المؤمنين في أواخر سورة آل عمران، لم يمتدحهم لأنهم معصومون من الذنوب، لكن ذكر من ضمن صفاتهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ويل لأقماع القوم الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، القمع هو الذي إذا وضعت فيه شيء يخرج ولا يثبت فيه؛ لأنهم يصرون على ما يفعلون وهم يعلمون، لذلك وصفوا بالأقماع. ولذلك سن النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في أي معصية من المعاصي صلاة ركعتين تسميان صلاة التوبة؛ فإذا أذنب العبد ذنباً فقام فتطهر وأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يستغفر الله تبارك وتعالى فيهما من هذا الذنب؛ فإن الله يمحو عنه هذا الذنب، فهذه صلاة التوبة والحديث فيها صحيح.

فرح الله بتوبة عبده

فرح الله بتوبة عبده من رحمة الله إرسال الرسل حتى يدلونا على هذه الأبواب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه -أي: هربت منه الراحلة -وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته- يعني: جلس ينتظر الموت فبينا هو كذلك فإذا بها قائمة عنده فأخذ بخطامها) كم تكون فرحة هذا الرجل؟! ليس هناك شك أنها فرحة عظيمة جداً، فالله عز وجل أشد فرحاً بالعبد إذا تاب من هذا الرجل الذي أشرف على الهلاك، ثم وجد راحلته وعاد له الأمل في الحياة، فانظر كيف تكون رحمته؟ ثم تأمل قوله: (أشد فرحاً)؛ فانظر كيف يحبك الله؟! كيف يريد بك الخير؟! كيف يفرح بك إذا أقبلت عليه تبارك وتعالى؟! ثم إن هذا الرجل لما استيقظ ورأى راحلته أخطأ من شدة الفرح، فقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح)، فانظر إلى شدة فرحه التي أذهبت ضبطه لنفسه حتى نطق بهذه العبارة الشديدة. أيضاً يحكي النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك!)، قوله: (اعمل ما شئت) ليس المقصود: افعل ما شئت من المعاصي فقد غفرت لك، كلا! هذا من الاغترار بالله، لكن المقصود أن الله علم من هذا العبد أنه رجاع تواب، كلما أذنب تاب واستغفر ولا يصر على المعاصي، فلذلك غفر الله تبارك وتعالى له.

أجل التوبة

أجل التوبة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، فهذا عمر التوبة في حق عمر الدنيا كلها، إذ التوبة لها أجلان مثل القيامة، فكل إنسان له قيامة يبدأ بها في المراحل الأولى منها من اليوم الآخر بانكشاف الحجب عند خروج الروح، ثم ينتقل من دار التكليف إلى دار الجزاء، من دار الامتحان إلى دار ظهور النتيجة، فبمجرد أن يعاين الإنسان الملائكة وهي تأتي لتقبض روحه من هنا بدأت أول خطوة في رحلته إلى اليوم الآخر الخاص به. فهناك خروج الروح، والصعود بها إلى الملأ الأعلى على تفصيل في ذلك، ثم هناك أيضاً الرجوع إلى ما يحصل عند القبر وسؤاله وامتحانه، ويفتح له باب إلى الجنة أو إلى النار إلى آخر هذه الأحداث. لما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن الساعة: (متى الساعة؟ فنظر إلى أصغر صبي أو غلام في القوم فقال: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم)، معنى الحديث: أنه بعد مرور مائة سنة فإن هذا الغلام الصغير يكبر ويشيب حتى يبلغ عمره الهرم والشيب، ويكون كل هذا الجيل الموجود ممن حضر أو ممن كان على وجه الأرض في هذا الوقت تكون قامت عليهم ساعتهم، أو يكون كل الحاضرين في ذلك الوقت قد ماتوا، فهذه الإضافة تقتضي أن كل إنسان له يوم قيامة خاص به. وبعد ذلك تنشغل: هل يوم القيامة على وشك الحدوث، كما قال الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187] وهكذا. هذا بالنسبة لعمر الدنيا كلها قليل، لكن بالنسبة لأعمارنا وحتى الآن هناك علامات كثيرة من العلامات الكبرى لم تحدث حتى الآن، فأنت لا تشغل نفسك بالساعة الكبرى وساعة انتهاء عمر الدنيا، بل بساعتك أنت؛ لأن الموت سيأتيك قريباً في أي وقت. والساعة ستقوم يوم الجمعة، وهناك أدلة قبلها من نزول المسيح عليه السلام وخروج المهدي، فلا بأس بالجزم بأن الساعة لا تقوم غداً في حق عمر الدنيا، أما الذي يخصك أنت في عمرك؛ فلا. مثلاً: لو أن هناك لوحة مضيئة فيها آلاف المصابيح، لا يخلو وقت ما من أن بعض هذه المصابيح ينفد عمرها وتحترق ويحصل تبديل أحد هذه المصابيح لكن اللوحة في كل الأحوال مضيئة. أيضاً: جريان النهر عبارة عن دفعات من الماء يجري بعضها وراء بعض، لكن ذهاب بعض هذه الدفعات لا يعني أن النهر كله يتوقف. كذلك الحياة هناك من يموت من الناس بين وقت وآخر، لكن هناك من يولدون، فالحياة مستمرة، أجيال تعقب أجيالاً، لكن سيأتي وقت وكل هذه المصابيح ستنطفئ، سيأتي وقت تتوقف فيه تماماً دفقات النهر، سيأتي وقت تتوقف فيه تماماً الحياة على وجه الأرض بالقيامة الكبرى. كذلك بالنسبة للتوبة لها أجل في حق كل إنسان وذلك قبل الغرغرة، (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، يعني: انتقاله من الغيب إلى الشهادة، بعدما كان يسمع عن الملائكة تأتي تقبض الروح فينكشف الحجاب ويرى ما لا يراه حتى الحاضرين معه، كما قال الله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، وهذا مشاهد فيمن يحضر الذين يموتون، قد يتكلم الميت ويقول: أهلاً، حضرتم، وعليكم السلام، وهكذا يتحدث نتيجة انفعاله بما يراه، والحاضرون لا يرونهم، ومعلومة في ذلك القصص وهي كثيرة جداً ولا نطيل بذكرها. أما بالنسبة لأجل التوبة في حق الدنيا فإن التوبة تقبل ما لم تطلع الشمس من مغربها، كما جاء في القرآن والسنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق باب التوبة، ويختم على عمل كل إنسان، والمؤمن لا يستطيع أن يستزيد من الأعمال الصالحة، والكافر إذا أسلم بعد طلوع الشمس لا ينفعه ذلك ولا تقبل توبته وكأنه مات.

فتح باب التوبة للتائبين

فتح باب التوبة للتائبين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، -متعبد- فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة؛ ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، هذه من الأساليب التربوية الناجحة؛ إذ مما يعين الإنسان على الاستقامة أن يبعد عن أهل السوء وصحبتهم، والأماكن التي تذكره بمعاصيه وتعينه على الشر. لذلك ذكر بعض العلماء في حكمة تشريع التغريب في حد الزاني غير المحصن: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) قوله: (وتغريب عام) وذلك لأنه ربما يكون في هذه البلد التي يعيش فيها صحبة سوء هم الذين يحرضونه على المعاصي ويزينونه له، أو غير ذلك من العوامل التي تعيق التوبة في حقه، فإذا نفي سنة من بلده استطاع أن يستأنف حياة جديدة ويتوب ويستقيم. أسلوب تغيير البيئة له أثر عظيم جداً في التوبة، وتجد إخواننا في جماعة التبليغ يستعملون هذا الأسلوب لتغيير صفات من يأوون إليهم، يهتم جداً بنقله من المكان الذي هو فيه إلى مجتمع آخر يغلب عليه الذكر والخير والعبادة، بحيث أنه فعلاً يأتي بثمار طيبة، لولا ما عليهم من بعض المؤاخذات. يقول: (فانطلق حتى إذا أتى نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)، قال قتادة والحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره. يعني: لم يستسلم لكن أراد أن يقرب نفسه بقدر الاستطاعة من أهل الخير. فوا حسرتاه على الذين يتركون بلاد المسلمين بأرجلهم ويذهبون ليعيشوا في عمق بلاد الكفار! الذين يضعفون منهم الإيمان والدين. فهذا الرجل في اللحظات الأخيرة من شدة حرصه على التوبة وعلى الاقتراب من أرض الخير والعبادة لما عجزت رجلاه ولم تحملاه زحف بصدره حتى يقترب بقدر استطاعته من أرض العبادة وأرض الخير. وفي بعض الروايات: (فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها شبراً فجعل من أهلها)، وفي بعض الروايات: (أن الله عز وجل أمر الأرض بأن تمتد حتى إذا قاسوا المسافة وجدوه أقرب إلى القرية الصالحة). أيضاً روى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا هل لما عملنا كفارة؟ فنزل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]). وقال محمد بن إسحاق: قال نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديثه: (وكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم! قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم في أنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55]). وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] قوله: (من قريب)، يعني: قبل الموت! قال عمر رضي الله عنه: (فكتبتها بيدي في صحيفة) وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه، قال: فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى -مكان- أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم أفهمنيها! قال: فألقى الله عز وجل في قلبي: أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

شروط التوبة النصوح

شروط التوبة النصوح ما هي الشروط حتى تصح بها التوبة؟! إن الشخص الذي أذنب أي ذنب حتى لو كان الشرك ثم تاب، فإنه إذا استوفى هذه الشروط فهي مقبولة، لكن نختلف مع الخوارج في أنهم يقولون: إنه بالمعصية كفر وبالتوبة عاد إلى الإسلام، نحن نقول: لا، بالمعصية استحق عقاب الله إذا كان موحداً، وإذا تاب تاب الله عليه في الدنيا؛ لكن المشكلة فيمن مات قبل أن يتوب، أو مات مصراً عليها ولم يتب منها. أما كل من تاب من أي ذنب سواء الشرك وما دونه إذا استوفى هذه الشروط؛ فإن التوبة مقبولة، وأي توبة يقال عنها: إنها مقبولة فلابد أن نستحضر دائماً أن المقصود بها التوبة النصوح، وليست أي توبة أخرى، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، والتوبة النصوح هي التي فيها ثلاثة شروط: الأول: الإقلاع عن الذنب. الثاني: الندم على فعله. الثالث: العزم على ألا يعود إليه. إذا كان يفعل الذنب فينبغي أن يبادر فوراً بالإقلاع عنه، ثم يندم بقلبه على فعله، ويعزم في المستقبل على ألا يعود إليه. أما إذا كان ذلك الذنب في حق متعلق بالآدميين، كأن سرق مالاً مثلاً من شخص ويريد أن يتوب فلا بد من هذه الثلاثة وأن يعيد الحق إلى صاحبه أو يستحله منه إذا لم يتمكن من إعادته، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلل منها اليوم؛ فإنه ليس ثم دينار ولا درهم)، يوم القيامة العملة المستعملة ليست الدينار والدرهم ولكنها الحسنات والسيئات.

زمن التوبة

زمن التوبة أما زمان التوبة ففي حق عمر كل إنسان قبل الغرغرة، وهي حشرجة الروح وترددها في الصدر عند الاحتضار، عندما يرى الإنسان الملائكة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17]، وليس معنى ذلك: أن التوبة فقط للشخص الذي كان يجهل أنها معصية، لا! الجهالة هنا جهالة عملية، إذ كل من عصى الله جاهل، فالشخص الذي يعرف ويعلم أن الخمر حرام ويشرب الخمر في حد ذاته يسمى جهلاً عملياً، فهناك جهالة السلوك وجهالة العلم، ومن ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام: كان إذا خرج من بيته يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي) أي: جهالة السلوك وسوء الخلق. ويقول بعض الشعراء: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فهي جهالة عملية، وهي المقصودة هنا في قوله تعالى. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:17 - 18]، هذا لا تقبل توبته {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]، يفهم من هذه الآية أن الذي مات ولم يتب ليس بكافر؛ لأنه فصل بين الذين يموتون وهم كفار وبين الذين يموتون دون أن يتوبوا من المسلمين؛ فدل أن هذا فريق غير هذا الفريق، صحيح أن هذا يستحق وعيد وهذا يستحق وعيد، لكن لم يسمهم كفاراً حتى وإن ماتوا مصرين. وعن أبي العالية: أنه كان يحدث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يقولون: (كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة). وعن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وقال مجاهد: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من جهالته عمل السوء. وعنه رضي الله عنه قال: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، قال: بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: يعني ما دام في صحته. وقال الحسن البصري: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، يعني: ما لم يغرغر. وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب. يعني: يتوب وهو ما زال حياً في الدنيا. وفي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فهذا توقيت زمان التوبة في حق كل فرد من العباد، وأما في حق عمر الدنيا فقد تقدم في الآيات والأحاديث أنها تنقطع بطلوع الشمس من مغربها؛ لأنها أول آيات القيامة العظام، وحين الإياس من الدنيا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، هذه الآيات المقصود بها طلوع الشمس من المغرب. كما أن رؤية ملك الموت آية الانتقال من الدنيا وحين الإياس من الحياة، كذلك الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب، يقول تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:82 - 85]. فلا تنفع التوبة إذا نزل العذاب أو إذا حضر ملك الموت أو إذا غرغر العبد؛ إنما التوبة في وقت الإمكان وفي وقت الإصلاح. لكن نفرض أن إنساناً تاب قبل أن تأتيه الغرغرة وقبل أن يرى ملك الموت بثانية واحدة، فهل تقبل توبته أم لا تقبل؟ تقبل؛ لأنه لا يعرف مدى أجله، هو يتوب وينوي الاستقامة ما دام حياً، فإذا أتاه ملك الموت بعد توبته النصوح بدقيقة واحدة فيعفى له عن كل ما سلف من الذنوب والخطايا في حقه.

الإيمان والكفر [13]

الإيمان والكفر [13] إن الحكم على مسلم بالكفر ليس كلمة تقال، فإن وراء ذلك أبعاداً كبيرة، وأحكاماً شرعية عظيمة، ويشبه ذلك القول بأن حكم الإسلام لا يثبت للداخل فيه إلا بشروط غير النطق بالشهادتين، فيخترع حد للإسلام لم يسبق إليه أحد من السلف أو الخلف. وقد صدر كتاب باسم (حد الإسلام، وحقيقة الإيمان) يتكلم عن هذا الموضوع، وهذا الكتاب عليه مؤاخذات ينبغي الحذر منها.

وجوب التحرز في إصدار الحكم بالكفر على الناس

وجوب التحرز في إصدار الحكم بالكفر على الناس مما ينبغي التنبه إليه: أن الحكم بالكفر على إنسان ليس مجرد كلمة تقال، لكنها كلمة وراءها أحكام شرعية تترتب على ذلك، ومن أجل هذا فلا يجوز أبداً الاندفاع والتهور في الحكم على إنسان ما بالكفر، بل ينبغي التحرز من ذلك إذا بدرت أي شبهة في هذا الأمر، كما قال بعض السلف: إذا أتى الإنسان بفعل احتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، واحتمل الإيمان من وجه واحد فاحمل أمره على الإيمان، وذلك لأنه إذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فأولى ثم أولى أن يدرأ الحكم بالكفر بالشبهات. فمتى ما وقع للحاكم أو القاضي أي اشتباه في جريمة الشخص الذي سيقام عليه الحد، فينبغي عند وجود أدنى شبهة أن يدرأ الحكم، لماذا؟ لأنه لأَن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في القصاص، مثلاً: إذا استحق القتل فيتركه خير من أن يخطئ في قتله، ثم يتضح بعد أن يقتل أنه كان معذوراً أو أنه كان بريئاً، فلذلك ينبغي التحرز من إطلاق الكفر على الناس، أو الجرأة في ذلك؛ خلافاً لما يرسخ في قلوب كثير من الشباب في هذا الزمان نتيجة الضغط والإرهاب الفكري من بعض المبتدعة، حيث يصورون أن الحكم بالكفر على الناس نوع من البطولة، ونوع من إظهار الولاء والبرء والشجاعة، أو أن هذا دليل على قوة التمسك بالدين والالتزام به، بل الصحيح خلاف ذلك، وهو أن يتورع الإنسان في هذا الأمر، وإن كان حظه من العلم قليلاً فينبغي أن يحتاط، خاصة إذا علم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما). وأحياناً يتحرز بعض الناس من الحكم بالكفر على أناس قد يكونون في مظهر الآخرين من كفار أو مشركين، ويكون الدافع إلى ذلك هو أن يخاف الإنسان على نفسه أن يخطئ في ذلك فيؤاخذه الله تبارك وتعالى به. كلمة الكفر ليست كلمة تقال، بل هي كلمة وراءها ما وراءها، فإذا حكم على إنسان بالكفر فمما يترتب على هذا من الآثار: أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، إذ بمجرد كفره وردته عن الإسلام ينفسخ عقد نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها؛ لأن المسلمة لا يجوز أبداً أن تكون زوجة لكافر بإجماع المسلمين. أيضاً أولاده لا يبقون تحت سلطانه، بل لا يؤتمن عليهم، وربما أثر عليهم بكفره، وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي، فلذلك يفقد ولايته على أبنائه وبناته، ولا يصلح أن يزوج بناته أو أن يلي أمرهن. أيضاً هو يفقد حق الولاية والنصرة على سائر المسلمين، بعد أن خرج عن الإسلام ومرق عنه بالكفر الصريح، ولهذا يقاطع ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع حتى يثوب إلى رشده، كما أنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي لينفذ فيه حكم المرتد بعد أن يستتاب، وتزال من ذهنه الشبهات، وتقام عليه الحجة ممن يملكون إقامتها ويتقنون ذلك من أئمة العلم وذوي السلطان، يقول عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). ثم إذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يدفن مع إخوانه من المشركين أو اليهود أو النصارى، كما أنه أيضاً لا يرث أقرباءه المسلمين إذا ماتوا، وإذا مات على حاله من الكفر فإنه يستحق لعنة الله عز وجل، وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في دار جهنم. هذه الأحكام -وغيرها كثير- تستوجب التثبت والاحتياط، والإنسان متى اشتبه عليه الأمر فليعتذر بقلة علمه إن كان غير عالم، أو إن كان عنده شبهة في الأمر فعليه أن يمسك لسانه ولا يخوض بغير علم في مثل هذه الأشياء، بل يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.

كيفية دخول المرء في الإسلام

كيفية دخول المرء في الإسلام يجب أن نرجع إلى نصوص الكتاب والسنة لنقرر في ضوئها الأصول والقواعد الشرعية في قضية الكفر والإيمان؛ لأن هذه قضية من أخطر القضايا، ولها ما بعدها من الآثار كما نوهنا، فينبغي الاعتماد على النصوص المعصومة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال فهم علماء أهل السنة والجماعة لهذه النصوص، حتى لا نتيه في المتشابهات، أو نضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض، انطلاقاً من اعتقادنا الراسخ بأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، خلافاً للفرق النارية التي انحرفت عن هذا المنهج القويم. من هذه الحقائق التي ينبغي أن نتفطن لها ونهتم بتوثيقها حقيقة أساسية جداً، وهي: كيف يدخل المرء في الإسلام؟ هذا سؤال جوابه معروف ومشهور لكل مسلم، وهو أنه يدخل في الإسلام بالشهادتين؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أقرّ بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافراً، وقد بينا من قبل تفاصيل شروط الشهادة، فلابد أيضاً من استحضارها هنا، لكن القول المجمل: أن مفتاح الدخول في الإسلام هو الإقرار بالشهادتين، فكل من كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقبل ذلك منه، ويحكم له بالإسلام، ولم تحصل تلك الأشياء التي اخترعها وأحدثها أناس كثيرون من أهل البدع حتى يحكموا على الشخص بالإسلام، من أنه لابد أن يفعل كذا ويفهم كذا، وهذه يتوقف فيها حتى نتبين أنه يفهم التوحيد. إلى غير ذلك مما اشترطوه من الشروط التي ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان. فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه من يقر بالشهادتين يقبل منه ذلك، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان، إلى أن يؤدي هذه الفرائض ثم يحكم له بعد ذلك بالإسلام، بل يكتفي منه بالإيمان بها، وألا يظهر منه إنكار هذه الأشياء، لكن إذا أتى وقت الصلاة يُعلّم الصلاة ويجب عليه أن يصلي، ويحاسب إذا قصر في ذلك، وإذا حال الحول وكان له مال تجب فيه الزكاة، فيأتي عامل الزكاة ويأخذ منه الزكاة، ويحاسبه إذا قصر، أو يرفع أمره إلى القاضي أو الإمام، وهكذا في سائر الأركان الظاهرة. أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقنع بالحديد في حال غزو أو استعداد للقتال، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ يعني: أبدأ أولاً بالقتال ثم أسلم، أو أسلم أولاً ثم أقاتل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسلم ثم قاتل، فأسلم، ثم مضى إلى القتال فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عمل قليلاً وأُجر كثيراً). فلو كان الأمر كما يزعم كثير من الناس الذين يخترعون شروطاً ويحدون حدوداً للإسلام، لقال له النبي عليه الصلاة والسلام: انتظر حتى نستوفي منك أمور العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وكذا وكذا مما يشترطونه ويحدونه! لكنه قبل منه الإسلام بالشهادتين، وكان واجب الوقت أن يبادر بالجهاد في سبيل الله فقتل، وبذلك شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نجا بهذه الكلمة التي قالها. أيضاً: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي رواه البخاري وغيره أن أسامة قتل رجلاً شهر عليه السيف، وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل أصاب نكاية شديدة في المسلمين، وكان له قوة وبطش شديد في القتال حتى أنه قتل كثيراً من المسلمين، فلما اقترب منه أسامة ليقتله شهد أن لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ذلك أشد الإنكار، وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: إنما قالها تعوذاً من السيف، فقال: هلا شققت عن قلبه؟!) وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، رواه مسلم، ومعنى: (حسابهم على الله)، يعني: أقبل منهم ظاهرهم، أما حقيقة ما في قلوبهم فحسابه على الله. وفي رواية لـ مسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، وفي البخاري عن أنس مرفوعاً: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله). والمقصود بالناس هنا مشركو العرب، كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه؛ لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فالشاهد: أن هؤلاء المشركين من العرب إذا قالوا لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام وصاروا معصومي الدماء والأموال؛ لأن الشخص المعصوم في المجتمع الإسلامي إما أنه معصوم بسبب الإسلام، أو معصوم بالعهد والذمة، فلا يجوز أن تخفر ذمته. وهذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) إلخ، هو من الأحاديث المتواترة؛ فقد رواه خمسة عشر صحابياً، ومعلوم أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، أي: قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة، وهذا الكلام مروي عن سفيان بن عيينة رحمه الله، وهو أحد أئمة الحديث المشهورين، فما الجواب عن هذه الشبهة؟ بأن ممن رووا هذا الحديث بعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم جداً، ومنهم أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا لم يكن في أول الإسلام فقط، ثبت أيضاً بعد الهجرة بزمن. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة رضي الله عنه قتله لمن قال لا إله إلا الله، لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشرط على من يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قَبِل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا، كما جاء في بعض الأحاديث أن ثقيفاً اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فسيتصدقون ويجاهدون)، فقبل ذلك منهم، ثم بعد ذلك صح إسلامهم مع هذا الشرط الفاسد، ومع ذلك فقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم إذا قوي إيمانهم ورسخت قدمهم في الإسلام فسيتصدقون ويجاهدون. وعن نصر بن عاصم الليثي، عن رجل: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه)، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى طبقاً لهذه الأحاديث: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ويثبت له الإسلام، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها بعد ذلك. الشاهد: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين, وكون بعض الأحاديث اشترطت الشهادة الأولى -لا إله إلا الله- فهذا من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة، أو لأن المقصود في الحديث هنا: (أمرت أن أقاتل الناس) هم مشركو العرب، ولم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إنما يقولها استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويلزم معها أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول بعض السلف: الإسلام الكلمة -يعني: كلمة الشهادة- أن الكلمة هنا من باب (وكِلْمة بها كلام قد يؤم). أما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلماً، إذ الصلاة والصيام والزكاة وكل هذه الأفعال لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم، أما الكافر فلا صلاة له ولا صيام ولا حج لفقدانه شرط القبول وهو الإسلام.

مناقشة صاحب كتاب (حد الإسلام)

مناقشة صاحب كتاب (حد الإسلام) كثر السؤال في عدة مناسبات عن حد الإسلام، وسبق الوعد بتلخيص بعض الدراسات التي كتبت فيما يتعلق بهذه القضية، ولعل هناك كتاباً مشهوراً يحمل اسم: (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) فربما حصل اشتباه في بعض قضايا هذا الكتاب على بعض الإخوة، فلذلك نلخص كلام بعض الباحثين في نقد هذا الكتاب في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة.

المقصود بحد الإسلام عند الكاتب

المقصود بحد الإسلام عند الكاتب نبدأ أولاً بكلمة (حد الإسلام) في ذاتها، فالمؤلف استعمل هذا التعبير ليدل على أصل الدين. فحد الإسلام عنده هو أصل الدين الذي يتوقف على تحققه ثبوت عقد الإسلام، والكاتب استعمل هذا التعبير في ثنايا كتابه كثيراً للدلالة على هذا المعنى، فنتجاوز التسمية مؤقتاً ثم نتعرف على مقصود الكاتب بكلمة (أصل الدين) أو (حد الإسلام) ويعبر عن مقصوده بها فيما يلي: يقول: إن حد الإسلام هو ما يتوقف على تحققه واستيفائه ثبوت عقد الإسلام ابتداء. فالإسلام عبارة عن عقد، وحتى يثبت هذا العقد ويصح لابد من تحقيق هذا الحد الذي حده هذا المؤلف، وبالتحقق واستيفاء حد الإسلام يثبت عقد الإسلام، فهو الذي يكون به المسلم مسلماً، ومن تولى عنه لم يكن مسلماً، يعني: من لم يتحقق فيه هذا الحد، ومن لم يستوفه لم يكن مسلماً. أيضاً: ربما عبر عنه أحياناً بتعبيرات مختلفة، فهو عنده الإيمان، وهو الإسلام، وهو التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، فمسماه واحد لا يختلف باختلاف الأسماء. أيضاً: اعتبر الكاتب حد الإسلام الذي حده شرطاً في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف، وغيره لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا به، يعني: ما عداه من الأعمال لا تقبل منه إلا بتحقيق هذا الحد. أيضاً: ذهب إلى أن حد الإسلام ذو شقين: تصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب. إذاً: حد الإسلام مركب من ركنين: الجانب الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والجانب الثاني عملي: التزام شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، وقد يعبر أحياناً عن الشقين بالركنين. يقول في بعض المواضع: لا يقبل ركن من أركان الحج بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام، ولا التزام بغير تصديق. هذا كلام مجمل في حد الإسلام، وهذا هو المقصود بالإجمال في تعريف حد الإسلام: أنه تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب، وحينما يسلك مسلك التفصيل ويوضح أكثر فيذهب إلى أن أركان حد الإسلام ثلاثة: الحكم، والولاية، والنسك. وحتى يتحقق حد الإسلام فلا بد أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله بلا شريك. أيضاً: من خصائص فهم الكاتب لحد الإسلام: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، يعني: أن هذا الحد لا يتبعض، بمعنى: أنه لا يزيد ولا ينقص، فهذا الحد متلازم في جزئياته لا ينفك بعضه عن البعض الآخر.

العذر بالجهل في حد الإسلام

العذر بالجهل في حد الإسلام ذكر الكاتب في شرح حد الإسلام أن هذا الحد لا عذر فيه بالجهل، فمن تحقق لديه كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً، دون اعتبار لعلم أو جهل. هذه بعض الخصائص التي أوردها الباحث مما سماه: (حد الإسلام)، والذي تدور حوله فكرة مؤلفه من البداية إلى النهاية. فالمتأمل لهذه الخصائص التي أوردها الباحث في خصائص حد الإسلام، يدرك أن مقصوده بيان ما يمكن أن نسميه بالحد الأدنى من الدين، والذي يجب تحققه في كل إنسان لكي تثبت له صفة الإسلام ابتداء، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله. ويمكن أن نتذكر هنا حديث آخر رجل يخرج من النار، ولا شك أن هذا لن يخرج من النار إلا إذا كان موحداً ومعه الحد الأدنى من الإسلام، فما هو هذا الحد الأدنى؟ بتعبير آخر: إذا فرضنا أن رجلاً يهودياً أو نصرانياً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يحكم له بالإسلام، أم لا يحكم له بالإسلام؟ في ضوء هذا الكلام يتضح الفرق بين الطريقين؛ طريق من يشترط مثل هذه الشروط في حد الإسلام، وطريق القافلة الكبرى من أهل السنة والجماعة في كل العصور، فهذا الباحث يفترض حداً أدنى، وهذا الحد يجب أن يكون متماثلاً متساوياً في جميع المؤمنين، فلا يتفاوت ولا يتضاعف ولا يزيد ولا ينقص، يرتبط بوجوده استحقاق الإنسان صفة المسلم، ويرتبط بتخلفه تخلفها، وهذا القدر أيضاً لا علاقة له بعلم ولا بجهل، ولا بحداثة عهد بالإسلام، أو رسوخ قدم فيه، ولا بإقامة في دار الإسلام، أو في الجبال والبوادي المنعزلة. يقول المؤلف في تصوير عدم العذر في حد الإسلام: وذلك لأن للإسلام حداً لا توجد صفة الإسلام قبل استيفاء أركانه، ويتخلف الحد بتخلف أحد أركانه، هذا الحد هو كما قال ابن القيم في طريق الهجرتين: الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. يقول: وهذه القاعدة تنطبق على كل أركان الحد.

الفرق بين حد الإسلام والإيمان الواجب

الفرق بين حد الإسلام والإيمان الواجب يفرق الباحث بين حد الإسلام وبين ما دونه، فعنده فرق بين حد الإسلام وبين الإيمان الواجب، فالإيمان الواجب يقع فيه تفاوت، ويقبل الازدياد والنقصان. الإيمان الواجب العملي من أداء المفروضات وترك المحرمات، هذا هو الجانب العملي من الإيمان بعد ثبوت حد الإسلام، فحد الإسلام إذا اختل ركن من أركانه، أو شيء من أسسه يحبط كل الإيمان، ولا يستحق الإنسان صفة المسلم، أما العمل فهو فعل الفرائض واجتناب المحارم، وهذا هو الذي يحصل فيه الزيادة والنقصان. يقول: عندما يكون الإسلام قسيماً للإيمان في الدلالة بمجموعهما على أصل الدين، يكونان متلازمين لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وتخلف العمل هنا كفر؛ لأنه لا إيمان يقبل بدون إسلام، وإذا عبر بالإيمان عن مجموعهما فإنه في هذه الحالة لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وفي حالة الإيمان الواجب فإن الإيمان يزيد وينقص، وإذا ذهب بعضه بقي بعضه، ومن خرج من الإيمان الواجب بترك الفرائض وارتكاب المحرمات خرج من الإيمان إلى الإسلام، فلم يخرج من الإيمان مطلقاً، ولكن خرج من الإيمان الواجب إلى الإيمان المجمل؛ لأن الإسلام لا بد له من إيمان يصح به، فإذا ذهب العمل بقي التوحيد بشقيه القولي والعملي، ولهذا فإن الإيمان الواجب يتبعض ويستثنى منه، ولا يستثنى في الإسلام ولا الإيمان المجمل بل يقطع به. يعني: لا يجوز أن يقال: إن شاء الله، فهنا الإيمان المجمل لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، لكن الإيمان الواجب الذي هو أداء الفرائض وترك المحرمات، يرد عليه ذلك كله. وقرر أيضاً في موضع آخر أن الفروع تتبعض وتتساوى، والأصل لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه. وفي ضوء هذا الكلام نناقش قضيتين: الأولى: هل الإيمان المجمل قابل للتبعيض والتفاوت والنقص والزيادة أم لا؟ والثانية: ما هو ذلك الإيمان المجمل؟ وبلغة الكاتب واصطلاحه: ما هو حد الإسلام الذي عقد الكاتب مُؤَلَّفه كله لتقريره؟ قبل الخوض في جواب هذين السؤالين نقف أولاً عند هذه التسمية، لننظر مدى دقة هذا التعبير عن المعنى الذي قصده الكاتب به، والذي ذكرنا خصائصه وسماته آنفاً.

نقد كلمة (حد الإسلام)

نقد كلمة (حد الإسلام) هذه التسمية التي أطلقها الكاتب على أصل الدين موضع نظر، بل هي غير صحيحة أصلاً، والسبب في ذلك أن الحد في الاصطلاح هو التعريف، فلابد أن يكون الحد مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه، أو ركن من أركانه، فذلك غير معهود في باب التعريفات، والكاتب استخدم هذا التعبير -حد الإسلام- لبيان الحد الأدنى من الدين الذي يثبت به عقد الإسلام، والذي يؤدي تخلفه إلى تخلف صفة الإسلام أصلاً، ولا يثبت للإنسان الإسلام، ولا يعرف عند أهل العلم استخدام مثل ذلك في الدلالة على هذا المعنى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والنبي صلى الله عليه وسلم سطر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحد، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا وكذا، فسئل مثلاً: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ سئل مثلاً: (ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره) وقال أيضاً: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، ففي التعريفات يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حدوده الدنيا. يعني: ذكرك كل حقيقة الشيء الذي تريد أن تعرفه، ولا تقتصر على ذكر الحد الأدنى منه. عند ذكر كلمة (الحد) فمعنى الحد هو التعريف، كما تدرس في أي علم من العلوم أن تعريف الشيء الفلاني كذا، فالحد يكون جامعاً لكل أركان وأطراف وفروع ما يدخل تحت هذا المصطلح، مانعاً غيره من الدخول فيه، فلا بد أن يكون التعريف جامعاً مانعاً. أما أن يعرف الشيء ويكون تعريف الشيء وتحديده بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه، فذلك غير معهود في باب التعريفات، فالكاتب هنا استعمل تعبير (حد الإسلام) ليدل على الحد الأدنى من الإسلام الذي يثبت به عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف الدين كله من أساسه. ففي باب التعريفات يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى، أو حدوده الدنيا، ولا بذكر واحد من أركانه. نعم، ربما يجاب عن الشيء بذكر أحد أركانه، لكن ليس في مقام التعريف والتحديد، بل في مقام التأكيد على أهمية هذا الركن وتعظيم أمره، مثال ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، فهل معنى ذلك أن الركن الوحيد في الحج هو الوقوف بعرفة أم أن هناك أركاناً أخرى للحج لا يصح بدونها؟ فهو هنا يقول: (الحج عرفة)، لبيان أهمية ركنية الوقوف بعرفات في الحج، لكن ليس كل الحج هو عرفة، فحينما نريد أن نضع تعريفاً فلا بد أن نستوفي كل أركان المعرف، وأما في مثل هذا الجواب فالمقصود تعظيم أمر هذا الشيء المذكور، والتنويه بأمره، وبيان أهميته. وأيضاً: هذا التعبير للدلالة على هذا المعنى لم يسبق إليه الكاتب-والله أعلم- ولم نجده في كتب أهل السنة والجماعة في شتى العصور ليدل بحد الإسلام على هذا المعنى الذي هو الحد الأدنى من الإسلام المنجي. وأيضاً: ليس في نصوص أهل العلم التي ساقها في كتابه -وما أكثرها- ما يؤيد استعمال مثل هذا التعبير، فقد أسرف الباحث في استخدام هذا التعبير، وأشاعه في ثنايا كتابه دون أن يؤيد استخدامه لهذا التعبير بنقل واحد عن إمام من أئمة العلم، رغم أن كتابه مكتظ بمئات النقول، وربما ساق النقول الكثيرة لتقرير بعض الأمور البديهية التي لا يحتاج تقريرها إلى عناء شديد.

مسالك تقرير حد الإسلام عند الكاتب

مسالك تقرير حد الإسلام عند الكاتب نعود إلى الكلام الذي ساقه في مقدمة المسلك الإجمالي ثم التفصيلي في بيان حد الإسلام، فقد سلك مسلكين في تقرير حد الإسلام: أولاً: مسلك الإجمال. ثانياً: مسلك التفصيل. مسلك الإجمال هو أن حد الإسلام ذو شقين أو ركنين: تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب. وذكر في موضع آخر أن هذين الشقين هما حد الإسلام، فقال في بيان العلاقة بين الأصل والفروع: لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام، ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وتخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، والدين يتخلف بتخلف الأصل، أما الفروع فالغالب فيها أن لا تلازم بينها في الفرائض والواجبات، وإتيان الواجبات وترك المحرمات يمكن أن يتخلف بعضها دون أن تنقض أصل الإسلام بالكلية. هذا فيما يتعلق بمسلكه الإجمالي. أما عن المسلك التفصيلي: فإنه حينما فصّل حد الإسلام وضع له ثلاثة أركان، هي: توحيد الحكم، والولاية، والعبادة أو النسك. فعند حديثه عن أركان توحيد العبادة قرر أنها ثلاثة، فسلك مسلكاً مفصلاً فقال: هي نفي النسك عن غير الله عز وجل، ثم هي قبول شرع الله ونفي ما سواه، وإفراد الله تبارك وتعالى بالولاية. وأراد أن يفصل هذا الأمر فقال: أصل الدين وحد الإسلام سواء علينا سميناه: الإيمان، أو الإسلام، أو التوحيد، أو الدين، أو إفراد الله بالعبادة، فمسماه واحد لا يختلف باختلاف الإسماء. وبالنسبة لهذا المسلك الثاني -وهو مسلك التفصيل لم يقتصر الكاتب هنا على مجرد الاعتقاد المجمل للألوهية، وإنما تجاوز ذلك إلى عمل استقراء لما يندرج تحت توحيد الألوهية من المفردات، وجعل هذه المفردات الثلاثة مرتبطة بما سماه (حد الإسلام) الذي لا تثبت صفة الإسلام قبل استيفائه، والذي لا يعذر فيه أحد بالجهل كائناً من كان، بل من كان عليه كان مسلماً، ومن لم يكن عليه كان كافراً، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل؛ لأنه مما لا يتوقف الحكم به. وتقسيم الناس على أساسه إلى بلاغ أو إعراض، فلم يقتصر في هذا المسلك التفصيلي على الاعتقاد المجمل للألوهية، وإنما تناول ما يندرج تحته من تفاصيل العبادة، فتحت البند الأول في المسلك التفصيلي ذكر نفي النسك عن غير الله عز وجل، وبهذا دخلت تحت هذا البند كافة صور العبادة: من دعاء، واستغاثة، ونذر، وذبح، وتوكل، ورغبة، ورهبة، وخوف، ورجاء، وإنابة، وغير ذلك. ودخل تحت البند الثاني -أي: نفي الحكم عن غير الله عز وجل- كل صور تبديل الشرائع، والحكم بغير ما أنزل الله عز وجل. ودخلت تحت البند الثالث -أي: نفي الولاية عن غير الله عز وجل- كافة صور الموالاة لأعداء الله الجلية والخفية بجميع شعبها وأنواعها. فلا تثبت عنده للمرء صفة الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفاء هذه الأركان: من شهد الشهادتين، واستوفى مثلاً الإقرار والفهم والالتزام بقضية توحيد النسك وتوحيد الولاية، لكن إن كان عنده خلل في بعض أجزاء قضية الحاكمية مثلاً، فهذا لا يقول: إنه ارتد بعد الإسلام، بل يقول إنه لم يدخل أصلاً في الإسلام، ولم يَصر مسلماً بسبب تخلف بعض هذه الأركان، فلا يثبت للمرء صفة الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفاء هذه الأركان، وتصحيح اعتقاده في كل ما يندرج تحتها من تفصيلات.

مسلك الكاتب في حد الإسلام المجمل وبيان الحق في ذلك

مسلك الكاتب في حد الإسلام المجمل وبيان الحق في ذلك نناقش الآن مسلكي الإجمال والتفصيل عند الكاتب ونلاحظ العلاقة بينهما من تخالف أو توافق: فبالنسبة لمسلك الإجمال فهو: أن حد الإسلام أو الإيمان أو التوحيد عبارة عن شقين: تصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب. ولا ينازع أحد من علماء أهل السنة في أن أصل الدين هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. فهذا أصل الدين الأصيل الذي تعبر عنه كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة تعني الإقرار المجمل، لذلك جاء في الرواية الأخرى: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)، أي: يصدقوا بخبره عليه الصلاة والسلام. فأصل الدين عند أهل السنة هو الإقرار المجمل وليس المفصل، فبمجرد أن يدخل في الإسلام وينخلع من حالته السابقة -من اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من ملل الكفر- فإنه يدخل في دين الإسلام من هذا المنطلق، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك جعلت الشريعة الشهادتين هما باب الدخول، ونيطت وعلقت بإعلان المرء هاتين الشهادتين عصمة دمه وماله وعرضه؛ لأنهما تتضمنان الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب، إذ معنى الشهادتين أنك تصدق الخبر، وتلتزم الشريعة، وتلتزم الحكم. وهنا نذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم ثانية: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فشهادة أن لا إله إلا الله تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المجملة من الشرك؛ لأن فيها نفياً وإثباتاً. فـ (لا إله): براءة من كل ما يعبد من دون الله، و (إلا الله) إثبات استحقاق الله عز وجل وحده بأن يعبد بلا شريك. والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة تعني الإقرار المجمل بكل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً. فلهذا كانت هاتان الشهادتان هما أصل الدين، وكانتا أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، ومعلوم حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). إن ما ساقه المؤلف من أدلة يصدق على كلمة التوحيد لا على ما سماه: حد الإسلام، وهذا هو الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفاء هاتين الشهادتين، فالخصائص التي ذكرها الكاتب لتعريفه هي للإسلام أو لحد الإسلام في نظره وأولى بأن تختص بها كلمة الشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهذا يتضح بربط الأحاديث مثل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فهذا الحد هو النطق بالشهادتين باعتبار أنهما تعبران عن الإيمان المجمل الذي يتضمن الالتزام المطلق بشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الحد الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، ولا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وهذا الحد -وهو الشهادتان- شرط في صحة التوحيد؛ توحيد المعبود، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، وأنه لا طريق إليه إلا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون اعتبار لعلم أو جهل. حينما يتحدث البعض عن مسألة الكافر الذي يسمع بأن هناك إسلاماً، وأن هناك نبياً يسمى محمداً عليه الصلاة والسلام، وهناك قرآناً، وهذا اليهودي أو النصراني -أو قل ما شئت- سمع بذلك ولم يؤمن به، فما حكمه؟ A كافر، ويستحق الخلود في النار إن مات على هذا الكفر. لكن المسلم الذي نطق بالشهادتين، وأتى بشيء من أفعال الكفر جهلاً بأنها كفر، أو أنكر شيئاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الأحكام الشرعية جهلاً بأن هذا هو حكم الله، فهل هذا يكفر؟ الجواب: هذا يعذر بجهله؛ لأن الفرق: أن هذا نطق بالشهادتين فصار عنده إيمان وتصديق مجمل، وانقياد مجمل لشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كذب بحديث غير متواتر كأن يقول: هذا الحديث لا يثبت من حيث إن الرواة مطعون بهم، فلا يقبل حديثهم، فهذا لا يكفر. فالمقصود: أن ثمة فرقاً بين من نطق بالشهادتين فصار عنده انقياد وإيمان مجمل بما جاء في القرآن أو ثبت في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو يؤمن به تصديقاً وانقياداً واتباعاً وعلماً، وبين من هو كافر وما زال يستكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، فلا سواء بين من استكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، ومن دخل وأعلن انقياده لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن لم يقل لا إله إلا الله فلا يعذر بجهله، ما دام أنه سمع عن الإسلام، ومن لم يتحقق لديه هذا المعنى لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، لماذا؟ لأن هناك إجماعاً بين مختلف الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يَدِنْ بدين الإسلام، يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو بوذياً أو غيره، يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا دخل النار). فكل من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع، أما ما كان من نزاع في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم النذارة، ومن لم يصلهم البلاغ، فهذا فيما يتعلق بأحكام الآخرة، هل يخلد في النار لأنه كافر، أو يعفى عنه لأنه لم تبلغه الحجة؟ قلنا: إن هذا الالتزام المجمل يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من الخصائص لما سماه حد الإسلام، فهو سمى حد الإسلام وذكر له خصائص وأكثر هذه الخصائص -لا كلها- تصدق على كلمة التوحيد، لوجود منازعة للكاتب في بعض ما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص. فالإيمان المجمل الذي عبر عنه بحد الإسلام عبارة عن تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب، فالتصديق والالتزام هما الركنان، بينما هو يقول: إن هذا الحد غير قابل للزيادة وغير قابل للنقصان، والحقيقة أن الإيمان المجمل بركنيه التصديق والالتزام كل منهما قابل للنقص والزيادة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

التفاوت بين درجات التصديق

التفاوت بين درجات التصديق سبق الكلام بالتفصيل في قضية زيادة الإيمان ونقصانه، ولكننا سنذكر هنا حقيقة هذا التفاوت من عدة أوجه. فما من شك أن درجات التصديق تختلف قوة وضعفاً تبعاً للتصديق القلبي، فالأنبياء أكمل الناس تصديقاً، ويليهم في ذلك أصحابهم وحواريوهم الذين تلقوا الهدى على أيديهم، ورأوا بأعينهم من المعجزات والآيات ما لا يبقى معه شك في أن هذا الرسول مؤيد من قبل الله تبارك وتعالى، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل. فالقول بتماثل درجات التصديق التي قامت في نفوس هؤلاء ضرب من المكابرة، فما من شك أن ثمة فرقاً في اليقين والتصديق بين طوائف المؤمنين ابتداء بأعلاهم إيماناً -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- ثم الصحابة، ثم الأمثل فالأمثل. فهذا موسى عليه السلام أخبره الله عز وجل فقال: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:83 - 85]، فهل حكى الله عن موسى أنه غضب وانفعل الانفعال الذي وصل إلى حد أنه ألقى الألواح؟ كلا، لكن لما عاين ذلك منهم غضب أشد الغضب، ووصل غضبه إلى أنه ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، فهل معنى ذلك: أن موسى عليه السلام كان يشك في خبر الله حينما أخبره أن قومه عبدوا العجل أم أن لهذا تفسيراً آخر؟ A له تفسير آخر، وهو أن هناك تفاوتاً في درجات التصديق؛ لأنه ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى بعدما حكى صفة أصحاب الكهف وهم نائمون فيه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، وهذه إشارة إلى نفس هذه القاعدة: ليس الخبر كالمعاينة. فوصف الله عز وجل حالهم في القرآن لم يحدث لنا الفرار ولا الرعب الشديد من صورتهم، لكن يخبر الله أنك لو رأيتهم بعينك ((لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)) لماذا؟ لما لك من انفعال بما تعاينه وتراه يكون أشد مما تسمع به ولم تره، فهذا تفاوت في درجات التصديق. انظر إلى قصة إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فهل كان هذا شكاً من إبراهيم عليه السلام؟ كلا. وإنما كان ذلك منه ليطمئن قلبه، ويتحول علم اليقين إلى عين اليقين، فما من شك أن التصديق في حد ذاته يتفاوت ويختلف من شخص لآخر. أيضاً: من هو ذلك الشخص الذي يجرؤ على أن يزعم أن هناك تماثلاً ومساواة بين تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عرج به إلى السماوات العلا، ورأى من آيات ربه الكبرى، وبين تصديق رجل من عامة المسلمين؟! إن المؤلف يرى في حد الإسلام أنه لا يتفاوت أهله فيه، ولا يتفاضلون فيه، ولا يزيد ولا ينقص، فهل تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي عاين آيات الله عز وجل في رحلة المعراج، يكون كتصديق أدنى رجل من عوام المسلمين؟! هذا شيء لا يقول به أحد على الإطلاق. أيضاً: درجات التصديق تختلف قلة وكثرة بحسب العلم بتفصيل الشرائع والجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، خصوصاً في قضايا الإيمان والعقيدة والتوحيد، ولا شك أن الشخص كلما تعلم أكثر فإنه سيصدق بقلبه أكثر، فالذي درس الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وتعلم أركان الإيمان فإنه يكون أكثر إيماناً بكل واحدة من هذه القضايا، فكلما تعلم خبراً جديداً وعلم بحكم جديد في القَدَر مثلاً أو في غير ذلك من أساسيات الإيمان، فإن كمية الأشياء التي يصدق بها وكمية التصديق بقلبه تزيد مع زيادة علمه، ويكون تصديقه أكبر وأقوى وأكثر من تصديق ذلك الذي لم يعلم هذه المسائل. فدرجات التصديق تختلف في الحقيقة قلة وكثرة بحسب العلم بتفاصيل الشرائع أو الجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، وكلما قل علمه قل تصديقه، فمن أحاط علماً بعشرات الفرائض كان أكثر تصديقاً ممن كان دونه في ذلك. فالزيادة في هذه الحالة من حيث الكم، ومن حيث العلم بالشرائع زيادة ونقصاناً، وفي الحالة السابقة التي ضربنا لها مثالاً بموسى عليه السلام والألواح كانت من حيث الكيف، فانظر كيف تفاوت التصديق كماً وكيفاً حسب زيادة العلم ونقصانه، وحسب قوة هذا التصديق وقوة اليقين. وأيضاً: الالتزام بطاعة الله عز وجل، وسائر أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء، تتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معروف مشاهد ومحسوس، ولا ينكره إلا معاند. لكن إن قال قائل: إن الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي يصح به عقد الإسلام لابد أن يتماثل في الناس جميعاً، فلا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص؟ يكون الجواب: أن هذا القدر لا يمكن ضبطه، ولا يتصور وجوده إلا في مجال الظاهر، بحيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، وبراءتهم من كل دين يخالفه، وأن ذلك تعبر عنه كلمة الشهادتين، فهذا كله يتمثل في الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، فهذا الإعلان الظاهري هو الذي يتماثل عند الناس جميعاً في هذه الناحية، ففي الظاهر الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً، بل يتفاوت الشخص نفسه من حالة إلى أخرى، ويتفاوت تصديقه، ويزيد إيمانه وينقص، ويقوى يقينه ويضعف من حين إلى آخر وهكذا هذا من حيث حقيقة ما في القلب، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثل عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه، والزيادة والنقصان تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان، إذاً: ما هو هذا الحد الأدنى؟ هو النطق بكلمتي الشهادة. فهذه الماهية المجردة لا وجود لها في الأذهان، ولا حقيقة لها في الخارج، فلا نستطيع أن نتصور ماهية مجردة للإيمان متماثلة في سائر المؤمنين بحيث لا تتفاوت ولا تزيد ولا تنقص، بل لكل إنسان إيمان يخصه، وهذا الإيمان قابل للزيادة والنقصان في كل وقت بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع كل منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد موجود لدى كافة المؤمنين في جميع الأوقات. فمثلاً إذا سُئل رجل: كم مال زيد؟ فأجاب قائلاً: يزيد وينقص. فلا يستنتج السائل من هذا الجواب أن لمال زيد مقداراً محدوداً يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى، مع ثبات هذا المقدار في الوجود، بل الزيادة والنقصان إنما تكون بالنسبة إلى المال الموجود وقت وقوعها.

بيان المسلك التفصيلي في حد الإسلام

بيان المسلك التفصيلي في حد الإسلام سبق أن الباحث في تحريره لقضية حد الإسلام -على حسب تعبيره- سلك مسلكين: مسلك الإجمال، ومسلك التفصيل، والكلام الماضي كان فيما يتعلق بمسلك الإجمال، وذكرنا بالنسبة لمسلك الإجمال موقف أهل السنة وما هو معروف في عقيدتهم، وأن الخصائص التي ذكرها لحد الإسلام كان الأولى بمعظمها كلمتي التوحيد، وإنما قلنا: إن معظم هذه الخصائص وليس كلها؛ لأن هناك ملاحظة في دعواه: أن هذا الحد لا يزيد ولا ينقص، بل يتماثل فيه الناس أجمعون، وبينا أن هذا غير صحيح. السؤال الآن: هل يمكن للكاتب أن يسلك نفس المسلك الأول هنا؟ وهل يمكن أن يكون قد قصد فعلاً إلى ذلك؟ لا بد أن نبين المقصود بذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. المقصود: هل يمكن أن يذهب الباحث إلى أن أصل الدين هو التصديق والالتزام بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة التفصيل المطلق، أي: الإقرار التفصيلي بكل ما ثبت بالوحي المعصوم خبراً خبراً وتكليفاً تكليفاً، ثم يكون هذا الإقرار والالتزام هو أصل الدين الذي يثبت به جميع ما أثبته الكاتب لأصل الدين من الخصائص، فلا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، ولا يعذر فيه أحد بجهل، ويكون سابقاً على غيره من التكاليف، فلا يصح عمل ولا يقبل إلا به، ولا يقبل التبعض ولا الزيادة ولا النقص؟ الظاهر أن الكاتب لا يريد ولا يقصد هذا المعنى؛ لأنه صرح في بعض المواضع فقال: إن الجهل بفريضة الصلاة إن كان له وجه كحال من لم تبلغه فريضتها في دار الحرب عذر يسقط التكليف بها، ويستحق به صاحبه عفو الله عنه، وهذا داخل في أحد شقي التعريف، الذي هو الانقياد لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب. وصرح في موضع آخر فقال: إن الجهل بحكم الله في مسألة من المسائل يصلح عذراً لمن ارتضى في هذه المسألة حكماً غير حكم الله، ظناً منه أن هذا هو حكم الله، فهذا مثل المجتهد المخطئ، يجتهد ويتحرى أن يصل إلى حكم إلهي، يبذل غاية وسعه وجهده ليصل إلى حكم الله، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له. أيضاً: صرح في موضع ثالث بأن جهل الجارية التي زنت بدرهمين يصلح عذراً لها يسقط الحد ويرفع المؤاخذة، هذه الجارية التي أتت بالفاحشة وأتي بها إلى أحد الخلفاء الراشدين ولعله علي؛ فسألوها فاعترفت وتكلمت بنوع من العفوية والبساطة، فقال الحاضرون: يا أمير المؤمنين! كأنها لا تعلمه، أي: أنه لاحظ طريقتها في الكلام والاعتراف كأنها لا تعرف أن هذا الفعل يستوجب حداً، فاستسهلت به وصرحت وكان ظاهر حالها أنها لا تعلم، فلما تبين ذلك منها عذرت بذلك؛ لأنها تجهل أن هذا يستوجب الحد، فهنا الكاتب أيد هذا الحكم، وأن الجهل بهذا الحد يسقط الحد ويرفع المؤاخذة. فمنهج الكاتب في هذا الأمر قائم على التفريق بين أصل الدين وفروعه، وعنده اعتبار: أن الفروع تقبل التبعيض، ولا يشترط فيها التلازم. نزيد الأمر وضوحاً فنقول: إن اعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للدين يتوقف على استيفائه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام، وتثبت له جميع ما أثبته أهل العلم من أصل الدين من الخصائص؛ أمر لا يمكن أن يستقيم لأي إنسان عاقل، فلم يقل أحد من السابقين ولا اللاحقين -لا من أهل السنة ولا من أهل البدع- بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار وجميع التكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، ثم إعلان الإقرار بها والانقياد لها خبراً خبراً وأمراً أمراً، وهذا أمر يكفي تصوره للحكم بفساده. أيضاً: لم يقل أحد من أهل القبلة إن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية الذي يعلم بضرورة الحال أنه جاهل به -وما دام الإنسان جاهلاً بشيء فهو لا يعتقده- فلم يقل أحد إن هذا الجهل ببعض أصول الدين يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، بل عدم الدخول فيها من البداية، ومجرد تصور هذه النتيجة كاف للقطع بفساد ما أدى إليها. أي: لو أن رجلاً شهد شهادة التوحيد وجهل أمراً من الأمور الشرعية، وبالتالي ما دام جامداً فإنه لا يعتقد ما يجهله، فلم يقل أحد: إن هذا الرجل مع نطقه بالشهادتين لم يدخل أصلاً في الإسلام وإنه باق على كفره الأصلي! هذا أيضاً فساده معلوم. أيضاً: لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أُرجئ الحكم بإسلامه حتى تُعرض عليه كافة شرائع الدين وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده، ليؤخذ إقراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة ولا يزالون من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار العام والالتزام العام، ثم يعلمونهم بعد ذلك شرائع الدين على مكث. المقصود: أنه لا بد أن نفهم المسلك الإجمالي للكاتب، وأنه لا يقصد بكلمة: (جملة وعلى الغيب) الإقرار بكل الأخبار والانقياد لكل التكاليف، بل يقصد بذلك الإقرار الإجمالي وليس التفصيلي. يعني: هنا لا نقول: إن الكاتب قال هذا الكلام، لكن نقول: قوله: (إن حد الإسلام هو الإقرار بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب) يقصد به الإجمال حقيقة، وما كان له أن يقصد سوى ذلك، لا سيما وقد قرر لأصل الدين ما قرر من الخصائص الخطيرة التي لابد معها أنه كان يقصد حقيقة الإجمال، وليس تفاصيله. فأصل الدين -كما قرر الباحث- هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هو القبول لذلك على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف؛ لأن هذا الأخير مما لا يتوقف على استيفائه من البداية ثبوت عقد الإسلام، ولا يعتبر شرطاً في صحة أو قبول الأعمال. ولا يقال: إنه لا عذر فيه بالجهل؛ لأن الإقرار التفصيلي يتضمن فيما يتضمن الفروع، وهو يعذر في الفروع بالجهل كالأمثلة التي ذكرناها، فيلزم من ذلك أنه لا يقال: إن هذا الأمر لا يقبل الزيادة ولا النقصان؛ لأن تفاوت الناس في معرفة هذه التفاصيل والإقرار بها معروف بالحس والبداهة، وشتان بين العامة في ذلك وبين العلماء. على أي الأحوال: الأمر يحتاج لمزيد من البسط، وكلما مضى وقت أكثر وسبرنا أغوار البحث ستزداد القضية وضوحاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإيمان والكفر [14]

الإيمان والكفر [14] عادة ما تختلف معايير البشر، ولكنها تكون أكثر صحة بحسب أخذها من معين الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة؛ وقد صدر لأحد الكتاب كتاب بعنوان (حد الإسلام)، وهو كأي كتاب فيه صواب وخطأ، وفي هذه المادة مناقشة لبعض ما جاء فيه.

عرض مجمل لكتاب (حد الإسلام)

عرض مجمل لكتاب (حد الإسلام) تناولنا من قبل دراسة نقدية لكتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان)، ومعلوم ما دار حول هذا الكتاب من مناقشات ومباحثات، فمن أجل ذلك أراد الإخوة استجلاء الحقيقة في هذه القضية ذات الحساسية الخاصة، وذات الآثار البعيدة. وذكرنا أن المؤلف حينما تكلم على حد الإسلام أو ما أسماه هو بأصل الدين كما يفهم من كلامه: أن مقصوده بحد الإسلام أو أصل الدين هو: ما يتوقف على تحققه واستيفائه ثبوت عقد الإسلام ابتداءً، فهذا الحد الذي حدده هو الذي يكون به المسلم مسلماً، وإن لم يتحقق ولم يستوف هذا الحد الذي حده لم يكن مسلماً، وقد يعبر عن هذا الحد بالإيمان، أو بالإسلام، أو التوحيد، أو إفراد الله بالعبادة. أيضاً فهم من كلامه: أن استيفاء هذا الحد شرط في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف وغيره لاحق به، وغيره لا يقبل ولا يصح إلا به. وذكرنا أيضاً: أنه سلك مسلكين في بيان هذا الحد: مسلك الإجمال ومسلك التفصيل. ففي مسلك الإجمال ذكر: أن هذا الحد ذو شقين، تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب، والانقياد لها، وذكر أنه لا يُقبل ركن من هذين الركنين إلا بانضمام الآخر إليه، فلا يقبل التصديق بغير التزام وانقياد، ولا انقياد ولا التزام بغير تصديق، ثم سلك مسلكاً تفصيلياً في بيان أركان الحد، فذكر أنها ثلاثة: الحكم والولاية والنسك. أي: أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله بلا شريك، والنسك لله بلا شريك. وذكر من خصائص الإسلام: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، فهو لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وأنه لا عذر فيه بالجهل؛ فمن تحقق لديه كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً دون اعتبار لعلم أو جهل. هذه بعض الخصائص التي ذكرها الكاتب، والتي دار حولها مؤلفه وكتابه.

خطأ المؤلف في وضع حد للإسلام

خطأ المؤلف في وضع حد للإسلام أما بالنسبة للمسلك الإجمالي لحد الإسلام فهو التصديق بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب. وقد ذكرنا أن هناك نظراً في هذه التسمية -حد الإسلام- وفي مدى دقتها في الدلالة على المقصود. وبالنسبة لكلمة الحد: الحد في الاصطلاح هو: التعريف، والتعريف أو الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه فهذا غير معهود في باب التعريفات وذكر الحدود، فالكاتب استعمل كلمة حد الإسلام في بيان الحد الأدنى من الدين الذي به يثبت عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف بسببه الدين كله من الأساس، وفي باب التعريفات ينبغي أن يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى، فالمفروض أننا عندما نعرف شيئاً نذكر كل حقيقته، حتى يكون التعريف جامعاً مانعاً، جامعاً لكل أطراف الموضوع الذي تريد أن تعرفه، مانعاً من دخول غيره فيه، أما أن يعرف الحد بذكر حدوده الدنيا، أو بذكر ركن من أركانه، فهذا لا يذكر في باب التعريفات، لكن قد يذكر الشيء أحياناً بذكر أحد أركانه لا على سبيل التعريف وبيان الحد لكن على سبيل بيان أهمية هذا الركن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فهنا لا يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعرف لنا الحد، أو ما هو الحد، وما هي أركانه، وإنما أراد بيان أهمية الوقوف بعرفة، وكأنه لا شيء في الحج إلا عرفة، والمقصود: أن وقفة عرفات أوجب وأهم أركان الحج. كذلك لم نجد فيما نقل عن أهل العلم فيما مضى استعمال هذا التعريف أو هذا التعبير: حد إسلام. فهذا الاصطلاح لم يعهد في كتب علماء أهل السنة والجماعة على تقادم عصورهم، ولا يوجد عنهم ما يشير إلى استعمال مثل هذا التعبير.

الشهادتان باب الدخول في الإسلام

الشهادتان باب الدخول في الإسلام أيضاً قال: إنه لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وإن تخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، وأما الفروع فالغالب أنه لا تلازم بينها. هذا فيما يتعلق بكلامه في المسلك الإجمالي. وقد ذكرنا: أنه لا ينازع أحد من أهل السنة في أن أصل دين الإسلام هو: الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر، وكلمة التوحيد كافية في التعبير عن هذا المعنى، فهذا هو الذي ينبغي أن يقال في حد الإسلام أو في ما يثبت به عقد الإسلام لأي إنسان على وجه هذه الأرض؛ إذ يثبت له أمر الإسلام بكلمة التوحيد الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصل الدين: هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً وانقياداً. لذلك جعلت هذه الشريعة كلمة الشهادة أو كلمة التوحيد هي باب الدخول في دين الإسلام، وبإعلان المرء هاتين الشهادتين تحصل له عصمة الدماء والأموال والأعراض، وما ذاك إلا لأن كلمة التوحيد تتضمن معنى الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض روايات مسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). فـ: لا إله إلا الله هي عنوان لوجود هذه المعاني في القلب، فيجب عقد القلب على الالتزام بمقتضياتها وحقوقها، فلا إله إلا الله، تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد والبراء المجمل من الشرك. والشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، تعني: الإقرار المجمل بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، فأصل الدين هو كلمة الشهادتين، وهما أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. فأغلب ما ذكره الكاتب في خصائص حد الإسلام أنه جعل له ركنين: ركن التصديق المجمل بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، وذكر له خصائص: أنه لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأغلب هذه الخصائص كلمة التوحيد أولى بها من هذا الحد الذي وضعه وسماه حد الإسلام. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم هي التي يتوقف على تحقيقها ثبوت عقد الإسلام؛ فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائها. أيضاً: هذه الشهادة سابقة على غيرها من التكاليف، وغيرها لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا بها.

عدم العذر بالجهل في قول الشهادتين

عدم العذر بالجهل في قول الشهادتين أيضاً: شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي التي لا عذر فيها للجاهل، فمن لم تتحقق لديه هاتان الشهادتان لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، فما دام أنه سمع بأن هناك نبياً، وأن هناك رسولاً أتى بدين الإسلام، وأنزل عليه كتاب هو القرآن وبلغ بذلك صار مسئولاً على هذا الدين، فإن كل الفرق الإسلامية مجمعة على الشهادة بالكفر على كل من لم يدن بدين الإسلام يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو بوذياً أو غير ذلك. فكل من لم يشهد لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع. وقد وقع خلاف بين العلماء في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام، كأهل الفترة، أو الشخص المجنون، أو المعتوه الذي لم يبلغه الإسلام، أو لم يعقله ولم يفهمه؛ لأنه كان مجنوناًَ أو مغلوباً على عقله، فخلاف العلماء هو فيما يتعلق بأحكامهم في الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة لما ثبت في ذلك من الآثار. وهذا الالتزام المجمل الذي تترجم عنه كلمة التوحيد يصدق عليه أغلب ما أورده الكاتب من هذه الخصائص لما سماه حد الإسلام، ولم نقل: كل الخصائص، وإنما قلنا: أغلبها؛ لأن هناك منازعة للكاتب فيما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا ينقص.

تفاوت درجات التصديق

تفاوت درجات التصديق يقول: إن حد الإسلام لا يحصل فيه تبعيض ولا يزيد ولا ينقص، وذكر أن هذا الحد هو التصديق والانقياد والالتزام، فهل التصديق لا يزيد ولا ينقص؟ A لا؛ فدرجات التصديق تختلف قوة وضعفاً، فما من شك أن الأنبياء أكمل الناس تصديقاً، يليهم بعد ذلك الحواريون أصحابهم الذين تلقوا الهدى على أيدهم، ورأوا من المعجزات ما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل، فمن المكابرة أن تقول: إن تصديق الأنبياء هو نفس تصديق واحد من عموم المؤمنين، بل الإنسان نفسه قد تختلف درجات التصديق عنده من حالة إلى أخرى. مثال ذلك: موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه عبدوا العجل من بعده غضب، كما قال عز وجل: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]، غضب موسى عليه السلام، وكانت معه الألواح التي كتبها الله سبحانه وتعالى له بيده، لكن لما رأى بعيني رأسه قومه وهم يعبدون العجل اشتد غضبه كثيراً، وظهر ذلك في أنه ألقى الألواح غضباً وحمية لله عز وجل لا امتهاناً ولا استخفافاً بها. معاذ الله! إنما أخذته الحمية والغيرة على دين الله عز وجل وعلى التوحيد، قال عز وجل: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]، فهل شك موسى في خبر الله عز وجل؟ الجواب: لا. لكنه تفاوتت درجات التصديق عنده؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة. أيضاً: رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي عرج به إلى السماوات العلى، ورأى من آيات ربه الكبرى، كيف يقال: إن تصديقه عليه الصلاة والسلام الذي عرج به ورأى من آيات الله عز وجل في الملأ الأعلى يكون كتصديق رجل من عوام المسلمين؟ باعتبار أن هذا هو الحد الأدنى للإسلام، وأن التصديق لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص. أيضاً: درجات التصديق تتفاوت قلة وكثرة وقوة وضعفاً بحسب زيادة العلم أو نقصانه فكلما كان الإنسان أكثر علماً كلما كان أكثر تصديقاً، وما من شك أن من يتعلم حدود الله أكثر أنه يزداد الإيمان عنده ويقوى بها إيمانه، ويزيد بها تصديقه، وكلما قل علمه قل تصديقه. فمن أحاط علماً بعشرات بل مئات الفرائض لابد أن يكون أكثر تصديقاً ممن كان دونه في ذلك، والزيادة هنا من حيث الكم، إذ الزيادة في التصديق تتفاوت من حيث الكم ومن حيث الكيف، أما الكيف فقد ضربنا له مثلاً بموسى عليه الصلاة والسلام، أما الكم فهو من حيث العلم، فكلما زاد الإنسان علماً بالشرائع وبحدود الله كلما زادت كمية التصديق في قلبه، والعكس صحيح. هذا من حيث التصديق، أما من حيث الالتزام فإن التزام أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء وغير ذلك يتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، ولا ينكره إلا جاهل أو معاند.

الحد الأدنى من التصديق

الحد الأدنى من التصديق أيضاً إذا قال قائل: الحد الأدنى من التصديق، والحد الأدنى من الالتزام الذي يصح به عقد الإسلام؛ لابد أن يكون متماثلاً في الناس جميعاًَ، وقد ذكرنا من قبل: أن كونه يظن أن هذا هو الحد الأدنى، فمن المفروض في باب التعريفات والحدود ذكر كل ما يتعلق بالحد لا ذكر بعض حقائقه، فكلمة (الحد) لا يذكر فيها الحد الأدنى، بل تذكر كل الحقيقة كما أشرنا، فإذا قال قائل: الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي لا يصح عقد الإسلام إلا به، لابد حينها أن يتماثل في الناس جميعاً، فهو من هذه الناحية لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، فما الجواب على ذلك؟ A أن هذا القدر -الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص- لا يمكن ضبطه، ولا يمكن أن نتصور وجوده إلا في الظاهر، حيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تطبيقاً وانقياداً، ويعلنوا براءتهم من كل دين يخالف دين الإسلام، فما هو الشيء الذي يمثل هذا الأمر الظاهر؟ هو النطق بالشهادتين، فهما اللتان تترجمان وجود التصديق المجمل والالتزام المجمل، ونحن لا نملك إلا قبول ظاهر الناس، فمن شهد الشهادتين، فهذا يعني: أنه يصدق تصديقاً مجملاً بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويلتزم التزاماً مجملاً أيضاً بشرائعه، ويثبت له بالشهادتين عقد الإسلام. فالذي يمكن ضبطه وتصور وجوده هو في المجال الظاهر بإعلان الالتزام المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، والبراءة من كل دين يخالفه، فهذا يتمثل في شهادة التوحيد، والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ففي هذا الحد يتماثل الناس جميعاً. أما على الحقيقة فهم فيها يتفاوتون تفاوتاً عظيماً، وبضميمة أفعال القلوب وأحوال القلوب يحصل التفاوت، لكن الظاهر هذا هو الحد الذي يتساوى فيه جميع الناس من حيث الحكم لهم بالإسلام، أما الحقيقة فهم يتفاوتون، بل قلنا: إنه يتفاوت في الشخص الواحد ما بين حالة وأخرى، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثل عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه، والزيادة والنقص تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان.

مسلك الإيمان المجمل عند المؤلف

مسلك الإيمان المجمل عند المؤلف ذكر الكاتب مسلك الإيمان المجمل وقال: إن له شقين: التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والالتزام بشريعته جملة وعلى الغيب وذكرنا أن جميع علماء المسلمين لم يذكر واحد منهم أبداً أن حد الإسلام أو حكم ثبوت عقد الإسلام لأي إنسان يشمل المعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي التصديق بها، والمعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي الانقياد لها، فاعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للدين يتوقف على انتفائه عدم ثبوت عقد الإسلام لا يمكن للإنسان أن يدعيه، فلم يقل أحد من السابقين ولا من اللاحقين لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة؛ بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار والتكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، ولا يتصور أبداً أن يتوقف حكم الإسلام لأحد حتى نأتي به ونتلو عليه جميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونسرد عليه جميع الأحكام الشرعية التي كلفنا بها، ويقر بالتزامه وتصديقه بها على جهة التفصيل. أيضاً لم يقل أحد من أهل القبلة بأن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، وعدم الدخول فيه من البداية. أيضاً لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أُرجئ الحكم بإسلامه حتى تعرض عليه كافة شرائع الدين، وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده ليؤخذ إقراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة والعلماء -ولا يزالون- من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار والالتزام العام، ثم يُعلمون بعد ذلك شرائع الدين على مكث وعلى مهل. فالكاتب يوافقنا أيضاً في ذلك حينما يقول: إن حد الإسلام هو التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشرعه جملة وعلى الغيب، يقصد الإجمال حقيقة ولا يمكن أن يقصد سوى ذلك. فأصل الدين هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو القبول على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف.

أركان حد الإسلام عند المؤلف

أركان حد الإسلام عند المؤلف لم يقتصر الكاتب في بحثه على المسلك الإجمالي الذي أشرنا إليه، لكنه نحا منحى آخر تفصيلياً، قرر فيه أن لهذا الحد أركاناً ثلاثةً هي: الحكم والولاء والنسك، ثم جعل باقي الكتاب في تفصيل هذه الأمور الثلاثة، فقد جعل الباب الثالث في تقرير ركن الحكم، والباب الرابع في تقرير ركن الولاية، وقرر ركن النسك ضمن الباب الأول، فلم يقف عند حدود الاعتقاد المجمل للألوهية، لاسيما وهو يتكلم في شرح تفصيلي لحد الإسلام، وما يسميه هو أصل الدين الذي يتوقف على الاكتفاء به من البداية ثبوت عقد الإسلام، والذي يطرد تماثله وثباته وعدم تفاوته بالزيادة أو النقص عند كافة المؤمنين، فهو تجاوز الإجمال إلى هذا التفصيل الذي تندرج تحته كافة مسائل توحيد العبادة، ولا يند عنه منها شيء، فيلزم من ذلك أن يسلك أحد مسلكين لا ثالث لهما: إما أن يرجئ الحكم على عامة المسلمين الذين يشهدون الشهادتين، وقد يكون فيهم جهل بهذا المسلك التفصيلي في شرح معنى التوحيد والحكم أو الولاية أو النسك؛ لأن هؤلاء الناس الذين نراهم يملئون المساجد يصلون العيد يخرجون في الجنائز المسلمين الذين نعيش ونحيا بينهم، هؤلاء أتوا بالشهادتين ولم يحصل من الكاتب ومن نحا منحاه عملية استيفاء وجود الأركان التفصيلية: أركان الحكم والولاء والنسك في هؤلاء الناس، فمن جهل بعض هذه الأركان كيف يكون السلوك معه؟ فإما أن يرجأ الحكم على هؤلاء العامة، فلا نحكم لهم بالإسلام حتى نستوثق من استيفائهم لأركان هذا الحد وبراءتهم من الطواغيت، وتجردهم من التلبس بشيء من العبادة لغير الله عز وجل، وموالاتهم للمؤمنين، وبراءتهم من الكافرين، فلا يشهد لأحد منهم بالإسلام إلا بعد التحقق من استيفاء ذلك كله، حتى وإن كانوا قبل ذلك ممن يعلنون الالتزام المجمل بالإسلام، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة. فهذه هي هو الحالة الأولى: أن هؤلاء الناس لا نحكم عليهم بالإسلام، بل يؤجل الأمر فيهم حتى يتأكد من استيفاء هذه الأركان. الحالة الثانية: أن يستصحب أصل الحكم بالإسلام على من أعلن الانتساب إليه، ونقول: إن هؤلاء نطقوا الشهادتين، فالأصل فيهم أنهم مسلمون، حتى نكتشف أن هذا الإنسان متلبس بناقض من نواقض هذا الحد، فحينئذٍ نكتشف أنه كان كافراً من قبل، فيكون انتسابه إلى الإسلام وتلفظه بالشهادة مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، لا دلالة على أنه مسلم. وبناءً على هذا التفصيل: الحكم والولاء والنسك. كيف نطبقه في الواقع؟ وكيف يكون موقفنا مع عوام المسلمين الذين يصلون ويزكون ويحجون ولم يحصل استيفاء وتحر وتبين مفصل عن موقفهم من قضايا الحكم والولاية وتفاصيل النسك وغيرها؟ A نقول له: لن يكون أمامك إلا أحد مسلكين، المسلك الأول: إما أن تقول: هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام أصلاً حتى وإن أتوا بهذه الأشياء، إلا بعد استيفاء كل هذه الأركان منهم، ولا تكفي كلمة التوحيد، ولا الصلاة، ولا الزكاة. المسلك الثاني: أن تقول: إنهم كفار أصليون لم يدخلوا أصلاً في الإسلام، ولا نقول: إن كلمة التوحيد قرينة تومئ إلى أنهم مسلمون، لكن: إذا اكتشفنا بعد ذلك أن هذا الإنسان متلبس بشيء يناقض هذا الأصل الذي هو الإسلام، حينئذٍ يكتشف شيء كان خافياً من قبل، وهو: أن هذا الإنسان الذي عاش ستين سنة ينطق بكلمة التوحيد، يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويفعل شرائع الإسلام المعروفة، ولم يحصل استيفاء وتبين لموقفه من قضايا الحكم والولاية والنسك يكتشف بعد كل هذه السنوات أنه كان كافراً من قبل، ويكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادتين مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، فإذا ثبت أن هذا الرجل كان يستجيز أمراً من أمور الشرك، فقد دل ذلك على أنه كان كافراً من البداية، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، حينئذٍ يثبت أن هذا كافر أصلي، مثل النصراني أو اليهودي، ولم يدخل في الإسلام أصلاً، فيتوقف الحكم عليه بالإسلام إلى أن يتبين خلاف ذلك، ويبقى الحكم عليه على ما قبل ذلك، وهو أنه كان كافراً. أما الذين يتلبسون بشيء من نواقض هذا الحد فهم لديه كفار بلا نزاع، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام وبين دار الحرب، ولا بين الجهلة ولا بين العلماء، ولا بين من هو متأول ومن هو معاند، فالكل سواء في هذا الحكم؛ لأن الإسلام -كما ذهب إليه- حد لا توجد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يأت به فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل.

الفرق في منهج المؤلف بين مسلكي الإجمال والتفصيل في الإيمان

الفرق في منهج المؤلف بين مسلكي الإجمال والتفصيل في الإيمان والآن نذكر الفرق بين الاتجاهين اللذين تركهما الكاتب في الإجمال والتفصيل في تحرير قضية الأصل في الدين: المسلك الأول: الإجمال، وهو التصديق بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام جملة وعلى الغيب، والالتزام جملة وعلى الغيب، فالمسلك الأول يعني: ثبوت عقد الإسلام لكل من أعلن الالتزام المجمل بالإسلام، ودليل ذلك النطق بالشهادتين؛ فإن كان صادقاً في ذلك فقد ثبت له عقد الإسلام ظاهراً وعلى الحقيقة، فلو مات في هذه اللحظة لمات على الإسلام، ولو لم يعلم من تفاصيل ما يجب اعتقاده واتباعه من الدين شيئاً؛ لحديث ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ قال: أسلم ثم قاتل) فلم يقل له: تعال أولاً أعرض عليك هذه المعاني المفصلة للحكم والنسك والولاية، ونستوفي منك كل حدود هذا الحد، ثم بعد ذلك تصبح مسلماً ثم تقاتل، بل شهد الشهادتين وبذلك ثبت له عقد الإسلام، وقاتل فقتل شهيداً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمل قليلاً، وأجر كثيراً)، فلو مات بعد هذه اللحظة لمات على الإسلام، حتى لو لم يعلم تفاصيل هذه الأمور. المسلك الثاني: ذكر الكاتب تفاصيل النسك والحكم والولاية، وأنه لا يثبت عقد الإسلام على الحقيقة إلا لمن استوفى أركان توحيد العبادة، واعتقد الحق في كل مسألة من مسائله على التفصيل، وعلى هذا فإن من أعلن لنا التزامه بالإسلام، وقبوله المجمل بدين الإسلام الذي تترجمه كلمة الشهادتين أثبتنا له صفة الإسلام بناءً على ذلك، هذا هو المسلك الأول للكاتب، ووافقناه في ذلك مع توضيح الفروق بين الاتجاهين، لكن إذا اكتشفنا -بعدما أثبتنا له صفة الإسلام بالطريقة المجملة- جهله ببعض نتائج التوحيد كتوحيد العبادة مثلاً؛ فإنه يكون بذلك لا يزال باقياً على كفره الأول لم يدخل في الإسلام بعد لعدم استيفاء حده. فالفرق بين المسلكين: أن المسلك الأول يثبت عقد الإسلام ظاهراً وباطناً بمجرد الالتزام المجمل به ظاهراً وعلى الحقيقة، وإن جهل كل عقائده وشرائعه، ما دام أنه قد انعقد قلبه على مطلق التصديق والاتباع والالتزام. أما المسلك الثاني: فلا يكفي هذا الالتزام المجمل في الحقيقة، بل يهدر إهداراً كلياً أمام جهله بمسألة من المسائل المتعلقة بتوحيد العباد، بحيث لو أن رجلاً مضى على إعلانه للإسلام، وإقامته لشعائره، وصدقه في اتباعه ظاهراً وباطناً عشرات السنين، ثم اكتشف جهله بمسألة من مسائل توحيد العبادة، كمسألة الاستغاثة بأصحاب القبور، وأنها من الشرك الذي حرمه الله، لدل ذلك على استمرار كفره الأول، وحبوط عمله طيلة هذه السنين، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، فهذا هو الفرق بين المسلكين بالنسبة لقضية حد الإسلام. ونحن تكلمنا في نقد المسلك الإجمالي في أن حد الإسلام لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاوت الالتزام والتصديق، وقلنا: إن كلمة التوحيد أولى بِجُل هذه الخصائص التي أضفاها على تعريفة المجمل لحد الإسلام، فأولى ثم أولى أن تكون هذه الخصائص لكلمة التوحيد التي يثبت بها عقد الإسلام فيما يظهر لنا. أما المسلك التفصيلي فيلاحظ عليه: أنه قام على أساس: أن الإيمان المجمل الذي هو حد الإسلام شيء واحد متماثل في كل المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت، ولا يزيد ولا ينقص، فما من شك أن هذه الشبهة هي نفس الشبهة التي دخلت على كلٍ من الخوارج والمرجئة والمعتزلة، وكانت أساس ضلال هذه الفرق جميعاً في باب الإيمان رغم ما قد يبدو بينهما في الظاهر من تناقض واختلاف، بل الخوارج من معتقدهم: تكفير صاحب الكبيرة، وأنه ليس بمؤمن؛ ذهاباًَ إلى الأخذ بنصوص الوعيد، وتأسيساً على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض، ووافقهم على ذلك المعتزلة، إلا أنهم أخرجوه من الإيمان، ولم يدخلوه في الكفر اعتباراً بالنصوص التي تفرق بين المرتد وبين أصحاب المعاصي؛ فابتدعوا ما أسموه بالمنزلة بين المنزلتين التي يستعملونها الآن بعبارة عصرية، وهي: التوقف، والتوقف يعني: انعدام الوزن؛ فلا هو مسلم ولا هو كافر، فلا يحكم عليه بالإسلام ولا بالكفر، وهذا اتباع لبدعة المعتزلة المسماه: المنزلة بين المنزلتين، فهؤلاء إن خالفوهم مقالاًَ إلا أنهم وافقوهم مآلاً؛ لأنهم حكموا عليه بالخلود في نار جهنم في الآخرة، وعلى نفس هذا الأساس -أساس تصور أن حد الإسلام شيء واحد متماثل في كافة المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص- أقام المرجئة معتقدهم في إخراج العمل عن الإيمان بناءً على الأدلة الكثيرة التي تشهد بفساد مذهب الخوارج والمعتزلة، واعتباراً بظواهر نصوص الوعد، وتأسيسها على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض. وعلى نفس هذا الأساس حرر الكاتب مذهبه في أصل الدين؛ فافترض أن له ماهية ثابتة متماثلة لدى الكافة، وأنها لا تقبل التعدد ولا التبعض، يقول: والأصل أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، ويقول في موضع آخر: عندما يكون الإسلام قسيماً للإيمان في الدلالة بمجموعهما على أصل الدين يكونان متلازمين لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وتخلف العمل هنا كفر، فهذا التفاوت له وجوه متعددة، منها العلم والجهل، فكلما علم العبد بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فصدقه، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام وإقرار عام، فمن عرف أسماء الله ومعانيها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه بها أكمل. وأيضاً: شتان بين إيمان أهل السنة الذين تلقوا نصوص الوحي بالقبول وفهموها على وجهها، وبين تلقي أهل البدع لهذه النصوص، وتحريف دلالاتها بتأويلات فاسدة وشبه باردة كما فعلت المعتزلة والجهمية من تعطيل الصفات، وكما فعل الخوارج والمعتزلة والزيدية من إنكارهم الكثير من المغيبات. أيضاً: هناك خلط في هذا المسلك التفصيلي بين ما يجب من أصل الدين لثبوت عقد الإسلام، وما يجب لاستمرار عقد الإسلام وعدم انقطاعه، فثبوت عقد الإسلام بادئ ذي بدء يتوقف على الإقرار المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، ولا يتوقف على الإحاطة بالتفاصيل لا في الفروع ولا في الأصول، فمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو جاء إلى جماعة المسلمين من بعده يعلن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به من عند الله؛ فقد ثبت له عقد الإسلام كائناً ما كان جهله، فهذا القبول المجمل للإسلام كافٍ في ثبوت عقده، ومن قال بإرجاء الحكم بإسلامه حتى يتوقف على شيء من التفاصيل فقد كابر الحقيقة والتاريخ، ولو مات هذا الرجل بعد الإقرار العام فهو ناجٍ عند الله؛ لأن عقد الإسلام قد ثبت له ظاهراً وعلى الحقيقة. فإن قال قائل: لكن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عرباً يعرفون مدلول الكلمات، ويفهمون من كلمة التوحيد ما يجب أن يفهم منها لاستيفاء حد الإسلام، ولهذا كانت هذه الكلمة في زمانهم كافية في ثبوت عقد الإسلام. ف A أن هذه الدعوة عارية عن الحجة، وعاطلة عن البرهان، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى العرب والعجم، وكان يفد إليه صلى الله عليه وآله وسلم أخلاط من الناس متفاوتون في المدارك والمعارف، ولم يسمع قط أنه قبل لا إله إلا الله من قوم وردها من آخرين حتى يفهموا منها ما لابد من تحقيقه لاستيفاء أصل الدين، فكان يأتيه البدوي والعربي الفصيح والشريف والضعيف والعبد والرومي والفارسي والحبشي، ومع تفاوت الناس وكثرة عدد من دخل في الإسلام لا نعلم على الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام العربي؛ لأنه يفهم لغة العرب ويعرف كل معاني التوحيد بسليقته وفطرته، وتوقف في إسلام الأعجمي الذي أتى وشهد الشهادتين حتى يستوفي حد الإسلام، أو توقف في قبول كلمة التوحيد من هذا الرجل الذي قد يكون مظنة الجهل ببعض هذه المفاهيم، ولا يستطيع أحد أن يغامر بادعاء أن العرب قاطبة كانوا يفهمون من كلمة التوحيد كل ما تتضمنه من حقائق وأصول، فهذا في العرب فكيف بالعجم؟ فعن عدي بن حاتم رضي الله تبارك وتعالى عنه، في سبب نزول الآية -إذا صح- التي في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه عدي وقد علق صليباً من فضة في عنقه، فقال: (يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وتلا هذه الآية: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:31]، فقال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم؟ قال: نعم، قال: فتلك عبادتهم)، والقصة مشهورة أخرجها ابن جرير الطبري، هذه القصة إذا صحت فهي دليل على أنه كان يجهل المعنى الحقيقي الشامل للعبادة، فإنه كان يظن أن العبادة هي الركوع والسجود، فبين له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إطاعة الغير في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله عبادة له؛ لأن هذا من خصائص الألوهية التي لا تنبغي أن تكون إلا لله عز وجل، ومع ذلك كان يجهل هذا المعنى من المعاني الأساسية للتوحيد. كذلك كان من هؤلاء العرب من قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة حنين حينما مروا بشجرة يقال لها: ذات أنواط، يعلق عليها المشركون أسلحتهم تبركاً بها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم -وكانوا حديثي عهد بالإسلام-: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده! كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، فالشاهد: أن هذا فيه جهل

سمات الإقرار التفصيلي المرتبط بأصل الدين

سمات الإقرار التفصيلي المرتبط بأصل الدين الإقرار التفصيلي المرتبط بأصل الدين يتسم بالسمات الآتية: أولاً: النسبية: قد يصح الخبر لدى مكلف ولا يصح لدى آخر، أو يصح عند هذا الثاني، ولكن يكون عنده من الأخبار الأخرى ما يعارضه، فيجب على الأول من الإيمان به والإذعان له ما لا يجب على الثاني، وليس بالضرورة أن يكون هذا الثاني مصيباً، أو أن يكون مأجوراً؛ فقد يكون مخطئاً، وقد يكون آثماً بتقصيره في النظر أو في طلب العلم من مظانه وعلى يد أهله، ولكننا نتحدث فقط عن ثبوت أصل الدين وانخرامه. فأصل الدين التصديق والانقياد، ويخرم ذلك التكذيب أو الرد -الرفض-، ولكن يشترط لانخرامه: أن يصح الخبر لدى المكلف سالماً من المعارض، أي: أن يرده بغير تأويل، فإن رده بغير تأويل هل يكفر بذلك؟ A لم يكفر أهل السنة المعتزلة وإن لم يقروا -مثلاً- باعتقاد رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، والذي ثبت بأحاديث متواترة، لكنهم هم لا يثبتون تواترها، ما من شك أن التكذيب بمثل هذه الأخبار قد لا ينفك عن الإثم، لكن الكلام عن زوال عقد الإسلام وانخرامه وخروج الإنسان من الإسلام بشيء من ذلك. فيشترط لانخرام عقد الإسلام أن يصح الخبر لدى المكلف سالماً من المعارض فيرده بغير تأويل. والخوارج كذبوا أحاديث الشفاعة وهي متواترة، وكذبوا بالرجم وهو أيضاً متواتر، فهم لا يقرون بتواتره، بل يتأولون في ذلك، بل ربما يطعنون في رواتها من الصحابة، أو يكفرونهم والعياذ بالله! فالمقصود: أن هذا ليس رداً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون من باب الطعن في الرواة، أو تأويل مثل هذه الأحاديث، فإن كذب المرء بما لم يصح عنده فلا يكفر، وعندنا شيوخ مشهورون ويشار إليهم بالبنان ويكذبون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يحكم عليهم بالكفر؟ الجواب: لا يحكم عليهم بالكفر؛ لأنه لا يقصد تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل يوجه طعنه إلى رواة الأحاديث، وبغض النظر هل هو آثم في هذا أو معتدٍ؟ هذه قضية أخرى، لكن الكلام في أن الشخص إن كذب بما لا يصح عنده لا يعتبر مكذباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو مكذب لمن نقلوا إليه خبره، فلا ينخرم بذلك إيمانه المجمل، وهو باقٍ على أصله، فإن رد إنسان دلالة لفظ بتأويل فاسد فهو لم يرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره، وإنما تعلق بما ظنه التأويل الصحيح لأمره صلى الله عليه وآله وسلم اعتماداً على دلالات نصوص أخرى، وعلى هذا الأساس لم يحكم السلف بكفر أصحاب الأهواء رغم ما ورد بشأنهم من الوعيد الغليظ عذراً لهم في التأويل، واعتباراً بما عندهم من الإيمان المجمل، اللهم إلا من كان منهم منافقاً في الباطن. هذا فيما يتعلق بمسألة التصديق المجمل والالتزام المجمل. وقد يحصل عدم تصديق أو تكذيب وعدم انقياد من إنسان، ولا يكفر بذلك؛ لأن هذا نشأ عن تأويل لا عن تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام أو رد حكمه؛ لأنه لا يثبته أصلاً ولا يعترف أنه حكمه، أو يثبته لكنه يؤوله، فيأثم بذلك، وإن لم يعذر فهو يكون آثماً مقصراً في ذلك لكن لا يكفر بمجرد ذلك. وأما بالنسبة للتبعض والزيادة والنقصان فهذا ليس شيئاً واحداً متماثلاً في كافة المؤمنين، وإنما هو يتبعض ويتفاوت ويختلف من شخص إلى آخر بالنقصان والزيادة، وهذا التفاوت يكون إما بالكيف، كما ذكرنا تفاوت الناس في درجات التصديق، أو التفاوت في أعمال القلوب كالحب والخشية والإنابة والتوكل ونحوها، ومنها ما يتعلق بالكم كتفاوت التصديق والمعرفة التي في القلوب بتفاوت مقدار الإحاطة بأخبار الشريعة وأوامرها، فليس تصديق من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم مجملاً مع علمه بقليل من أخباره كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً ومات بعد معرفة النزر اليسير من أوامره صلى الله عليه وسلم كمن عاش حتى علم ذلك مفصلاً وأطاعه فيه. أيضاً: هذا التصديق والانقياد التفصيلي لا يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام من البداية، وإنما يتوقف عليه استمرار هذا الحكم وعدم انقطاعه. فهنا يحصل خلط -كما حصل من الكاتب- بين ما يجب تحققه من أصل الدين لثبوت عقد الإسلام، وبين ما يجب بعد ذلك لاستمرار الحكم بالإسلام وعدم انقطاعه. فهناك ثمة فرق بين ثبوت عقد الإسلام وبين استمرار الحكم به وعدم انقطاعه، ففي الأول عند ثبوت عقد الإسلام نقبل الإجمال، وفي الثاني يحصل التفصيل النسبي وليس المطلق على ما بينا.

نواقض الالتزام بالتوحيد، ومتى يعتبر عارض الجهل

نواقض الالتزام بالتوحيد، ومتى يعتبر عارض الجهل سبق أن بينا أن الكاتب ذكر أركاناً ثلاثة في حد الإسلام التفصيلي: الحكم والنسك والولاية، فقال: إنه يقصد بركن الحكم: قبول شرع الله ورفض ما سواه، ومقصوده بالنسك: إفراد الله بالعبادة، ومقصوده بالولاء: موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين، فهذه هي أركان توحيد العبادة كما عرضها، وهي عنده حد الإسلام الذي لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، والذي يتوقف على استيفائه من البداية ثبوت عقد الإسلام. فما ذكره الكاتب في هذا الكلام ليس هو حد الإسلام الذي يتوقف على تحققه بادئ ذي بدئ ثبوت عقد الإسلام، فهذا حقيقة الإسلام التي يتوقف عليها بقاء الحكم بالإسلام. فما يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام هو الإقرار المجمل بتوحيد العبادة، والالتزام المجمل بتوحيد الألوهية، وهذا هو الذي تترجمه كلمة التوحيد، فمن أقر بذلك ظاهراً وباطناً فقد ثبت له عقد الإسلام. ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل هذا الإجمال التي يتعلمها الناس تباعاً، ولا يتوقف الحكم بالإسلام على الإحاطة بها من البداية، ولكنها تشترط لبقاء الحكم بالإسلام واستمراره بعد ثبوته بالعقد المجمل، فهذا الإقرار المجمل هو الذي لا عذر فيه بالجهل، بمعنى: أن من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فليس بمسلم كائناً ما كان. هذا ما عليه الأولون والآخرون من المسلمين. أما تفاصيل العبادة ومفرداتها، وتفاصيل الشرك وصوره؛ فذلك هو الذي أتى لبيانه الأنبياء، وكثير منه لا يعرف إلا من جهتهم، فليس هو مما يتوقف على معرفة ثبوت عقد الإسلام الأول، وإنما يجب على المكلف الإذعان لما عرفه منه، وقامت به عليه الحجة وإلا كان ناقضاً للالتزامه المجمل. نضرب مثالاً يوضح هذا الأمر: لو أن رجلاً التزم لملك من الملوك بأن يؤدي إليه حقه، وأن يدخل في طاعته، وقطع على نفسه موثقاً بذلك على جهة الإجمال أنه سيطيعه طاعة مطلقة، وينقاد لحكمه انقياداً مطلقاً، ويؤدي حقه تماماً، فهو بهذا الالتزام المجمل يدخل في عداد أوليائه وأتباعه، ولا يصدق على هذا الرجل أنه نقض موثقه، أو تخلفت عنه صفة ولائه لهذا الملك إلا إذا تعهد أن يؤدي ما علم أنه حق للملك إلى غيره، أو تعمد أن يرد عليه ما علم أنه من أمره، يعني: إذا تعمد ذلك قصداً وتركه إصراراً وتناقض -كما يقولون- بكل نيته، وتعمد أن يرد أمر الملك، أو أن يؤدي حق الملك إلى غيره، فهذا هنا يكون ناقضاً لهذا العهد، لكن إذا اشتبه عليه حق الملك بحق غيره في أمر من الأمور فأداه إلى غيره جهلاً أو خطأً فلا يصدق عليه أنه ناقض لموثقه عند من يعلم جهله وخطأه، كذلك أيضاً لو رد ما لا يعلم أنه من أمره؛ لأن مناط النقد وتخلف الولاء تعمد أداء ما علم أنه من حقه إلى غيره، وتعمد التمرد والرد لما علم أنه من أمره، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، هذه مجرد ضرب أمثال، ولا شك أن هناك فرقاً بين هذا الرجل الذي أخذ الميثاق بالانقياد المجمل للملك وأداء حقه وبين غيره، فإذا تعمد مخالفة ذلك فهو ناقض للميثاق، لكن إذا خالف ذلك جهلاً أو خطأً بغير قصد، فلا يحكم عليه بأنه ناقض لهذا الميثاق، فلابد من اعتبار عدة أشياء حينما نتكلم في هذه القضية. فأول هذه الأشياء: اعتبار عارض الجهل: فالناس يتفاوتون في العلم بتصور العبادة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيل الشرائع تفاوتاً عظيماً، ولا ينقض أصل الدين إلا بما علم المكلف أنه ناقض له، ولا يمكن إهدار دلالة الالتزام المجمل بالإسلام ومقتضاها من ثبوت عقد الإسلام وعصمة الدماء والأموال والأعراض بإخلال جزئي تلبس به المكلف جاهلاً بحكمه مع عقد قلبه على الإقرار بالإسلام كله تصديقاً وانقياداً، والالتزام المجمل بعبادة الله وحده، فمثلاً: في باب النسك والعبادة قد يجهل المرء تكييف بعض الأعمال بأنها عبادة، ولا يجوز أن تصرف إلا لله، فيصرفها لغيره لا على أنها صورة من صور العبادة قد صرفها لغير الله، ولكن على أنها صورة من صور الحب للصالحين وتوقيرهم، مع انعقاد قلبه على أن العبادة لا تكون إلا لله، ولا يجوز صرفها لغيره بحال، فهذا بالنسبة للجهلة من العوام، فالشخص الذي لديه الالتزام المجمل بالإسلام، والإقرار المجمل بعبادة الله وحده، ولديه ما يميزه عن عبَّاد الأصنام في مكة الذين عارضوا الالتزام المجمل بالتوحيد فهو مسلم، ففرق بين شخص يعارض الالتزام المجمل بالتوحيد، والإقرار المجمل والانقياد المجمل بالطاعة، وبين شخص دخل وثبت له عقد الإسلام ثم حصل منه إخلال جزئي بحقوق التصديق أو الانقياد. فهؤلاء المشركون في مكة كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، ويأنفون أن يقروا إقراراً مجملاً بالتوحيد وبالانقياد، فهم هم الذين قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فيتعجبون من دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد، ويقرون بأن العبادة تكون شركة بين الله وبين الأصنام، فيقرون بأنهم يعبدون الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ودينهم هو الشرك بالله تبارك وتعالى، وعقيدتهم تعدد الآلهة وتوزيع العبادة بينها على تفاوت بينها في القدرة على النفع والضر والجدارة باستحقاق العبادة، فمن تلبس بشيء من الشرك جهلاً بأنه شرك، فما ما دينه؟ A دينه الإسلام، وعقيدته المجملة الالتزام المجمل بعبادة الله تبارك وتعالى وحده، وما وقع فيه من مظاهر الشرك الذي يناقض هذه الحقيقة سببه أنه يلتبس في ذهنه ببعض الصور الأخرى المشروعة كالحب، وكالولاء والتوقير للصالحين ونحو ذلك. فلو سألت الوثني: لمَ تعبد الأصنام؟ لأقر بعبادتها، وقال: أعبد الأصنام لأنها تقربنا إلى الله زلفى. وأرجو الانتباه إلى أننا لا ندافع عن عبادة غير الله، ولا نقول: إن هذا شيء نرضى به ونقبله، بل هذا من أكبر المنكرات، ومن أعظم أسباب البلايا التي تصيب أمتنا، وفي الصميم من عقيدة التوحيد، وواجبنا هو تعليم هؤلاء الناس؛ لأن العارض الذي حال دون فهم حقيقة الإسلام هو الجهل، فالواجب هو أن نقوم بتعليمهم لا بتكفيرهم، فالواجب أن تزيل هذه الصفة القبيحة صفة الجهل التي وصلت ببعضهم إلى أنه جهل معاني أساسية من التوحيد فوقع في شيء من الشرك وهو لا يعلم أنها من الشرك، ولم يبلغه من النصوص ما تقوم عليه به الحجة بطريقة تدفع عنه كل شبهة بحيث يقر بأن هذا شرك، وتقوم عليه الحجة بذلك. وينعكس الأمر إذا سألت واحداً من المشركين: لماذا تعبد الأصنام؟ فإنه يقر أنه يعبد الأصنام؛ ويزعم أنها تقربه إلى الله زلفى، وإن سألت واحداً من عموم المسلمين الذين يتلبسون بشيء من شرك النسك جهلاً بأن هذا شرك: لمَ تعبد أصحاب القبور؟ أجاب على الفور: معاذ الله أن نعبد غير الله! ونطق على الفور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه طريقة الناس العوام، فإذا قلت لأحدهم: لماذا تعبد الحسين؟ لماذا تعبد البدوي؟ لماذا تعبد أبا العباس؟ فسيقول لك: لا إله إلا الله، نحن لا نعبدهم ولا نقصد ذلك، إنما هذه من محبة الصالحين، ومن كذا وكذا، ويلتمس مثل هذه التبريرات. فهذا الرجل الأخير لديه الالتزام المجمل بالإسلام، والإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المجملة من عبادة غير الله لديه من كل هذا ما يفرقه عن الوثني قبل البعثة، فإن ذلك الوثني انعقد قلبه على الرفض المجمل للتوحيد، والالتزام المجمل للشرك، وتوزيع العبادة بين الله والأصنام، فإهدار الالتزام المجمل بكلمتي التوحيد إنما هو لوجود خلل جزئي تلبس به صاحبه ذاهلاً أو جاهلاً عن معارضته لهذا الالتزام المجمل معتقداً اندفاقه منه، يعني: أنه يظن أن هذا من مقتضيات التوحيد، ومحبة الصالحين، وسرعان ما يحتج بقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وهو يعاديك ظناً منه أنك بهذا تعادي أولياء الله، مع أنه لا يحسن تطبيق الآية في موضعها، ويجهل أن هذا ينافي العقيدة، فهو يعتقد أن هذا الفعل الذي يفعله ينبثق وهو من لوازم محبة أولياء الله، وهذه أشياء تتوجب المراجعة والتأمل في موقفه حتى تقف على مكمن الداء، لكن في نفس الوقت نحن لا ننكر أن واقع الحال أن هناك طوائف من هؤلاء وصل بهم الحال إلى أنهم نقضوا حتى الالتزام المجمل بالخروج الصريح من الملة، وقد يكون بينهم من المنافقين والزنادقة خلق كثير، لكن نتكلم الآن عن الظاهرة العامة، والواضح الأغلب في عوام المسلمين كما قرر أهل العلم: عدم تكفير أهل الأهواء في الجملة، وإن كان هذا لا يمنع أن يوجد بينهم من هو منافق في الباطن وكافر على الحقيقة.

حكم الديمقراطية

حكم الديمقراطية هذا فيما يتعلق بالنسك في باب الحكم، فقد تختلط بعض الطرق الحكمية الكفرية ببعض الطرق أو الصور الشرعية في حس بعض الجهلة والعوام، فيتحمسون لها ويدعون إليها؛ لا على أنها دعوة إلى تحكيم غير شريعة الله بل باعتبار أنها مما جاء بنظيره الإسلام، وقبل أن نتكلم عن موضوع الديمقراطية: هل ينكر أحد أنه يوجد خطباء مشهورون ومرموقون، ويشهد لهم بحب الإسلام، والبذل والتضحية في سبيله، ومع هذا يتكلمون على فضائل الديمقراطية ويطالبون بها؟! هذا واقع؛ فنحن نسمع ونرى خطباء من الناس الصالحين وأهل الخير -ولا يظن بهم إلا الخير- ومع ذلك -وللأسف ولوجود القصور في فهم حقائق التوحيد- يذكرون كلمة الديمقراطية على أنها الأمل العظيم للأمم، ويقولون: أين الديقراطية؟ هذه ليست ديمقراطية، نحن نطالب بالديمقراطية. فهذا يقع من خواص المسلمين نتيجة التباس الحق عليهم، فما بالك بالعوام؟! فصارت هذه الديمقراطية فتنة العصر، وهي مقياس المثالية في الحكم، ويتحمس في المطالبة بها كثير من المخلصين، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون طريقة من طرق الحكم الكفرية لما تقوم عليه من جعل السيادة العليا المطلقة للأمة، وبدل ما كان يعبد إله واحد تعبد الأمة، فالشعب صار هو الإله، والشعب هو الذي يشرع، فليس إلهاً واحداً ولا اثنين، بل ملايين الناس يشرعون وتؤخذ أصواتهم، فإذا اتفقوا على أن الخمر حلال فهي حلال؛ لأن الشعب أراد ذلك، حتى قال أحد الهالكين عليه من الله ما يستحقه: نعم للدستور ولا للشريعة!! قالها بصراحة، فالديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، فالشعب هو المشرع، وهو الذي يحلل وهو الذي يحرم، والشعب له السيادة العليا، والقانون هو التعبير عن إرادة هذه الشعوب الحرة، فالأمة في ظل النظام الديمقراطي هي التي تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء، ففي الحقيقة صارت الأمة بهذا المعنى صنماً عصرياً لا تقل خطورته عن خطورة ما مضى من الأصنام، ولا تقل عبادته شركاً عن عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها، وما يقال عن الديمقراطية يقال عن الاشتراكية وغيرها من الطرق الحكمية الكفرية المعاصرة، فما من شك أننا نفرق في حسنا بين من يدعو إلى الطرق ويتحمس لها ممن ليس بمسلم، أو من لم يعرف عنه التزامه المجمل بتطبيق الشريعة، وبين أن يدعو لها بعض الإسلاميين الذين عرفوا بالتزامهم المجمل بالإسلام. ولو أننا طبقنا معيار كاتب كتاب (حد الإسلام) في استيفاء حقوق النسك والولاية والحكم، ولا نحكم على إنسان بالإسلام إلا بعد استيفاء هذه الحقوق، وطبقناها بغير تحفظ لحكمنا بكفر الجميع على الفور لتلبسهم بقبول غير منهج الله تبارك وتعالى، والدعوة إلى جعل الحكم للأمة بدلاً من الإقرار به لله، وكل ذلك كفر صريح مناقض لما سماه هو حد الإسلام. فإن قال من يأخذ بهذا الكلام: إن هؤلاء لا يعلمون أن الديمقراطية دعوة إلى تحكيم غير شريعة الله؟ فالجواب أن نقول: ومثلهم أيضاً هؤلاء الذين يستغيثون بأصحاب القبور لا يعلمون أن ذلك توجيه للعبادة إلى غير الله، فإن كان الأولون يفهمون أن الديمقراطية هي الشورى، فإن الآخرين تلتبس عليهم، ويقولون: الإسلام دين الديمقراطية، ويأتون بالأدلة على الشورى، فقد اختلطت عليهم المفاهيم الأساسية، فهؤلاء الآخرين من القبوريين ونحوهم يفهمون أن الاستغاثة هي من جنس التعظيم المشروع للصالحين من عباد الله الذين أعطاهم الله ذلك بقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر:34]، فيسيئ فهم الآية، ويظن أن الصالحين لهم ما يشاءون عند ربهم، وأن منهم هؤلاء المقبورين. فما ذكر عن الديمقراطية والاشتراكية مجرد أمثلة لما يقع أو لما يمكن أن يقع الناس فيه من جهل في باب الحكم، ويقاس عليه في ذلك غيره.

بيان أحكام العذر بالجهل في الولاية ونحوها

بيان أحكام العذر بالجهل في الولاية ونحوها أما في باب الموالاة: فقد يجهل بعض الناس أن هذه الصورة بعينها من الموالاة مما يخرج صاحبها من الملة؛ لأن مسمى الولاية لأعداء الله يقع على شعب متفاوتة تتفاوت من المعصية إلى الكفر، واختلاط هذه بتلك مما قد يلتبس على كثير من أهل العلم، فما بالك بالعامة وأشباه العامة؟ من ناحية أخرى قد يجهل الناس كفر هذا الذي يتولونه؛ لأن كفره لم يصل إلى حد معلوم بالضرورة من الدين، فيقعون في الموالاة له لا باعتبار أنه كافر، ولكن باعتباره من عصاة أهل القبلة الذين نواليهم لإسلامهم ونبغضهم لعصيانهم، ولقد وجد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يتولى عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق في المدينة جهلاً منهم بحاله، ووجد في تاريخ الإسلام من يتولى ابن عربي النكرة وغيره من أئمة الكفر جهلاً بحالهم، أو إحساناً للظن بهم، وفي هؤلاء من الفقهاء والعلماء عدد كبير من يدافع عن ابن عربي أو يحسن الظن به، أو يتأول له فيما نطق به من الأشياء الفظيعة، فمثلاً: القاسمي إمام من أئمة العلم ورجل له دوره في التجديد في دعوة الإسلام، ومع ذلك فهو ممن اعتذر وتلطف مع ابن عربي، وهكذا الإمام ابن حجر الهيتمي صاحب الزواجر، والإمام ابن عابدين الحنفي صاحب الحاشية المعروف، وغيرهم كثيرون، فالغالب في أخطاء العلماء أن مردها إلى التأويل، والغالب في أخطاء العامة أن مردها إلى الجهل. فالمقصود من هذا الكلام: أن نمهد السبيل لعذر العامة، فإن عذر الجهلة والعوام أولى من عذر الفقهاء والأعلام.

حجج القائلين بالعذر بالجهل وحجج مخالفيهم

حجج القائلين بالعذر بالجهل وحجج مخالفيهم أيضاً: لعدم العذر بالجهل عند القائلين به في هذا المقام أحد مأخذين: المأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن للإسلام حداً لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، فمن لم يأت به فهو كافر سواء كان كفره عناداً أم جهلاً. المأخذ الثاني: أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فحيث وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة. فالمأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن حد الإسلام لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه. هذا هو الذي درج عليه الكاتب، ولهذا لا يفرق في أحكام الدنيا بين وجود مظنة العلم أو عدم وجودها، فحد الإسلام عنده معيار موضوعي بحت؛ إن وجد وجد الإسلام، وإن تخلف منه شيء تخلفت صفة الإسلام بصرف النظر عن حال صاحبه من علم أو جهل، وحال مجتمعه من وجود مظنة العلم أو عدم وجودها. فهذا المأخذ كما بينا من قبل مرفوض بلا نزاع عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين؛ لكنه مقبول فيما يتعلق بالإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بعبادة الله وحده لا شريك له. وبهذا الكلام تنكشف مغالطة من يزعم: بأن إقرار العذر بالجهل في قضايا أصل الدين سوف ينتهي بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، فيقولون: أنتم تتمادون في العذر بالجهل، وسوف يصل بكم الأمر في النهاية إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، وأخذ بعضهم في وقت من الأوقات يتفكه ويتندر فيقول: الأخ كارتر والأخ بيجن والأخ كذا ويذكرون أسماء أناس من الطواغيت والكفار، فيقولون: هم على أساس هذا المنهج إخوة لنا وهم أيضاً معذورون، فهذا الكلام لا محل له؛ لأن هؤلاء الذين يذكرهم الأخ لم يثبت من أحد منهم الإقرار المجمل بالإسلام ولا الالتزام المجمل بالإسلام، فكيف نسويه بمن نطق الشهادتين، وأعلن أنه قابل من حيث الإجمال بتوحيد الألوهية، وقابل بتوحيد الطريق إلى الله وهو الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يستويان؟ هل يستوي هذا مع هذا؟ شتان بينهما، فمن أتى بما يخالف توحيد العبادة أو توحيد الطريق الموصل إلى الله جهلاً بأن هذا يخالف، فواجبك نحوه أن تعلمه الحق، وترده إلى مقتضيات الإقرار المجمل والالتزام المجمل. إذاً: الجواب على هذه الشبهة التي هي: أن التمادي في قضية العذر بالجهل سوف يصل بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس والشيوعيين وغيرهم، A أن الإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بالتوحيد لا عذر فيه بالجهل بالإجماع، فمن لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ولم يبرأ على الجملة من كل دين يخالف دين الإسلام فهذا ليس بمسلم بلا نزاع، سواء كان كافراً جاهلاً أو كافراً معانداً، لكن الذي ثبت له عقد الإسلام يبحث عما إذا كان جاهلاً فلا يحكم عليه بالكفر حتى تقام عليه الحجة. فليس موضع النزاع في الإيمان المجمل، والتصديق المجمل، والإقرار المجمل بدين الإسلام والبراءة مما خالفه، وإنما النزاع في القضايا التفصيلية لأصل الدين كالدعاء، والنذر، والذبح، والتحاكم إلى شريعة الله وحده، فهذه بعد ثبوت عقد الإسلام بالإقرار المجمل به جملة وعلى الغيب يعذر فيها الجاهل ولا يصار إلى تكفيره بهذا التفريق بين الإجمال والتفصيل، فيسقط الاحتجاج بحال المشركين قبل البعثة، وأن كفرهم لم يتوقف على بيان أو إعذار، فقد خوطبوا من البداية بقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، لأن هؤلاء قد نقضوا العقد الأول، وانعدم عندهم الالتزام المجمل بالحنيفية ودين إبراهيم عليه السلام. فالمشركون قبل البعثة لم يوجد لديهم الالتزام المجمل بالتوحيد، أو الإقرار المجمل بدين إبراهيم، بل كان دينهم الذي يدينون به هو تعدد الآلهة، وتوزيع العبادة بينها وبين الله عز وجل، وهذا هو دين آزر وليس هو دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فأين هذا من المسلم الذي أقر إقراراً مجملاً بالإسلام وبالانقياد، وإذا قلت له: لماذا تعبد البدوي؟ لماذا تعبد الحسين؟ يقول: لا إله إلا الله أنا لا أعبدهم، الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، إلى آخر الحجج المحفوظة والواهية، والتي لا تسول له هذا الفعل، وهو منكر عظيم، ونحن لا نقر بهذا المنكر. فما من شك أن هناك فرقاً بين من قال الله عز وجل في شأنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، ويقول عز وجل: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:4 - 7] وبين من تلبس بشيء من الشرك من أهل القبلة، فهذا لا يجوز إهداره عند تحرير المسائل وتنقيح المناط، فقياس من دينه الإسلام، واعتقاده المجمل هو التوحيد، وإن خالف مقتضاه في بعض المسائل بجهل أو تأويل قياس مثل هذا على من يكفر بالتوحيد ويكذب المرسلين قياس مع الفارق، ولا يعرف من قال بمثله في تاريخ الأمة إلا الخوارج، فهذا فيما يتعلق بالمأخذ الأول للقائلين بعدم العذر بالجهل في هذه القضية. المأخذ الثاني: وهو أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فمتى وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة. هذا الكلام في الجملة لا منازعة فيه، لكن لابد أن نفرق في هذا المأخذ بين قضايا الأصول وقضايا الفروع، ولا نهدر اعتبار اختلاف الأزمنة والأمكنة في تصديقه، فأبرز ما يميز هذا المأخذ: عدم التفريق بين القضايا على أساس الأصول والفروع، فينبغي في مسألة العلم وعدم مظنة العلم أو عدم وجودها أنه لا يحصل التفريق بين قضايا الدين على أساس الأصول والفروع، بل على أساس المعلوم من الدين بالضرورة وغيره، أو علم العامة وعلم الخاصة، فالمعلوم من الدين بالضرورة أو علم العامة لا يتعلق بالأصول فحسب، وإنما يتعلق بالأصول والفروع على حد سواء، فمثلاً: من المعلوم من الدين بالضرورة: وجوب الأركان الخمسة في الإسلام، فلا يتصور أبداً أي مسلم يجهل أن الصلاة ركن من أركان الإسلام. وهكذا تحريم أمهات الفواحش من الزنا وشرب الخمر، هذا من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا من الفروع، أيضاً الإيمان المجمل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من المعلوم من الدين بالضرورة عند المسلمين، كما أن علم الخاصة أو ما سوى المعلوم من الدين بالضرورة لا يتعلق بالفروع فحسب، بل منه ما هو من الفروع، ككثير من أحكام الطلاق والفرائض وغيرها، ومنه ما يتعلق بالأصول ككثير من مسائل الصفات وأحوال الآخرة. أيضاً: يحصل في هذا الأمر اختلاف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فالمعلوم بالضرورة في نطاق العلماء يختلف عما هو كذلك في نطاق العوام وأشباه العوام، فالمعلوم بالضرورة في دائرة العلماء قد يختلف عما هو معلوم بالضرورة عند العوام أو أشباه العوام. المعلوم بالضرورة في زمان تمكين الدين وقيادة الربانيين يختلف حالة عن المعلوم بالضرورة في أزمنة غربة الدين وقيادة المفسدين وفتور الشرائع، والآن العلماء قائمون بتعليم الناس أركان التوحيد وحدود التوحيد وحقوق العبادة إلى آخر هذه الأشياء، وهناك تفاوت بين بلد وآخر يقوم فيه علماء السوء بتزيين الباطل وخلطه على الناس بلبوس الحق، والدفاع حتى عن مثل هذه الشركيات التي تنافي أصل الدين. فالمعلوم بالضرورة في دار الإسلام وفي مواقع العلم والعلماء يختلف بالضرورة عن المعلوم بالضرورة في دار الحرب أو البوادي المنعزلة، فعندما نقرر: أنه عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين لابد من اعتبار عارض الجهل؛ فإننا لا نقرر ذلك خطة ثابتة مطردة في جميع هذه القضايا، وفي جميع الأشخاص، وفي كافة الأزمنة والأمكنة، وإنما نقرر فقط أن يؤخذ هذا العارض في الاعتبار، فمن كان لاحتمال جهله وجه عذر، ومن لم يكن كذلك لم يعذر، وإنما الذي ينبغي أن نرده بلا تردد هو المأخذ الأول لهذه القضية، وهو الخلط بين الإجمال والتفصيل في قضية أصل الدين، واعتبار كافة المسائل التفصيلية في توحيد العبادة مما لا يثبت عقد الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفائه، ولا يعذر أحد بجهله، وقد فصلنا الكلام في هذا عند مناقشة المأخذ الأول، هذا فيما يتعلق باعتبار الجهل، ويبقى الكلام في اعتبار التأويل والإكراه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [15]

الإيمان والكفر [15] جرى علماء الإسلام في أحكامهم العامة على الناس بما يظهر لهم، ولم يخصوا معيناً بكفر أو فسق أو ظلم إلا بعد أن يجتمع فيه الشروط وتنتفي الموانع، ويعتبر عارض الجهل أحد أهم هذه الموانع، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن العوارض الصارفة أيضاً للحكم بالكفر أو الفسق: عارض التأويل السائغ.

اعتبار عارض التأويل في التكفير

اعتبار عارض التأويل في التكفير تقدم كلام صاحب كتاب (حد الإسلام) التفصيلي في تقريره لما أسماه بـ: حد الإسلام، والذي ذهب إلى أنه يتكون من ثلاثة أركان: الحكم، والولاية، والنسك، وأن مقصوده بركن الحكم: قبول شرع الله ورفض ما عداه، ومقصوده بالنسك: إفراد الله بالعبادة، ومقصوده بالولاية: موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين. هذا هو ما أسماه بـ: حد الإسلام، والذي لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، والذي يتوقف على استيفائه منذ البداية ثبوت عقد الإسلام، وصححنا هذا الكلام على أساس أن الذي ذكره ليس هو حد الإسلام الذي يتوقف على تحققه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام، وإنما هذه هي حقيقة الإسلام الذي يتوقف عليها بقاء الحكم بالإسلام. أما ما يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام فهو الإقرار المجمل بتوحيد العبادة، والالتزام المجمل بتوحيد الألوهية، وهو الذي يكفي في التعبير عنه كلمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فمن أقر بالشهادتين ظاهراً وباطناً فقد ثبت له عقد الإسلام، ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل هذا الإجمال، وتعلمه الناس تباعاً، ولا يتوقف الحكم بالإسلام على الإحاطة بها منذ البداية، لكنها تشترط لبقاء الحكم بالإسلام واستمراره بعد ثبوت العقد المجمل. وذكرنا أن هذا الإقرار المجمل هو الذي لا عذر فيه بالجهل، فكل من لم يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فليس بمسلم مهما كان مآله في الآخرة. أما تفاصيل ومفردات العبادة، وتفاصيل الشرك وصوره؛ فهذا الذي أتى ببيانه الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالإنسان ملتزم إزاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقر إقراراً مجملاً بتوحيد الألوهية، وإقراراً مجملاً بالعزم على الالتزام بما يشرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما يبلغه من هذه الشرائع، ثم إذا أردنا الحكم على الإنسان فيجب أن نضع في اعتبارنا أولاً: عامل الجهل، وناقشنا هذا الكلام بشيء من التفصيل، أما العامل الثاني بعد عامل الجهل الذي ينبغي أن نراعيه فهو: اعتبار التأويل. حينما نطبق تفصيلياً قضايا التبديع والتكفير في مجال الحكم على معين من الناس يجب أن نراعي قضية التأويل، ففي مجال النسك مثلاً لابد أن نفرق بين من يجترءون على الوقوع في الشرك بغير تأويل ولا شبهة، وبين من يتلبسون بشيء من ذلك تعلقاً بتأويل الكاتب، أو انطلاقاً من شبهة عارضة مع استمساكهم بعقد الإسلام، وإيمانهم ظاهراً وباطناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الجهل قد يكون عذراً كما ذكرنا في بعض الأحوال، فكذلك التأويل قد يكون عذراً، وقد أجمع علماء المسلمين على أن الذي يتأول لا يكفر، وقد يأثم لقوله على الله بغير علم، لكنه لا يكفر؛ لأن هناك فرق بين المتأول وبين المكذب تكذيباً صريحاً، وحينما نضرب الأمثلة التي نذكرها في قضية التأويل أو قضية الإكراه فليس المقصود هو الدفاع عن هذه التأويلات، فنحن لا نشك أن هذه التأويلات كاذبة، لكن نحن ننظر إليها من جهة أخرى، وهي: أن هذا التأويل يعتبر عذراً لقائله، أو عذراً للآخذ به من حيث منع تكفيره بعينه، لا من حيث الاعتراض على فساد هذا التأويل منذ البداية.

أمثلة لاعتبار عارض الجهل

أمثلة لاعتبار عارض الجهل نذكر مثالاً من الأمثلة:

دعاء غير الله

دعاء غير الله إن دعاء غير الله عز وجل والتوجه إلى غير الله بطلب الحاجات هو أعظم ما يقع فيه القبوريون من الشرك، لنرى ما عند هؤلاء القوم، أو نذكر نموذجاً مما يعتمدون عليه من الشبه والتأويلات التي تزين لهم هذا المنكر الأكبر، فالإنسان إذا استوعب وجهة نظر مخالفه، واطلع على فسادها؛ أمكنه تحديد موضع الداء وتشخيص الدواء والعلاج الصحيح له، فهناك كثير من الشبه التي يتلبس بها هؤلاء القبوريون فيما يقترفون من الشرك، ولا نشك في أن هذه شرك أكبر، فدعاء غير الله أو سؤال غير الله بما لا يقدر عليه إلا الله لا شك أن هذا هو الشرك، ولا شك أيضاً أن بعضها أغلظ من بعض، وهؤلاء الذين يدعون الموتى أو الأولياء أو الصالحين المدفونين في قبورهم، هؤلاء يقولون: إننا نعتقد أن هؤلاء الصالحين هم في الحقيقة أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون ويسمعون، ومن أجل ذلك يعتمدون على تفسير بعض النصوص التي تثبت سماع الأموات لكلام الأحياء، وهذا خلاف معروف بين العلماء يذكره علماء التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى في سورة النمل: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:80 - 81]. فيستدل الفريق هنا بما فيه خلاف بين المفسرين، فبعضهم يثبت أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زار المقابر قال: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)، ويخاطبهم بصيغة المخاطب، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل قليب بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، وذلك حينما خاطبهم فقيل له: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا، حتى إن بعض علماء السنة يذهب ويجنح إلى هذا، كالإمام الحافظ ابن قيم الجوزية في كتابه الروح، ومن المعاصرين: العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث فصل هذا البحث، ورجح أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويحسون بهم، وربما اعتمد بعض المصنفين على بعض المنامات والحكايات في هذا الباب، وهذا كخلاف فقهي ليس له هذه الحاسية الخطيرة، لكن الخطر هو في أن بعض الصوفية يأخذون من هذا الخلاف منطلقاً إلى الغلو في الصالحين ودعائهم من غير الله عز وجل، ومن هنا يقعون في هذه الشبهة، ولعل من الكتب القيمة جداً التي حققت هذه المسألة: (الآيات البينات في حكم سماع الأموات) تأليف الشيخ نعمان الألوسي وهو ابن محمود الألوسي المفسر الكبير، صاحب كتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وهو كتاب قيم بتحقيق وتعليق الشيخ: ناصر الدين الألباني يرحمه الله، فليراجعه من شاء. على أي الأحوال: فأول ما يعتمد عليه هؤلاء الذين يقعون في هذا الشرك من دعاء غير الله عز وجل: أن الصالحين أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون، وأنهم يسمعون، ويقولون: إن دعاءنا الميت ليس أننا نطلب الميت نفسه لكننا نطلب دعاءه، ونطلب منه أن يشفع لنا إلى الله عز وجل، وبناءاً على هاتين المقدمتين: أن الأموات أو الصالحين في قبورهم أحياء ليسوا بموتى، وأنهم لا يدعون الميت نفسه، لكن يطلبون منه أن يدعو لهم الله عز وجل، وطلب الدعاء من الشخص الحي جائز بلا نزاع، فقالوا: لا وجه للتفريق بين الحياة في الدنيا والحياة في البرزخ! وهذا كلام فيه فساد كبير، وإذا قلت لهم: لكنكم تتوجهون بالطلب إلى الميت مباشرة، وهذه هي حقيقة دعاء غير الله عز وجل، قالوا: الشخص الذي يفعل هذا مخطئ في التعبير، يريد وساطة الميت أو شفاعته بالدعاء كما يشفع الحي من الناس إلى أخيه بالدعاء الصالح له، فهذا خطأ ينبه عليه من يفعله؛ لأن المقصود من الميت هو مجرد الدعاء والشفاعة إلى الله، ويقولون: نحن نجزم أن الميت لا يقدر بنفسه على شيء من النفع والضر، ولا التصرف في شيء من دون الله، والواسطة الشركية هي التي يعتقد مشاركتها في التأثير بالرزق، أو الخلق، أو الإحياء، أو الإماتة، لا التي يستشفع بها ويطلب منها الدعاء. أيضاً قالوا: قد يأتي الاستشفاع بالشخص في صورة الطلب المباشر منه، فيكون من باب نسبة الشيء إلى سببه، ولذلك نظائره في السنة الشريفة، وهذا كله محاولة للهروب من حقيقة هذا المنكر بضروب من التأويلات المختلفة. ومما يلبسون به على الناس ويستدلون به في هذا المقام: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو من أهل الصُفَّة رضي الله عنه- قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني؟ -يعني: أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يجازيه على هذه الخدمة التي يخدمها إياه- فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود)، قالوا فهذا ربيعة يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرافقته في الجنة، وكان هذا جواباً منه عن قوله صلى الله عليه وسلم: سلني؟ ومعلوم أن الجنة والنار بيد الله عز وجل، وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الشفاعة والدعاء، وما من شك أن ربيعة كان يعلم ذلك، فجاء طلب الشفاعة في صورة طلب المقصود من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود. فالمقصود: ماذا تريد أن أدعو الله لك به؟ والقياس هنا هو قياس مع الفارق؛ فهناك فرق بين الحياة البرزخية وبين الأحياء على الحقيقة في هذه الدنيا، فهم يقولون: يرجع الأمر النهائي إلى التوسل، والتوسل موضع نظر، وقد أجازه كثير من أئمة العلم، والمقصود من الكلام في هذا السياق: بيان ما يعتمد عليه القوم من الشبه والتأويلات في استجازة ما يدعون به من البدع والخرافات، فمع الجزم بأن هذه الشبه متهافتة، وأن هذا التأويل فاسد وباطل، لكن لا يسعنا إلا أن نسلك القوم في عداد المبتدعة مع وجود هذه الشبهات، خاصة إذا كانوا من العوام البسطاء الذين يلبس عليهم بالآيات وبالأحاديث بعد تحريفها عن معانيها، فلا نتردد في أن نسلكهم في مسلك المبتدعة المنحرفين، لكن نتردد أطول ونتوقف كثيراً كثيراً قبل تكفير شخص معين منهم ينحو هذا المنحى بمثل هذا التأويل، فهذا النوع من التأويل نثبت عليه الأمر من باب الالتزام بطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما يفعله ليس منافياًَ للتوحيد الذي أقر به في كلمة الشهادة، فمثل هذه الأدلة التي تجدونها في كتب بعض الصوفية، وما كتب الغماري منكم ببعيد، وأنت إذا طالعت كتب أغلب العائلة الغمارية سواء أبو الفيض أو أبو الفضل تجد كثيراً من الشبهات التي يدافعون بها عن مثل هذه الضلالات بشتى التأويلات والتمحلات.

عدم تكفير السلف للضالين بسبب الشبهات

عدم تكفير السلف للضالين بسبب الشبهات إذا كان السلف قد عذروا الجهمية والمعتزلة رغم ما ذهبوا إليه من تعطيل صفات الله عز وجل، وعذروا من أنكر الشفاعة، وليس المعنى أنهم لم يؤثموا ولم يبدعوا ولم يفسقوا، لكن المعنى: لم يكفروهم بأعيانهم؛ لأجل شبهة التأويل التي وقعوا فيها؛ فالخوارج مثلاً: أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحاب الكبائر، وأنكروا أيضاً كثيراً من أحوال الآخرة، والمعتزلة أنكروا رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فالسلف عذروا أهل الأهواء في الجملة فلم يكفروهم بأعيانهم، فإذا صلح التأويل عذراًَ مع اثنتين وسبعين فرقة من ضُلاّل هذه الأمة فينبغي ألا يتخلف هذا العذر مع هؤلاء الصوفية الجهال، خاصةً العوام منهم الذين لا علم عندهم، وإنما يلبس عليهم بمثل هذه الشبهات وهذه التأويلات الفاسدة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا بدعة ابتدعها -ولو دعا الناس إليها- كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بيان بعض ما تأوله من البدع؛ فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ونحن إذا طالعنا الأحاديث التي وردت في الخوارج، وكيف تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم حينما قال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم)، وقوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقوله: (اقتلوهم فإن في قتلهم ثواباً أو أجراً لمن قتلهم). وهكذا أمر عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الخوارج، وبالفعل وقع ذلك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ما كانوا عليه من الاجتهاد في العبادة، وكانوا من أظهر الناس بدعة بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشد الناس قتالاً للمسلمين كما جاء في صفاتهم في بعض الأحاديث: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، ووصفهم أيضاً بأنهم: (سفهاء الأحلام، أحداث الأسنان)، أي: شباب طائش حديث السن، وبنفس الوقت سفهاء العقول والأحلام والنُهى، ووصفهم بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، هذه سنتهم وطريقتهم في كل زمان، حتى الخوارج المعاصرون اليوم تجدهم مع اليهود مع النصارى والفساق في منتهى الرقة والأدب والتلطف والبشاشة، وتجد الواحد منهم مع المسلمين -وبالذات الملتزمين بدينهم منهم- فضاً غليظ القلب، ومن جرب حالهم وسبر أغوارهم فإنه يعرف هذا الأمر منهم، وقد رأينا هذا منهم كثيراً، فهذه صفتهم، وكانوا أشد الناس قتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع كل هذا، لا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو الذي قاتلهم بنفسه- ولا غيره، مع ما يفعلونه من الفساد في الأرض، وقتل أولياء الله الصالحين، وسئل علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. يقول شيخ الإسلام: بل حكموا -أي: السلف- فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً -بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن- لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة منهم، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل وخالف إجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات. هذا في النموذج ذكرناه فيما يتعلق بالتأويل في قضية العبادة ودعاء غير الله، وما يتذرع به القوم من الشبهات في باب الحكم.

اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين

اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين يجب أيضاً اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين من الناس، إذ هناك فرق بين المسلك الذي ينبغي أن نسلكه عند دعوة الناس إلى الدين، والمسلك الذي نسلكه عند معاملة أعيان الناس وآحادهم عندما نأتي إلى نصوص الوعيد، مثل: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر)، وغير ذلك من النصوص التي فيها تكفير تارك الصلاة، فأنت في بيان الدعوة يجب أن تترك النصوص كما هي؛ لكي تعمل مفعولها في ترهيب الناس من ترك الصلاة، لكن لا يناسب أن تأتي للناس وتخبرهم أن تارك الصلاة مسلم عاصٍ، إلا في مجال طلبة العلم وبيان الحق إذا ظهر، لكن في مجال الدعوة ينبغي أن تتكلم بعموم النصوص. مثلاً: قضية الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، قد تبين أن نوع هذا الفعل والإعراض عنه على أقسام؛ فمنه ما هو كفر أكبر، ومنه ما هو معصية، ومنه ما يكون خطأً معفواً عنه، فمثلاً: الحاكم الذي يرفض أصلاً التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيق شريعة الإسلام؛ اعتقاداً منه بأن القوانين الغربية أو الوضعية أفضل من القوانين والشرائع الإلهية، فهذا كافر، أو حاكم آخر يحكم بغير ما أنزل الله، وهو معرض عن شريعة الله، معتقد أن شريعة الله هي مثل القوانين الوضعية سواءً بسواء! فهذا أيضاً كافر. لكن هناك شخص يحكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا، وهو يعرف حكم الله فيها، ويقر به، ويؤمن بقلبه أن هذا حكم الله، لكنه يعرض عن تطبيق حكم الله نتيجة هوى في نفسه أو محسوبية أو رشوة أو هوى أو أي مقصد من المقاصد الدنيوية، فهذا فسق ومعصية، وكفر دون كفر، كما قال بعض السلف. وقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله صدر من عند الإمام المجتهد وظن أن هذا حكم الله بعدما بذل وسعه في الاجتهاد؛ ثم تبين أن حكم الله يخالف ما ذهب إليه هذا المجتهد، فهذا بنص الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فيعفى عن خطئه. فعدم موافقة حكم الله له أسباب شتى، والحكم بغير ما أنزل الله شعب متفاوتة، ليست كلها على درجة واحدة، تبدأ هذه الشعب من الاجتهاد الخطأ المعفو عنه، وتنتهي إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة، وبعض هذه الصور قد يلتبس ببعض، والتفريق بين المناط المكفر والمناط غير المكفر مما يحتاج إلى علم وفقه، ولا تزال بعض صور هذا الأمر موضع الجدل بين علماء هذا الزمان، فكيف بعامة الناس أو أشباه العامة؟ فكيف بعد هذا الكلام يأتي من يقول: إن التكفير بكل هذه الأشياء كلها على مرتبة واحدة ما دامت متعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله؟! فإن تكفير هؤلاء من أصل الدين لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وأنه لا عذر فيه بجهل ولا بتأويل؟! والبعض يجعل من ذلك معياراً في حكمه على العامة من الناس، والسلسلة التي يتدرج الشيطان بها مع هؤلاء الجرآء على حدود الله معروفة، فقد يتفاوتون، فالبعض يكفر مثلاً الجهاز التنفيذي الجهاز التشريعي الجهاز القضائي، ويقف عند هذا الحد، وبعضهم يقف عند أشخاص بأعيانهم، وبعضهم ينزل مثلاً فيقول: البوليس والجيش من رتبة رائد فما فوق كافر، وما تحته لا يكفر! ويتدرج الأمر فيقول: المشارك في أي هيئة من هيئات الدولة يعد كافراً، وبعضهم يصنف تصنيفاً والآخر يخالفه، فربما كفروا من يعمل موظفاً في الحكومة، وربما يتدرج الآخر إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول: إن كل من يعيش في هذه البلد كفار؛ لأن هذه ديار كفر!! وهذه القضية لها حساسية خطيرة جداً؛ لأن بعض الشباب أحداث الأسنان، وقد يكون أحدهم حديثاً جداً على قضية الالتزام والدين، وربما ما زال يتعلم كيف يصحح طهارته وصلاته، ثم إذا به في اليوم الثاني مباشرة يتكلم ويسأل: هل هي دار إسلام أم دار كفر؟! ويعمد إلى بعض الكتب، ويطبق أحكام أهل الكفر على هذه البلاد، إذاً لا تجب فيه صلاة الجمعة؛ لأن الأصل في أهلها أنهم كفار، وربما وصل به الأمر إلى استحلال الدماء والأعراض، إلى آخر تلك المآسي التي نحفظها، والحقيقة أن القضية ليست بهذه السهولة، وربما من كان بهذه المثابة وما زال يحبوا في أولى خطوات طلب العلم، ويقفز مباشرة إلى مثل هذه القضايا الحساسة والخطيرة وذات الآثار البعيدة، ربما كانت هذه من علامات عدم الإفلاح، فمتى ما فتح عينه على الضلالات والبدعة والجرأة على حدود الله بهذه الطريقة فإنه سوف يصل به الأمر إلى أنه يستحل الحرمات، ويكفر عموم الناس، ويكون لإخوانه الملتزمين بدينهم النصيب الأوفى من التكفير والعدوان واستحلال الحرمات، فلذلك ندعو الإخوة للصبر معنا على هذه السلسلة، لكن الصبر عليها وإن كانت قد تكون قاسية، أو نكون أحوج إلى رقائق أو آداب شرعية أو ما هو أعظم نفعاً، لكن الإنسان إذا عاش في مجتمع أو في زمان لاسيما في مثل هذه الضلالات فيجب عليه أن يتعلم ما يدفع به هذه الشبهات ليردها ويعتصم بالله تبارك وتعالى منها، فندعو الإخوة للصبر علينا حتى نعطي هذا الموضوع حقه ونوفيه قدره.

تفنيد قاعدة: من لم يكفر الكافر فهو كافر

تفنيد قاعدة: من لم يكفر الكافر فهو كافر على أي الأحوال: فمن المغالطة والجرأة أن يأتي الإنسان لكل هذه الدرجات المتفاوتة من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ويجعلها كلها سواء بسواء، بل يجعل التكفير بها جميعها أصلاً من أصول الدين لا يصبح المرء مسلماً إلا باقتفائها، والحقيقة أن هناك بعض الكلمات التي تقول: إن الإنسان الذي يكون مستهتراً يحب أن يكون كل الناس مستهترين مثله، ويفضل دائماً أن يهلك غيره؛ لأنه يشعر بالوحشة، لذلك تجد القوم نتيجة الشعور بالوحشة بين أهل العلم وبين عباد الله الصالحين، وبين أهل السنة والجماعة تجدهم حريصين على ممارسة نوع من الإرهاب الفكري حتى يقسرك قسراً، ويجبرك إجباراً على أن تطاوعه في ضلاله، فتجدهم نتيجة هذه الوحشة يريدون أن يزينوها بالاستئناس بإرهاب الناس فكرياً، فيرفعون شعار: من لم يكفر الكافر فهو كافر، يعني: أنت إن لم تطاوعني ولم توافقني على تكفير من أكفره فأنت أيضاً تصير كافراً! ويفسر هذا بأن الرضا بالكفر كفر، إلى آخر هذه الشبهات التي سوف نتعرض لها إن شاء الله فيما بعد. فهذا أيضاً من الأساليب الخبيثة في جر الناس إلى القول على الله عز وجل بغير علم، وانتهاك حرمات المسلمين، أما من ينظر بتجرد وموضوعية إلى هذه القضية؛ فإنه يدرك مدى الفتنة المشتملة عليها، والحقيقة أنه في كثير من بلاد المسلمين أغلب الطواغيت الذين يحكمون المسلمين لم يجرءوا حتى هذه اللحظة على إعلان رفضهم النهائي لشريعة الإسلام، ولم يعلنوا أنهم يردون شريعة الله مطلقاً، ولكنهم يناورون بينما تمضي سيرتهم في الحكم وأسلوبهم الحقيقي العملي على أساس الكفر بهذه الشريعة، وإقصائها عن الحياة، فهم يعلنون في شتى المناسبات تمجيدهم لها، واعتزازهم بها، وانتماءهم إليها، وأنهم جادون في العمل على تطبيقها بعد تهيئة المناخ وتنحية العقبات، على أن يتم ذلك بتدرج وبحكمة. فهذه المناورات يقوم بها كثير من الحكام في كثير من بلاد المسلمين، وبقدر المناورة تعظم الفتنة على عموم المسلمين وبين الناس، فمن الناس من يستصحب مقالتهم وواقعهم، ويتأول هذه المقالة بأنها للتلبيس والمخادعة، وإلا فلماذا لا يطبقون القول على الفعل؟! إذ يكون فيها نوع من التلبيس والمراوغة والمناورة، ومن هؤلاء الناس من استصحب أقوالهم وتأول أفعالهم، فالفريق الأول جعل أفعالهم هي الأصل، وجعل الكلام من باب المراوغة والمناورة، وفريق آخر من المسلمين جعل الأقوال هي الأصل، فأحسن الظن بهم، وتأول لأفعالهم، والتمس لها المخارج والتأويلات، ولا شك أن القضية فيها قسط كبير جداً من الحرج والدقة. وإذا نظرنا إلى مختلف التأويلات المطروحة في هذا المقام واعتبارها حينما نتوجه بهذه القضية إلى إجراء الحكم على معين من الناس، فنلاحظ أن هذا مزلق خطير يحتاج إلى كثير من الحذر قبل أن نكفر من لم يوافق هؤلاء على تكفيرهم. هذا فيما يتعلق بالتأويل، وإن كانت تأويلات فاسدة، ويجب بيان الحقيقة في فسادها، وكوننا نعذرهم بالتأويل فهذا لا يعني أنهم غير آثمين، كما نقول: فلان معذور بالجهل. لا يعني هذا أنه غير آثم، بل معذور بالجهل في قضية تكفيره وعدم تكفيره، لكن ذلك الشخص الذي يصلي صلاة بغير وضوء صحيح ويجهل واجبات الطهارة فهو آثم؛ لأن طلب العلم الذي تؤدى به الواجبات فريضة على كل مسلم، إذ كيف تصلي صلاة صحيحة قبل أن تتعلم واجبات الوضوء وأركانه؟ فإذا قصرت في التعلم مع إمكانيته فأنت آثم بذلك، فليس إعذار هؤلاء في مثل هذه القضايا يعني أنهم غير آثمين، بل هم آثمون، لكن القضية الآن قضية الكفر من عدمها. مثال ذلك في باب العبادة والنسك: دعاء غير الله، ومن يتذرع به ممن يدعون غير الله عز وجل، وذكرنا مثالاً في قضية الحكم والتلبيس ومراوغة كثير من حكام المسلمين في هذا الزمان مما يوقع الناس في اللبس وانقسامهم إلى فريقين، وكل هذه القضايا سوف يأتي إن شاء الله تفصيل دقيق جداً لها فيما بعد. بقيت قضية الولاية كما يقسمها الكاتب في مسلكه التفصيلي، أيضاً ينبغي أن نفرق بين الالتزام المجمل بولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين، وبين تطبيق ذلك عملياً على آحاد الناس، فالقدر الأول محكم ولا يثير إشكالاً، ولا يتطلب تأويلاً؛ إذ إن كل مسلم ينبغي أن يكون عنده ولاء مجمل وعام لكل مسلم موحد مؤمن بالله تبارك وتعالى، وأيضاً يكون عنده براء مجمل من الكافرين، فالقدر الأول -وهو الالتزام المجمل بولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين- أمر محكم ولا يصير إشكالاً ولا يتطلب تأويلاً، أما أن هذا الرجل بعينه من أهل الإيمان تجب موالاته، أو من أهل الكفر تجب معاداته، فهذا موضع النظر والتأويل، وبقدر اختلاف الاجتهاد في الحكم على معين بأنه من أهل الكفر أو أهل الإيمان بقدر اختلاف النظر في الصلة به ولاء أو معاداة، فكثير من قضايا الإيمان والكفر كانت ولا تزال إلى زمننا هذا موضع جدل وخصومة بين أهل القبلة، ولأهل السنة فيها منهج، ولأهل الأهواء فيها مناهج وطرق ومسالك ينقض بعضها بعضاً، ومن المحال أن نتصور اتحاد الرؤية والتقاء النظر في هذه القضايا بين هؤلاء جميعاً، فمن الناس من يوالي كافراً لا على أساس أنه كافر، لكنه يواليه؛ لأنه لم يثبت عنده كفره، وأحسن الظن به فيما نسب إليه، وتلمس له التأويلات والمخارج، وذلك كما فعل كثير من أهل العلم مع ابن عربي، فـ ابن عربي نطق من الكفر بما هو شنيع جداً، وله أشعار خطيرة جداً إلى الغاية، فمع ذلك نجد كثيراً من أئمة أهل العلم وقعوا في موالاة ابن عربي، بل منهم من اعتقد حبه وإمامته، بل منهم من يلقبه بالشيخ الأكبر -هكذا مطلقاً- ولا يذكر اسمه؛ لشدة شهرته بين القوم. فهذا الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى له رسالة سماها: تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي، فرد على هذا الكتاب برهان الدين البقاعي في كتاب اسمه تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي. على أي الأحوال: هذا الإمام السيوطي رحمه الله لا يرى في ابن عربي أنه كافر، فهل معنى ذلك أنه يوالي كافراً من دون المؤمنين؟ كلا؛ لكنه أحسن الظن به، فأول كلامه، والتمس له شتى المخارج والتأويلات، فذكر الإمام السيوطي رحمه الله في هذه الرسالة: أن الناس افترقوا في ابن عربي فريقين: فرقة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها، ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفريقان، وهي: اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه. ومن هؤلاء الإمام الفقيه ابن عابدين الحنفي رحمه الله صاحب الحاشية المعروفة على الدر المختار، الذي عقد مطلباً في حاشيته عنون له بقوله: مطلب في حال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن عربي نفعنا الله تعالى به! ودافع في هذا المطلب عن ابن عربي، وقال: ومن أراد شرح كلماته التي اعترضها المنكرون فليرجع إلى كتاب (الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين) لسيدي عبد الغني النابلسي. ومن هؤلاء الفقيه ابن حجر الهيتمي صاحب كتاب الزواجر، حيث صرح بأنه يعتقد جلالته، وإن كان لا يعتقد عصمته، فهل نكفر أمثال هؤلاء الأئمة لموالاتهم لـ ابن عربي؟! هم لم يكفروه باعتبار أنهم تأولوا كلامه وأحسنوا الظن به، فبعضهم يقول: إن هذا الكلام مدسوس عليه، وهو لم يقله، وفي الحقيقة فإن إلحاد ابن عربي وكلامه في وحدة الوجود معروف، وهذه الكفريات الشنيعة، وكلامه في هذا بشع جداً، كقوله: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة تعالى الله عما يقول، ويقول أيضاً: العبد رب والرب عبد فليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب فأنى يكلف وخلاصة كلامه: أن كل ما تقع عينك عليه فهذا هو الله! ويرى أن أعظم الموحدين اثنين: إبليس وفرعون! ويذكر كلاماً فظيعاً جداً في هذا، كقوله بإيمان فرعون، وأن فرعون مات مؤمناً، وهناك في الحقيقة كثير من الأشياء الشنيعة جداً التي ارتكبها ابن عربي، ومع ذلك فإن من العلماء من نفى عنه هذا الكلام ولم يصحح نسبته إليه، أو تأوله له، واعتبر بأنه في حالة من الفناء؛ بحيث صار مغلوباً على عقله من شدة الوجد والمحبة والذوق، إلى آخر هذه التمحلات. لكن على أي الأحوال: هل نكفر أمثال هؤلاء الأئمة؛ لأنهم لم يكفروا ابن عربي؟ كلا. لأنهم لم يوالوه على أساس أنه كافر، لكن هم أحسنوا الظن به، ونفوا عنه الكفر، فمن الناس من يعادي مسلماًَ، ويتبرأ من إنسان مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا العداء لا لأنه مسلم؛ بل لأنه مرق من الدين وفارق جماعة المسلمين، وهذا حال أهل الأهواء الذين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، وحسبك من براءة الخوارج من الصحابة، فإنهم جعلوها شرطاً في صحة الإسلام، وأنه لابد أن يتبرأ الإنسان من الصحابة!! وتكفير الخوارج للصحابة معروف وحملهم السلاح عليهم، وهم خيار المؤمنين وسادات أولياء الله بعد النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين.

دعاة القومية

دعاة القومية لا يقتصر اللبس والتأويل الفاسد على حال الأشخاص في باب الولاء أو البراء، بل يرد كذلك على صور الموالاة نفسها؛ لأنها شعب متفاوتة تبدأ بالمعصية وتنتهي إلى الكفر، وقد تلتبس هذه الصور بعضها ببعض، وقد يتأول في بعضها المصلحة من جلب خير أو دفع شر، وقد يختلف النظر في بعض الصور هل هي من الصور المكفرة أم لا؟ هناك مثلاً من يروج للدعوة إلى القومية، ويسخر قلمه وعقله للدفاع عن القومية العربية أو القومية الإقليمية حسب كل شعب، ويسود في الترويج للقومية العربية الصحائف والمجلات، ويكون مدخولاً عليهم في ذلك كله، فيتوهم عدم التعارض بين الدعوة إلى القومية والدعوة الإسلامية أو يظن أن الدعوة إلى الوحدة على أساس القومية خطوة لا بد منها على طريق الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، وهذا ما حرص دعاة القومية الأوائل على التمويه به عن الأمة. في بداية الدعوة إلى إيجاد الرابطة القومية، وبداية نشأة الجامعة العربية، ذلك الجهاز الخبيث الذي لا يفطن كثير من المسلمين إلى حقيقته، وغيره من الأجهزة الخبيثة؛ لبسوا على الناس حتى يبتلعوا هذا السم، ويقبلوا قضية الرابطة القومية بديلاً عن الرابطة الإسلامية، ولم يصرحوا بذلك، لكن لبسوا عليهم وقالوا: نحن نجمع ونوحد العرب أولاً، ثم بعد أن يتوحد العرب ننطلق إلى الآفاق بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية، فبسبب هذا التلبيس خدع خلق كثير بهذا. ما من شك أن الدعوة إلى القومية هي في حقيقتها دعوة إلى إقامة الولاء والبراء على أساس الوطنية القومية، وليس على أساس الدين، فالمسلم لا يعرف الولاء والبراء إلا على أساس الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والإخلاص لدين الله عز وجل، فالإسلام أتى منذ اليوم الأول لهدم أي رباط غير رابطة الإسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام لو دعا إلى وحدة عربية لضم إليه أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من أشراف قريش الذين هم أحسن حالاً من أئمة القومية في هذا الزمان، ولكن الرسول عليه السلام عادى أقرب الناس إليه في سبيل هذا الدين، وكان المسلم الذي ينضوي تحت لواء هذا الدين يكون هذا اللواء حد فاصل بين عقيلته وبين قومه، وربما قاتل ابنه أو أباه في سبيل الله تبارك وتعالى، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على سفح عرفات يوم الحج الأكبر، وخطب في الأمة خطبة الوداع، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، كل شيء من أمر الجاهلية: حمية الجاهلية، حكم الجاهلية، تبرج الجاهلية، دم الجاهلية، ربا الجاهلية، ومن أمور الجاهلية التنادي برابطة غير رابطة الإسلام، مثل نظام الأحلاف والتحزبات، إنسان يوالي من ينتمي إلى حزبه أو وطنه أو جنسه أو قبيلته، ويعادي على هذا الأساس من هو على غير ذلك، وآثارها موجودة حتى الآن في بعض البلاد، وهذه جاهلية فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال المهاجري: يا للمهاجرين! -يستغيث بالمهاجرين لينصروه وهذه عصبية- وقال الأنصاري: يا للأنصار! فكادت تقع مقتلة بين المهاجرين والأنصار، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، فالدعوة القومية العربية دعوى منتنة خبيثة، وقد وضعها الرسول عليه السلام تحت قدمه، فكيف نرفعها رايات فوق رءوسنا؟! فما بالنا ندعو بدعوى الجاهلية؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، فهذه من دعاوى الجاهلية، وقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي). وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (دعوها)، وهذا أمر بالترك، وظاهر الأمر الوجوب، فهذا يدل أيضاً على وجوب طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر بأي رابطة غير رابطة الإسلام. قوله: (فإنها منتنة) علل الحكم بأن التنادي بهذه الروابط دعوة خبيثة منتنة، فهي داخلة تحت قوله تبارك وتعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فهي محرمة لأنها منتنة وخبيثة، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم علينا هذه الدعوى الخبيثة، أما رابطة الإيمان ورابطة لا إله إلا الله فهي تربط المؤمن بإخوانه كما تربط الكف بالمعصم، وكما تربط الساق بالركبة، المؤمنون كلهم جسد واحد: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]). هذا هو الكرم، وهذا هو الحسب الذي ينبغي التفاخر به، لا التفاخر بهذه الروابط الخبيثة التي تريد أن تقضي على الرابطة الإسلامية، ليس فقط تربط بين أهل لا إله إلا الله في الأرض، لكنها تعطف حملة العرش على أهل الإيمان في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، فتجد رباط الإيمان يجعل أهل السماء من حملة العرش -وهم أفضل الملائكة- يدعون ويستغفرون للمؤمنين؛ لأنهم إخوانهم في هذه الأرض، فهذا هو الرباط: الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين بشكل عام، لا على أساس التنادي بأي رابطة من هذه الروابط الجاهلية. ومن عجائب الأمور أن العلماء أجمعوا على أنه لو مات رجل مسلم وترك ميراثاً وليس له أي أحد يرثه سوى ابن كافر من صلبه؛ فإن هذا الابن لا يستحق أن يرث أباه، وإنما يئول المال إلى إخوانه المسلمين، فهم الذين يرثونه، ولا يرثه أبداً ابنه الذي من صلبه؛ لأنه لا توجد ولاية بين المسلم والكافر، ولا توارث بين المسلم والكافر، فهذا أقوى دليل على رابطة الإيمان، ورابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب كما قال الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وسلمان الفارسي كان عبداً غير عربي، ومع ذلك رفعه الإسلام، وفي بعض الأحاديث الضعيفة: (سلمان منا أهل البيت)، فلم يفرق النبي عليه الصلاة والسلام بين أبيض ولا أسود ولا عربي ولا عجمي، فهذه كلها دعوات تريد أن تضعف وتقضي على رابطة الإسلام بين أمة المسلمين، لماذا؟ هناك سبب واضح جداً، بلاد المسلمين ذات قدرات عظيمة سواء بشرية أو اقتصادية أو عددية أو غير ذلك من أسباب القوة، ولا يشك أحد إذا نظر نظرة واحدة على خريطة العالم الإسلامي أن هؤلاء إذا اجتمعوا تحت لواء العقيدة فإنهم سيكونون أعظم أمم الأرض، والمسألة مسألة وقت حتى يأخذوا بأسباب النهضة المادية والروحية، فأمة تكمن فيها كل هذه الطاقات تجد الأعداء يتكالبون على تمزيقها وتفتيتها وتشتيت شملها. أحد الكتاب يقول: إن القول بالوحدة الإسلامية دون أن يسبقها العمل على تحقيق الوحدة العربية وتحقيقها يكاد يكون من الأمور المستحيلة، فلا يتصور أن تتحقق وحدة بين بلد إسلامي ينتمي إلى الشرق العربي، وبين بلد إسلامي لا ينتمي إلى العالم العربي دون أن يسبق هذه الوحدة في الوجود وحدة عربية، ومن ثم لا يجوز ولا يعقل القول بإمكانية قيام الوحدة الإسلامية بين مختلف بلاد العالم الإسلامي كله دون أن تسبقها في الوجود وحدة عربية تمهد لها الطريق، ثم يقرر في النهاية عدم التعارض بين الدعوتين فيقول: وإزاء ذلك فإنا نؤيد من ذهب إلى القول بأن الوحدة العربية لا تتعارض مع القول بالوحدة الإسلامية. كيف تتوافق الدعوى الجاهلية مع الدعوة الإسلامية؟! سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب كيف يجتمعان؟ فمن يدعو إلى الوحدة العربية قبل الوحدة الإسلامية، فإنه قد غفل عن الوقوف على حقائق بدهية تبدو لأي دارس لأحوال العالمين الإسلامي والعربي على حد سواء. ثم يذهب إلى ما هو أبعد مدى من ذلك فيقول: لهذا يحق لنا أن ندعي أن كل من يعارض الوحدة العربية يكون قد عارض الوحدة الإسلامية، وأن من يعارض الوحدة العربية باسم الوحدة الإسلامية أو بحجة الوحدة الإسلامية يكون قد خالف أبسط مقتضيات العصر والمنطق مخالفة صريحة، كما يروى عن المسيح عليه السلام أنه سأله الحواريون: كيف نعرف الكذابين الذين يدعون النبوة؟ قال: من ثمارهم تعرفونهم. قال: وإذا غضضنا النظر عن الأدلة من القرآن والسنة على تحريم المناداة بهذه الروابط القومية فلننظر إلى أدلة الواقع. قلت: فلننظر إلى ثمرة الحنظل المرة التي جناها المسلمون من القومية العربية أو غيرها من الروابط الإقليمية الجاهلية، ولا يخفى ما فعله حزب البعث وهو أشد الناس تعصباً للمناداة بالوحدة العربية، حيث إنه أقام دينه الجديد الكافر الملحد على أساس الرابطة القومية والعربية، فهذه الفتن تموج كموج البحر، وقد جعلت هذه القومية حكام العرب كلهم يركعون أمام إسرائيل، وبل يسجدون أمام إسرائيل وأمريكا، فهذا الاستسلام والتخاذل والهوان الذي ما بعده هوان من الذي تسبب فيه؟ إنهم دعاة القومية العربية. من الذي نكل بدعاة الإسلام في مصر وفي غيرها؟ إنهم دعاة القومية العربية سواء عبد الناصر عليه من الله ما يستحقه أو غيره، فهذا كله باسم الوحدة العربية وباسم القومية العربية. وقد كانت علامة الولاء للشخص الذي ينتمي لحزب البعث الملحد أن يدوس على المصحف -والعياذ بالله- حتى يثبت أنه معتقد لحزب البعث، وكافر بالله ورسوله، فهذه العلامة تكشف لهم العدو من الصديق، فمن طاوعهم مع هذا الكفر المبين والإلحاد الظاهري فهو منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، أما من رفض ذلك فهذا يكون قد كشف خبيئة نفسه، وأن في قلبه رصيداً من الحب والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. ويقول قائلهم: هبوني ديناً يجمع العر

الإيمان والكفر [16]

الإيمان والكفر [16] قد يعذر الإنسان بالجهل والتأويل والإكراه بشروط وضوابط، وقد لا يعذر بها، وقد بين العلماء أحكام الإكراه في العبادات والحكم والولاية، فليس كل إكراه يكون معتبراً، وليست جميع أنواع الإكراه على حد سواء.

اعتبار عارض الإكراه في الحكم بالكفر في جانب العبادة

اعتبار عارض الإكراه في الحكم بالكفر في جانب العبادة ما زلنا في مناقشة كتاب: (حد الإسلام وحقيقة الإيمان)، وقد انتهينا إلى وجود بعض الموانع التي قد تحول الحكم بالكفر على من دخل في الإسلام، وثبت له عقد الإسلام، وأتى بما يخالف مقتضى هذا العقد؛ لكنه لا يفعل ذلك الشيء عامداً أو مستحلاً، وإنما يفعله إما جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً، فهذه بعض الأعذار التي قد تحول دون الحكم على هذا الإنسان ببطلان عقد الإسلام. وكاتب البحث حينما يحاول أن يستوفي هذه الشروط أو أركان حد الإسلام وحقيقة الإيمان، فالفرق في المنهج الذي عليه أهل العلم، وبين المنهج الذي ارتضاه الكاتب في بحثه هو: أن العلماء يستعملون القاعدة المعروفة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وعامة من يخوضون في قضية التكفير يعكسون هذه القاعدة المنطقية فيقولون: إن البريء متهم حتى تثبت براءته، فما دام الإنسان دخل في الإسلام بالشهادتين وبإعلان الولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وثبت له عقد الإسلام بنطقه بالشهادتين؛ حينئذ يصبح الأصل في هذا الإنسان أنه مسلم، فهذا هو الأصل. أما الفريق الآخر ممن ينحون منحى الكاتب، فإنهم يرون أن الإنسان لا يحكم له بأصل الإسلام حتى يستوفي هذه الأركان التي حدودها والشروط التي وضعوها. فإذاً: المنطلق مختلف: نحن نعتقد أن هذا مسلم، وننظر في أفعاله على أن الأصل فيه الإسلام، أما هم فيرون أن الأصل فيه الكفر؛ ولذلك يتحقق في المنهجين قول الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب وقد ناقشنا من قبل أحد هذه العوارض التي تحول دون الحكم بالكفر على المسلم إذا صدر منه فعل الكفر، فذكرنا عذر الجهل، وعذر التأويل، والجهل تكلمنا عليه بالتفصيل، وطبقناه على العبادة والولاية والحاكمية؛ كذلك تكلمنا في قضية التأويل، والآن نتكلم على أحد هذه الاعتبارات وهو عذر الإكراه. وهذا العارض لا يرد بالنسبة للالتزام المطلق من حيث ثبوت أصل الدين، لا يعرف المكره بهذه الناحية؛ لأن أصل الدين هو: أن يعقد الإنسان قلبه على الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فعقد القلب على الشهادتين، وإعلان ذلك عند القدرة؛ هو أصل الدين، لكن إذا حالت الظروف الظاهرة المحيطة بالإنسان دون إعلان هذه الشهادة، فهو باق على أصل الإسلام، وإذا عجز عن الإعلان عن هذه الشهادة، بقي عقد القلب الذي لا سلطان لأحد عليه. ولهذا هرقل لم يقبل منه تصديقه برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا التصديق كان مجرداً من الاتباع، فقد كان هرقل خائفاً على ملكه من قومه؛ لأنه إذا أسلم فسيضيع ملكه. فالالتزام المجمل بالإسلام لا عذر فيه لأحد، ولا يشفع فيه عارض من العوارض، فالإنسان إذا حمله وعيد على ترك الالتزام المجمل بالإسلام، فهو ممن استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وهو من الكافرين؛ لأن هذا النوع لم يأت بالالتزام المجمل بالإسلام عن طريق إعلان الشهادتين؛ لكن التطبيق التفصيلي لقضايا أصل الدين، وبالذات الثلاثة أركان التي وضعها الكاتب وهي: النسك، والولاية، والحكم، فهذا هو محل العذر بالإكراه عند طروء الإكراه في باب النسك، أو الحاكمية أو الولاء؛ لكن الالتزام بأصل دين الإسلام لا يعذر به الإنسان بالإكراه. فهل هرقل كان معذوراً عند الله؛ لأنه كان مكرهاً أو في معنى المكره من قومه؟ لا. بل خشي أن يضيع ملكه، وهذا ليس إكراهاً؛ فقد استحب الحياة الدنيا على الآخرة، مع أنه يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وظن أن هذا الإكراه يعتبر عذراً له، والصواب أنه قدم الدنيا على الآخرة، مع أنه لم يلتفت إلى ضمان الرسول صلى الله عليه وسلم له بالسلامة في قوله: (أسلم تسلم)، ولو كان عنده تقوى لأقدم على إعلان إسلامه، والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم، دون النظر في هذه العاقبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن له العاقبة، فقال له: (أسلم تسلم)، فهو لم يلتفت إلى هذا الوعد، واستحب الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يعد معذوراً بالإكراه؛ لأنه لم يعلن التزامه المجمل بدين الإسلام في باب النسك، وطروء عارض الإكراه في جانب النسك يقع نادراً؛ لأن النسك في غالب الأحوال عبادة فردية، وتوجه شخصي، لا مصلحة لأحد في منع غيره منه أو حمله عليه؛ فمن ضل في باب النسك ففي الغالب هذا يكون بمحض اختياره، وتقصيره في العبادات يكون بمحض التقصير من نفسه هو، لا بإكراه أحد له، لكن على أي الأحوال إذا وجد إكراه في باب النسك والعبادة، وقدر وقوع هذا؛ فلا شك أنه يعذر باعتبار هذا العذر بلا نقاش وبلا جدال. وفي الأثر الموقوف -الذي يذكر في كثير من الكتب على أنه حديث صحيح- عن طارق بن شهاب في قصة الرجل الذي دخل النار في ذبابة، وأوله: (دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة)، وذكر أن هذين الرجلين مرا على قوم يعبدون وثناً، فقالوا لأحدهما: قرب ولو ذباباً، فأبى فقتلوه، فدخل الجنة بسبب ذبابة؛ لأنه استنكف أن يعبد غير الله أو يتقرب لغير الله حتى ولو بأن يقرب ذبابة، أما الآخر فلما رأى الأول قد قتل فقرب ذبابة لهذا الوثن، فدخل النار بسبب تقديمه ذبابة، وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو أثر موقوف عن سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه. ولو كان هذا الحديث صحيحاً فقد قال بعض العلماء: إن العذر بالإكراه هو من خصائص هذه الأمة المحمدية، واستدلوا بهذا الأثر وهو: أن هذا الرجل دخل النار بسبب ذبابة قربها للوثن، وهذا كان له عذر؛ لأنه أكره على أن يقرب ذبابة أو يقتل، فقرب الذبابة، فلو كان العذر بالإكراه معتبراً في هذه الشريعة التي كان ينتسب إليها لعفي عنه؛ لكنه دخل النار، فالمعنى: أنه كان يجب عليه أن يصبر ويثبت حتى ولو قتل، ولا يقرب ذباباً؛ لأنه لم يكن عندهم عذر بالإكراه. وهذه القصة تذكرنا برجل سافر إلى بلدة في شرق آسيا، وهي مشهورة جداً بعبادة الأوثان والأصنام، فدخل السوق ومعه زوجته وهي مجلببة ومنقبة، فالناس ظنوا أنها الإله تجسد في صورة هذه المرأة المحجبة! فظلوا يسجدون ويركعون! فأراد هذا الأخ أن يستخف بما هم عليه من الشرك والوثنية، فأتى إلى أحد أصنامهم وبال عليه! فثاروا ضده وأرادوا قتله غيرة وانتصاراً لإلههم، وقبض عليه، وقالوا: إما أن تقتل، وإما أن ترضي إلهنا! وصارت أزمة سياسية كبيرة، وتدخلت الدولة في هذا الشخص، واضطر أن يقرب شيئاً يسيراً لهذا الوثن حتى يطلق سراحة! وليس المقام الآن مقام مناقشة سلوك هذا الأخ وتصرفه، فإن كان الأمر سينتهي به إلى هذا الموقف، فكان يمكنه أن ينكر عليهم باللسان حتى لا يئول به الأمر إلى أن يقع في مثل هذا الشيء الشنيع. الشاهد: أن هذه الأمة تعذر بالإكراه، وهذه من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا ووضعها عنا الله في شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الأدلة على ذلك: قول أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فالنفي بالتأبيد يدل على انتفاء الفلاح عنهم تماماً، وأنهم لا يعذرون بالإكراه؛ لأنهم ربما أرغموهم على أن يظهروا العودة إلى ملتهم بالإكراه، فما في شك أن هذا في شريعتنا يكون عذراً كما قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، أما في شريعة أصحاب الكهف فلم يكن لديهم عذر بالإكراه؛ ولذلك نفوا عنهم الفلاح إن عادوا لعبادة ما كانوا عليه، وهذا المعنى ذكره العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ))، إما رجم وإما العودة إلى الكفر ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)). يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة؛ لأن قوله عن أصحاب الكهف: ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) ظاهر في إكراههم وعدم طواعيتهم، ولعلهم يكرهون على العودة إلى هذه الملة، ولا يطاوعونهم في ذلك، ومع هذا قال عنهم: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)). فدل ذلك على أن الإكراه ليس بعذر، ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل؛ لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه، ويشهد له أيضاً دليل الخطاب -يعني: مفهوم المخالفة- في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فإنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (تجاوز لي عن أمتي) أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، وأنه لم يتجاوز عمن عدا أمته من الأمم، فهذا يفهم بدليل الخطاب، وبمفهوم المخالفة يفهم منه: أن من عدا هذه الأمة المحمدية المرحومة لم يكونوا يعذرون لا بالخطأ ولا بالنسيان، ولا بما استكرهوا عليه. يقول: وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة، أما هذه الأمة فقد صرح الله عز وجل بعذرهم بالإكراه في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]، فالإنسان لا يكفر ولا يخرج من الملة إلا إذا رضي بالكفر وانشرح به صدره، لكن المسلم المكره قلبه عامر بالإيمان، قلبه مطمئن بالإيمان، ولكن تحت ضغط الإكراه وقع في شيء مما ينافي هذا الإيمان لعذر الإكراه فقط. لكن لا عذر بالإكراه في أن يتحول القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، إنما السلطان على البدن، أما القلب فيظل مطمئناً بالإيمان، راسخاً

اعتبار عارض الإكراه في الحكم بالكفر في جانب الحكم

اعتبار عارض الإكراه في الحكم بالكفر في جانب الحكم الحكم هو الركن الثاني من أركان حد الإسلام في نظر المؤلف، ولا مناص ولا مهرب من اعتبار واحترام عارض الإكراه في الحكم على الناس في باب الحكم أو الحاكمية، فهذا النجاشي رحمه الله رغم أنه كان ملكاً للحبشة؛ لكنه لم يستطع أن يقيم في قومه كتاب الله، ولم يستطع أن يظهر في نفسه شرائع الإسلام؛ لأن قومه لم يطيعوه في الدخول في الإسلام؛ ولكنه عقد قلبه على الالتزام المجمل بالإسلام، وأقام من حدود الإسلام ما تمكن من إقامته، فعذره الله تبارك وتعالى بذلك، فـ النجاشي لم يقم دولة خلافة إسلامية في الحبشة رغم أنه دخل في دين الإسلام، وعذره الله بهذا الأمر، فما هو الفرق بين النجاشي وبين هرقل؟ الفرق هو وجود الالتزام المجمل بالإسلام في قلبه، وقد أعلن ذلك أمام الصحابة رضي الله عنهم جعفر بن أبي طالب وغيره، فالالتزام المجمل بالإسلام كان موجوداً في مكة، أما هرقل فاستنكف وأبى خوفاً على ملكه، فلم يوجد منه الالتزام المجمل بالإسلام. والدليل على أن الله عذر النجاشي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه يوماً وأخبرهم أن النجاشي مات في هذا اليوم، وأمرهم أن يصلوا على أخيهم، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، والراجح في صلاة الغائب أن يصليها المسلمون على من لم يصل عليه في البلد التي مات فيها؛ وهذا الموضوع يأخذ أحياناً نوعاً من المجاملة لأقارب الميت أو ناحية عاطفية محضة؛ بدون انضباط بالدليل الشرعي، فـ النجاشي مات في دار كفر ولم يصل عليه، كذلك إذا مات مسلم في بلد من بلاد الكفار ولم يصل عليه، فنصلي عليه صلاة الغائب؛ لكن من مات مثلاً في مكة المكرمة، وصلى عليه آلاف المسلمين في موسم الحج -مثلاً-، هل يصلى عليه أيضاً في بلاده صلاة الغائب؟ لا، فالمسلمون صلوا عليه وقضي الأمر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكذلك الكفار من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله، فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، وأقام من حدود الإسلام ما يستطيع أن يقيمه كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعاً من الهجرة، وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام؛ فهو معذور، ففي دار الكفر ليس هناك من يعلمه شرائع الإسلام، ولا يستطيع أن يهاجر إلى دار الإسلام لأنه مستضعف، ولم يلتزم جميع شرائع الإسلام؛ لأنه ممنوع من إظهار دينه وإظهار شعائره، ومع ذلك آمن بالرسول وآمن بالله عز وجل واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي؛ فهذا مؤمن من أهل الجنة. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً. وكما هو معروف عن الحضارات التي يفخرون بها فحضارة الفراعنة حضارة حجارة، أناس كانوا يعبدون الملوك والأصنام والحجارة، هذا أقصى ما يعبر به عن هذه الحضارة الوثنية. فأهل مصر في زمن يوسف عليه السلام كانوا كفاراً مشركين، وهذا واضح من محاورته مع صاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، فهذه الآية نكررها لمن يفخمون الآن هؤلاء الأرباب، ويفخرون بانتسابهم إليهم، ويقولون: إن حضارتنا عمرها سبعة آلاف سنة، نعم سبعة آلاف سنة في الشرك والكفر والوثنية وعبادة الأحجار والملوك، أما الحضارة والنور فما عرفناها إلا منذ أربعة عشر قرناً، وقبل ذلك كنا غارقين في هذه الوثنية وهذا الشرك. فالشاهد: أن يوسف عليه السلام كان مع أهل مصر وهم كفار، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، ولما دعاهم إلى الإيمان والتوحيد لم يجيبوه، والسؤال الآن: أين الدليل على ذلك من القرآن؟ الدليل: قول مؤمن آل فرعون في سورة غافر: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، (هلك) هنا معناها: مات وتوفي، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] يعني: لم تلتزموا بدعوته إياكم إلى الإسلام والتوحيد. أيضاً النجاشي وإن كان ملك النصارى، لكنه لم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه في الإسلام نفر قليل من الحبشة؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه؛ فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات، فقال: (إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات)، وهذا الحديث مما يستدل به على جواز النعي إذا لم يقترن بالتفاخر وأفعال الجاهلية؛ لأن هذا نعي بموت النجاشي، ولفظ الحديث: (نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي إلى أصحابه يوم موته)، فدل على جواز النعي -وهو الإعلام بالموت- حتى يشترك الناس في الجنازة ويبادروا بتجهيز الميت وغير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكثير من شرائع الإسلام لم يكن دخل فيها -يعني النجاشي - لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا صام شهر رمضان، ولا أدى الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذا جاءه أهل الكتاب ألا يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، كما في الحكم في الزنا بحد الرجم، وفي الديات بالتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع: النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك. يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (19/ 217 - 219): والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. يقول: وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سمّ على ذلك، فـ النجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها. فهذا أيضاً دليل على أن الإكراه قد يكون عذراً في بعض الحالات في جانب الحكم.

اعتبار الإكراه مانعا من الحكم بالكفر في جانب الولاية

اعتبار الإكراه مانعاً من الحكم بالكفر في جانب الولاية أما بالنسبة للولاية فإنها أكثر ما يرد عليها هذا العارض، فأكثر أركان تأتي في وصف الكافر هي أركان حد الإسلام الثلاثة: النسك، والحكم، والولاية. وقلنا: يندر أن يحصل إكراه في باب النسك، فإن وقع فهناك عذر بالإكراه فيه، وفي باب الحكم أيضاً أوضحنا ذلك، وإن كان احتماله أكثر من النسك. أما بالنسبة للولاية فهي أغلب ما يقع فيه العذر بالإكراه، وأكثر ما يرد عليه عارض الإكراه؛ لأن الولاية فيها تعلق دائم بالتعامل مع الغير، فيجب أن يفرق في هذا المقام بين عمل القلب الذي يجب أن يكون تاماً موافقاً لمرضاة الله عز وجل، وبين ما يجب من أعمال الجوارح الذي يقيمه الإنسان حسب الإمكان، مثلاً: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وفي بعض الأحاديث: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل). المقصود: أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين وليس فرض كفاية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبقلبه)، ولم يقل: فإن لم يستطع؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، واعتقاد القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يطلع عليه إلا الله، فبالتالي لا يمكن أن يكون الإنسان مكرهاً في هذا، بل نفى الإيمان عمن لا ينكر هذا المنكر بقلبه، فإنكار المنكر باليد أو باللسان يتفاوت حسب القواعد المعروفة في الأمر والنهي، أما إنكار المنكر بالقلب، فواجب على كل مسلم أن ينكره بقلبه، وإلا فسوف ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل). فكذلك هنا: الإنسان لا يعذر بالإكراه في انحراف قلبه عن الاعتقاد الحقيقي؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، فالقلب لا بد أن يكون موافقاً موافقة تامة لما يرضي الله، أما الجوارح فإن كان وقع عليه إكراه فهو يعذر بالإكراه في منع عمل الجوارح، ويقيم أمور دينه حسب الإمكان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، والمعنى: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم مع انعقاد قلوبكم على الإيمان. قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، كما حكى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: إنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، هل معنى ذلك: أن المسلم ينافق الناس؟! لا، لكن المقصود في حال الإكراه. فإذا وجدت شبهة الإكراه العام كما تكون مثلاً في بعض البلاد التي تكون الدولة والغلبة والقهر فيها لغير المسلمين، فحينما نحكم على آحاد الناس في هذه الحالة يجب أن نضع في اعتبارنا هذا العارض عند الحكم على آحاد الناس بما يظهر من صور قد تقدح في قضية الموالاة، فوجود شبهة الإكراه تقدح في دلالة ما يظهر من الموالاة على ما يترتب عليها من الكفر أو الفسق وليس العكس، يعني: إنسان مسلم أتى بشيء يكفره أو يفسقه بعذر الإكراه، مثل أن يقرب لوثن، أو يتكلم بكلام يكف به عن نفسه شر بعض الطواغيت تحت عذر الإكراه مثلاً، فهذا الفعل في حد ذاته إذا نظرنا إليه مجرداً قادح في الإيمان، لكن إذا كان الفعل بمجرده يدل على الكفر، ووجدت شبهة الإكراه فإنها تقدح في الدلالة على كفر فاعلها، وليس العكس، يعني: لا يقال: إن وجود ظاهر الموالاة يقدح في دلالة التلفظ بالشهادتين على الحكم بالإسلام، فنشهد لهذا الإنسان بأنه كافر أو على الأقل نتوقف فيه؛ لأن هذا قلب للقضية، فالأصل أنه مسلم، فأنت لا تنظر للفعل بمجرده، بل انظر للفعل إذا كان معه قرينة الإكراه، ففي هذه الحالة شبهة الإكراه تقدح في الأخذ بدلالة هذا الظاهر، ولا يقال العكس، لا يقال: إن هذا الظاهر يقدح في أصل التوحيد، وأصل التزام هذا الرجل بالشهادتين. ووجه ذلك: أنه التزم الالتزام المجمل بالإسلام، فشهد الشهادتين، والتزم التزاماً مجملاً بالإسلام؛ فهذا يدل على صحة الانتساب إلى الإسلام في الظاهر، وهذه دلالة تعطينا يقيناً بأن نطق هذا بالشهادتين، والتزامه المجمل بالإسلام، يدل دلالة يقينية على أنه مسلم، ولا يجوز القدح في هذه الدلالة بشبهة محتملة، ولا يجوز العدول عن العمل بمقتضاها إلا بحجة قاطعة، فهذا اليقين لا يبطله إلا يقين مثله، أو أقوى منه. فهنا توجد شبهة للإكراه، ونحن على يقين أنه مسلم، فلا يتزحزح هذا اليقين إلا بيقين مثله أو أقوى منه، فإذا وجدت شبهة الإكراه فإنها ليست يقيناً كافياً حتى نبطل ونقدح في التزامه بالإسلام.

منهج مؤلف (حد الإسلام) في الإعذار بالأعذار

منهج مؤلف (حد الإسلام) في الإعذار بالأعذار صاحب كتاب: (حد الإسلام) درج في كتابه على عكس هذا المنهج الذي ذكرناه، فقضى: بأن الإخلال بقضية من قضايا أصل الدين موجب لتخلف حد الإسلام، وانعدام صفته مهما حام حول الإسلام بها من شبهة الإكراه أو غيره حتى يثبت وجود الإكراه بيقين، فإذا تيقنا وجود الإكراه فإنه يعذر؛ لكن الإخلال بقضية من قضايا أصل الدين سواء في النسك أو الحكم أو الولاية، فهذا يوجب تخلف حد الإسلام، وتنعدم منه صفة الإسلام مهما حام حولها من شبهة الإكراه حتى يثبت الإكراه بيقين لا بشبهة، فهذا هو الفرق بين المنهجين. يقول صاحب حد الإسلام صفحة (383): وقبول شرع الله يتحقق بعدم الرد -يعني: بعدم رد أمر الله- وهو الإباء والرفض والامتناع من قبول الفرائض والأحكام، وكذلك قبول شرع غيره يعرف بعدم الرد، فإن منع من الرد مانع الإكراه وجد كره القلب، ودلالته الاعتزال، وعدم المشايعة بالعمل عليه، أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل وعدم الترويج لباطلهم، فهنا تراه جعل عدم الرد دليلاً على الكفر حتى يثبت الإكراه، ويثبت الإكراه بدلائله من الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، ففي ذلك إهدار للدلالة التي أخذناها من التزام هذا الرجل المجمل في الإسلام، فهذا فيه إهدار تماماً لهذه الدلالة، وهي دلالة الالتزام المجمل للإسلام، مع أن هذه الدلالة يجب أن تكون هي الأصل الذي نستصحبه. إذاً الأصل: أن هذا الإنسان المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس العكس، فيجب أن يستصحب الأصل الذي هو الالتزام المجمل بالإسلام بناءً على هذا الأصل والحكم عليه بالإسلام، ولا يتحول ولا يتزحزح هذا الأصل حتى يثبت الناقض بيقين، وهو وجود الرد وانتفاء عوارض الأهلية وليس العكس، ففي الحقيقة أن الكاتب -ككثير من الباحثين في هذه المسألة- منطقي مع فكرته نفسها؛ لكن مع أصول أهل السنة والجماعة ليس منطقياً ولا موافقاً؛ لأن منطق الفكرة التي وضعها تقرر أن عقد الإسلام عنده لا يثبت حتى تستوفي جميع أركان حده على التفصيل، وبعد تبينها واستيفائها يحكم له بالإسلام، فالأصل الذي بنى عليه منهجه أن عقد الإسلام لا يثبت لمن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بل لا بد أولاً: أن نتحرى ونستوفي ونتحقق هذه الأركان الثلاثة فيما يتعلق بالنسك، والولاية، والحكم! يعني: هو يرى أن عقد الإسلام لا يثبت حتى تستوفي جميع أركان حده على التفصيل، فإذا لم تستوف هذه الأركان فليس هناك أصل يستصحب بالإسلام؛ لأن الإسلام لم يوجد بعد حتى يقال: لا يجوز أن يحكم بزوال الإسلام بمجرد الشبهة العارضة، فهو يقول: أصلاً هو لم يثبت التزامه بالإسلام، فهو منطقي هنا بهذا التقرير مع منطقه ومع فطرته؛ لكن ليس منطقياً مع عقيدة أهل السنة التي تثبت عقد الإسلام بمجرد الالتزام به جملة، ويصبح ثبوت حكم الإسلام في هذه الحالة يقيناً لا يزول بالشبهة العارضة، ولا يبطله إلا يقين مضاد، فالخلاف مع صاحب البحث في هذه القضية ينبثق أساساً من الخلاف حول تحديد ماهية أصل الدين، أو بتعبير الكاتب: حد الإسلام على النحو الذي سبق بيانه، فهذا في الحقيقة خلاف تابع وليس خلافاً أصلياً.

الولاية وعلاقتها بأصل الدين

الولاية وعلاقتها بأصل الدين الولاية في اللغة ضد العداوة، وأصل الولاية من الوليْ وهو القرب والدنو، وتطلق على التحالف والنصرة، كما تطلق على المودة والمحبة، يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وأصل الولاية: المحبة والتقرب كما ذكره أهل اللغة. وأصل العداوة: البغض والبعد، وكما يبدأ العداء بتنافر القلوب، ويمتد إلى أن يصل إلى مقاتلة العدو أو المظاهرة عليه؛ فإن الولاء يبدأ بميل القلب، ويقوى هذا الميل أو الحب ويشتد إلى أن يحمل على الولاء والنصرة. العداوة بهذا المعنى تقابل وتضاد الولاية، والأدلة على هذه المقابلة قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ينقلب إلى العكس، فهذا دليل وجود المقابلة بين الطرفين، ويقول عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]. وفي الصحاح للجوهري: الولْي: هو القرب والدنو، والوليّ ضد العدو، والموالاة: ضد المعاداة، والولاء: النصرة. وما ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين؟ المحبة والمناصرة منها ما يكون على الدين، ومنها ما يكون على الأسباب أو العلائق الدنيوية. مثلاً: عاطفة المحبة: منها ما هو حب طبعي، كحب الرجل لزوجه وولده، وحبه لعشيرته ووطنه وقومه، ومن الحب ما يكون على الدنيا، يعني: بعض الناس تحدث بينهم مواصلات وارتباطات وصلات دنيوية من اشتراك في تجارة وعمل ونحو ذلك من الارتباطات الدنيوية، فتوجد بينهم نوعاً من الألفة والمودة والموالاة. أيضاً: من هذه الموالاة ما يكون على الدين، كحب أي مسلم أسلم بسبب إسلامه، مع أنه قد لا تربطك بهذا الشخص الذي أسلم أي علاقة أو قرابة ولا مودة ولا مصلحة ولا مشاكلة ولا تآلف في أي أمر من أمور الدنيا. هذا بالنسبة للموالاة. أما المناصرة: فمنها ما يكون على الدنيا، كما يتناصر الناس فيما بينهم على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، يتناصرون وينصر بعضهم بعضاً على الدنيا، كأغلب الحروب التي تقع في العالم اليوم والمنازعات إنما تكون على مصالح الدنيا، ولا تكون على عقيدة أو مبدأ، لكن من النصرة ما يكون على الدين كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام من غير أرحام بينهم ولا تجارة يتعاطونها. فالذي يرتبط بأصل الدين من الولاء والنصرة هو فقط ما كان قائماً على أساس الدين لا على أساس الأسباب والصلات الدنيوية. إذاً: نحن قسمنا الموالاة إلى أقسام دينية ودنيوية وكذلك المناصرة، فلماذا نقول: إن الذي يتعلق ويرتبط بأصل الدين وتحقيق الولاية إنما يتعلق فقط بالدين، وما وجه ذلك؟ وجهه: أن الحب الطبعي أو التناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، يعني: مثلاً قد يكره الرجل بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين فريق من المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية: إما تحاسد أو تنافس أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية، وقد يصل الأمر إلى حد الاقتتال أو التباغض، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، ولا يصبح المسلم بذلك كافراً، وقد أشار القرآن إلى بعض ذلك في مثل قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فالرجل قد يكره زوجه فقال الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، فهذا الحب قد يتخلف مع الزوجة، ومع ذلك لا يمس أصل الدين، فهذه قد تكون طبعية أو لأسباب دنيوية، ولا علاقة لها بقضية الولاية التي لها ارتباط وثيق بأصل الدين. يقول أيضاً تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]، فلم تنقطع بينهم أخوة الإيمان رغم أن هذه العداوة التي وقعت بينهم وصلت إلى التباغض والتدابر بل والاقتتال، ومع ذلك لم يقدح ذلك في أصل الدين، وأثبت لهم صفة الإيمان. أيضاً: قد يستثقل الإنسان بعض التكاليف الشرعية، ويحصل كره طبعي لا شرعي لبعض هذه التكاليف، لكن لا يقدح ذلك في أصل الدين؛ لأن الذي يقدح في أصل الدين هو الكراهية الشرعية وليست كراهية الطبع والاستثقال، فالإنسان يكره أن يقتل في الجهاد، فهل كراهة حصول القتل والسبي والأضرار التي تحصل، تقدح في أصل الدين؟ إذا كره ذلك من حيث أنه شرع الله فهذا يقدح، أما إذا كرهه طبعاً فهذا لا يقدح، والدليل على اعتبار الشرع الكراهة الطبعية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وقد حصلت للصحابة كراهة طبعية للخروج في غزوة بدر لمقابلة النفير، هم أرادوا أن يخرجوا ليلقوا العير ويغنموا هذه الغنيمة الباردة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5 - 6]، فمع وجود الكراهة الطبعية أثبت لهم الإيمان. وقال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلا تستطيع أن تدخل الجنة إلا حينما تمر على هذه المكاره وتثبت عليها، (وحفت النار بالشهوات) لأنها تجذب الناس فتوقعهم في النار، ومن هذه المكاره التي حفت بها الجنة مثلاً: كونك تتوضأ بالماء البارد جداً في شدة البرد لتصلي الفجر، وتسبغ الوضوء على المكاره، وتعطي الوضوء حقه وتبلغ به حده الشرعي وأنت كاره، فأنت تكره هذه البرودة، وهذا نوع من العناء، لكن لا تكرهه شرعاً وإنما طبعاً، أما شرعاً فهو يتلذذ بذلك تقرباً إلى الله تبارك وتعالى، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله. فالكراهة المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، لا شك أنها ليست كالكره المذكور في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، فالأولى كراهة طبعية، والأخيرة كراهة شرعية مذموم أهلها. أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين هذه الكراهة وبين الكراهة المذكورة في قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وغير ذلك مما ذكرنا من الكراهة الطبعية. أيضاً: وجود المحبة الطبعية أو التواد أو التناصر الدنيوي لا يعني بالضرورة وجود الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية، وسنذكر بعض الأدلة على أن من الولاية والنصرة ما يتعلق بأسباب الدنيا وليس له ارتباط بقضية أصل الدين. مثلاً: أبو طالب دافع وذبّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هذه نصرة أو محبة طبعية لصلة الرحم، ولكن لم تكن محبة شرعية؛ فلذلك لم تنفعه، ووجود هذه المحبة لم تدخله في الإسلام. أيضاً: قد يحب الرجل بمقتضى الطبع زوجه أو ولده أو عشيرته، وإن كانوا على غير دينه، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، إلا إذا حمله محبة الزوجة أو الأولاد على فعل شيء من الكفر الأكبر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وكلمة الأزواج تشمل الزوجة الكتابية اليهودية أو النصرانية، فقد يحبها زوجها المسلم حباً طبعياً لا شرعياً. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب، وبعض العلماء يفسرها ويقول: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته، فهذه المحبة طبعية بسبب القرابة، لكن ليست محبة شرعية، وقد ظل أبو طالب ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عمره ويحوطه ويمنعه، ولم يتحقق له بهذه النصرة ولاء الإسلام؛ لأنها كانت نصرة على الرحم، ولم تكن نصرة على الدين، بل إن قيام هذا التناصر الدنيوي بين المسلمين لا يحقق به المقصود من الولاية الشرعية؛ لأن المقصود بها ما كان تناصراً على الدين لا على الصلات والمصالح المشتركة، واعتبر في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما يجد به الإنسان حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فجعل العمدة في ذلك المحبة الشرعية لله، وهذه إحدى الثلاث الخصال التي من فعلها ذاق طعم الإيمان. والحب والنصر لا يقدح في أصل الدين إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد وإن تعين عليه الجهاد؛ فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، فمجرد هذا التخلف لا يعد قادحاً في الإسلام، إلا إذا كان يقصد خذلان الدين. ولا يخرج المسلم عن الإسلام بمجرد قعوده عن نصر الملة، وقد يكون تخلفه عن هذه ا

الأسئلة

الأسئلة

حكم الطلاق البدعي

حكم الطلاق البدعي Q ما هو القول الصحيح في الطلاق البدعي هل يقع أم لا؟ A موضع الطلاق يحتاج لكلام كثير جداً، لكن الذي أعلمه وأدين الله به في هذه المسألة: أن الطلاق البدعي يقع، وطلاق الحائض يقع وفاقاً لجمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة؛ لأنه جاء في حديث ابن عمر في بعض الراويات في مسلم أنه أمر ابن عمر أن يعتد بتلك التطليقة التي طلقها فيها وهي حائض وأنه اعتد بها واحتسبها طلقة، مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه أنه طلقها وهي حائض، وفي الكلام تفصيل يرجأ إلى حينه -إن شاء الله- في باب الفقه، والله أعلم.

الإيمان والكفر [17]

الإيمان والكفر [17] إن تخلف الحب الطبعي أو التواد الدنيوي لأي سبب من الأسباب لا يعني بالضرورة تخلف الحب الشرعي وانقطاع الولاية، فهناك فرق بينهما يتضح عند التأمل في النصوص الشرعية، وكما أن الحب درجات فكذلك الولاية الشرعية درجات يجري عليها ما يجري على غيرها من العبادات.

ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين

ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين لقد سبق كلام يسير في قضية الولاية، وذكرنا معنى الولاية في اللغة، وذكرنا نقطة مهمة وهي: ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين، فالمحبة والنصرة التي هي من معاني الولاية منها ما يكون على الدين، ومنها ما يكون على أسباب دنيوية، فالحب من الولاية، ومنه مزايا طبيعية ومنه مزايا شرعية، فحب الرجل زوجته وحبه لعشيرته ووطنه هو حب طبعي يرجع إلى الطبع. أيضاً منه ما يكون على الدنيا؛ بسبب ارتباط الناس فيها بينهم بمصالح ووشائج وصلات دنيوية يتحابون فيها، ومنه ما يكون على الدين كحب من أسلم؛ بسبب إسلامه، مع أنه قد لا تربطك به قرابة ولا مصلحة ولا منفعة ولا ألفة دنيوية، كذلك النصرة من معاني الولاية، ومنها ما يكون على الدنيا، ومنها ما يكون على الدين، كما يتناصر الناس على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، ومنها ما يكون على الدين، كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام، وإن لم تكن بينهم أرحام ولا زيارة يتعاطونها، فالذي يرتبط بأصل الدين هو ما كان على الدين، مثل: الحب والنصرة بسبب الدين، أما ما عدا ذلك فلو حصل فيه شيء من الإخلال فإنه لا يمس العقيدة، ولا يرتبط بقضية أصل الدين.

عدم نقض التواد والتناصر الدنيوي لأصل الولاية

عدم نقض التواد والتناصر الدنيوي لأصل الولاية إن اختصاص ما يتعلق بالولاية بأصل الدين، أولاً: أن التواد والتناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، مثلاً: الإنسان قد يكره بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين بعض المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية كتنافس وتحاسد ونحو ذلك، بل ربما يصل الأمر إلى حد الشجار أو القتال، وهذا لا يقدح في أصل الدين ولا يبطل إيمان هذا المؤمن، وإن كان يقدح في كمال إيمانه أن يتقاتل مع أخيه المسلم وأن يتحاسد معه. يقول الله تبارك وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] فهنا العلاقة علاقة الحب الطبعي للزوجة ليس شرعياً وقد يقع تخلفه كما هو هنا: ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)) فهذه الكراهية التي تقع أحياناً من الزوج لزوجته لا تقدح في عقيدته ولا تمس الدين؛ لأن هذا حب طبعي. مثلاً: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، إلى أن قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فوصفهم بالإيمان ولم يقدح تقاتلهم في أصل الدين؛ لأن التقاتل لم يكن بسبب الدين، وإنما على شيء من أمور الدنيا. أيضاً قد يكره الإنسان طبعاً بعض التكاليف الشرعية، مثلاً: الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، فالطبع يستثقل هذا، لكنه يحبه شرعاً؛ لأن الله عز وجل يحبه، فهذا لا يقدح في إيمانه. أيضاً قد يكره القتال، يقول تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] أي: أنتم تكرهونه طبعاً، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فهنا كراهة المؤمنين للقتال كراهة طبعية لا شرعية، فهم لا يكرهونه؛ لأنه حكم الله أو أمر الله، لكن لأن النفوس جبلت على كراهته كراهة طبيعية، يقول عز وجل أيضاً في نفس الموضوع: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] أي: كارهون للخروج لقتال المشركين في غزوة بدر، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، فهذه أيضاً كراهية طبعية وليست كراهية شرعية، كذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره - يعني: التي تكرهها النفس- وحفت النار بالشهوات). والكره الموجود في هذه النصوص التي ذكرناها: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} [النساء:19] وقوله: (وحفت الجنة بالمكاره)، وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] كل هذا لا علاقة له بأصل الدين؛ لأن هذه الكراهية قد تكون طبيعية، وليست هي نفس الكراهية المذكورة في مثل قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، هذه كراهية في الدين، ولذلك فهي تبطل وتحبط الإيمان؛ لأنها كراهية للحق والتوحيد والأنبياء. وهذه الكراهية الطبيعة لا يمكن أن تكون مثل الكراهية التي في قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، فهذه الكراهية في الدين هي التي تمس أصل الدين والعقيدة وتحبط الإيمان. هذا فيما يتعلق بالدين، أما إذا ما تخلف الحب الطبعي ووجد كره طبعي، فإنه قد يقدح في كمال الإيمان لكنه لا يقدح في أصله، كذلك إذا وجد الحب الطبعي والتواد والتناصر الدنيوي؛ فإن هذا لا يعني بالضرورة وجوب الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية؛ لأن الرجل بطبعه قد يحب زوجته أو ولده أو عشيرته وإن كانوا على غير دينه، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في أصل دينه إلا إذا حمله على فعل هو في ذاته كفر أكبر، يقول عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فالأزواج هنا تشمل فيما تشمل الكتابيات اليهودية أو النصرانية إذا تزوجها المسلم بشرطه، ومع ذلك هذا لا يقدح في أصل الإيمان؛ لأنها محبة طبيعية وليست تنافي العقيدة. وأيضاً قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، يعني: لقرابته منك، وقيل: إنها نزلت في قصة أبي طالب ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)) أي: هدايته، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))، فـ أبو طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة عمره، ويحرسه ويمنعه ممن آذاه، لكن هل صار بذلك مسلماً؟ لا؛ لأن مناصرة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بفعل القرابة، وبسبب الحب الطبعي لا الشرعي، لذلك لم تكن نصرة في الدين، ومن أجل ذلك لم يكن بذلك مسلماً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلامات التي إذا فعلها الإنسان يجد حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فهذه هي المحبة المعتبرة المعتد بها.

التخلف عن النصرة الواجبة لا يقدح في أصل الدين

التخلف عن النصرة الواجبة لا يقدح في أصل الدين إن تخلف النصرة الواجبة على العبد المؤمن لا يعني التخلف أو القدح في أصل الدين، إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد الواجب فهو كبيرة؛ يجب عليه أن ينصر إخوانه المؤمنين، سواء كان النفير عاماً، أو داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين، أو حضر الصف في هذه الحالات التي يجب فيها النفير العام، ففي هذه الحالة يجب أن يخرج، فإذا لم يخرج وقد تعين عليه الجهاد فهذا لا يعد قدحاً في أصل إيمانه، وإن كان يقدح في كمال إيمانه وينقص إيمانه؛ لأنه مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لكن لا يخرج بذلك عن الملة، وهنا تخلف عنصر من عناصر المناصرة على الدين. أيضاً قد يتخلف الإنسان عن مثل هذه المناصرة لسبب، مثل: عهد بينه هو وقبيلته وبين القوم الذين سيقاتلهم المؤمنون، أو لأنه لم يهاجر، أو كامتناع المسلمين من مناصرة من أتاهم بعد صلح الحديبية كـ أبي جندل وأبي بصير فهما حينما انتهى الأمر ردهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعهم أيضاً عن مناصرة من هاجر إليهم على قوم بينهم وبينهم ميثاق.

مناصرة أعداء الله لصلة رحم لا يقدح في أصل الإيمان

مناصرة أعداء الله لصلة رحم لا يقدح في أصل الإيمان إن وجود مودة أو مناصرة لأعداء الله عز وجل مما يقدح في أصل الدين، إذا كان مساومة لهم على دينهم الباطل، أما إن حصل مثل هذه المناصرة لصلة رحم أو نحوه فهذا ذنب ومعصية من المعاصي، كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في مكاتبة أهل مكة بخبر خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً كما وقع من سعد بن عبادة عندما انتصر لـ عبد الله بن أبي في قصة الإفك، وقال لـ سعد بن معاذ: كذبت! والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، بل قد تكون هذه النصرة واجبة أحياناً، فيجب على الأمة أو على المسلمين مناصرة قوم إذا كان بينهم وبينهم عهد على أنهم يدخلون في جوار الأمة الإسلامية، وأنهم يدافعون عنهم إذا داهمهم عدو آخر، كحلف من الأحلاف، فإذا وقع ذلك يجب على المسلمين إذا اعتدي على هؤلاء الذين لهم ذمة وعهد أن ينصروهم، بل الذمي الذي يعيش في وسط المسلمين وله ذمة لا تخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ فإن من تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما ألا يخفر الله عز وجل في ذمته؛ فإن له ذمة وعهداً مع إمام المسلمين، فلا ينبغي أن ينقض هذا العهد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام تهدد من يفعل ذلك بأن يكون خصيمه يوم القيامة. خلاصة الكلام أن ما يرتبط من الولاية بأصل الدين هو ما انعقد منها على الدين لا على الدنيا أو الطبع، لكن الأمر الذي يقدح في الولاء والبراء هو معاداة المسلم لإسلامه، أو موالاة الكافر على كفره؛ لأن كلا الأمرين يتضمن الرضا بالكفر أو السخط بالإسلام، فإذا كان ساخطاً على الإسلام ويحارب المسلم بسبب تدينه فإنه يكون راضياً بالكفر، ولذلك يوالي الكافر بسبب كفره، أما ما عدا ذلك فلكل مقام مقال، فإذا كانت الموالاة والمناصرة أو المحبة على كفر فهي كفر، وإن كانت على معصية فهي معصية، أما الموالاة على الأسباب والعلائق الدنيوية ففيه تفصيل بحسب ما تفضي إليه هذه الموالاة، فمنها ما يحل ومنها ما يحرم.

وجهة نظر كاتب (حد الإسلام) في الولاية

وجهة نظر كاتب (حد الإسلام) في الولاية ننتقل إلى المسألة الأخرى وهي ما عبر عنه الكاتب بنفي الولاية عن غير الله عز وجل، حيث تتلخص خطبته في هذا الباب باعتباره الولاية ركناً من أركان توحيد العبادة، أو ركناً من أركان ما أسماه هو حد الإسلام، فهذا الأمر قرره في مواضع كثيرة من كتابه، وأفرد لدراسته باباً مستقلاً له، فيقول ما نصه: ثم نأتي بعد ذلك إلى الجزء الثاني من الكلام عن توحيد العبادة لتقرير أركان هذا التوحيد وهي: أ- نفي النسك عن غير الله عز وجل. ب- قبول شرع الله ونفي ما سواه. ج- إفراد الله بالولاية. أيضاً ذكر أن معنى الولاية: أن تتولى الله سبحانه وتعالى وتوالي فيه عز وجل. أيضاً حدد المناط المحذور المكفر في باب الولاية بأحد أمرين: تولي الكافرين، أو تولي المرء غيره بغير ولاية الإسلام، فاعتبر كلاً منهما كفراً صريحاً. يقول: والمحذور على المسلمين بالنسبة لأمر الجماعة فيهم أن يتولوا الكافرين، فولاية الكافرين كفر صريح بواح، وأن من يتولى غيره بغير ولاية الإسلام يكون قد اتخذ غير الله ولياً، قال: ومن اتخذ غير الله ولياً فهو مشرك، أيضاً حدد لموالاة الكافرين صورة واحدة وهي المظاهرة والمناصرة، والدل على عورات المسلمين. هذا هو معنى ولاية الكافرين التي تعد مكفرة عنده، فهذه ليس لها تكييف عنده إلا أنها كفر أكبر. يقول: على أن التبرؤ من موالاة الكافرين ليس على درجة واحدة بين المؤمنين، ولذلك ذكر الله عز وجل اتخاذ البطانة ولم يصفه بالكفر: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]، وذكر الموالاة ولم يصفها ولو مرة واحدة بغير الكفر، وحدد الموالاة بأنها المظاهرة والمناصرة، والدل على عورات المسلمين. أيضاً: أكد أن موالاة الكافرين في ذاتها كفر صريح، بصرف النظر عن الاعتقاد الباطن، أو الباعث إلى هذه الموالاة، وعقد مقارنة بين قصة حاطب بن أبي بلتعة وبين قصة أصحاب مسجد الضرار، انتهى منها إلى أن فعل حاطب رضي الله عنه يخرج عن وصف موالاة الكافرين إلى التجسس أو خيانة السر فقط، ولا يتعلق بقضية الموالاة، وإنما هو خيانة للسر، أو عملية تجسس على المسلمين، والرد على هذا صريح جداً، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] والآية صريحة في أن هذا من الموالاة. أيضاً انتهى إلى أن الخلاف بين فعل حاطب وفعل أصحاب مسجد الضرار لا يرجع إلى الاعتقاد الباطن، ولكن إلى اختلاف عمل الظاهر الذي يتكون من الفعل المحسوس زائد القصد، وبه وحده يتعلق الحكم الشرعي، فجعل الفرق بين قصة حاطباً وقصة أصحاب مسجد الضرار: أن حاطب لم يقصد الإضرار بالمسلمين، وإنما قصد جلب منفعة معينة لذويه الذين هم مستضعفون في مكة مع بقاء الولاء، أما في حالة مسجد الضرار فقد كان هناك قصد الإضرار، بل إلى المحق واستئصال شأفة الدعوة الإسلامية، وذكر أن هذا الفرق بين الأمرين لم يعلم بالأخبار الغيبية وحدها، بل بدلالة الأفعال والأقول، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:107]، فقال: هناك فرق بين القصد من الإضرار وبين القصد إلى عدم هذا القصد في الحالتين، أما فعل حاطب فلا علاقة له بقضية الولاء، فقال: إنه عبارة عن سقطة في لحظة ضعف افتقد فيها التوكل، فوقع في سوء التأويل، ولكن لم يذهب القصد إلى المظاهرة ولم ينو بذلك المظاهرة والمعاونة والتأليب على المسلمين، أو دلهم على عورات المسلمين ومقاتلتهم التي لا نجاة للمسلمين منهم بعدها، وقد تبين للرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، وقال: (إنه قد صدق)، فهو لم يتركه مع وقوع فعل الموالاة منه وإنما تبين له صدقه فخرج فعله عن وصف موالاة الكافرين إلى مجرد التجسس أو خيانة سر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. آخر كلام للكاتب في هذه القضية، قال: إن ركن الموالاة شأنه شأن بقية أركان حدَّ الإسلام، لا عذر فيه بالجهل! بناءً على ما قرره الكاتب مراراً من أنه لا عذر بالجهل في حد الإسلام؛ لأن للإسلام حداً لا تثبت لأحد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يستوفه كان كافراً، لا فرق في ذلك بين الجاهل والمعاند. أيضاً أغفل الكاتب الإشارة في هذه القضية إلى العذر بالتأويل، فلم يذكره إلا عرضاً بكلمة عابرة عند كلامه في موقف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: أنه سقطة في لحظة ضعف افتقد فيها التوكل، ووقع في سوء التأويل.

مناقشة كلام الكاتب فيما يتعلق بقضية الولاء والبراء

مناقشة كلام الكاتب فيما يتعلق بقضية الولاء والبراء نعرض لمناقشة هذا الكلام الذي ذكره الكاتب فيما يتعلق بقضية الولاء، ابتداءً لا ينكر أحد أبداً خطورة وأهمية قضية الولاء والبراء، وأنها من أجلَّ القضايا التي ينبغي على كل مسلم أن يصحح فهمه فيها، وأن يخلصها مما غشيها من الخلل؛ بسبب حقد كثير من المعاصرين من أبناء هذه الأمة، أيضاً في زحمة هذه المدارسة ينبغي ألا ننسى أن بقاء الوجود الإسلامي لهذه الأمة مرهون بوضوح هذه القضية، يعني: إذا كانت قضية الولاء والبراء لم تتخذ الموضع اللائق بها في حس وعقيدة المسلمين وفي واقعهم ومواقفهم، فهذا قد يهدد وجود الأمة الإسلامية تماماً، فلابد أن هذه القضية تبقى حية متأججة في النفوس؛ فإن انقطع هذا الأمر فهذا رهن بقتلها وتقديم البدائل الرخيصة الهزيلة. لا يغيب عنا أيضاً أن انقطاع الولاء الإسلامي، واجتماع الأمة على المصالح والعصبيات والقوميات كان هو المسئول الأول عن تغييرها وإذابة قيمها ومحو شخصيتها، والإلقاء بها في مهاوي الفتنة والدمار، ولا يخفى أيضاً ما تحاوله قوى الكفر ومن شايعها من فصل هذا الدين عن أمته وتاريخه، وقتل الانتماء إلى الإسلام والاعتزاز به في داخله، حتى يصبح مطية ذلولاً يعبثون به وبمصائره كما يشاءون، فإذا فقدنا مصدر قوتنا وعزتنا وهو الانتماء لهذا الدين والاعتزاز بهذا الدين وبأبطال هذا الدين، فهذه أحد أهداف أعداء الإسلام، وهذا أمر لو أفضنا في مظاهره لطال بنا الحديث جداً، يكفي أن الأطفال في المدارس الابتدائية يحفظون الافتخار بالفراعنة الوثنيين المشركين، ففي بعض الامتحانات التي يمتحن بها الأطفال الضحايا المساكين يأتيهم في التدريبات أو الامتحانات: لماذا تفخر بـ مينا؟ لماذا تنظر بإعجاب إلى رمسيس الثالث؟ فيبرزون هؤلاء الوثنيين المشركين عبدة الملوك في صورة الأبطال المحبوبين، ويجعلون المثل الأعلى للمسلمين الكفار، يقول عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فهذا هو موقفهم مع الإسلام، قطع العلائق والروابط لما يكسبنا الاعتزاز بهذا الدين. هذه القضية إن كانت قضية دعوى أو توضيح للمفاهيم، فمقام الدعوة غير مقام التأصيل والتقعيد، فعندما يكون الإنسان في معرض دعوة الناس بالترغيب والترهيب، قد يتسامح في أشياء لا يسامح فيها إذا كان في موضع تقعيد وتأصيل. أقرب مثال إلى أذهاننا حينما نذكر هذا الفرق بين المفكر الذي يفكر وبين الشخص الأصولي المنضبط في عبارته، والذي يضع الأصول والضوابط والتقنينات، أقرب مثال هو ما حصل من الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال وفي المعالم وهو يعبر عن معان سامية من معاني هذا الدين ومن معاني التوحيد ومعاني الإيمان، لكن هذه القضية بالذات كان لها عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله موقف خاص، ولا نريد أن نندفع وراء العواطف والإعجاب بجهاد الرجل في سبيل الله وبذله نفسه في سبيل الله، هذا شيء ومحاكمة الكلام بالقواعد العلمية شيء آخر، فالفرق بين هذا المنهج الذي سلكه في الظلال والمعالم وبين المنهج الذي نراه عند صاحب كتاب حد الإسلام: أن صاحب كتاب حد الإسلام يحاول أن يأخذ منطق وضع القوالب الأصولية تأصيل الكلام وتقعيده في قواعد وحدود ورسوم، بحيث يتخذ دستوراً وضابطاً لمثل هذه القضايا الحساسة، فهو دخل في إطارات أصولية، وقعد هذه الأشياء فحصل مثل هذه المآخذ التي نذكرها. أيضاً حينما يكون المقام مقام التقعيد والتأصيل ووضع الضوابط لا يعني ذلك أننا حينما ندافع عمن عندهم خلل في قضية الولاء والبراء حينما تدفع عنهم وصمة الكفر لا يعني ذلك أنك تواليهم، أو أنك تقرهم على ما هم عليه من الخلل والباطل، هم آثمون ومقصرون، لكن ربما في كثير من هذه الأحوال لا يصل الأمر إلى حد الكفر. مثال: حينما يتكلم العلماء في قضية حكم قاتل المؤمن متعمداً تجد كلاماً شديداً جداً في هذه القضية، وذكر الأحاديث التي تصف مثل هذا الفعل بأنه كفر: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ذكر بعض العلماء أننا نترك الأحاديث على ظاهرها ولا نفسرها أمام عوام الناس، هذا المقصود منه التخويف والترغيب من قتل المؤمن بغير حق، فلا تقل له: أنت لا تخرج من الكفر وأنك تبقى في الإسلام، مثل هذا في مقام الدعوة والتبليغ لا ينبغي؛ لأن المقصود التبليغ؛ لذلك لما دخل الإمام أحمد رحمه الله تعالى أحد المساجد وجد قاصاً كان يخوض في التحذير من معصية معينة بطريقة فيها شيء من المبالغة كما هو معروف عن القصاصين، فالإمام أحمد لو كان يظن أنه علم لأخذ يناظره ويبطل حجته لكن هو رآه رجلاً من القصاصين، الوعاظ القصاصين وفي نفس الوقت له تأثير جيد على الناس بحيث أنه ينفرهم من بعض هذه المحرمات، أو ينكر على بعض البدع، فقال الإمام: ما أنفعهم للعامة. الإمام أحمد رجل من علماء الحديث وجهابذته يغار على السنة وعلماء، الحديث لهم حساسية خاصة أمام القصاصين، فهذا القاص أتى بهذه الأشياء التي هي غير ثابتة من حيث الأثر لكن في مجملها تنفر من بدع معينة، فقال: ما أنفعهم للعامة، وتركه وانصرف. كذلك عندما تتكلم على ترك الصلاة لا تقل لقاطع الصلاة: من ترك الصلاة فقد كفر وهذا الكفر كفر كذا، وأنت مسلم لكنك عاصٍ وكذا مثل هذا الكلام، لكن إذا سئلت لا تكتم العلم الذي تعلمته، لكن في باب التنفير تطلق ذكر عموم النصوص. فتأتي ذكر المرأة النامصة وتقول: لعن الله النامصة والمتنمصة، ولا تقل لها: اطمئني أنت موحدة وأنت مسلمة، أنت تقولين: لا إله إلا الله، وربما يكون لك أعمال صالحة أخرى تكفر عنك هذه المعصية وربما كذا وربما كذا، كلا، فلا إفراط ولا تفريط، وفي نفس الوقت لا تقل لها: أنت ملعونة، أو أنت قد وقعت عليك لعنة الله؛ لأنَّكَ بالفعل لا تدري هل تقع عليها اللعنة أم لا، لكن تقول لها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله النامصة والمتنمصة) فمقام الدعوة ومقام الإرشاد قد يتسامح فيه غير مقام التقعيد والجلوس، أمام مجالس أهل العلم أو المدارسة بين طلبة العلم، هذه تحتاج لضبط ودقة واحتياط، فهذا نقوله بين يدي الكلام في هذه القضية لسنا في مقام الدفاع عن الخلل الموجود في كثير من المسلمين في قضية الولاء والبراء؛ لأن مرض البعد عن الإسلام والتقصير في جنب الله قد شاع في مجتمعاتنا. أيضاً نحتاج لنبرز ما يعذر به العامة؛ لأن مقامنا هنا ليس مقام الكلام مع العامة، فلا تأت للعامي الذي يفعل أفعال الشرك وتقول له: اطمئن هذا شرك أصغر وأنت كذا وتسوغ باطله وتعتذر عنه، لكن هذا هو البحث العلمي المجرد الذي يقضي بيان الحق في مقامه، ووضع الأمر في نصابه. أما ما ذكره الكاتب في باب الولاية فهو أولاً قصد حقيقة ولاية الكافرين على النصرة والتجسس، والدل على العورات، هذه هي ولاية الكافرين.

معنى الولاية لغة وشرعا يناقض ما ذهب إليه كاتب (حد الإسلام) في الولاء

معنى الولاية لغة وشرعاً يناقض ما ذهب إليه كاتب (حد الإسلام) في الولاء إن أئمة اللغة لم يقصر أحد منهم معنى الولاية على النصرة كما ذهب الكاتب، بل ذكروا جميعاً أن أصل الولاية من الوَلْية، والوَلْي هو القرب، وضد الولاية العداوة، وتطلق الولاية أيضاً على المناصرة، وتطلق على الحب والتقريب. فهناك إذاًَ: ولاية الحب والمودة، وهناك ولاية التحالف والنصرة، يقول في الصحاح: والولي ضد العدو، والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والتقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، فخلاصة كلام اللغويين في هذا أن الموالاة ضد المعاداة، والمعاداة درجات تبدأ من تنافر القلوب، وتمتد إلى أن تصل إلى المقاتلة وتقابل السيوف، أو المظاهرة على العدو والدل على عورته. هذا من حيث اللغة. إذاً: الولاية تشمل هذه المعاني ولا تقتصر فقط على ما ذكره الكاتب. أيضاً هناك من القرآن الكريم ما يدل على هذا؛ فإن القرآن فرق بين الولاء والنصرة في تسعة عشر موضعاً، منها: قوله عز وجل: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:45]، وقوله الله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123]، {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22]، {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8]. فهذا التفريق بين الولي والنصير من حيث القسمة العقلية لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه تفريق حقيقي، يعني: أن العطف هنا يقتضي المغايرة، وأن الولاية غير المناصرة، أو أن يكون هذا من باب عطف الخاص على العام، مثل قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، مع أن جبريل وميكال من ملائكة الله ولكنه خصهما من دون ملائكته، فتكون النصرة فرداًَ من أفراد الولاية أو أحد معانيها، {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:107]. فعلى كلا الوجهين يبطل ما ذهب إليه الكاتب من قصر حقيقة الولاية على النصرة والدل على العورات. وجه ذلك أن الولاية هي ضد العداوة، والعداوة درجات تبدأ ببغض القلوب، وتمتد إلى أن تصل إلى مقاتلة العدو، أو المظاهرة عليه والدل على عوراته، فإذا تأملنا المقابلة بين الولاية والعداوة في مثل قوله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، أيضاً يقول الله عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فالنصرة فرد من أفراد الموالاة وصورة من صورها وليست كل الموالاة هي النصرة. أيضاًَ من الأشياء التي تلفت النظر أن الكاتب أخرج ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عن أن يكون صورة من صور الموالاة، ولم تبلغ حد الكفر؛ لأنه وضع أصل موالاة الكافرين لها معنى واحد هو المناصرة والدل على العورات، وأن هذه المناصرة بهذه الصورة ليس لها تكييف إلا أنه كفر أكبر يخرج من الملة، مع أن الله عز وجل قال في شأن حاطب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا))، خصه بالإيمان، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. فنهت الآية عن اتخاذ أعداء الله أولياء، وذكرت صورة من ذلك وهي الإلقاء إليهم بالمودة، وهذا هو مورد الآية أصلاً، فكيف يقال بعد ذلك: إن ما وقع من حاطب رضي الله عنه يخرج عن نطاق الموالاة بالكلية، فالمشكلة هي أنه تبنى أصلاً مسبقاً، ثم حاول أن يفسر الآية على الأصل الذي تبناه، أو حاول تأويلها في ضوء هذا الأصل، ونحن مأمورون بأن نتحاكم إلى آيات الكتاب لا أن نتحكم فيه، فهذا والله أعلم نوع من التحكم، فوضع أصلاً من عنده غير موافق للشرع ولا للغة، ثم لما وضع هذا الأصل واستقر عنده أراد أن يقصر معنى الآية على هذا الأصل الذي ذكره. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تفسيراً للموالاة المذكورة في قوله: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ))، فقوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ))، هذا هو تفسير الموالاة، وقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، فالآية تجيز للمسلمين في حال الخوف المداراة وإظهار الموالاة باللسان لأعداء الله بقدر ما يكف به شرهم وتندفع به فتنتهم، مع عقد القلب على البراء والبغض، يقول الطبري: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً))، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يكف بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة. ويقول الشوكاني: وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، لكنها تكون ظاهراً لا باطناً. خلاصة الكلام أن مسمى الموالاة لأعداء الله لا يختص فقط بالنصرة وحدها، بل يشمل سائر صور المودة الأخرى، هذا فيما يتعلق بمعنى الموالاة وقصر الكاتب إياه على المناصرة، وبيان أنها أعم من ذلك.

الفرق بين الحب والكره الطبعي والشرعي

الفرق بين الحب والكره الطبعي والشرعي قال المؤلف: ليس مطلق النصرة من أصل الدين، يعني: حصر الكاتب الموالاة في معنى المناصرة والمظاهرة. ثم قال: إن هذا ركن من أركان حد الإسلام لا يعذر فيه بالجهل، والقدح فيه قدح في أصل الدين. ف A أنه ليست كل مناصرة هي من أصل الدين، بل ما كان من ذلك بسبب الدين، فإذا كان أصل الموالاة هي الحب والقرب، فإن الموالاة تشمل فيما تشمل النصرة. بقي أن نقرر أصلاً هاماً وهو أن ما يرتبط من الحب والنصرة بأصل الدين هو ما كان من ذلك بسبب الدين، لا مطلق الحب ولا مطلق النصرة، أما ما لم يكن بأصل الدين فإنه يرتبط بالفروع، ويتفاوت الحكم فيه من صورة إلى أخرى. تفصيل هذا الكلام أن الحب منه ما هو طبعي كحب الحليلة والأولاد، ومن الحب ما هو شرعي اختياري كحب المسلم لإسلامه، وحب ما شرعه الله لعباده من التكاليف؛ لأنها تنزلت من عند الله عز وجل. أيضاً من الحب ما يكون لأسباب دنيوية؛ كصداقة وجوار ومصلحة، ومنه ما يكون مرده إلى الدين، كما يحب المسلم إخوانه في الله جملة على الغيب، فأنت تشعر بحب نحو كل مسلم على وجه الأرض حتى ولو لم تعرف اسمه ودون أن تراه، حتى ولو لم تكن لك أي صلة بهذا المسلم، فهذا الحب الذي يكون في الدين، فما يتعلق بأصل الدين من هذين النوعين من الحب الطبعي والشرعي فقط هو الحب الشرعي الاختياري الذي يكون مرده إلى الدين. ونكرر الكلام بصورة أخرى، فنقول: إن تخلف الحب الطبعي أو التواد الدنيوي لأي سبب من الأسباب لا يعني بالضرورة تخلف الحب الشرعي وانقطاع الولاية، فقد يكره الإنسان زوجته ويحمله ذلك على طلاقها وفراقها، فلو تخلف هذا الحب لا يعني ذلك أنه يكرهها كرهاً شرعياًَ، وأن هذا يقدح في موالاته لله عز وجل ورسوله، هذا أمر طبعي وليس أمراً شرعياً، فهل معنى ذلك أن ولاية الإسلام تنقطع بين هذين الزوجين؟ لا، فولاء الإسلام باق، وهي ما زالت مسلمة لها حرمة المسلمة وهو كذلك، فيبقى أصل الولاء بسبب الإسلام، وقد أثبت القرآن كرهاً من هذا النوع ولم يثبت به انقطاع ولاية الإسلام، فقال تبارك وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]. وهناك من العداوة ما قد تكون عداوة صريحة كعداوة العدو، وقد تكون عداوة غير مباشرة، كأن يشغلك عن ذكر الله، ولعل هذا هو المقصود بالآية، أو أن الإنسان يحصل لأهله وولده المال من الحرام، فهما يحملانه على فعل شيء من المحرم، ربما أيضاً يستثقل الإنسان بعض التكاليف الشرعية ويكرهها طبعاً، ولا يعني ذلك أن عمله قد حبط وأن إسلامه قد نقض، وأثبتت النصوص شيئاً من هذا الكره ولم تثبت به انخرام عقد الإسلام، كما ذكرنا الأمثلة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وكذا مثال إباحة الشرع لتعدد الزوجات، فما من امرأة إلا وهي تغار وتكره أن يتزوج زوجها عليها، فهذه الكراهية كراهية طبعية، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يؤاخذ زوجاته فيما أتينه من أفعال بسبب هذه الغيرة، فحينما أرسلت إحدى أمهات المؤمنين في يوم عائشة رضي الله عنها قصعة فيها طعام وثريد، فحملتها الخادم وأدخلتها على النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة، فغارت أم المؤمنين وضربت القصعة وأسقطتها على الأرض حتى انكسرت، فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ ظل يجمع الطعام من الأرض ويقول: (غارت أمكم. غارت أمكم)، فلم يؤاخذها، وأبدل الأخرى بقصعة سليمة. الشاهد أن هذا شيء طبيعي، لكن لو فرضنا أن امرأة من المسلمين تكره هذا الحكم؛ لأنه حكم الله، هذه تكون عرضت نفسها للردة، وألا يكون لها حظ من الإسلام إذا هي طعنت في هذا الحكم، وأن الله أباح تعدد الزوجات، أو اعتقدت أن هذا ليس من الشرع في شيء بدون تأويل، أو كذبت بهذا الحكم، أو جحدته أو كرهته شرعاً لا طبعاً، فهذا يمس أصل الدين ويمس العقيدة. فهذه من الأمثلة الواضحة على التفريق بين الكره الشرعي والكره الطبعي، فإذا كرهت المرأة تعدد الزوجات؛ لأنه حكم الله، فهذه ينطبق عليها قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، أما إذا كانت الكراهية طبعية بسبب الغيرة والطبع فهذا مما لا تؤاخذ به المرأة. أيضاً القتال كما ذكرنا مكروه من حيث الطبع، لكنه محبوب من حيث الشرع، والدليل على ذلك أنك ترى المجاهد في سبيل الله يترك ماله وأهله وأولاده، ويلقي بنفسه مقبلاً غير مدبر في نحور الأعداء، وهو حريص على ذلك أشد من حرص الأعداء على الحياة، قال الله عز وجل في القرآن: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] فهو محبوب شرعاً للمؤمن؛ لأن في الجهاد والقتال في سبيل الله ثواباً عظيماً جداً، سواء في النفقة بالمال أو المخاطرة بالروح، فهذا يحبه حباً شرعياً، لكن الطبع قد يكره ذلك لهذه الأسباب. أيضاً في بعض التكاليف الشرعية قد توجد كراهية طبعية. هذا أصل معنى كلمة تكليف، التكليف: هو أن يلزم الشخص بشيء فيه كلفة ومشقة، ولذلك لا توجد عبادة إلا وفيها مشقة، لكنها مشقة مقدورة محتملة. وقوع الكره الطبعي قد يوجد حتى بين بعض المسلمين من تحاسد وتباغض وتدابر، بل ربما يتلاعنون ويتقاتلون ولا يعني ذلك انقطاع أصل ولاء الإسلام بينهم، ونعتبر في ذلك فيما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاقتتال مع أنه لم يقطع الأخوة الإيمانية بينهم، حتى كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجمع القتلى من الفريقين ويصلي عليهم بعد انتهاء القتال. وذكرنا آنفاً قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]، فلم تنقطع ولاية الإسلام ولا أخوة الإيمان رغم ما كان بينهم من تحارب وقتال، لذلك العلماء يفرقون بين القتل الذي يكون لعداوة أو لخصومة أو على مال، وبين القتل الذي يكون على دين الإسلام، فالأول يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، أما الذي يكون بسبب دينه وإسلامه فهذا كفر أكبر مخرج من الملة. فالنوع الأول لا ينقض الولاء والبراء ولا يمس أصل الدين، وإن كان ينقص كمال الدين. أما النوع الثاني: فهو قتل المسلم بسبب إسلامه، فهذا هو الذي ينقض الولاء والبراء. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: عن حكم قتل المتعمد، وعمن يقتل على مال أو حقد ومن يقتل على دين. فأجاب: الحمد لله، أما إذا قتله على دين الإسلام مثل ما يقاتل النصارى المسلمين على دينهم. فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، وهؤلاء مخلدون في جهنم كتخليد غيرهم من الكفار، وأما إذا قتله قتلاًَ محرماً لعداوة أو مال أو خصومة ونحو ذلك فهذا من الكبائر ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. ذكرنا أيضاً أن وجود الحب الطبعي أو الدنيوي لسبب أو لآخر لا يعني ضرورة وجود الحب الشرعي وانعقاد الولاية الإسلامية، مثال ذلك: الزوجة الكتابية قد يحبها الزوج حباً طبيعياً، لكن لا يعني هذا بالضرورة وجود الحب الشرعي المحرم في مثل هذه الحالة، أو أنها لها ولاية الإسلام، كذلك محبة الرجل ولده وذوي رحمه وإن كانوا على غير دينه، هذه المحبة طبيعية، وفي القرآن الكريم إشارات إلى هذا النوع من الحب الذي لا يعني بالضرورة انخرام عقد الإسلام، مثل: قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، يعني: من أحببته لقرابته حباً طبعياً، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذه كما ذكرنا في حق أبي طالب، وإن كان هذا الحب لم يكن من جنس حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، فهذا حب خارج عن معنى الولاء والبراء. وفي تفسير آخر للآية: إنك لا تهدي من أحببت هدايته. وأيضاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وهذا أيضاً يشمل فيما يشمل الكتابية. وقال الله عز وجل: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119]، فهذه المحبة التي نعتها هذه الآية على الصحابة رضي الله عنهم من جنس المحبة الناقضة للولاء، وإن كانت مضعفة له ويجب اجتنابها. كذلك مما لا ينكر أنه كلما قوي ما في القلب من الإيمان بالله، وكلما زادت ورسخت محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلب العبد؛ فإن هذه المحبة تطرد ما فيه من ميل أو مودة إلى أعداء الله، حتى لو كان هؤلاء آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة، حتى إذا ما

الفرق بين الحب المتعلق بأصل الدين وغير المتعلق بأصل الدين

الفرق بين الحب المتعلق بأصل الدين وغير المتعلق بأصل الدين كيف نميز بين الحب الذي يكون له علاقة بأصل الدين، والحب الذي لا يتعلق بأصل الدين؟ التفريق والميزان بين الحب الذي له علاقة بأصل الدين والذي ليس له علاقة بأصل الدين هو الباعث، يعني: نبحث ما هو الذي يبعث على هذا الحب، وما هو الذي يحمل عليه، فإن كان هذا الحب لرحم أو لزوجية أو لحاجة كان متعلقاً بالفروع أي: بالأمور العملية في كتب الفقه مثلاً، ولا ينتقض فيه بالضرورة عقد الإسلام، اللهم إلا إذا حمل على ارتكاب فعل هو في ذاته من أعمال الكفر الأكبر، أما إن كان الباعث على هذا الحب مرده إلى الدين، وكان الباعث عليه والدافع له متعلقاً بأصل الدين لا محالة، كالذي يعادي المسلم بسبب إسلامه، أو بغضه لأحكام الله، وكراهيته لما أنزل الله، فهذا ينقض أصل الإيمان ويبطل الإسلام، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29 - 32] إلى آخر الآيات، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]. كل هذه صورة من معاداة المسلم بسبب إسلامه، لا أنهم يتنازعون على أرض أو على مال أو على أمر من أمور الدنيا أو تحاسد، لكنها معاداة بسبب أن هذا مسلم، وبسبب أن هذا صاحب دين، فمعاداة المسلم بسبب إسلامه هذا مما يتعلق بأصل الدين وينتقض به عقد الإسلام. كذلك حتى نميز بين الحب الذي له علاقة بأصل الدين وبين ما لا علاقة له بأصل الدين العداوة وهي نقيض الحب. إذاً: ما هي العداوة التي تتعلق بأصل الدين؟ وكيف نفصل بينها وبين العداوة التي لا علاقة لها بأصل الدين ولا تنقض عقد الإسلام؟ فيكون نفس هذا الجواب، يعرف ذلك بالبحث عن الباعث على هذه العداوة، إن كان الحامل على هذه العداوة خصومة أو حسد أو تنازع على مالٍ أو على شيء من هذا كان تعلقها بالفروع وليس بأصول الدين، ولكل حالة حكمها، أما إذا كان مردها إلى الدين وعداوة بسبب الدين فهذه ما من شك أنها تتعلق بأصل الدين، وتقدح في صحة الإيمان.

الإيمان والكفر [18]

الإيمان والكفر [18] أجمع علماء الأمة عبر العصور كلها على أن الحكم لله وحده بلا نزاع، وأن إعطاء هذا الحق لغيره جل وعلا يعتبر كفراً أكبر مخرج من ملة الإسلام؛ وأما اعتماد الحكم بالكفر على كل من قبل بغير شرع الله مطلقاً فهذا مما لم يقل به أحد، فينظر في أسباب هذا القبول، ونوع هذا الحكم.

منهج كتاب (حد الإسلام) في قضية الحكم

منهج كتاب (حد الإسلام) في قضية الحكم سبق أن ذكرنا تعريف الكاتب لحد الإسلام، وهو أنه يتكون من ركنين: الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب. الثاني: التزام شريعته جملة وعلى الغيب، وأنه لا يقبل تصديق بغير التزام، ولا التزام بغير تصديق. ثم عبر عن حد الإسلام بتعبير آخر حينما قسمه إلى ثلاثة أركان أساسية، وهي: النسك، والحكم، والولاية. وذكر أن الحد الأدنى من الدين الذي يجب تحققه في كل إنسان حتى تثبت له صفة الإسلام ابتداءً، والذي يؤدي تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله، هو: ما اجتمع في توحيد الله تبارك وتعالى في هذه الأقسام الثلاثة: النسك والحكم، والولاية، يعني: أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله عز وجل بلا شريك، والنسك لله بلا شريك. ثم ذكر أيضاً في خصائص هذا الحد: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، فهذا الحد لا يتضاعف ولا يزيد ولا ينقص، وأنه لا عذر فيه بالجهل، فمن تحقق فيه هذا الحد كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً، دون اعتبار لعلم أو جهل، وكنا مررنا فيما سبق على قضية الولاية، ويتبعها في الحديث الركن الثالث، وهو: الحكم، ونفي حكم غير الله عز وجل. وتتلخص فكرة كاتب البحث في هذا الباب فيما يلي: أولاً: أن قبول شرع الله عز وجل ورفض ما سواه له تعلق بالتوحيد في جانبيه القولي والعملي، يعني: أن قضية الحكم لله عز وجل هي ترجمة للواقع العملي؛ من حيث إن المسلم يقبل كل ما شرعه الله عز وجل، ويرفض ما سواه، هذه القضية لها تعلق بقضية التوحيد، سواء كان التوحيد القولي أو التوحيد العملي، فمن ناحية تعلقها بالتوحيد القولي أو العلمي من حيث كونها تعتبر إثباتاً لصفة من صفات الله عز وجل، يعني: قوله تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام:57]، يراد به: أن الله عز وجل هو الحاكم الأعلى، وينفرد بحق التشريع والحاكمية في هذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى. هذه هي قضية الحاكمية وتعلقها بالتوحيد في جانبه العلمي، وهو صفة الحكم لله عز وجل، أيضاً يتعلق موضوع الحاكمية بالتوحيد في الجانب العملي من حيث كونه ركناً من أركان توحيد العبادة، وهذا الكلام من الكاتب صحيح حتى الآن؛ لأن قضية الحاكمية أوسع من ذلك المفهوم الضيق الذي يظنه بعض الناس في هذا الزمان، فالحاكمية صارت مرادفة للجانب السياسي من الإسلام، حينما يذكر الحاكمية فالناس تنطلق أذهانها إلى إقامة حدود الله عز وجل، وما يتعلق بالجانب الجنائي أو غيرها، وما ماثلها من الأحكام السياسية العليا، ولا يفطنون إلى أن قوله: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، تتناول كل ما حكم الله عز وجل فيه حكماً وقضى فيه أمراً، ويتضح ذلك بمراجعة أي مرجع من مراجع كتب أصول الفقه حينما يعقد الأصوليون بحث الحكم، ويتكلمون في الحكم والحاكم، والمحكوم له، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه كل كلامهم يدور حول الأحكام بنوعيها سواء الأحكام التكليفية أو الأحكام الوضعية. وعندما يتكلمون عن الأحكام التكليفية فيقسمونها إلى الأحكام الخمسة المعروفة، وهي: ما أمر به الله إما على وجه الحتم واللزوم فهو الواجب أو الفرض، أو ما أمر به الله لا على وجه الحتم واللزوم فهو المستحب أو الإحسان أو النافلة أو المندوب أو السنة، ثم ما نهي عنه إما على وجه الحتم واللزوم، فهو الحرام، أو ما لم يكن على هذا الوجه فهو المكروه، ثم ما هو مخير بين فعله وتركه وهو المباح. فأي حالة يكون عليها المسلم لا تخرج عن شيء من هذه الأحكام الخمسة. وأنت نائم: النوم مباح، وأنت تصلي: الصلاة إن كانت فريضة فهي فريضة، أو نافلة فهي نافلة، كذلك في سائر العبادات، وأنت تنظر فإن نظرت إلى ما حرم الله، فهذا حرام، وإن نظرت إلى ما أباح الله فهذا مباح، إن ذبحت فهذا إما فريضة أو مستحب، إن وجدت في مجلس فيه كلام فهو إما مكروه أو مباح أو حرام، وهكذا كل أحوال المسلم لا يخرج بها أبداً عن العبودية لله عز وجل، فالحاكمية أوسع بكثير من هذا النطاق الضيق الذي يحصره فيه بعض الذين يركزون فقط على الجانب السياسي من الإسلام، ويعزلونه عن باقي أحوال المسلم. فالمسلم في كل لحظة من حياته هو في حالة تحاكم إلى الله عز وجل، وتحكيم لشريعة الله عز وجل في علاقته بربه أو علاقته بالآخرين. إذاً: لا شك أن قضية الحاكمية لها تعلق أساسي بالتوحيد في شقيه العلمي والعملي، العلمي: من حيث كونها صفة من صفات الله، وكون الحكم لله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، والعملي: لأن الحاكمية ركن من أركان توحيد العبادة. هذا فيما يتعلق بفكرة الكاتب الأولى في هذا الموضوع. أما فكرته الثانية فيقول: إن قبول التكليف من غير الله عز وجل كفر أكبر، بصرف النظر عن موضوع هذا التكليف. أي: سواء كان هذا التكليف بما يخالف شريعة الله، أو بما يوافقها، أما الاستجابة للغواية أو الهوى فليس لها تكليف شرعي محدود، وإنما تتوقف على نوع الفعل. الفكرة الثالثة: أن قبول شرع الله يتحقق بعدم الرد، وهو الإباء من قبول الفرائض والأحكام، يعني: قبول الشرع يتحقق بعدم رده، وأن الإنسان لا يأبى الأحكام والفرائض التي فرضها الله عز وجل، وقبول شرع غيره، وأما كيف نحكم على هذا الإنسان أنه قبل شرعاً غير شرع الله؟ يتحقق هذا بعدم رده ورفضه. يقول: وأدنى درجات الرد: كره القلب، ودلالته الاعتزال، وعدم المشايعة بالعمل عليه، أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل، وعدم الترويج لهم. هنا في هذه الفكرة والتي قبلها تختلف النظرة فيها، كذلك رفض تفسير الربوبية في حق بني إسرائيل والتي ذكرها الله عز وجل في سورة التوبة في قوله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]. إلى آخر الآية، بأنها الطاعة في الاعتقاد أي: أن هذه الربوبية لم تكن طاعة لهم في الاعتقاد، وقرر أنها مجرد الطاعة في قبول الأحكام، ويجتهد في إثبات ذلك بعديد من الأدلة، مبيناً أن في تفسيرها بالطاعة في الاعتقاد من اللوازم الفاسدة ما يرده أكثر العقلاء. ثم ناقش أيضاً الكاتب ما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية، مبيناً أنه لم يقرر أبداً أن للطاعة في التشريع حكمين: أحدهما كفر، والآخر ليس بكفر، وإنما فصل هذا التفصيل عندما كان حديثه عن الطاعة في المعصية، والمبالغة في التقليد والعبودية للمال، وقد قرر الكاتب كل هذه البنود بالتفصيل، وقرر أن المناط المكفر في قضية الحكم هو التشريع بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال، أو تغيير أحكام الوضع، أو إسقاط الواجب. أيضاً: رفض حكم الله في التحريم، وهذا يكون بالاستحلال والإباء من قبول الفرائض رجوعاً إلى شريعة أخرى أو من غير رجوع، ثم قال: التحاكم إلى شريعة أخرى غير شريعة الله، أو حكم آخر غير حكم الله ورسوله أو وضع الشريعة أو الشخص موضع الحاكم يرجع إليه عند التنازع، الحكم بموجب شريعة أخرى غير شريعة الله، أي: القضاء بها في مواضع النزاع والمعاملات اليومية. أيضاً قرر أن المناط المكفر في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، أنه لا علاقة له بالاعتقاد، ولا بالإقرار، وإنما أساسه: رد الأمر عند التنازع إلى شريعة غير شريعة الله، وقرر أنه لم يكن من اليهود الذين تنزلت هذه الآية فيهم تناكر ولا جحود، وأن إنكارهم للحكم لم يرد إلا في حالة الزنا. فهذه ملامح أساسية مجملة، وسوف -إن شاء الله- نفصل الكلام فيها في هذا الموضوع.

مناقشة الكاتب في منهجيته في مسألة قبول التكليف من غير الله

مناقشة الكاتب في منهجيته في مسألة قبول التكليف من غير الله أولاً: قرر الباحث: أن قبول التكليف من غير الله كفر أكبر، مهما كان موضوع التكليف؛ إذ كون الإنسان يكلف من غير الله عز وجل بحكم، ويقبل الإنسان هذا الحكم من غير الله، بغض النظر عن موضوع التكليف، فالمبدأ في حد ذاته هو كفر أكبر مخرج من الملة، فلا يعتبر لهذا الأمر تكليفاً شرعياً محدداً، والكفر أياً كان موضوع هذا التكليف سواءً وافق الشريعة أم خالفها، فيقول في صفحة (381): فقبول التكليف من غير الله عز وجل له تكييف شرعي محدد وهو الكفر والعياذ بالله. وقبل هذا الكلام بقليل قال: وإذا كان الشارع أو المكلف أو الحاكم غير الله عز وجل، فلا يهم أن تكون الشريعة مخالفة أو موافقة لشريعة الله، أو أن تحتوي على بعض نصوص شريعته سبحانه وتعالى؛ لأن شريعته عز وجل في هذه الحالة لم تكتسب شرعيتها كقانون إلا بصدورها من هذا الشارع تعبيراً عن إرادته. وقال في موضع آخر: فقبول التكليف من غير الله له تكييف شرعي محدد لا يتوقف على نوع الفعل، ولا على وقوعه، وهو الكفر الصريح. فالطاعة في تشريع تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل وهو شرك. وقال: إن قبول التحريم أو التحليل أو غير ذلك من أحكام التكليف يثبت ويترتب ويتحقق بالطاعة في جزئية من جزئيات التشريع؛ لأنه بطاعته له فيها يعطي هذا الذي أطاعه حق التشريع له، وممارسة سلطان التكليف عليه، إلا في حالات الإكراه بضوابطها الشرعية. يلاحظ على هذا الكلام: أن قبول التكليف تعبير مجمل يصدق على صور متعددة ومناطات مختلفة، فقد يكون مرده إلى الإيمان بهذا التكليف وإقراره كشريعة واجبة الاتباع، يعني: ممكن أن إنساناً يقبل تكليفاً من غيره -كما ذكر الكاتب- على أنه له حق التشريع، وأنه يجب عليه أن يتبع هذا الحكم من غير الله عز وجل. فهذا يحتمل أنه قد يكون مرده إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد يكون مرده إلى المداراة واتقاء الفتنة، وقد يكون مرده إلى الاتفاق والعقد، ولكل صورة من هذه الصور حكمها، واستصحاب حكم واحد في الجميع يعسر قبوله؛ لأنه يفضي إلى لوازم فاسدة، فمن قبل التكليف من جهة ما إقراراً لها بحق التشريع المطلق الذي لا يتقيد بحلال ولا بحرام، ولا يقف عند حد من حدود الله، كما يفعل الديمقراطيون الذين يقرون للأمة ممثلة في نوابها بالحق في التشريع المطلق، ويعبرون عنها بهذه الكلمة الكفرية: (إن الحكم إلا للشعب)، لا يقولون: (إن الحكم إلا لله) وإنما يقولون: الشعب هو مصدر السلطات، الشعب هو الحاكم الشعب هو الذي يحل ويحرم! والديمقراطيون يدينون بأن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة الحرة، وأن هذه الأمة هي صاحبة الحق في السيادة المطلقة؛ فلا شك أن من اعتقد هذه العقيدة. قد أتى باباً من أبواب الشرك الأكبر الذي يخرج الإنسان من الملة بالكلية، وذلك لانعقاد الإجماع من جميع علماء المسلمين على أن الحاكمية المطلقة لله رب العالمين لا شريك له. أما مثل هذه المجالس البشرية، فليس لها أمام شرع الله سبحانه وتعالى إلا وظيفة واحدة فقط هي: التنفيذ والتطبيق، وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، والغربيون لما وضعوا النظام الديمقراطي، ونحو هذه النظم التي يعيشون فيها الآن من حرية الأديان والديمقراطية والحرية الشخصية وضعوها لأن هذا شأن صاحب الباطل دائماً، فهو مستعد لأن يتنازل حتى يتعايش مع الباطل الآخر، وهذا الذي تصوره الكافرون حينما عرضوا على النبي عليه الصلاة والسلام: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة، كأنه حل منطقي أو التقاء في منتصف الطريق، فنزل الجواب الصريح: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]. (لَكُمْ دِينُكُمْ)، يعني: الباطل الذي أنا بريء منه ((وَلِيَ دِينِ))، يعني: الحق هو طريقي وسبيلي، المقصود: أن هذا مقارنة أو صراع أو اختلاف بين باطل وباطل، ولا بأس إن قلنا: كله باطل، لكن هذا ليس مسوغاً ومبرراً للواقع الذي يعيشه الكفار، فهم ما رأوا نور الوحي، وما بلغتهم مثلاً رسالة الإسلام، أو بلغتهم مشوهة، أو هم رضوا بالكفر ديناً والعياذ بالله، فمثل هؤلاء هذا هو ما قد يلتمس لهم، نعم هم يتعايشون معاً، ويعطون الشعوب هذه الحقوق، لكن حينما يأتي دين الله عز وجل، هل نسوي الوحي بغيره من النظم، وبغيره من المناهج الكفرية الملحدة؟! فلا يقبل أبداً مبدأ أن الإسلام يقف على قدم المساواة مع النظم الجاهلية الأخرى سواء تسمت بالديمقراطية الاشتراكية الرأسمالية أو غيرها من الأسماء، فهذا كله باطل هؤلاء كلهم يدعون إلى النار، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، لكن عندما يأتي شرع الله ورسالة الله ودين الله فلا ينبغي أن يقرن دين الله عز وجل بغيره من الأديان الكفرية، ولا يقارن أصلاً دين الله بغيره من النظم، وهذا شأن من قال: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا أليس هذا فيه إزراء للسيف، وتنقيص من شأنه؟! فشريعة الله لا تقارن أصلاً بغيرها من النظم الكفرية، قارنوا ما شئتم بين النظم البشرية بعضها ببعض، أما إذا أتى الحق الوحيد الذي يحق غيره، فتنقشع كل هذه الظلمات، وهناك اتفاق بين جميع علماء الأمة في جميع الأزمان: أن الحاكمية المطلقة هي لله عز وجل، وأنه لا توجد سيادة مطلقة ولا حاكمية مطلقة لغير الله عز وجل، ومن اعتقد غير ذلك فهو كافر كفراً أكبر يخرجه من الملة، من اعتقد أن حق التحليل والتحريم أو حق التشريع المطلق يئول إلى الأمة ممثلة في نوابها فهذا كفر لا شك في أنه شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام؛ لأن الاستسلام المطلق لا يكون إلا لله وحده، فمن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته كافراً به. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله عز وجل غيره، فمن لوازم الإقرار بأنه لا إله إلا الله: ألا يكون الحكم إلا لله، وسوف يأتي إن شاء الله فيما بعد ذكر الأدلة رغم ظهورها مفصلة إن شاء الله. وما أعظم هذه الكلمة التي قالها بعض علماء اليمن في مناقشة حول الدستور اليمني بعد تعديله، قال أحد هؤلاء العلماء لرئيس اليمن: حينما تضعون مادة الدستور تقولون فيها: إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هذا يساوي تماماً أنك تقول: الله عز وجل هو الخالق الرئيسي لهذا الكون، فهل يصح أن يقول الإنسان: إن الله هو الخالق الرئيسي؟ معناه: أن هناك خالقين فرعيين معه والعياذ بالله! هذا شرك وكفر، فكذلك نفس الشيء في الحكم {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، فمثل هذا قد لا يماري مسلم في الاعتقاد به، ولا يقبل من مسلم أصلاً أي خلاف في هذه القضية، هذا فيما يتعلق بمن قبل التكاليف من جهة ما إقراراً لها بحق التشريع المطلق الذي لا يتقيد بحلال ولا بحرام، وإذا قال القانون أو مجلس النواب أو المجلس التشريعي أو مجلس الشعب: إن الزنا حلال. يصير حلالاً، هذا أمر قانوني، وإن قال: إن إقامة حدود الله كالرجم أو الجلد وحشية، تصير وحشية محرمة، فهذا كله من الشرك الأكبر.

حكم قبول التكليف من جهة ما لمصلحة أو دفعا لمفسدة

حكم قبول التكليف من جهة ما لمصلحة أو دفعاً لمفسدة قد يقبل الإنسان التكليف من جهة ما جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، أو مداراة لها واتقاء الفتنة مع عدم إقراره بهذا التكليف، أو عدم إقراره بحق من أصدره في التشريع المطلق، وهذا له تعلق آخر بالقضية، ولا يستوي مع من قبله إنسان التزم حكماً، وقبل تكليفاً من جهة ما، ولا يعتقد أن له حق في التشريع، لكن جلباً للمصلحة أو دفعاً للمفسدة، أو مداراة لها واتقاء لأذيتها أو فتنتها، مع إقراره بأن هذه الجهة ليس لها حق التشريع، أو حق من أصدر هذا التكليف في التشريع المطلق. هذا مناط آخر يتفاوت حكمه من صورة إلى أخرى بحسب حجم المخالفة في فعل هذا الإنسان، ومدى العذر في خضوعه لهذا التكليف، وغير ذلك من الملابسات، وجه ذلك: أنه إذا كان ممن يخضع لشرائع الإسلام، ويذعن لأحكام الإسلام لا يكون خضوعه هذا معتبراً شرعاً يثبت له به عقد الإسلام على الحقيقة إلا إذا كان مرده الإيمان بهذه الأحكام، والإقرار بها في الظاهر والباطن، فمن استسلم لأحكام الإسلام؛ لأنها أحكام الله؛ وشريعة الله عز وجل، فهذا يعتبر شرعاً إيماناً صحيحاً. كذلك من يخضع لشرائع الجاهلية، أو يقبل الطاعة لها عندما تكون هي الحاكمة المسيطرة لا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه، مثلاً لو: أن الغربيين أو أي دولة من دول الكفر قالت: نحن درسنا النظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي في الإسلام فوجدناه مناسباً، ويحصل لنا به مصالح كثيرة، ويدفع عنا شروراً كثيرة، ونحن سنطبقه من هذه الوجهة، لا أنهم قبلوا حكم الله عز وجل إذعاناً لله؛ لأنه أمر الله؛ وشريعة الله، لكن قبلوا لأن فيه مصالح قد تتحقق لهم، مثل تشريع الطلاق، والمواريث، ونحو هذه الجوانب، هل يصيرون بذلك مسلمين لأن النية مفتقدة، والإسلام والخضوع لله غير موجود؟! كذلك في الجهة الأخرى مجرد الإذعان لشرع الله إذا لم يكن مقترناً به الإقرار بحق الله تبارك وتعالى في التشريع والحاكمية المطلقة، فلا يعتد به شرعاً، ولا يثبت به عقد الإسلام. كذلك شخص في الصورة الأخرى المقابلة خضع لشرائع الجاهلية، أو قبل الطاعة لها، حينما يكون هو الحاكم المسيطر، فلا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه إلا إذا تأسس على مبدأ القبول الطوعي الإرادي لها في الظاهر والباطن، والإقرار لها بالحق في التشريع المطلق، دون معارض من جهل أو تأويل أو إكراه، يعني: لا هو جاهل ولا متأول ولا مكره، ولا يوجد له أي عذر، فإذا كان الإنسان يقبل الطاعة لهذه النظم الجاهلية أو الأحكام الوضعية الكفرية، فمجرد الخضوع في حد ذاته لا يكون ناقضاً للإسلام إلا إذا تأسس على الإقرار الباطن والظاهر بأحقيتها في التشريع، والسيادة المطلقة، والتشريع المطلق، دون عارض من جهل أو تأويل أو إكراه، لكن إذا كان قبوله لحكم هذه الجهة مؤسساً على المصالح والمفاسد أو مؤسساً على المداراة، واتقاء الفتنة، وليس شرطاً أن تكون مصالح ومفاسد شرعية، ربما يكون لغرض منفعة شخصية أو غير ذلك، فقد تكون معصية لكن لا تكون كفراً، فإذا كان قبوله الطاعة لهذه الهيئة مؤسساً على المصالح أو المفاسد أو المداراة واتقاء الفتنة، ولم يؤسس على الإقرار بحقها في الطاعة المطلقة، فقد تجاوز موقفه هذا أصل الدين، هنا لا يخدش أصل الدين عنده، ولا يخدش عقد الإسلام والتوحيد، وأصبح تعلقه بفروع الدين لا بأصوله ولا بالعقيدة. ثم ينظر بعد ذلك في مدى ما ترتب على هذه الطاعة من مخالفة للشريعة، ومدى ما قام عنده من العذر، ويقرر لكل حالة حكمها حسب العذر، وحسب ما ترتب على هذه المخالفة من آثار، فمثلاً الذين يعملون في المؤسسات العلمانية في ظل الأنظمة العلمانية المعاصرة ليسوا سواءً في مجالس إجراء الأحكام، وإن كان الظاهر في عامتهم أنهم قد قبلوا التكليف من غير الله عز وجل، فالظاهر أن الناس خاضعين ومذعنين لهذه الأحكام أو النظم العلمانية، فعامة هؤلاء الناس الذين يدخلون في هذه المؤسسات العلمانية طائعين، وهم يعلمون سلفاً أن لهذه المؤسسات شرائع وأنظمة ولوائح تخاطب كافة العاملين في هذه المؤسسات، ويلزمون بها، ويعلمون كذلك أن من سنوا هذه التشريعات وقرروا هذه اللوائح طائفة من البشر لم يهتدوا بهدي الله، ولم يردوا أمرهم إلى شريعة الله، وإنما مردهم إلى الأهواء والمصالح التي قد تتفق أحياناً مع شريعة الله، وقد لا تتفق، ومع ذلك ربما يبعد تصديقنا لهذا الكلام من الكاتب، وإن كان هذا هو مآل قاعدته التي يترتب عليها: أن مجرد قبول التشريع كفر. هذا فيما يتعلق بهذا الأمر. فهؤلاء الذين دخلوا في هذه المؤسسات وحالهم كما ذكرنا إن قال قائل عنهم: هؤلاء لا خيار لهم في الخضوع لهذه النظم؛ لأنها قواعد آمرة من جهة ذات سلطان ملزم لا يد لهم في تغييرها، فالجواب أن نقول: لكن هؤلاء قد كان لهم الخيار ابتداءً في عدم الالتحاق بهذه الهيئات من البداية، فهم وإن كانوا مكرهين في الخضوع لأنظمة هذه الهيئات بعد الدخول فيها فقد كانوا طائعين في دخولها منذ البداية، فضلاً عن قدرتهم على الانفصال عنها في أي لحظة. فلا يخفى وجود فارق بين رجل الشارع الذي لا يد له بعدم الخضوع للنظم العلمانية التي تلاحقه بحكم وجوده تحت مظلة هذه النظم العلمانية اللهم إلا إن كان يستطيع الهجرة منها، فلا شك أن هناك فرقاً بين هذا الرجل وبين العاملين في هذه الهيئات التي التحقوا بها في أغلب الأحيان طائعين مختارين وهم يعلمون سلفاً أن التحاقهم بها يترتب عليه قبولهم لأنظمتها التي لم تظهر مستندة إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم. ومع ذلك فلا يعرف أحد من علماء أهل السنة المعاصرين قضى باستصحاب أصل الكفر في هؤلاء تأسيساً على هذه القاعدة، ولا يعلم أحد من العلماء عمم الكفر على هؤلاء جميعاً بأي صورة من الصور. كذلك من جهة أخرى قد يكون قبول التكليف مرده إلى العقد الذي أبرم بين طرفين بتحقيق مصلحة مشتركة، فمثل ذلك قد يكون جائزاً، وقد يكون ممنوعاً، فما كان منه من جنس الشرك فهو ممنوع، وما كان دون ذلك فهو دون ذلك، لكن ليس في ذلك أصل واحد يستصحب وإنما يختلف الحكم باختلاف المعقود عليه من حيث موافقته للشريعة أو عدمه. فهذا أيضاً ينطبق على العاملين في مؤسسات خاصة، فهم يخضعون لما قرر لها أربابها من النظم واللوائح، ويلتزمون بطاعة رب العمل، والخضوع للرؤساء بمقتضى ما أبرم بينهم وبين هذه المؤسسات من عقود، قد يكون أصحاب هذه المؤسسات ممن لا يدينون أصلاً بدين الإسلام، ومع هذا فإن المقطوع به في مثل هذا المقام اختلاف الحكم في هذه الأعمال باختلاف موضوعها، ومدى ما تضمنته نظمها من موافقة للشريعة أو مخالفة، فالعمل في بنك ربوي مثلاً، أو في مرقص ليلي يختلف عن العمل في متجر أو مزرعة. والعمل في مجال أمور إدارية يختلف عن العمل في مجال القضاء حيث الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، وهنا تبدو المجازفة في إطلاق القول بأن مجرد قبول التكليف من غير الله شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف سواء وافق الشريعة أو خالفها، فمع حسن الظن بنية الكاتب ومن ينحون منحاه إلى هدف من وراء هذا الكلام، وهو -فيما نظن- تربية الأمة على الكفر بالطواغيت، وعدم الإقرار لها بحق التشريع، وتجريد الانقياد لله عز وجل وحده، إلا أن مجرد هذه النية وحدها لا تكفي في الحكم على صحة هذا المسلك إلا إذا اعتمدنا وصححنا مذهب الخوارج في التكفير بالمعصية. إذاً: نصحح مذهب الخوارج الذين كفروا بالمعصية، بحجة أن الخوارج يربون الأمة على استعظام المعاصي، ويحولون بينهم -بهذا الوعيد- وبين ارتكاب هذه المعاصي، يعني: الغاية لا تبرر الوسيلة. أيضاً قول الكاتب: إن الطاعة في التشريع تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل وهو شرك. هذا الكلام ليس على إطلاقه، فهو يقول: إن مجرد الطاعة في التشريع، والانقياد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل، وهذا شرك أيضاً كما ذكرنا آنفاً، هذا القول ليس على إطلاقه، بل الطاعة في التشريع من غير الله عز وجل قد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله وقد لا تتضمن، فإن كانت كذلك كان الحكم فيها كما قال: إن كانت الطاعة ناشئة عن إعطاء حق التشريع المطلق لغير الله عز وجل، وعن إقرار هذا الحق فهذا شرك، وإن لم يقترن بها الإقرار بهذا الحق في التشريع ففي الأمر تفصيل، ويختلف أيضاً الحكم باختلاف موضوع هذه الطاعة، فمن أطاع في تشريع إقراراً بحق من أصدره بالتشريع من دون الله ومتابعة له على ذلك كان مشركاً بالله عز وجل. ومن أطاع في التشريع لأسباب أخرى فقد تجاوز هذا المضيق، وكان حكمه حكم ما أطاع فيه، إن كان أطاع في كفر فهو كفر في فسوق فهو فسوق في معصية فهو معصية، فالذي نستطيع أن نخلص منه من عبارة الكاتب في هذه المسألة: أن تقييد الطاعة بالطاعة الشركية، أي: إن كان في الطاعة شرك فتكون شركية، وإلا ففي الأمر تفصيل كما ذكرنا؛ لأن الطاعة في التشريع ليست في كل حالة تكون شركية، فمنها ما هو من جنس الشرك ويأخذ حكمه، ومنها ما هو دون ذلك. فرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين من أطاع الأحبار والرهبان فيما أحدثوه لهم من التحليل والتحريم من بني إسرائيل في اعتقاد ما قالوه دون ما قاله الله ورسوله، وبين من أطاعوهم في معصية الله مع صحة اعتقادهم في حكم الله، فبين شيخ الإسلام: أن الطائفة الأولى مشركة كافرة، وهي التي أطاعت الأحبار والرهبان في أمور تخالف الدين، واعتقدوا كلام الأحبار والرهبان دون كلام الله ورسوله الذي أرسل إليهم، فهذه الطائفة بين شيخ الإسلام أنها طائفة مشركة كافرة. أما الطائفة الثانية: فهم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في معصية الله، مع صحة اعتقادهم في حكم الله، فهم يعتقدون أن هذا حكم الله، لكنهم اتبعوا الأحبار والرهبان اتباعاً للهوى وانقياداً للدنيا، فهذه الطائفة الثانية مذنبة عاصية. فجعل شيخ الإسلام الطاعة في التشريع، منها ما هو شرك، ومنها ما هو دون ذلك حسب صحة الاعتقاد وأثره، لكن لا شك أن هناك فرقاً بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وبين كلام الباحث صاحب حد الإسلام في أن مطلق الطاعة في التشريع كفر

حكم صرف العبادة لغير الله

حكم صرف العبادة لغير الله العبادة مرتبطة بأصل الدين، وصرف العبادة لغير الله عز وجل يعتبر شركاً أكبر، فكون العبادة المرتبطة بأصل الدين والتي يعتبر صرفها لغير الله عز وجل شركاً أكبر ليست هي مطلق الطاعة، وإنما الطاعة التي تنبثق من كمال المحبة والتذلل. فمن خضع لإنسان مع عدم حبه له لا يكون عابداً له، فالعبودية تتكون من شقين، غاية الحب مع غاية الذل والانقياد، قد يحصل ذل وانقياد، لكن مع بغض ومقت وكراهية، كشخص يكره الضابط في الدين كراهية شديدة، لكنه يطيعه وينقاد لأوامره هذا لا يسمى عبودية؛ لأنه فقد أحد الركنين، وجدت الطاعة والانقياد، لكن مع البغض والمقت والكره، فليست هذه عبودية، والعكس: قد يدعي إنسان محبة إنسان، أو يدعي محبة الله مثلاً أو محبة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم لا يخضع ولا ينقاد لحكمه، فهذا أيضاً ينافي العبودية. فالعبودية كمال الحب مع كمال الذل والطاعة والانقياد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قال بعض المفسرين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، يعني: والذين آمنوا في حبهم لله أشد حباً لله من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، أما القول الثاني فهو: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، يعني: أن المشركين قد يحبون الله عز وجل، لكنها محبة فيها شرك، أما المؤمنون فإنهم يمحضون ويخلصون حبهم لله ويجردونه؛ فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت الأنداد بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من التي فيها شرك. مقصود الكلام: أن المحبة الشركية هي المحبة مع الله، لما تتضمنه من التأله لغير الله، والتعلق به، والرغبة إليه، وإنما كانت شركاً لما يقع في قلوب أصحابها من التعلق لغير الله رغباً أو رهباً، بخلاف المحبة في الله كحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من عباد الله، فإنها من جنس الطاعة لله؛ لأنها تابعة لمحبته ولازمة له. هل محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام محبة مع الله؟! كلا. هذه من توابع ولوازم محبة الله، فأنت تحب من يدلك على الله، وتحب من يسير على طريق الله، فهناك محبة في الله، ومحبة لله، وهناك محبة مع الله وهي المحبة الشركية. فالطاعة الشركية هي التي تنبثق من هذا الحب الخاص: حب التأله والتنسك، وليس من مطلق الحب، وذلك عندما يكون النظر إلى ذاك المطاع -مع غض الطرف عن موضوع الطاعة- على أنه هو الآمر، فمهما أمر فإنه يطاع حكمه حتى لو أمر بحرام أو بغير ذلك، فما أثبته الكاتب من أن قبول التكليف من غير الله عز وجل، أو الطاعة في التشريع شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف من حيث موافقة الشريعة أو مخالفتها يجب أن يقيد بما إذا كان منبثقاً عن الحب الخاص؛ حب التأله والتنسك لغير الله عز وجل. فما دام الكاتب يريد أن يسبغ وصف الشرك على الطاعة باعتبار المصدر فقط -بغض النظر عن موضوع الطاعة- فلابد أن تقيد الطاعة بأنها الطاعة التي تستند إلى المحبة الشركية، فهذه هي الطاعة التي يصدق عليها وصف الشرك الأكبر، والتي تخرج صاحبها من الملة بلا تردد، لكن إذا اعتبرنا موضوع الطاعة فهنا تتسع الدائرة، ويقال: إن للطاعة الشركية مأخذين: المأخذ الأول: باعتبار مصدرها. المأخذ الثاني: باعتبار موضوعها. فباعتبار مصدر الطاعة الشركية: من كانت طاعته لغير الله عز وجل مبنية على المحبة الشركية التي تتضمن تعلق القلب بغير الله رغباً ورهباً وحباً وتألهاً، أي: أن الحب الذي ينبغي أن يصرف لله وحده صرفه الشخص تماماً إلى غير الله عز وجل، فهذا قد أشرك شركاً أكبر بغض النظر عن موضوع الطاعة؛ لأنه نظر إلى عين وذات الآمر، وأعطاه هذا الحق نتيجة المحبة والرغبة والرهبة، فصرف هذه المحبة إلى غير الله بهذه الصورة، فصارت محبة شركية يطيع الآمر فيها، بغض النظر عما يؤمر به أو ينهى عنه، فهذا من جنس الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله؛ لأنه أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله، فصرف هذه المحبة التي لا ينبغي ولا تكون إلا لله إلى غير الله عز وجل، فانبثقت عنها الطاعة المطلقة، بغض النظر عما يؤمر به، فهذا باعتبار النظر إلى مصدر هذا التشريع. المأخذ الثاني: باعتبار موضوع الطاعة: فمن كانت طاعته لغير الله عز وجل غير مبنية على المحبة الشركية، ولا على الإقرار لغير الله بالحق في التشريع المطلق؛ فقد تجاوزت الطاعة في هذه الحالة وصف الشرك باعتبار المصدر، وبقي أن ينظر إلى موضوع التكليف أو الطاعة؛ فطاعته ليست مبنية على المحبة الشركية التي ذكرناها في القسم الأول، وليست مبنية على أنه يقر لغير الله بحق التشريع المطلق، فحينئذ تتجاوز هذه الطاعة مسألة أصول الدين، وعقد الإسلام، ويبقى النظر في موضوع التكليف أو الطاعة، فإن كانت الطاعة في شرك فهو حينئذ يصبح مشركاً، وإن كانت الطاعة في معصية فهذا ذنب من الذنوب، فإذا تضمنت طاعته رد حكم الله أو انعكست بالخلل على أحد ركني أصل الدين: التصديق أو الانقياد كانت كفراً، وإن لم تكن كذلك تفاوت الحكم فيها باعتبار الموضوع حتى تصل إلى درجة المباح، إذا كانت طاعة في الأمور العادية التي سكتت عنها الشريعة وتركت أمر تنظيمها إلى العباد.

درجات الرد للشرائع الجاهلية عند الكاتب

درجات الرد للشرائع الجاهلية عند الكاتب قرر الباحث أيضاً: أن أدنى درجات الرد للشرائع الجاهلية الاعتزال وعدم المشايعة، أقل درجة من درجات الرد للحكم الجاهلي هي: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل. فهو قرر في أكثر من موضع: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر، وأن ذلك يتحقق بعدم الرد، وأن أدنى درجات هذا الرد كره القلب، وكيف نعرف كره القلب؟ نعرفه بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه. قال في صفحة ثلاثة وثمانين وثلاثمائة من بحثه: وقبول شرع الله سبحانه وتعالى يتحقق بعدم الرد. أي: عدم رد أمر الله عليه، وهو الإباء من قبول الفرائض والأحكام، وكذلك قبول شرع غيره يعرف بعدم الرد، فإن منع من الرد مانع الإكراه في القلب، ودلالة كره القلب الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه. أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل، وعدم الترويج لباطلهم. يقول أيضاً في موضع آخر وهو يتحدث عن الربوبية التي كانت في بني إسرائيل: فإذا تبين الرضا فله حكم الفعل، وإلا فالمتابعة دليل على الرضا، والرضا له حكم الفعل ما لم يكن ثمة إكراه بدلائله ينفي هذه الدلالة. فيقرر هنا في هذه الفقرات ثلاثة أمور: الأول: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر. الثاني: أن هذا القبول يعرف بعدم الرد. الثالث: أن شبهة الإكراه لا تنفي دلالة المتابعة الظاهرة إلا إذا قامت الأدلة على كره القلب من الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل. الملاحظات على هذا البحث: أولاً: أن الباحث اعتبر أن دلالة الكره بالقلب لا تكون إلا بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، فانظر إلى هذا الحصر: أنه لا توجد طريقة للاطلاع على أن الإنسان كاره لهذا الأمر إلا بأن يظهر كرهه له في الاعتزال وعدم المشايعة على هذا بالعمل، فهذا القول مفض إلى تكفير عامة من لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية المعاصرة، فيترتب على هذا: أن كل من لم يعتزل هذه الكيانات يحكم عليه بالكفر؛ لأن عدم الاعتزال دليل عنده على وجود قبول التكليف من غير الله عز وجل، وقبول التكليف من غير الله كفر بإطلاق. كما بين الباحث في أكثر من موضع. قد يؤول هذا الكلام وتظهر له بعض اللوازم ربما يكون الكاتب نفسه لم يقصدها. هذا احتمال، لكن على أي الأحوال هي لازم كلامه، ومآلات ما قعده من قواعد وأصول، فكل من وجد في كيان من هذه الكيانات الرسمية تحت مظلة الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل سواءً في الجيش كالشرطة والقضاء، أو البنوك، النقابات، الوزارات إلى آخره، فيترتب على هذه المقدمات -لأنه لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية- أنه كافر مشرك بالله العظيم. كذلك لا يقبل من أي واحد من هؤلاء الاعتذار بالجهل؛ لأنه سبق في مقدمة البحث: أن الكاتب جعل نفي الحكم عن غير الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، ولا عذر بالجهل في ذلك. كذلك لا يقبل منه الاعتذار بالإكراه؛ لأن دلالته الوحيدة عند الكاتب: هي وجود الكره في القلب بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، ولا يقبل منه أنه يعمل في هذه الأشياء وأنه يتقي الله في موقعه ما استطاع، فلا يقول: أنا أجتهد في تقوى الله ما استطعت في عملي، وأنه لا يتلبس في عمله بمعصية؛ لأن مجرد وجوده في هذه النظم هو عبارة عن قبوله لأحكامها ضرورة، ومجرد القبول من غير الله كفر بصرف النظر عن موضوع هذا التكليف، بل ربما يكون الأمر له آثار ومآلات هي أخطر وأبعد مدىً مما ذكرنا، وهو أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ويمكن أن نصفها بأنها مثل القنابل العنقودية، وهذه طبيعة الاتجاهات التي تطورت في أمر التكفير بلا ضوابط، فتجد الفكرة تئول إلى ما بعدها من الآثار الأخطر، حتى لو أن صاحب الفكرة الأولى لم يقصد هذا، لذلك نجد الانشطارات الداخلية كثيرة جداً في الاتجاهات التكفيرية، وهذا أمر معروف ومجرب ومعلوم تجد نفس الاتجاهات تنقسم على نفسها وتنشطر، وهكذا تتفتت وتتشتت، فمنهم من يقف مثلاً عند تكفير جهات معينة، ثم يأتي آخر ينطلق بنفس المنطلق ويكفر الذين يريدون يعملون في الحكومة. ثم يأتي بعد ذلك من يكفر كل من وجد في البلاد؛ لأن هذا البلد يعلو عليه حكم الكفر، فالأصل في كل أهلها أنهم كفار إلا من ثبت إسلامه، وهكذا تجد الأمر لا ينضبط ولا يقف عند حد، وإنما تحصل هذه التفاعلات الانشطارية والقنابل العنقودية، ويحصل ما يحصل من التهارج والفوضى التي لا حدود لها في أخطر قضية يترتب عليها أخطر الآثار من استحلال الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك. نقول: إن من لوازم هذا الكلام: أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ولو كان لا علاقة له ألبتة بأي مخالفة شرعية، كما لو كانت محكمة شرعية تحكم بما أنزل الله في نطاق الأحوال الشخصية، أو جهة علمية تتولى تدريس القرآن والعلوم الشرعية، وفعلاً أتى وقت من الأوقات في بعض البلاد مثل السعودية فوجد من يدعو إلى اعتزال الكليات الشرعية كالجامعة الإسلامية أو الجامعات المعروفة هناك؛ لأنها تأتي من قبل حكومة هم يكفرونها، فوصل الأمر إلى هذا الحد، أن الإنسان لا يتعامل مع هذه الأجهزة، ولا أي من هذه الكيانات. أيضاً: الأزهر مؤسسة حكومية، قد يأتي من يسلك هذا المسلك الانشطاري أو العنقودي، ويقول: الأزهر مؤسسة حكومية، وخاضع لنظم الدولة، فبالتالي لا يجوز التعلم عندهم، أو يقدح في عقيدة الإنسان الذي يتخرج من مثل هذه المؤسسات. ووجه هذا التهور: أن هذه الدول الجاهلية هي التي تنظم هذه الكيانات، وتضع لها القواعد والتشريعات، والقاعدة: أن الإنسان لا ينظر إلى موضوع التكليف، وإنما ينظر إلى ذات المكلف؛ فالحكم لا يكون في موضوع التكليف، حتى لو كان تحفيظ القرآن أو تعليم العلوم الشرعية، وإنما: من الذي يأمر؟ ومن الذي يكلف؟ بغض النظر عن موضوع التكليف، فالمكلف هنا هو هذه الدول العلمانية، ومجرد الوجود في هذه الكيانات بناءً على هذا الكلام، وعدم اعتزالها يكون حكماً كافياً بالكفر بناءً على ما ذكرنا تقريره من هذه المقدمات. أنبه أيضاً إلى أن من ينتقدون الباحث في مسلكه لا نجزم بأنه يقول بهذه اللوازم، لكن هذه اللوازم والمآلات واقع رأيناه من كثير من هذه الاتجاهات التي تهورت في قضية الحكم بالتكفير، لكن إذا أردنا أن ننظر نظرة أخرى لهذا الجانب، أو مسلك الكاتب في هذه النقطة، فكان ينبغي أن يلغي الكاتب في كلامه: عدم الاعتزال لهذه النظم دلالة على قبول أحكامها. لأن الواقع القائم أن هذه النظم تتولى في هذه المجتمعات كل مرافق الحياة بالتنظيم والإشراف فلا يعرف مرفق من مرافق الدول الرسمية إلا وهو خاضع لنظمها وقوانينها، فالناس باعتبار وجودهم في هذه المجتمعات، وارتباط مصالحهم بها، مدينون لذلك شاءوا أم كرهوا، وهذا أمر يتفق في الخضوع له والارتباط به أغلب الناس، سواء في ذلك المنكر أو الراضي، إلا من اعتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. كما ألغينا اعتبار دلالة عدم الاعتزال والمشايعة، كذلك في الجهة المقابلة: ينبغي اعتبار التفرقة على أساس الموضوع والوظيفة، فمن تقلد عملاً في بنك ربوي يختلف عمن تقلد عملاً في مستشفى حكومي للعلاج، ومن يعمل في مجال الشرطة والقضاء لابد أنه يختلف عمن يعمل في مجال الإدارة والخدمات، حتى في نطاق الأعمال المحرمة يجب أن نفرق بين من يوجد تحت لوائها ارتزاقاً مستحلاً ما يتعاطاه من مرتب، وأنه ما يجد عيشاً غير ذلك، وبين من يوجد استجازة لها والتزاماً بشرائعها عندما يكون الحديث عن الإيمان والكفر. حتى في قضية التزام الشرائع يجب أن نفرق بين وضعين: بين من يلتزم شريعةً ما إيماناً بها، وولاءً لها، وإقراراً لأصحابها في الحق في ذلك، وبين من يلتزم بهذه الشريعة جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، فالمناط المكفر في هذا هو المناط الأول، وهو من يلتزم هذه الشرائع إيماناً بها، وولاءً لها، وإقراراً لأصحابها بالحق في ذلك. فالذي يلتزم بشريعة الإسلام في الظاهر حقناً لدمه، أو دفعاً لمغارم وجلباً لمغانم لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر، وإن أجريت عليه في الظاهر أحكام الإسلام عند من لا يعرف حاله، والذي يلتزم بنظام جاهلي اتقاءً لشره أو جلباً لمغنم مع كفره به، وكراهيته له، لا يكون كافراً في الحقيقة، وإن جاز أن تجري عليه أحكام الكفر في الظاهر عند من يجهل حاله. فإن وجدت شبهة الإكراه العامة التي تجعل الخضوع لهذه النظم أو الكثير منها لا ممدوحة منه أهدرت هذه الدلالة في الحكم بظاهر الكفر، واستصحب أصل الإيمان في كل من تحقق لديهم عقده المجمل حتى يثبت الالتزام الطوعي بهذه النظم والإقرار المسبق لها دون شائبة من جهل أو تأويل أو إكراه.

الإيمان والكفر [19]

الإيمان والكفر [19] جرى اليهود والنصارى في سلوكهم وأعمالهم على تشريع الأحبار والرهبان ولا على ما شرعه الله لهم في التوراة والإنجيل، وهم يعلمون ذلك، ويدعون أن حق النسخ هو لهم من دون الله، فجمعوا في ذلك بين فساد العقيدة وفساد العمل، وهذا خضوع بالظاهر والباطن، وهو على عكس الخضوع للطواغيت فإنه لا يكون إلا بالظاهر فقط.

عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان

عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان

حدود الإسلام وأركانه من وجهة نظر الكاتب

حدود الإسلام وأركانه من وجهة نظر الكاتب مررنا على معظم القضايا التي هي محل أخذ ورد فيما يتعلق بكتاب حد الإسلام، والذي ذكرنا أنه يقوم على اعتبار أن حد الإسلام يتكون من ركنين: الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب. الثاني: التزام شريعته جملة وعلى الغيب. وذكرنا أيضاً: أنه يعتبر أن لهذا الحد ثلاثة أركان: النسك، والولاية، والحكم. وذكر أن تحقيق التوحيد في هذه الأركان الثلاثة هو الحد الأدنى من الدين الذي يجب تحققه في كل إنسان حتى تثبت له صفة الإسلام ابتداءً، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله. وناقشنا تفاصيل القضية في النسك والولاية، وشرعنا في الكلام على الركن الثالث، وهو: نفي الحكم عن غير الله عز وجل. وذكرنا أن فكرة الكاتب في هذا المقام تتلخص في أن قبول شرع الله ورفض ما سواه، له تعلق بالتوحيد في جانبيه القولي والعملي، فهو يتعلق بالتوحيد القولي من حيث كونه إثباتاً لصفة من صفات الله عز وجل وهي صفة الحكم، ويتعلق بالتوحيد العملي من حيث كونه ركناً من أركان العبادة، وذكرنا أن هذه النقطة الأولى هي محل خلاف؛ لأن الآيات والنصوص تواترت على أن لا حكم إلا لله. فلا شك أن قضية الحكم وإفراد الله عز وجل بالحاكمية من الأركان الأساسية لعقيدة التوحيد، وبين الله عز وجل أن الشرك في الحكم تماماً مثل الشرك الذي يكون في العبادة، كما قال الله عز وجل: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال في الحكم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، فسمى هذا شركاً كما سمى هذا شركاً، وقال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، والآيات في هذا كثيرة جداً والتي تتعلق بالفكرة الأولى التي أتى عليها هذا البحث. الفكرة الثانية: أن قبول التكليف من غير الله عز وجل كفر أكبر بغض النظر عن هذا التكليف، يعني: سواء كان هذا التكليف بما يخالف شريعة الله عز وجل أو بما يوافقها، أما الاستجابة لرواية فليس لها تكييف شرعي محدد، وإنما تتوقف على نوع الفهم. وسبق أن ذكرنا أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فمجرد قبول التكليف لا يشترط أن يكون كفراً أكبر على التفصيل الذي ذكرناه. كذلك قال: إن قبول شرع الله يتحقق بعدم الرد -وهو الإباء- من قبول الفرائض والأحكام، وقبول شرع غيره يتحقق بعدم الرد، وأدنى درجة الرد: كره القلب، ودلالته الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه. الفكرة الثالثة هي: رفض الكاتب تفسير الربوبية في بني إسرائيل المذكور في قوله عز وجل عن بني إسرائيل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، فهو قدر هذه الربوبية بأنها طاعتهم في الاعتقاد، واجتهد في إثبات ذلك تعدد من الأدلة، مبيناً أن في تفسيرها بالطاعة في الاعتقاد من اللوازم الفاسدة ما يرده أكثر العقلاء.

نقض تفسير عبادة الأحبار والرهبان بالطاعة في الاعتقاد

نقض تفسير عبادة الأحبار والرهبان بالطاعة في الاعتقاد أولاً: بالنسبة لتفسيره للربوبية التي وقع فيها بنوا إسرائيل، وذهابه إلى أن هذه الربوبية لم يكن مردها إلى الطاعة في الاعتقاد بمجرد أنهم قبلوا الأحكام بذلك حتى لو اعتقدوا حكم الله كما أنزله الله، واعتقدوا فيه عقيدة قلبية صحيحة، لكن أطاعوا الأحبار والرهبان فيما أحلوه وحرموه مخالفاً لشريعة الله، فمجرد قبول الأحكام كفر أكبر بغض النظر عن اعتقادهم في ذلك. فالمناط المذكور في الآية هنا هو الطاعة في التشريع وليس الطاعة في الاعتقاد أو المعصية. وتوضيحاً لهذا الكلام: فهذه الآية في سورة التوبة تتحدث عن حالة من حالات الانحراف التي جمح فيها أصحابها بين فساد الاعتقاد وفساد العمل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. أيضاً هؤلاء القوم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في هذه الأشياء فسدت عقيدتهم؛ لأنهم أقروا لأحبارهم ورهبانهم حق النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، فاعتقدوا أنما يربطه الأحبار والرهبان في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما أحلوه في الأرض يكون محلولاً في السماء، فالحلال عندهم ليس حلال الله، والحرام ليس حرام الله، وإنما الحلال عندهم ما أحله الأحبار والرهبان وإن كان خلافاً لما يعرفونه هم من حكم التوراة التي أنزلها الله عز وجل عليه، والحرام عندهم أيضاً ما حرمه الأحبار والرهبان وإن كان ذلك خلافاً لما يعرفونه من إباحته في التوراة. فهذه الطاعة كانت طاعة لها علاقة بالاعتقاد لا بمجرد قبول الحكم، فهم أعطوا حق نسخ شريعة الله وتحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله للرهبان والأحبار، فبذلك صدق عليهم وصفهم بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله عز وجل. فهذه طاعة في الاعتقاد قبل أن نقول: إنها طاعة في قبول الأحكام من الأحبار والرهبان، فهم تركوا تحريم التوراة وتحليلها إلى تحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم تأسيساً لهم على الإقرار لهم في الحق بذلك.

تلاعب الأحبار والرهبان بالتوراة والإنجيل

تلاعب الأحبار والرهبان بالتوراة والإنجيل يقول ابن القيم رحمه الله وهو يحكي صوراً من تلاعب الشيطان باليهود لعنهم الله: ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه، وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم. حتى في المناظرات المعروفة ينتقد اليهود والنصارى المسلمين لاعتقادهم أن الله عز وجل له أن ينسخ ما يشاء من آياته وأحكامه، فهم يعتبرون هذا موضع نقد وطعن في الإسلام، فهم عطلوا هذا الحق لله عز وجل: أنه ينسخ ما يشاء، ويبدل ما يشاء من أحكام لمصلحة العباد، ولما يشاء عز وجل من الحكم العظيمة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]؟ بلى. فهم حجروا هذا الحق ومنعوه عن الله تبارك وتعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأعطوا نفس هذا الحق إلى الأحبار والرهبان، فأقروا لهم بجواز النسخ في الأحكام وتحليل الحرام وتحريم الحلال. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير شيئاً من شريعته، فلا يحلل ما حرم، ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط، ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعاً لم يشرعها المسيح عليه السلام، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة، وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث: المسلمون، واليهود، والنصارى، كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك. فنحن اعتقادنا في المسيح يختلف عن اعتقاد اليهود والنصارى، فنعتقد في المسيح أنه عليه السلام نبي ورسول من أولي العزم من الرسل، وأنه عبد الله عز وجل ورسوله، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، كما قال الله عز وجل، إلى آخر العقيدة المعروفة عند المسلمين في حق المسيح عليه السلام. أما اليهود -والعياذ بالله- فهم يرمون مريم عليها السلام بالبهتان والإثم والفاحشة، وهذه نظرة النصارى أنفسهم للمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهم قد عبدوا المسيح، وألهوه وضلوا فيه ضلالاً مبيناً. أيضاً هؤلاء اليهود يختلفون معنا في نظرتنا إلى قضية النسخ، فاليهود لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئاً من شريعته أو من أحكامه، والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله عز وجل بآرائهم، أما المسلمون فيعتقدون أن الله جعل له الخلق والأمر، فلا شرع إلا ما شرعه الله على ألسنة رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولله تبارك وتعالى أن ينسخ ما شاء بما يشاء، كما نسخ بالمسيح عليه السلام ما كان شرعة للأنبياء قبله قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فهذا نسخ. فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح عليه السلام، وليس هذا متعلقاً فقط بالأحكام، بل إن أحبار النصارى الضالين قد بدلوا صلب عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، حتى صار أمراً مقرراً في مجامعهم المقدسة، فبدلوا العقيدة فضلاً عن الأحكام، كما وضع لهم الثلاثمائة والثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريسية وغيرهم. وفيها أمور لم ينزل الله عز وجل بها كتاباً، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ثم طفق رحمه الله يذكر بعض الأمثلة على ما أحدثه النصارى من الدين بعدما ذكر تبديل العقيدة من أصلها، وانحرافهم عنها، واخترعوا هذه العقيدة الشركية الوثنية عقيدة الإله والأقانيم الثلاثة، إلى آخر ما وضعوه من الشرك والكفر الأكبر بالله عز وجل، واعتقدوا أن هذا هو قانون الإيمان، ولا يعد مؤمناً إلا من اعتقد به. فيقول شيخ الإسلام: وكذلك تعظيمهم للصليب، لأن الصليب في زعمهم هو الذي صلب عليه إلههم الذي يعبدونه، وعلى هذا لو أن شخصاً قتل أباك بسكين فتأتي أنت تعبد هذه السكين وتعظمها وتتبرك بها وتقدسها، فهذه نظرتهم: تقديس وتعظيم الصليب بالتعظيم المعروف عند القوم. أيضاً: استحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، يعني: ما كتبنا عليهم الرهبانية لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. أيضاً: امتناعهم من الختان، وهو تبديل لشريعة الله عز وجل، وتركهم طهارة الحدث والخبث، ولا يوجبون غسل جنابة ولا وضوء، ولا يجتنبون شيئاً من الخبائث في صلاتهم، لا العذرة ولا البول ولا غير ذلك من الخبائث. هذه كلها من الشرائع التي أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم ولعنوا من خالفهم فيها. انتهى كلام شيخ الإسلام.

أمثلة لتشريعات الأحبار والرهبان

أمثلة لتشريعات الأحبار والرهبان قال القرطبي رحمه الله أيضاً: اعلم أن هؤلاء القوم وضعوا لأنفسهم قوانين توافقوا عليها، وارتبطوا بها من غير أن يشهد بصحة تلك القوانين شاهد من التوراة ولا من الإنجيل، فمن خالفها عندهم سموه خارجياً تارة وكافراً أخرى، والخروج عن تلك القوانين هو الذنب عندهم، ثم تلك الذنوب منقسمة إلى ما لا يغفرونه وإلى ما يغفرونه. ويقول القرطبي: قال لهم بولس: هل رأيتم سارحة تسرح من عند ربها وتخرج إلا من حيث تؤمر به؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من هاهنا -يعني: من المشرق- وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصلى إليه، قالوا: صدقت، فأمرهم أن يستقبلوا القبلة إلى جهة المشرق بهذه الحجة. ثم قال لهم بعد زمان: رأيت رؤيا، قالوا: هات، فقال لهم: ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى رجل هدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه؟ وإن الله سخر لكم ما في الأرض، وجعل ما في السماء لكم كرامة، فالله أحق ألا ترد عليه كرامته، فما بال بعض الأشياء حرام وبعضها حلال ما بين البقة إلى الفيل حرام؟ قالوا: صدقت! ولهذا تلاحظ أن النصارى لا يسألوا عن حكم أي شيء، هل هذا حلال أو حرام؟ لأنهم أصلاً ليس عندهم شريعة، بعكس هذا الدين الكامل والشريعة الخاتمة التي تحكم الإنسان في كل سلوكه وحياته، فلذلك تجد النصراني المفروض ألا ينزعج إذا حكم بغير دينه، فهذا لا يمسه في قليل ولا كثير؛ لئلا يقع في تصادم بين الواقع الذي يعيشه وبين العقيدة التي يدين بها. وعكس الحال بالنسبة للمسلم الذي تضبط شريعته كل أحواله وتصرفاته، ولا ينفك الإنسان في حال من الأحوال عن العبودية لله تبارك تعالى، فلذلك المسلم إذا حكم بغير شريعة الله يعيش التناقض المؤلم والواقع المرير الذي يصير عذاباً في عذاب، حيث تكون شريعته تشرق، والنظم الحاكمة بغير الإسلام تغرب، فيعيش في صراع دائم في مواقيت الصلاة في ظهور المنكرات في المجتمع في غير ذلك من النظم واللوائح التي تصادم عقيدته. فهم لا توجد عندهم شريعة أصلاً حتى يقلقوا أو ينزعجوا، بل كما يقول ابن القيم رحمه الله عز وجل: ما في دين النصارى من الباطل أضعاف ما فيه من الحق، وحقه منسوخ، فما بقي عندهم من خير بعد هذا التحريف. أيضاً يقول: هذا الذي يدعونه البابا، وهذا فيه شيء من التعظيم لأئمة الكفر، حتى للأسف أحياناً نجد بعض الإخوة تجري على فمهم كلمة (البابا) هذا أبوهم هم، أنت لماذا تقول: بابا؟ فهذا لقب فيه نوع من التعظيم، هو رفيع على أمثاله من الكفار، أما أنت فما ينبغي لك أن تقول هذا، فضلاً عما يحصل من السقطات المذهلة من بعض الناس الذين ينتسبون إلى الدعوة حين يخاطبون هؤلاء بقولهم: قداسة البابا، ونيافة البابا، ليست قداسة بل هي نجاسة وركاسة. فيقول: قداسة البابا، كيف يكون فيهم قديس؟ كيف نصفه بأنه قديس وهو نجس مشرك، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، فكيف أنت تعتقد مثل هذه الأشياء؟! يقول أحد بابواتهم: إن ابن الله -والعياذ بالله- أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض، ويجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين. فهذا معنى اتخاذ الأحبار والرهبان، فقد كان له علاقة وثيقة بالاعتقاد، وليس مجرد قبول التشريع، فإنهم أعطوا هؤلاء الأحبار والرهبان سلطات التحليل والتحريم وإن خالفت ما يعلمونه قطعاً من شريعة الله عز وجل؛ فبالتالي لا ينبغي النظر فقط إلى جانب قبول الأحكام منهم، لكن هذا وراؤه أمر اعتقادي، وهو إعطاؤهم حق التشريع والتحليل والتحريم.

الفرق بين الإسلام والنصرانية في قبول التجارب العلمية

الفرق بين الإسلام والنصرانية في قبول التجارب العلمية سبقت الإشارة إلى خطورة هذه القضية، والفرق بين الإسلام والنصرانية وغيرها في هذا الباب في الكلام على العلمانية منذ زمن، وقلنا: إن بعض المقلدين والببغاوات حينما يذهبون إلى الغرب فيتعلمون الثقافات الغربية، ولما كان الغرب عنده عقدة من الكنيسة بسبب هذه الأشياء وغيرها كثير، وحصل رد الفعل العلماني في فصل الدين عن الحياة، بسبب أن ما ولدوه يتصادم مع فطرتهم من العقيدة الوثنية التي تسربت إلى النصرانية، وبسبب البغي والطغيان الذي حصل من الكنيسة، وبسبب صراع الكنيسة مع العلم وردها لأي شيء من البحوث والاكتشافات العلمية الجديدة فكان رد الفعل المغالى فيه: أن رفضوا الكنيسة، ورفضوا كل شيء يمت إلى الدين، والببغاوات حينما تأثروا بهذا القول نقلوا هذا الكلام إلى بلاد المسلمين، فطالبوا أيضاً بالعلمانية أو شجعوا الاتجاهات العلمانية تأثراً بهذه الخلفية التي نشأت عما وقع في الغرب من صدام بين الدين والعلم. فهذا يتعلق بدينهم لكن نحن ما عرفنا في الإسلام تصادماً مع العلم، وبفضل الله الإسلام عقيدة توافق الفطرة لا تتصادم مع العقل أو الفطرة كما هو معلوم، وما أكثر الآيات التي تقول: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، {يَتَدَبَّرُونَ} [النساء:82]، وترفض الظن والتخمين والحدث إلى غير ذلك. فالإسلام دين العلم دين الفطرة دين التوحيد دين الشريعة الكاملة دين السمو في كل شيء، فمن الظلم أن نأخذ النتيجة التي بنيت على الماضي الأسود المظلم في الكنيسة ونطبقها على الإسلام وعلى بلاد المسلمين. هذا فيما يتعلق بعقائدهم.

حقيقة الربوبية للأحبار والرهبان الواقعة في بني إسرائيل

حقيقة الربوبية للأحبار والرهبان الواقعة في بني إسرائيل أما بالنسبة لأعمالهم: فهم جروا في سلوكهم وأعمالهم على تشريع الأحبار والرهبان وليس على ما شرعه الله لهم في التوراة، فجمعوا في ذلك بين فساد العقيدة وفساد العمل، فالربوبية على أساس هذا الكلام التي ذكرها الله وحكاها عن بني إسرائيل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، كما تتمثل في ادعاء الأحبار والرهبان حق النسخ والتبديل في أحكام الله، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن الله عز وجل بها، وفي إقرار بني إسرائيل هؤلاء الأحبار والرهبان على ذلك، وتعبدهم بما يتلقونه عنهم وإن كان مخالفاً لما في التوراة والإنجيل، فهذا بخلاف أنواع أخرى من الربوبية إنما تنشأ سلطة قاهرة غاشمة، أو سلطة سياسية من دولة تفرض أحكامها بالقهر والبغي والعدوان على شعوبها. فما وقع من الربوبية عند اليهود والنصارى أو عند بني إسرائيل إنما اعتمد على سلطان التدين، وهيمنتها على النفوس، فهم تعبدوا بذلك، وأعطوا هؤلاء الحق في التحليل والتحريم، حتى ولو خالف ما يعلمونه من أحكام التوراة والإنجيل، ففي عقيدتهم في الأحبار والرهبان أنهم يمثلون الله في الأرض، وما عقده الله في الأرض يكون معقوداً في السماء، وما يحله يكون محلولاً في السماء. فالحلال ما أحله هؤلاء، والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه، حتى فيما يتعلق بالقربات والحرمات يعطونهم صكوك الغفران، حتى أعطوهم التحكم في إدخال الناس الجنة وإخراجهم إلى النار، أعطوا الرهبان أو الأحبار هذا الحق، ولا توجد طريقة للتوبة إلا إذا ذهب إلى القسيس ويخلو به، ويجلس على كرسي الاعتراف، ويفصح له بكل تفاصيل الجرائم أو المعاصي التي ارتكبها، حينئذ يتوسط القسيس بينه وبين الله حتى يغفر له، والذي يملك أن يعطي حق إدخال الجنة يملك أيضاً عندهم أن يعطي حق أن يحرم من النار، وفي هذا مهازل عجيبة جداً. فهذا هو الفساد الاعتقادي في قضية الربوبية التي وصفهم الله عز وجل بها، جاء في إنجيل متى: الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما ستحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء. فكانوا إذا حزبهم أمر عقدوا له مجمعاً ينسخون فيه ما يشاءون، ويستحدثون فيه ما يشاءون، حتى آل الأمر ببني إسرائيل إلى أن أصبح الدين كله صناعة بشرية من صناعة الأحبار والرهبان، فهذا معلوم بالضرورة من تاريخ النصرانية المحرفة.

تحريف التوراة والإنجيل بأيدي أصحابها

تحريف التوراة والإنجيل بأيدي أصحابها يقول الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. وإذا تأملنا هذه الآية تجد الكتابة بصيغة الماضي، أما كسب وزر هذه السنة فمستمر إلى ما شاء الله، ولذلك أتى بصيغة المضارع التي تفيد الاستمرار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، فيقول الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، يعني: الكتابة والتحريف حصل، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، يعني: مما يكسبون من الوزر حين تضل أجيال بعد أجيال بسبب هذا التحريف في دين الله عز وجل. ويقول عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، فهذا حال عامة بني إسرائيل أنهم يدينون للأحبار والرهبان بهذا الحق في التحليل والتحريم، ويتعبدون بما يستحدثونه لهم من العبادات. فما يسمى بـ: (البابا) ليس مفتياً أو شخصاً عادياً كشيخ أو عالم مجتهد! لا، البابا عندهم مشرع، له عندهم هذا الحق في التحليل والتحريم، وكما ذكرنا ليس فقط في العبادات بل لابد من الرجوع إليهم أيضاً فيما يخص الذنوب والخطايا، ومهازل صكوك الغفران مما يؤيد ذلك.

التفريق بين حال الطواغيت والجبابرة الذين يحكمون المسلمين

التفريق بين حال الطواغيت والجبابرة الذين يحكمون المسلمين إن حكام المسلمين في هذا الزمان في شتى بقاع العالم الإسلامي يحكمونهم بالحديد والنار والقهر، ويجبرونهم على الخضوع والإذعان للشرائع التي تخالف شريعة الله، وأما اليهود والنصارى أو بني إسرائيل الذين كانوا يتعبدون بإعطاء الأحبار والرهبان هذا الحق وفي استحداث ما يشرعونه لهم. فكانوا يعتقدون أن لهم هذا الحق، وإن كانوا يعلمون أن هذا مخالف للتوراة والإنجيل، فهذا الخضوع من بني إسرائيل والقبول هو من جنس الخضوع للدين، والطاعة لأحكامه، والتعظيم لشعائره طعماً في الخلاص في الآخرة، ودرجات الخلود في ملكوت السماوات، فهذا تدين كانوا يتدينون به. أيضاً: الآية في سورة التوبة لم ترد في معرض التقرير والتحرير لقضايا أصول الدين، وإنما تحكي وتصف انحراف حال أمة من الأمم اتخذ انحرافها طابعاً معيناً، وهو: ادعاء أحبارهم أنهم يمثلون الله، وأنهم النواب عن رسل الله تبارك وتعالى، وبالتالي يكون لهم الحق في ممارسة أمر النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن بها الله، حتى أصبح دين بني إسرائيل كله من هذه الصناعة الآدمية. يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، يعني: الطاعة في التشريع إن كانت من جنس الابتداع في الدين كما وردت الآية: ((شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ))، فلا جدال أنها شرك وكفر أكبر، ولا تكون الطاعة في التشريع وقبول التشريع من غير الله عز وجل شركاً أكبر إلا إذا دان الإنسان بهذا التشريع، أي: بأن يتدين بهذا التشريع، ويعتقده كما يعتقد الدين، فيرجع الأمر في الحقيقة إلى الاعتقاد، وليس إلى مجرد قبول الحكم، أما إذا كانت الطاعة من جنس اتباع الشهوات، ومن باب الاستجابة لداعية الهوى فهي ذنب من الذنوب يختلف الحكم على صاحبه باختلاف موضوع هذا الذنب. فلو أن حاكماً من الحكام أمر الناس بالزنا، وشرع لهم إباحته، فأطاعه بعض الناس التزاماً للحكم بإباحته، ورداً لما أنزل الله من تحريمه، وأطاعه آخرون ليس إيماناً بهذه الإباحة، ولا كفراً بما أنزل الله من التحريم، لكن لأن هذا وافق هوىً في نفوسهم، ومرضاً في قلوبهم، مع بقاء إيمانهم وتصديقهم، كما يتواجد في بعض بلاد الكفار الذين يستبيحون مثل هذه الفواحش؛ فمن قبل هذا تديناً فهو كافر كفراً أكبر بلا شك. أما من وجد القوم يعيشون في مثل هذه الغابات الكافرة وتابعهم على ذلك لمجرد أن هذا يوافق هواه، وهو يعتقد أن هذا حرمه الله عز وجل، فلا شك أن الحكم في حالة التدين يختلف عن الحكم في الحالة الثانية، فالأولون كفار مشركون، والآخرون عصاة مذنبون. من هنا يكون الفرق بين الخضوع للأحبار والرهبان الذي كان في بني إسرائيل، والخضوع للطواغيت من ذوي السلطان، فالأحبار والرهبان يخضعون الظاهر والباطن، والناس يتدينون بذلك، ويخضعون الأجسام والأرواح والنفوس لما اعتقده الناس فيهم من أنهم يمثلون الله، أو ينوبون عن المسيح الذي يعبدونه، وأن المسيح -كما يفترون- أجاز لهم في السماء كل ما يريدونه هم على الأرض. أما الطواغيت فإنهم يخضعون الظاهر فقط، ويقهرون الأجسام فحسب، ومن هنا كان لابد أن تقيد الطاعة لهم بالكفر بأحكام الله، إما على سبيل التكذيب وإما على سبيل الإباء والرفض، أما التعبد بما يقول الأحبار والرهبان خلافاً لحكم الله؛ فإنه يتضمن بذاته هذا القيد، فلا يحتاج إلى التنصيص عليهم، يعني: مجرد كلمة التعبد تفيد أن هذا شيء يعتقدونه ويدينون الله به.

أنواع الكفر

أنواع الكفر أما بالنسبة لقضية الحاكمية، وما هو المناط الذي يترتب عليه الحكم بالكفر في هذه القضية: فقد سبق أن ذكرنا أن أصل الإيمان هو التصديق والانقياد، ومن لم يوجد في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر، يقابل التصديق التكذيب أو الشك، كما يقابل الانقياد الإباء أو الإعراض. ومن ثم فإن أنواع الكفر أربعة:

كفر التكذيب

كفر التكذيب الأول: كفر التكذيب، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40].

كفر الإباء والاستكبار

كفر الإباء والاستكبار الثاني: كفر الإباء والاستكبار، فهو لا يكذب الرسول، بل يعتقد أنه صادق، وأن الله أوحى إليه، لكن يكفر إباءً واستكباراً عن متابعته، فهؤلاء الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، كان هذا هو محل الاعتراض، فهذا هو الغالب على كفر أعداء الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن كفر الإباء والاستكبار: كفر إبليس، هل إبليس كان يشك في أن الله هو الذي أمره بالسجود؟! كان إبليس يعلم أن الله هو الذي أمره بالسجود لكنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فهذا كفر الإباء والاستكبار. فيمكن أن يعتقد الإنسان أن الله شرع رجم الزانية، لكنه يأبى ويستكبر أو يقدح في حكمة الله عز وجل في هذا التشريع، فهذا أيضاً يصير منضماً إلى أخيه إبليس الذي سن له هذا النوع من الكفر. كذلك كفر أبي طالب: استكبر عن أن يستمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومشهور عنه قوله وهو يمدح دين النبي عليه الصلاة والسلام: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وأصر على عدم الانقياد لشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعتقد أنه صادق. كذلك كفر من كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم من أهل الكتاب، وهذا حال اليهود بالذات. وهناك حديث اليهودي الذي زنى بامرأة من اليهود، وقال يهودي من بينهم: هلموا إلى ذلك النبي -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي أتى بالتخفيف، هم علموا من طبيعة هذه الشريعة أنها تخفف كما قال الله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، اليهود أنفسهم يعلمون هذه الخاصية من خصائص الإسلام، وهو أنه دين التيسير والسماحة والحنيفية السمحة، فلذلك قالوا: لا نرجمهم، بل نذهب إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بشيء دون الرجم أخذنا بكلامه، وحاججنا الله عز وجل يوم القيامة، وقلنا: نحن أخذنا بشريعة نبي من أنبيائك، وأنكروا أن يكون الله قد حكم عليهم بالرجم. فالشاهد: أن هؤلاء كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول الله حقاً وصدقاً، لكن حسداً من عند أنفسهم حسدوا هذه الأمة أن يصطفيها الله بأن يبعث منها هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وفي قصة عبد الله بن سلام، وكان من أكبر علماء اليهود في المدينة، لما أسلم وهداه الله عز وجل إلى الإسلام أمره النبي عليه الصلاة والسلام ألا يظهر إسلامه أمام أحبار وعلماء اليهود، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختبأ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فوقف فيهم وقال: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: فما تقولون إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله إنه للنبي الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وأجهلنا وابن أجهلنا)! وأخذوا يسبونه رضي الله عنه. فشأن اليهود الجحود، فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم حسداً من عند أنفسهم يجحدون ولا يقرون. وهذا فرعون كان كفره كفر استكبار وعناد وجحود، ففرعون كان يؤمن أن موسى رسول الله حقاً، والأدلة على ذلك معروفة في القرآن، مثل قول الله تبارك وتعالى حاكياً: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ)، يعني: يا فرعون، ونحن نصدق موسى عليه السلام في خبره: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102]، يعني: الآيات، {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وفي سورة النمل يقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل:14]، كان عندهم يقين، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فهذا هو فرعون، وهو من أكفر خلق الله، ومع ذلك كان يصدق موسى عليه السلام، لكن لم ينقد لدينه وما جاء به من الحق.

كفر الإعراض

كفر الإعراض الثالث: كفر الإعراض. الإنسان يعرض عن الحق، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل لا يلتفت إليه ألبتة، وذلك كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك. يعني: كأن القضية لا تهمه، وهذا حال أغلب الكفار الآن في العالم الغربي، فهم في الحقيقة لم يعودوا نصارى ولا يهوداً، وربما اليهود ما زالوا متمسكين في عامتهم، لكن النصارى هم الآن شر من اليهود، هم يصفون العصور الوسطى بأنها عصور الظلام. وهم يعيشون الآن في ظلم أشد من ظلمة العصور الوسطى في الحقيقة، وهم الآن في عامتهم لا دين لهم، وأقرب ما يكونوا للوثنيين، وهذا يعلم من حال القوم، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:83 - 84]، ويقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، قضية الدين هذه مثل الأكل والشرب والألوان والروائح والمذاق والطعم، كل إنسان بالنسبة له هي قضية شخصية بينك وبين ربك، إن شئت أن تؤمن تؤمن، وإن شئت أن تكفر تكفر، تعتقد ما تشاء، وتفعل ما تشاء، قضية الدين ليست على بالهم أصلاً. فهذا كفر الإعراض صاحبه لا يبالي ولا يبحث عن الحق، ولا يكلف نفسه حتى اتخاذ موقف الموالاة أو المعاداة، القضية لا تهمه في قليل ولا كثير. فهذا كفر الإعراض.

كفر الشك

كفر الشك الرابع: كفر الشك، وهو كفر من ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون، لا يصدقون ولا يكذبون، بل يقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. وهذا الشخص الذي يعاني من التردد والشكوك والذبذبة بين التصديق والتكذيب، ويتردد بين الظن وغيره إذا تدبر في آيات الله عز وجل فإنه يهتدي إلى اليقين في آيات الله عز وجل، لكن إذا انضاف إليه الإعراض واستمر على إعراضه فيبقى في هذا التردد والشك. بناءً على هذا الكلام نستطيع أن نوضح ونبين ما هو الأساس الذي نستطيع أن نحكم به على الشيء بأنه يكفِّر أو لا يكفِّر فيما يتعلق بقضية الحاكمية بسهولة ويسر، فيقال: إذا رجع الخلل إلى أحد الأصلين أو كليهما، أي: إذا رجع الخلل الذي نشأ في قضية الحاكمية إلى التصديق أو الانقياد فهذا كفر، لكن إن سلم للإنسان أصل التصديق والانقياد لشريعة الله فهذا يكون من الفروع. هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: إذا سلم أصل التصديق وبرئ من كفر التكذيب والشك، وإذا سلم أصل الانقياد وبرئ من كفر الإعراض وكفر الجحود والاستكبار والعناد؛ فالإنسان في قضية الحاكمية إذا سلم من هذه الأنواع الأربعة من الكفر، وحصل خلل في شيء من أمور الحاكمية، فما دام أنه سلم له أصل التصديق والانقياد فهذا يرجع إلى الفروع. أما إذا حصل خلل في قضية التصديق والانقياد فهذا يرجع إلى العقيدة ويكون كفراً أكبر. فحالة الفروع تمس التصديق والانقياد، وحينئذٍ يصدق على فاعل هذا الشيء ما أثر عن السلف الصالح رحمهم الله ورضي الله عنهم من قولهم في تفسير قوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، قالوا: إن هذا ليس بالكفر الذي تذهبون إليه؛ أو ليس الكفر الذي ينقل عن الملة. وبهذا يكون المناط المكفر في قضية الحاكمية له صورتان: الأولى: ما كان الخلل فيها راجعاً إلى أصل التصديق، وهذه هي صورة الجحود، والجحود في اللغة: هو الإنكار بعد العلم، فمن حكم بغير ما أنزل الله جحوداً لحكم الله فهو كافر بلا نزاع، وهذه الصورة تئول وترجع في النهاية إلى كفر التكذيب؛ لأنه يكذب بحكم الله عز وجل. الحالة الثانية: إذا كان الخلل راجعاً إلى أصل الانقياد، فهذه صورة الرد: أنه يرد حكم الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) من كان حكمه بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وقد قام بجمع الأقوال في تفسير الآية وتحقيقها الأخ علي حسن علي عبد الحميد الحلبي في كتاب أسماه: (القول المأمون في تخريج ما ورد عن ابن عباس في تفسير: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]). ومجمل الكلام الذي نقل عن ابن عباس أو غيره: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الآية، وكان أول ما نقل في كتب التفسير في الآية عن ابن عباس أنه كان يقول: من جحد بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. يعني: دون الكفر الأكبر. فعلى هذا الأساس ممكن أن نتخذ هذه القاعدة التي وضعها ابن عباس رضي الله عنهما نبراساً نرى في ضوئه رؤية صحيحة إلى الروايات الأخرى التي جاءت عنه في تفسير هذه الآية، فمثلاً: هو سئل في موضع آخر عن هذه الآية، فقال: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وبكذا، يعني: فاعله يسمى كافراً، لكن يكون الكفر كما في الروايات الأخرى: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، فليس كفراً ناقلاً عن الملة. ومعروف أن الكفر يطلق على المعاصي، والإيمان يطلق على شعب الإيمان أيضاً. وهذا نظائره كثيرة، كقوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً). وإلا نكون مثل الخوارج الذين يكفرون بأي شيء يطلق عليه لفظ الكفر. يقول ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. هذا في من لم يخرج عن الملة في قضية الحاكمية. أيضاً في رواية أخرى، قال: هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال أيضاً: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، كفر دون كفر. أما ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن الحسن أيضاً فنقل عنهم القرطبي وغيره أنهما قالا: هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي: معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه مرتكب محرماً فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. أما مجاهد فقال: من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق. وقال أبو مجلز كما روى الطبري: أن ناساً من بني عمرو بن سدوس سألوه عن آيات المائدة ليلزموه الحجة في تكفير الأمراء؟ هؤلاء كانوا من الإباضية فرقة من فرق الخوارج، أرادوا أن يلزموه بالتكفير، فسألوه عن الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فقال: هو دينهم الذين يدينون به، وبه يقولون، الكلام هنا عن تطبيق الآية على الأمراء، والأمراء هؤلاء كانوا مسلمين وإن بغوا في بعض الأحكام أو ظلموا أو حادوا لغرض دنيوي فهم لا يكفرون بذلك، فيقول: هو دينهم الذين يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. وقال الطبري في تفسيره: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، يعني: الإمام الطبري قال: إنهم ينطبق عليهم الكفر الأكبر إذا كانوا جاحدين، كما ذكرنا في القاعدة التي قرأناها في بداية الكلام. الانحراف في قضية الحاكمية إذا أحدث خللاً في أصل التصديق أو أصل الانقياد فهو كفر أكبر، وإن لم يمس التصديق والانقياد فهو كفر دون كفر، كذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً هو بالله كافر. كما قال ابن عباس. هذا كلام الطبري. كذلك يقول: في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي. ويقول ابن الجوزي: وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم فاسق. الرازي نقل قول عكرمة وصححه، وهو قوله في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44]، قال: إنما يتناول من أنكر بقلبه، وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله، وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بأمر الله تعالى، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح. هذا كلام الرازي. أما الحافظ ابن كثير رحمه الله فقال عند قوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، قال: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، حتى الياسق كان أفضل من القوانين الوضعية الآن؛ لأنه كان يأخذ من كتب أصلها سماوي، لكن الآن تؤخذ الشرائع والحلال والحرام من شرائع بشرية. يقول: وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. هذا كلام الحافظ ابن كثير. ونقل عند تفسير الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ما روي عن ابن عباس وطاوس: من أنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وأنه ليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما روي عن ابن عباس من التفريق بين الجاحد والمقر. فخلاصة الكلام الذي ذكره ابن كثير: أنه يفرق في القضية على أساس الجحود أو الإقرار، إن كان جاحداً فهو كافر كفراً أكبر، وإن كان مقراً فهو كفر دون كفر. أما الألوسي فقال رحمه الله: احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال: أن كلمة (من) فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل فيها الفاسق المصدق أيضاً؛ لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى. الخوارج أخذوا من الآية: أن الفاسق وإن كان مصدقاً بحكم الله فهو غير حاكم بما أنزل الله، واستدلوا بهذه الآية على تكفير الفاسق، وحتى ولو كان مصدقاً بحكم الله بمجرد عدم تطبيقه وحكمه بما أنزل الله. يقول الألوسي: وأجيب: بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملاً لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، فإذا عرفنا أن المقصود بالتصديق هو التصديق الانقيادي، حينئذٍ ندرك أن عبارة الألوسي توافق القاعدة العامة التي ذكرناها. معنى كلام الألوسي: أنه أجيب على الخوارج بأن الآية متروكة الظاهر؛ بأن الحكم وإن كان شاملاً لفعل القلب والجوارح، ولكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ذكرنا من قبل عند كلامنا على حد الإيمان، ومعرفة الإيمان عند السلف، واختلافهم في معنى الإيمان، وأنه قول وعمل أو هو مجرد التصديق، وقلنا: يحمل كلام العلماء الذين قالوا: الإيمان هو مجرد التصديق، أنه لابد أن تضاف كلمة: التصديق الذي يستلزم الانقياد، أما مجرد التصديق فقد يقع في الشخص الذي هو متلبس بكفر الإعراض والاستكبار والجحود والعناد كما ذكرنا عن إبليس وفرعون وبني إسرائيل. فمجرد التصديق لا يدخل في الإيمان، ولابد معه من الانقياد للشريعة، فمعنى كلام الألوسي: ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، يعني: التصديق الذي يوجب الانقياد. أما المراغي رحمه الله فيقول في تفسيره: وخلاصة المعنى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44]، مستبدلاً به منكراً له كان كافراً لجحوده به واستخفافه لأمره. العلامة الشنقيطي رحمه الله يقول في أضواء البيان: والظاهر المتبادر من سياق الآيات: أن آية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] نازلة في المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً مسلمي هذه الأمة: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة:44]، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها. الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أيضاً يقول في المنار: وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين

خلافات التكفير بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة

خلافات التكفير بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة الكلام في هذه القضية له خلاف كبير بين الناس، وكل من ينتمي إلى الاتجاهات الإسلامية التي تجعل الإسلام مبدأها ومعادها والحاكم عليها، والخلاف فيها إنما هو خلاف نظري إلى حد بعيد. فهناك اتفاق بين كل من ينتمي إلى هذا الدين وللدعوة الإسلامية على أن من كذب بحكم الله، أو رد حكم الله عناداً واستكباراً، فهذا كافر كفراً أكبر خارج عن الملة، حتى الذين يعتقدون أن الإيمان هو التصديق، فهم لا يطيقون هذا التعبير، ويضيفون إليه ضابطاً وقيداً هو: والتصديق الذي يستلزم الانقياد، والدليل على ذلك: حال المشركين والكافرين، فأئمة الكفر صدقوا أن الرسول رسول من عند الله، لكنهم لم ينقادوا لشرعه. فالخلاف الذي يقع في هذه القضية هو الخلاف في ناحية التطبيق وليس في الناحية النظرية، وهذا ينبغي استصحابه عند مناقشة مواقف الجهات الإسلامية من قضية التكفير، فلابد أن يستحضر الإنسان أن الذي يخالف في هذه القضية هو لا يدافع عن الكفر، هو في الحقيقة يصف الكفر بأنه كفر، فلا نتصور مسلماً أبداً يصح له إسلامه وهو يعتقد أن من كذب بحكم الله، أو رد حكم الله، أو طعن في حكم الله يبقى له من الإسلام قيد شعرة، فهذا لا يختلف عليه، لكن الكلام هو في الجانب التطبيقي منه، وبالذات تطبيق صورة الرد، متى نحكم على شخص أنه رد حكم الله؟ التكذيب لا يقع إلا في النادر، والتكذيب الصريح يتحاشى الطواغيت الوقوع فيه، وإنما هم يستترون في الغالب وراء التكذيب المقنع، فمنهم من يصرح، ومنهم من يلمح، ومنهم من يلتمس وينتحل المعاذير. فمن الظلم البين في هذه القضية ذلك السلاح الذي يشهره بعض أصحاب الاتجاهات، فهو عندما يشعر بالوحشة بسبب ما هو فيه من البدعة، فيحاول أن يستأنس ويزيل هذه الوحشة، بالذات إذا كان مخالفوه على شيء من العلم، فيحاول أن يمارس نوعاً من الإرهاب الفكري، ويشهر السيف المعروف وهو قاعدة: من لم يكفر الكافر فهو كافر، وسنأتي إلى ذلك بعد بالتفصيل، لكن هذه صورة من صور التكذيب: أنك إذا لم توافقه تصير أنت أيضاً كافر، إذا ما كفرت فلاناً باسمه فتصير أنت أيضاً كافر؛ لأن هذا يعني أنك راض بكفره، والرضا عن الكفر كفر. وهذه مزلة خطيرة لابد للإنسان أن ينتبه في هذه الحال، فالشخص الذي يتورع عن التكفير هو لا يدافع عن الكفر، ولا يخاف على الحاكم بغير ما أنزل الله بقدر خوفه على نفسه هو؛ لأنه يستحضر حينئذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، إن أخطأ في هذا الأمر سوف يرتد إلى الكفر. ونبهنا مراراً: أن أولى الناس بالحذر والخوف والتورع في جانب التكفير هم الذين يعتقدون أنه ليس هناك كفر دون كفر؛ لأنه إذا أخطأ في تكفير شخص من المسلمين وهو في الحقيقة مسلم، فإن لم يكن كافراً في الحقيقة فسوف يعود عليه حكم الكفر، لكن كيف يفهم هو هذا الحديث: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا حارت أو عادت عليه) هل هو يعتقد: أن هذا كفر دون كفر كما يعتقد أهل السنة والجماعة في من أخطأ في الحكم على غيره؟ لا، هو يعتقد أنه سيخرج من الملة، وسيصير مثل فرعون وهامان وقارون وغيرهم من أئمة الكفر، فلذلك هو أولى بالتورع؛ لأنه إذا أخطأ فسوف يدخل عليه -في نظره هو- كفراً أكبر، فينبغي أن يكون حظه من الاحتياط والتورع أعظم من غيره ممن يعتقد أنه إذا أخطأ ستكون مجرد معصية. فرفع سلاح: من لم يكفر الكافر فهو كافر. هذه صورة من الإرهاب الفكري، وفي نفس الوقت صورة من الانحراف العلمي؛ لأنه هو غير راض بكفره؛ لأن الخلاف في الجانب التطبيقي فقط. فما في شك أن من اشتبهت عليه قضايا مثل الحكم بالكفر ليس أمراً هيناً، وإنما يترتب عليه من الآثار العظيمة في الدنيا والآخرة ما الله به عليم، ويكفي من بعض هذه الآثار في الدنيا فقط ما رأينا من وقوع القوم في استحلال كثير من المحرمات، وانتهاك الأعراض حينما يكفرون شخصاً، ويأخذون بعض نسائهم ويتزوجونهن، وهو غارق في وحل الكبيرة والفاحشة، ويتصور أنه يطبق حكم الله عز وجل؛ لأن هذه امرأة رجل كافر، وهو أنقذها من أن تكون زوجة لهذا الكافر الذي يكفره هو، فيستحلون الأعراض والأرواح، والأموال، ومعروف في التاريخ التصفية الدموية التي كان يمارسها الخوارج المعاصرون من جماعة شكري مصطفى، وما أحدثوه من الفساد العريض في الأرض. فهذا خطأ يترتب عليه سلوك عملي، وليس مجرد ترف فكري، أو خلاف شكلي، إنما الذي يترتب عليه استحلال كثير من المحرمات، فالتورع في هذا الباب لمن يخشى الزلل والسقوط أمر محمود، ولا ينبغي أن يعاقب ولا يلام عليه فضلاً عن وصفه بأنه ينطبق عليه: من لم يكفر الكافر فهو كافر. فهو في الحقيقة يكفر الكافر كنوع، أما التعيين: فإذا قال الشخص مثلاً: أنا أقول ما يقوله العلماء، أو إذا وجد قضاء شرعي يحكم في هؤلاء بحكم الله، فهذا أحسن ما يتخلص به الإنسان من الوقوع في ورطة القول على الله تبارك وتعالى بغير علم. فالحقيقة أن الخلاف التطبيقي إنما يكاد ينحصر في: كيف نحكم على الشخص أنه رد حكم الله؟ لأنه يندر جداً أن تجد حاكماً يصرح بأنه يكذب حكم الله، كذلك أيضاً يندر من تجده يطعن في حكم الله، ويصفه مثلاً بالرجعية أو الهمجية أو الوحشية، فإن عامة القوم يتحاشون من ذلك ويهربون إلى حيل أخرى، لكن الخلاف غالباً يكون: على أي أساس نحكم على شخص بأنه رد حكم الله تبارك وتعالى؟ ذكرنا: أن الرد عكس القبول، ومعنى هذا: أن شخصاً يعلن أنه لا يقبل الحكم بشريعة الله تبارك وتعالى، وأنه لن ينقاد لهذه الشريعة في واقع الحياة، وهاتان هما صورتا الرد: أنه يعلن أنه لن يقبل الحكم بالشريعة، فهذه صورة مكفرة من صور الرد. أيضاً: أنه لن يقبل الانقياد لهذه الشريعة في واقع الحياة، هذا في الواقع العملي له صور متعددة وأنواع متفاوتة، لكن كلها يجمع بينها هذا القدر. أيضاً: قد يكون الرد متفاوتاً في درجة وضوحه؛ فبعض الناس يرد رداً واضحاً وجلياً، ومنه أنواع دقيقة ملتبسة قد تخفى على عموم الناس وما بينهما درجات متفاوتة، ومنها ما يكون أقرب إلى النوع الأول وواضح جلي، ومنها ما يكون أقرب إلى النوع الثاني. فمثلاً: لو أن رجلاً أعلن أن الشريعة الإسلامية غير مناسبة للتطبيق، أي: أنها لا تناسب هذا العصر، أو انتقدها، أو ندد ببعض الأحكام الشرعية، فلا خلاف بين اثنين أن هذه من أقبح صور الرد وأصرحها، وكل المسلمين يتفقون على كفر صاحبها، ولا يختلفون في ذلك طرفة عين. فإن كان ثمة خلاف فالخلاف لن يتعلق بالأصول، وسوف يتعلق بالفروع والإجراءات كمدى اعتبار عارض الجهل بالنسبة لهؤلاء أو عدم اعتباره، لكن لا يختلفون أن هذا الفعل كفر أكبر، لكن هل هناك من عذر أو تأويل أو غير ذلك من العوارض التي أشرنا إليها من قبل؟ هذا هو محل الخلاف؛ لأن صور الرفض ليست بنفس الدرجة من الوضوح والصراحة، لذلك ينشأ الالتباس والنزاع بين الناس في هذه القضية. أيضاً: بالنسبة لمسألة تحكيم القوانين الوضعية، وإظهار أحكام عامة ملزمة لكافة الناس تتقيد بها الأجيال الحاضرة والمستقبلة، وهذه الأحكام تكون معارضة لحكم الله عز وجل، معطلة لحدوده، محلة لحرمته، وتقديم الحكم بها والتحاكم إليها على الحكم والتحاكم إلى الكتاب والسنة، بل والحلف والقسم على الإخلاص لها في الظاهر والباطن، هذه الصورة لا شك أنها صورة جلية من صور الرد والرفض لما أنزل الله تبارك وتعالى. أيضاً: بعض الناس قد يوردون هنا شبهة على هذا الوضع، فيقولون: إن هؤلاء ورثوا هذه الأحكام ممن قبلهم ولم يستأنفوها هم أو لم يفعلوها، كما أنهم أيضاً لم يعلنوا إلغاءها من ناحية، ولم يعلنوا رفضهم الكامل للشريعة من ناحية أخرى، فتجتمع فيهم على ما يظهر أمور متعارضة، فهم باستمساكهم بالقوانين الوضعية وتحكيمها في الأمة، وإلزام الأمة بها، وعقوبة الخارج على هذه القوانين قد تحقق فيهم ما تحقق لدى من استأنفوا إصدار هذه القوانين من رد ما أنزل الله تبارك وتعالى، وهذا الرد أحد المناطين المكفرين في القضية. أيضاً: هم حينما يعلنون الإيمان بالشريعة من جانب آخر، وأنهم يسعون إلى تطبيقها، ويشيدون بذلك في مختلف المناسبات، ويعتذرون عن التباطؤ في ذلك؛ لأنهم يريدون تهيئة الظروف وتحقيق الملاءمة السياسية وغير ذلك مما ينتحلونه أو ينتحل لهم من المعاذير عند من يحسن الظن بهم؛ تنتفي حينئذ دلالة الرد السابقة، ولا يحكمون عليهم بأنهم ردوا حكم الله، وإنما يلتمسون ويقبلون مثل هذه المعاذير. فالناس ينقسمون في هؤلاء إلى أقسام عدة: فمنهم من يقضي باعتبارهم كفاراً مارقين؛ لأن الحال الظاهر يكذب ما يدعونه من العمل على التغيير، وأن هذا خداع للأمة لا غير، فهؤلاء إذا تحقق كذبهم في ادعاء التغيير، حينئذٍ يثبت في حقهم أنهم ردوا الأحكام الشرعية، وهذا كما ذكرنا من المناطات المكفرة. لكن من الناس من صدق هذه المعاذير، وقضى باعتبارهم من أئمة الجور؛ لأنهم يعلنون الإسلام من ناحية ولا يتحقق في حالهم، ولم يثبت أنهم ردوا بالفعل الأحكام الشرعية من ناحية أخرى بناءً على ما يدعونه من السعي في التغيير وإعلان الإيمان بالشريعة، بل منهم من يغلو في إحسان الظن بالتصريحات التي يصدرونها فيعذرهم في تعويق الأحكام الشرعية بما يدعونه من المعاذير، فلا يشهد عليهم لا بكفر ولا بجور ولا بظلم، بل يعطيهم من الولاء ما يعطى للخلفاء الراشدين وأئمة العدل المهديين. من الناس من يقضي باعتبارهم منافقين؛ لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرون خلاف ما يعلنون. هذا التباين في حكم الناس في هذه القضية يجد أن الأساس في الخلاف ليس هو في وصف الكفر بأنه كفر أو المعصية بأنها معصية، إنما الخلاف في تحقيق هذا الواقع، ومدى دقة كل طرف في رؤية الأحداث وتحليلها بهذه الدقة. ففي الحقيقة هذا ليس خلافاً حول بعض أصول الدين حتى يكفر من يخالف في هذه المسائل التي ذكرناها، فالخلاف ليس راجعاً إلى قضية من أصول الدين؛ لأن كلاً منهم يعتقد أن من رد حكم الله، ومن كذب بحكم الله فهو كافر، فهذا موضع اتفاق بين جميع المسلمين ا

الإيمان والكفر [20]

الإيمان والكفر [20] إن توحيد الحاكمية جزء لا يتجزأ عن التوحيد، فما ذكر في القرآن إلا مقروناً به، وأما القوانين الوضعية ومحاكمها الحالية، فهي مما لم شهده المسلمون وفرض عليهم في هذا العصر، وإن كانت هناك أحكام بغير ما أنزل الله من قبل إلا أنها لم تكن عامة مفروضة مقننة، ولكنها كان عن هوى ومعصية، وقد حكم علماء المسلمين على القوانين الوضعية بالكفر، ولا مجال للشك في ذلك عند المطلع على حقيقتها، العالم بمقاصدها.

توحيد الحاكمية وصلته الوثيقة بالتوحيد

توحيد الحاكمية وصلته الوثيقة بالتوحيد نخوض الآن في قضية الحكم بما أنزل الله أو قضية الحاكمية، وسبق أن ذكرنا أن لقضية الحاكمية صلة وثيقة بالتوحيد بنوعيه: العلمي الخبري، والعملي التشريعي العبادي، وسوّى الله تبارك وتعالى بين الشرك في العبادة والشرك في الحاكمية، فقال عز وجل: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، (لا) هنا النافية، وفي قراءة ابن عامر من القراء السبعة: ((ولا تشرك في حكمه أحداً))، على أنها (لا) الناهية، أي: لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك يا أيها المخاطب في حكم الله تبارك وتعالى أحداً، هذا في الحكم، كذلك قال في العبادة: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالأمران كلاهما سواء؛ شرك بالله العظيم في قضية الحاكمية والعبادة.

الفرق بين كفر العين وكفر النوع

الفرق بين كفر العين وكفر النوع هناك فرق في قضية التكفير بين النوع وبين العين، أما كفر النوع: فهو الحكم على الفعل في ذاته، وما ينبغي أن يعتقده كل مسلم في هذا الموضوع الذي نتناوله. أما الحكم على الشخص الذي قام بهذا الفعل، هل هو كافر أم غير كافر، فهذه إلى حد بعيد قضية تتعلق بإجراءات من المفروض أن يتخذها القضاء الشرعي إن وجد، أما إن لم يوجد القضاء الشرعي فيكل الإنسان الأمر إلى أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، ولا يجترئ على الكلام من عند نفسه، حتى لا ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإذا دفع الرجل الحكم بالكفر عمن يعتقد هو في نفسه أنه مسلم وأنه مبرأ من الكفر، ذاباً عن عرض أخيه المسلم؛ فإنه يثاب في ذلك حتى ولو لم يصادف الحق ولم يوافق الصدق في هذه الجزئية، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -وكما سننقله عنه إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل-، فمن اجتهد في دفع الحكم بالكفر على من يحسن به الظن من المسلمين؛ فإنه يثاب على ذلك ولا يؤثم فضلاً عن أن يكفر، تطبيقاً للقاعدة التي يساء فهمها وبالتالي يساء تطبيقها: من لم يكفر الكافر فهو كافر. يعني: إذا كان راضياً بكفره، أو من لم يكفر الكافر الذي قام دليل قطعي على كفره مثل: فرعون أو أبي لهب، أو اليهود والنصارى وهكذا. أما من اختلف العلماء في كفره مثلاً: كتارك الصلاة، هل العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً يعتبرون في نظر العلماء الذين يكفرون تارك الصلاة كفاراً؟! هل يقولون لهم: من لم يكفر تارك الصلاة فهو كافر؟! هل الإمام أحمد يكفر الشافعي وأبا حنيفة ومالكاً وغيرهم من الأئمة الذين لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً؟! إن هذا فتح لباب عظيم من الفوضى والاعتداء على حرمات الله تبارك وتعالى، ففي موارد الاجتهاد أو في المواضيع الإجرائية الخلاف فيها أمر له شأن آخر سنتكلم عليه بالتفصيل في قضية العذر بالجهل إن شاء الله.

علاقة الحاكمية بالتوحيد

علاقة الحاكمية بالتوحيد إن الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فهو أن ينكر هذه المنكرات، وأن يصحح عقيدته في هذه القضايا، ويعلم الحق فيها من الباطل، فقضية الحكم بما أنزل الله من القضايا التي تمس العقيدة من حيث إنها ركن من أركان قضية التوحيد، ولا نقول: إنها كل قضية التوحيد، بحيث نحصر معنى العبادة في قضية الحاكمية كما يحصل من كثير من الاتجاهات الإسلامية، خاصة ممن تأثروا بكتابات بعض الأفراد من المتأخرين الذين وضعوا على أعينهم منظاراً اسمه الحاكمية، ونظروا من خلال الحاكمية إلى كل نصوص القرآن وكل قضايا الإسلام، وبالتالي أهملوا كثيراً من القضايا الحيوية التي تمس العقيدة، وكثيراً جداً من قضايا التوحيد المهمة في بنية المسلم. إن منهج النظر من خلال منظار الحاكمية له اتجاهات شتى بين الجماعات الإسلامية، وبالذات عند الشيخ سيد قطب رحمه الله، وعند المودودي اللذين كان لبعض كتابتهما أثر كبير في أن أساء كثير من الشباب فهم كلامهما، فبالتالي وضعوا من هذه المواضع التي فيها نظر أسساً وأصلوا أصولاً وقواعد قد يكون فيه شيء من النظر. فنحن نركز على بيان قضية الحاكمية كاعتقاد وتصور يجب أن يحتفظ به كل مسلم في قلبه، ويعقد عليه قلبه حتى يصحح هفوته كما يصححها في كل قضايا التوحيد، فإن الله تبارك وتعالى وصف من أشرك به في العبادة بالشرك، وكذلك من أشرك بالله في الحكم أيضاً وصفه بأنه مشرك، قال عز وجل: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، فالحلال حلال الله والحرام حرام الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غير الله باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، فمن قدم القوانين الوضعية أو أي تشريع يخالف شرع الله تبارك وتعالى على شرع الله، سواء اعتقد أنه مثل شرع الله أو أنهما سواء، فضلاً عن أن يعتقد أنه أفضل من شرع الله، فهذا لا نزاع في كفره وخروجه من الملة، وكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله، وإن كان أعطاه حق التشريع فهو يقع تحت قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]، فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد، وقال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فقد سمى الله تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء، أيضاً الشيطان سيقول للذين كانوا يشركون به في الدنيا: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، وبين في نفس الآيات في سورة إبراهيم أن هذا الإشراك لم يكن زائداً على مجرد أنه أمرهم فأطاعوه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي} [إبراهيم:22].

الأدلة على قضية الحاكمية

الأدلة على قضية الحاكمية أما الأدلة على أن لا حكم إلا لله سبحانه تعالى فهي أكثر من أن تحصر يقول تبارك وتعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]، وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال أيضاً: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقال عز وجل: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وقال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50]، وقال عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، فبهذه النصوص يظهر غاية الظهور أن كل من يتبع القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله، فهذا كفر عظيم بواح ناقل عن ملة الإسلام، ولا يخالف في هذا إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي من أمثال هؤلاء. يقول الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] الحرام هو الذي حرمه الله، والحلال هو ما أحله الله، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، ويقول عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].

وجه اقتران صفة إفراد الله بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى

وجه اقتران صفة إفراد الله بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى لقد بين الله عز وجل في كتابه العزيز في كثير من الآيات صفات من يستحق أن يكون له الحكم وحده، وذلك ليلفت أنظارنا إلى أن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله تبارك وتعالى إذا كانوا يملكون مثل هذه الصفات فيكون لهم الحق في أن يشرعوا ويحلوا ويحرموا، بل ويعبدوا من دون الله، سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! هذا إن كانت لهم هذه الصفات التي سلكوها، أما إن ظهر لنا يقيناً أنهم أحقر وأذل وأضل وأصغر من ذلك، فيقف الإنسان بهم عند حدهم ولا يجاوز بهم إلى مقام الربوبية. ولقد اقترنت دائماً صفة إفراد الله عز وجل بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى، وفي هذا إشارة إلى أن من اتصف بهذه الصفات هو الذي يستحق أن يكون له الحكم من دون الله قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:10 - 11]، ومن أجل ذلك لا حكم إلا لله؛ لأنه هو الذي فطر السماوات والأرض، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] أي: له الخلق وله الأمر؛ لأنه الذي خلق، أما أن يخلقنا الله ويرزقنا فنتجه بالعبادة وبالتوحيد وبالحاكمية إلى غير الله فهذا كفران بنعم الله عز وجل، وصرف للعبادة إلى الأنداد والأضداد من دون الله تبارك وتعالى. فانظر إلى الصفات التي ذكرها الله عز وجل، ثم أعقبها قوله عز وجل: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) من هو الذي له الحكم وحده؟ ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)) [الشورى:10] هو ربي الذي خلقني، فهل هؤلاء أرباب، أم هم الذين خلقونا؟ ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) من هو أيضاً؟ ((فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، هل عبد الرزاق السنهوري، أو أبو جهل العربي أو المصري أو أي إنسان ممن شرعوا من دون الله ووضعوا القوانين التي تحاد شريعة الله؟! هل يتصف بصفة واحدة من هذه الصفات؟ هل هو فاطر السماوات والأرض؟! هل جعل لنا من أنفسنا أزواجاً؟ هل ليس كمثله شيء، أم أنه عبد حقير ذليل ليس له إلا أن يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله؟ فانظر كيف كفر العباد بدين ربهم تبارك وتعالى، وضللهم عن أصول هذا التوحيد. {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:11 - 12]، هل في المشرعين من يستحق هذه الصفات؟! يقول عز وجل: {لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] هل الذين يشرعون من دون الله ينطبق عليهم قولنا: لا إله إلا هم، أو كل شيء هالك إلا وجوه هؤلاء، أم أن هذه الصفات يستأثر بها الله تبارك وتعالى؟! {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، هل فيهم من يتصف بأنه علي وكبير؟ {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:70 - 73]. وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، هل في هؤلاء الأنداد الأرباب الذين يعبدون من دون الله حين يحلون ويشرعون بأهوائهم، هل فيهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين؟! هناك جملة من الآيات تقترن فيها صفات الله تبارك وتعالى؛ تلك الصفات التي لا يوصف بها أيُّ من الفجرة الكفرة المشرعين للنظم الشيطانية، ولا يدعيها أي أحد منهم؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وأيضاً لما كان التشريع وجميع الأحكام سواء كانت أحكاماً شرعية أو أحكاماً كونية قدرية هي من خصائص الربوبية، فكل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله فقد اتخذ ذلك المشرع رباً وأشركه مع الله، فمتى أعطيت حق التشريع وأقررت به لهؤلاء الذين تعلم أنت أنهم يضادون حكم الله ويخالفون شرع الله تبارك وتعالى، وأطعتهم في ذلك بنفس التفصيل الذي قدمناه من قبل فقد اتخذتهم شركاء وأنداداً من دون الله تبارك وتعالى. إن الشيطان أوحى إلى أوليائه فقال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة، من الذي قتلها؟ فمما يروى أنه أجابهم أن الله هو الذي قتلها أو أخذ روحها، فقالوا: الميتة إذاً ذبيحة الله، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام، مع أنكم تقولون: إن ما ذبحتموه بأيديكم حلال؟! فهل أنتم أحسن من الله؟ فأنزل الله عز وجل بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، يعني: الميتة، حتى وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب، {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، يعني: أن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه خروج من طاعة الله واتباع لتشريع الشيطان، ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فهذه فتوى سماوية من الله عز وجل بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله العظيم. ويقول عز وجل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100]، وقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فكل من اتبع هذه التشريعات الشيطانية التي يوحيها الشيطان إلى أوليائه يكون قد عبده من دون الله تبارك وتعالى. ويقول تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، لما سأل عدي بن حاتم: كيف اتخذوهم أرباباً؟ أجابه عليه الصلاة والسلام فقال: (إنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله)، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً من دون الله. ومن أصرح الأدلة في أن الكفار كانوا إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه، وإذا حرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم بذلك يزدادون كفراً جديداً مع كفرهم الأول، قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ} [التوبة:37]، فقد كان الجاهليون يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر، فهذا هو النسيء، فهذا من تشريعاتهم الباطلة، فلذلك قال تبارك وتعالى في حقهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، معاندة ومضادة لتشريع الله تبارك وتعالى، مع أنهم كانوا كافرين أصلاً إلا أنهم لما وقعوا في هذا الأمر الجديد زادوا كفراً على كفرهم.

وجوب الكفر بالطاغوت

وجوب الكفر بالطاغوت إن رأس الطاغوت هو الشيطان؛ لأن كل معصية تقع في الوجود إنما تكون بتحريض هذا الشيطان وباتباع أوامره وأوليائه، فالكفر بالطاغوت شرط في صحة الإيمان، كما يقول عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، العروة الوثقى هي لا إله إلا الله، وكلمة (الطاغوت) مشتقة من مادة طغى، أي: من الطغيان، وهو مجاوزة الحد {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فالطغيان فيه مجاوزة الحد؛ لأن من أطاعه في هذا الشرك وهذا الكفر قد طغى، وجاوز به حده بصفته مخلوقاً مربوباً لله إلى أن اتخذه إلهاً من دون الله، فهذا هو معنى الطاغوت. فيفهم من هذه الآية كفر من لم يكفر بالطاغوت، فينبغي أن يعتقد كل مسلم بقلبه بطلان هذه القوانين، وفي أن هذا كفر ومعاندة ومضادة لتشريع الله تبارك وتعالى. ويقول عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، ويقول عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. أيضاً أوضح الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة حال الذين يكرهون ما أنزل الله عز وجل، فقال تبارك وتعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، وهذا واضح من حال العلمانيين أعداء الشريعة في كل بلاد الدنيا، فهم يكبر عليهم ويشق عليهم ما تدعوهم إليه من تحكيم شريعة الله عز وجل. ويقول تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:71]، وقال أيضاً: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، فانظر إلى شدة بغض الكفار لما كان يدعوهم إليه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ((وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ))، {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25]، {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. ويقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72]، وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] أي: شوشوا عليه والغوا فيه، {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:6 - 8]، وقال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:25 - 26] فعلى كل مسلم أن يتدبر هذه الآيات، وأن يحذر حذراً كاملاً مما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن كثيراً من الناس في هذا الزمان بلا شك وأولهم العلمانيون أعداء دين الله وأعداء رسل الله وأعداء شريعة الله في كل البلاد داخلون في هذا الوعيد؛ لأنهم يكرهون ما أنزل الله، وهذا حالهم مع شريعة الله تبارك وتعالى، فكل من قال لمن يشرعون تشريعاً مخالفاً لدين الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في هذه الآيات، فالذين يتعبون القوانين الوضعية يبشرون والعياذ بالله بسوء الخاتمة، وأنهم إذا أتتهم الملائكة عند خروج أرواحهم يضربون، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]؛ وذلك لأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، فأحبط الله تبارك وتعالى أعمالهم.

جواز اتخاذ القوانين الإدارية التنظيمية التي لا تخالف الشريعة

جواز اتخاذ القوانين الإدارية التنظيمية التي لا تخالف الشريعة ينبغي أن نعلم أن النظام والتشريع قسمان: قسم إداري، وآخر شرعي، أما النظام الإداري فهو الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع. أولاً: نظم العمل ونظم المرور والقوانين التي لا تصطدم مع الشرع في شيء. ثانياً: أن تحقق مناط الشريعة الإسلامية، وتتلائم مع المصالح التي شرعتها. وثالثاً: أن تعين على ضبط الأمور وإتقانها، فهذا لا يعد من التشريع أو الحكم بغير ما أنزل الله، كما فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه فقد استحدث نظماً إدارية كثيرة في خلافته لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا تأملنا ما حصل في غزوة تبوك لما تخلف كعب بن مالك وصاحبيه، فلم يكن عندهم قوائم تضبط أسماء الجنود حتى يعلم من حضر ومن غاب، فما علم بتخلف كعب بن مالك إلا بعد أن وصل تبوك، لكن في عهد عمر وجد ديوان الجند، وفيه ضبط وإثبات للجنود إلى آخره. أيضاً اشترى عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً في مكة المكرمة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر رضي الله عنه. أي: أن الأمور الإدارية التي تفعل من أجل أن تتقن الأمور ولا تخالف الشريعة جائزة، فلا بأس بتنظيم شئون الموظفين، وإدارة الأعمال على وجوه لا تخالف الشريعة، وتقع تحت قواعد الشريعة التي تراعي المصالح العامة للمسلمين، أما النظام الشرعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بالله عز وجل فهو النظام المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض، فهذا تحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، هذا كفر بواح يخرج من الملة تماماً، فمن يصف حكم الله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] بأنه غير عدل وأنه لا يناسب العصر، أو أن هذا فيه هضم لحقوق المرأة، أو إلى آخر هذه الدعاوى الشيطانية، فهذا لا شك في كفر القائل به. أيضاً دعوى أن تعدد الزوجات ظلم، فهذا أيضاً كفر بالله العظيم، أو دعوى أن الطلاق ظلم للمرأة، أو أن الرجم للزاني المحصن وقطع يد السارق، هذه أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، فمن هذه هي نظرته إلى شريعة الله في نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعصورهم وأديانهم، فقد كفر بخالق السماوات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بما يصلحها سبحانه وتعالى. فهذه بعض المقدمات فيما يتعلق بقضية الحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى.

القوانين الوضعية

القوانين الوضعية قصة القوانين قصة طويلة، وتاريخ إدخالها في بلاد المسلمين لا نطيل بذكره؛ لأنه يستهلك وقتاً طويلاً.

فساد واضعي القوانين

فساد واضعي القوانين من أجمع ما كتب في هذه القضية كتاب: (الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية) للدكتور: عمر سليمان الأشقر، لكن نجتزئ منه بعض المواضع، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتاب الأصلي، فقد ذكر تحت عنوان: نظرتنا إلى القوانين الوضعية، أولاً: أن القوانين الوضعية عاجزة عن تحقيق الأهداف المرجوة منها، فالقوانين الوضعية عبارة عن ترجمة وانعكاس لآراء المقننين، فهي في الحقيقة لا تحقق الأهداف التي ترجوها للارتقاء بالمجتمعات وعلاج أمراضها وعللها، لكن الواقع أن القوانين الوضعية لا تمثل هذه المعاني الرفيعة التي يجب أن يحققها القانون، وإنما تمثل تلك القوانين آراء الحكام والمقننين، وتترجم عن أنانيتهم وشرعهم، وتسجل عليهم سوء النية وسوء التفكير، والتضحية بالمعاني الرفيعة إرضاءً للأطماع، وإشباعاً للغرور، فمن الذي وضع القوانين الوضعية؟ وضعها البشر، وما صفات هؤلاء البشر؟ القصور، الظلم، الانحراف، هذه صفة الإنسان الظلوم الجهول. إن القوانين الوضعية حينما تعالج مشكلة من المشاكل ونظراً للقصور الذي في طبيعة البشر من عدم الإحاطة بأمور كثيرة تغيب عن العلم البشري؛ فإنهم يتصرفون في خلال ما عَنَّ لهم فقط من أمور، لكن تغيب عنهم أشياء بعد ذلك حينما يطبق القوانين، فتظهر هذه الأشياء فيعدلون القوانين حسب ما يتجدد من علمهم، فيغيب عن هذه الحقائق كثير من الأشياء، أما شريعة الإسلام شريعة الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالذي خلق الإنسان أنزل هذا الشرع من أجل إصلاح حاله، فهو أعلم بما يصلح الناس، فلا يمكن أبداً أن تند أو تغيب أو تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. أيضاً القوانين الوضعية تهدر تماماً حق الله، وهذا من أخبث الأشياء في القوانين الوضعية، فهي لا تعرف شيئاً اسمه حق الله تبارك وتعالى، بل هناك حق المجتمع، حق الأطراف البشرية، لكن حق الله غير مراعى عندهم؛ ولذلك يسقطون في المجتمعات العلمانية قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! أنت حر تفعل ما شئت ما دام أن المعاصي تتم بالتراضي، وعقود الربا تتم بالتراضي، إلى غير ذلك مما يخالف شريعة الله، فهم لا يضعون في اعتبارهم حق الله، وأن هذا حرام لحق الله، وأنك تغار على حرمات الله حينما ترى المعصية، وبالتالي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأن هذا حق الله، أما القوانين الوضعية فتهدر تماماً حق الله تبارك وتعالى وتلغيه، انظر إلى الأخلاق وإلى العقيدة ولا تنظر للإنسان نظرة شاملة.

فساد المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية

فساد المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية إن الإنسان إذا نظر إلى أرقى المجتمعات التي يسمونها متحضرة وبالذات العالم الغربي تجد أن نسبة الإجرام فيها متزايدة ومرتفعة، مع أنهم وضعوا هذه القوانين التي يتشدقون بها من أجل الأمان والرفاهية والرخاء والتقدم، إلى آخر هذه الدعاوى، ثم إذا نظرت إلى واقع هذه المجتمعات تجدها عبارة عن غابات يعيش فيها مجموعة من الوحوش، لا يصح نسبتهم إلى البشر، يعيشون في حالة من الهمجية والتردي والضياع لا يستطيع أن يتخيلها إنسان، ولو قدر أن يكشف النقاب عن التزوير الذي يحصل في نقل صورة المجتمع الغربي لفوجئ الناس بالذات هنا في البلاد الإسلامية أننا في حالة رقي أخلاقي واجتماعي وعقائدي، وبيننا وبينهم مفاوز وفلوات تنقطع دونها أكباد الإبل، لا تحلم أمريكا ولا الغرب بعشر معشار ما عليه المجتمعات الإسلامية الآن؛ ببركة بقايا الإسلام الموجودة، فما ظنك إذا كان كل الإسلام مطبقاً في مجتمعاتنا؟ هم لا يحلمون بما نعيش فيه، نحن الآن هنا في هذه البلاد لا نشعر بالنعم؛ لأننا لم نفقدها، لكن اسألوا من يذهب إلى تلك البلاد، ويرى الضياع الذي إذا تكلم الإنسان فيه يستغرق ساعات وساعات، فأعلى نسب الإجرام موجودة في هذه المجتمعات التي وضعت هذه القوانين، والتي تزين لنا هذه القوانين، لكن إذا ذهبت إلى المدينة المنورة أو إلى مكة المكرمة تجد منظراً نتحدى به العالم أجمع، هذا المنظر هو منظر الرجل الصراف الذي يجلس في السوق أمام الحرم المكي أو المدني، رجل بسيط يجلس على الرصيف وأمامه أكوام من الأموال والدولارات والريالات والجنيهات، عملة جميع بلاد العالم موجودة أمامه بالأكوام، والناس يغدون ويروحون بالآلاف من أمامه، والرجل في حال من الأمان بثمرة وبركة الإسلام وتربية الإسلام لهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، اسألوا أي إنسان يعيش في مدينة نيويورك، وتخيلوا لو أن مثل هذا الرجل في أفخم حي في العالم وهو منهاتن في نيويورك صاحبة ناطحات السحاب، فإن الأمر لا يحتاج سوى وقت يسير حتى يقتل هذا الرجل وينهب هذا المال نهباً، فهذا مما نفاخر به الدنيا، هذا منظر يسير جداً يعكس مدى الأمن رغم انحراف المسلمين عن حقيقة الإسلام إلى حد بعيد، فلا يستطيع إنسان أن يمشي بحقيبة فيها نقود، لابد أن تضع يدك في جيبك حينما ترى رجلاً مقبلاً في الطريق حتى توهمه أن معك مسدساً، حتى لا يحاول أن يقتلك أو يأخذ منك شيئاً، وعلى ما نحن عليه من البعد عن الإسلام ومع بقايا الإسلام التي بقيت في مجتمعاتنا تجد الأمان، فكيف بنا إذا طبقنا الإسلام بكامله في مجتمعاتنا فأكثر بلاد الدنيا أمناً هي أقربها إلى بقايا الشريعة الإسلامية، وأكثر البلاد إجراماً هي هذه البلاد التي تدعي الحضارة والتقدم، وتزين قوانينها الكفرية، وتحارب شريعة الله تبارك وتعالى، ويقولون: حقوق الإنسان.

قوانين حقوق الإنسان الوضعية وانحرافها

قوانين حقوق الإنسان الوضعية وانحرافها لو تكلمنا أيضاً فيما يسمى بحقوق الإنسان، وموقف الإسلام من وثيقة حقوق الإنسان لطال الكلام جداً، فهم يرتكبون في حق البشرية أعظم جريمة حينما يصدون عن دين الله، لأن من أعظم حقوق الإنسان الذي لا يختلف عليه اثنان ألا يحال بينه وبين سعادة الدنيا والآخرة، ألا يحال بينه وبين الإسلام، ألا يشوه الإسلام في نظر الناس، فيصدونهم عن دين الله تبارك وتعالى، من الذي أمر بهذه الشريعة؟ هو الله عز وجل، فلا يمكن بحال من الأحوال أن نقارن بين شريعة الله وشريعة هؤلاء المتوحشين.

استغلال الأمة ومواردها عن طريق القوانين الوضعية

استغلال الأمة ومواردها عن طريق القوانين الوضعية إن القوانين الوضعية إنما اتخذت وسيلة لتمكين أعداء الله تبارك وتعالى في ديار المسلمين، فأتي بهذه القوانين حتى تحطم عناصر القوة في هذه الأمة، ولا يغيب عنا ما وقع من اإانجليز من إفساد في المجتمع المصري؛ من أجل التمكين لمصالح أعداء الله الإنجليز، فقد بين ذلك الشيخ عبد القادر عودة في كتابه: (الإسلام وأوضاعنا الكونية)، وأطال في الكلام، وذكر أمثلة كثيرة جداً من الاستغلال الذي كانت إنجلترا تستغل فيه مصر، وتخرب مصر باسم القوانين الوضعية، وأيضاً يذكر شيئاً منها عبد القادر عودة رحمه الله فيقول: إن القوانين المصرية قامت على أساس خدمة الاستعمار، ومحاباة الأجانب، وتمكين الجميع من امتصاص دماء الشعب المصري، وصرف المصريين عن طريق الخير، وإبقائهم إلى أطول وقت ممكن فريسة الجهل والضعف، فالقوانين الجمركية والمالية التي تحمل اسم مصر تؤخذ من جيوب المصريين الفقراء لتضخيم جيوب الإنجليز الأثرياء، ولا يخطئ الإنسان كثيراً إذا قال: إن الهدف الأول من هذه القوانين: هو حماية التجارة الإنجليزية، وقد أتى علينا زمن كانت السلع الرخيصة تمنع فيه من دخول البلاد المصرية إذا كانت تزاحم برخصها سلعة إنجليزية. أيضاً القوانين الوضعية تلزمنا أن ننشئ طرقاً ونعدها للإنجليز، وأن ننشئ السكك الحديدية وننفق عليها لصالح الإنجليز، وننشئ الموانئ ونوسعها لتأوي إليها مراكب الإنجليز، وأن نمد خطوطاً تلفونية وتلغرافية لخدمة الإنجليز، وبالرغم من ذلك تدخل إلى مصر حاجات الجيوش الإنجليزية، إلى آخره. القوانين المصرية تسمح للأجانب المثقفين الأغنياء أن يعاملوا بالربا المصريين الجهلاء الفقراء، وغير ذلك أمثلة كثيرة، إباحة الزنا، إباحة بيع الخمر، إلى غير ذلك من الأشياء. أيضاً من النماذج التي وقع فيها الضرر الكبير على يد هؤلاء محكمة (دنشواي) وما وقع فيها من الظلم الفاحش، والظلم البين الذي وقع بالمسلمين في هذه البلدة، ولعلكم إذا رجعتم أيضاً إلى الوراء، وتذكرتم قصة سليمان الحلبي الذي قتل كليبر الفرنسي، وما فرنسا؟ حاملة لواء الحرية، وصاحبة قانون نابليون الذي يفتخرون به، ماذا حصل مع سليمان الحلبي؟ قالوا: حاول الفرنسيون معه بالطريقة الأوروبية الراقية في التحقيق، فلم يفد معه ذلك شيئاً، يقول: فسلكنا معه سلوك أبناء البلد، يعنون بذلك التعذيب، فعذبوه عذاباً شديداً، وانتزعت منه الاعترافات، وحصل أن قطعوا يديه وشووهما أمامه، ثم بعد ذلك قتلوه أشنع قتلة، هذا من النماذج، والنماذج يطول الكلام فيها.

استحالة الالتقاء بين القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية

استحالة الالتقاء بين القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية بعض الناس يظنون أنه يمكن أن يحصل لقاء بين التشريع الإسلامي وبين القانون الوضعي، ولا يمكن أن تصدر هذه الدعوى من شخص يؤمن بالله، ويؤمن بهذه الشريعة ويعلم خصائصها، فالشريعة غنية عن أن تحتاج إلى القوانين الوضعية كما يزين شياطين القانون الوضعي، ويقولون: ممكن أن يحصل لقاء بين الشريعة الإسلامية وبين هذه القوانين الوضعية، ويقولون بعبارة أخرى رددها إخوانهم المنافقون من قبل: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62]، أي: التوفيق بين الشريعة الإسلامية والشرائع الطاغوتية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:60 - 63]، ولعل من يتابع التحول الجذري الذي يحصل الآن في اليمن بعد اتحاد اليمن الشيوعية مع اليمن الشمالية، وما يحصل من تزوير وتزييف وضغط على العلماء والمسلمين في اليمن من أجل هذا الدستور العلماني الجديد، تجد حيلاً وأساليب المنافقين تعود من جديد من أجل فرض هذه القوانين الكفرية على بلاد المسلمين.

الكفر الاعتقادي في الحكم بغير ما أنزل الله

الكفر الاعتقادي في الحكم بغير ما أنزل الله فصل الشيخ محمد بن إبراهيم متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل كفراً مخرجاً من الملة، فذكر أن الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين: كفر اعتقادي، وكفر عملي، ثم فصل القول في الكفر الاعتقادي، وذكر أنه ستة أنواع:

جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي

جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير: أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة، وهذا كفر الجحود.

اعتقاد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله

اعتقاد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله، فهو يعتقد ويؤمن بأن هذا الحكم من عند الله، لكن يعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً وإما بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث، فحكم غير الشرع أفضل من حكم الشرع وأحسن؛ نتيجة تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضاً لا ريب في كفره؛ لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، يعني: تغير الأحكام بتغير الأزمان، هذه القاعدة ليست على إطلاقها، هذه الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام التي تكون أسست على العرف، والعرف متغير ومتبدل، فما كان من الأحكام راجع إلى العرف فإنه يتغير بتغير الأزمان والبيئات، أما الأحكام الشرعية المؤسسة على الأدلة، فهذه لا يمكن تغييرها بحال من الأحوال.

اعتقاد أن حكم غير الله يساوي حكم الله

اعتقاد أن حكم غير الله يساوي حكم الله ألا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين الذي قبله في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة؛ لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].

اعتقاد جواز الحكم بغير حكم الله

اعتقاد جواز الحكم بغير حكم الله ألا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أن يعتقد أنه أحسن منه، لكنه اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو غير جاحد والفرق بين هذا النوع والنوع الثاني: أن هذا يقول: أنا أقر بحكم الله، لكن حكم غير الله أحسن من حكم الله، ولا هو من النوع الثالث الذي يقول: أقر بحكم الله، ولا أقول: إن حكم غير الله أحسن من حكم الله، لكن أقول: هو مثله. أما هذا النوع فليس من هذا ولا ذاك، لكنه يعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجيز الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، فهذا كالذي قبله يصدق عليه باعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن ظن أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهذا كافر يجب قتله بعد استتابته، وهذا للأسف الشديد موجود عند بعض الصوفية، إذ حينما تناقشه بالأدلة وتبين له، يقول: أنتم لكم طريقة ونحن لنا طريقة، أنتم تأخذون من العلم والأدلة، ونحن نأخذ مباشرة عن الحي الذي لا يموت، وربما ادعى بعضهم أنه يطلع على اللوح المحفوظ، وفي الحقيقة ليست لهم طريقة غير طريقة المسلمين وإنما هي: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]؛ لأن من جوز أن هناك طريقاً إلى الله بعد بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطريقاً إلى حكم الله غير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا حظَّ له في دين الإسلام، فمن جوز أن يأتي بتشريع جديد بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مخالف لشريعته يجوز التعبد به، فهذا لا حظَّ له في دين الإسلام، ومن جوز ذلك مدعياً أنه في حاله هذه مثل الخضر مع موسى، فهذا أيضاً لا يقبل منه؛ لأن شريعة موسى لم تكن شريعة عامة، ولم تكن للناس كافة، والخضر بعث في نفس الوقت في طائفة آخرين على القول الأرجح أنه كان نبياً، قال صلى الله عليه وسلم: (كان النبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت للناس كافة)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ففي هذه الحالة كان يسع الخضر الخروج على شريعة موسى؛ لأن هذا له شريعة، وهذا له شريعة، والدين واحد: لا إله إلا الله، أما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل الطرق إلى الجنة مسدودة إلا الطريق الذي على رأسه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز لمسلم أن يرتاب في هذه الحقيقة قيد شعرة، ولا يجوز أن تتزلزل أو تتزحزح هذه العقيدة أو تهتز بأدنى شيء من الشك أو الريب، فكما أنك تقول: لا إله إلا الله، وتعتقد بطلان أي شرع غير شرع الله تبارك وتعالى، فموسى لم تكن دعوته عامة، ولم يكن يجب على الخضر اتباع موسى، بل قال الخضر لموسى: (إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من عند الله علمكه الله لا أعلمه)، فمصدر العلم هو الله، والشرائع كانت تتعدد في ذلك الزمان. يقول صاحب الطحاوية: إن اعتقد الحاكم أن الحكم بغير ما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر.

مضاهاة المحاكم الوضعية بالمحاكم الشرعية

مضاهاة المحاكم الوضعية بالمحاكم الشرعية أما النوع الخامس وهو أعظمها وأصرحها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم: ومضاهاة المحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني, وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله بعد هذه المناقضة. ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء، وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطؤهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو استنباطاً؟!! فتدعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد الرءوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات، فيجب على العقلاء أن يربئوا بنفوسهم عنه؛ لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض والأغلاط والأخطاء فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ومن تتبع قصة تطبيق القوانين الوضعية في بلادنا الإسلامية وجد المآسي والفضائح والخيانات المخزية، ففي الحقيقة لم يحصل دخول القوانين الوضعية نتيجة أن الأمة الإسلامية حريصة على ما يسمونه بالتقدم والرقي، وأخذ هذه القوانين العصرية، لا، بل حصل ذلك بالقهر والخيانة، كشأن كثير من القضايا التي تسربت إلى بلاد المسلمين؛ بسبب هذه الخيانة وهذا القهر والاستعباد الاستعماري الجديد.

الحكم بالسلوم والأعراف القبلية دون حكم الله

الحكم بالسلوم والأعراف القبلية دون حكم الله ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعادتهم التي يسمونها (سلومهم) يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به، ويحرصون على التحاكم إليه عند التنازع إبقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله فلا حول ولا قوة إلا بالله. فهنا صنفان من الناس كفروا في هذه القضية بلا شك: الصنف الأول: الذين شرعوا غير ما أنزل الله، ووضعوا القوانين المخالفة لشرع الله، حيث يلزمون به العباد، والإجماع على كفرهم لا شك فيه، وهؤلاء هم الشركاء الذين عناهم رب العزة بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فمن شرع وأحل أو حرم خلاف شرع الله؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، وهذا هو الدليل، وكذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. ولقد عظم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جريمة هؤلاء وهول أمرها، فبعد أن بين حكم الحاكم الذي يحكم بغير علم، والحاكم الذي يحكم بغير الحق وهو يعلم، وأنه من أهل النار، تحدث عن الفريق الذي يشرع غير ما أنزل الله، ويبدل دين الله، فقال: وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى عنه الله ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين مالك يوم الدين، الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. ويقول شيخ الإسلام: والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

كلام الشيخ أحمد شاكر في القوانين الوضعية

كلام الشيخ أحمد شاكر في القوانين الوضعية الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى باعتباره كان أحد القضاة الشرعيين، ومحدث الديار المصرية كما هو معلوم، يقول رحمه الله عز وجل في ذلك: هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافرو العداوة هي في حقيقتها دين آخر، جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي؛ لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها، وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً كلمات تقديس القانون، قدسية القانون، حرمة المحكمة، ويقولون: وحصل منه ذلك في حرم المحكمة ولا حرم في الدنيا إلا مكة والمدينة، حتى بيت المقدس لا يسمى حرماً، فالآن أهينت الكلمة ويقولون: الحرم الجامعي، بل يقولون: ممنوع إلقاء الزبالة في حرم سكة الحديد، كل شيء أصبح له حرم حتى هذه المحاكم، يقول: حرمة المحكمة، وحرم المحكمة، حتى المحامي تجده يصف القاضي بعبارات التفخيم والثناء والمديح، مثل: عدالتكم، وكيف يكون عادلاً وهو يحكم بغير ما أنزل الله؟! من أين يأتيه العدل إذا كان في أحكامه يرفع راية غير راية الإسلام، وشريعة غير شريعة الإسلام؟ فهذه القوانين ليس لها مكان غير تحت موضع القدم، حيث تداس الأقذار والنجاسات، والدليل: قول النبي عليه الصلاة والسلام في أكبر محفل شهده مع الصحابة في حجة الوداع: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي) هذه صيغة عموم، ربا الجاهلية، تبرج الجاهلية، حمية الجاهلية، ظلم الجاهلية، حكم الجاهلية، فهذا مكانها تحت الأقدام لا فوق الرءوس، فكيف نصف من يتحاكم إليه بعدالتكم وفخامتكم إلى آخره؟! يقول: وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية، وآراء الفقهاء الإسلاميين، بل هم حينئذ يصفونها بكلمات الرجعية، والجمود والكهنوت وشريعة الغاب، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين. ثم بين كيف تدرج الأمر بالمسلمين فصاروا يطلقون على هذه القوانين ودراستها كلمة: الفقه والفقيه، والتشريع والمشرع، حتى القوانين أصبح فيها فقيه في القانون ومشرع، ويكون المشرع الحكيم قصد من هذه العبارة الطاغوت الذي يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، المحامي في نفاقه ودجله يمتدح المشرع ويقول: المشرع الحكيم. ثم بين الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أن المسلمين انحدروا درجة، وتجرءوا على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترى الجديد، ثم بين كيف وصل الحال بهم إلى الدرك الأسفل، فنفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدنين، فلا تصلح لهذا العصر الإفرنجي الوثني خصوصاً في الحدود المنصوصة في الكتاب والعقوبات الثابتة في السنة. إلى أن قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات أرضعوهم لبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة واسعة المعرفة في هذا اللون من الدين الجديد الذي نسخوا به شريعتهم، ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوروبا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر ما لم يبتل به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور، وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئاً من أحكام الشريعة وما خالفها. يقول أيضاً: والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعطيل لكل ما في شريعة الله.

كلام العلماء في قضية تحكيم القوانين الوضعية والأعراف الجاهلية

كلام العلماء في قضية تحكيم القوانين الوضعية والأعراف الجاهلية تكلم العلماء في قضية تحكيم القوانين الوضعية؛ فنجتزئ من كلامهم بعض النصوص. يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية: ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهذا كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى؛ كسوالف البادية، وكانوا الأمراء المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر؛ فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار. وقال: ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين ولا الكفار ولا الفتيان ولا رماة البندق ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ويقول ابن القيم رحمه الله كلاماً قريباً من كلام شيخ الإسلام فلا نطيل به. ومعروف كلام ابن كثير رحمه الله في نفس هذه القضية، نذكر بعضه. يقول بعد أن ذكر رحمه الله نتفاً من الياسق التي يحكم بها التتار، قال: وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟! من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين. ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائناً من كان في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، فكل امرئ حسيب نفسه. وقال رحمه الله تعالى: سيقول عني عبيد هذا الياسق العصري وناصروه: إني جاهل، وإني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاءوا، فما عبئت يوماً بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول. ويقول أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: أفيجوز لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟ أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده، والعمل به؛ عالماً كان الأب أو جاهلاً؟ أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري وأن يعمل به، ويعرض عن شريعته ألبتة؟ ما أظن مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة، قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة. وذكر مقالات لكثير من العلماء كلها تدور حول هذه المعاني في هذه القضية، فمن شاء فليرجع إلى الكتاب ففيه تفصيل أكثر بكثير عن تاريخ القوانين الوضعية إلى بلاد المسلمين، وبيان أن هذا ما تم إلا بالخيانة أيضاً، وما تم إلا بالإكراه كما حصل في كثير من القضايا الأخرى على يد من أرادوا أن يسلخوا المسلمين من دينهم وعقيدتهم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المدين إن لم يجد الدائن

حكم المدين إن لم يجد الدائن Q يقول شخص: عندي نقود لبعض الناس من أيام الجيش كسلف ولم أعرف منازلهم، فهل أخرج حقهم كصدقة أم ماذا؟ A عليه أن يتحرى ويجتهد، ويبذل أقصى وسعه في سبيل الوصول إلى أصحاب هذا المال، فإن عجز عن الوصول إليهم فيمكن أن يخرجه صدقة بنية أن يكون ثواب هذه الصدقة إلى هؤلاء، فإذا ما وقع على أحدهم في يوم من الأيام، ولم يجز ما فعله بالمال فعليه أن يضمنه له. والله أعلم.

حكم معاملة المرتد وصلته وولايته

حكم معاملة المرتد وصلته وولايته Q هل يجوز مؤاكلة والد ودعوته إلى طعام وقد صرح بالكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا يجب على زوجته المسلمة؟ وهل ابنته يجوز أن تتزوج بولايته؟ A إذا كان يصرح بأنه كافر ولا يؤمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فما من شك أن هذا أخ لـ أبي جهل وأبي لهب، ولا حظَّ له في الإسلام، فتنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، وإذا مات لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يدفن مع إخوانه من اليهود أو النصارى أو المشركين، ومن مظاهر انقطاع الولاية أيضاً أنه لا يرث قريبه المسلم ولا يورث أيضاً، والأمة تتبرأ منهم في كل صور البراءة، ومن مظاهر انقطاع هذه الولاية: أنه لا يجوز له أن يلي زواج ابنته، ولكن يليها أقرب الأقربين من العصبة في أمر الزواج، إذا كانت المرأة معها ابناً مثلاً يمكن أن يزوجها، أو أخوها أو عمها وهكذا حسب ترتيب العصبة المذكورين في الميراث. أما المعاملة فإن كان أبوها يؤذيها بسب الله مثلاً أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام فيقاطع ويهجر، وإلا فإنه يجوز إن كان هذا الكافر كفراً أصلياً أن يوصل، كما هو معروف حديث أسماء رضي الله عنها حينما أتت أمها تصلها، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول الله! إن أمي مشركة وإنها قد أتتني، فهل أصلها؟ فنزل قوله تبارك وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]).

نصيحة لمرتكب الكبائر

نصيحة لمرتكب الكبائر Q بم ينصح من يرتكب أكبر الكبائر؟ A ينصح بالتوبة من هذه المعاصي، والمبادرة إلى التوبة قبل أن يأتيه الأجل، ثم إن الله تبارك وتعالى له بالمرصاد، فكل من انتهك حرمات الله تبارك وتعالى، وتعدى على أعراض الآخرين، فيحذر أن ينتقم الله منه بأن يقع ذلك في عرضه هو أيضاً. وننصح مثل هذا أن يقرأ كتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، فإنه قد وجه سؤال لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى عن رجل وقع في معصية، وأبهم السائل المعصية، واستحكمت عنده بحيث أنه لا يكاد يستطيع أن يفارقها، فكتب هذا الكتاب وسرد فيه عامة أنواع المعاصي المنتشرة، وأجاد وأبدع في التحذير من المعاصي وبيان آثارها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، فننصح جميع الإخوة معاودة قراءة الكتاب بين وقت وآخر؛ لأنه مفيد وعظيم البركة.

حكم حلق اللحية لتكبير حجمها

حكم حلق اللحية لتكبير حجمها Q هل يجوز حلق اللحية من أجل تكبيرها؟ A يقصد أن الحلق يهيج اللحية ويسرع بنموها، لا يجوز، ونص العلماء على أن ذلك لا يجوز، فالغاية لا تسوغ الوسيلة.

حكم الإسلام في الآثار والتماثيل

حكم الإسلام في الآثار والتماثيل Q ما حكم الإسلام في الأهرامات، والآثار المصرية القديمة؟ A أما ما كان على هيئة التمثال لكائن حي، فقطعاً يجب قطع رأسه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة)، أما الأهرامات وآثار الفراعنة فالذي أعتقده في قلبي وأدين الله تبارك وتعالى به أن هذه الأشياء أكرم للشعب المصري أن يزيلها من الوجود تماماً وينسفها نسفاً، ويدمرها تدميراً؛ لأن هذه رمز الهوان والذل الذي يوصم به المصريون الدين كانوا يعبدون ملوكهم، فهي في الحقيقة رمز الذل والهوان وليست مجلبة للفخر والاعتزاز، هذه حجارة أناس وثنيين، وكل ما تركوه لنا هو هذه الأحجار، ما هي حضارة القدماء المصريين؟ هي قليل من الحجارة ووثنية وشرك، وعبادة الشمس، وعبادة الملوك فهذا أمر نبرأ إلى الله عز وجل منه فضلاً عن أن يفتخر به الناس، ويربى المسلمون على الاعتزاز بهذا التراث الحجاري لا الحضاري، والوثنية والشرك، فلا يصح إسلام مسلم حتى يتبرأ من هؤلاء الوثنيين المشركين.

حكم صلة الأرحام من أهل البدع ومجالستهم

حكم صلة الأرحام من أهل البدع ومجالستهم Q هناك إخوة أشقاء ظهر أنهم من بعض جماعات التكفير، فما حكم صلتهم وكيف تكون؟ A أول ما يجب أن ينصح هؤلاء به أن تقام عليهم الحجة على يد من يستطيع أن يقيم الحجة، ويدفع عنهم الشبهة، حتى لا يبقى لحججهم مدفع، فإن أصروا على هذه البدعة فينبغي أن يجتنب الإنسان مجالستهم، والمناظرة والمناقشة معهم، فإن كانوا ذوي علم ونشطين إلى هذه البدعة، فالأولى أن يجتنبهم الإنسان حتى لا يؤثروا في قلبه وهو لا يشعر، والله أعلم.

حكم العمل في المصالح الضريبية والجمارك ونوادي الضباط

حكم العمل في المصالح الضريبية والجمارك ونوادي الضباط Q ما حكم العمل في المصالح الضريبية ومصالح الجمارك، وما حكم العمل في نوادي الضباط إذا كان العمل في الحسابات أو في الورش كتصليح العربات؟ A أما نوادي الضباط فليس فيها مشكلة والله أعلم، أما المصالح الضريبية ومصالح الجمارك فظلم ومكوس، لا يجوز، يقول عز وجل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

حكم التبرع بالأعضاء بعد الموت

حكم التبرع بالأعضاء بعد الموت Q توجد جمعيات في كثير من الأماكن تدعوا أعضاءها لكتابة تنازل عن أعضائه عند وفاته، فما حكم التبرع بالأعضاء مقابل المال؟ A لقد أعطاك الله هذا الجسد وليست هذه عطية تمليك، فأنت لا تملك بدنك هذه عارية، فالله عز وجل أعطاك النعمة والصحة والعافية والأعضاء للمنفعة، ولست أنت تملكها، والدليل أنه لا يجوز لك أن تنتحر مثلاً، ولا يجوز للإنسان أن يعتدي على هذا البناء الذي بناه الله عز وجل، وهو هذا البدن والصحة والعافية ليست ملكاً لك، هذه عارية ملك لله، أما دورك أنت فلك الانتفاع بها فقط، أما أن تبيع كلية، وتبيع العين، وتبيع أعضاءك، فليس الإنسان هو عبارة عن قطع غيار بشرية حتى يمتهن بهذه الصورة، وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة، لكن الذي أعلمه والله أعلم أنه لا يجوز التصرف في الأعضاء؛ لأن الله عز وجل منحك إياها على سبيل الانتفاع بها، وأنت لست تملكها في الحقيقة حتى تبيعها أو تتبرع بها، وفي كتاب للدكتور عبد السلام السكري حفظه الله (حكم نقل الأعضاء البشرية) وهو كتاب جيد في بابه انتهى فيه إلى عدم جواز بيع الأعضاء البشرية، وكذلك كتاب للشيخ الغماري على صوفيته رحمه الله، لكنه أجاد أيضاً في هذا الكتاب، وانتهى فيه إلى المنع، وهناك فتوى من المجمع الفقهي من السعودية يبيح الانتفاع بالأعضاء بشروط.

حكم ختان المرأة

حكم ختان المرأة Q نشر في بعض الجرائد أن ختان المرأة ليس عليه دليل شرعي ويجب منعه؛ لأنه إهانة للمرأة ومذلة لها، وفي كتاب (فقه السنة) يقول: إن أحاديث الختان للمرأة كلها ضعيفة؟ A سبق أن تكلمنا في دروس الفقه في هذه القضية، وبينا صحة بعض الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قد وجه أم عطية الأنصارية التي كانت حافظة بعض التوجيهات التي بها تتقى مضاعفات هذه المسألة، وقلنا: إن حكم ختان المرأة ليس في نفس قوة حكم ختان الرجل، إذ يجب ختان الرجل، بل من العلماء من شدد في ذلك حتى قال: إنه لا تصح صلاة الرجل إلا به، ولا تؤكل ذبيحته… إلى آخره، الذي يبلغ وهو غير مختون، أما بالنسبة للمرأة فالأقرب والله أعلم أنها مكرمة، فهي مستحبة، لكن بشروط: إذا ولي هذه العملية من يتقن الطب والجراحة مثلاً، بحيث أنه لا يتجاوز الحدود التي بينها النبي عليه الصلاة والسلام في قوله لـ أم عطية: (اخفضي ولا تنهكي) أو (أشمي ولا تنهكي)، إذا تأملنا هذه الضوابط وهذه القيود، ونعلم وجود الضمانات الكافية حتى لا يقع ما يقع من الظلم أو العدوان من بعض الخافضات الجاهلات، فالمشكلة أن الناس يعهدون بهذا الأمر إلى الجاهلات من النساء أو غيرهم دون أهل الاختصاص، حتى كتب العلوم الطبية تفصح بأن هناك بعض الحالات ينصحون فيها بإجراء الختان لبعض النساء، وأيضاً هناك حالات لا تختن فيها المرأة، فعلى أي الأحوال القضية فيها كلام طويل، والدكتور عبد السلام السكري أيضاً له بحث قيم في هذه المسألة اسمه: (ختان الذكور وخفاض الإناث) فيمكن أن يراجع، فكل ما يشوش به هؤلاء الذين يقومون بالحملات تلو الحملات من وقت إلى آخر حول قضية الختان، إنما هم يركزون على الأخطاء التي تقع من الجاهلين، والتي حرص الشرع على تجنبها، فبالتالي تستوي عملية ختان الإناث مع أي عملية جراحية حتى مع ختان الذكور، والتي إن وكلت بمن هو جاهل بقوانين الجراحة أو التعقيم، فيمكن أن يحصل في أي عملية النزيف نتيجة هذا التقصير، أو يحصل تلوث، أو يحصل كذا أو كذا، فهذه مضاعفات تقع على يد أي إنسان غير خبير، لكن إذا وكل الأمر إلى أهل الخبرة والإتقان، فهم الذين يستطيعون تقدير هذه الأمور، والله تعالى علم.

أصل كلمة القانون في اللغة ومعناها وحكم تقنين الشريعة

أصل كلمة القانون في اللغة ومعناها وحكم تقنين الشريعة Q هل كلمة: (قوانين)، موافقة للشريعة وكلمة صحيحة؟ وهل يجوز تقنين الشريعة؟ A هذا يرجع إلى الكلام اللغوي في معنى كلمة القانون، وأصل كلمة القانون، ولا مشاحة في الاصطلاح، المهم المضمون، فالمضمون يجب أن يوافق حكم الله، وشريعة الله دون غيرها من القوانين الطاغوتية، أما تقنين الشريعة فتأكد لنا أن هذه عبارة من ألاعيب وحيل من يصدون الناس عن دين الله، وهي عبارة عن مسوغات أو مبررات للتكاسل والإهمال في قضية تطبيق الشريعة، وتعودنا على هذا كحجة فقط. تقنين الشريعة عبارة عن وضع الأحكام الشرعية في صورة قوانين مثل المتون، حتى يلجأ إليها القضاة، لكن الأقرب أن يوكل ذلك إلى القاضي الذي وصل إلى مرحلة الاجتهاد وسعة العلم، بحيث يرجع هو إلى الأدلة والتمحيص، لكن على الأقل إذا حكمونا بقوانين شرعية مقننة موضوعة في مواد، فهذا أهون من الحكم بالقوانين الطاغوتية الكافرة.

تصيحة لمن تعلق قلبه بامرأتين

تصيحة لمن تعلق قلبه بامرأتين Q شخص له زوجة يتقي الله فيها حق تقاته، ويزكي هذه الأخت، لكنه كان من قبل خاطباً امرأة أخرى، فهو ما زال متعلقاً بها، فيسأل هل أطلق زوجتي وأعود إلى خطبة تلك المرأة مرة أخرى؟ A سبحان الله! هل هذا هو العلاج الوحيد، ليس العلاج الوحيد بهذه الصورة، مادامت الأخت نعمة من الله عز وجل عليك ومستقيمة فاصبر معها في الله، حتى يزيدك الله فتتزوج الاثنتين، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لم ير للمتحابين مثل النكاح)، فأفضل علاج لتعلق القلب هو النكاح، ولا يخشى أي ضرر في ذلك، فإن الله تبارك وتعالى وعد الإنسان إذا كان فقيراً أنه سيغنيه، بل تكفل وضمن الله عز وجل كما جاء في الحديث: (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف) أي: حق على الله أن يعين الناكح الذي يقصد بذلك العفاف عما حرم الله تبارك وتعالى. ويقول بعض السلف: التمسوا الغنى في النكاح. فعلاج الفقر أن يتزوج، ليس كما يصور بعض الناس أنه يخاف من الفقر، يقول تبارك وتعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].

حكم الصلاة خلف إمام مبتدع

حكم الصلاة خلف إمام مبتدع Q ذهبت لزيارة إخوة في الله في قرية مجاورة لي، وعندما كان وقت صلاة المغرب قلت لهم: هيا بنا نصلي في المسجد فامتنعوا، وعندما سألتهم عن السبب أجابوا بأن إمام المسجد مبتدع وصوفي ولا تجوز الصلاة وراءه، وأقاموا الصلاة في منزل أحدهم، وذهبت وصليت في المسجد، فما حكم الدين في ذلك؟ A قضية الصلاة خلف الفاسق أو المبتدع بدعة لا تكفره، ولا تخرجه من الملة، فيها تفصيل وذكرناها مراراً، وقاعدتها: أنك إذا كنت قادراً على تغيير الإمام المبتدع أو المتلبس بالمعصية، فواجب عليك أن تغيره وتزيله وتعين العدل مكانه، وإن كنت عاجزاً عن ذلك فإما أن تصلي في مسجد آخر إمامه رجل عدل منتظم بالشرع، وإن لم يوجد مسجد آخر ولا تقدر على تغييره إلا بإحداث فتنة في أهل المسجد، ففي هذه الحالة تصلي وراءه، فإذا صليت في بيتك فأنت المبتدع، والإمام أحمد كان يخرج ويصلي خلف الجهمية الذين كانوا يقولون بخلق القرآن، ثم يعيد في بيته، وأنا ما أقول: تعيد، ولكن الآن ليس هناك قوة اجتماعية تقهره، فأصبح من يتخلف عن صلاة الجماعة للأسف يتخلف، لكن المقصود أن المساجد كثيرة، فتحرى أعدل الأئمة وتصلي خلفه. أما كلمة مبتدع وصوفي كجرح مجمل هكذا، لا بد أن يفصل الجرح، وإلا فبعض الناس كثيراً ما يطبقون كلام العلماء بطريقة غير صحيحة، فالصوفي صحيح اصطلاح مذموم، لكن لا بد أن تتبين ما المقصود من كلمة صوفي؟ كثير من الناس يريدون بكلمة صوفية الجانب الروحي أو الجانب العاطفي، والاتجاه الذي يهتم بالتربية لتزكية النفس بذكر الله، بأداء حقوق الخلق، باحترام المشايخ بكذا بكذا، فهذه المعاني هي معاني إسلامية، وهي من الحق، لكن بعض الناس يتجاوزن ويطلقون عليها وصف الصوفية، وبعض الناس يفهمون الصوفية بمفاهيم أخرى فيها كثير جداً من البدعة والضلالات، قد تصل في أقصاها إلى الكفر كوحدة الوجود والحلول وعبادة القبور، هذا كله يدخل تحت كلمة صوفية أيضاً، فالصحيح أننا ينبغي أن نحتجز ونمتنع عن استعمال هذه العبارات الموهمة، أخذاً من قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104]، أمرهم باستعمال ألفاظ التي لا اشتباه فيها، لكن مع ذلك إذا كان هناك شخص يوصف بأنه صوفي، فما ينبغي الحكم عليه مثلاً بحكم الصوفي الكافر الخارج من الملة؛ بسبب عقيدته الصوفية، لكن الصوفي لا بد أن نسأله: ماذا تقصد بالصوفي؟ ما الذي يميز كون هذا صوفياً؟ هل لأنه يذكر الله كثيراً؟ إذاً: نحن كلنا صوفيون، لا بد أن تبحث عن معنى كلمة الصوفية، وماذا يقصد بصوفيته؟ فالجرح المجمل لا ينفع، كذلك ممكن تكون بدعة واحدة في الإمام تقدح في إسلامه إذا كانت بدعة مكفرة، وممكن تكون عشرات البدع في الإمام أو المؤذن لكن لا تقدح في إسلامه، فينبغي أن يكون الجرح مفسراً حتى يأتي الجواب الصحيح، وما دام ذلك الرجل لم يخرج من دائرة الإسلام ولم يوجد مساجد غير هذا المسجد، فمن صلى في بيته بعد سماعه الأذان فهو المبتدع.

حدود عورة الرجل وحكم رؤيتها

حدود عورة الرجل وحكم رؤيتها Q هل يجوز لرجل ملتزم أن يشاهد عورة رجل مثله في التلفاز؟ وهل المصارعة وكرة القدم حرام؟ A أما عورة الرجل فمعروف الخلاف فيها من أحاديث كثيرة، والخلاف فيها أيضاً يطول، لكن الأحوط القول بأن الفخذ عورة، وهذا ثبت من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن عورة الرجل ما بين ركبته وسرته)، بعض العلماء أراد أن يجمع بين الأدلة المتقابلة في هذه المسألة فقالوا: إن من العورة ما يجوز كشفه ولا يجوز النظر إليه، فالعورة المغلظة لا يجوز كشفها ولا يجوز النظر إليها، أما خلاف ذلك من بين السرة والركبة فيجوز كشفه، لكن لا يجوز النظر إليه، فعلى القولين لا يجوز للإنسان أن ينظر لها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فمثل هذه المناظر الفاضحة التي تكون فيمن يسمونهم المصارعون، هذه الأشياء مما لا يليق أبداً بأي إنسان عنده دين أن ينظر إلى هذه الأشياء؛ هذا إذا كان من الرجال، فما بالك إذا كان يجمع النساء والحريم فينظرون إلى هذه المناظر الفاضحة السيئة. أما كرة القدم فلا يشترط في كرة القدم أن تكشف الفخذ، فإذا لم يقترن بها شيء من المحرمات كتضييع وقت الصلاة، كأن تكون على مال معاوضة مالية، أو يرتبط بها سب وقذف وشتائم وعصبيات وهذه الأشياء، فقد تبقى على حكم الإباحة، إلا إذا استدللنا بعموم الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو أو باطل إلا ثلاثاً: ملاعبة الرجل لامرأته، ومشي الرجل بين الفرضين، وتأديب الرجل فرسه)، لكن والله أعلم قد يترجح أن اللهو المباح ليس منحصراً في هذه فقط، لكن ينبغي للإنسان أن يهتم بالرياضة التي تعود عليه بالنفع هو، فالنظر لا يعود عليه في الغالب بنفع كثير إلا تضييع الوقت، والوقوع في هذا الأذى من كشف العورات وغيره؛ لكن لأن المباريات من الرياضة التي تقوي على الجهاد، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقوي البدن كما كان يفعل الحبشة في لعبهم بالحراب فهذا مما لا بأس به، والله تعالى أعلم.

الإيمان والكفر [21]

الإيمان والكفر [21] سيد قطب هو أحد النجوم الساطعة في سماء الفكر الإسلامي، وأحد شموس التجديد والنداء إلى العودة إلى منهج الإسلام الصحيح، وقد عاش حياة متدرجة كان آخرها معالم في الطريق، وقبل ذلك خاض حروباً ضارية مع مخالفيه من رجال الدعوة والفكر والثقافة والسياسة.

منهج سيد قطب

منهج سيد قطب

اختلاف الناس على العظماء

اختلاف الناس على العظماء إن هناك أعمالاً صدرت ممن تبوءوا مكاناً عظيماً في قلوب المسلمين المخلصين لدينهم في هذه الأعصار الأخيرة، كالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والأستاذ سيد قطب رحمه الله، ومنهم أيضاً الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمهم الله أجمعين. وثلاثتهم ممن كان له دور بصورة أو بأخرى في تجديد شباب هذه الدعوة، ودعوة الناس إلى تحقيق قوله تبارك وتعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]. لكن ثلاثتهم أيضاً ربما اجتمعوا في قاسم مشترك ترتب عليه: إما تأويل البعض لكلامهم بصورة غير صحيحة، أو تطبيقه بصورة غير صحيحة، أو ربما يكون فعلاً صدر من أئمة الدعوة بعض المواقف بصفتهم البشرية قد يكون فيها أخذ ورد من وجهة نظر كثير من العلماء. فأئمة الدعوة كتبوا كثيراً في قضايا التوحيد والدعوة، وربما أحياناً زلوا، حتى إمام الدعوة مجدد القرن الثاني عشر الهجري الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وله رسائل كثيرة في التوحيد ولكنها كانت مجملة ومقتضبة، وربما أدى هذا الإجمال إلى أن أساء البعض فهمها، أو أساء تطبيقها فيما بعد، فبالتالي اتخذ منها بعض دعاة التكفير معيناً لهم على بعض أفكارهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة. نفس الشيء بالنسبة للأستاذ المودودي رحمه الله تعالى، وربما يكون في كلام المودودي عبارات صريحة تؤخذ عليه رحمه الله في قضية تكفير المسلمين، وإن كان من خلال الواقع العملي ربما ينكشف شيء من التصحيح لهذه العبارات النظرية، كذلك أخذ الأستاذ سيد قطب رحمه الله من المودودي بعض هذه المفاهيم، ودندن حولها في كتبه، وبالذات الظلال ومعالم في الطريق، ولا شك أن الأستاذ سيد قطب رحمه الله باعتباره أكثر الناس تأثيراً وأثراً في قلوب الشباب الإسلامي، ومد هذه الصحوة الإسلامية بكثير من المدد والوقود والوعي، لاشك أن شأنه شأن كثير من العظماء، بل كل العظماء أن يختلف الناس عليهم ما بين قادح ومادح، وهو واحد من هؤلاء العظماء، بل هو نادرة زمانه وعصره الذي تبوأ قمة لم يقو الكثير على الصعود إليها، ونرجو أن يكون الله تبارك وتعالى قد بوأه هذا المنصب العظيم الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). وكان بإمكان سيد قطب رحمه الله أن يداهن أو يتنازل عن عقيدته ومبدئه، ولعله يصل إلى أرقى المناصب التي كان يغرى بها، ولكنه ثبت أمام هذه المغريات.

ثبات سيد قطب على مبادئه

ثبات سيد قطب على مبادئه لم تخل بلاد المسلمين في حياة الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى من أن يكون فيها من هو أعلم أو أفقه من الأستاذ سيد قطب رحمه الله، لكنه تميز بتجديد في جانب من الجوانب التي كان المسلمون يبحثون عن نجم يضيء لهم، فضلاً عن بدر ينير لهم الليل المظلم، وفي المثل يقولون: وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. فلما طال ليل هذه الأمة الذي شابه في طوله ليالي القطبين، وتحسر المسلمون على نجم يسطع ساعة، فضلا ً عن بدر يزين الليل كله، وفي زمن بخل فيه الناس بكلمة الحق وباعوا كرامتهم بأرخص الأثمان، أشرق بدر سيد قطب رحمه الله إلى أن سقط على أيدي الطاغية الجبان الذي سقته إسرائيل كئوس الذل مترعة، فلم تعرف له شدة ولا قوة ولا بأساً إلا إزاء المستضعفين من أمته. تبوأ سيد قطب أعلى مقامات التضحية، وهو مقام التضحية بالنفس، كما يقول بعض الشعراء: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود فما هناك شك في أنه بصموده وثباته على مبدئه وتضحيته في سبيله حتى اللحظة الأخيرة، ضرب مثلاً نادراً وفذاً في تاريخ المسلمين المعاصر. وكتب بعض الصحفيين كتاباً يسميه: (سيد قطب من القرية إلى المشنقة)، وإن كان تحامل عليه في مواضع، ولكنه كان ينبغي أن يتم هذا العنوان بعبارة ثالثة لولا أمور الله بها عليم، ففعلاً هو قصد من القرية إلى المشنقة إلى قلوب المسلمين المخلصين لدينهم، حيث تربع فيها، وإن كان سيد قطب رحمه الله شخصية بارزة جداً في المجتمع المصري قبل أن يمن الله عليه بالهداية والانضمام إلى لواء الدعوة الإسلامية.

مكانة سيد قطب الاجتماعية

مكانة سيد قطب الاجتماعية سيد قطب رحمه الله لم يكن نكرة في المجتمع المصري، ولم يكن شاباً مغموراً، لكنه كان علماً بارزاً من أعلام الأدب والفكر، وإذا تلونا أسماء الناس الذين كان يعرفهم ويعرفونه لزاد وضوح هذه الفكرة عندنا، وبالتالي وجدنا كيف أن الله تبارك وتعالى أبدله خيراً بهؤلاء الذين هجرهم وهجروه بعدما اتجه إلى الاتجاه الإسلامي، وبالأخص بعدما قدم حياته ثمناً لدعوته. حقاً تنكر له كل هؤلاء، تنكروا جميعاً وسكتوا ولم ينبس أحدهم ببنت شفة إلى سنوات طويلة، ربما يكون هذا عن قصد لإخماد ذكره، ولكن أبدله الله تبارك وتعالى بأن صدح بذكره كل لسان مؤمن في آفاق الأرض في جيله بل في أجيال -إن شاء الله- من بعده، فهو لم يكن شخصاً مغموراً في المجتمع المصري، لكنه كان علماً بارزاً من أعلام الأدب والفكر، كان نجماً ساطعاً من نجوم الصحافة، مشهوراً في أوساط الأدباء الذين عرفهم وعرفوه، وعلى رأسهم شخص يعد أستاذه، وهو عباس محمود العقاد، فإن سيد قطب ربما عد من أخص تلامذته، فقد كان قريباً جداً إلى العقاد، ونافح عنه في معاركه الأدبية، سواء ضد الرافعي أو ضد طه حسين، وكان خليلاً حميماً له لمدة تصل إلى ربع قرن كاملاً، ثم انفصلا واختلفا. أيضاً ممن عرفهم وعرفوه، المدعو طه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمد منظور، وتوفيق الحكيم، وعزيز أباظة، وأحمد شوقي الشاعر، والرافعي، ويحيى حقي، وعباس خضر، ونجيب محفوظ -لا حفظه الله- وحسين فوزي، وإحسان عبد القدوس، ومصطفى أمين؛ هؤلاء كانوا أصدقاءه ومعارفه وقريبين جداً منه، بل حتى الضباط الأحرار وعلى رأسهم جمال عبد الناصر كانوا من أخص أصدقائه، وربما جلسوا معه الليالي الطوال في بيته الذي اشتراه في حلوان لما تحول إلى القاهرة. كل هؤلاء آثروا الصمت، ولم يكتبوا عنه ولم يتحدثوا، حتى كأنهم لا يعرفونه ولم يسمعوا عنه. فالمقصود أن تحول مثل هذا العلم البارز من أعلام المجتمع إلى الاتجاه الإسلامي، كان ينبغي أن يكون له رد فعل قوي عند هؤلاء، لكن كأنهم تواطأوا أو جبنوا عن أن يشيدوا بهذا التحول العظيم، وأبدله الله عز وجل كما ذكرنا هذه المكانة في قلوب المسلمين في كل زمان.

حقائق وتنبيهات في منهج سيد قطب

حقائق وتنبيهات في منهج سيد قطب قد يحصل اختلاف مع الأستاذ سيد قطب في بعض الأفكار لأسباب سوف نذكرها إن شاء الله، لكن نقول: إننا حينما ننظر إلى هذه الآراء نظرة النقد والتمحيص في ضوء عقائد أهل السنة والجماعة ومواقفهم، لا نقول إننا بذلك نقف في خندق واحد مع أعداء الإسلام، وأعداء الصحوة الإسلامية الذين أنهوا الأمر بقتله رحمه الله. لكن نقول: هم قتلوه لعدائهم للإسلام ليس لاختلاف في هذا الأمر أو ذاك، على أي الأحوال، كل هذا الركام الرفيع للرجل ولأمثاله من أعلام الأمة لا يوجب أن نأخذ كل ما قاله على أنه صواب لا يقبل الخطأ، وإنما ينبغي أن ننبه إلى عدة حقائق مهمة قبل أن نخوض في هذا البحر.

معرفة الرجال بالحق

معرفة الرجال بالحق أول هذه التنبيهات والحقائق نرويها على لسان الأستاذ سيد قطب رحمه الله نفسه، يقول رحمه الله تعالى في تفسير سورة آل عمران: وهناك حقيقة أخيرة نتعلمهما من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله، وذلك حينما عاتب الله عز وجل الصحابة في أواخر سورة آل عمران بعد ما وقع في غزوة أحد. وهي حقيقة ناصعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله، إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، يخطئون ويصيبون في قواعد التصوف، وقواعد التطبيق والسلوك، ولكن ليس شيئاً من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً لقيمه وموازينه، وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ، وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف، ولا يتغاضى عن خطئهم مهما تكن منازلهم، ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم. ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج، وأنه من الخير للأمة الإسلامية أن تبقى ملاجئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون المنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه أياً كانوا، وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف، فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والإسلام لا يعطي العصمة لأحد أبداً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ربما يحصل منا معشر المسلمين أحياناً أن نعطي هذه العصمة للرجال، ويصعب ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نجلها ونحبها تخطئ وتصيب، كما يصعب علينا أن نقول هذا الرأي من قوله خطأ وهذا صواب. أيضاً كثير من الناس يتعاملون في الواقع العملي مع الشخصيات الإسلامية الكبرى على أساس التسليم لها بكل شيء، أو رفض كل شيء، ويتحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر يتحدى القواعد النظرية الإسلامية التي يحفظها كل الناس، والتي أرساها السلف الصالح رضي الله عنهم، من مثل ما حفظناه عن الإمام مالك رحمه الله تعالى من قوله: كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، وكان يضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا القول مثل القول الذي يكرره الأستاذ سيد رحمه الله بأسلوب هذا العصر في الكلام الذي سبق أن تلوناه، لكن تطبيقه في الواقع العملي صعب، بل ربما نردده كثيراًَ لكن حينما نطبقه فإن دون ذلك خرط القتاد. إذا تذوقنا العلم وحده، فهذا التذوق هو الذي سيعودنا على احترام أهل العلم الاحترام الصحيح اللائق بهم، بحيث نصل مع هذا إلى درجة نقدم فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه، دون أن يكون خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه، ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم تحقيراً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة لهم، فهذا الموقف هو الذي ينزه احترام أهل العلم من التحول إلى اتخاذهم أرباباً من دون الله تبارك وتعالى. فأي بحث يكون فيه مثل هذا النقد ينبغي أن لا يوجه إلى تجريح الشخصيات، ولا إلى تمجيدها، وإنما يكون الهدف من البحث في مثل هذه القضايا اكتساب موقف سليم بين الحق وبين الرجل، فيبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، وأما الرجل فيمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبين ذلك درجات كثيرة؛ ولهذا ينبغي أن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال، لكن اعرف الحق تعرف أهله. هذا بالنسبة للتنبيه الأول الذي نحتاج إليه في هذا المقام.

احترام أهل التخصص

احترام أهل التخصص أما التنبيه الثاني: فهو أن تحترم أهل التخصص، ودليل هذه القاعدة التي نشير إليها قول عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه في حديث البيعة: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، إلى آخر الحديث. فقوله عليه الصلاة والسلام: (وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، يعني: ألا ينازع أهل الاختصاص من هم دونهم في هذا الاختصاص، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]. فينبغي أن نضع كل إنسان في المقام اللائق به، يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تحت عنوان: (احترموا التخصص): أنصح هؤلاء الشباب أن يحترموا التخصص، فلكل علم أهله، ولكل فن رجاله، فكما لا يجوز للمهندس أن يفتي في أمور الطب، ولا الطبيب في شئون القانون، بل كما لا يجوز لطبيب متخصص في فرع أن يقتحم فرعاً آخر، كذلك لا يجوز أن يكون علم الشريعة كلأ مباحاً لكل من هب ودب من الناس، بدعوى أن الإسلام ليس حكراً على فئة من الناس، وأنه لا يعرف طبقة رجال الدين التي عرفت في أديان أخرى. فالواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة رجال الدين، ولكنه يعرف علماء الدين المتخصصين الذين أشارت إليهم الآية الكريمة: {فَلَوَلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. وقد علمنا القرآن والسنة أن نرجع فيما لا نعلم إلى العالمين من أهل الذكر والخبرة، قال الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الشجة، وهي الجرح في الرأس الذي أفتاه بعض الناس بوجوب الغسل رغم جراحاته، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العي السؤال)، انتهى كلامه حفظه الله. هذا أيضاً أمر مهم جداً، فحينما نتكلم مثلاً في درجة حديث من الأحاديث، أو الأخذ والرد في تصحيح بعض الأحاديث، فلا نفزع إلى الأستاذ محمد قطب حفظه الله، لكن نرجع إلى الشيخ الألباني أو إخوانه من علماء الحديث المتخصصين، أما إذا أردنا الكلام في القضايا الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة وضلالها، وخطط أعداء الإسلام، والغزو الفكري، فإن الأستاذ محمد قطب يعتبر من أخبر الناس بذلك. وهكذا تجد في كل فرع من فروع الشريعة من فتح عليه في هذا الفرع، ولا يعني هذا تحقيراً وازدراءاًً لغير أهل التخصص، فأبواب الخير كثيرة، ويفتح على الإنسان في بعضها ما لا يفتح عليه في الآخر. فبالنسبة لقضايا العقيدة وبالذات الكفر والإيمان، وهي قضايا ذات حساسية شديدة جداً، ولا ينبغي أن يفتح بابها من جديد، حتى يضع لنا بعض الناس حدوداً أو ضوابط جديدة لها؛ هذه القضية وضعت ضوابطها وحدودها عند أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة ليسوا نكرات في التاريخ الإسلامي، فهم مشهورون معروفون، ونحن قد فرغنا من الاطمئنان والثقة واليقين بأن الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، وربما تكلمنا في هذا كثيراً، وأقمنا على هذا الكثير من الأدلة، وأثبتنا أن أهل السنة والجماعة هم في الحقيقة امتداد تاريخي طبيعي وتلقائي للأجيال الأولى من خير القرون، وهم الصحابة رضي الله عنهم، ثم من تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، فيشمل كل أئمة أهل السنة والجماعة المعروفين. وقد اختلف أهل السنة في المذاهب الفقهية، فهناك المذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، وغير ذلك من المذاهب، لكنهم في العقيدة لا يختلفون، ويجمعهم اسم واحد، هو أهل السنة والجماعة. السياسة فيها خطأ وصواب، والعقيدة فيها حق وباطل، وهدى وضلال؛ فمن أجل ذلك اجتمعوا جميعاً على عقائد ثابتة، وضوابط راسخة، وبالذات في قضايا الإيمان، فأي إنسان يريد أن يتكلم في هذه القضية يرينا أولاً ممن يستقي مفاهيمه فإن كان يأخذ من أهل السنة فلن يحتاج إلى الاختراع، ولا إلى إيجاد حدود جديدة، أو ضوابط جديدة للتعامل في هذه القضية مع الناس. فمن باب احترام التخصص ينبغي أن نعرف علماء العقيدة من علماء أهل السنة والجماعة في العصور المتفاوتة، فقد ضبطوا هذه المسائل وقعدوها بحيث لا نحتاج إلى من يعيد ضبط هذه المسائل من جديد، وما عندنا يكفينا في التعامل مع الواقع بطريقة منضبطة، وطريقة شرعية صحيحة، دون إفراط ولا تفريط. فنتيجة عدم التفطن لهذا الأمر يقع الخطأ والخلط؛ لأن الناس لا يفرقون بين الاتجاهات الإسلامية الموجودة هناك كتب وعظ ودعوة، وهناك كتب أحكام، فمن الخطأ القاتل أن نأخذ الأحكام من كتب الوعظ أو الدعوة العامة، فكل اتجاه له أسلوبه، وليس كل من أجاد الوعظ أو الخطابة أو تنميق الكلام تؤخذ عنه الأحكام، بل لابد أن يعلم المسلم ماذا يأخذ؟ ومن أين يأخذ؟ ويقول العلماء عن بعض الناس: فلان مستجاب الدعوة، أو لا ترد دعوة هذا الرجل؛ لأنه رجل صالح، ويرون أن دعوته مستجابة، فكما قال بعض الأئمة: إنا لنرد رواية أقوام ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، فهو رجل أمين وثقة وعدل لكنه غير ضابط، ولا يحفظ جيداً. فيقول: إنا لنرد رواية أقوام، ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة؛ لأنهم أناس صالحون. وقالوا أيضاً: فلان مستجاب الدعوة، مردود الرواية. فهو لصلاحه وتقواه يرجى قبول دعائه، لكنه لغفلته ولعدم معرفته الجيدة بالرجال ترد روايته. فهذه بعض التنبيهات قبل أن نخوض بذكر ترجمة عابرة لحياة الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى.

ترجمة مختصرة لسيد قطب

ترجمة مختصرة لسيد قطب

نشأته

نشأته نشأ الأستاذ سيد قطب في قرية صغيرة من قرى الصعيد في سنة ألف وتسعمائة وستة ميلادية، وحكى في كتاب له مشهور يسمى: طفل من القرية، ويشبه إلى حد كبير كتاب الأيام للمدعو طه حسين -عليه من الله ما يستحقه- بل إنه أهدى إليه كتاب الأيام وقال: إنها أيام تشبه أيامك إلى حد كبير، وقد تختلف في بعض الأشياء. فحكى فيه عن نشأته في هذه القرية ودراسته فيها، وكيف أنه كون مكتبة لا مثيل لها في هذه القرية، وهو لا يزال طالباً في المرحلة الابتدائية. تكلم في هذا الكتاب أيضاً عن العقلية التي يفكر بها أهل هذه القرية، أظن القرية اسمها موشى، وتحدث عن الخرافات التي تعشعش في عقولهم، والبؤس الذي يلف هذه الطبقة من الناس، كان هذا الذي ذكره في كتابه شأن القرى كلها، وليس فقط في صعيد مصر، وإنما في عامة بلاد العالم الإسلامي. في سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرين غادر قريته موشى ليكمل دراسته في القاهرة، وكان من المفترض أن يغادر قريته قبل هذا الوقت؛ لكن ثورة ألف وتسعمائة وتسعة عشر كانت سبب تأخره ووقف التدريس، وانصراف الناس إلى ما هو أهم من الدراسة، وفي القاهرة التحق الطالب النجيب بمدرسة عبد العزيز الأولية، وبعد أن أتم دراسته الأولية انتقل إلى دار العلوم، وكانت في مستوى المعاهد المتوسطة، وأتم دراسته فيها سنة ثلاثة وثلاثين، وبعدما تخرج من دار العلوم جرى تعيينه مدرساً في دمياط، ثم في بني سويف، ثم انتقل إلى حلوان في القاهرة مدرساً في مدرستها الابتدائية، وانتقل أهله إلى القاهرة بعد أن اشترى منزلاً في حلوان، وكان ذلك بعد وفاة والده، ثم توفيت والدته بعد انتقالهم إلى القاهرة بقليل.

بروزه في عالم الفكر والأدب

بروزه في عالم الفكر والأدب برز اسم سيد كأديب موهوب في مصر، وأصبح اسمه معروفاً في المجلات الأدبية المشهورة، كالرسالة والثقافة والمقتطف، وأصدر في الأربعينيات كتباً مهمة، منها: التصوير الفني في القرآن، ومر بمراحل كثيرة من الناحية الفكرية والأدبية، ربما نستنكرها الآن من خلال ما انتهى إليه -ولله الحمد- من الاتجاه الإسلامي، لكن مر بمراحل منها: أنه كان متأثراً بالاتجاهات الفكرية السائدة في ذلك الوقت الذي كان يموج بكم وافر من الأفكار الواردة. فكانت بداية كتاباته الإسلامية سنة ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين، وبدأ ارتباطه بالإسلام من خلال منظار النقد الأدبي، باعتباره كان متخصصاً في النقد الأدبي، وكان أديباً مشهوراً، فبدأ ارتباطه بصفة ناقد أدبي، أو متأمل في الناحية الأدبية أو البلاغية من القرآن، فكتب عن الجمال الفني في القرآن، لكن هذه البداية انتهت به إلى أنه تحول من مجرد كاتب إلى أن صار مفكراً، وبمرور الوقت قفز إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ومن خلال القرآن بدأ يعالج واقع الأمة، وما تحتاجه من إصلاح من خلال القرآن، ومن خلال نظم الإسلام، فألف كتابه: العدالة الاجتماعية في الإسلام، سنة ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين. وأغلب كتبه التي صدرت في المراحل الأولى هذه كان فيها أخذ ورد، لكنها تعتبر مسألة تطور ونمو تدريجي في الناحية الفكرية. من كتبه أيضاً: طفل من القرية كما ذكرنا، كتب وشخصيات النقد الأدبي أصوله ومناهجه، وتدرج في وظائف التعليم في وظائف الوزارة، ففي سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين أصبح مفتشاً في التعليم الابتدائي، ثم في الإدارة العامة للثقافة التي كان يرأسها أحمد أمين، وفي سنة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تدريبية، تم اختياره بالذات لها، ولم يكن في رحلته ملتزماً بدراسة معينة، أو بزمن معين يقضيه هناك، وقد أكسبته هذه البعثة خبرة واسعة بطبائع الأمريكان وأساليبهم، وله كتابات مهمة، وكان يبعث رسائل إلى عباس خضر ونجيب محفوظ وغيرهما بين الوقت والآخر، هذه الرسائل جمعت في كتاب يسمى: أمريكا التي رأيت، وله بحث وكتابات أخرى في كتاب اسمه: إسلام أمريكاني، فجمع الكتابات في كتاب موجود الآن تحت عنوان: أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب.

بروزه في عالم السياسة وانقلاب رجال الثورة عليه

بروزه في عالم السياسة وانقلاب رجال الثورة عليه عاد من الولايات المتحدة عام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين، كان عمره حينها خمسة وأربعين سنة، ليخوض معارك سياسة ضد طغيان فاروق، وفساد الأحزاب، وهيمنة المستعمر الإنجليزي، واستقطبت هذه الكتابات فيمن استقطبت ضباط انقلاب ثلاثة وعشرين يوليو فأعجبوا بها، وتعرفوا على كاتبها، وقامت بينهم وبينه علاقات، وتم اختياره بعد نجاح الانقلاب مستشاراً لمجلس قيادة الثورة. يقول عادل حمودة وهو يكتب عن بعض الأشياء: إن سيد قطب كان له مكتب في مبنى مجلس قيادة الثورة، وإنه كان يقيم هناك إقامة شبه دائمة؛ حيث أوكلت إليه هو وسعيد العريان مهمة تغيير مناهج التعليم، هذا في بداية الانقلاب، فهذه مهمة تربوية لا سياسية، كما أن تكليفه بها كان يعكس طبيعة نظرة رجال يوليو له، وهي نظرة كانت مناسبة لخبرته وتخصصه في مجال التعليم، ثم إنها كانت فرصته لتنفيذ أفكار الإصلاح التي رفضها من قبل وزراء المعارف الذين خدم معهم في العصر الملكي، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، في ذلك الوقت عرفه كمال الدين حسين عن قرب، ورشحه ليتولى منصب وزير التربية والتعليم، المنصب الذي تولاه هو بنفسه، وفي ذلك الوقت كانت كتاباته ومؤلفاته توزع على المدارس التابعة للوزارة بأمر كمال الدين حسين. كما أن أناشيده الوطنية كانت تدرس للتلاميذ في دروس المطالعة، ولما تغير في وقت من الأوقات موقفهم من سيد قطب رحمه الله، بذلوا كل وسعهم في أن يجمعوا مؤلفاته ويحرفونها، وفي وقت آخر كان يأتي قرار من السلطة العليا بجمع جميع مؤلفاته، وكانت هناك محاضر رسمية تأمر بنزع صفحة من كتاب القراءة والنصوص، كان سيد قطب له فيها نشيد حماسي وطني عن مصر، ومع ذلك لم يشفع له ذلك أنا أذكر لما كنت في السنة السادسة الابتدائية حينما أتى المفتشون وساد جو من الصمت الغامض في المدرسة، وكانوا يدخلون المدرسة فصلاً فصلاً، ويأمروننا أن نفتح صفحة كذا، ونمزق هذه الصفحة، وبالفعل كان يتم هذا في جميع مدارس الوزارة، حتى ينزعوا اسم سيد قطب ولا يبقى له ذكر في هذه المناهج التي قام على إرسائها. حتى عبد الحكيم عامر في بعض الرسائل وفي بعض المواقف كان ينتقد ويقول: أيريد سيد قطب الذي كانت توزع كتبه أن يصنع من نفسه نبياً ينزل عليه الوحي؟ ظلت مؤلفات وأناشيد سيد قطب في المدارس الحكومية حتى بعد القبض عليه سنة أربعة وخمسين، ولم يبدأ التخلص منها إلا بعد عشر سنوات، بعد أحداث خمسة وستين، فكان أن جمعت مؤلفاته من المدارس، ونزعت صفحات الأناشيد، وتشكلت لجان خاصة للإشراف على تنفيذ هذه القرارات السامية، وقع أفرادها على محاضر رسمية رفعت إلى جهات الاختصاص العليا، كما أن دار المعارف التي كانت تنشر كتبه تولت بنفسها جمع ما في مخازنها ومكتباتها من نسخ وأحرقتها، وكان تصرفها شاذاً وغريباً بالقياس إلى تصرف جهاز الأمن الذي صادر الكتب التي كانت في بيوت المتهمين، وسلمها إلى دار الكتب التي لم تحرقها، وإن ألقتها في مخازنها الرطبة، بعد أن حولتها إلى عهدة توارثها عدد كبير من صغار الموظفين. المقصود: أن هذه أيضاً تعكس ما كان له من مكانة في المجتمع قبل التحول الكبير الذي حصل فيما بعد.

انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين

انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين قامت بينه وبين الضباط الأحرار كما ذكرنا علاقات، وتم اختياره بعد نجاح الانقلاب مستشاراً لمجلس قيادة الثورة، ثم أميناً عاماً مساعداً لهيئة التحرير، وكان مرشحاً ليكون وزيراً للمعارف أو للإعلام، لكنه رفض الوزارة عندما لمس سوء نوايا قادة الانقلاب، وأدرك بأنهم ليسوا جادين في تحكيم شرع الله، وارتاب في اتصالاتهم المشبوهة، ولم يجلس في منزله عندما رفض الوزارة والمغريات، وما كان لداعية مجاهد أن يفعل ذلك، وإنما انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في أحلك ظروفها وأشدها قساوة؛ انضم إليها وهو يعلم بأنهم على أبواب محنة، وقال وقتها في سنة واحد وخمسين: لقد ولدت من جديد عام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين! فاعتبر هذه فترة ميلاد جديدة له، ومن ثم نستطيع أن نجد في هذا التصريح الواضح رداً قوياً على ما ذكره الصحفي عادل حمودة من أنه بين وقت وآخر يحاول أن يقول: لماذا يحاول الإسلاميون دائماً أن يفصلوا ماضي سيد قطب في نشاطاته الفكرية، وتقلباته الفكرية في المراحل الأولى عما بعد ذلك؟ قال: لئن كان يحاول أن يشير إلى أنها مجرد انعطاف حاد كسائر الانعطافات الأخرى ربما لو طال به العمر لتحول أيضاً عن هذا المنعطف. وكون صاحب الفكرة يقول: لقد ولدت من جديد، وهو يضع قدمه على أعتاب الدعوة الإسلامية يدل على أنه منقطع تماماً عن كل ما مضى، وبالتالي لا يصح مثل هذا التعليل الذي يريد أن يضعف تأثير دعوته بأن يقول: إن هذا كان مجرد تغير من التغيرات التي حصلت في حياته، ولو طال به العمر لتحول أيضاً عن الاتجاه الإسلامي، فهذا من سوء الظن الذي يدفعه أول من يدفعه الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذا التصريح.

تبرئة سيد من أن كتاباته في السجن كانت ردود فعل لا أكثر

تبرئة سيد من أن كتاباته في السجن كانت ردود فعل لا أكثر أيضاً هناك مظاهر أخرى حاول بها نفس الكاتب -وربما غيره أيضاً- أن يبعد اتجاه سيد قطب عن الاتجاه الإسلامي، بأن قال: إن كتابات سيد قطب هي عبارة عن رد فعل لما عاناه في السجن، خاصة المعالم والظلال كتبها أساساً في فترة سجنه، وهذا شيء عجيب يستنكر ممن يحاول أن يقول: إن هذه الأشياء رد فعل لما يعانيه بصفته مسجوناً يعاني آلام السجن، ويرغب في الحرية، وإلى آخره. ومن باب الإنصاف، هذا لا يقال في حق الأستاذ سيد قطب رحمه الله؛ لأن الشخص الذي يقلقه السجن، ويؤرق مضجعه، ويرغب في الحرية، ويرغب في تحصيل مقاصد الدنيا، كان أولى أن يقبل منصب الوزارة لما عرض عليه، وكان أولى أن يكتب رسالة اعتذار وخنوع للطاغية، وبالتالي كان سيفوز بما يريده من الدنيا، بل أقوى من هذا وهذا في الدلالة على براءته من هذا التعليل المرفوض: هو ذلك الفصل الواضح الصريح في كتابه معالم في الطريق، واسمه هذا هو الطريق، تكلم فيه عن أصحاب الأخدود، وهو يقول: هذا هو الطريق، ومن يقرأ هذا الفصل بتمعن يدرك بأنه يتحدث عن حاله وعما يتوقعه لنفسه من مصير، وهذا الفصل من أروع ما كتبه رحمه الله، وكأنه يقول: هذا هو طريق التضحية، فرجل ثبت على مبدئه، يكتب هذه الكتابات وهو في السجن، هذا ليس سلوك من يريد الدنيا، ولا من يريد السلامة والعافية. ما كان له أن يكتب مثل هذا لو كانت هذه الكتابات مجرد رد فعل للسجن، نحن لا ننكر أن السجن كثيراً ما يولد لنا أفكاراً غريبة، بالذات في فترة السبعينيات وغيرها، فقد ولدت اتجاهات التكفير التي انطلقت ربما في بعض منطلقاتها أساساً من كتابات سيد قطب والمودودي أو غيرهما، ولا يوجد شك أن ردود فعل حصلت فيها نوع من المبالغة والغلو في مقابلة ما لاقاه هؤلاء من تعذيب واضطهاد وتشريد ونكاية انعكست في مواقفهم الفكرية. على أي الأحوال نحن في منجى ومنأى من هذه المردودات إذا عدنا إلى الأصل الذي لا يتأثر بالظروف وهو منهج أهل السنة والجماعة، والقواعد الثابتة التي وضعها علماء السلف الصالح في ضبط هذه القضايا التي تسلم من مثل هذه المردودات.

الصدام الفكري بين سيد والإخوان

الصدام الفكري بين سيد والإخوان الإخوان المسلمون لديهم حلقات كثيرة للصدام الفكري بينهم وبين الأستاذ سيد قطب، صحيح الإخوان يفخرون بانتماء الأستاذ سيد قطب رحمه الله إليهم، لكن ربما يكون هذا على مستوى الدعوة العامة أو الأمور الدعائية، أما في حقيقة الأمر فالإخوان واجهوا فكر سيد قطب في كثير من المناسبات، بل على لسان أعلى قيادتهم وهو الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله، الذي ألف كتاب: دعاة لا قضاة، بالاشتراك مع ابنه الأستاذ مأمون الهضيبي، يرد فيه على كتاب الظلال. وكثيراً ما تقوم كتب الإخوان بالرد على فكر سيد قطب، صحيح أننا ننظر من زاوية معينة للأستاذ سيد قطب على أنه امتداد لفكر الإخوان، لكن ليس هذا على إطلاقه، إذ هناك خلاف فكري بين الإخوان المسلمين الذين يتمسكون بمنهج الشيخ حسن البنا رحمه الله، الذي كان يميل إلى الحل البرلماني السياسي، وبين اتجاه سيد قطب الذي كان يميل إلى اتجاه آخر، ولذلك سنعتمد كثيراً في نقد بعض مواقف الأستاذ سيد قطب على كتابات كثير من علماء الإخوان ابتداء بالأستاذ حسن الهضيبي ومأمون الهضيبي والأستاذ سالم البهنساوي، أو الدكتور يوسف القرضاوي، أو غيرهم من أعلام الإخوان المسلمين. اختار الإخوان سيد قطب رحمه الله ليكون رئيس تحرير لصحيفتهم (الإخوان المسلمون) فلم يتردد ولم يعتذر، وخاض معركة ضد الانقلابيين، كتلك المعركة التي خاضها ضد فاروق وزبانيته، وكتب كثيراً مما لا يسرهم، وكانت صحيفة الإخوان المسلمون في ذلك الوقت أشد ما يخشاه عبد الناصر وزملاؤه. ثم انتهى الأمر إلى أن هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا يسامرونه ويجالسونه في بيته في حلوان، وكانوا أحياناً يلتقطون الصور التذكارية، وفيها صور لـ عبد الناصر أيضاً مع سيد قطب، تحول الأمر فيما بعد إلى خصومة معهم انتهت إلى قاض يجلس على منصة القضاء والآخر سجين، والقاضي يطالب برأسه.

سجن سيد قطب واختلاف وجهته مع دعاة عصره

سجن سيد قطب واختلاف وجهته مع دعاة عصره سجن الأستاذ سيد رحمه الله سنة أربع وخمسين مع عدد من قادة الإخوان المسلمين، ثم أفرج عنه وعنهم بعد قليل، ثم عاد إلى السجن في العام نفسه سنة أربعة وخمسين بعد حادث المنشية، حيث كان نصيبه مما سمي بمحكمة الشعب آنذاك خمسة عشر عاماً من الأشغال الشاقة، ثم أفرج عنه في مايو سنة ألف وتسعمائة وأربعة وستين، بعدما توسط الرئيس العراقي عبد السلام عارف، ثم أعيد اعتقاله في أغسطس سنة خمس وستين، وقدم لما أسموه محاكمة، وتم إعدامه في السادس والعشرين من أغسطس من سنة ألف وتسعمائة وستة وستين. سمعت أنه حينما أشرف على إلقاء الإعدام رحمه الله أنه دعا فقال: اللهم اجعل دمي وبالاً على مصر، أو على من قتلوني. عاصر سيد قطب مجموعة من الدعاة الذين كانوا يدافعون عن الإسلام على طريقتهم الخاصة، من الأمثلة على ذلك: أن معظم كبار الدعاة والكتاب كانوا يدافعون عن الإسلام بأسلوب فيه كثير من الضعف، فإذا راجت بضاعة الديمقراطية بين الناس راحوا يتحدثون عن ديمقراطية الإسلام، وإذا فتنت شعوبنا بالاشتراكية صنعوا للإسلام اشتراكية، وإذا أطنب المفكرون في الحديث عن الحضارة، كتبوا المقالات بل المؤلفات في التعريف بحضارة الإسلام، لقد كان الإسلام عند هؤلاء الكتاب اشتراكياً قومياً ديمقراطياً تقدمياً، أما الأستاذ سيد رحمه الله فقد رفض هذه الأساليب وحذر منها، انظر إلى قوله: وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام في ثقة وقوة، في عطف كذلك ورحمة، ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق، وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى.

الاتجاهات الفكرية المعاصرة لسيد قطب وانهزاميتها

الاتجاهات الفكرية المعاصرة لسيد قطب وانهزاميتها كاتب في مجلة البيان يتكلم عن الجوانب التجديدية، ويرفض مقولة: إن الأستاذ سيد قطب رحمه الله كان تلميذاً لمن سبقه من الدعاة في هذا الميدان، يقول الكاتب: ومن يدقق النظر بمؤلفاته وسيرة حياته يتبين له خطأ هذا القول، ومجانبته للصواب. على أي الأحوال: الإنصاف يقضي بأننا لا نستطيع أن نفصل نتاج الإنسان الفكري بالذات عن البيئة التي تحيط به، فلا شك بصورة أو بأخرى أن الأستاذ سيد رحمه لله له تأثر بهذه البيئة الدعوية حينما ارتبط بالإخوان، وإن حصل انعطاف في اتجاه آخر عن اتجاه الإخوان الأصلي، وهو الاتجاه البرلماني فيما بعد، لكن هو نفسه في بعض مقالاته كان يشيد ويتحدث باعتزاز كبير عن انتمائه لجماعة الإخوان ولدعوتها، وهذا أمر ينبغي أن نلتفت إليه؛ فإن الدعوة الإسلامية في الفترات الأخيرة في العصر الحديث ما قفزت هذه القفزة في وضوح المفاهيم بصورة الطفرة، لكن حصل نوع من التدرج فيما وصلت إليه الآن من تميز ووضوح في المفاهيم، والقاعدة العامة من الشباب المصري في الفترة التي ظهرت فيها دعوة الشيخ حسن البنا رحمه الله، كانت القاعدة العريضة من الشباب مفتونة جداً بالتيارات الفكرية الوافدة من الغرب، والاتجاهات الغربية، وتمجيد الحضارة الغربية والافتتان بها بصورة انعكست حتى على كبار المفكرين في ذلك الوقت، وما محمد عبده ورشيد رضا ومدرستهما منا ببعيد، فإنك إذا طالعت مجلة المنار، تعجب من النظرة الانهزامية التي كان يتحدث بها بعض الكتاب عن الغرب، فكلما ظهر شيء لابد أن يربطوه بالإسلام، فهذه النظرة الانهزامية ظهرت أكثر أيضاً في كتاب تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري، ومن طالع الكتاب يتعجب فمع أن الكتاب من كتب التفسير لكن ما فيه ليس التفسير، فهو كتاب علوم، فلك، موسيقى، رسم، أي شيء من حين يفتح الكتاب فيجد خرائط حفريات، أنواع الموسيقى وأنواع أجهزة الموسيقى، ويزعم أن كل العلوم موجودة في القرآن، ففيه كل شيء ما عدا التفسير. هذه الصورة أيضاً من صور الانهزام الذي انتاب عمود الأمة في هذه الفترة، كانت ما تزال فترة احتكاك، فعندما يأتي إنسان من وسط محافظ مثل الصحاري أو القرى، يكون هذا الإنسان ليس عنده مناعة كافية، فتجده يتجه إلى الهاوية بسرعة شديدة جداً، مما يسبب نقلة طفرية، هذا الذي حصل في مجتمع مصر لما انفتح على الغرب، وبهت بالتقدم الغربي المذهل، وانعكس هذا حتى على الإسلاميين، فكل شيء يربطونه بالإسلام، فحصلت هذه النظرة الانهزامية، وأصحابها قصدوا خيراً بذلك، لكن هذه كانت طبيعة الفترة.

الاتجاهات الفكرية والعلمية قبل سيد وغربتها

الاتجاهات الفكرية والعلمية قبل سيد وغربتها صحيح كانت دعوة أنصار السنة موجودة، وبالذات فطاحل أنصار السنة في الأجيال القديمة التي كان فيها أئمة وعلماء يشار إليهم بالبنان، لكن الظاهر أنه لم يكن لهم التأثير الواسع على قطاع عريض من الشباب كما حصل فيما بعد من قيام دعوة الأستاذ حسن البنا رحمه الله، فالأستاذ حسن البنا لما حصل صراع في المجتمع في الوسط الإسلامي، كان الصراع على أشده بين الاتجاهين، الاتجاه السلفي ممثلاً في أنصار السنة، والاتجاه الصوفي الأشعري، وكان الصراع على أشده، والشيخ حسن البنا رحمه الله أراد أن يجلب صيغة توائم الاتجاهين وتجمع بينهما، أو لا تنحاز إليهما بالكلية، وحصل اتجاه الإخوان المسلمين كما هو معروف. الشاهد: أن الوضع الذي وصلت إليه الدعوة الآن من حصول وضوح المفاهيم، ومظاهر الصحوة الإسلامية هذه ما أتت من فراغ، بل مرت بفترات طويلة، وأنا أقول هذا حتى لا نجحد فضل السابقين الذين سبقوا إلى هذه الدعوة حتى لو اختلفنا معهم في كثير من القضايا، وينبغي أن نعلم أن دعوة كل جيل لا تنشأ من فراغ، إنما تتأثر بصورة أو بأخرى بمن سبقوه على هذا الطريق، فما ينبغي الجحود بالنسبة لفضل هذه الجماعات، سواءً جماعة أنصار السنة المحمدية، أو جماعة الإخوان المسلمين، حتى لو حصل اختلاف معهم في كثير من الأمور. ثم بعد فترة الستينيات هذه وصل الإسلام في المجتمع إلى غربة شديدة جداً؛ فقد كان لا يرى في المجتمع شخص ملتح إلا القسيس، وكان الإخوة حينما يمشون في الشوارع باللحية كان الأطفال يضربونهم بالحجارة، وينشدون أناشيد معينة يحفظونها يشتمون بها القساوسة، لماذا؟ لأنه يعرف أن القسيس هو الملتحي، وما يعرف أن المسلم يجب أن يكون ملتحياً. فهذه كانت الغربة، كانت المساجد لا يرى فيها إلا كبار السن، أما الشباب الذي هو عصب الدعوة، والذي يرجى من ورائه العمل للإسلام فلا يرى له أي اتجاه إلى الدعوة الإسلامية، بل بعض الناس كان يخاف من الذهاب لصلاة الفجر حتى لا يقبض عليه، أو حتى صلاة الجماعة، ولعل بعضكم عاصر هذه الفترة، ورأى ولمس قوة الصراع الذي كان يحدث داخل الأسر بمجرد أن يلتحي أو يصلي في المسجد. ثم بفضل الله تبارك وتعالى، وبفضل النشاط الدعوي، حصل أن هذه الغربة زالت إلى حد ما في مجتمعنا اليوم. الشاهد من هذا الكلام أننا لا ينبغي أن ننظر إلى الدرجة العليا من السلم، أو التي وصلنا إليها، لكن ننظر أيضاً إلى أن هناك خطوات سبقت، وبناءً على هذه الخطوات وصلت الدعوة إلى ما وصلت إليه، فبتر النضوج الفكري عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تماماً عمن سبقه، لا نحسب أنه من الإنصاف بصورة أو بأخرى؛ فلئن كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله إماماً مجدداً؛ لكن هل عمر بن عبد العزيز نشأ من فراغ، أم أن هناك بيئة صنعته؟ هناك من تعلم عليهم عمر بن عبد العزيز، هناك من أدبه، هناك من رباه، هناك من صنعه بعد عناية الله تبارك وتعالى به، أي إمام مجدد مثل الإمام الشافعي، أو شيخ الإسلام ابن تيمية لا ينبغي أن ننكر أثر البيئة التي خرج منها هذا المجدد، أو هذا العالم، أو هذا الإمام. هذه كلمة عابرة قبل أن نستطرد في ذكر أهم الجوانب التجديدية في دعوة الأستاذ سيد قطب رحمه الله.

أهم الجوانب التجديدية في دعوة سيد قطب

أهم الجوانب التجديدية في دعوة سيد قطب فبالنسبة لهذه الذاتية التي أكد عليها الأستاذ سيد رحمه الله بلا شك في هذه المرحلة، كانت فعلاً شيئاً جديداً وشيئاً تجديدياً.

رفض الفكر الانهزامي المتراجع أمام شبهات الغرب

رفض الفكر الانهزامي المتراجع أمام شبهات الغرب أنا حاولت أن أقرأ في مجلة المنار كنوع من المطالعة لهذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية، فشعرت أني سوف أغزى فكرياً، والإنسان يخشى على قلبه، فما تكاد تجد مقالة في أغلب المقالات التي تتحدث عن أوروبا إلا وفيها نوع من التعظيم الغير عادي، نعم عندكم كذا والإسلام فيه كذا، عندكم كذا من الميزات ونحن أيضاً عندنا كذا. هذا يمكن أن يحصل لكن بصورة فيها نوع من الانهزامية أمام الغرب لا نستطيع أن ننكرها بين السطور، فهذه الروح حصلت في فترة من الفترات، وربما من طالع بعض كتابات العقاد مثلاً في وقت من الأوقات، رأى أنها رد فعل بهذه الروح، أو هي صورة من صور هذا الانهزام، مثلاً لما يكتب: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، وغيرها من كتبه، وكأنه في صورة الدفاع عن الإسلام، والغرب عندما يطعن في حكم معين من أحكام الإسلام، أو قضية من قضايا الإسلام، هم يقبلون مبدأ أن هذه تهمة، وبالتالي يقرون مبدأ أن الإسلام الآن موضوع داخل قفص الاتهام، وهم المحامون الذين يدافعون عنه حتى يعطوه البراءة؛ فهذا المبدأ في حد ذاته هو صورة من صور الانهزام. مثلاً قضية تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمستشرقون خبثاء، كانوا يلقون هذه الشبهات حتى ينشغل المسلمون بالرد، ويبتروا من الإسلام هذه المفاهيم رويداً رويداً، فمسألة وضع الدين الإسلامي أو الحقائق الإسلامية في صورة أنه يحاكم، فهذا قبول بأن الإسلام متهم، وهي من حيث المبدأ ليست تهمة، وهذا يصلح إذا كنا نقارن بين شرائع وأديان أرضية صنعها البشر قارن بين اشتراكية وشيوعية، لكن لا تقارن بين الإسلام وبين هذه المذاهب الأرضية؛ لأن الإسلام هو دين الله الحق، والأرض هي مملكة الله، والآمر هو الله، والذي أنزل القرآن هو الله، فيتبين أن ينطلق المسلمون من هذا الحكم. حينما تأتي مثلاً مواثيق حقوق الإنسان التي يقدسونها في الغرب، ويهولون من شأنها، وتنص على أن من حقوق الإنسان أن يتحرك في الأرض كلها حيثما شاء لا يمنعه مانع، ونأتي مثلاً لحكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل المسجد الحرام مشرك: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فهذا حكم الله، ولا ينبغي أن يكون للبشر فيه أي تبديل، ولا أي تغيير، فلا يمكن كافر من دخول هذه الأماكن. هذا حكم الله عز وجل في أرضه. لذلك مما يستحسن من عبارات الشيخ أحمد ديدات حفظه الله حينما كان يناقش ذلك القسيس الشيطان، وذكر هذه المسألة، قال: أنا أريد أن أدخل مكة؛ فأنت أتيت إلى بلادنا، وجعلناك تعطي محاضرة، وما منعكم أحد من ذلك، لماذا لا تجعلني أنا أدخل إلى مكة والمدينة؟ فرد عليه فقال: أنا حينما أردت أن آتي إلى بلادكم ما أتيت مباشرة، أنا أتيت إلى القنصلية أو السفارة، وحصلت على تأشيرة الدخول حتى أدخل، فاحترمت نظمكم، أنت كذلك إذا أردت أن تدخل مكة أو المدينة هناك تأشيرة لا بد أن تأتي بها حتى تدخل مكة والمدينة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام. لقد كان هذا شيئاً فذاً وجديداً، إن الكلام على الإسلام يجب أن يكون بهذه الاستقلالية، ورفض منطق الخضوع والانهزام أمام الغرب، ورفض مبدأ وضع الإسلام في قفص الاتهام حتى يأتي هؤلاء المفكرون ليحاموا وليدافعوا عنه في ذل وخنوع واستسلام. ومن الأمثلة على ذلك: أن معظم كبار الدعاة والكتاب، كانوا يدافعون عن الإسلام بأسلوب فيه كثير من الضعف، فإذا راجت بضاعة الديمقراطية بين الناس، راحوا يتحدثون عن ديمقراطية الإسلام، سمعت أحد الخطباء مرة يتكلم على أن الإسلام هو دين الحريات، ودين الديمقراطية، وأن من مظاهر هذه الديمقراطية وهذه الحرية: أن الله أعطى إبليس حرية الأخذ والرد في حواره مع الله تبارك وتعالى، قال لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، أخذه من منطلق الحرية والديمقراطية، هذا أيضاً من الانهزام أمام هذه الأفكار الوافدة. يقول: وإذا فتنت شعوبنا بالاشتراكية، وإذا أطنب المفكرون في الحديث عن الحضارة كتبوا المقالات، بل والمؤلفات في التعريف بحضارة الإسلام، لقد كان الإسلام عند هؤلاء الكتاب اشتراكياً وقومياً وديمقراطياً تقدمياً، أما الأستاذ سيد رحمه الله فقد رفض هذه الأساليب وحذر منها! وفعلاً تأملوا كلامه فهو كلام عظيم جداً، وربما كان للأستاذ محمد مبارك رحمه الله تعالى كلام طيب جداً مثل هذا أيضاً في رسالة له تسمى: ذاتية الإسلام، يقول الأستاذ سيد رحمه الله: وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام في ثقة وقوة، في عطف كذلك ورحمة، ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق، وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى، لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً، ولن نربص على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة، سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة، هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس، والله يريد أن يطهركم، هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن يطيبكم، هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم، هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم، والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها. ويقول أيضاً رحمه الله: هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام؛ لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة، سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم أم في أي مكان خاطب الناس فيه، نظر إليهم من عل لأن هذه هي الحقيقة، لأنه أعلى من كل شيء، الإسلام يعلو ولا يعلى؛ لأن هذه هي الحقيقة، وخاطبهم بلغة الحب والعطف؛ لأنها حقيقة كذلك في طبيعته، وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد؛ لأن هذه هي طريقته، ولم يقل لهم: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة، أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها، كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام، مرة تحت عنوان: ديمقراطية الإسلام، ومرة تحت عنوان: اشتراكية الإسلام، ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة، إلى آخر هذا التدسس الناعم، والتربيد على الشهوات. انتهى كلامه رحمه الله. تأثر شباب الجيل بأسلوب سيد رحمه الله، فأعرضوا عن الأساليب السابقة الضعيفة، لاسيما وأنه رحمه الله أشبع هذا الموضوع بحثاً في مؤلفاته وتفسيره القيم: في ظلال القرآن، الذين عاشوا تلك المرحلة يدركون ما هو الجديد الذي جاء به صاحب الظلال، هذه حقيقة ليس فيها شك. ومن عاش في هذه المرحلة يدرك الفرق بين اللهجة التي كانت سائدة في عالم الفكر في ذلك الوقت، وبين هذه اللهجة الجديدة التي أتى بها الأستاذ سيد رحمه الله، وهو هنا في الحقيقة يرد على واحد من قيادات الإخوان الكبار في سوريا، وهو صاحب كتاب: اشتراكية الإسلام. هذا بالنسبة للجانب الأول من الجوانب التجديدية في دعوته رحمه الله.

شرح معاني لا إله إلا الله وربطها بالحاكمية

شرح معاني لا إله إلا الله وربطها بالحاكمية أنبه قبل قراءة كلامه أنه قد يكون هناك تحفظ على بعض العبارات ونحن نتلوها، وسوف ننبه عليها فيما بعد حينما نكمل الدراسة إن شاء الله. يقول: وأهم مسألة استحوذت على الأستاذ سيد رحمه الله في بداية السجن وحتى لقي وجه ربه، تفسير معاني ومدلولات لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقد كان يرى أن جهل المسلمين بمعاني الشهادتين هو سبب هذا الضياع والفساد الذي يلف العالم الإسلامي، كما كان يرى أن مهمة أنبياء الله الذين اختارهم الله وأرسلهم للعباد شرح معاني لا إله إلا الله، وذكر في الظلال أدلة كثيرة على ذلك من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شك أن هناك نقطة اتفاق بارزة جداً بين الاتجاه السلفي وبين اتجاه الأستاذ سيد قطب رحمه الله، هذه النقطة هي إبراز أهمية العقيدة، وإبراز أن تغيير العقيدة هو أصل التغيير في الحقيقة، يعني: بعض الناس قد يأخذ على من يهتمون بأمر العقيدة، وترسيخ هذه العقيدة في عقول الناس، أنهم يركزون على أن التغيير لا بد أن يكون بصورة معينة مثلاً، كالانقلابات أو نحو هذه الأشياء، فلا يرون التغيير إلا هذا، ولا يلتفتون إلى تغيير العقيدة، وتغيير مفاهيم الناس فيما يتعلق بالعقيدة الذي هو في حد ذاته تغيير لا ينكر أثره العظيم، بل هو أعظم من أي تغيير آخر، فتغيير العقيدة في حد ذاته إلى التصحيح والتقوية والترسيخ هو تغيير ميسور في كل الظروف، وفي كل الأحوال بخلاف غيره. وكان يرى رحمه الله أن المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله، هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي، كما تتمثل في الشعائر التعبدية، كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء، ومن الأدلة على شدة اهتمامه رحمه الله بالركن الأول من أركان الإسلام، قوله في طبيعة المنهج القرآني في كتاب المعالم، وفي مقدمة سورة الأنعام، يقول رحمه الله: ظل القرآن المكي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة عشر عاماً يتحدث فيها عن قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر، ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى، لقد كان يعالج القضية الأولى والقضية الكبرى والقضية الأساسية في هذا الدين الجديد، قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة. وقال رحمه الله: ومتى استقرت عقيدة لا إله إلا الله في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه لا إله إلا الله. كان رحمه الله يعلم أن هذه المسألة سوف تفجر قلوب الانقلابيين غيظاًَ وحقداً عليه، ولكنه مجدد مجاهد يواجه الناس بمشكلاتهم، ويضع الحلول لها، ولا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى، وراجع نهاية كتابه: معالم في الطريق، فصل: هذا هو الطريق، هذه نهاية الكتاب، وكانت هي نهاية حياته رحمه الله. وهي من أروع ما كتبه، من أروع التصوير لقصة أصحاب الأخدود. وراجع نهاية كتابه: معالم في الطريق، فصل: هذا هو الطريق، لتراه كأنه يتحدث عن إعدامه على أيدي العسكريين من خلال حديثه عن أصحاب الأخدود.

الوعي السياسي ونضوج الخبرة

الوعي السياسي ونضوج الخبرة كان للأستاذ سيد رحمه الله اهتمامات سياسية وهو لا يزال طالباً في المرحلة الابتدائية، وحدثنا في الابتدائية عن القصائد التي كان ينظمها، والخطب التي كان يكتبها داعياً فيها إلى تأييد ثورة ألف وتسعمائة وتسعة عشر، وازدادت اهتماماته السياسية بعد انتقاله للقاهرة عندما كان تلميذاً للعقاد، الذي ارتبط أدبه بالسياسة، وخاض معارك ضارية ضد بعض الأحزاب، وكان سيد رحمه الله ساعده الأيمن في هذه المعارك الأدبية منها والسياسية. ومن تجاربه الغنية في هذا الميدان: رحلة أمريكا، وما شاهده فيها من تناقضات ومن مواقف حاقدة ضد الإسلام والمسلمين، والمرحلة التي سبقت دخوله السجن، أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين، وهو تاريخ عودته من الولايات المتحدة حتى عام ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين، هذه الفترة وحدها كافية لتكوين نضوج سياسي عنده، ومن الكتب الإسلامية السياسية التي أصدرها في هذه المرحلة: معركة الإسلام والرأسمالية، السلام العالمي والإسلام، دراسات إسلامية. يقول رحمه الله في معالم في الطريق، في فصل التصور الإسلامي والثقافة: إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه وما هو من هواياته، ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره. الحقيقة ونحن نتلو هذا الكلام نذكر عبارة عمر رضي الله عنه: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. هو يريد أن يقول: إنني عرفت الجاهلية جيداً، وسبرت أغوارها، وعشت في معمعتها، فلذلك استشعر نعمة الإسلام العظيمة حينما انتقل من هذا الظلام المطبق إلى ذلك النور العظيم الذي هو نور الوحي ونور الإسلام. يقول: إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه وما هو من هواياته، ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره، فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم، وما كان يمكن إلا كذلك، وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره، فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها، وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها كذلك، وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي. إذاً: عاش أربعين سنة رحمة الله يقرأ ما هو من تخصصه وما هو من هواياته، ولم تكن حياته قاصرة على القراءة، بل كانت الخبرة لا تقل أهمية عن القراءة، ولهذا فقد كتب رحمه الله كتابات ناضجة، حول الموضوعات التالية: الصهيونية، الصليبية، الشيوعية، الرأسمالية، الاستبداد والعبودية والذل، الاستعمار وأساليبه، فضائح الحضارة الغربية. هذه أمور انفرد فيها الأستاذ سيد قطب رحمه الله عن غيره من المجددين المعاصرين الذين حرموا هذه الخبرة، وهذا النضوج السياسي، وكانت مواقفه السياسية لا تنفصل عن عقيدته، وحسن فهمه للإسلام، ثم تقول مجلة البيان: هذه أهم الجوانب التجديدية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله.

حكم إطلاق كلمة الشهيد على الأشخاص

حكم إطلاق كلمة الشهيد على الأشخاص نحمد المجلة على التنبيه على شيء لا يحتاط فيه كثير من الناس، وهو أننا نلاحظ الكثير من الناس يعتقد أنك إذا لم تقل: الشهيد سيد قطب، أو الشهيد حسن البنا، أنك تنتقصه، وتنقص من قدره. هذا غير صحيح. لأن المعروف من حيث الأدلة الشرعية أنه لا يجوز الجزم بأن فلاناً شهيد إلا بدليل من الوحي، لكن أنت ترجو له الشهادة، أنت تدعو له بها، لكن لا تجزم أنه شهيد، لماذا؟ ترجم الإمام البخاري لبعض الأحاديث، قال: باب لا يقال فلان شهيد، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (الله أعلم بمن يقتل في سبيله، الله أعلم بمن يكلم - يعني: يجرح- في سبيله)، فأمر الإخبار بحقيقة الخاتمة هذا أمر مغيب علينا، ولا يملك أحد الاطلاع عليه، حتى في حق الكافر، أنت لا تحكم عليه قطعاً بأنه في النار إلا بدليل من الوحي، وهذا نص عليه العلماء في العقيدة السلفية كما في شرح الطحاوية قال: ونرجو للمحسنين من المؤمنين، ونخاف على مسيئيهم، ولا نقطع لأحد بجنة ولا بنار، يعني: إلا بالوحي. والبخاري ذكر باب لا يقال فلان شهيد، وذكر هذا الحديث، واستدل بقصة ذلك الرجل الذي اشترك في الجهاد واسمه قزمان، وأبلى بلاء حسناً، فأتى بعض الناس وأثنى عليه أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما أعظم ما جاهد هذا الرجل، وكان اليوم فعل كذا وكذا، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هو في النار). ففي اليوم التالي لما بدأ القتال، أخذ هذا الصحابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يراقب ذلك الرجل الذي كان يجاهد بشدة وقوة وجلد، إلى أن جرح ذلك الرجل، ثم لما انزعج من هذا الجرح وآلمه بشدة، وضع مقبض السيف على الأرض، وجعل ذبابته بين ثدييه، ثم اتكأ عليه حتى نفذ السيف من ظهره. حينئذ هرع ذلك الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أنك رسول الله، فاستطلع منه النبي عليه الصلاة السلام الخبر، فقال: الرجل الذي قلت بالأمس إنه من أهل النار، حصل منه كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: ما يحصل بعد الموت لا يجوز الجزم والقطع به. وأيضاً مما يستنكر أحياناً: أن بعض الكتاب يقولون: المرحوم فلان، كأنك تجزم أنه رحم، والحق أن تقول: فلان رحمه الله، فعندما تقول: فلان رحمه الله، تثاب على ذلك لدعوتك لأخيك، ثم تنفعه أيضاً بهذه الدعوة إذا استجمعت شروط الإجابة. ختم الباحث في مجلة البيان البحث بقوله: هذه أهم الجوانب التجديدية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وعندما ابتلاه الله بالسجن والتعذيب والتهديد بالقتل صبر على ذلك صبراً شديداً، رغم ما كان يعانيه من أمراض وضعف في جسمه، ولم يتراجع عن مواقفه الإسلامية رغبة أو رهبة، ولهذا فقد تضاعف رواج كتبه بعد تنفيذ حكم الإعدام به، ومما ساعد على انتشارها: عذوبة الأسلوب، وإشراقة الديباجة، ومتانة العبارة، وقوة الحجة، وحضور البديهة. يقول: وقل أن تجد داعية وليس في مكتبته كتاب من كتب سيد قطب، وفضلاً عن ذلك فقد ترجمت هذه الكتب إلى معظم لغات العالم. رحم الله الأستاذ سيد قطب رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل خير.

الإيمان والكفر [22]

الإيمان والكفر [22] إن الحكم على رجال الفكر والأدب العظام وعلى إنتاجهم من أمثال سيد قطب، لا يكون إلا ممن هو أهل لهذا، فلا يُترك الحبل على الغارب لكل من يملي عليه هواه شيئاً، أو لمن نظر نظرة قاصرة إلى الرجل سواء كانت ثمرتها سلباً أو إيجاباً، وسيد قطب رحمه الله كغيره يؤخذ من قوله ويترك.

قضايا اختلف فيها سيد قطب مع منهج أهل السنة

قضايا اختلف فيها سيد قطب مع منهج أهل السنة تحدثنا في السابق حول ترجمة عابرة مختصرة للأستاذ سيد قطب رحمه الله، وبينا مبدأً مهماً ألا وهو: أنه ينبغي أن نفرق دائماً بين الحق وبين الرجل؛ لأن الحق في كل وقت هو حق، أما الرجل فغير معصوم، فقد يكون معه الحق، وقد يكون بخلاف ذلك بصفته البشرية.

جواز وقوع الخطأ من أي شخص غير معصوم

جواز وقوع الخطأ من أي شخص غير معصوم والآن نأتي إلى النقطة التي تمس الموضوع الذي نتحدث فيه منذ زمن بطريقة مباشرة وهي: أثر كتابات الأستاذ سيد قطب رحمه الله في فكر التكفير، أو ما يسمى بفكر جماعات التكفير الموجودة الآن، أو التي وجدت متأثرة في ذلك ببعض كتاباته. بداية نقول: إن المرء لا يستطيع أن يخفي إعجابه بمواقف الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وبالذات صموده أمام الطغيان حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ولا يستطيع أحد أن ينكر فضله في تزويد الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، فما من شك أنه أمدها وزودها بالوعي الذي هو وقود هذه الحركة، وأيضاً بمزيد من الاستقلالية والاستعلاء على الباطل، وتحدي هذا الباطل، حتى أدى ذلك إلى أنه دفع حياته ثمناً لعقيدته التي كان يعيش لأجلها، واعترافنا بهذه الفضائل وغيرها لا يعني أنه ليس هناك نقاط اختلاف، وبصراحة أكثر هناك نقاط خلاف جوهرية، وليست جزئية ولا فرعية، وتحفظات في كثير من مواقفه رحمه الله وكتاباته، وأعلم أن كثيراً من الناس يصعب عليهم أن يجدوا الشخصية التي يحبونها ويعجبون بها يؤخذ عليها شيء أو تنتقد، ولكن إن أخطأ سيد قطب رحمه الله فقد أخطأ من هو أجل منه؛ ابتداءً من الرجل الثاني في الإسلام وهو أبو بكر رضي الله عنه، إلى باقي الخلفاء الراشدين، إلى علماء الأمة وفطاحل الجهابذة في كل العصور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. فلا نستطيع أن ننكر أن هناك بعض كتابات وبعض أفكار مهما حاول كثير من الناس أن يسوغوا أو يدافعوا أو يوردوا التبريرات لبعض هذه الكتابات، لكن في الحقيقة -شئنا أم أبينا- إن احتمل بعض هذه الكتابات التأويل في موضع، فهناك مواضع لا تحتمل التأويل، وهناك مواضع كان الكلام فيها بخلاف الحق والله تعالى أعلم. لكن ننبه على أننا في أثناء الكلام قد نورد بعض العبارات مع التزام دقة النقل، فننقل العبارات بكاملها وبنصها، وفي بعض العبارات سنجد بعض الكتاب يترخص في استعمال كلمة (شهيد)، وقد أشرنا من قبل أنه لا يجوز القطع لأحد بالشهادة حتى لو قتل في سبيل الله، لكن ندعو له بالشهادة، ونرجو له الشهادة، لكن لا يجوز القطع بأن فلاناً في الجنة، أو فلاناً فعلاً قد قتل شهيداً إلا بنص من الوحي، فهذا يكون لمن شهد له الوحي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما ما بعد ذلك فندعو له بالشهادة؛ لأن الخاتمة مغيبة، فإذا قرأنا بعض عبارات بعض المفكرين الذين يترخصون في استعمال هذه الكلمة فلا نحتاج باستمرار أن نستدرك، لكن سنقرؤها ونمر عليها بعد أن نبهنا على هذه العبارة. مثال آخر: حينما قرأنا في الدرس الماضي عبارات مجلة البيان حول الملامح التجديدية في فكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، أشرنا إلى أن مجلة البيان أغفلت بعض الجوانب التي هي موضع نظر موضوعي وليس مجرد كلام سطحي أو يسير، وكان ينبغي -حتى يتم البحث من جميع جوانبه- أن تتكلم عن السلبيات أو الأخطاء التي يمكن أن يزل بها بعض الشباب المسلم بعيداً عن منهج أهل السنة والجماعة الذي تدعو إليه المجلة، فركزت المجلة على الملامح التجديدية لفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وكان ينبغي أن تفعل ما فعلت -مثلاً- مع الأستاذ محمد رشيد رضا وغيره من أصحاب المدرسة الإصلاحية حينما ذكرت بعض المحاسن، وأفاضت في ذكر بعض التعقبات تحذيراً ونصيحة للمسلمين. وربما يخالف بعض الناس -مثلاً- في أن يوصف الشيخ سيد قطب رحمه الله بالمجدد، انطلاقاً من أنه خالف منهج أهل السنة والجماعة في بعض الجزئيات أو بعض الأشياء الأساسية، وهذه أيضاً قد لا تكون موضع اتفاق، وربما بعض الناس يدافع عن بعض اجتهادات الأستاذ سيد رحمه الله بالذات في الأمور العقائدية التي تمس قضايا الكفر والإيمان، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وهذا الحديث مما يشيع الاستدلال به في مثل هذا المقام، وننبه إلى أن المقصود: الاجتهاد ممن هو أهل للاجتهاد، ومن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وبالتالي قد يخالف بعض الناس في تحقق شروط الاجتهاد في الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وربما بعضهم يعتذر للظروف النفسية التي ألفت فيها هذه الكتب، وربما اعتذر بعضهم أيضاً بأن الفترة العظمى أو الأولى من حياة الأستاذ سيد رحمه الله كان فيها أديباً مرموقاً، وطبيعة الأديب أن يسترسل في الأفكار والمعاني، ولا يشترط أن يكون منضبطاً تماماً بكل القواعد التي تشده إلى القواعد والأصول العلمية والفقهية. على كل فإن جميع هذه الأعذار سواء كانت من المتمسكين بفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله أو المخالفين له، هذه الخيوط كلها تجتمع في خيط واحد في النهاية هو: أنهم جميعاً يخالفونه في قضايا وليست قضايا مظهرية، لكنها قضايا جوهرية، وأنهم لا يقرونه مع اختلافهم في هذه التسويغات والتبريرات. وفي الحقيقة هذه القضايا نحتاج أن نأتي عليها منذ البداية، ونفصل في الكلام فيها، وبالذات حينما ننسب الكلام إلى أناس ليسوا نكرات في الواقع الذي نعيشه، لكنهم أناس لهم وضعهم ووزنهم في مجال الدعوة الإسلامية، فممن تناولوا أفكار الأستاذ سيد قطب رحمه الله بالنقد أناس من فطاحل الجماعة التي كان ينتسب إليها في الفترة الأولى، وهي جماعة الإخوان المسلمين، وأشهرهم الأستاذ سالم البهنساوي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور جعفر شيخ إدريس، والأستاذ يوسف العظم، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور عبد الحليم عويس، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، بل أشرنا من قبل إلى حصول مواجهة فكرية صريحة وصارمة من قادة الإخوان ممثلة في الأستاذ الحسن الهضيبي رحمه الله وابنه الأستاذ مأمون الهضيبي، فهؤلاء جميعاً تناولوا هذه الأفكار بالنقد، فلا حرج علينا في أن نتناوله أيضاً في ضمن هذه الدراسة حول قضايا الكفر والإيمان، ونعتمد على ما قالوه في هذه القضايا.

حكم سيد قطب على المجتمع الذي يعيش فيه

حكم سيد قطب على المجتمع الذي يعيش فيه أبرز هذه القضايا هي القضية التي تتعلق بالحكم على المجتمع الذي نعيش فيه، فالأستاذ سيد قطب له عبارات صريحة تشير إلى أن هذا المجتمع مجتمع جاهلي، وهو حينما ذكر أمثلة للمجتمع الجاهلي -سواء المجتمعات الوثنية أو المجتمعات اليهودية أو النصرانية- ذكر أنواعاً كثيرة، ثم قال: وبما فيها المجتمع الذي يدعي أنه مجتمع مسلم ولا تتوفر فيه شروط ومواصفات المجتمع المسلم. أيضاً: حكمه بانقطاع المجتمع المسلم؛ فمنذ قرون وحتى اليوم يرى أنه لم يتواجد على الإطلاق مجتمع مسلم، وانقطع وجوده منذ قرون بعيدة. أيضاً: هناك تفريعات على هذا الموقف منها، مثلاً: أن المساجد الموجودة الآن في بلاد المسلمين أطلق عليها الأستاذ سيد قطب عبارة: معابد الجاهلية، وهذه الكلمة تقفّ لها الشعور في الحقيقة، والدعوة إلى اعتزال معابد الجاهلية في ظروف معينة، فربما هو لم يقصد ما حصل من تصرف بعض الشباب الذين قرءوا هذه الكتب وصدقوها، ففي الحقيقة أنه أخطأ كثير من الشباب في فهم هذا الكلام وتطبيقه، وبوحي من هذا الكلام حصلت كثير من الانحرافات التي أطلق عليها في النهاية التطرف، وهي جديرة بأن توصف بالتطرف لانحرافها عن الوسط، وهو موقف عقيدة أهل السنة والجماعة. أيضاً: موضوع العزلة الشعورية وما يتفرع عنه، ومواقف أخرى للأستاذ سيد رحمه الله من الفقه، وموقفه من السنة، وما تعكسه كتاباته في هذه القضايا.

دراسة لكتب سيد قطب وإنتاجه الفكري

دراسة لكتب سيد قطب وإنتاجه الفكري حصل منذ سنوات قليلة ندوة في بعض دول الخليج تسمى: ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، فيها فوائد عظيمة جداً، وكان من الموضوعات التي طرحت للبحث في هذه الندوة، بحث قدمه الدكتور جعفر شيخ إدريس، وهو من علماء السودان ومن مشاهير جماعة الإخوان المسلمين المعتدلين نسبياً في السودان، وخطه غير خط الترابي، وكان عنوان البحث: قضية المنهج عند سيد قطب في (معالم في الطريق)، وذكر العلماء الذين ذكرنا أسماءهم وبعض الانتقادات والمناقشات حول هذا البحث، وسنحاول أن نلخصها ونستفيد منها خلال هذا العرض، لكن سنبدأ بتعليق واحد ممن كانوا قريبين جداً من الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وممن عاشره عن قرب، وخبر وسبر منهجه، بل وألفه في ترجمة حياته وهو ممن يتحمسون له جداً، وهو الأستاذ يوسف العظم حفظه الله، حتى نرى كيف أن هذا الاقتراب وهذا الإعجاب الشديد بشخصية الأستاذ سيد قطب رحمه الله لم يحل بينه وبين ألا يعمى عن رؤية الحق ومحاكمة فكر الأستاذ سيد قطب بمقاييس أهل السنة والجماعة.

رؤية يوسف العظم لمؤلفات سيد قطب

رؤية يوسف العظم لمؤلفات سيد قطب يقول الأستاذ يوسف العظم: لقد مرت كتب الأستاذ السيد أو عطاؤه الفكري أو القلمي في ثلاث مراحل: أولاً: الكتب الفنية فيما يتعلق بالتصوير الفني ومشاهد يوم القيامة. ثانياً: كتب الانفعال والحماسة في الإسلام، ومنها: معركة الإسلام والرأسمالية، ومنها: كتاب السلام العالمي والإسلام. ثالثاً: كتب المنهج والتي في قمتها المعالم والظلال والخصائص وهذا الدين، ولذلك فعند دراسة كتب سيد قطب وإنتاجه لابد من وضوح هذه المراحل لمعرفة كل مرحلة. يقول: وأرى أنه من الضروري أن يراجع المفكرون المسلمون فكر الشهيد سيد قطب حتى ينال من التقدير ما يستحق، وليس من المفيد أن نقيم حول فكره سياجاً من التهديد فلا يمس، وحالة من الرهبة حول آرائه فلا تناقش، وقد قلت في كتاب: (الشهيد سيد قطب قائد الفكر الإسلامي المعاصر، حياته ومدرسته وآثاره)، وكان ذلك عام (1393هـ) الموافق عام (1973م) قلت في كتابي ذاك: نحن نقدر الرجال ولا نقدسهم، ومن تقديرنا لهم: أن نضعهم حيث يفرض الحق أن يوضعوا، وحيث يحب المنصفون؛ لأننا نعاملهم بلا قداسة ولا عصمة ولا تنزيل. وأختصر المقولة لضيق الوقت فأنقل ما قاله الإمام مالك وهي كلمة أخذها مجاهد عن ابن عباس، وأخذها عنهما الإمام مالك، كما قال السبكي في الفتاوي (1/ 149) ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ونرى أن الخلاف حول فكر سيد قطب سببه أمران: الأول: هو الفهم غير السليم لما يقوله سيد قطب حول معاني الاستعلاء أو العزلة الشعورية، وهو أمر لم يقصده الشهيد كما يمارسه بعض الشباب اليوم؛ إذ لا يكتفون بالاستعلاء على قيم الغرب كما دعا له الشهيد، وإنما يستعلون على الناس من بني قومهم ومجتمعهم وأهلهم. والثاني: الأخطاء التي وقع فيها الشهيد وهو يقدم تراثه الرائع وعطاءه المبرور، حيث دعا إلى اعتزال معابد الجاهلية، وعنى بذلك مساجد اليوم، وفي حديثه عن دار الحرب ودار الإسلام كان متطرفاً إلى حد أنه لم يترك للمسلمين بقعة من الأرض يتحركون فيها ويعملون، ومن هنا فإني أرى -وهذا اقتراح أقدمه-: أن يعمل فريق من علماء المسلمين المقدرين لفضل الفكر المؤمن المحبين للحق على إقامة حلقة أو لجنة لدراسة فكر الشهيد وتهميشه في كتابيه: المعالم والظلال. ثم قال: والشهيد كما هو معروف رجاع إلى الحق في أكثر من موقف عندما روجع في أكثر من موضوع، غير أني لقيت في مقابل اقتراحي هذا الذي قدمته في كتابي الذي أشرت إليه منذ أكثر من عشر سنوات -أقول:- لقيت استهجاناً من البعض، ورفضاً لأن يستجيب أحد لمراجعة فكر الشهيد وتبصير الشباب بجانب الخطأ فيه وجوانب الصواب الكثيرة، إلا أن هذا الذي أشرت إليه لا يمكن بحال أن يقودنا إلى إنكار ما قدمه الشهيد سيد قطب من فكر وعطاء وجهد مبرور في معظم كتبه، ولا يجوز بحال أن يظلم كما ظلم الإمام علي من فريقين من الناس: فريق من الناس كفروه، وبعض الغلاة ألهوه، لا يجوز أن يظلم الشهيد سيد قطب من أمته: فريق يقدس فكره ولا يقبل الإشارة إلى بعض ما ورد فيه من أخطاء، وفريق يحاول النيل منه؛ فيصوره أنه مجرد أديب وليس مفكراً، والحقيقة أني أعرف جوانب منها، وقد سمعتها على لسان الشهيد، وقد لازمته فترة في مصر، وهي: أنه كان يحيل بعض الإخوة السائلين في مجلسه إلى بعض الإخوة الفقهاء الذين يعرفون من أحكام الشريعة أكثر مما يعرف، فهو ليس فقيهاً يرجع لكل مقال قاله، ولا هو أديب فحسب، بل هو مفكر إسلامي فتح الله عليه، فقدم فكره العميق بأسلوب أدبي مشرق، مع ما لهذا الفكر من إيجابيات عظيمة، وسلبيات لابد للحركة الإسلامية الواعية الأم أن تتداركها، وتشير إليها؛ لئلا يزداد تخبط الشباب، ويكبر الشق أو الصف الإسلامي الواحد. هذا فيما يتعلق بكلام شخص مقرب جداً من الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى.

رؤية يوسف الطبلاوي لأفكار ومنهج سيد قطب

رؤية يوسف الطبلاوي لأفكار ومنهج سيد قطب وهذا تعليق علم من أعلام الإخوان المسلمين وهو الدكتور يوسف الطبلاوي حفظه الله، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فحديثي هو تعليق على بحث الأخ الجليل الدكتور جعفر شيخ إدريس، ومناقشة بعض الحاضرين في الندوة له، وذلك حول ما يتعلق بالشهيد العظيم سيد قطب، وأفكاره وقضية المنهج عنده، خاصة في كتاب المعالم، والحقيقة أن الأمر ليس أمر كتاب المعالم، فما المعالم إلا قبسات من الظلال، فالأصل هو الظلال وليس المعالم، وبعض الناس يقولون: إن الأمر مجرد هامش على كتاب المعالم، ويذكرونه في الحواشي، والأمر ليس تحشية في موضع أو موضعين أو عشرة أو عشرين، أو مئات المواضع؛ هذا فكر يسري في الكتب مسرى العصارة في الأوصال، ومسرى الدم في الجسم، والمسألة ليست كما يقول أخي الأستاذ يوسف العظم: إنها تعليق على بعض الأخطاء، فهذه تقال إذا كان الحديث عن أخطاء جزئية، ولكن المسألة هنا تتعلق باتجاهات، وهذا اتجاه، والرجل صاحب اتجاه وصاحب مدرسة، وهذا الاتجاه يجب أن يقوم، ولا تستطيع أن تهمشه إلا إذا كانت المسألة جزئية، وإنما هو صاحب أفكار متسلسلة مرتبط بعضها ببعض. الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود، وهو له رأيه المتطرف في مسألة بني أمية وعثمان وغيره، ورد عليه الأستاذ محمود شاكر من قديم في مسألة الصحابة (ولا تسبوا أصحابي)، ورأيه في المجتمع الإسلامي على طوال التاريخ، ورأيه في المجتمع الحالي، وأنه لا يوجد على وجه الأرض مجتمع مسلم قط في أي بلد من البلاد، حتى المجتمع الذي يعلن ارتباطه بالإسلام، ويقول: إن المجتمع جاهلي، كنت أظن أن كلمة: (مجتمع جاهلي) تعني -مثلاً- جاهلية التبرج أو تبرج الجاهلية، أو جاهلية الحمية، لا كما يقول الشرك والكفر، وهذا في الظلال في عشرات المواضع، ودعونا نتكلم بصراحة: إن من حق الأجيال المسلمة أن تعرف هذا الأمر على حقيقته، ولقد كنت لا أعرف هذا، كنت قد قرأت سيد قطب القديم، وسيد قطب مراحل: هناك سيد قطب في المرحلة الأولى، وهي مرحلة الأديب الناقد الذي كان ينتمي إلى مدرسة العقاد، وكان مبهوراً ببلاغة القرآن، وظهر هذا في كتب التصوير الفني ومشاهد القيامة في القرآن، ومرحلة سيد قطب المعجب بنظام الإسلام، والداعي إلى عدالته ونظامه، وخير ما يصور هذه (العدالة الاجتماعية)، ومرحلة (السلام العالمي والإسلام)، ومرحلة (معركة الإسلام والرأسمالية)، وفيها كتب عن التاريخ ومنهاج ودراسات إسلامية ومقالات مختلفة، ثم المرحلة الثالثة وهي: المرحلة التي بدأت في السجن، ونقول الآن: إنها كانت لظروف نفسية معينة يعيشها هو ويعيشها المجتمع الإسلامي كله نتيجة لتسلط الطواغيت، وظهور الكفر ووثبة الشيوعيين على أجهزة الإعلام وغير ذلك، في هذا الوقت الذي كان يعذب فيه كل من يدعو إلى الله ويدعو إلى الإسلام، في حين تفتح المجالات للآخرين الذين ينكرون الإسلام جهرة وعلانية، في هذا الوقت كتب سيد قطب كتاباته وهي في الظلال أساساً، فاستخرج منها المعالم، وسيد قطب في هذه الكتب له مرحلة أخرى، ولذلك حكى بعض الناس أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما كتب كتبه القديمة، ولما قال له أحدهم: إذاً: فأنت كـ الشافعي لك مذهبان: جديد وقديم؟ قال: نعم، ولكن الشافعي غير في الفروع وأنا غيرت في الأصول، يعني: أصول التفكير؛ لأنه بدأ يفكر في أن المجتمع غير مسلم، مجتمع جاهلي، والناس غير مسلمين، ولذلك يقول: وإن كان يدَّعون أنفسهم مسلمين، أو يسمون أنفسهم مسلمين، أو ما يسمونه العالم الإسلامي، فمثل هذه التعبيرات موجودة منتشرة في كتبه التي كتبت في تلك المرحلة، وراح الذين تتلمذوا عليه يرددون التعبيرات نفسها. وإني ما كنت أعرف هذا حتى جاءتني رسائل تتكلم عن الموضوع الذي أشار إليه الأخ الأستاذ يوسف العظم، أعني مسألة: معابد الجاهلية، لقد أرسل إلي طلاب يدرسون في القاهرة من اليمن وغيرها عما جاء في الظلال في سورة يونس: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87]، والتي انطلق منها الشهيد قائلاً: اعتزلوا معابد الجاهلية، واعكفوا على أنفسكم، وأخذ منها هؤلاء: أن المساجد التي تتبع السلطات الجاهلية، ويشرف عليها موظفون؛ إنما هي بيوت للشرك، ولقد اضطررت أن أرد على هذا الكلام، وذلك من سنين طويلة، ولكن القضية كلها تتفرع من قضية: هل الناس الذين من حولنا مسلمون أم لا؟ هذه هي القضية الأساسية التي ينبغي الوقوف عندها، إن الأخ الدكتور جعفر وقف في مسائل يمكن أن تؤول، مثل: مسألة جيل الصحابة، يعني: هل ممكن أن جيل الصحابة يتكرر أم لا؟ فهذا أمر يمكن أن نقول فيه: إنه يمكن أن يوجد مثل جيل الصحابة أو قريب منه، وفي هذه القضية حكي الخلاف فيها بين ابن عبد البر والجمهور في: هل يمكن أن يكون بعض الناس في عصرنا هذا أو ما بعد عصرنا مثل الصحابة أو لا؟ وهل تفضيل قرن الصحابة تفضيل للمجموع أو تفضيل للجميع؟ فـ ابن عبد البر يقول: يمكن أن يأتي بعض الناس في عصر متأخر مثل الصحابة أو مثل بعض الصحابة، واستثنى المبشرين بالجنة والسابقين الأولين وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وقال: يمكن بعد ذلك أن يأتي ناس أفضل من بعض الصحابة، فهذه قضية معروفة من القديم، والمشكلة هي: أن قضية المجتمع الجاهلي وما يترتب عليها إنما يجب أن نعرض على الناس العقيدة، ولا نعرض أسس النظام الإسلامي، فهم لم يسلموا، فكيف تعرض عليهم أسس النظام وتفصيلاته؟ فالعقيدة أولاً: يجب أن يفهموا لا إله إلا الله بمعنى الحاكمية. هذا ما يدعو إليه، ولذلك كما قال أخونا الدكتور وهبة الزحيلي: كيف يمكن فعلاً الاجتهاد لوضع حلول لمشكلات عصرية للاقتصاد الإسلامي مثل التأمين والبنوك وغير ذلك؟ المقصود: أن الأستاذ سيد قطب رحمه الله كان له موقف معين من الاشتغال بالفقه أو بأمور العصر غير مفهوم الحاكمية، وتقديم العقيدة من جديد للناس، هو كان يرى أن من خاطب الناس بالحجاب بالحلال والحرام بهذه القضايا الفقهية كان يرى أن هذا مثل من يستنبت البذور في الهواء، كيف تخاطب مجتمعاً أصلاً ليس هو في حالة تحاكم إلى الإسلام أو لـ (لا إله إلا الله). وتقول لهم: حجبوا النساء، أقيموا حدود الله في كذا أو في كذا، وهو أصلاً لم يمتثل هذه العقيدة أو لم يفهمها؟ فهذه نقطة من النقاط الخطيرة جداً في فكره، وسوف يأتي كلام فيها بالتفصيل، وسيأتي نقاش العلماء لهذه النقطة أيضاً. أيضاً: الحديث عن الفقهاء واستنبات البذور في الهواء، فقد كان ينكر على الفقهاء الذين يتكلمون في قضايا الفروع العملية، ويصف أن هذا استنبات للبذور في الهواء، فيقول: ينبغي للزهور أن توضع في التربة، والتربة لابد أن تكون هي الأصل. يشير بذلك إلى المجتمع الذي تشرب بالعقيدة وقبلها، وذكر هذا بتطويل أكثر في حوالي عشرين صفحة في الظلال، وفي كتاب: الإسلام ومشكلات الحضارة، وأعلن أن الذين ينادون بتجديد الفقه الإسلامي، وتطوير الفقه الإسلامي هؤلاء الناس الطيبون السذج، الذين يريدون أن يجتهدوا لمجتمع لم يوجد بعد، وحينما يولد المجتمع الإسلامي يمكن أن نجتهد له، وقيل: إن الذين يستفتون في أمور الإسلام كلهم هازلون، والذين يجيبونهم هازلون، وليس من الواقعي وليس من الإيجابية في شيء أن نستفتي الإسلام ونحن نخرج لساننا له.

رؤية القرضاوي لمنهج سيد قطب

رؤية القرضاوي لمنهج سيد قطب يقول الدكتور القرضاوي: وهذا في الحقيقة تجميد وتغيير، فهناك ناس كثيرون يستفتون ويريدون أن يعرفوا الحلال من الحرام، فهل كل من سأل في حكم شرعي يسأل وهو يخرج لسانه للإسلام؟! هذا غير واقع في الحقيقة، بالعكس الأصل في الناس والغالب عليهم -ولله الحمد- أنهم حينما يسألون يريدون أن يطبقوا حكم الله سبحانه وتعالى في القضية، فهل إذا انفصلت السياسة أو الدولة أو الحاكمية عن الشريعة واتجه وانحرف المجتمع إلى العلمانية، هل معنى ذلك: أن نأتي نحن بفأس ونحطم أيضاً البقايا الموجودة في مواقف أخرى في المجتمع أو في قاعدة المسلمين العريضة؟! نحطم ونقول: ناس كفار ليس لهم علاقة بالإسلام والاشتغال بالفقه وبالحلال والحرام، والناس تخرج لسانها للإسلام، ثم تقول: ما حكم الإسلام في كذا؟ كلا. هذا ليس واقع الناس، ليس كل من يسأل يخرج لسانه للإسلام، ويقصد الاستهزاء أو غير ذلك، إنما تسأل الناس في الحقيقة حتى تحترم دينها، وحتى تطبق ما عجزت عن تطبيقه في المجتمع تطبقه في أنفسها؛ لأن هذا داخل في طاقتها. يقول الدكتور القرضاوي: وهذا في الحقيقة تجميد وتغيير، فهناك ناس كثيرون يستفتون ويريدون أن يعرفوا الحلال من الحرام، يريدون أن يعرفوا البنوك وما بها؟ التأمين ماذا نفعل فيه؟ هل توجد بدائل شرعية؟ لماذا لا نجتهد كما قال الأخ الدكتور عويس؟ لماذا لا نضع حلولاً؟ إن هذا كله مبني على فكرة المركزية: هي فكرة أنه لا يوجد مجتمع مسلم. والدكتور القرضاوي هنا يلمح فقط للقضايا المعاصرة التي جدت، لكن ليس فقط الذي نحتاجه هو القضايا المعاصرة، بل نحن نحتاج إلى مخاطبة الناس في دينهم، فأين المسلم الذي لا يتوضأ أو لا يصلي أو لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يبيع أو لا يشتري؟ أليست الشريعة الإسلامية غطت كل هذه المجالات من الحياة؟ فإذاً: كيف نطالب الناس أن تهجر الكلام في الحلال والحرام بناءً على أنهم غير مسلمين أصلاً، ونقول: إن من الهزل أن نخاطبهم في الحلال والحرام والتعليم إلى آخر ذلك؟! كل مسلم مطالب بأن يتعلم، ويجب أن يتعلم قدراً معيناً يقيم به عبادته. يقول الدكتور القرضاوي: إن هذا كله مبني على فكرة مركزية: هي فكرة أنه لا يوجد مجتمع مسلم، وأن المسلمين الذين يدعون أنفسهم مسلمين هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم موالون للجاهلية الحديثة، ولذلك يجب أن يقوم كل هذا الفكر. إن سيد قطب قدم الكثير للفكر الإسلامي، وقدم بعد ذلك دمه وعنقه في سبيل الله، وهو مجتهد أصاب أم أخطأ، هو مأجور على الاجتهاد ولكنه ليس معصوماً، كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الإنصاف لـ سيد قطب، ومن الإنصاف للفكر الإسلامي، ومن الإنصاف للحركة الإسلامية، ومن الإنصاف للمسلمين، ومن الإنصاف للإسلام نفسه: أن نقوم فكرة سيد قطب الآن، وبعد أن مضت مدة على استشهاده؛ لأن أي كلام قبل ذلك ربما اعتبر كأنه انضمام إلى خصوم سيد قطب، ولكن بعد مضي هذه السنين يمكننا أن نراجع تفكيره وإنتاجه، ونقومه بميزان الكتاب والسنة، وبميزان الأصول التي عندنا، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجزيه خير ما يجزي العاملين المخلصين للإسلام، وأن يغفر لنا جميعاً. وبهذا أنهى الدكتور يوسف القرضاوي كلمته.

مناقشة قضية المنهج عند سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق)

مناقشة قضية المنهج عند سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) نبدأ في عرض البحث الأساسي الذي دار حوله النقاش، وهو بحث الدكتور جعفر شيخ إدريس هو: قضية المنهج عند سيد قطب في (معالم في الطريق).

أهمية المنهج

أهمية المنهج يقول: قضية المنهج من أهم القضايا الفكرية التي واجهتها الحركة الإسلامية المعاصرة؛ لأن علاقة المنهج بالحركة علاقة طبيعية وشيجة، فالذي يريد أن يتحرك حركة عاقلة رشيدة لابد له أن يحدد الغاية التي يريد التحرك نحوها، والطريق التي يسلكها لبلوغ تلك الغاية، ولأنها كذلك من أكثر القضايا التي ينبني عليها العمل، والتي يؤدي الاختلاف فيها من ثم إلى اختلاف بين الجماعات العاملة للإسلام، وإلى انشقاقات داخل الجماعة الواحدة، ولأن الخطأ في فهمها قد يؤدي إلى تطويل الطريق، ويؤدي من ثم إلى دفع أثمان باهضة، وفقد ضحايا غالية، وقد يؤدي إلى الخمول والركود، أو اليأس والقنوط، وقد يؤدي إلى الفشل برغم طول المدة، وكثرة العمل، إلى غير ذلك من النتائج الخطيرة على سير الحركة.

غاية الحركة الإسلامية

غاية الحركة الإسلامية ثم يقول تحت عنوان: غاية الحركة الإسلامية: قلنا: إن الحركة الرشيدة تستدعي تحديداً للغاية، وتحديداً للطريق الموصل إليها، فما غاية الحركة الإسلامية في عصرنا؟ يجيب كثير من الدعاة عن هذا السؤال بقولهم: إن غايتنا مرضاة الله تعالى، وهذا صحيح إذا كان المقصود به أنه الغاية الكبرى والقصوى، لكن هذه غاية يبتغيها كل مسلم سواء كان فرداً منعزلاً في جزيرة أو شعب جبل، أم كان عاملاً في جماعة، وبغض النظر عن الجماعة التي ينتمي إليها، والعصر الذي يعيش فيه، والمكان الذي يوجد فيه، هذه الغاية الكبرى تندرج تحتها غايات هي بمنزلة الوسائل المؤدية إليها، والناس حين ينتظمون في جماعة يكون غرضهم -باعتبارهم جماعة- تحقيق إحدى هذه الغايات الثانوية: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فالمسلمون يسعون كما يسعى الكفار للتمكن في الأرض، لكن غرضهم من التمكن هو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم يفعلون ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. فإذاً: المؤمن قد يسعى لتحقيق الغاية نفسها التي يسعى لتحقيقها الكافر، وقد يعمل العمل نفسه الذي يعمله الكافر أو المنافق، لكن المؤمن يعتبر هذه الغاية الأرضية وسيلة لغاية سماوية أكبر، بينما يعتبرها الكافر غاية نهائية، أو وسيلة لغاية أرضية أخرى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. نعود لسؤالنا مرة أخرى: ما غاية الحركة الإسلامية في عصرنا؟ غايتها: أن تتمكن في الأرض لتجعل الحياة في كل أرض تمكنت فيها موافقة لشرع الله تعالى في تصورات الناس العقائدية، وشعائرهم التعبدية، وعلاقاتهم الاجتماعية، ونظمهم السياسية، وأوضاعهم الاقتصادية، وسياساتهم الدولية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

أهمية كتاب المعالم

أهمية كتاب المعالم ثم يقول تحت عنوان: أهمية كتاب المعالم: كيف تعمل الحركة إلى هذه الغاية؟ هذه هي قضية المنهج الذي نتحدث عنه، والتي هي موضوع كتاب المعالم، ذلك الكتاب الذي لا نعرف في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة كتاباً كان أكثر منه انتشاراً، ولا أقوى تأثيراً، ولا أخطر نتائج، ولا أشد رعباً لأعداء الحركة الإسلامية. ومعروف أن كتاب المعالم هو زبدة وخلاصة الظلال. يقول الدكتور جعفر: وقد انقسم الناس حوله إلى ثلاث فئات: فئة قادحة اعتبرته سحراً أسود، ودعوة للظلم وبرنامجاً للتخريب والإثارة والخروج. وكثرة من الشباب مادحة اعتبرته أملها المفقود، ورائدها المأمول الذي يحدد لها معالم الطريق الذي تسلكه للتمكن في الأرض. وفئة منصفة اعتبرته كالفئة الثانية كتاباً عظيماً لداعية عظيم، وأخذت ما فيه من حق وخير، واستفادت منه كثيراً، لكنها ظلت تذكر أن مؤلفه مع إخلاصه وسعة علمه بشر لم تكتب له العصمة، فأخذت من قوله وتركت. يقول: وعلى منهج هذه الفئة الثالثة نحاول أن نثير الخلاف في هذا البحث القصير، فنؤيد الكاتب فيما أصاب فيه، ونفسر بعض عباراته التفسير الذي نراه صحيحاً ومناسباً، ونستدرك عليه بعض ما يبدو لنا أنه أخطأ فيه، ونستدرك على بعض قرائه بعض ما نراهم أخطئوا فيه، سواء كان لخطئهم هذا ما يسوغه من كلمات الكاتب الشهيد أو لم يكن ذلك؛ وذلك لأن غرضنا هو التعاون على تسديد سير هذه الحركة، حتى تبلغ غايتها، وتؤتي ثمارها بإذن الله تعالى.

ملخص كتاب معالم في الطريق

ملخص كتاب معالم في الطريق والدكتور جعفر في الحقيقة بدأ أولاً يلخص كتاب المعالم في عبارات مركزة، ولأننا نناقش منهج الكتاب فمن الأفضل أيضاً أن نمر على هذا الاختصار والتلخيص. يقول: يستهل الأستاذ سيد قطب كتابه بتقرير أن الحضارة الغربية بشقيها الديمقراطي والرأسمالي والجماعي الشوعي لم تعد صالحة لقيادة البشرية بسبب إفلاسها في عالم القيم، وأنه لابد من قيادة جديدة تملك إبقاء الحضارة المادية وتنميتها، وتزود البشرية بقيم جديدة جدة كاملة، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي، وأن الإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج، ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي أهدافه إلا أن يتمثل في مجتمع، بيد أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ قرون كثيرة، فلابد إذاً من بعث تلك الأمة كي تتسلم القيادة. ويتساءل الكاتب: كيف تبدأ عملية هذا البعث الإسلامي؟ وهذا يقوده إلى قضية المنهج التي نحن بصددها، ولعلنا نستطيع أن نرتب خطوات هذا المنهج من شتى فصول الكتاب في الآتي: أول خطوة في طريق بعث الأمة الإسلامية هي: وجود طليعة تعزم على تسلم القيادة، الأفراد الممثلون لهذه الطليعة الذين انسلخوا عن المجتمع الجاهلي، والذين خلصت ضمائرهم من العبودية لغير الله يكونون جماعة مسلمة هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم، لابد لهذه الطليعة من معالم في الطريق تعرف منها طبيعة عملها، وحقيقة وظيفتها، وطلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة، كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً، أين تلتقي مع الناس؟ وأين تختبئ؟ ما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام، وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف أين تتلقى في هذا كله؟ وكيف تتلقاه؟ هذه المعالم لابد أن تستقى من المصدر الأول لهذه العقيدة: القرآن، و (معالم في الطريق) كتب للوفاء بهذا الغرض، وهو موجه لتلك الطليعة المرجوة المرتقبة، ولكي تؤدي هذه الجماعة رسالتها وتتسلم قيادة البشرية عليها أن تكون كجيل الصحابة، ذلك الجيل القرآني الفريد؛ لأن القرآن والسنة اللذين خرجا ذلك الجيل ما زالا بين أيدينا، وغيبة شخصه صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار جيل الصحابة، ولكي تكون هذه الطليعة كذلك الجيل عليها أن تسلك المنهج الذي تخرج عليه، وهو يتمثل في أن تستقي من القرآن وحده، ولا تخلطه بمنابع أخرى، وأن تتلقى منه لتنفذ لا لتستمع أو تتثقف، وأن تعتزل الجاهلية المحيطة بها، وأول ما تلقاه ذلك الجيل القرآني وأهم ما تلقاه من القرآن الكريم هو العقيدة، وبالعقيدة ينبغي أن تبدأ هذه الطليعة الجديدة. العقيدة هي: لا إله إلا الله، وهي تعني رد الحاكمية لله في الأمر كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم. إن أول ما ينبغي أن ندعو الناس إليه هو العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، فقد ظل القرآن المكي ثلاثة عشر عاماً يتحدث في قضية العقيدة ولا يتجاوزها إلى شيء مما يقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة؛ لأن العقيدة هي الأساس التي تقوم عليه وتنبثق منه كل تنظيمات الإسلام وتشريعاته، فإذا استقرت العقيدة في النفس استسلمت للنظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، ولأن هذا الدين منهج عملي حركي جاد، ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، والقرآن لم يعرض قضية العقيدة في تلك الفترة في سورة نظرية أو لاهوت أو جدل كلامي، وإنما كان يخاطب فطرة الإنسان، ولذلك لم يعرض القضية في تلك الصور، وإنما عرضها في صورة تجمع عضوي حيوي، وتكوين تنظيمي مباشر من الحياة ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو هذه الجماعة ممثلاً لنمو البناء العقدي، كل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر، كذلك هذا هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين في أي وقت إلا به.

سر قوة تأثير كتاب المعالم

سر قوة تأثير كتاب المعالم يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس تحت هذا العنوان: نستطيع أن نرى في هذه الصورة الموجزة إيجازاً يكاد يكون مخلاً لقضية المنهج في المعالم شيئاً من سر ذلك الاستقبال العظيم الذي قوبل به ذلك الكتاب، ولا سيما من الشباب، وشيئاً من ذلك التأثير الذي لم نر له مثيلاً في كتاب حديث؛ إنه يدعوهم لهدف واضح كل الوضوح وسامق كأعلى ما يكون السموق، إنه لا يطلب منهم أقل من أن يسعوا لتسلم قيادة البشرية، وهو هدف مغرٍ وجذاب لكل ذي همة من الشباب، وهو مع اعترافه بأن الطريق إلى ذلك الهدف شاق وطويل إلا أنه يقنع قارئه بأنه ليس بالأمر المستحيل لمن عزم على السير فيه، وأعد له عدته، وها هي عدته، إنه قيم جديدة ومنهج جديد، وكلا الأمرين يملكهما الإسلام ولا يملكهما دين أو مذهب سواه، وإذا كانت الحضارة الغربية قد فاقتنا في المجال المادي؛ فإن التفوق عليها في هذا المجال -مع أهمية التقدم المادي لوجودنا الذاتي- ليس من المؤهلات المطلوبة لتلك القيادة، فها هو الغرب يتراجع عن هذه القيادة برغم امتلاكه لهذه القوة، وسبب تراجعه هو إفلاسه في عالم القيم، وهو يدعوهم إلى أن يكونوا كجيل الصحابة، ويغريهم بأن هذا أمر ممكن إذا هم سلكوا إليه المنهج الصحيح، وإذا أرادوا أن يكرروا ذلك الجيل، وأن يتسلموا قيادة البشرية؛ فعليهم أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأن يستعلوا بها على قيم الحضارة الغربية وسائر القيم الجاهلية التي تسود العالم الذي انسلخوا منه، عليهم أن يضعوا قيم الإسلام للناس كما هي من غير اعتذار ولا خجل ولا تدسس، وأن يصارحوهم بأنها تختلف عن القيم التي اعتادوها، وأن المسافة بعيدة بين القيم الإسلامية وهذه القيم الجاهلية، وأن النقلة من هنا إلى هناك بعيدة. هذه الروح الاستعلائية الاعتزازية القوية هي موضوع بعض فصول الكتاب وفقراته، ولكن الأهم: أنها تسري في الكتاب كله، وهي -في رأيي- أهم وأغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم. إن هذا الكتاب بهذه الروح يمثل مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية المعاصرة؛ قفزت فيها الدعوة من مرحلة المجاملة والتردد والاعتذار إلى مرحلة المجاهرة والتحدي والاعتزاز، وهذه المرحلة هي أغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم، وإنه لإنجاز عظيم، وإنها لنعمة كبرى على العبد أن يجعله الله سبباً لنقل الدعاة إلى هذه المرحلة الجديدة التي تطلبها دعوتهم، ولكن ينبغي ألا ننسى فضل الدعاة الذين سبقوه، وأن نتذكر أنه لم يبدأ من فراغ، وإنما أضاف لبنات مهمة إلى بناء كان قد وضع أساسه وشيد بعض أدواره دعاة قبله. هذا بعض ما يتجلى لنا من الصورة الموجزة التي رسمناها. وأما إذا اكتملت الصورة بالرجوع إلى الكتاب والرجوع إلى مؤلفه في الظروف التي خرج فيها فإن أسراراً أخرى تتجلى، منها: أن الكتاب صيغ بأسلوب يمتاز بالوضوح والقوة والجد والجمال، وباللهجة الصادقة الأمينة، يقرأه الداعية وكأنه خطاب من صديق عزيز يسدي إليه بعض النصائح الغالية، وقد ظاهرت هذه العوامل الداخلية الذاتية لقوة الكتاب عوامل خارجية؛ فقد ظهر الكتاب في وقت ظن الناس فيه أن الحركة التي ينتمي إليها الكاتب قد قضي عليها، فإذا به يذكرهم بوجودها بهذه الصيحة المدوية، وقد قرأ الناس بين أسطر الكتاب معارضة قوية للسلطة الغاشمة التي كانت بلاد الكاتب تعيش تحت وطأتها آنذاك، وزاد من اقتناعهم بذلك: مصادرة الكتاب، كما هي طريقة المغفلين في محاربة الفكر، يظن أن مصادرة الكتاب هو الحل، فزاد من اقتناع الناس بذلك مصادرة الكتاب، ومحاولة الحيلولة دون انتشاره، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها؛ ففي وقت من الأوقات كان بعض الشباب يتداولون كتب الأستاذ سيد في المعاطف والثياب؛ لأنها كانت تعامل كالمخدرات، لكن كانت تقرأ ربما أكثر من الآن، وكان الشباب يهتم بها أكثر من الآن، بسبب أنها كانت تحارب، أما الآن لما توفرت لم يعد الإقبال عليها كما كان في ذلك الوقت، فعامل الله هؤلاء بنقيض قصدهم في حرب الكتاب، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها حين رأى الناس كاتبه يلقى الموت مطمئن البال مستعلياً على السلطة الغاشمة ساخراً منها، فهرعوا إلى الكتاب يقرءونه وصورة الكاتب الشهيد ماثلة أمام أعينهم، فيحسون أنه كان جاداً وأميناً في كل كلمة خطها قلمه، وتذكر كثير منهم قوله في مناسبة أخرى: إن كلماتنا تظل عرائس من الشموع؛ حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة.

البحث في نظرية تكرار جيل الصحابة

البحث في نظرية تكرار جيل الصحابة ويقول أيضاً تحت عنوان: جيل الصحابة هل يتكرر؟ يقول: بعد هذا التلخيص والتأييد المجمل: نبدأ في تفصيل ما عَنَّ لنا من استدراكات على كتاب المعالم في قضية المنهج. إن الكاتب يدعو إلى حركة شديدة، حيث يسمي الذين يبدءونها بالطليعة، مع أنه كان حين كتب هذا الكتاب منتمياً فعلاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان معه في السجن آلاف من أعضاء هذه الجماعة التي كان رئيساً لتحرير جريدتها، والتي طالما كان يتحدث عن أهميتها ومظاهرها ومنجزاتها. يذكر الكاتب عليه رحمة الله في كلماته الأخيرة التي كانت تنشرها جريدة المسلمون اللندنية: أنه عمل لتكوين جماعة تكون امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي حلها عبد الناصر وسجن أعضاءها، ولكن لماذا اعتبر الجماعة قد انتهت بقرار الحل؟ وإذا كان قد انتهت تنظيماً فإن أفرادها ما زالوا موجودين، فلماذا الدعوة إلى حركة جديدة؟! أظن أن تفسير هذا الأمر المستغرب موجود في قضية المنهج، وأظن أن سيداً كان يرى أن الجماعة الوحيدة التي يمكن أن تعيد بعث الأمة الإسلامية هي الجماعة التي تتبع المنهج الذي ذكره، وإذا كان هذا المنهج يريد منها ويمكنها أن تكون كجيل الصحابة؛ فإنها تكون فعلاً جماعة جديدة لا تماثلها جماعة الإخوان المسلمين، ولا أي جماعة في تاريخ الإسلام بعد جماعة الصحابة رضوان الله عليهم. يقول الدكتور جعفر: يقول الكاتب -يعني: الشيخ سيد قطب رحمه الله-: لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس -جيل الصحابة رضوان الله عليهم- جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى، نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة. يعلق الدكتور جعفر فيقول: والكاتب يرى أنه بالإمكان تخريج مثل ذلك الجيل حتى في غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لعله يرى أن البشرية -وقد عادت إلى جاهلية مثل الجاهلية التي أنقذها مثل ذلك الجيل- لا يمكن أن ينقذها الآن إلا جيل مثله، فهل ما قاله الكاتب الفاضل صحيح؟ أصحيح أنه بالإمكان إنشاء جيل كامل كجيل الصحابة رضوان الله عليهم؟ أصحيح أن غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار ذلك الجيل على مدار التاريخ؟ إن هناك حججاً نقلية كثيرة بل وحججاً عقلية تدل على أن ذلك الجيل لا يمكن أن يتكرر، ولكن دعونا قبل البدء في سرد بعض تلك الحجج أن ننظر في الحجة التي ذكرها الكاتب الفاضل في تأييد رأيه. يقول الكاتب بعد الفقرة التي نقلتها آنفاً: هذه ظاهرة واضحة واقعة ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً لعلنا نهتدي إلى سره، إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة كلها بين أيدينا كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول الذي لم يتكرر في التاريخ، ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟ لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في الأرض إلى آخر الزمان، ولكن الله سبحانه تكفل بحفظه الذكر، وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تؤتي ثمارها؛ فاختاره لجواره بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الرسالة، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان إذاًَ: فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها. ثم يقول الدكتور جعفر وهو يناقش الفقرة السابقة: إن مقدمات هذه الحجة لا تؤدي إلى نتيجتها، فالمقدمات باختصار هي: لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة لما جعلها الله دعوة للناس كافة، ولما جعلها آخر رسالة، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنتيجة الطبيعية لهذه المقدمات هي: إذاً فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس حتمياً لقيام هذه الدعوة، أو: فغيبة شخصيته صلى الله عليه وسلم لا تمنع استمرار هذه الدعوة، وهذه حجة صحيحة يوافقه كل مسلم على مقدماتها ونتائجها، لكن النتيجة التي انتهى إليها الكاتب الفاضل الكبير هي: أن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها -يعني: ظاهرة تكرار جيل الصحابة-، إن عدم ضرورة وجود شخص الرسول لاستمرار الدعوة لا يعني عدم ضرورته لوجود جيل كجيل الصحابة، فالأمران مختلفان، اللهم إلا إذا قلنا: إن الدعوة لا تقوم ولا تؤتي ثمارها إلا بوجود جيل كجيل الصحابة، ولكن هذا يفضي بنا إلى القول بأن الدعوة نفسها توقفت منذ أن انتهى جيل الصحابة؛ لأنه لم يأت بعده جيل مثله، وهو أمر لا يقول به الداعية الفاضل ولا أحد من المسلمين، لو كان كتاب المعالم كتاباً عادياً لاكتفيت بهذا الرد، لكني أعرف أن حجة الكاتب هذه تأثر بها كثير من الدعاة ولا سيما الشباب، فما أكثر ما سمعت وقرأت تكراراً لها يكاد يكون بألفاظ الكاتب الفاضل! ولذلك فإن الأمر يستحق مزيداً من البيان. إن لدينا نصوصاً صحيحة تدل على أن وجود شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كان ضرورياً لتخريج ذلك الجيل، ونصوصاً تدل على أنه كان فعلاً جيلاً فريداً لا يتكرر، وإليكم شيئاً من هذه النصوص: عن أنس رضي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، قال: وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا). هكذا كان شعور الصحابة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبة شخصه، وكانوا يشعرون بشيء من هذا حين يغيبون عنه وهو حي، ففي حديث طويل لـ حنظلة الأسيدي قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ذاك؟ قال: قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا النار والجنة حتى كأنا نراها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي سوقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)، هذا الذي شعر به حنظلة وأيده به أبو بكر رضي الله عنهما شعور طبعي؛ فإن الواحد منا يعرف من تجربته أنه يقرأ كلاماً فلا يتأثر به، فإذا سمعه من إنسان تأثر به، وقد يسمع كلاماً من إنسان ثم يسمعه نفسه من إنسان آخر فإذا البون بين التأثيرين شاسع، فكيف بمؤمن صادق يسمع القرآن والحكم من فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى الوحي ينزل أمامه، ويعرف الحوادث والمناسبات التي نزلت فيها كثير من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا شك أن هذا الكلام انعكس وانعكست تأثيراته فيما أتى من المواقف التي سنبينها فيما يأتي من كلام الأستاذ سيد رحمه الله. يقول الدكتور جعفر معلقاً على هذا الكلام: ولكن إذا كانت الأمة التي تحمل هذا الدين قد انقطع وجودها منذ قرون؛ فإن دينها نفسه يكون قد انقطع وجوده منذ تلك القرون، والكاتب الفاضل يدرك هذه النتيجة اللازمة عن كلامه ويقبلها ويقررها، إذ يقول: هذا هو المجتمع المسلم المجتمع الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم، كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم، وكما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم، وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود لتخلف ركنه الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الدكتور جعفر: فالكاتب الفاضل يقرر في هذه الفقرة: أن تخلف النظام الجماعي والتشريعات عن الوجود يعني تخلف الإسلام نفسه عن الوجود، ويقرر في الفقرة السابقة أن هذا النظام قد تخلف فعلاً عن الوجود، والنتيجة هي: أن الإسلام قد تخلف عن الوجود، وهي نتيجة نقطع بأنها ليست صحيحة، فالله سبحانه وتعالى في سورة الفتح لما تكلم عن المنافقين ووصفهم بأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، فما هو ظن الجاهلية؟ إذا رجعنا إلى شرح العلماء لهذه الآية، وإذا رجعنا إلى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد حول هذه الآية: يبين العلماء أن ظن الجاهلية هو أن يظن إنسان أن الكفار يمكن أن يأتي في يوم من الأيام ويستأصلون الإسلام استئصالاً، ويقضون على الإسلام قضاءً بحيث لا تقوم له قائمة بعده. هذا هو ظن الجاهلية، وهذا هو سوء الظن بالله. من سوء الظن بالله -مهما وصل ضعف الإسلام، ومهما وصل طغيان الباطل- أن تظن أن الباطل يمكن أن يأتي في يوم من الأيام بحيث يطغى تماماً ويقهر تماماً، ويظل الإسلام دائماً مقهوراً، أو أن المسلمين يظلون مقهورين مستذلين لا تقوم لهم قائمة. هذا سماه الله ظن الجاهلين فقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، فمن ظن الجاهلية أن يقال مثل هذا الكلام. ونحن نبرئ الأستاذ سيد قطب رحمه الله من هذا، وهو كان العدو الأول للجاهلية في عصره، نبرئه من هذا الوصف، لكن نقول: هذا يلزم من كلامه، ولو أنه استأنس بهذا المعنى ما نظن أنه كان وصل إلى هذا القرار النهائي، وهو أن الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود منذ قرون كثيرة، والمجتمع الإسلامي انقطع من الوجود، والمسلمين انقطعوا والجماعة انقطعت، وبالتالي انقطع وجود الإسلام نفسه: هذا شيء لا يمكن أن يوافقه عليه أحد على الإطلاق. يقول الدكتور جعفر: إن الكاتب الفاضل يقرر أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الكتاب والسنة، ولكن ينبغي ألا ننسى أن هذا الحفظ ليس حفظاً متخفياً، بمعنى: أن تكون نصوص الكتاب والس

نظرة وهبة الزحيلي لمنهج سيد قطب تجاه الفقه

نظرة وهبة الزحيلي لمنهج سيد قطب تجاه الفقه يقول وهبة الزحيلي: لقد استمعنا في هذه الفترة الطيبة المباركة إلى بحثين عظيمين، ولكن استوقفني النظر إزاء تحديد الفكر الإسلامي، وكأن الاتجاه يتجه إلى حصر الفكر في مفهوم العقيدة والقضايا العامة، وكأنهم يعزلون الفكر عن نطاق الاجتهادات الإسلامية التي مثلتها أعمال الأئمة العظام من فقهاء المذاهب، وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر. يعني: دائماً يتكلمون على قضايا العقيدة وقضايا عامة، ويفصلون الفكر عن الفقه مع أن الفقه حاكم على الفكر، فالفكر أن يفتح إنسان الكتاب ويتدبره بفكره وبعقله، ويهيم فيه ثم قد يصيب وقد يخطئ، فهناك فرق بين الفكر وبين العلم، ولذلك نحن نأخذ دائماً قضايا الفكر وكتب الفكر بحذر، لابد أن يكون هناك وعي كافٍ لمن يقرأ في كتب الفكر حتى لا يتابع المفكرين في بعض توهماتهم وتخبطهم، والمفكر لابد أن يكون مجذوباً بخيوط تشده إلى أصول أهل السنة والجماعة حتى لا يهيم بعيداً، ولا بد أن يكون مجذوباً بخيوط من العلم الشرعي حتى لا يخالف الأحاديث والأدلة، ومجذوباً ومشدوداً ومقيداً بخيوط تجذبه نحو الفقه الإسلامي حتى لا يشذ عن الفقهاء ويتخبط بعيداً عنهم، ففكر بدون علم قد يأتي بشر كثير. يقول الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله: وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر، مع أن الإسلام لم تتضح صورته، ولم تبرز معالمه، ولم يكتب لها الخروج، ولم تعرف صلاحيته للتطبيق في مؤتمرات العالم المقارنة للقوانين والأنظمة والتشريعات إلا عن طريق الفقه الإسلامي، فكيف أستطيع أن أقبل ما أشار إليه ضمناً الأخ يوسف العظم من أن سيد قطب كان يحيل إلى الفقهاء؟ يعني: كيف يتكلم الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تنظير الفكر الإسلامي، ويتكلم عن عدم وجود دولة إسلامية؛ ويتكلم في هذه القضايا الحساسة والمصيرية وهو يعترف ضمناً أنه لم يكن فقيهاً، فيحكي عنه الأستاذ يوسف العظم أنه كان يكتب ملازم من الظلال أو بيتاً من الشعر ثم يعرضها على إخوانه الفقهاء. يقول: وكيف أقبل أن تصورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات الجذور في الهواء؟ كيف نتكلم على فقه الفقهاء وكلام الفقهاء في الحلال والحرام والفروع ونحوها: استنباط جذور في الهوى أو أنه هزل، أو أن هؤلاء الذين يسألون عن الأحكام الفرعية والذين يجيبونهم هؤلاء هازلون وهؤلاء هازلون؟! كيف يسمى هذا هزلاً؟! كيف ننظر بهذه النظرة التي فيها ازدراء للفقه، وأهمية الفقه في حياتنا والتزامنا بديننا؟! يقول الدكتور وهبة الزحيلي: وكيف أقبل أن تطورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات البذور في الهواء؟! إني لا أقبل وأرفض كل هذه الفكرة أسلوباً ومنهاجاً وتطوراً، وإن له كتابات كثيرة في هذا الموضوع -أي: الأستاذ سيد رحمه الله- تقصي الفقه، وتبعده عن القيام بأي عمل حتى تقوم دولة الإسلام، وعندئذٍ يأتي عمل الفقهاء، لا يمكنني أن أقبل مثل هذا التصور من المرحوم -هكذا قال- سيد قطب، وحتى إن بعض من يتحمس لأفكاره يعادون فكر الإسلام من هذه الزاوية، ولا يمكننا أن نفصل الإسلام عن هذا الاجتهاد العظيم؛ لأننا لا بد أن نبحث قضايا العصر، ومن الذي يبحثها: أليس هم الفقهاء؟ أليس الفقه هو الذي يتصدى لبحث الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ثم إني لم أجد في بحث الأستاذ محمد عبد الله السمان ولا في كلام الأخ الدكتور فتحي عثمان إشارة من ناحية الفكر إلى فقه الإسلام، وكأنهما حصرا الفكر في زاوية معينة هي زاوية العقيدة، ولا يمكنني أن أقبل بأي حال من الأحوال تلك المقولة لو استقبلت من أمري ما استدبر لاكتفيت بالقرآن، هذه الكلمة حكاها بعض المحاضرين عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأعتقد أن هناك تصرفاً في حكايتها، فـ شيخ الإسلام ما كان يقصد بقوله: أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاكتفيت بالقرآن، رد السنة؛ إذ لا يمكن بذلك أن يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، لكن كان نادماً على كل وقت ضيعه في مناظرة المتكلمين والفلاسفة، ونقد هذه المذاهب دون أن يرتبط بالقرآن الكريم، قال هذا لما خلا شيخ الإسلام رحمه الله في آخر سجنه بالقرآن، وفتح الله عليه بمعارف عظيمة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، حتى هذه المقولة يمكن أن تؤخذ بشيء من النظر؛ فبعض الناس الذين استفادوا من إثراء شيخ الإسلام المكتبة الإسلامية بالرد وبإبطال مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والصوفية وأعداء الإسلام قالوا: ما كتبه شيخ الإسلام أفاد كثيراً، واستفادوا منه في هذه الأشياء. يقول: ولا يمكن أن أقبل تلك العبارة التي هزت كل كياني، وهي: أن مساجد اليوم معابد الجاهلية، لم أفهم هذه العبارة ولم أعرف ما مدلولها، أأصبحت المساجد هي معابد الجاهلية؟! ثم إن الأخ محمد عبد الله السمان قد وقع في خطأ عندما صور الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، فكل من أهل الرأي وأهل الحديث لم يقصر جهده لا على الحديث وحده، ولا على الرأي وحده، وإنما كان كل واحد منهما يعمل بالحديث وبالرأي معاً، ولكن غلب على أحد الاتجاهين العمل بالحديث، وغلب على الآخر العمل بالرأي، وليس الرأي ما نعرفه اليوم بالفكر المحض، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي، فالرأي كان عندهم في الغالب هو القياس مثلاً أو ما شابه ذلك، وليس الرأي المحض، يعني: الفكر الآن يهيم بدون ضوابط في هذا الزمان، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة فهو لا يكاد يخرج عن دائرة النص وإن سمي رأياً. هذا كلام الدكتور وهبة الزحيلي حول السنة والفقه في منهج السيد قطب. وبقي تعليقات أخرى مفيدة لكثير من المفكرين يناقشون فيها بحث الدكتور جعفر شيخ إدريس حول قضية المنهج في فكر السيد قطب، ولا يتسع المقام لذكرها. أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [23]

الإيمان والكفر [23] لقد كان كتاب معالم في الطريق هو خلاصة منهج سيد قطب رحمه الله في الحياة، وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط الفكرية؛ لما يحمله من أفكار تعيد ذكرى إعدامه، والأجواء التي سادت ذلك الوقت، ونحن لا نستطيع أن ننكر نشاطات الرجل الدعوية والحركية التجديدية التي تُوجِّت بالصمود حتى الموت، ولكن لا يعني هذا العصمة من الخطأ، فإن هذا ليس لأحد من الخلفاء الراشدين ولا لمن بعدهم من التابعين فضلاً عن رجال هذا العصر.

لمحة موجزة عن تفسير الظلال

لمحة موجزة عن تفسير الظلال شرعنا في دراسة حول قضية المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وذكرنا أن المنهج عند الأستاذ سيد رحمه الله يتركز في كتابه: (معالم في الطريق)، وذكرنا أن (معالم في الطريق) هو خلاصة تفسيره للقرآن الكريم، وهو: (في ظلال القرآن)، وقد أخذ الأستاذ سيد رحمه الله عهداً على نفسه حينما شرع في كتابة تفسيره في ظلال القرآن أن يبتعد عن الموضوعات اللغوية والنحوية، والقضايا الجدلية والكلامية، وأيضاً المسائل الفقهية، وذكر أن الإسراف في ذلك يحجب القرآن عن روحه، ويستر جمال النص القرآني الأخاذ. قال رحمه الله تعالى: كل ما حاولته أن لا أغرق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي، وتحجب روحي عن القرآن، وما استطردت إلى غير ما يوحيه النص القرآني ذاته من خاطرة روحية أو اجتماعية أو إنسانية، وما أحفل القرآن بهذه الإيحاءات! وقد اختلف الكاتبون في علوم القرآن وفي التفسير في موقع كتاب الظلال بالنسبة لغيره من أنواع أو اتجاهات التفسير، فهناك اتجاه التفسير بالمأثور الذي يتصدره تفسير الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله، وهناك التفسير بالمعقول أو بالرأي، وهو ينقسم إلى مذموم ومحمود، وهناك التفسير اللغوي أو الأدبي أو البياني، وغير ذلك، فبعض أولئك -كالأستاذ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله- صنف كتاب (ظلال القرآن) في ضمن التفسير البياني للقرآن، أي: الذي يركز على النواحي البيانية واللغوية، وليس المقصود النواحي اللغوية كما فعل -مثلاً- أبو حيان في البحر المحيط، وإنما المقصود التذوق البلاغي لجلال وروعة القرآن. وما من شك في أنه ليس تفسيراً بالمأثور الذي ينضبط بقواعد علوم التفسير الذي ذكرها الكاتبون في علوم القرآن، وقد ذكر هو رحمه الله تعالى عن كتابه أنه عبارة عن تفكير، وليس تفسيراً بالمعنى المتعاهد عليه والمعروف حينما يذكر اصطلاح التفسير، فهو تفكير كما ذكرنا قد يصيب فيه المفكر وقد يخطئ، وهو عبارة عن انفعالاته الروحية، وتذوقه الأدبي لنصوص القرآن الكريم، ومع موهبته الأدبية -التي سبق أن أشرنا إليها- فإن هذا التفسير -كما يقول الدكتور الصباغ حفظه الله- يمتاز بأسلوب مؤلفه الموهوب، فهو يعرض موضوعات القرآن ومعانيه بأسلوب أدبي حي أخاذ سهل بليغ، فقد اجتنب كثيراً من المصطلحات العلمية التي نعثر عليها في كتب التفسير، فكان كتابه سائغاً مفهوماً مقبولاً من جماهير القراء، على أنه كان يكثر من استعمال بعض الكلمات التي تكاد تكون خاصة به، وإن الذي يألف أسلوب المؤلف يستطيع أن يدرك بسهولة معناها، لا سيما وأنه قد شرح بعضها في كتابه (التصوير الفني في القرآن)، ومن الطبيعي أن نجد في كتابة الكتاب الكبار بعض الكلمات التي يكثرون من تردادها، كما نجد بعض الجمل الخاصة التي تعد مظهراً من مظاهر الأساليب الشخصية. يقول: أيضاً يعالج هذا التفسير الموضوعات القرآنية، والحقيقة هي أن هذا هو سر هذه الحرارة العالية التي يتضمنها أسلوب الأستاذ سيد قطب عموماً في المرحلة الثالثة، خاصة الأخيرة، وخاصة في كتابيه المعالم والظلال، سر هذه الحرارة العالية والحماس الصادق نحو قضايا الإسلام هو أنه عالج الموضوعات القرآنية باعتزاز بالإسلام يفوق الوصف، وإيمان به، وبعقلية حركية تدعو إلى استئناف العمل بالقرآن في قوة وصراحة وحيوية، وإلى إعادة سلطان القرآن على الحياة الإنسانية في نطاق الأفراد والأمم والعالم كله، كما عالج هذا التفسير بوعي عميق أصيل، وبحرارة بالغة، وعاطفة كريمة صادقة قضايا المسلمين الفكرية والاجتماعية والسياسية، كما ألم بقضايا الفكر المعاصر والحضارة القائمة، وأعلن بكل وضوح وتصميم أن المبادئ القرآنية هي ما تحتاجه الإنسانية في أزمتها الراهنة اليوم، ويتمتع المؤلف بتحرر تام من كل قيود العبودية الفكرية التي يوصف بها عدد من المفكرين المعاصرين، وهو على معرفته بحضارة الغرب لم يكن مأخوذاً بها، ولا مأخوذاً بالجوانب البراقة فيها، كان يقدرها حق قدرها، ويقومها التقويم السديد، ويحذر من سيئاتها ومن مساوئها التي تزحف على ديار المسلمين، وتهدد حياتهم كلها، والمؤلف يضع العقل في محله الذي ينبغي أن يوضع فيه، دون أن يغلب العقل بتحميله ما لا يقوى على حمله، ودون أن يعطله فلا يسخره فيما خلقه الله له، ويربط المؤلف بين آيات القرآن التي فيها النور والهدى وبين واقع الجيل العظيم الذي تلقى هذا القرآن ليعمل به، ويقيم جوانب حياته عليه، وهو في تفسيره يدعو المسلمين إلى أن يأخذوا أنفسهم بالجد، ويعملوا بالقرآن كما فعل أهل الصدر الأول زمن النبوة، ويحثهم على الانقلاب من واقعهم المريض المتخلف ليكونوا سعداء في بلادهم، وليسعدوا الإنسانية كلها؛ لأنه يقرر أن المسلمين يملكون بهذا القرآن ما لا يملكه أحد سواهم في الدنيا، وليس عليهم إلا أن يكونوا هم الواقع الحي لمبادئ الإسلام لتجد فيهم الإنسانية المعذبة الشقية طلبها. يقول الدكتور الصباغ: وأخيراً: فإن هذا التفسير يبرز قضية وحدة الرسالات السماوية التي بعث الله بها أنبياءه ورسله؛ إذ كانت جميعاً تدعو إلى التوحيد وإسلام النفس لله وحده في الطاعة والعبادة. هذه بعض الفوائد الجيدة، والثمار الزكية التي تقتطف من تفسيره (في ظلال القرآن)، لكن هذا الكتاب -كما قد ذكرنا من قبل- ليس خلواً من بعض المؤاخذات التي قد يتجاوز عنها إذا تذكرنا أن أسلوبه أسلوب الأديب الذي قد يسترسل مع مشاعره وإيحاءات الكلمات، لكن إذا قسنا بعض القضايا التي خلف من بعد الأستاذ سيد قطب رحمه الله خلف قد يكونون حملوها فوق ما تحتمل، أو كانت -في الحقيقة- تلك النصوص من كتابيه تحتمل ما وقعوا فيه من اتخاذها أصولاً وقواعد يبنى على أساسها مذهب أو منهج أو اتجاه فكري محدد المعالم لا يوافق ما عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، خاصة في قضية الكفر والإيمان، فتقبل مثل هذه التوجهات في مجال الدعوة العامة من قبل حث المسلمين على هذه القضايا التي أشرنا إليها آنفاً من بث روح الاعتزاز بالإسلام فيهم، والاستعلاء على المناهج الكفرية، وفضح وكشف سبيل المجرمين إلى آخر هذه الميزات التي نقرها جميعاً ولا ننكر فضلها وشدة حاجتنا إليها. لكن أين نضع -مثلاً- (معالم في الطريق) في المكتبة؟ وأين نضع كتاب (هل نحن مسلمون) للأستاذ محمد قطب رحمه الله؟ هل نضعهما بجوار شرح العقيدة الطحاوية، أو معارج القبول، أو السنة لـ ابن أبي عاصم، أو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أو غير ذلك من كتب العقيدة؟ أم نضعهما في الجانب الفكري من المكتبة؟ وكتاب (هل نحن مسلمون) هل نعامله على أنه يقصد بذلك أننا كفار، ولابد من أن ندعوا الناس إلى الإسلام حتى يدخلوا في الإسلام ويستأنفوا إسلامهم، أم أنه عبارة عن محاولة لإيقاظ الروح الإسلامية عند المسلمين لتنبيههم ضد مؤامرة أعداء الإسلام، أو ضد الغزو الفكري الذي يتلون بألوان وصور شتى؟ فمن الظلم مثلاً لكتاب (هل نحن مسلمون) أن نضعه مع كتب التوحيد الاصطلاحية والعلمية المقعدة لمنهج وضوابط وقواعد وأصول أهل السنة والجماعة، فهكذا ينبغي أن نتعامل مع هذه الكتب، فعند الانضباط، وعند التقريب والتأصيل والمحاكمة بالميزان العلمي الدقيق ينبغي أن نعود إلى علماء أهل السنة والجماعة، ورموز أهل السنة والجماعة في كل العصور الذين ضبطوا هذه المسائل وقعدوها، ومعرفة من هو المسلم، ومن هو الكافر، وبم يخرج المسلم من الإسلام، وبم يدخل الكافر في الإسلام ليست قضية غفلت عنها الأمة أربعة عشر قرناً، بل هذه القضية حسمت منذ القدم، وهي موجودة في كتب الردة من كتب الفقه وغيرها من كتب التوحيد، وواضحة وضوحاً يغنينا عن محاولة الاجتهاد في تحديد كيفية التعامل مع هؤلاء الناس.

تتمة مناقشة قضية المنهج عند سيد قطب في (معالم في الطريق)

تتمة مناقشة قضية المنهج عند سيد قطب في (معالم في الطريق) لا نستطيع أن ننكر أن الأستاذ سيد رحمه الله كانت في نشاطاته الدعوية والحركية مظاهر يمكن أن نسميها تجديدية باعتبار أنه جدد هذه المشاعر، وتوج كل هذه الحسنات بأن صمد وثبت عليها حتى دفع حياته ثمناً لها في سبيل الله إن شاء الله تعالى، لكن لا يعني هذا العصمة من الخطأ؛ فإن هذا ليس لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا للخلفاء الراشدين، ولا لأئمة الإسلام في كل العصور، فمن مقتضى النفس ومن مقتضى أدب العصمة أن يؤخذ من قوله ويترك، كما فعل مع أئمة الإسلام في كل العصور، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فإذا هذه فضائله مبثوثة في كل مكان، ومحبته يدين الناس بها لله، ويتقربون إلى الله بحبه والدعاء له جزاء ما صمد أمام الطغيان، وجزاء ما قدم للدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، لكن لا يعني هذا أن هذه المحبة تجعلنا نغفل عن بعض المزالق التي وقع فيها بصفته البشرية، وقد نبهنا عليها عدة مرات، وقد قال الشاعر: كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فمن النبل أن تعد معايب الإنسان، ويقول الآخر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع فلابد من أن نفصل بين الحق والرجل، فالرجل يمكن أن يكون معه الحق، ويمكن أن يكون الحق ليس معه، أما الحق فهو حق دائماً لا تتخلى عنه هذه الصفة في وقت من الأوقات، فعلى هذا الأساس شرعنا في تلخيص ندوة (الجهاد في الفكر الإسلامي المعاصر) التي عقدت بالإمارات، وكان موضوعها قضية المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وقدم البحث الأساس فيها الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله، ودارت المناقشة من كثير من أعلام الدعوة في هذا الزمان، ويكاد الجميع يتفقون على وجود مؤاخذات في موضوع المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا، فبعضهم يقول: إنها نصوص أسيء فهمها. وبعضهم يقول: إن هذه النصوص كانت بسبب الطابع الأدبي الذي غلب عليه فجعله يسترسل في هذه القضايا، وبعضهم قال: السبب هو الجانب النفسي والظروف النفسية التي ألف فيها الكتاب. إلى غير ذلك، لكن هذه الخيوط كلها تؤدي إلى شيء واحد، وهو أن هناك مؤاخذات، وعند ميزان هذه الأفكار تتضح هذه المؤاخذات.

مناقشة القرضاوي لسيد في قضيتي التكفير والجاهلية

مناقشة القرضاوي لسيد في قضيتي التكفير والجاهلية ذكرنا من قبل كلام بعض هؤلاء الأعلام، ونذكر أيضاً كلاماً للدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله، يناقش فيه بعض الأفكار الأساسية في قضية المنهج عند السيد قطب رحمه الله تعالى، وكان من ذلك مناقشته لقضية التكفير والجاهلية. يقول الدكتور القرضاوي: إن المجتمع الذي نعيش فيه الآن ليس شبيهاً بمجتمع مكة الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم حين نشأت الدعوة الإسلامية الأولى، فذلك كان مجتمعاً جاهلياً صرفاً، أعني: مجتمعاً وثنياً كافراً لا يؤمن بـ (لا إله إلا الله) ولا بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عن القرآن: سحر وافتراء وأساطير الأولين. أما مجتمعنا القائم في بلاد المسلمين فهو مجتمع خليط من الإسلام والجاهلية، فيه عناصر إسلامية أصيلة وعناصر جاهلية دخيلة، فيه أناس مرتدون صراحة، وفيه منافقون يتظاهرون أمام الشعب بالإسلام وباطنهم خراب من الإيمان، فلهم حكم المنافقين فيه عدا هؤلاء، وأولئك جماهير غفيرة تكاد تكون أكثرية الأمة الساحقة ملتزمة بالإسلام، وجل أفرادها متدينون تديناً فردياً يؤدون الشعائر المفروضة، وقد يقصرون في بعضها، وقد يرتكب بعضهم المعاصي، ولكنهم في الجملة يخافون الله تعالى، ويحبون التوبة، ويتأثرون بالموعظة، ويحترمون القرآن، ويحبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى غير ذلك مما يدل على صحة أصول العقيدة لديهم، ولهذا يكون من الإسراف والمجازفة الحكم على هؤلاء جميعاً بأنهم جاهليون كأهل مكة الذين واجههم الرسول صلى الله عليه وسلم في فجر دعوة الإسلام، وإن واجبنا ألا نعرض عليهم إلا العقيدة، والعقيدة وحدها، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وألا نستجيب لاستفتاءاتهم في شأن من شئون المجتمع الإسلامي، فالواقع كما قلنا: إن هؤلاء غير مجتمع مكة المشرك، فكثير منهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، وكثير ممن قصر في هذه الفرائض لا ينكرها، ولا يستخف بها، وهي أركان الإسلام ومبانيه، فهل كان مجتمع مكة يلتزم شيئاً من هذه الأركان؟ ثم هم يتزوجون ويطلقون، ويرثون ويورثون، ويوصون على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يزال في بعض البلاد من يقيمون الحدود الشرعية من الجلد والقطع والقصاص ونحوها، ولا تزال القاعدة العريضة في البلاد الأخرى تطالب الحكومات بإقامتها وتطبيق شرع الله تعالى، فهل -يا ترى- إذا استفتى هؤلاء في شأن من شئون الإسلام التي يمارسونها بالفعل ألا نفتيهم ونبين لهم؟! إنهم يسألون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بشئون العبادات، وما يسمى بالأحوال الشخصية، ومن واجبنا أن نبين لهم ولا نكتم عنهم علماً نافعا فيلجمنا الله بلجام من نار يوم القيامة، وهم يسألون -أيضاً- عما يعرض لهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية، فهم مسوقون إلى أن يتعاملوا مع البنوك، وأن يؤمنوا على المتاجر والمعامل والممتلكات، ويسألون عن حكم الشرع في ذلك كله، هل نصم أذاننا عن هؤلاء المسلمين حتى لو سألونا عن الصلاة والزكاة والصيام، أم نجيبهم عن أحكام العبادات وما يتعلق بها ولا نجيبهم عن أحكام المعاملات؟! هذه بعض عبارات الدكتور يوسف القرضاوي في الرد على بعض أفكار الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذه القضية.

رؤية إبراهيم الكيلاني لمنهج سيد قطب

رؤية إبراهيم الكيلاني لمنهج سيد قطب تكلم الدكتور إبراهيم الكيلاني -أيضاً- في هذه الندوة، وقال: إني أحب أن أبين نقطتين في منهج سيد قطب رحمه الله: الأولى: أنه في طريقته لشرح نظام الإسلام وعرضه له كان متأثراً تأثراً كبيراً بالأستاذ أبي الأعلى المودودي رحمه الله، وهذه ناحية ذكرها سيد، وتظهر لنا في كتاباته، وهي محاولته عرض الإسلام عرضاً كاملاً، لا عرضه من خلال ردود الفعل من القضايا الجزئية فقط. النقطة الثانية: أنه لم يكن واقفاً في كتاباته وفي ظلال القرآن الذي أنهى وختم به حياته الجليلة لم يكن واقفاً عند قضايا العقيدة فقط، وإنما شرح نظام الإسلام، وشرح آيات الأحكام، كما شرح آيات العقيدة وآيات الأخلاق، وكتابه (في ظلال القرآن) وتفسيره الكامل للقرآن الكريم شاهد على ذلك، فـ السيد قطب في تفسيره للقرآن الكريم شرح النظام الإسلامي كاملاً، وكان في القضايا الفقهية منضبطاً، وحدثني الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى أن سيد قطب كان يرسل إليه ملازم في ظلال القرآن ليزداد اطمئناناً على الأحكام الفقهية التي يطرحها في الظلال، وهذا من ورعه وشدة تمسكه بمنهج العلماء، وبالحكم الفقهي في عرض هذه الأمور، وإنما الذي أريد أن أبينه للإخوة الكرام أننا يجب أن نفهم كلام سيد قطب من خلال منهجه، لا أن نفهمه من خلال كلمات مبعثرة هنا وهناك، فـ سيد قطب رجل دعوة يسعى لإقامة حكم الله في الأرض، وكان يرى كفراً بواحاً منتشراً في المجتمعات الإسلامية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً). فاستحلال الربا والخمر والزنا والقمار، وتعطيل شريعة الله ماذا يسميهما الفقيه المسلم الذي يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليسا كفراً بواحاً؟! نعم، وباتفاق فقهاء الإسلام أنها كفر بواح، فعندما يقول: إن المجتمع الذي يستحل حرمات الله مجتمع جاهلي كافر إنما يعني أنه استباح حرمات الله تبارك وتعالى، ولم يقل: إن الذين في هذا المجتمع كفار. وأنا أتمنى من الذين يخالفون هذا الكلام ممن ينتسبون إلى فكر الأستاذ سيد قطب أن يكونوا بخلاف ما يذكر الدكتور إبراهيم الكيلاني هنا. حيث يقول: فعندما يقول إن المجتمع الذي يستحل حرمات الله مجتمع جاهلي كافر إنما يعني أنه استباح حرمات الله تبارك وتعالى، ولم يقل: إن الذين في هذا المجتمع كفار. فهل الذين ينتسبون الآن إلى الأستاذ سيد قطب يحكمون بالإسلام على الناس في هذا المجتمع على العموم، خاصة من أظهر منهم الإسلام؟! وهل يصلون خلف الناس في المساجد؟! وهل من أظهر شيئاً من شعائر الإسلام ولم يحصل منه استيفاء وتحر وتبين للضوابط التي وضعوها يحكمون عليه قبل ذلك بالإسلام أم لا؟ يقول الدكتور الكيلاني: وقد سألت عن هذه القضية الأستاذ محمد قطب رحمه الله فقال: إن سيد قطب لم يقل: المسلم الفلاني كافر. إلا أن يستحل هذا حرمات الله، وكذلك المجتمع كله بصفة عامة عندما تستباح فيه الحرمات ويخرج عن دين الله. فإذا كان سيد قد اجتهد ووصفه بهذا الوصف فله دليله من القرآن الكريم. ثم يقول أيضاً: إن سيد قطب في ظلاله لم يخالف مصدراً قطعياً، ولم يخرج عن العقائد الأصلية للمسلمين. وقد يكون هناك مأخذ على هذا الكلام، بمعنى: كيف لو كان االمصدر ظنياً كحديث آحاد؟ يقول: إن سيداً في ظلاله لم يخالف مصدراً قطعياً، ولم يخرج عن العقائد الأصلية للمسلمين، ولم يخرج عن أصول التفسير المعتمدة عن رجال التفسير، وحينئذ فهو قد التزم بالعقائد الإسلامية، والتزم بقواعد الفقه الإسلامي، وأصول شرح القرآن الكريم، ولم يقدم فقيه من الفقهاء شرحاً لمواد الفقه والنظرية الإسلامية ولأحكام الإسلام كما شرحها سيد قطب رحمه الله، فهو لم يقلل من شأن الفقه، وقد شرح فقه القرآن الكريم، وربما أتصور أن سيد قطب نتيجة لتأثره الكبير بالأستاذ المودودي كان يرى هذا العالم الذي حدثنا عنه الأستاذ المودودي رحمه الله في أحد كتبه وفي إحدى محاضراته أنه كان قد قضى فترة طويلة من عمره وهو يحقق مسألة قياس المسافة بين المنبر النبوي وبين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. فيقول الأستاذ المودودي: كان أولى بهذا العالم بدل أن يبذل جهده في هذه المسألة مع أنها قضية علمية قد تفيد في نواح أن يبذله في قضايا أكبر وأهم، فهو يريد من الفقهاء أن يكونوا علماء عصرهم في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حكم الله؛ لأنه لا معنى لأن أتحدث عن أحكام الإسلام، وأن أضع قانوناً مدنياً وقانوناً جنائياً وأغوص في هذه الأمور، ثم أجد أن النظام نفسه يمشي في طريق إبادة القيم الإسلامية، والحياة الإسلامية، والقضاء على الإسلام كله، فهذه الناحية هي التي انتبه إليها سيد قطب، وكأنه يدعو العلماء إلى أن يكونوا رجال حركة ورجال فكر، وأن لا يضيعوا جهودهم في بحث المسائل النظرية والمجتمع يتخاطفه الملحدون أو الغربيون والمبشرون. هذا تعليق الدكتور إبراهيم الكيلاني.

رؤية البوطي لمنهج سيد قطب

رؤية البوطي لمنهج سيد قطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي -أيضاً- علق على قضية المنهج التي سردها الدكتور جعفر شيخ إدريس فقال: لقد كنت أوثر أن لا أتكلم، ولكن عرض ما دعاني إلى الكلام، وسأبدأ بالنقطة الثانية التي نبهني إليها كلمة أخي الدكتور إبراهيم الكيلاني، وإني لا أرى أن نحاول تبرئة الأستاذ سيد قطب من الخطأ، وأن نحاول أن نجعل مكانته التي تبوأها دون تكلف منا محاطة بهالة من العصمة. فموضوع التفريق بين المجتمع والفرد فكرت فيه كثيراً، ومنذ أمد طويل، واتهمت نفسي بعدم الفهم؛ إذ كيف يمكن أن نقول: إن هذا المجتمع مسلم لكن أفراده غير مسلمين؟! أو أن نقول: إن هذا المجتمع مجتمع كافر، ولكن أفراده مسلمون؟ فالمجتمع في الحقيقة هو الفرد المتكرر، وإذا أسقطنا الأفراد من المجتمع فالمجتمع وعاء فارغ، وعلى ذلك فهذه الكلمة لا ينبغي أن تقال، وهذا الشعار لا ينبغي أن يرفع على جلالة قدر الرجل، فالمجتمع مسلم؛ لأن في أفراده الكثير من المسلمين. وهذه العبارة يمكن أن يكون عليها مأخذ؛ لأنه يمكن أن يطلق وصف الكفر على المجتمع باعتبار نفس الأحكام السائدة، كالحكم -مثلاً- بالقوانين الوضعية، فهذه مسألة والكلام على آحاد الناس مسألة أخرى. ويمكن للإنسان أن يتلذذ بفعل من أفعال الكفر، لكن لا يكون بذلك كافراً؛ لأن حكم الكفر لابد فيه من وجود شروط وانتفاء موانع أشرنا إلى بعضها من قبل، فقد يكون هناك مأخذ على هذا التعبير من الدكتور البوطي. ثم يقول: وأكبر دليل على الخطأ الذي ينطوي عليه الشعار الواقع الذي أخرجه هذا الشعار نفسه، فانظر إلى الشباب الذين تأثروا بهذا الكلام في أي واد ساروا وفي أي متاهة ضاعوا؟! كم من شباب رأيناهم آثروا ليس العزلة كما قال المتحدثون، بل آثروا الانقطاع عن الجُمعات لا الجماعات، وعندما ناقشت كثيراً منهم قالوا: نحن في عصر جاهلي، وهذا المسجد وإمامه وخطيبه والذين فيه لا يمثلون المجتمع الإسلامي. إذاً: هؤلاء الشباب لم يفهموا المجتمع بالشكل الذي فهمه أخي وصديقي الدكتور إبراهيم الكيلاني. يشير إلى قوله: إن الشباب هم الذين أساءوا فهم الكلام، أما هو فلم يقل هذا الكلام رحمه الله. يقول: وحسن الظن في الناس خير من التورط في إساءة الظن بهم، وهذا شرط أساسي في مد الجسور المتواصلة بيننا وبين الآخرين في نطاق الدعوة إلى الله عز وجل. يقول: وهذا يذكرني بالكلمة التي قالها أخي عندما قال: إن هذا العمل كفر ولكن لم يسم العامل كافراً. كيف هذا يا أخي؟! هل يوجد عمل من دون عامل؟! العمل عرض، ولا يستقيم العرض إلا بجوهر كما قالوا، ولذلك فنحن لا نكفر العمل حتى نكفر العامل، ويكفينا أن نقول: إن هذا خطأ يستلزم التوجيه والإرشاد. ونحن -أيضاً- نقول: إن هذا خطأ يستلزم شيئاً من التصحيح؛ لأنه يمكن أن نطلق على الفعل بأنه كفر، لكننا نفرق بين كفر النوع وكفر العين، فنوع الفعل كفر، لكن الذي قال بالفعل لا يشترط فيه أن يكون كافراً، وأشهر مثال على ذلك: العذر بالتأويل أو بالإكراه أو بالجهل، كما سنبين -إن شاء الله- فيما بعد.

رؤية محمد سليم للعزلة في منهج سيد قطب

رؤية محمد سليم للعزلة في منهج سيد قطب كان من المعلقين في الندوة الدكتور محمد سليم العوا، وقد أطال النقاش في قضية إمكانية تكوين جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم، ولن نطيل بذكر هذه القضية. وكذلك ناقش عبارة (ما إن نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا)، وحديث حنظلة: (ساعة وساعة). يقول: هذه العبودية كما أشار إليها الأستاذ سيد قطب رحمه الله قاعدة من قواعد المجتمع الإسلامي، وهي مفقودة في المجتمعات الإسلامية الحالية، ولهذا وجب أن عصمة المؤمن تنشئ لذاتها عزلة شعورية وحقيقية عن المجتمعات التي تعيش فيها، عزلة شعورية تنشأ عنها عزلة كاملة في علاقته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائياً عن بيئته الجاهلية حتى لو كان يأخذ ويعطي مع بعض المشركين، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر. يقول: ومسألة العزلة هذه قد نشأت عنها تطورات فكرية كثيرة بالغة الخطورة أدت إلى ما نعرفه اليوم في ظاهرة الصحوة الإسلامية بالتطرف، وإلى ما عرفه الناس بجماعة التكفير والهجرة، مع أنهم يطلقون على أنفسهم: (جماعة المسلمين) وكذلك جماعات أخرى كثيرة يحفل بها باطن الأرض الإسلامية تظهر حيناً وتختفي أحياناً. يقول: ولقد كنت أتمنى من الأستاذ الدكتور جعفر أن يقف عند هذه المسألة، ويبين فيها قولاً يشفي بعض الصدور، ويريح بعض القلوب. فهو يلوم الدكتور جعفر لأنه لم يفصل في قضية العزلة الشعورية وأثرها على واقع الدعوة الإسلامية. ثم يذكر الدكتور جعفر بأن ما فهمه من أن عدم قيام المجتمع الإسلامي في نظر الأستاذ سيد قطب لا يعني ما يعنيه ظاهر كلامه من انقطاع الأمة المسلمة، فيقول: إن قول سيد قطب بافتقاد المجتمع الإسلامي وانقطاع الأمة اصطلاح خاص بـ سيد قطب، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا نعتبره مسئولاً عما قام به بعض الشباب من اعتقاد بأن عدم اتصاف المسلمين المعاصرين بشروط المجتمع المسلم يعني عدم اتصافهم بالإسلام ذاته. يقول الدكتور محمد سليم: هذا فهم لبعض الشباب لا يقره الدكتور جعفر باعتبار أنه لا يستلزم كلام سيد قطب، ولا يلزم منه، ولا ينبني عليه. ولكن قراءته للمعالم تفيد غير الذي أفاده هذا البحث، فالأستاذ سيد قطب في المعالم رحمه الله يقول: ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم بذلك شهادات الميلاد. فهو بهذا الكلام يأخذ على الدكتور جعفر أنه قال: إن هذه مسألة اصطلاحات، وسيد قطب لم يقصد هذا الكلام على حقيقته، وإنما أتى من بعده من أساء فهم كلامه، يعني: فهم الذين أحدثوا هذه النتوأت الفكرية لسوء فهمهم، وهو هنا يقول: لا، ليست هذه مجرد اصطلاحات. لكن هذا الكلام واضح ومباشر في عبارة يذكرها هنا عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وهي قوله: ينبغي أن يكون مفهوم أصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين الخ، والحقيقة أن هذه الكلمة يقشعر لها البدن، أعني إعادة إنشاء هذا الدين، بل نقول: لتحديد شباب الدين، ولتجديد الدين، وليست إعادة إنشاء هذا الدين. يقول: فيجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم بذلك شهادات الميلاد، يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولاً إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمضمونها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله بالأمر كله. يقول هذا في المعالم. ويقول فيه كذلك: ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام، فإذا دخل في هذا الدين -في مفهومه الأصيل- عصبة من الناس، فهذه العصبة يطلق عليها اسم المجتمع المسلم، وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها آياته الواقعية في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي. وهذا المنهج يعتبره سيد قطب رحمه الله هو المنهج الوحيد في العودة إلى حياة إسلامية، بل يسميه في غير موضع من كتابه المنهج الرباني في مقابلة المناهج البشرية، أو الطاغوتية التي يرفضها ولا يقبلها، وهذا -أيضاً- من مواضع المآخذ التي ذكرها الباحث على هذه القضية.

تطور فكر الاستعلاء في منهج سيد قطب

تطور فكر الاستعلاء في منهج سيد قطب يقول الدكتور محمد سليم: ومن هنا جاءت مسألة الاستعلاء التي عرج عليها الدكتور جعفر بسرعة شديدة لا تتفق أهميتها ولا تتفق آثارها في عقليات الشباب المعاصرين الذين نراهم كل يوم في المساجد والمدارس والجامعات، والذين نصفهم بأنهم يتخذون من الاستعلاء شعوراً داخلياً بالقوة الذاتية، والقدرة على تغيير المجتمع الكافر إلى مجتمع صالح، ولا يتخذون -يعني هؤلاء الشباب- من الاستعلاء شعوراً بأن أسلحة الإيمان أمضى وأقوى وأتقى من أسلحة الكفر، وإنما يتخذون من الاستعلاء طريقاً إلى نوع من الكبر حتى على آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم ومشايخهم. والحقيقة هي أن هذا نلمسه في كثير من الناس الذين نزعوا إلى اتجاهات التكفير، حيث ينتبهون جيداً لقضية الاستعلاء، لكنهم ينحرفون بعيداً إلى أن يصل الاستعلاء إلى حد الكبر والغرور والتعالي على خلق الله، ولا يراعون لأحد حقاً في ذلك، بل قد نسمع أن بعضهم وصل إلى قتل أبيه -مثلاً- أو ضربه، كما تنبأ بذلك بعض السلف فقال: يقل العلم، ويفشو الجهل، حتى ليرفع الرجل سيفه على أمه من الجهل. فقضية الاستعلاء تجاوزت عند كثير من هؤلاء، والاستعلاء بمعانيه الصحيحة هو الاستعلاء على مناهج الكفر من باب أن الإسلام يعلو ولا يعلى، لكن الاستعلاء هنا أدى إلى نوع من التكبر والاغترار في التعامل مع الآخرين. يقول: وإنما يتخذون من الاستعلاء طريقاً إلى نوع من الكبر حتى على آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم ومشايخهم؛ لأن هؤلاء الآباء والأمهات والمعلمين والمشايخ لا يتفقون معهم في بعض نظراتهم أو كلها، ولا يتفقون معهم في المنهج الذي يتخذونه لإعادة الإسلام إلى الأرض، وهذه السنة في التفكير وهذه الطريقة في التصور تحتاج من الدعاة والعلماء والمفكرين والمربيين إلى مزيد تبصر، وإلى تعمق في معالجتها. فهذا منه تعريج على قضية الاستعلاء، وكيف انحرفوا بها في الواقع العملي. والشيء المؤسف هو أننا نلاحظ في قضية الاستعلاء هذه القسوة والغلظة، فقد رأينا من بعض اتجاهات التكفير عند التعامل مع غير المسلمين البشاشة والمسامحة والرقة واللطف، وكان بعضهم معنا في الكلية يتعامل مع الفتيات المتبرجات، ويبتسم لزملائه في الكلية ممن لا دين لهم أصلاً، ثم تكون الشدة والغلظة والصلابة مع إخوانه الذين يعملون في نفس الحقل معه في الدعوة لكن يخالفونه في فكره، فأخوه الذي يعمل معه هو أطوع لله من المتبرجة أو من الشاب المنحرف، فإن كنت تحب لله وتبغض لله، وتريد أن تنصف فكيف تعامل من يوحد الله، ومن هو على علم أكثر بالتوحيد، ومن يدعو إلى الله، ويعمر المساجد بصلاة الجماعة وغير ذلك من الأعمال الصالحة كيف تعامله بهذه الغلظة وهذه الصلابة ليكون هذا خطه منك؟! فهذا فيه شبه من الخوارج، بل هو وقع منه ما وقع من الخوارج، وقد رأينا في بعض الأوقات أن الأمر وصل في جماعة من الجماعات المنحرفة التي تسمى بجماعة المسلمين أتباع شكري مصطفى رأينا قسوة وغلظة وصلابة لم نجد لها نظير إلا عند الخوارج أسلافهم الأقدمين، ووجدنا أن محاولات التصفية الجسدية كثيرة جداً، وقد حصلت محاولات القتل بالنسبة لكثير من الذين كانوا معهم خاصة وخرجوا عن فكرهم واهتدوا إلى منهج أهل السنة والجماعة، محاولات القتل والتصفية الجسدية والإرهاب الشديد لهؤلاء لمجرد أنهم خرجوا عن جماعتهم؛ لأن عندهم أن الخروج عن جماعتهم يعني الكفر والردة عن الإسلام. والحقيقة أن الذين وجدوا في أنفسهم بعض الشيء من هذه السلسلة من الدراسات لابد من أن يراجعوا أنفسهم؛ فقضية الإسلام والحفاظ على الحقيقة في صورتها الناصعة أعلى وأغلى وأهم بكثير من بعض العواطف؛ إذ القضية قضية أمانة، ثم قضية الانحراف والتكفير لا تنحصر فقط في داخل القفص الصدري وداخل القلب، لكنها تنعكس في السلوك مع الآخرين، انعكست في استحلال الحرمات، فكثير من الناس بسبب الحكم بأنهم كفار سرقوا منهم بناتهم، وخطفوا زوجاتهم وزوجوهن بآخرين، فهل هذا يرضي الله؟ وهذا يمكن أن يتكرر بين فترة وأخرى، فقضية التكفير ليست قضية نظرية، وليست ضرباً من الترف الفكري، لكن إذا لم تضبط فإنه يترتب عليها مصائب ومحن ذقنا جميعاً ويلاتها، ولعل أبرز مثال على ذلك قتل الشيخ الذهبي رحمه الله، فمهما حصل منم الخلاف معه، أو من المآخذ عليه فهل يصير بذلك مرتداً وكافراً بحيث يستحل دمه بتلك الطريقة التي حصلت إن كانوا هم فعلاً قد قتلوه؟! فالحقيقة أن هذا الأمر لا يقف عند حد الخلاف النظري أو الطبق الفكري، لكنه ينعكس على الواقع في التعامل مع الناس، حيث نجدهم في ينكرون على من يذهب لصلاة الجماعة، وقد رأيت أحد الإخوة في المسجد يشكو شكوى مريرة من بعض من يعمل معهم أنهم يمنعونه من صلاة الجماعة، وكأنه أتى بمنكر من الفعل لأنه يصلي في المساجد! فأين عقول هؤلاء؟! أتقوم دعوتكم على تخريب بيوت الله؟! فماذا يبقى من الإسلام إذا هجرنا المساجد وخربناها؟! فالحقيقة أن الأمر ليس بالهين؛ لأن له ما بعده من استحلال الأعراض والدماء والأموال، وتخريب بيوت الله عز وجل، وفوق ذلك كله إكفار المسلمين والحكم عليهم بالخروج من هذه الملة.

أثر السجن على كتابي الظلال والمعالم

أثر السجن على كتابي الظلال والمعالم يقول الدكتور محمد سليم: ولقد كنت أتمنى أن يعرج الباحث -أي: الدكتور جعفر - على أمرين، وذلك عندما تحدث عن أهمية كتاب المعالم: الأمر الأول: أن الأستاذ سيد رحمه الله في نهاية مقدمته للكتاب قرر أن هذا الكتاب لا يتضمن كل معالم الطريق، وإنما يتضمن بعضها، وهو يسأل الله أن يعينه على إخراج عدد آخر من المعالم، وعلى ذلك يكون ما ذكر في كتاب المعالم إنما هو ما استطاع سيد قطب رحمه الله في حياته المقدرة التي ابتترت باستشهاده أن يقدمه للناس. ولنا مأخذ على كلمة (ابتترت)، فنحن أهل السنة والجماعة نعتقد أن المقتول ميت بأجله، فهو أجله المكتوب أنه ينتهي إليه، كما يقال: (تنوعت الأسباب والموت واحد)، فما يليق أن تستعمل عبارة: (ابتترت)؛ إذ إنها تعني أنه مات قبل أوانه، كما يقال: المولود المبتتر الذي هو غير ناضج. أي: الذي يولد قبل أن يتم تسعة أشهر في بطن أمه، فهذا التعبير غير مقبول، فلكل أجل كتاب، فهذا الأجل سبق أن كتبه الله عز وجل وقضى به، فلا نقبل كلمة (ابتترت بالشهادة) فلقد عهدناه -رحمه الله- رجاعاً إلى الحق قبالاً للنقد، يشهد بذلك النظر في طبعتي الظلال الأولى والثانية، وهذه ظاهرة حقيقية، وهي أن الأستاذ سيد رحمه الله كان إذا نبه على شيء من الخطأ يرجع فوراً عنه ويعدله فيما بعد أو ما أمكنه ذلك، وهنا مثال من الأمثلة المشهورة، وأنا أنبه عليه حتى إذا سمعنا من يأخذ عليه في هذه المسألة أجبناه بالجواب الذي نذكره، ففي الطبعة الأولى في تفسير سورة الحديد حكى بعض العبارات فهم بعض الناس من عمومها القول بوحدة الوجود، فلما نبه -رحمه الله- على ذلك رجع في الطبعة الثانية مباشرة عن ذلك، وعاد إلى الحق في هذه المسألة، وأتى بالعبارات الصريحة التي تذهب هذا الإيهام رحمه الله تعالى. الأمر الثاني: مسألة الظروف التي كتبت فيها المعالم، بل الظروف التي كتبت فيها الطبعة الثانية من الظلال التي استخرجت منها أربعة فصول بالغة الأهمية من فصول المعالم. لقد كتبت الطبعة الثانية من الظلال وكتب المعالم كله بعد محنة ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين التي تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي كان ينتمي إليها سيد قطب رحمه الله، هذه المحنة وظروف السجن الذي قضى فيه عشر سنوات ما أثرها في فكره؟ ما أثرها في تعبيره؟ وما أثرها في اختياره للمنهج؟ وما أثرها في حكمه على المجتمع داخل السجن وخارجه؟ ثم ما أثرها في التأثير في هذه الطليعة المؤمنة -كما سماها- وهذه الجماعة من الناس؟ ذلك التأثير الذي أشعرهم بأنهم وحدهم الأمة المسلمة، وإن لم يكن هو قد سماهم نصاً الأمة المسلمة وحدهم دون سواهم، لكنه سماهم في غير موضع الجماعة المؤمنة، والأمة المؤمنة إلى آخره. هاتان المسألتان كنت أود أن يشير إليهما الدكتور جعفر، وليته يفعل حين يعيد النظر في ورقته تمهيداً لنشرها، والحمد لله رب العالمين.

معادلة التنظير في منهج سيد قطب

معادلة التنظير في منهج سيد قطب وقد علق الدكتور عبد الحميد أبو سليمان -أيضاً- على بحث قضية المنهج للدكتور جعفر شيخ إدريس، وتكلم عن قضايا التنظير ومعادلة التنظير في الفكر الإسلامي بأن القول بالمرحلة المكية وأنها كانت عرضاً للعقيدة فحسب قول غير صحيح، ثم ذكر أدلة تثبت أن القرآن المكي اشتمل على قضايا أخرى غير العقيدة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وقوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] وقوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم:14] وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1 - 2]، إلى آخره. ثم قال: الذي أريد أن أقوله هو أن سيداً رحمه الله كان منهجه يتلخص في الجمع بين الثقافتين، واتساع هذه الثقافة، والتدرج في التنظير، وعرض معالم الصور الجديدة. فهو يعتذر عن بعض الملاحظات التي أخذت بأنها كانت من باب التفرد في التنظير. يقول: وأي فهم لفكر سيد خارج هذا النطاق هو خطأ وقع فيه تلامذة ابن تيمية الذي كان قمة في التنظير. يعني: كما وقع بعض تلامذة ابن تيمية في ذلك كذلك وقع في شيء من هذا تلامذة سيد قطب رحمه الله. يقول: فحين يأتي تلامذته ويرددون أفكاره دون استخدام منهجه، وينادون بالعزلة فهذا خطأ، ولقد أردت التنبيه لإحسان فهم سيد من خلال منهجه، وليس من خلال أفكار بعض الذين يتحدثون عنه.

خاتمة البحث في منهج سيد في كتاب المعالم

خاتمة البحث في منهج سيد في كتاب المعالم أختتم الكلام بتعليق الدكتور جعفر شيخ إدريس على المناقشات حول بحثه، قال الدكتور جعفر حفظه الله: لقد عجبت لبعض الإخوان الذي طلبوا مني أن أتحدث عن كل فكر سيد قطب؛ لأن طريقتي في البحوث التي تقدم للمؤتمرات أن أتكلم عن جزئية واحدة، فأنا لا أكتب كتاباً، وإنما أكتب بحثاً في حدود عشرين صفحة، ولقد دلتني تجربتي على أنه إذا كان البحث أكبر من ذلك فإنه لا يقرأ، وأنا في البحث أتحدث عن قضية جزئية هي المنهج، والمنهج في كتاب المعالم، وأما: ولماذا كتاب المعالم؟ فلأنه -كما قلت- أكثر الكتب الإسلامية انتشاراً، وأكثرها تأثيراً، لهذا اهتممت به، وكما قال بعض الإخوان: فإنه يمثل مرحلة من مراحل سيد قطب رحمه الله. ومن خصائص سيد قطب في هذا الكتاب أنه ينتقد نفسه، أي: ينتقد المراحل التي تحدث فيها عن العدالة الاجتماعية، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأنا لا أوافقه على ذلك، بل أعتقد أن هذه الكتابات كانت مهمة لما يسميه هو قضية العقيدة. وهذا مثل قول بعض العلماء: إن شيخ الإسلام في آخر حياته في سجنه الأخير ندم على الوقت الذي أنفقه في المجادلة الكلامية والرد على أهل البدع والمناطقة والفلاسفة وغيرهم، وأنه كان يود لو أنه اشغل هذا الوقت بالقرآن وبتدبر القرآن؛ لما شعر من عظم الفائدة التي فتحت عليه لما خلا بالقرآن، ورد على ذلك بعض الناس وقالوا: لو أن ابن تيمية لم يكتب هذه الأشياء لحرمنا من خير كثير عرفناه من خلال ردوده على هؤلاء. كذلك هنا الأستاذ سيد في مقدمة المعالم انتقد نفسه في المراحل السابقة في كتاب: (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و (معركة الإسلام والرأسمالية)، والكتابات الأولى. فهنا يقول الدكتور جعفر: أنا لا أوافق على ذلك. ويذكر دليله على أنه لا ينبغي انتقاد هذه المؤلفات الأولى، يقول: كنت قبل أن أقرأ كتب سيد قطب منضماً إلى جماعة سلفية في السودان، وكنت أعرف عنها تفاصيل العقيدة، وما أظن أنه كانت لي مشكلة، ولكن حينما واجهت الشيوعيين وقالوا لي: إن الإسلام ليس فيه نظام اقتصادي إلى آخره أصار حكم بأني -وأنا طالب بالثانوية آنذاك- شعرت بالزعزعة، والذي رد إلي اليقين والاطمئنان هو كتابات سيد قطب في تلك المرحلة، فالذي أنتقده عليه أنه ظن أن الدخول في هذه التفاصيل من اقتصاد وغيره لا يكون إلا لشيء عملي للدولة، لكنه مهم من الناحية الفكرية كما دلتنا تجربتنا، فأنا لا أتحدث عن كل ما كتب سيد قطب، وإنما أتحدث عن قضية واحدة في كتاب واحد. ثم قال: إن هذا الكتاب -المعالم- ناقشناه في السودان منذ سنين طويلة؛ لأن السودان في ذلك الوقت كان ينعم بالديمقراطية، ومن دون البلاد العربية الأخرى كما أظن، وكان رد فعل الكتاب واضحاً عند الناس، وكانوا يناقشونه، لذلك قضيت شهرين في جلسات عامة كهذه في الجامعة تناقش كتاب: (معالم في الطريق)، وما أستطيع أن أصف لكم كيف كان رد فعل الطلاب عندما أقول لهم: إن سيد قطب أخطأ هنا وأخطأ هناك. حتى إن أحدهم قال لي بعد أن كبر وتخرج من كلية الشريعة: كنت في البداية لا أقبل شيئاً مما قلت. لكنه بعد التفكير وبعد أن مر بخبرات كثيرة قبل بعض ما قلت، ثم إن هذا أصبح له منهجاً، وأصبح لا يقبل الكلام الذي يقال له في الكلية إلا بدليل، قلت له: لقد قلت لنفسك: ما دام سيد قطب قد أخطأ فمن مالك؟ ومن الشافعي وغيرهما؟ ومع كل هذا فلا ينبغي أن نقلل من تأثير سيد قطب رحمه الله، سواء تأثيره بشخصه أم بكتبه، خاصة كتاب المعالم. أما مسألة الصحابة فلم أذكرها؛ لأنها مسألة أقرها، ولقد أقرها الدكتور القرضاوي حيث قال: إن بعض الأفراد وصلوا إلى هذه الدرجة. ولكن قد يؤخذ عليه المنهج؛ لأنه علق هؤلاء الشباب بشيء لا يمكن أن يصلوا إليه، وهذا يصيبهم بشيء من الإحباط، وتكلمنا عن هذه النقطة بالتفصيل من قبل. أما مسألة المجتمع الإسلامي فـ سيد قطب يعتقد أن الشيء المثالي هو الذي يذكره القرآن، وأنه هو الصورة الوحيدة، وكل ما نقص عنها فليس بإسلام، وهو بذلك علق الشباب بصورة مثالية لا يستطيعون أن يصلوا إليها، وأعطاهم صورة للمجتمع الإسلامي، أو لنظام الحكم الإسلامي ما زالت مؤثرة في كثير من الناس، وكل شيء ينقص عنها فهو ليس إسلامياً، وبذلك لا توجد حكومات إسلامية، ولا مجتمع إسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين كما يرى كثير من الناس. وأقول: إن هذا ضار من ناحية المنهج؛ لأن سؤالاً ملحاً سيظل يسأله الإنسان لنفسه: من أنت؟ ومن هؤلاء الذين يستطيعون أن يحققوا في القرن الخامس عشر ما لم تستطع أن تحققه كل أجيال المسلمين طول هذه المدة مع كل ما نعرف فيها من قمم شامخة في العلم وفي السلوك؟! وأظن أن الذي نهتم به ينبغي أن لا يكون تبرئة سيد قطب رحمه الله مما قال، مع أني لا أدري ماذا كان يعني بالضبط؟ ولكن كلماته إذا أخذناها على ظاهرها تدل على ما قلت، وأهم من ذلك: أن الناس فهموا من هذه الكلمات هذه المعاني التي ننتقدها وفهموها على غير تواطؤ منهم، فقامت عندنا جماعات في السودان في الستينات تقول مثلما قالت جماعات في مصر وفي اليمن من غير اتصال بينهم ولا تعارف، وكان الجامع بينهم هو هذا الكتاب. أما مسألة معابد الجاهلية فأذكر أن بعض هؤلاء الذين كانوا يأتونني كانت أهم قضية يتحدثون معي فيها هي اعتزال معابد الجاهلية -أي: المساجد-، فقلت لهم: والله إنكم شياطين، فأرجى عمل عندي هو أن أذهب إلى المسجد، وأنتم لا تقولون لي: اترك الجامعة، أو اترك السوق، وإنما تقولون: اترك المسجد باعتباره من معابد الجاهلية. فتلك ظاهرة فهمها الناس من فكر سيد قطب، وتهمنا في تصحيح مسار الحركة الإسلامية. وأقرر أن سيد قطب لم ينكر الفقه ولم ينكر السنة، ولكنه كان يقول: في هذه المرحلة الأولية ينبغي أن لا نهتم بالفقه. نعم إنه تأثر بـ أبي الأعلى، ولكن تأثره بـ أبي الأعلى كان بالكتابات الأولى لهذا الأخير، فلـ أبي الأعلى كتاب اسمه: (منهاج الانقلاب الإسلامي)، وهو -أيضاً- صورة مثالية لا يمكن أن تتحقق، ولكن لأن أبا الأعلى كان يقود حركة ويعمل ويواجه الناس، الأمر الذي لم يتح للأستاذ سيد قطب رحمه الله الذي ظل طوال المدة مع كتبه ومع فكره، من أجل ذلك فقد غير كثيراً من هذه الأفكار المثالية، ومنهاج الانقلاب الإسلامي الذي كنت أحفظ بعض عباراته وكنت متحمساً لها، مثل: إن الناس الموجودين الآن في هذا المجتمع لا يصلح أحدهم لأن يكون جندياً في المجتمع الإسلامي. وهذه صورة مثالية أخذها سيد قطب عنه، كما أخذ عنه مسألة تفسير (لا إله إلا الله). فـ سيد قطب لا يقول فقط: إن المجتمع الذي يستحل ما حرم الله كافر؛ لأن هذه مسألة معروفة، وما كانت تثير جدلاً، ولكنه يقول كلاماً خطيراً، خاصة إذا أخذنا كلماته بظاهرها، وأظن أن مشكلة سيد قطب رحمه الله: أن دراساته الأولى كانت في النقد الأدبي حيث يباح للإنسان الاسترسال، وأن يقول ما شاء من الكلمات؛ لأنه شيء لا ينبغي أن ينبني عليه عمل، وإنما هو يتذوق نصاً أمامه، فهو أولاً لم يكن فقيهاً، لم يكن فيلسوفاً، لم يكن منطقياً، لم يكن قانونياً، تلك كانت دراساته الأولى، لهذا فإني أحذر من أخذ كلماته على ظاهرها، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكل الناس: افعلوا هذا. خاصة في مثل قوله: إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة، فالأمة المسلمة ليست أرضاً كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوماً كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي. بهذا نكون مررنا على البحث والتعليقات التي كانت عليه.

اتجاهات التكفير نشأتها وتطورها

اتجاهات التكفير نشأتها وتطورها بقي في قضية المنهج عند سيد قطب رحمه الله كلام نضيفه من كتاب المستشار سالم علي البهنساوي، والكتاب يحمل عنوان: (الحكم وقضية تكفير المسلم)، تكلم فيه عن بدء نشوء اتجاهات التكفير في الستينات، وذكر أن بعض هؤلاء الشباب انتهوا في حماسهم إلى القول بمقاطعة المجتمع الذي يعيشون فيه حتى لو صلى أفراده وصاموا وحجوا، وهذه المقاطعة تتمثل في أمور الانعزال، مثل: مقاطعة المساجد؛ لأن الصلاة فيها خلف أئمتها تتضمن الشهادة لهم بالإيمان وهم كافرون. وكذلك الهجرة إلى الصحراء أو الكهوف والجبال؛ لأن ذلك هو السبيل الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الإسلام. وكذلك التوقف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المجتمعات كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، بل عدم المساهمة في أي إنتاج؛ لأن ذلك يؤدي إلى تماسك المجتمع الجاهلي. ثم ذكر -أيضاً- بعض العبارات التي اعتمد عليها هؤلاء الشباب من كلام سيد قطب رحمه الله في الظلال والمودوي أيضاً في كتابه: (المصطلحات الأربعة). إن موطن الداء في هذه القضية هو الشبهات التي أثارها كل من الشهيد سيد قطب وأستاذنا المودودي رحمهما الله، أو غيرهما ممن يصفون المجتمعات بالجاهلية، فقد علمنا أن هذا الوصف قد يراد به جاهلية الكفر والاعتقاد، كما في قول الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. وقد يطلق على المجتمعات المؤمنة، وهنا يراد به جاهلية المعصية والعمل، وذكر مثالاً على هذا قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب:33]، فلو أن امرأة مسلمة مؤمنة موحدة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لكنها متبرجة، وتصلي إذا جاء وقت الصلاة وتغطي نفسها وتصلي، فهل تكون كافرة مثل التي لم تشهد الشهادتين؟! هي لم تستحل معصية التبرج، ولكنها قبلت عقيدة الإسلام، وشهدت الشاهدتين، فهل هذه تعتبر كافرة؟! نعم يصدق عليها تبرج الجاهلية الذي جاء في القرآن، لكن هل تصير كافرة بمجرد فعل التبرج وإن لم تستحله؟! فهذا فعل من أفعال الجاهلية، ولذلك ترجم البخاري وبوب لبعض الأحاديث فقال: (باب المعاصي من أمر الجاهلية)، واستشهد بحديث أبي ذر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية). لكن شكري مصطفى وأشياعه فهموها على أن هذه جاهلية الكفر والخروج من الملة، والمقصود أن هذا خلق من أخلاق الجاهلية، وفرق بين أن تصف شخصاً بأنه جاهلي كافر وثني مشرك وبين أ، تصفه بأن فيه جاهلية. والعجيب أنهم انتهوا إلى كفر الإمام البخاري نفسه، كما صنع شكري مصطفى لما قال بنفسه: نقبل الأحاديث ولكن هو كافر، وأي أحد يقول: هناك كفر دون كفر فهو خارج الدائرة تماماً، وكافر وخارج من الملة. وقد كنت أناقش بعضهم، وهو الآن في أعلى المناصب في جماعة التكفير، وكان زميلاً لي في الثانوية، كنت أناقشه في بداية ارتباطي بهذه الجامعة، فكنت أقول له: قال الإمام النووي كذا وكذا فيسخر من الإمام النووي رحمه الله تعالى، فالاستخفاف بالعلماء، وتكفير العلماء، وتكفير الأمة منذ قرون عديدة، ودعوى أنها ما عرفت إسلاماً، وأنها كانت تنتظر حتى تأتي هذه الطائفة المنقذة ليولد الإسلام من جديد هذا ضلال مبين، هذا مع شدتهم على أهل الإسلام، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام في صفة الخوارج: (يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) فتجد الشدة والغلظة والجفاء مع أهل الإسلام، وتجد الرقة مع أهل الأوثان.

قضية المجتمع الجاهلي الكافر

قضية المجتمع الجاهلي الكافر إن النظام الذي يحكم إذا لم يتبن قضية الإسلام تبنياً صريحاً وواضحاً، ويرفع راية الإسلام وراية القرآن وراية الشريعة فهو كافر -في الجملة- لا شك في ذلك، هذا النظام كافر لأنه لا يتبنى الإسلام، بل يحاربه ويصد عنه، أما مسألة عموم الناس فهذه هي القضية، وهذا هو موضع الخلاف في هذه القضية. وهنا يحاول أن يأتي بعبارات للأستاذ سيد قطب رحمه الله ليثبت أنها فهمت خطأً، وأنه في مواضع أخرى صرح بخلاف ما فهمه هؤلاء الشباب.

قضية المسلم واعتزال المساجد

قضية المسلم واعتزال المساجد يقول: إن اعتزال المساجد أمر من مقومات الإسلام عند هؤلاء، وحتى يكون إسلامك صحيحاً لابد أن تعتزل المساجد؛ لأن هذه المساجد هي معابد الجاهلية، والذين يصلون فيها قد ارتدوا عن الإسلام، وبالتالي فالصلاة معهم شهادة لهم بالإيمان وهم كفار، إن هذا الفكر يقوم على دعامتين: الأولى: حتمية التسليم بأن مجتمعات المسلمين في عصرنا مجتمعات الجاهلية. والثانية: أن النتيجة هي حتمية اعتزال المجتمعات وفي مقدمتها المساجد؛ لأنها معابد هذه الجاهلية. والقوم يظنون أن هذا هو منهج الجماعة الإسلامية بباكستان، وينقلون عن الأستاذ المودودي رحمه الله قوله في (المصطلحات الأربعة): إن معرفة الرجل بمعاني هذه المصطلحات قد شابها الغموض، ولذا فهي معرفة ناقصة، وتلبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والإرشاد، وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمناً بالقرآن، هذه النظرة ما كان لنا بها عهد إلا قريباً في القرن الثالث عشر الهجري. والوحيد الذي نعلم أنه صرح بشيء من هذا هو الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه (تطهير الاعتقاد عن أدران الشرك والإلحاد)، وهو كتيب صغير معروف ومطبوع، ولفظ عبارته بنفس هذا المعنى الذي ذهب إليه المودودي في مقدمة (المصطلحات الأربعة)، يعني أن من شهد الشهادتين دون أن يدرك كل هذه المعاني لم يدخل أصلاً في الإسلام، ويعتبر كافراً أصلياً، وليس كافراً مرتداً.

قضية اعتزال معابد الجاهلية

قضية اعتزال معابد الجاهلية شرع الأستاذ سالم البهنساوي في مناقشة قضية سيد قطب، واعتزال معابد الجاهلية. يقول: غير أن الشهيد سيد قطب رحمه الله في تدبره لقول الله تعالى -وهذا تعبير جيد، أعني: عندما يقول: في تدبره ولا يقول: في تفسيره، فهو نوع من التدبر والتفكير قد يصيب وقد يخطئ، يقول في تدبره لقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] يقول رحمه الله: وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية، وهما ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات، ونرى أن هذه التعبئة لا شيء يمنعها، فإن كان بنوا إسرائيل قد اضطهدوا ولم يستطيعوا ممارسة العبادة علانية في المجتمع فأمرهم الله بالصلاة في البيوت فلا يوجد ما يمنع المسلم اليوم من أن يفعل ذلك بالنسبة لصلاة النوافل؛ إذ من السنة أن تصلى في البيت، أما الفرائض فلا تصلى في البيوت في عصرنا إلا إذا كانت هناك فتنة، أو كانت المساجد في عصرنا مخصصة لنوع من العبادة التي كانت تمارس في معابد الجاهلية، مثل عبادة الأصنام والأوثان، وهذا لا وجود له بالمرة، ومثل هذه المقارنة بين المساجد في عصرنا ومعابد الجاهلية التي كانت قائمة في زمن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يكون لها كلمة غير صحيحة، أو يكون لها عمل أو اعتبار إذا كان الرسل وأتباعهم قد شاركوا الجاهليين والوثنيين في عصرهم العبادة في هذه المعابد، ولكن المصادر والكتب السماوية حتى ما حرفوه منها تنفي وجود هذه المشاركة، فلم تكن هناك مشاركة في دور العبادة. يعني أن بني إسرائيل لما أمرهم الله أن يتخذوا بيوتهم قبلة بسبب ضغط واضطهاد فرعون لهذه العصبة المؤمنة فهل معنى ذلك أنه كان بنوا إسرائيل في أماكن العبادة هذه يشتركون مع الفراعنة في العبادة، أم كان هناك انفصال؟ يقول: فالأصل العام الموحى به لجميع الرسل هو الوارد في قول الله لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. والذي يمكن أن يقال: هو أنه إذا ظهرت فتنة أدت إلى اضطهاد من يغشون المساجد، وتعقبهم في أنفسهم بالاعتقال والحبس، أو في أموالهم بالمصادرة وأعمالهم بالفصل فلا تثريب على الفئة المضطهدة أن تعتزل المساجد وتصلي في البيوت، لا تأسيساً على أن المساجد هي معابد الجاهلية، بل استناداً إلى الرخص المخولة للمسلم عند الضرورة والإكراه. يعني أن من يأتي الأمور على اضطرار ليس كمن يأتيها على اختيار، فهو قلبه معلق بالمساجد، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله بقوله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، فقلبه معلق بالمساجد، يود أن يخرج إليها، لكن حصل ظرف من الاضطهاد والتنكيل بالشباب أو الإسلاميين، كما حصل في بعض الأوقات، فقد كانت تأتي الشرطة وتأخذ من في المسجد إلى المعتقل بدون جريرة سوى أنهم يقولون: ربنا الله. فمثل هذه الحالات إذا أراد إنسان أن يترخص بسببها في الصلاة في البيوت فإنه يعتزل المسجد لأجل هذه الرخصة فقط، والأفضل أن يأخذ بالعزيمة، لكن يباح له ذلك، لا من حيث إن المسجد هو معبد من معابد الجاهلية يستوي مع الكنيسة ويستوي مع معابد البوذيين والهنود والمشركين، كلا، وكيف يقال هذا؟! وكيف نستطيع أن نبتلع مثل هذا التعبير؟! كيف تكون المساجد معابد الجاهلية؟! وكيف تكون دعوة تؤسس على تخريب بيوت الله ثم نلتمس منها الهدى؟!

قضية معابد الضرار أو الجاهلية

قضية معابد الضرار أو الجاهلية ثم يقول البهنساوي تحت عنوان: (معابد الضرار أو الجاهلية): إن مقصود سيد قطب من قوله: اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المؤمنة مساجد لم يطلقه الشهيد أو يلقي القول على عواهنه، بل وضح المناسبة، وهي قوله: وقد يجد المسلمون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة، فهنا يرشدهم الله إلى أمور، منها اعتزال معابد الجاهلية. فوصف الأستاذ سيد المساجد بكلمة (معابد الجاهلية). هذا يتطلب أن يكون هناك اضطهاد ومطاردة للمؤمنين، وأن يكون المجتمع قد نتن وفسدت بيئته مع تجبر الطاغوت كما كان الأمر في عهد فرعون. إن هذه مبررات القول باعتزال معابد الجاهلية، فهذا مثل وصف مسجد المنافقين بمسجد الضرار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة:107 - 108]، فقد نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه لأنه مسجد للضرار، كما أن الله تعالى قد وصف صلاة الجاهلية بقوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35]. ونحن قد نجد بعض الحكام قد اتخذ من بيوت الله أداة لأعمال الجاهلية من تصفيق وهتافات له ولجاهليته، وهنا يجب اعتزال هذا المسجد، وأما وصفه بأنه من معابد الجاهلية فإننا لا نقر هذا الوصف، ولكن الاعتزال هنا أمر مباح، ويقدر حسب حالة كل شخص، ولهذا ننقل ما كتبه العلماء عن أسباب نزول الآية محل الخلاف، فهذه العبارات المذكورة قد يكون فيها نظر، فهل وصف من الأوصاف يكفي لوصف المسجد أنه مسجد ضرار ويجب اعتزاله لأنه من معابد الجاهلية، فلو أن مسجداً أسسه رجل لوجه الله من ماله، وقف أرضاً يبنى عليها المسجد، وبذل المال في سبيل الله ليبنى به، ثم جاء المحافظ أو الوزير أو أي واحد من الظالمين ووضع يده على المسجد، وعلق رخامة مكتوباً عليها: افتتح في عهد السيد الرئيس كذا أو المحافظ كذا، وعلقت الرخامة، فهل يكفي هذا لأن ينقلب عمل هذا الرجل فيكون مسجد ضرار أو معبداً من معابد الجاهلية؟ وإذا ذهب عبد الناصر وصلى في مسجد عمرو بن العاص فهل ينقلب المسجد لوجود عبد الناصر ووجود سفهاء يصفقون له في المسجد إلى معبد جاهلية؟! فهذا أيضاً من الغلو، والله أعلم. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابعة والثمانين من سورة يونس: يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما بمصر بيوتاً، واختلف المفسرون في معنى قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال الثوري وغيره عن ابن عباس: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] قال: أمروا أن يتخذوها مساجد. وقال الثوري -أيضاً- عن منصور عن إبراهيم: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. يقول الحافظ ابن كثير: وكان هذا -والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، فأمروا بكثرة الصلاة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]. وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى)، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: بالثواب والنصر القريب. فمعنى قوله تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أكثروا من الصلاة وذكر الله في البيوت، واستعينوا على هذا البلاء بأن تكثروا الصلاة في البيوت. وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة. فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة. قال مجاهد: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) لما خاف بنوا إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا بأن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً. وقال سعيد بن جبير: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أي: يقابل بعضها بعضاً. أما القرطبي رحمه الله فيقول في تفسيره: الآية فيها خمس مسائل: الأولى: قوله: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا)) أي: اتخذا ((لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا)) يقال: بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً. والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه: بوأه الله منزلاً، أي: ألزمه إياه وأسكنه، ومنه الحديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). قال الراجز: نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك ومصر في هذه الآية ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا)) هي الإسكندرية في قول مجاهد، وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر. قوله تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً))، قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، أي: مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة، هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وابن مالك وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) يقابل بعضها بعضاً. والقول الأول أصح، أي: اجعلوا مساجدكم إلى القبلة قبل بيت المقدس، قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل: الكعبة. ويقول القرطبي أيضاً: المراد صلوا في بيوتكم سراً لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة والدعاء إلى أن ينجز الله وعده. ثم ذكر الكلام في قوله عليه الصلاة والسلام: (وجعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً)، وحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته بعض الركعات صلاة التنفل، وأيضاً تكلم على مسألة القيام في رمضان هل الأفضل أن يصلي في البيت أم في المسجد، ثم قال: وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم النوافل، فإن قلنا: الفرائض -أيضاً- يصلونها في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجمعة والجماعة، والعذر الذي أبيح له به ذلك كالمرض الحابس، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن، دون القضاء عليه بحق، والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه، وقد فعل ذلك ابن عمر، أي أن هذه بعض أعذار التخلف عن صلاة الجماعة. وقوله تعالى: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، قيل: الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخطاب لموسى عليه السلام.

حتمية تأويل أقوال سيد قطب

حتمية تأويل أقوال سيد قطب يقول الأستاذ البهنساوي عن حتمية تأويل أقوال سيد قطب: ترد وتجد في عبارات الشهيد سيد قطب كلمات الجاهلية والأصول العامة في الإسلام، توجب أن تفسر هذه العبارات إذا اتصلت بالمسلمين على أن المقصود بها اعتزال المناهج والتشريعات المستوردة، على أن أساس أن أصلها جاهلي، ولا يترتب على هذا أن يقال: إن المسلمين في عصرنا قد ارتدوا عن الإسلام وأصبحوا كفاراً، ولهذا فعبارة اعتزال معابد الجاهلية ليست إلا وصفاً لا مدلول له من الناحية الفقهية، ذلك أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم استوجب تأويلها اتفاقاً مع القواعد العامة كما رأينا، فمن باب أولى كلام العلماء والفقهاء، وليس أدل على أن الشهيد سيد قطب لا يريد النتائج والأحكام الفقهية المترتبة على الألفاظ العامة من الخطاب الذي نشره الأستاذ محمد قطب بمجلة المجتمع في العدد (271) الصادر في السابع عشر من شوال سنة ألف وثلاثمائة وخمس وتسعين هجرية، الموافقة (21/ 10/1975م) وهو يؤكد ما قلناه. والمجلة أولاً ذكرت مقدمة كتمهيد للمقالة، قالت مجلة المجتمع: دارت حول أفكار الشهيد سيد قطب آراء اكتنف بعضها الغلو سلباً وإيجاباً، ودفع للحوار في طريق أدق أمانة وأكثر إيجابية كتب شقيقه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد قطب الرسالة التالية، وهو خير من يكتب في هذا الموضوع نظراً لاطلاعه الوافر على أفكار أخيه، ومعرفة مدلول هذه الأفكار بالتالي، ومما هو معروف أن الشقيقين كانا يتدارسان الإسلام معاً، ويقلبان وجوه النظر في قضاياه وموضوعاته معاً أيضاً، ومن هنا قلنا: إن الأستاذ محمد قطب أقدر على تحديد نقاط الأفكار وآراء واجتهادات الشهيد سيد قطب. نص الرسالة: أخي: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإنك تعلم -يا أخي- ما دار من لغط في محيط الإخوان حول كتابات الشهيد سيد قطب، وما قيل من كونها مخالفة لفكر الإخوان أو جديدة عليه، وأحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها حتى لا يكون في الأمر شبهة. إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معين هو بيان المعنى الحقيقي لـ: (لا إله إلا الله)، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما ورد في الكتاب والسنة، شعوراً منه بأن كثيراً من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل الناس عنه، ولكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصوداً به إصدار الأحكام على الناس، وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة، ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي، أم بعيدين عن هذا الطريق فينبغي عليهم أن يعودوا إليه. ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول: نحن دعاة ولسنا قضاة، إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا أن نعرفهم بحقيقة (لا إله إلا الله)؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله. كما سمعته أكثر من مرة يقول: إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم. أما بالنسبة لقضية المفاصلة فقد بين في كلامه أنها المفاصلة الشعورية التي لابد أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية، فنحن نعيش في هذا المجتمع وندعوه إلى حقيقة الإسلام ولا نعتزله، وإلا فكيف ندعوه؟ تلك خلاصة كتابات سيد قطب، ولي على هذه الخلاصة تعقيبات -والكلام للأستاذ محمد قطب -: الأول: هو تأكدي الكامل -بإذن الله- من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف الكتاب والسنة اللذين تقوم عليهما دعوة الإخوان المسلمين. وتعقيباً على هذا نقول: كان ينبغي أن تكون العبارة: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، بدل أن نقول: اللذين تقوم عليهما دعوة الإخوان المسلمين. فقبل الإخوان المسلمين وقبل أنصار السنة، وقبل محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، وقبل هؤلاء جميعاً كان الميزان هو منهج أهل السنة والجماعة. التعقيب الثاني: هو تأكدي الكامل أيضاً من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله مؤسس هذه الجماعة، ولا ما يخالف أقواله، وهو الذي نص في رسالة التعاليم في البند العشرين على أن المسلم الذي لا يجوز تكفيره هو الذي نطق بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض، وذلك فضلاً عن كون كتابات سيد قطب -كما أسلفت- لم يقصد بها إصدار الأحكام على الناس، وإنما قصده منها كما كان قصد الإمام الشهيد بالضبط، وهو بيان حقيقة الإسلام ومواصفات المسلم كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. تلك حقائق أرى أن من واجبي أن أبينها وأوضحها أداء للشهادة لله؛ فإننا لا ندري متى نلقى الله، ولا ينبغي لنا أن نلقاه وقد كتمنا شهادتنا، والله الموفق إلى سواء السبيل. أخوك: محمد قطب. فبهذا نستطيع أن نقول: إننا أنهينا هذا البحث فيما يتعلق بما قيل حول المنهج عند سيد قطب، وهل هذا المنهج كان له أثر في اتجاهات التكفير أم لا ويكفي في هذا الاضطراب كله أن نقول: إنه لن يخلو من أثر من الآثار، سواء قصد أم لم يقصد، وسواء أساء الناس فهمه أم لم يسيئوا، فعلى أي الأحوال الذي يهمنا هو ما ذكرناه في بداية الكلام، أي: أن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً، فالحق حق في كل الأحوال، والرجل قد يكون محقاً وقد يكون مبطلاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وسبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [24]

الإيمان والكفر [24] أهل الفترة هم الذين عاشوا في فترة انقطاع الرسالة بين نبيين، فمنهم من بلغته الدعوة فوحد الله، ومنهم من أشرك، ومنهم من لم تبلغه الدعوة بالكلية، وهؤلاء هم الذين اختلف العلماء في حكمهم، والقول الذي تعضده الأدلة هو القول بامتحانهم في عرصات يوم القيامة.

أحكام أهل الفترة

أحكام أهل الفترة قبل أن ندرس قضية العصر، أو موضة العصر، وهي قضية العذر بالجهل التي تطرح بين وقت وآخر، وتتعرض للخوض الكثير فيها، ونرجو -إن شاء الله- أن نتكلم فيها بمزيد تفصيل، ثم لن نفتحها بعد ذلك، ولا نحتاج إلى ذلك بإذن الله، قبل ذلك علينا أن نعلم أن بعضاً ممن يكتبون أو يتكلمون في قضايا العذر بالجهل يخلطون بين أمرين: بين الكافر الذي لم يدخل أصلاً في الإسلام، وبين المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام، فتجد بعض الناس يستدل بأدلة هي في حق المشركين الذين لم يدخلوا أصلاً في الإسلام، كقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:172 - 173] إلى آخر الآية في سورة الأعراف، فهذه في حق المشركين. وفي الطرف الآخر يستدل بعض الناس بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهذه -أيضاً- تحمل على غير معناها. فالشاهد أن بعض الناس يخلطون بين هذين الطرفين، وفرق بين من استكبر أن يقول لا إله إلا الله، واستكبر عن أن يدخل في دين الإسلام وكفر ولم يؤمن بالله ولا بالرسول ولا بالقرآن، ولا دخل في الإسلام، وبين من دخل في الإسلام، ثم خالف أو وقع في شيء يناقض عقيدة التوحيد ويناقض عقيدة الإسلام دون أن يعرف أن هذا يناقض الإسلام، أو دون أن تبلغه الحجة الرسالية، فرق كبير بين الطرفين، وسنزيد ذلك بياناًَ إن شاء الله فيما بعد. ومما يتعلق بقضية العذر بالجهل قضية أهل الفترة، وكثير من المتكلمين يناقشون معرفة الله هل تدرك بالعقل أم تدرك بالشرع؟ واعتقادنا -والله أعلم- أن هذه الأشياء تدرك عن طريق التلقي بالوحي لا عن طريق العقل، بل إن الله تبارك وتعالى قد فطرنا على فطرة الإسلام، وأنزل إلينا الكتب، وبث آياته في الآفاق وفي أنفسنا، ومع ذلك فإنه -تبارك وتعالى- تفضل وامتن على عباده بأنه لن يعذب أحداً منهم حتى تبلغه حجة الرسل. فإذاً: الحجة تقوم بالأنبياء والمرسلين، وبنصوص الوحي، ولذلك قال عز وجل: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، وترد هنا بعض الأدلة التي فيها المؤاخذة قبل بعثة الرسل، مثل حديث الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين أبي؟ فقال: في النار فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار). فنجد أن ناساً يقولون: إن هذا دليل على أن هؤلاء كانوا في النار رغم أنهم كانوا من أهل الفترة، لكن مع ذلك عذبوا. وهذا يعني أن النقاش في هذه القضية سيطول قليلاً -إن شاء الله- لنوضحها؛ لأن لها علاقة بما نحن بصدده.

تعريف الفترة لغة واصطلاحا

تعريف الفترة لغة واصطلاحاً الفترة في اللغة: هي السكون والضعف. تقول: فتر الشيء: إذا سكن بعد حدة، ولان بعد شدة. وتقول: أفتره الداء: أي: أضعفه. والفترة: فعلة من: فتر الأمر يفتر أو يفتر فتوراً، وذلك إذا هدأ أو سكن، وفي الحديث: (ثم فتر الوحي)، أي: انقطع وسكن. أما اصطلاحاً فهي: ما كان بين كل نبيين، كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد عليه الصلاة والسلام، وكالفترة بين نوح وإدريس عليهما السلام، وقيل: هي ما كانت بين رسولين، فلم يرسل فيها إلى الناس الرسول الأول، ثم لم يدركوا الرسول الثاني، فهذه فترة. وقال الألوسي رحمه الله: أجمع المفسرون على أن الفترة هي الانقطاع ما بين رسولين، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19]، وفي الصحيح: (أن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة)، وهذا في البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم -والأنبياء أولاد علات-؛ ليس بيني وبينه نبي)، رواه البخاري، والعلات: الضرائر، كما جاء في الحديث الآخر: (نحن -معشر الأنبياء- إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى)، فقوله: (ديننا واحد) يعني العقيدة، لكن الشرائع تختلف، فالحلال والحرام، ونظم الطلاق، والزواج، والبيوع، والأمور العامة تتفاوت، والشرائع تتغير وتنسخ، لكن العقيدة واحدة من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء كلهم جاءوا ليدعوا إلى الإسلام، فقوله: (وأمهاتنا شتى) هي الشرائع والأحكام في الحلال والحرام، والأمور العملية. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس بيني وبينه نبي) لفظ واضح وصريح في أنه لم يكن هناك نبي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، خلافاً لبعض الأحاديث الضعيفة التي فيها إثبات نبي من الأنبياء ضيعه قومه، فهذا الحديث صريح في ذلك، حيث قال: (ليس بيني وبينه نبي) وهو أصح.

تعريف أهل الفترة

تعريف أهل الفترة يأتي بعد تعريف الفترة معرفة أهل الفترة ومعرفة أحكامهم، وهل أهل الفترة يكلفون أم لا؟ إن المكلف في الاصطلاح هو الشخص الذي تعلق حكم الشارع بفعله، وشرط هذا المكلف أن يكون قادراً على فهم الدليل؛ لأن التكليف خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وخطاب من لا عقل ولا فهم له محال، والقدرة على الفهم إنما تكون بالعقل؛ لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه يمكن الامتثال، ولما كان العقل من الأمور الخفية، وليس شيئاً محسوساً نراه، فربط الشرع التكاليف بأمر ظاهر منضبط يدرك بالحس، وهو البلوغ، بأن يكون المرء عاقلاً، ويعرف ذلك بما يصدر عنه من الأقوال والأفعال بحسب المألوف من الناس، فمن بلغ الحلم ولم يظهر خلل في قواه العقلية والفعلية والقولية صار مكلفاً. ويشترط في المكلف أن يكون أهلاً للتكليف، والأهلية هي الصلاحية لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، قال الله تعالى: ((وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا))، والأهلية تتحقق بالعقل والفهم، فمن هذه الشروط: أن يكون المكلف عالماً بما كلف به، أو متمكناً من العلم ليستطيع الفعل والترك؛ لأن التكليف بالمستحيل وبما لا يقدر عليه المكلف محال.

أقسام أهل الفترة

أقسام أهل الفترة ينقسم أهل الفترة إلى قسمين: قسم بلغته الدعوة، وقسم لم تبلغه الدعوة، فمن بلغته الدعوة من أهل الفترة قسمان: قسم بلغته الدعوة وأشرك بالله، وقسم وحد ولم يشرك بالله. وقد قدمنا أن أهل الفترة هم الذين يعيشون في فترة انقطاع الرسالة بين نبيين، فلا أرسل إليهم النبي الأول، ولا أدركوا النبي الثاني، لكن هؤلاء بلغتهم الدعوة بصورة أو بأخرى، كالمشركين الذين سمعوا أو علموا شيئاً من دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقسم واحد من هؤلاء الذين عاشوا في هذه الفترة لم يشرك، إما بفطرته، وإما بالاطلاع على بقايا من دين السابقين. والقسم الثاني: قسم لم تبلغه الدعوة ولكنه غَير وأشرك مع الله، وهناك قسم آخر من أهل الفترة لم تبلغه الدعوة، وبقي على حين غفلة، فهؤلاء تنازع العلماء فيهم على أقوال، فبعض العلماء يقول: إن الواحد من هؤلاء يموت ناجياً. والقول الثاني أنه يكون في النار، والثالث: يمتحن بنار في عرصات القيامة.

من بلغته الدعوة ووحد ولم يشرك

من بلغته الدعوة ووحد ولم يشرك أما القسم الأول فهو من بلغته الدعوة ووحد ولم يشرك، كـ قس بن ساعدة الإيادي أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم، وكان قس يسكن نجران، ويقال: إنه أول عربي خطب على سيف أو عصا. وهو أول من قال في كلامه: أما بعد. أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسئل عنه بعد البعثة فقال: (يحشر أمة وحده)، توفي سنة ثلاث وعشرين قبل الهجرة، أي أنه لم يدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قرأنا كلام قس بن ساعدة الإيادي كما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني نجد توحيداً كثيراً جداً في كلامه، وله خطبة مشهورة، من كلماتها (أقسم قس قسماً لا ريب فيه أن لله ديناً هو أرضى له من دينكم)، فكان يخطب في المشركين ويقول لهم هكذا. ومن هؤلاء الذين هم من أهل الفترة الذين بلغتهم الدعوة ووحدوا ولم يشركوا زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد حكماء العرب، كان يكره عبادة الأوثان، رحل إلى الشام باحثاً عن دين، ثم عاد إلى مكة ليعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام، كان عدواً لدوداً لوأد البنات، وهو والد سعيد بن زيد الصحابي الجليل رضي الله عنه، وكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول: اللهم! إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحلته، أي: لو أعرف كيف أعبدك والطريقة التي يمكن أن أعبدك بها وهي محبوبة إليك -بل هي أحب الوجوه إليك- لفعلتها. لكنه كان لا يعرف، لذا فإن العبادات إنما تعرف عن طريق الوحي، ثم إن الشيء الذي كان يستطيع أن يفعله هو أن يسجد على راحلته لله تبارك وتعالى، وكان يقول أيضاً: أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور وقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وكان يتحنث في غار حراء، وكان لا يأكل مما ذبح على النصب، فذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة فقال: (غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم)، فهذا النوع ليس محلاً للنزاع؛ لأن النصوص الواردة تدل على أن هناك من ماتوا على التوحيد.

من بلغته الدعوة وأشرك ولم يوحد الله تعالى

من بلغته الدعوة وأشرك ولم يوحد الله تعالى النوع الثاني من أهل الفترة: من بلغته الدعوة، ولكنه أشرك وغَير ولم يوحد، وأمثلته كثيرة، كـ عمرو بن لحي بن عامر الأسدي، وهو أول من غير في دين إسماعيل عليه السلام، قدم الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فأعجب بها، فأخذ منها وأتى مكة، ودعا الناس إلى عبادتها، وكان آنذاك سيد قومه، فـ عمرو بن لحي هو أول من سن عبادة الأصنام، وهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار)، أي: يجر أمعاءه في النار. وفي بعض الأحاديث: (لأنه أول من سيب السوائب)، وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة. وكذلك عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان فقالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا؛ إنه لم يقل يوماً: رب! اغفر لي خطيئتي يوم الدين). ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي توفي والرسول صلى الله عليه وسلم في بطن أمه، ففيما رواه مسلم: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار)، أخرجه مسلم. وكذلك ورد حديث بشأن أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آمنة بنت وهب، وقد توفيت عنه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنوات، قال عليه الصلاة والسلام: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، أخرجه مسلم، فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة، ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح؛ لأن النبي نهيَّ عن الاستغفار لها حيث إنها لم تمت على التوحيد، سواء بلغتها الدعوة أم لم تبلغها. فهذا النوع ليس محلاً للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم، وذكر بعض العلماء أن الله أحيا له أبويه فأسلما على يديه ثم ماتا، وهذا موجود في رسالة للإمام السيوطي، ولا يصح، وقد طبعت هذه الرسالة مؤخراً محققة، لكن لا يصح ذلك أبداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حول هذه الدعوة: لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحاً لتناقلته كتب الصحاح؛ لأنه من أعظم الأمور خرقاً للعادة، لما فيه من إحياء الموتى والإيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18] فبين الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافراً، وجاء في صحيح مسلم: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ فقال: إنه في النار. فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار). يقول شيخ الإسلام: وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار جائزاً بحقهما لم ينهه عن ذلك، أي: الاستغفار، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمناً فإن الله يغفر له، ولا يكون الاستغفار ممتنعاً، أما زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمه فإنها كانت بطريقه بالحجون بمكة، أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له؟! ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس، والله تعالى أعلم.

من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة وجاهلية

من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة وجاهلية أما القسم الثاني من أقسام أهل الفترة فهو من لم تبلغه الدعوة أصلاً، وبقي على حين غفلة وجاهلية، وأكثر أهل الجاهلية هم من هذا النوع، قال الله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6]، والأصل في أهل الجاهلية أنهم كانوا من هذا النوع، أي: من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة وبقوا في غفلتهم سادرين، ويقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46]، فهذا القسم هو محل نزاع بين العلماء، فمنهم من قال: إن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجياً. ومنهم من قال: من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار. ومنهم من قال: من مات ولم تبلغه الدعوة يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة.

أقوال العلماء فيمن لم تبلغه الدعوة من أهل الفترة

أقوال العلماء فيمن لم تبلغه الدعوة من أهل الفترة

القول بنجاته

القول بنجاته وهذا القول قال به الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، وبعض الشافعية من الفقهاء، واستدل هؤلاء بالأدلة الآتية: أولاً: قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فأخذوا من هذا أن هؤلاء كانوا في فترة، ولم تبلغهم الحجة الرسالية، فلن يعذبهم الله بنص هذه الآية ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، وهؤلاء لم يبعث إليهم رسول، أو لم تبلغهم دعوة الرسل. ثانياً: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، يعني: بعد بعثة الرسل. ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قطع الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، حتى لا يعتذروا يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ولا نذير ينذرهم هذا اليوم، وأهل الفترة لم يأتهم نذير ولا بشير، فالحجة قائمة معهم، فدلت الآية على أنهم لا يعذبون، فهم في الجنة. ثالثاً: قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9]، فـ (كلما) صيغة عموم، والمعنى أن كل من يدخل النار سوف يوجه إليه هذا الكلام، فالملائكة تبكتهم وتوبخهم بقولها: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)) فيجيبون بقولهم: ((بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ))، ومعنى ذلك أن كل من دخل النار قد بلغته حجة الرسل ونذارة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهذا يدل على أن الذين يدخلون النار هم ممن بلغتهم الحجة الرسالية؛ لقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9]. رابعاً: قوله تبارك وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، فقوله عز وجل هنا: ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)) يعم جمع الكافرين الذين يدخلون جهنم والعياذ بالله، وتوبخهم الملائكة، بقولها لهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) فيجيبون بقولهم: ((بلى)) أي: جاءتنا الرسل ((وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)). أما أهل الفترة فلا يدخلون في هؤلاء؛ لأنهم لن يقولوا: ((بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ))، فهم غير مؤاخذين، أي: فهم في الجنة. خامساً: قوله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، فهنا يخاطب الله تبارك وتعالى خلقه من الجن والإنس بقوله: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) فيجيبون بقولهم: ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))، فأشهدهم الله على أنفسهم وأقروا بتلك الشهادة، واعترفوا بأن الرسل قد بلغتهم آيات ربهم وأنذرتهم يوم القيامة، لكن أهل الفترة ليسوا بهذه المثابة، فلا يعذبون، فهم من أهل الجنة. سادساً: قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] ووجه الدلالة أن الله عز وجل لا يظلم أحداً من خلقه، فلا يمكن أن يعذب أمة دون أن يرسل إليها رسولاً فتكذبه فتكون ظالمة بهذا التكذيب، وعندئذٍ تستحق عقاب الله تعالى لها بالإهلاك والاستئصال، لكن أهل الفترة لم تأتهم رسل، ولم يكذبوا الرسل، فهم معذورون لأجل هذا، ولا يستحقون عقاب الله، فهم في الجنة. سابعاً: قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19] يعني: لم يبق لكم حجة، ويوم القيامة لن تستطيعوا أن تقولوا: ((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ))، فقد جاءكم البشير والنذير، فوجه الدلالة هنا أن الله عز وجل أخبر أهل الكتاب أنه قد أرسل إليهم رسولاً يبين لهم أمور دينهم، ويحذرهم من عقابه إن هم عصوه، وقد قامت الحجة عليهم بذلك، لكن أهل الفترة معذورون حيث لم يأتهم رسول، ولذا فهم غير مؤاخذين، فهم في الجنة. ثامناً: جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب) يعني: لا يوجد أحد يحب الإعذار وإقامة الحجة مثل الله تبارك وتعالى، وفي رواية أخرى: (ما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن). فأهل الفترة لم ترسل إليهم الرسل، ولذا فهم في الجنة.

القول بدخوله النار

القول بدخوله النار وهذا القول قال به المعتزلة وجماعة من الحنفية الماتريدية، قالوا بأنهم مكلفون وإن لم يرسل إليهم رسول، وعليهم أن يستدلوا بعقولهم، فما استحسنه العقل فهو حسن، وما استقبحه العقل فهو قبيح، وإن الله سبحانه وتعالى يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسولاً لقيام الحجة عليه بالعقل، وهذا يدل على أن هناك ثواباً وعقاباً قبل بلوغ الدعوة وبعثة الرسل، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]، ووجه الدلالة في نظرهم أن من يموت كافراً فهو في النار، سواء أنذر أم لم ينذر، وأهل الفترة في النار؛ لأنهم ماتوا على الشرك، فقد كان لهم عقول، وكان في الإمكان أن تهديهم عقولهم إلى التوحيد. ومن الأدلة التي استدلوا بها ما رواه مسلم من الأحاديث التي تدل على أن أهل الفترة لا يعذرون وإن لم يأتهم نذير، فمن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، فكون الله عز وجل لم يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه يدل على أنها في النار، وهي من أهل الفترة، فدل على أن من مات من أهل الفترة على الشرك فهو في النار. وكذلك استدلوا بحديث أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)، ووجه الدلالة في ذلك: أن الكافر في النار، وأهل الفترة كفار، فهم في النار. ثم استدلوا بالعقل، ومعلوم تقديس المعتزلة للعقل، واحتجوا بما أخبر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، وكذلك استدلاله عليه السلام بالنجوم ومعرفة الله بها، كما قال الله تعالى عنه: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78]، والمعروف أن إبراهيم عليه السلام في هذه الآيات كان مناظراً ولم يكن ناظراً، فقد كان يتبع أسلوباً معيناً في الجدل والحوار، ولم يكن باحثاً عن الحق بالفعل؛ لأنه كان قد وصل إليه؛ لقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] والأنبياء معصومون من الذنوب قبل البعثة أو بعدها، فكيف بعصمتهم من الشرك؟! فهذا لا جدال فيه، فإبراهيم عليه السلام لم يرتب في الله تعالى لحظة واحدة من الزمن، هو معصوم من ذلك؛ لأنه نبي من أنبياء الله المعصومين، فإبراهيم كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وإنما كان يسلك سبيلاً معيناً لإقناعهم ومحاجتهم، وكان يريد أن يبصرهم بما هم عليه من عبادة الكواكب والأصنام. واحتجوا كذلك بمحاجة الرسل لأقوامهم، بما يرشدهم العقل إليه، كما قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:10]، وقوله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، فأخذوا من ذلك أن العقل كان يمكنه أن يكون وسيلة لإيصالهم إلى الحق، لكنهم عبدوا الأوثان، ولم ينتفعوا بعقولهم.

القول بامتحان أهل الفترة في عرصات القيامة

القول بامتحان أهل الفترة في عرصات القيامة فمن دخل النار كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها فقد عصا الله تعالى، فيدخله الله فيها، وهذا القول قال به السلف، وجمهور الأئمة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله، والحافظ ابن كثير تلميذه، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وحكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وقال به الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله، واختاره الإمام الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في (أضواء البيان). واستدل هؤلاء القائلين بأن أهل الفترة يمتحنون في عرصات القيامة بالأدلة التالية: أولاً: الحديث الذي أورده الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: رب! قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: رب! قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب! ما أتاني كتاب ولا رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن: ادخلوا النار. فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً). وهذا الحديث رواه الطبراني بنحوه، وفي آخره (فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها)، ورجال الإمام أحمد رجال الصحيح، كما في (مجمع الزوائد). واستدلوا -كذلك- بالحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرزي. فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟! فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيباً) أي: إذا كنتم كذبتموني فكيف لو كنت بعثت إليكم رسلاً في الدنيا؟! سوف تكونون أشد تكذيباً لرسل الله، قال: (وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار)، رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه الليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول. ويقول: المعتوه: أي رب! لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال: ردوها -أو قال: ادخلوها- فيدخلها من كان في علم الله سعيداً أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف برسولي بالغيب؟!)، رواه البزار، وفيه عطية وهو ضعيف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب! لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني. ويقول الهالك في الفترة: يا رب! لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه عهد بأسعد بعهده مني. ويقول الهالك صغيراً: لو آتيني عمراً ما كان من آتيتُه عمراً بأسعد مني. فيقول الرب: إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك. فيقول: اذهبوا إلى النار. فلو دخلوها ما ضرتهم، فيخرج عليهم قوابس - جمع قبس، وهي قطع من النار- يظنون أنها أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً فيقولون: خرجنا -يا رب- نريد دخولها فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء. فيأمرهم ثانية، فيرجعون كذلك، فيقولون مثل قولهم، فيقول تبارك وتعالى: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون، وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار)، رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك، قال عنه البخاري: رمي بالكذب. وبقية رجال الحديث رجال الصحيح.

ترجيح ابن تيمية القول بالامتحان في عرصات القيامة

ترجيح ابن تيمية القول بالامتحان في عرصات القيامة بعد سرد أدلة الاتجاهات الثلاثة في حكم من لم تبلغه الدعوة أصلاً وبقي في غفلته سادراً رجح كثير من المحققين ومن السلف القول الثالث، وهو أنهم يمتحنون في عرصات يوم القيامة، وهذا الاستدلال لا ينافيه ما استدل به الفريق الأول الذي قال: إنهم ناجون، ولا ما استدل به الفريق الثاني الذي قال: إنهم في النار. أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فتلك الأدلة التي تنفي العذاب عن أهل الفترة لا تدل على أنهم ناجون، ولا تدل على أنهم في الجنة، فيمكن أن تأتلف مع أدلة من قال بالامتحان، أما أهل الفترة فلا تشملهم تلك النصوص؛ لأن هناك نصوصاً أخرى دلت على أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها الفريق الثالث. أما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار فيجاب عنها بأنها نصوص عامة، كقوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، فهذه نصوص عامة. أما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم النصوص التي تخصهم، فيخرجون من هذا العموم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه من القرآن دون ما لم يبلغه، فكيف بمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب؟! فهذا من باب أولى. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. أما حديث: (استأذنت ربي في أن استغفر لأمي) وحديث: (إن أبي وأباك في النار) فهذه نصوص قد تكون في غير محل النزاع، أو تحمل على أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة وما نحن فيه قسم آخر غير هذا القسم، وهو القسم الذي لم تبلغه الدعوة أصلاً. أما استدلال المعتزلة بالعقل فلا يصح؛ لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده، وهذا سنبينه إن شاء الله فيما بعد. وقد أشرنا إلى أن اختيار أهل التحقيق من العلماء أن أهل الفترة يمتحنون، يقول الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وإنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله، فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فيوقد لهم ناراً يقال لهم: ادخلوها. فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً). ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة العمل بموجبها، فالأول كفر الإعراض، والثاني كفر عناد، أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التذكر بمعرفتها فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات في الفترة والمجنون. ويقول الشنقيطي رحمه الله: والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن بلا خلاف، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع إلا بهذا، وهو القول بالعذر والامتحان.

هل الآخرة دار جزاء أم دار تكليف؟

هل الآخرة دار جزاء أم دار تكليف؟ وتنبني على هذه المسألة مسألة أخيرة، وهي إمكان امتحان أهل الفترة في الآخرة؛ إذ هل يصح أن تكون الآخرة دار تكليف، أم أنها دار جزاء فحسب؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إثبات وقوع التكليف في الآخرة. وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والإمام العلامة المحقق ابن القيم، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ ابن كثير، والإمام ابن حزم وغيرهم من العلماء، ذهبوا إلى إثبات التكليف في الآخرة، وأن كون الآخرة دار جزاء لا يتنافى مع أن يكون التكليف في عرصاتها. القول الثاني: انتفاء التكليف في الآخرة. وهو قول الحافظ إمام المغرب ابن عبد البر وجماعة من المالكية، فقد ذهبوا إلى أنه لا تكليف في الآخرة، وأن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف، لذلك طعنوا في الأحاديث التي استدل بها على الامتحان في عرصات القيامة، لأن الآخرة ليست دار تكليف، وطعنوا فيها من حيث السند. وأجاب الفريق الثالث بأن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً باجتماع طرقها، فأثبتوا التكليف مستدلين بحديث الأسود بن سريع: (أربعة يحتجون يوم القيامة)، وفي نهاية الحديث: أن الله امتحنهم بأن أمرهم أن يلقوا أنفسهم في هذه النار، فهذا دليل على أن في الآخرة تكليفاً. واستدلوا بحديث أنس: (يؤتى بأربعة يوم القيامة) وهو مثل الماضي، وكذلك حديث معاذ: (يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً) إلى آخره، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه: في الهالك في الفترة إلى آخره، فهذه الأحاديث في جملتها تثبت أصل وقوع هذا في الآخرة. ومما استدلوا به قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]. ووجه الدلالة في هذه الآية على المقصود -وهو أن الآخرة يمكن أن يكون فيها تكليف- أنه تبارك وتعالى أخبر أنه سوف يدعو أقواماً إلى السجود يوم القيامة، وهذا تكليف، وجاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلاً ومبيناً شرح هذه الآية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)، أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطاغوت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)، فالمنافقين كانوا يظهرون أنهم يعبدون الله مع الموحدين، قال: (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه. فيأتيهم ربهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا. فيتبعونه، ويضرب جسر جنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذٍ: اللهم! سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟! قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله -يعني: الهالك- ومنهم المخردل -أي: الهاوي- ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر ملائكته أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا -أي: احترقوا- فيصب عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، فيبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، فيقول: يا رب! قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها -يعني لهيبيها- فاصرف وجهي عن النار) أي أن هذا الرجل وجهه مصروف إلى النار، فهو يشكو إلى الله عز وجل ويقول: (يا رب! قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار) فكل أمنيته أن يتحول وجهه يتحول إلى الجهة الأخرى؛ لأن لهيب النار ولفحها قد آذاه وعذبه، فلا يزال يدعو الله عز وجل - (فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره. فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره. فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب! قربني إلى باب الجنة. فيقول: أليس قد زعمت ألا تسألني غيره؟! ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فلا يزال يدعو فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره؟! فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره. فيعطي الله ما شاء من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: رب! أدخلني الجنة. ثم يقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟! ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: رب! لا تجعلني أشقى خلقك. فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول، فإذا دخل فيها قيل له: تمنى من كذا. فيتمنى، ثم يقال له: تمنى من كذا. فيتمنى حتى تنقطع به الأماني، فيقول له: هذا لك ومثله معه)، هذا الحديث أخرجه البخاري. فوجه الدلالة في هذا الحديث أن الله عز وجل أخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يسأله غير الذي أعطاه، فخالف هذه العهود والمواثيق وغدر بها بسؤاله بعد ذلك، فهذا تكليف، فقد الله كلفه أن لا يسأل غيره، وفي كل مرة كان يكلفه، فهذا يدل على وقوع شيء من التكليف في الآخرة. وكذلك حديث الصراط الذي هو جسر جنهم، والعياذ بالله، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر عليه الناس كلٌ على حسب عمله، فمنهم من يمر عليه كالبرق، وكالريح المرسلة، وكأجاويد الخيل، ومنهم الراكب والساعي، ومنهم المخدوش، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً. قال ابن عباس: هو يوم كرب عظيم. وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب. ويقول الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في إحداهما ما يختص بالأخرى؛ فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره. فالإنسان يعتبر قد انتقل إلى يوم الآخر بموته، وكل إنسان له يوم قيامة خاص به هو، وهو ساعة موته، فمنها ينتقل من الدنيا إلى أول منازل الآخرة، وينتقل من الغيب إلى الشهادة، وينقطع عمله، فهو -في الحقيقة- يشرع في قيامته منذ أن يدخل القبر، وأول ما يدخل القبر يجد امتحاناً وفتة بالسؤال والابتلاء. فهذه أدلة من ذهبوا إلى وقوع التكليف في الدار الآخرة، ووقوع التكليف قبل دخول الجنة أو النار. أما الفريق الآخر الذي يقول بعدم وقوع التكليف في الآخرة فقد استدلوا بالعقل، وأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار؛ لأن دخول النار من التكليف بالمحال. وأجابوا عن الأحاديث التي فيها الأمر بدخول النار ابتلاء وامتحاناً لأهل الفترة بأنها ضعيفة ولا يحتج بها. والجواب على هذا أن هذه الأدلة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، ومنها ما يتقوى بعضه ببعض ويشتد به. قال الحافظ ابن القيم: هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها مذهب السلف. ويقول الحافظ ابن حجر: قد ثبت بأحاديث صحيحة أن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي الموقف فهي آثار ذلك التكليف. وأجاب الفريق الأول على ما استدل به الفريق القائل بعدم التكليف من أنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار بأن هذه النار هي رأي العين، وليست ناراً في الحقيقة، فهي في نظر العين نار، ومن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، كما جاء في الأحاديث. وأيضاً: إذا كان دخول النار سبباً في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها، فهم قالوا: العقل يحيل أن يدخل نفسه في النار. و A من الذي يأمرهم؟ لو كان الذي يأمرهم من البشر لاختلف الأمر، كما حصل من ذلك الصحابي الذي كان أميراً على مجموعة من الصحابة، فأغضبوه في السفر فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا فيه ناراً، ثم قال: ادخلوا فيها. فانقسموا إلى فريقين: فريق أراد أن يطيع؛ لأن الرسول عليه السلام أوصاهم بطاعته، وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) وفريق آخر قال: انتظروا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله، فو الله ما أسلمنا إلا لنفر منها. فلما أتوا وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إنهم لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. فالشاهد في هذا أن المخلوق إذا أمرك بمثل هذا فلا يجوز لك أن تطيعه، لكن هنا من الذي يأمر بولوج النار؟ إنه الله سبحانه وتعالى، إذاً: التكليف من الله، والله عز وجل أخبرهم أولاً أن ذلك امتحان امتحاناً لهم، فإذا كانت طاعة الله عز وجل في دخول النار سوف يترتب عليها النجاة والفوز والسعادة فلا مانع من التكليف بذلك؛ لأنه ثبت مثل ذلك في حديث الدجال في آخر الزمان، وهو أن الدجال يكون معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار، والرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا إذا رأينا الدجال ومعه الجنة والنار بأن نقتحم هذه النار، وسوف نجد ما تحتها برداً وسلاماً، ومن يدخل جنته ويطيعه فسيجدها ناراً تلظى. فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر من يدرك الدجال بأن يقع في النار، وهذا تكليف بدخول النار؛ لأن وقوعهم في النار سبب

الإيمان والكفر [25]

الإيمان والكفر [25] لأن يخطئ المرء في الاعتذار عن الآخر بالجهل خير له من أن يخطئ في الحكم عليه بالكفر ويخرجه من الملة، فيبني عليه أحكام المرتد، وباب العذر بالجهل باب دقيق لا يلجه إلا أهله المشتغلون به، فقد يعذر المرء في أمور كثيرة إن لم تبلغه الحجة وتقوم عليه.

التحذير من الخوض في الحكم بالكفر وعدمه

التحذير من الخوض في الحكم بالكفر وعدمه سبق الكلام على خطورة الإسراع في إصدار الحكم بالتكفير على شخص من الأشخاص، وذكرنا أن للاندفاع في هذا الأمر آثاراً خطيرة في الدنيا والآخرة، أولها: أن من يحكم عليه بالردة عن الإسلام أو الخروج عن ملة الإسلام فإنه يستوجب أن يقتل على يد الحاكم المسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، رواه البخاري. ثانياً: ينفسخ بمجرد ردته عقد نكاحه، وتحرم عليه زوجته. ثالثاً: تبطل عباداته، ويحبط عمله. رابعاً: تنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، فلا يصبح ولياً لتزويج بناته، ولا يرث المسلمين، ولا يورث إذا مات، وتسقط حقوقه الخاصة به بوصفه مسلماً، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا حكمه في الدنيا. وأما في الآخرة فهو كافر خالد مخلد في النار أبداً، والعياذ بالله، فمن كان هذا شأنه فينبغي الاحتراز والتورع عن القول فيه بغير علم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، قال العلماء: أهل البدع. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتخلفت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم. فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: محدثان أحدثا في الإسلام: مترف يعبد الدنيا، لها يغضب وعليها يقاتل، ورجل ذو رأي سوء، رأى أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، فسل سيفه وسفك دماء المسلمين واستحل حرماتهم. ثم إن كثرة الخوض في هذه القضية بغير علم لها من الآثار السيئة ما لها، ففي تكفير الناس قطع للجسور الممتدة بيننا وبينهم؛ لأن التكفير عبارة عن سلوك أضيق طريق، بل قطع أي طريق يصل بين الدعاة وبين الناس، وهو طريق التكفير، وفيه إعراض عن الطريق الصحيح، وهو طريق التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعض الناس يريدون أن يبرروا كسلهم عن تبعات الدعوة وواجباتها، فيريحون أنفسهم بالحكم بالتكفير، لينتهى واجبهم. فحينما نتعرض لقضية أثر عارض الجهل في الحكم بالكفر من عدمه نؤكد أن الإنسان حينما يتكلم في قضية العذر بالجهل فإن ذلك يكون انطلاقاً من تقليل خطر هذا الواقع الذي شاع فيه الجهل بين الناس، ولفت النظر إلى أهمية محاربة هذا الجهل، وإزالة غشاوته، ورفع حجابه بالعلم والتعليم والدعوة إلى الله، لا بالصد والتنفير، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن هو أقل من هذا من المبادرة إلى التكفير: (إن منكم لمنفرين) وقال صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا). بل في القرآن أمر الله عز وجل نبيين من أنبيائه -موسى وهارون عليهما السلام- بأن يذهبا إلى فرعون الذي طغى وتجبر وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإذا كان هذا الأدب مع الكافر فأولى ثم أولى أن يكون مع المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام. وإذا كان الله عز وجل أمر بالإحسان والرفق فذلك مع الناس عموماً، لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فتشمل اليهودي والنصراني، فبالأولى والأحرى أن تشمل إحسان القول فيمن انتسب إلى هذا الإسلام. ومن خطورة الانشغال بهذه القضية وكون الإنسان يتبوأ مقعد الحاكم على الناس، وتحديد مصائرهم في الدنيا -بل في الآخرة- أن يشيع خلق الكبر، والنظر إلى الناس من علو ومن فوق كأنه رب ينظر إلى العباد، فلا يكتفي بأن غيره عبد وينظر في حاله كعبد، لكنه يحاول أن يتحرى ما في قلبه، أو أن يعامله معاملة الرب للعبد لا معاملة العبد للعبد. إن معاملة العبد للعبد ينبغي أن تتوقف على ما يظهرون، أما الرب فهو الذي يطلع على ما في القلوب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. وليس أدل على ذلك من حال المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام، ويصلون مع المسلمين، ويخرجون إلى الجهاد مع المسلمين، ويفعلون الأفعال الظاهرة مع المسلمين، وعصمتهم هذه الكلمة رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوحي إليه الوحي كان يُخبر عن وجود هؤلاء المنافقين، فمنهم من علمهم ومنهم من لم يعلمهم صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك كانت تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام. ومن أصول أهل السنة: حسن الظن وحسن الرجاء لأهل القبلة أمواتاً وأحياء. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات؛ فلأن يخطئ الوالي في العفو أهون من أن يخطئ في القصاص) فلأن تخطئ في العفو أولى من أن تخطئ بعد أن تقيم الحد على شخص ويتضح بعد ذلك أنه مظلوم، فمتى وجدت الشبهة فلا بد من درأ الحدود بهذه الشبهات. فإذا كان هذا في قطع يد، أو جلد، أو أي حد من هذه الحدود التي غايتها الانتهاء في الدنيا فكيف بحكم يترتب عليه هذه الآثار الخطيرة التي أشرنا إليها؟! ألا وهو حكم التكفير والخروج من الملة. فحكم الكفر أولى بأن يدرأ بالشبهة، فمن الورع الواجب أن يحترز الإنسان عن التهور في إطلاق حكم التكفير بدون بينة. ونكرر التحذير من الإرهاب الفكري الذي يروجه بعض أهل البدع عندما يلوحون في وجه مخالفيهم بهذه القاعدة، وهي أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، ويضعونها في غير موضعها، وهي ليست آية في القرآن ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن صحت فإنها تحمل على من لم يكفر الكافر الذي قام على كفره دليل قطعي، أو من لم يكفر الكافر الذي نزل الوحي بكفره. أما شخص يختلف العلماء في حكمه هل هو كافر أم غير كافر فلا، وهل سمعنا أحداً من العلماء يكفر من لم يكفر تارك الصلاة بناء على هذه القاعدة؟! كلا. فالتلويح بهذه القاعدة هو محاولة من بعض أهل البدع لإزالة تلك الوحشة التي تصيبهم حينما يرون أنفسهم شاذين ومنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة، لكي يستأنسوا ويبرروا أفعالهم بالضغط بهذه القاعدة، وهي أنك إن لم توافقه على ما هو عليه في موضوع التكفير فأنت كافراً، ويلوحون -أيضاً- بأن الرضا بالكفر كفر.

قضية العذر بالجهل

قضية العذر بالجهل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا دفع المرء الحكم بالكفر عن أخيه المسلم وعمن يظن أنه ليس بكافر فهذا قصد حسن يثاب عليه، بل إذا أخطأ في ذلك فهو مأجور. أو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. والشاهد أنه ليس الأمر كما يتصور الكثير من الناس أن الجرأة على التكفير نوع من البطولة، وإنما يكون ذلك عن جهل وقلة ورع. ثم إن هذه القضية التي نتعرض لها اليوم وجدت بصورة أخرى، لكن قد يكون ما نحن فيه الآن هو صدى من أصداء هذه الدعوة، فالتاريخ يعيد نفسه، فقد فجرت من قبل هذه القضية، أي: قضية العذر بالجهل، ومن نعذر ومن لا نعذر، وأول من فجرها رجل يدعى نجدة بن عامر الحنفي الذي تنسب إليه فرقة النجدات العامرية، وهي فرقة من فرق الخوارج، ويسمون النجدات نسبة إلى نجدة هذا، وكانوا يقولون: الدين أمران: أحدهما: معرفة الله تعالى، ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام، وتحريم دماء المسلمين -ويقصدون بالمسلمين من يوافقونهم- والإقرار بما جاء من عند الله جملة، فهذا واجب على الجميع، والجهل به لا يعذر فيه. الثاني: ما سوى ذلك، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام. فكان نجدة بن عامر يعذر من انتسب إليه من الخوارج، وتفصيل الكلام فيهم وفي محنتهم منشور في الملل والنحل في الجزء الأول. وكثير من الناس يخلطون الأوراق في هذه القضية، ويطيلون النفس فيما لا فائدة من ورائه، وما ليس علاقة له بالموضوع، فنحن -في الحقيقة- لا نناقش حكم الكافر الجاهل؛ لأن للكفر أنواعاً: كفر الجحود، وكفر العناد، وكفر الجهل إلى آخره، فنحن لا نتكلم على الكافر الجاهل، ولا نتكلم على أدلة كفر اليهود والنصارى أو أي نوع من الكفار الأصليين بأنواعهم، ولا نتكلم -أيضاً- عن أهل الفترة ولا عن مصيرهم، وقد سبق بيان ذلك، ولا عن حكم المرتد الذي أصر على الكفر وانشرح به صدره، ولا على من ارتكب من المسلمين الشرك الأكبر وأقيمت عليه الحجة الشرعية بشروطها ثم أصر على هذا الشرك أو الكفر عناداً واستكباراً، لكن القضية التي هي محور الخلاف ومحور الكلام هي حكم تكفير المسلم الذي صدر منه كفر يتعلق بالعقيدة وهو جاهل بأن هذا كفر، وجاهل بأن هذا يخدش عقيدته، هذه هي القضية، وليس الكلام فيما عداها.

تنبيهات تتعلق بالجهل والعذر به

تنبيهات تتعلق بالجهل والعذر به

الجهل مذموم كله

الجهل مذموم كله إن الجهل مذموم كله، والجهل جامع للرذائل كلها، ولا فضائل له، فلا يعني إعذار الجاهل بالجهل الرضا به، وإنما هذا لفت نظر بالنسبة للدعاة أو الذين لهم دور في مواجهة هذا الجهل، وأن لا يشتغلوا بغيره عن محاربته، فنحن لا نذكر العذر بالجهل من أجل أن نطمئن الناس لنقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إذاً يتكلوا)، وذلك لقصور عقول الناس عن فهم هذه الأشياء. ولا ينبغي أن يشاع الكلام في قضية العذر بالجهل كثيراً إلا على مستوى طلبة العلم، لئلا نقع في ذلك المحذور، ويسيء الناس فهم هذا الكلام ولا تطيقه عقولهم فيتمادون ويتمادون في التفريط في حق الله وفي جنب الله تبارك وتعالى. ولا نريد أن نقول: الغاية تبرر الوسيلة، فهل الإنسان الذي يكفر الناس بالمعصية تشفع له نيته أنه يريد أن يخوف الناس من المعاصي فيقول لهم: من فعل المعصية كفر؟! هل يشفع له ذلك؟! كلا، بل عليه أن يقول: المعصية حرام، وعقوبتها كذا وكذا. فإذا وجد من يكفر بالمعصية فإنك تضطر إلى أن ترد وتقول: ليس فاعلها بكافر لأدلة كذا وكذا، وإن كان هذا يخدش وينقص من إيمانه، لكن لا يحبطه بالكلية. فرد الأمور إلى نصابها ووزنها بموازينها من أدلة القرآن والسنة بقصد الاعتدال، والقصد وإحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها هو المسلك الذي ينبغي أن يسلك. فخوفنا من الناس هو أن يسيئوا فهم قضية الجهل، وتماديهم في التفريط ينبغي أن يضطرنا إلى الكلام في توضيح هذه الأمور، ووضع الأمور في نصابها، خاصة أن قضية الجرأة على تكفير الناس فيما هم معذورون به يترتب عليه أمور لمسناها في الواقع، وتداعيات نراها أعياناً في كثير من الأماكن، كما قال بعض السلف: (يوشك أن يظهر الجهل ويقل العلم، حتى إن الرجل ليرفع سيفه على أمه من الجهل)، فهذا نلمسه في واقع نعيشه، وليس مجرد ترف فكري، فالواقع يثبت أن الكثير ممن ينزلقون في قضية التكفير وينحرفون في ذلك ينعكس هذا في سلوك عملي لهم تجاه بعض المسلمين، ولا نريد أن نكثر ذكر الأمثلة، ويكفي في ذلك أن هناك من قتل أباه وانتهك أعراض الناس بتأويلات فاسدة بسبب قضية التكفير وما آل إليها.

ليس كل من عذر بالجهل عاريا عن الإثم

ليس كل من عذر بالجهل عارياً عن الإثم هناك تنبيه مهم جداً، وهو: ليس كل من عذر بالجهل عارياً عن الإثم، وليس معنى أن إنساناً عذر بالجهل أننا لا نكفره، فمثلاً: الشخص الذي يجهل فروض الأعيان يحكم العلماء بفسقه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، فهناك علم واجب على كل مسلم وفرض لازم عليه أن يتعلمه، وهو علم لا يتم الواجب إلا به، مثل: كيف تصح صلاته، وكيف يصح وضوؤه، وكيف يصح صيامه؟ إلى آخر ذلك. فالجاهل بفروض الأعيان فاسق كما قال العلماء. قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى: العابد إذا كان عارياً عن العلم لا يسمى في عرف الشرع عابداً، بل فاسقاً. فإذا وجد شخص مجتهد في العبادة لكنه عار عن العلم ومقصر في طلب العلم فإنه لا يسمى في الشرع عابداً، بل يسمى فاسقاً؛ لأنه بدوام تركه تعلم فروض العين لا يزال فاسقاً؛ لأنه يرتكب معصية يستمر فيها، وهي هجره لطلب العلم الواجب عليه، فهذا فسوق وخروج عن أمر الله بتعلم ما تصح به العبادات. يقول: العابد إذا كان عارياً عن العلم لا يسمى في عرف الشرع عابداً، بل يسمى فاسقاً؛ لأنه بدوام تركه تعلم فروض العين لا يزال فاسقاً، كما أشار إليه بعض علمائنا الأجلاء بقوله: وجاهل لفرض عين لم يجز إطلاق صالح عليه فاحترز لأنه بتركه التعلما لم ين فاسقاً يقول العلماء يعني أن الشخص الذي يقصر في طلب العلم الواجب عليه -وهو علم فروض الأعيان- لم يجز أن يسمى صالحاً، ولا يمدح بذلك، فاحترز، يعني: احترز عن أن تصفه بهذه الصفات؛ لأنه بتركه التعلما لم ين -أي: لم يزل- فاسقاً، يقول العلماء: إنه لم يزل فاسقاً بتركه التعلم الواجب عليه. فالصالح لا يطلق شرعاً إلا على القائم بحقوق الله وحقوق العباد، ولا يمكن ذلك بدون العلم، وقد أشار الناظم المذكور إلى هذا بقوله: وقائم بحق ربه وحق عباده فصالحاً قد استحق فالصالح مرادف للعابد؛ لأن عبادة العابد بدون علم لا تسمى عبادة؛ لأن ما يفسده صاحبها أكثر مما يصلحه، كما أشار إليه الناظم بقوله: إن الذي بدون علم يعبد لا يحسن العمل لكن يفسد فترد أعماله ولا تقبل لخلوها عن العلم، كما أشار إليه العلامة الشيخ أحمد بن رسلان الشافعي في خطبة نظمه المسمى بالزبد بقوله: وكل من بغير علم يعمل أعماله مردودة لا تقبل ونعود إلى أصل التنبيه، وهو أن العذر بالجهل ليس على الإطلاق؛ فإنه لابد من نوع مؤاخذة إذا كان هناك تقصير. وكذلك فعل عمر رضي الله عنه حين عذر الحبشية التي زنت مع عدم علمها بحرمة الزنا مع أنها فرطت في التعلم، وكذلك عذر الصحابة الذين شربوا الخمر متأولين، لعدم تقصيهم معرفة الحلال والحرام. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: القسم الثاني: متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه، فهذا مستحق للوعيد، وآثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته. انتهى كلام ابن القيم. فالقول هنا لا يكفر هذا الشخص بل يؤثمه؛ لأنه ليس بمعرض عن الشريعة بالكلية، ولم يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل مراده اتباعه، وخالف النبي عليه الصلاة والسلام عن جهل مع تمسكه بشيء من الشرع، ومع هذا لم يعرض عن الشرع جملة، ففرق بينه وبين من لم يقصد اتباع الدين أصلاً.

كفر الإعراض والعناد خارج دائرة العذر بالجهل

كفر الإعراض والعناد خارج دائرة العذر بالجهل من التنبيهات المهمة في هذا الأمر أن كفر الإعراض والعناد لا دخل للجهل فيه، والكفر أنواع، فهناك كفر الجهل، وكفر الإعراض وكفر العناد. فكفر الجهل مثل كفر النصارى، وكفر الجحود والعناد ككفر اليهود. يقول الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بالرسل، وهذا متعلق بقضية أهل الفترة ومن يلحق بهم. وبين ابن القيم رحمه الله تعالى أن أتباع الكفرة من النساء والصبيان هم كفار وإن كانوا جهالاً، قال: فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً، أو تقليداً لأهل العناد، وهؤلاء لا يكون التقليد عذراً لهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]. وفي الحديث حين يسأل الكافر في قبره: من ربك، وما دينك، وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فلا يهتدي لاسمه فيقال له: محمد عليه الصلاة والسلام يقول: (هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فهذا ليس بعذر له. وقد نبهت في المقدمة على أن الكافر الأصلي لا يعذر بجهله؛ لأنه لم ينقد، ولم يعلن التزامه المجمل بدين الإسلام، فمن الظلم التسوية بين الكافر الجاهل وبين المسلم الجاهل كما سنبين -إن شاء الله فيما بعد.

كفر الاستهزاء خارج عن دائرة العذر بالجهل

كفر الاستهزاء خارج عن دائرة العذر بالجهل كفر الاستهزاء بالله تبارك وتعالى، وبآيات الله، وبأنبياء الله ورسله وبكتاب الله لا دخل للعذر بالجهل فيه أيضاً، فلا يعذر من سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله تبارك وتعالى، أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعل أي شيء من أفعال الاستهزاء بالله عز وجل، أو ما ينسب إلى الله عز وجل من الكعبة أو الرسل أو الكتب أو غير ذلك، فهذا كفر مخرج عن الملة، وإن صدر ممن يدعي الإسلام، وإذا قال فاعله: أنا جاهل بهذا الحكم لا يلتفت إليه؛ لأن هذا فيه استهانة بالله عز وجل، وتعظيم الرب تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، ولا يجهله أحد، حتى اليهود والنصارى، فما من أحد إلا وهو يدين بتعظيم الله عز وجل، حتى الطفل الصغير حينما يسمع صبياً لم يربه أهله على الدين واحترام الدين فيسب الدين يعرف أن هذا كفر، وأن سب الدين يخرج من ملة الإسلام، فهذا مما هو معروف، ولا أحد يجهل تعظيم الله، وتعظيم رسل الله وأنبيائه وكتبه، يقول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فكل من كان على غير الإسلام، وبلغه أمر الإسلام وسمع بالنبي وبالقرآن ولم يدخل في دين الإسلام فهو كافر. ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ، أو صدر عنه كفر وهو جاهل به فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها، قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام -أي: علم بالضرورة من دين الإسلام- واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: وفيه الاستدلال في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين.

التفريق بين كفر الفعل وكفر الفاعل

التفريق بين كفر الفعل وكفر الفاعل نحتاج ونحن ندرس هذه القضية إلى أن نذكر بما سبق أن أسلفنا القول فيه، وهو التفريق بين كفر الفعل وكفر العين، فالفعل قد يكون كفراً لكن فاعله لا يسمى كافراً إلا بحصول شروط وانتفاء موانع، فلذلك قد يتكلم الإنسان في الكلام العام المجرد عن أحوال معينة فيقول: من فعل كذا فهو كافر. لكن لا يعني شخصاً؛ لأنه لا يستلزم الحكم على الفعل بأنه كفر أن يكون صاحبه كافراً، فكفر الفعل غير كفر العين، وهو هذا الشخص، وإن كان تكفير المعين ضرورة من ضرورات الدين، وهذا -أيضاً- مما ينبغي أن نتفطن له، فليس معنى ذلك أن باب التكفير مسدود حتى في حق من أتى بالكفر الأكبر والشرك الأكبر وأقيمت عليه الحجة، لكن هذا الأمر يوكل إلى أهله، ولا تترك المسألة مفتوحة يطرقها كل من شاء، وكل شخص يحسن الظن بنفسه ويرى أنه أصبح الحجة ليستقل بمقاضاة الناس وإصدار الأحكام عليهم، فإن باب التكفير ليس مغلقاً، وتكفير شخص بعينه واسمه ليس مغلقاً، لكنه مفتوح لأهله من أهل العلم والقضاة الشرعيين حتى لا يصير الناس في فوضى ويستحل بعضهم أموال بعض، ويقتل بعضهم بعضا ويسفكون دماء بعضهم بمجرد الدعوى ويصير الأمر فيه كثير من الخلط. فتكفير المعين باسمه ضرورة من ضرورات الدين، وإلا لزم إلغاء باب الردة ونصوص الردة، لكن السؤال هو عمن يملك سلطة تكفير المعين، وتطبيق حدود الله تبارك وتعالى عليه. وخلاصة الكلام أن تكفير المعين لابد منه، ولكن هذه مهمة القاضي الشرعي والحاكم.

قضية العذر بالجهل من القضايا العملية وليست من قضايا العقيدة

قضية العذر بالجهل من القضايا العملية وليست من قضايا العقيدة من الأمور المهمة والتنبيهات أن قضية العذر بالجهل هي من القضايا الفقهية العملية، وليست من مسائل العقيدة. وفي ضوء الكلام الذي أسلفناه آنفاً يتبين أن هذه قضية إجراءات تتم في الدولة المسلمة من قبل القضاء الشرعي، حيث يستوفي القاضي القضية مع الشخص، وإن كان عنده شبهة يزيلها ويقيم عليه الحجة، ومثله العالم أو الحاكم أو من بيده هذه السلطة، ثم يترتب على ذلك فعل عملي. فالقضية تتعلق أكثر ما تتعلق بالقضاة لا بالدعاة، أما في الأوضاع التي نحن فيها الآن فينبغي استفراغ الوقت في إزالة عارض الجهل عن الناس، وهذا هو الذي لا نشك فيه، وهو أننا مطالبون بمحاربة الجهل، وأما مقاضاة الناس بهذه الصورة التي تحصل من كثير من الإخوة فهذا مما فيه نظر كثير. ومما يؤسف له أنني اطلعت على كتاب لبعض الإخوة أسماه (العذر بالجهل عقيدة السلف)، فلماذا ينسب القضية إلى السلف؟! فهذه القضية ليس لها علاقة بالعقيدة، وإنما هي قضية من القضايا العملية الفرعية، وليست من القضايا الأصولية، وليست من مسائل العقيدة. فالشخص في قضية العذر بالجهل يسلك مسلك من قال بتكفير تارك الصلاة، فهو قول من قولين قال به بعض الفقهاء، لكن لم يصل الأمر إلى درجة أن الفقيه الذي يكفر تارك الصلاة يكفر الفقيه الآخر الذي لم يقل بهذه المسألة، لكن لأن الذي شاع بيننا وفي واقعنا أن عدم العذر بالجهل في الغالب يقترن بغلو في بدعة التكفير انقدح في أذهاننا أنه لا يترك العذر بالجهل إلا هؤلاء الغلاة، فمن أجل ذلك أخذت هذا الحجم الكبير؛ لأن الواقع هو أنه انقدح في الذهن أن من لم يعذر بالجهل يتجاسر ويتهور في موضوع التفكير. وقد لمسنا أن عرض عدم العذر بالجهل يكون في الغالب مقدمة لكثير من المضاعفات، كالتكفير بالعموم والتوقف والتبين، إلى غير ذلك من المبالغات. ولهذا يجب التحذير من هذه الضلالات؛ لأنها ارتبطت في واقعنا بعدم العذر بالجهل. ثم إن تبيين الكفر وأنواعه والأشياء التي تخرج الإنسان من الملة، وتبيين وعيد فاعل ذلك من واجبات الشرع وأسس الدعوة، وشتان بين ذلك وبين الاجتراء على حرمة المسلمين ووصفهم بالكفر.

العذر بالجهل أمر نسبي إضافي ليس على إطلاقه

العذر بالجهل أمر نسبي إضافي ليس على إطلاقه العذر بالجهل في هذه القضية التي ذكرناها أمر نسبي يتفاوت باختلاف الأشخاص وباختلاف المكان والزمان. فقضية العذر بالجهل هي قضية نسبية حسب الظروف الزمنية والأحوال التي يسود فيها الجهل ويتصدر علماء السوء الذين يدلون العوام. والأصل هو اعتبار عارض الجهل والاعتداد به، سواء الجهل أو الإكراه أو التأويل، كما أشرنا في الكلام عند إجراء الأحكام؛ لأن موضوع العذر بالجهل هو إجراء، سواء أكانت المخالفة -أو الجدل- في أمر من أصول الدين أو من فروع الدين، فالأصل هو الإعذار بهذه الأمور الثلاثة: الجهل، التأويل، الإكراه. فكل من ثبت له عقد الإسلام بأن أقر إقراراً مجملاً قبل أن يبدأ في طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، فشهد لله عز وجل بالوحدانية ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام فإنه يثبت له عقد الإسلام، فمثل هذا الشخص الأصل فيه أن نعتبر ونعتد بعارض الجهل والتأويل والإكراه عند إجراء الحكم عليه. وأيضاً يجب التحقق من انتفاء هذه العوارض قبل دمغه بالحكم الذي يقتضيه مع ما تلبس به من المخالفة.

طريق معرفة الله وأسمائه وصفاته

طريق معرفة الله وأسمائه وصفاته هنا سؤال نحتاج لتجليته، وهو: هل معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة ما يجب إثباته لله تبارك وتعالى من صفات، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، هل ذلك يكون عن طريق العقل أم عن طريق الشرع؟! هذا سؤال اختلف فيه الناس، وهو موضع خلاف أساسي بين المعتزلة وأهل السنة. فالمعتزلة يقولون: إن معرفة الله تجب عقلاً، والطريق إليها هو العقل. وأهل السنة يقولون: إن وجوب المعرفة وطريقها هو الشرع. ثم تتعدد وتنقسم الفرق في هذا الباب أيضاً بعد ذلك، ولذلك نحذر من خطر الكلمة التي تشيع على ألسنة الناس عندما يقولون: عرفوا الله بالعقل، كلا؛ فالله لا يعرف بالعقل، إنما يعرف بالشرع عن طريق الوحي. فما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وما يجب له، وما يستحيل عليه لا سبيل للبشر إلى إدراكه ما لم يعرف ذلك عن طريق الوحي المعصوم، فالإنسان أسير للمحدثات التي يراها ويتصورها ويتخيلها، والله تبارك وتعالى فوق ذلك كله، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأي عقل سوف نتحاكم إليه؟! إن العقول تتفاوت، وبعض العقول تكون كاملة وبعضها تكون قاصرة، فما يتصوره شخص قد يعجز عن تصوره شخص آخر، فلا مخرج من التناقض حينما نرد الناس إلى العقل؛ لأننا لا نردهم إلى مصدر يحسم الخلاف، والله تبارك وتعالى حينما أخبر عن تنازع الناس قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] فعند التنازع نتحاكم إلى الشرع؛ لأننا إذا تنازعنا فتحاكمنا إلى العقول فلن يسد باب التنازع، بل ربما تزداد المنازعات. قال الإمام اللالكائي في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة): (سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل) فقوله: (بالسمع) يعني: بالنقل والوحي. قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، وقال تبارك وتعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. يقول الحافظ اللالكائي: فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد. وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]. ودائماً يأتي في القرآن الهوى في مقابلة الوحي، كقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]. وكذلك استدل إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بأفعال الله المحكمة المتقنة على وحدانيته بطلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب واختفائها، ثم قال بعد ذلك: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] فعلم أن الهداية وقعت بالسمع، وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وهنا لفتة، وهي أن بعض الناس يقولون: كيف نخاطب الناس بالقرآن وهم لا يؤمنون بالقرآن؟! وأقول: بل هذا هو المسلك الصحيح، فآيات الله أنزلت كي ينذر بها الذين أرسل إليهم هذا الرسول، وأنزل هذا الكتاب من أجل هدايتهم. فكما يستعمل الإنسان الآيات العقلية وغير ذلك من الآيات المبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا فإنه كذلك يستعمل آيات الله عز وجل التنزيلية يتلوها على الكفار ويحذرهم بها، ولا يفت في عضده أن يقول بعض الناس: كيف تخاطب بالقرآن أناساً لم يؤمنوا بالقرآن؟! نقول: هكذا كان يفعل الرسول وهكذا كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم في تلاوة آيات الله عز وجل على المشركين. وعوداً على موضوع حديثنا عن ثبوت التوحيد ومعرفة الله وأحكامه بالشرع لا بالفعل نستشهد هنا بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وقال تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، يقول القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}: في هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافاً للمعتزلة القائلة بأن العقل يقبح ويحكم ويبيح ويحرم. ويقول ابن القيم رحمه الله: إن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وهذا كثير في القرآن، حيث يخبر الله أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة. وقال الشنقيطي رحمه الله: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة وما ركز من الفطرة، بل إن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، فمن ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإنه قال فيها: ((حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، ولم يقل: نخلق عقولاً وننصب أدلة ونركز فطرة. فالفطرة تهدي للتوحيد، والعقول تهدي للتوحيد، والآيات في السماوات وفي أنفسنا أمور تهدي للتوحيد، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى قضى أنه لن يعذب أحداً حتى تبلغه حجة الرسل بالسمع وبالوحي.

عارض الجهل وأثره في إجراء الأحكام

عارض الجهل وأثره في إجراء الأحكام أما عارض الجهل وأثره في إجراء الأحكام على من أتى شيئاً من الأفعال الكفرية جاهلاً بذلك فالأصل في هذا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا إذا بلغه على الأظهر من أقوال العلماء. يقول عز وجل: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] يعني: ومن بلغه هذا القرآن. وقال عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعماراً رضي الله عنهما لما أجنبا فلم يصل عمر وصلى عماراً لم يأمرهما بأن يعيد واحد منهما، ولم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجلس ويمكث أياماً لا يصلي، ولم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء، ولم يأمر من أكل من الصحابة حتى تبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، فأعذرهم بهذا الجهل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصل هذا أن حكم الخطاب هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والأظهر لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد أن يبلغ الإنسان الحكم الشرعي؛ لقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. ومثل هذا في القرآن متعدد. أما العلم الثاني فهو علم الخاصة، وهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، ولم يرد فيه نص قاطع أو إجماع صريح، وهذا الذي يعذر فيه الجاهل بجهله، وأمثلته كثيرة تتعلق بالفروع التفصيلية، كالمتعلقة بأحكام أو تفاصيل التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك. وهناك نسبية في العذر بالجهل بالنسبة للدار أو بالنسبة للمكان، فما يعذر به في دار الحرب غير ما يعذر به في دار الإسلام، وما يعذر به من هو في بادية أو كان حديث عهد بالإسلام ليس كما يعذر به من نشأ وتربى بين المسلمين، ومن كان عريقاً في الإسلام. والعذر بالجهل -أيضاً- في الأزمنة التي نقصت فيها آثار النبوة وطويت خلافة النبوة التي كان فيها العلم ظاهراً والحدود تقام، والشرائع ظاهرة، والعلماء يبينون ويوضحون، ويعيش المسلم في زمن التمكين بدين الله، وكذلك العذر بالجهل في هذه الأزمان التي نعيش فيها والتي طويت فيها أعلام السنة، وانتشر فيها دعاة الضلالة ليس العذر بالجهل في ذلك كالعذر بالجهل في أزمنة التمكين وغلبة السنة وظهور دعاتها، فكل حالة بحسبها. فالعذر بالجهل تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ونحو ذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوة، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك. يعني أنه لا يعلم ذلك، وليس هناك أحد يبلغه، فمثل هذا لا يكفر. يقول شيخ الإسلام: ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجاً إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله). ثم ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قصة ذلك الرجل الذي أمر أولاده بإحراقه بعد موته وتذرية رماده في يوم ريح لعله يفلت من عقوبة الله عز وجل. يقول شيخ الإسلام أيضاً: ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم، فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. وأصل الحديث أنه كان رجل فيمن قبلنا أسرف على نفسه بالمعاصي، وقال لأولاده حين حضره الموت: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم خذوا الرماد المتبقي من حرق الجثة، وانتظروا يوماً شديد الرياح، فاجعلوا جزءاً منه في الريح، وجزءاً في البر، وجزءاً في البحر، ثم علل هذا فقال: فو الله لئن قدر الله علي -أي: والله لو استطاع الله أن يجمعني بعدما يفعل بي ذلك- ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. فواضح جداً من السياق أن المقصود أنه كان يشك في قدرة الله على بعثه إذا فُعل به ذلك بعد موته. فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: مع شكه في قدرة الله وآياته لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره، والشاهد في الحديث أنه بعدما فعل به ذلك قال الله عز وجل للأرض: اجمعي ما أخذت منه. وقال للريح كذلك، وقال للبحر كذلك، حتى أنشأه الله عز وجل وخلقه خلقاً جديداً، وسأله فقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك. فغفر له. فهذا الرجل لو كان كافراً لن يغفر له؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فدل دخوله في مغفرة الله على عدم كفره، وإعذاره بجهله بهذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى. يقول شيخ الإسلام: ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث في ذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، فيكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره، والله تعالى أعلم. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في أصول الفقه: الجهل بالأحكام الإسلامية في غير الديار الإسلامية هو جهل قوي، إلى درجة أن جمهور الفقهاء قال: إنه تسقط عنه التكليفات الشرعية، حتى إنه لو أسلم رجل في دار الحرب، ولم يهاجر إلى الديار الإسلامية، ولم يعلم أنه عليه الصلاة والصوم والزكاة، ولم يؤد فروضاً من هذه الفرائض لأنه لم يعرف أن هذا واجب عليه فإنه لا يؤديها قضاء إذا علم. وقال زفر: يجب عليه أن يؤديها إذا علم، ووجهه أنه بقبوله الإسلام صار ملتزماً أحكامه وعليه أداؤها، ويعذر إذا لم يؤدها في وقتها، لكن إذا علم فحكم الالتزام ثابت، ويجب عليه قضاء ما التزم. أما جمهور الفقهاء الذين يقولون: ليس عليه أن يقضي بعدما يعلم فوجهتهم أن دار الحرب ليست موضع علم بالأحكام الشرعية، فلم تستفض فيها مصادر الأحكام ولم تنتشر، فكان الجهل جهلاً بالدليل، والجهل بالدليل يسقط التكليف إذا لم يتوجه الخطاب. والشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله يقول في بعض محاضراته: هناك ثلاث مجتمعات: الأول: الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة، فمن عاش في هذا المجتمع لا يعذر بجهله. الثاني: المجتمع الكافر الذي قد يسلم بعض أفراده، فمن أين للفرد المسلم فيه أن يعرف العقيدة الصحيحة؟! فهو معذور بجهله. الثالث: مجتمع بينهما، فهو في الظاهر مسلم، وعلامات الإسلام ظاهرة عليه، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة، فمن أين يتلقى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة؟! فيكونون -والحال هذه- معذورين.

لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام

لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام ومن الأمور المهمة في هذا الموضوع أنه لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام، والبراءة المجملة من كل ما يخالف دين الإسلام. فأكثر الذين كفروا بالله عز وجل كفروا عن طريق تقليد الآباء والأجداد، يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، ويقول عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، ويقول: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، ويقول: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18]، ويقول: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] أي: شك. فذم الله تبارك وتعالى المكذبين من الكفار فيما لا يحصر من أدلة القرآن والسنة. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد. فسياق كلام ابن القيم هو في الكفار الأصليين الذين يخصهم بأنهم جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله، ولم يتحقق لديهم الإقرار المجمل بالإسلام، والبراءة المجملة من كل دين يخالفه، ومن كان كذلك لم يعذر بجهله بالاتفاق. فهذا فيما يتعلق بالكافر الجاهل؛ لأن هذا الكافر الجاهل لم يقر إقراراً مجملاً بالالتزام بحكم الإسلام ثم جهل شيئاً، فالخلل والخطر في الحقيقة هو قياس المقرين بالإسلام في الجملة على هؤلاء الكفار الأصليين، أن تقيس من قال: لا إله إلا الله على من استكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، وأن تقيس من يعظم كتاب الله ويوقره ويؤمن به على أنه وحي من الله عز وجل بمن قال عن القرآن: إنه سحر وكهانة وأساطير الأولين. فإنه لا يستوي من وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كذاب أشر ساحر مجنون ومن عظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمن برسالته ونبوته ومحبته. فلا يصح أبداً قياس المقرين بالإسلام في الجملة على هؤلاء الكفار الأصليين؛ لأن عامة المسلمين وجهلاء المسلمين يقرون في الجملة لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة، فلا نتخيل واحداً من هؤلاء الذين شهدوا بالشهادتين أن يقول: إن الله ثالث ثلاثة. أو: إن عيسى ابن الله. أو: عزير ابن الله. ونحو هذا مما يخالف الإقرار المجمل بإثبات الوحدانية لله عز وجل، فمثل هذا لا يقع من هؤلاء. فالحقيقة أن من أقروا في الجملة بالالتزام بدين الإسلام لم يجحدوا التوحيد، ولم يكذبوا الرسل، وإن خفيت عليهم بعض تفاصيل الدين. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً: بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، واليقين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، أما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وقال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: وقد ذكر علماء الأصول من ذلك -أي: من الجهل الذي لا يعذر به صاحبه- جهل غير المسلم بالوحدانية، وجهله بالرسالة المحمدية، إذا بُلِّغ الدعوة الإسلامية على الوجه الصحيح، وأقيمت الأدلة القاطعة بصدقها، فإنهم قالوا: إن قال هذه الأشياء جهلاً منه فإنه لا يعذر بجهله. وهذا في الكافر الأصلي كما ذكرنا.

قضايا في التوحيد يعذر فيها بالجهل

قضايا في التوحيد يعذر فيها بالجهل هناك أمور في تفاصيل التوحيد يعذر فيها بالجهل، كالجهل ببعض صفات الله عز وجل، وكذلك التحاكم إلى الشرائع الوضعية فيما ظن أن الشريعة قد أحالت به إلى التجربة والخبرة البشرية باعتباره من الشئون الدنيوية، وما أكثر ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم)، فهو ليس عنده علم بقضية الحاكمية وانفراد الله عز وجل بهذه الحاكمية، لكن ربما انفرد في قبول بعض مبدأ التحكيم لغير شريعة الله في بعض هذه الأشياء التي لبست عليه على أنها ليست من الدين، بل على أنها من أمور الدنيا، محتجاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم) ويذكرون الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضعه. وكذلك موالاة من يجهل أحوالهم من المشركين والمرتدين ونحوهم.

الوقوع في الشرك جهلا به

الوقوع في الشرك جهلاً به يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله، واتباع كل ما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فهذه الطبقة من كفار الجهل هي في الكفار الأصليين، وبعض الناس ينتزعون هذه العبارة من كلام ابن القيم ويطبقونها على المسلمين الجهال، ويقولون: قال ابن القيم: فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. ونحتج عليهم بقول ابن القيم بعد ذلك: فإن الكافر من جحد توحيد الله، وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً أو تقليداً لأهل العناد. وهذا الذي أقر إقراراً مجملاً بالإسلام لم يجحد توحيد الله، ولم يكذب الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. فمن احتج بأن الإسلام لا يثبت عقده إلا بتحقق التوحيد والعبادة، وأن هذا القدر لا يعذر فيه بالجهل احتج عليه بما ذكره ابن القيم بعد ذلك من أن الكفر لا يتحقق إلا بجحود التوحيد وتكذيب الرسل، كما عبر عن ذلك الطحاوي رحمه الله بقوله: ولا يخرج العبد من الإسلام إلا بجحود لا عذر له فيه. فهل من تلبس بشيء من الشرك من العامة وهو جاهل بحقيقته هل هو جاحد للتوحيد؟! وهل هو مكذب للرسل؟! والجحود معروف بأنه الإنكار بعد العلم، وهذا لم يعلم أصلاً ولم تبلغه الحجة! وإذا طعن بعض الناس في جحوده للتوحيد فهل هو مكذب للرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنه لا يكذب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما جهل فوقع في المخالفة التي لا يعرف أنها تضاد التوحيد الذي أقره الله عز وجل.

الجهل ببعض صفات الله وأسمائه

الجهل ببعض صفات الله وأسمائه من الأمثلة المتعلقة بالتوحيد التي ذكر العلماء أن فاعلها أو صاحبها يعذر فيها بالجهل الجهل ببعض أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية ولا الفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وقال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك. وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مسلماً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه. وقد استدل شيخ الإسلام على ذلك ببعض الاستدلالات، وقد يكون فيها بعض النظر، لكن أنموذج القضية التي ندرسها هو قصة الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوه، فإنه يوضح هذه المسألة؛ لأن بعض العلماء قالوا: إنه كان يجهل صفة أن الله قادر على بعثه لو فعل به ما أوصى به. لكن هذا المثال يشنع بعض الناس على من يستدل به، فنترك التفصيل في الكلام حول هذا الحديث، لكن نحن الآن على إقرار كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ممن استدل به في هذا المقام، وهو أنه فهم من بعض الأحاديث أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تجهل صفة من صفات الله عز وجل قبل أن يبلغها بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك حين سألت النبي عليه الصلاة والسلام يوماً فقالت: (هل يعلم الله كل ما يكتمه الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم) قال شيخ الإسلام: وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا نَهَزَها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟!)، وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع، فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن أمثلة ذلك جهل بعض الصحابة رضي الله عنهم برؤية الله عز وجل يوم القيامة، ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه، وكثير من الناس لا يعلم ذلك؟ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط، فمثل هذا -أيضاً- لا تكفير به.

التأويل وحسن الظن بأهل البدع

التأويل وحسن الظن بأهل البدع وهنا مثال آخر، وهو جهل الذين يتأولون للحلوليين ويحسنون الظن بهم، مع أن هؤلاء الحلوليين يعتقدون أن الله يحل في المخلوقات أو يتحد بها، فهناك من العلماء من أحسن الظن بهؤلاء ولم يكفرهم، مثل الإمام ابن حجر الهيتمي، والسيوطي، والألوسي، والقاسمي، ونحو هؤلاء يدافعون في بعض المواضع عن محي الدين بن عربي، ويعظمون شأنه ومقالته، والحافظ السيوطي رحمه الله تعالى كتب رسالة سماها (تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي) فذكر فيها أن الناس انقسموا في ابن عربي فريقين: الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها. ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفريقان، وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه. وابن عابدين صاحب الحاشية على الدر المختار عقد مطلباً في حاشيته عنون له بقوله: مطلب في حال الشيخ الأكبر سيدي محي الدين ابن عربي نفعنا الله تعالى به. وقد دافع في هذا المطلب عنه وقال: ومن أراد شرح كلماته التي اعترض عليها المنكرون فليرجع إلى كتاب (الرد المتين على منتقص العارف محي الدين) لسيدي عبد الغني النابلسي. وابن حجر الهيتمي ممن لا يعذرون بالجهل في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) الملحق بكتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، فقد صرح بأنه يعتقد جلالة ابن عربي ولا يعتقد عصمته، بل الألوسي في (روح المعاني) لا تكاد تخلو تفسيراته الإشارية من النقل عن ابن عربي في (الفتوحات المكية) و (فصوص الحكم) وغيرها. ودائماً يقول الألوسي: قال الشيخ الأكبر قدس الله سره. وهو يعني بذلك ابن عربي. والألوسي في مثال من هذه الأمثلة يقول: ولمولانا الشيخ الأكبر قُدِّس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى، فمن أراده فليرجع إلى (الفصوص) يرى العجب العجاب، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد. وانظر -أيضاً- إلى كلام الألوسي في عبارة أخرى: ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، فإنه قد هدي بها أرباب القلوب الصافية، وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وعطلوا الشرائع، واستحلوا المحرمات، وزعموا -والعياذ بالله تعالى- أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن قال: إن لقول هؤلاء سراً خفياً وباطن حق، وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص الخلق فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال، فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة أمره، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله. يعني: إذا وقفت على رجل يثني على ابن عربي فهل معنى ذلك أن تدمغه بأنه يعتقد كل ضلالات ابن عربي؟! كلا؛ فهو يحسن الظن به، وإن كان هذا الظن لا يقع موقعاً يستحسنه، لكن لا يأخذ الناس كلهم حكماً واحداً. يقول شيخ الإسلام: كل من كان أخبر بباطل هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفراً وإلحاداً، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ والعارفين الذين يتكلمون بالكلام الصحيح الذي لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقراراً لهؤلاء، وإحساناً للظن بهم، وتسليماً بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال إلى أن قال شيخ الإسلام: فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين.

عوام المنتسبين لأهل البدع المكفرة

عوام المنتسبين لأهل البدع المكفرة ومن أمثلة هؤلاء عوام المنتسبين إلى بعض الفرق الغالية -كالجهمية الاتحادية ونحوها- ممن لا يعرفون أسرارهم وحقائقهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما المنتسبون إلى الشيخ يونس فكثير منهم كافر بالله ورسوله، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله بل لهم من الكلام في سب الله ورسوله والقرآن والإسلام ما يعرفه من عرفهم، وأما من كان فيهم من عامتهم لا يعرف أسرارهم وحقائقهم، فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين الذي استفاده من سائر المسلمين لا منهم -أي: أخذ الإسلام العام من إخوانه المسلمين لا من هؤلاء الضالين-، فإن خواصهم مثل الشيخ سلول وجهلان والصهباني وغيرهم فهؤلاء لم يكونوا يوجبون الصلاة، ولا يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة. فهذا بالنسبة لخواص الملاحدة والزنادقة. أما العامي فقد يتابعهم ويقلدهم وهو لا يعي حقيقة أقوالهم وما يقصدون إليه، وإن كان معه أصل الإسلام الذي عليه عموم الناس وعموم المسلمين. كذلك جهل عوام القبوريين في بعض ما يتلبسون به من عبادة غير الله عز وجل حتى تقوم عليهم الحجة التي يكفر من يعاندها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فكل عبادة غير معمول بها فلابد أن ينهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنه مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به. يعني: أن أفعال الإنسان هي إما شيء منهي عنه، فإن كان منهياً عنه استحق العقاب، وإن لم يعلم أنه منهي عنه وفعله لم يستحق العقاب؛ لأنه لا يعلم، وإن اعتقد أن هذا الشيء مأمور به وداخل في جنس الشيء المأمور به المشروع فهو يثاب عليه. لكن قد يعتقد شيئاً غير مأمور به، بل هذا الشيء ليس من جنس المشروع، بل هو من جنس المنهي عنه، مثل الشرك، فالشرك ليس فيه شيء يمكن أن يكون مأموراً به، لكن قد يحسب بعض الناس أن بعض أنواعه مأمور به، فهو في هذه الحالة يقلد غيره من الشيوخ الذين يفعلون ذلك، فإما فعلوه لأنهم جربوه فوجوده ينفع في زعمهم، أو اعتمدوا على حديث كذب أو باطل، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي عن هذه الأشياء لا يعذبون، وأما الثواب فإنهم قد يثابون. ويقول أيضاً شيخ الإسلام: ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود للميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ تعليقاً على هذه المقولة: ومراد شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الاستدراك أن الحجة إنما تقوم على المكلفين، ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق وحجة الرسالة ومقصودها الذي هو توحيد الله، وإسلام الوجوه له، وإنابة القلوب إليه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقد مثل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية، أو ولد في بلاد الكفار ولم تبلغه الحجة الرسالية، ولهذا قال الشيخ: لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين. وقد صنف رسالة مستقلة في أن الشرائع لا تلزم قبل بلوغها، وأكثر العلماء يسلمون بهذا في الجملة، ويرتبون عليه أحكاماً كثيرة في العبادات والمعاملات. يقول: فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له والجزم أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له إذاً إذنٌ في مخالفتهم وترك عبادة الله، وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله وجعل معه الأنداد والآلهة؛ لأن هذا بلغته الحجة الرسالية وقامت عليه، والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا -يعني: لا يترددون في هذا الكلام-، وشيخنا رحمه الله قد قرر هذا -يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداءً بهم، ولم يُكَفِّر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى إنه -رحمه الله- توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من يفهمه. ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نفسه: إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبة أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفر، ولم يقاتل؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]! فهذه العبارة صريحة وهي قذى في أعين هؤلاء المبتدعين، قذى في أعينهم إذا سمعوا هذه العبارة، بل وصل الأمر ببعضهم في يوم من الأيام حينما تلوت عليه هذه العبارة أن قال: إذا قال محمد بن عبد الوهاب هذا الكلام فهو -أيضاً- كافر.

حكم من نشأ في بيئة تحيا على الشرك

حكم من نشأ في بيئة تحيا على الشرك يقول الشيخ ناصر الدين الألباني -أيضاً- في نفس هذا الموضوع لما سئل: هل يعذر بالجهل من كان في بلد يقام فيها الذبح للأولياء والطواف حول قبورهم وهم يدعون الإسلام، واعتقد أن هذا الرجل الذي يطاف حوله ينفع ويضر، وهذا هو الاعتقاد التعيس في ذلك البلد؟ فأجاب: هناك ثلاثة مجتمعات: مجتمع إسلامي صحيح، ومجتمع كافر، ومجتمع إسلامي اسماً، فالذي وجد في المجتمع الثاني والثالث معذور -يعني المجتمع غير الإسلامي والمجتمع الإسلامي بالاسم- وحجة الله عليه لم تقم، بمعنى أننا لا نحكم عليه بأنه من أهل الكفر المخلدين في النار، وليس معناه أن يدخل الجنة، فإنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، كما قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع. ولكن أريد من قول (إنه معذور)، أي: لا يحكم له بالنار التي وعد بها الكفار، فله معاملة يوم القيامة معروفة في بعض الأحاديث الثابتة، فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار. وهناك من تفاصيل التوحيد ما يعذر فيه بالجهل، ومنها ما لا يعذر فيه بالجهل، مثلاً: رجل يدعي الإسلام ثم ينسب الصاحبة والولد إلى الله تبارك وتعالى، فهذا لا يعذر بجهله. ومثله شخص يعادي الإسلام ويعادي جميع المسلمين عداوة دينية وليست عداوة دنيوية بسبب مال أو أرض أو عرض من الدنيا، لكنه يعاديهم لأجل تدينهم ويبغضهم ويحرمهم بسبب التدين، فهذه -أيضاً- عداوة تنم عن كره وبغض لما أنزل الله عز وجل. وكذلك سب الله عز وجل، وسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كل هذا مما لا يتصور ورود عارض الجهل فيه على أحد من المسلمين؛ لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.

الإيمان والكفر [26]

الإيمان والكفر [26] قد يختلف أهل السنة في بعض الأدلة على العذر بالجهل، ودلالتها على المقصود، لكنهم متفقون على أصل الدعوى، وقد استفاضت نصوصها لديهم وكثرت بينهم، وتحذيرهم من تكفير المعين بلا دليل أوضح من شمس النهار؛ لأن نتيجته الواقعية سيئة، سواء أكانت بالأقوال أم بالأفعال.

مسائل في التوحيد اختلف في العذر فيها بالجهل

مسائل في التوحيد اختلف في العذر فيها بالجهل روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: (لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟! فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة). يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا في هذا الحديث: (ليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى) فالعذر هنا بمعنى الإنذار، أي أن الله ينذر الناس ويعذر إليهم قبل أن يؤاخذهم بالعقوبة، ولهذا بعث المرسلين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وسنضيف هنا إلى ما سبق بعض المسائل التي يعذر فيها بالجهل والتي لا يعذر فيها بالجهل، ونذكر بعض المسائل التي قد تكون محل خلاف بين العلماء فيما يتعلق بهذه القضية، والنزاع فيها إنما هو مبني على تفسير وفهم بعض النصوص والأحاديث، وأشهرها حديث ذلك الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه.

حديث الرجل الذي أمر بنيه أن يحرقوه ويذروه

حديث الرجل الذي أمر بنيه أن يحرقوه ويذروه من تلك المسائل مسألة العذر بالجهل بعموم قدرة الله عز وجل، وإنكار معاد الأبدان إذا تفرقت، فذلك الرجل جهل قدرة الله عز وجل العامة، وأنكر معاد الأبدان إذا فرقت، كما أوصى، وأساس اختلاف العلماء في هذه القضية مبني على تفاوت فهمهم وتفسيرهم لخطة ذلك الرجل. ونص الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن رجلاً حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، وأوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يوم ريح فذروه في اليم. ففعلوا، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له)، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره. وقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذاك: (وكان نباشاً). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه. يعني: هذا الرجل قد أسرف على نفسه في المعاصي، كما جاء في بعض الروايات الأخرى أنه أسرف على نفسه في خوض بعض المعاصي، حتى إذا حضره الموت خاف من لقاء ربه عز وجل، وغلبت عليه خشيته من عذاب الله، وكان يظن أنه إذا فعل ذلك فإن الله لن يقدر على جمعه، فلذلك أوصاهم هذه الوصية، كما يفعل الهنود من الإحراق بعد الموت، فأوصاهم أن يحرقوه حتى يمتحش تماماً وتخلص النار إلى عظمه، ثم يأخذوا ما تبقى من رماده وينتظروا يوماً ذا ريح، وفي بعض الروايات أنه قال: (ألقوا جزءاً منها في البر، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجو) أي: في الهواء، فجمعه الله تبارك وتعالى وسأله لما مثل بين يديه: لم فعلت ذلك؟! فقال: من خشيتك. فغفر الله تبارك وتعالى له. فالشاهد أن هذا الرجل قد غفر الله له، فدل على أن هذا الرجل لم يمت مشركاً؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116]. وهذا الاعتقاد الذي اعتقده ينبئ عن أنه كان يجهل أن الله على كل شيء قدير، وكان يجهل قدرة الله عليه، لذا أوصى بأن يفعل به ما فعل، ظناً منه أنه إذا ذهب جزء منه في البحر، وجزء في البر، وجزء في الهواء فإن الله لا يقدر على جمعه، والشك في قدرة الله تبارك وتعالى كفر أكبر، لكنه كان يجهل ذلك على تفسير فريق من العلماء الذين استدلوا بهذا الحديث على الإعذار بالجهل، وبعضهم عمم فقال: يعذر بالجهل عموماً في العقيدة، وبعضهم خص الإعذار بالجهل في الصفات. فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهل بذلك، ضال في هذا الظن مخطئ، فغفر الله له ذلك. يقول شيخ الإسلام: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى ذلك أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره، وهو بين في عدم إيمانه بالله تعالى. لأن بعض الذين يريدون إبطال دلالة هذا الحديث يقولون: قوله: (فوالله لئن قدر الله علي) هو مثل قوله تبارك وتعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، يعني: لئن ضيق الله علي. أو هو كمثل قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: لن نضيق عليه، ولن نبتليه، ولن نمتحنه. وهذا -في الحقيقة- يفسد معنى الحديث؛ لأن معناه يصير: فوالله لئن ضيق الله علي ليضيقن علي. يقول شيخ الإسلام: من تأول قوله: (لئن قدر الله علي) بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه؛ لئلا يجمع ويعاد. السبب في هذا كله: أنه ظن أنه بذلك -والعياذ بالله- سوف يعجز الله عن أن يجمعه ويعيده ويحاسبه، وقال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر)، أي: أنا آمركم بذلك حتى لا يجمعني الله، فوالله لئن قدر الله علي وعلى جمعي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقب الأولى، وهذا يدل على أنها سبب لها، فهذه فاء السببية، حيث فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا لم يفعل ذلك لم يكن في ذلك فائدة له. وكلام الحافظ ابن حزم في هذه المسألة هو شجى في حلوق الذين ينحون منحى عدم الإعذار بالجهل في هذه القضايا. يقول ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه: إن معنى (لئن قدر علي) إنما هو: لئن ضيق الله علي. كما قال تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16]، وهذا تأويل باطل؛ لأنه سيكون معناه حينئذ: لئن ضيق الله علي ليضيقن علي. وأيضاً: لو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى، فهذا من الأحاديث المشهورة في هذا الباب. ومن أهل العلم من استشكل المغفرة لهذا الرجل مع إنكاره للبعث والقدرة، حتى قال بعض العلماء: إنما قال ذلك الرجل هذا في حال الدهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب هذا الخوف بعقله لما يقول. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما صدر منه. وقال الخطابي رداً على من تأول هذا الحديث على غير وجهه فإن قلت: كيف يغفر له وهو منكر بالقدرة على الإحياء؟! قلت: ليس بمنكر؛ إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا صنع به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب، وحيث قال: (من خشيتك) علم منه أنه رجل مؤمن فعل ما فعل من خشية الله، ولجهله حسب أن هذه الحيلة تنجيه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك. فهذا الحديث من أشهر الأدلة التي استدل بها من عذر بالجهل في قضية في قضايا الأصول أو قضايا الإيمان، وبعضهم -كما ذكرنا- خصها بقضايا العقيدة.

حديث عائشة (مهما يكتم الناس يعلمه الله)

حديث عائشة (مهما يكتم الناس يعلمه الله) ومن نفس هذا الباب الحديث المروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! قلنا: بلى. قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب -أي: رجع إلى البيت- فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري) أي: ظنت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اطمأن إلى أنها قد نامت خرج يريد أن يذهب إلى أخرى من أمهات المؤمنين (ثم انطلقت على أثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاثاً، ثم انحرف وانحرفت) أي: لما أحست أنه على وشك الرجوع من حيث جاء انحرفت هي -أيضاً- وغيرت اتجاهها (وأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -تردد النفس بسرعة في الصدر- فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت) أي: أرادت أن تهرب منه حتى لا يشعر بذلك، فاضطجعت على الفراش بسرعة، ونتيجة للإسراع في الجري كانت تتنفس تنفساً سريعاً متتابعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل ووجدها على الفراش وصدرها يعلو ويهبط في التنفس قال: (ما لك يا عائشة حشيا رابية؟! قالت: لا شيء. قال: لتخبرني، أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟! قلت: نعم. فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله - أي: أظننت أن الرسول عليه الصلاة والسلام يضيع حقك؟! - قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟! قال: نعم)، رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد وغيره. وموضع الشاهد في الحديث عندما نحتج به في المسألة التي نحن بصددها هو السؤال الذي في آخر الحديث، وهو قولها: (مهما يكتم الناس يعلمه الله؟!) أي: هل كل ما يكتمه الناس في قلوبهم يعلمه الله؟! قال: (نعم، فبعض العلماء فهموا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تعلم هذه الحقيقة، وكانت تجهل هذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى، وهي أن الإنسان مهما كتم في صدره فإن الله يعلم ذلك، فهذا موضع الشاهد، ولكن في النفس شيء من هذا الاستدلال؛ لأنه يصعب جداً أن نتصور أن أم المؤمنين رضي الله عنها -وهي التي تربت في بيت أبي بكر، ثم كانت في بيت النبوة تلك الفترة من الزمن- تجهل مثل هذه الحقيقة التي ينطق بها القرآن صباح مساء في جميع المحافل، فيبعد هذا الأمر في الحقيقة، ولا يكون هذا السؤال على حقيقته، ويؤول عن ظاهره، لكن الذين قالوا بهذا هم من كبار أئمة الإسلام، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو الذي استدل بهذا الحديث على هذه المسألة، فتكفينا صحة الدعوى وإن لم تستقم له الدلالة. أي أن المسألة نفسها -وهي الإعذار بالجهل في هذه الأمور وإن كانت من أمور العقيدة- ثابتة، وإن لم يصح هذا الاستدلال فهناك أدلة أخرى، كالحديث الذي ذكرناه آنفاً، وما سيأتي إن شاء الله، لكن قد يحصل نزاع في الاستدلال نفسه لا في صحة الدعوى، ولذا سنتلوا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، حيث يقول: (فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم)، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وأن الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء). فهذا فيما يتعلق بهذا الدليل والكلام فيه.

حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط)

حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط) من الأدلة المشهورة حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم -أي: يعلقون فيها الأسلحة للتبرك- يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، لتركبن سنن من كان قبلكم). قال بعض العلماء: إن هذا الحديث إنما هو في مسلمة الفتح الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا قد تلقوا قدراً كبيراً من التربية النبوية، ولم يتعلموا كل أمور التوحيد، فحينئذ طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شجرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم، ويتبركون بها كما يفعل المشركون سواء بسواء، فما كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، ولم يقم عليهم حد الردة، وإنما علمهم ما جهلوه، وأخبرهم أن ما سألوه هو مما يخدش عقيدتهم، وهو مثلما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام، فكفر مقالتهم ولم يكفر أعيانهم.

حديث حذيفة: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)

حديث حذيفة: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب) من الأدلة حديث ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فنحن نقولها) قال صلة بن زفر لـ حذيفة: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله) وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار. فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: (يدرس الإسلام) يعني: تنمحي معالمه وتضيع (كما يدرس وشي الثوب) يعني: حينما يصبح الثوب خلقاً تضيع الألوان والرسوم التي فيه، وكذلك الإسلام بمرور الوقت يجئ عليه زمن غربة وجهل عظيم بالدين، حتى يصل هذا الأمر إلى أن الناس لا يدرون ما هو الصيام، ولا ما هي الصلاة، ولا ما الصدقة، ولا ما هو النسك، ثم قال: (وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية) وهذا مما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن القرآن سوف يرفع من الأرض والصدور ولا يبقى منه آية في الأرض، قال: (وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز)، والشيء الوحيد الذي يبقى لهم هو أنهم يقولون: لا إله إلا الله (يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها)، فقال صلة بن زفر -كما هؤلاء الذين لا يعذرون بالجهل في مثل هذا-: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله) وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك؟! فأعرض عنه حذيفة وهو يكررها عليه ثلاثاً، ثم رد حذيفة أيضاً بثلاث مرات فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار. فهذا -أيضاً- دليل على الإعذار بالجهل حينما يرفع العلم ويفشو الجهل، ولا يبقى للناس شيء يعلمونه من الإسلام غير كلمة التوحيد، فهم يجهلون الصيام والصلاة والصدقة فضلاً عن بقية أركان الدين، وهذا ما استدل به من لا يكفر تارك الصلاة، لقوله: تنجيهم من النار. وحديث حذيفة هذا يبين القدر الأدنى من النجاة، ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم مع ما هم فيه ليسوا من المشركين؛ لأن كلمة التوحيد تنجيهم من النار كما بين حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبعض الناس دفع هذا الاستدلال قائلاً: كيف نقول: إن هؤلاء الناس إنما كانوا معذورين؛ في حين أن القرآن رفع وما بقي منه شيء؟! ونقول: نعم، لكن موضع الاستدلال ما زال قائماً، وهو أدنى ما ينجي الناس من النار ويدخلهم الجنة، وهو جود الإقرار بهذه الكلمة، فمن أجل ذلك تنجيهم من النار.

سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الشام

سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الشام وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)، وقوله: (وهي على قتب) يعني: على ظهر الجمل. فبعض العلماء قالوا: إنه كان يفهم هذا الحديث على ظاهره، أي أن معناه أنه لو كانت المرأة على قتب لا تمتنع من زوجها، لكن جاء التفسير بما هو أشد من ذلك، وهو أن العرب إذا كانت المرأة فيهم على وشك الوضع وتعسرت ولادتها كانوا يرون أن جلوسها على الجمل يسهل الولادة، فجاء التفسير بما هو أشد، فيا ويل النساء النواشز اللائي يستهن بطاعة الزوج وأداء حقه، فقوله: (لو سألها نفسها وهي على قتب) معناه: وهي في حالة الوضع. يقول الشوكاني رحمه الله تعالى في فوائد هذا الحديث: وفيه أن من سجد جاهلاً لغير الله لا يكفر. وقد يورد على هذا الاستدلال أن السجود على أنواع، وربما وجدت أدلة في القرآن تبين ذلك، كما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام، وهناك سجود التحية والإكرام، وربما استدل لذلك بقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] فهو سجود الانحناء أو التحية، وليس سجود العبادة.

قول الجارية (وفينا نبي يعلم ما في غد)

قول الجارية (وفينا نبي يعلم ما في غد) ومما استدل به على ما نحن بصدده حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بُني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آباء يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين)، رواه البخاري. فكأن النبي عليه الصلاة والسلام هنا أمرهن بأن يعدلن عما يقلن من نسبة علم الغيب لغير الله عز وجل إلى ما كن يقلن مما ليس فيه هذا، فهذا نوع من التعليم وإبطال هذا الاعتقاد الفاسد. وأجاب الفريق الآخر الذين لا يعذرون وقالوا: إن هذا الحديث في جويريات صغيرات غير مكلفات. وبعضهم قال: إن المقصود بهذا أنه يعلم ما في غد عن طريق إخبار جبريل عليه السلام بالوحي، والله تعالى أعلم.

قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت)

قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت) وهنا استدلال آخر، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ما شاء الله وشئت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! ما شاء الله وحده)، واستدل به -أيضاً- من لا من يعذرون بالجهل في هذه الأمور، وإن كان قد يستدل به أيضاً على العكس؛ لأن قول الإنسان: توكلت على الله وعليك، أو: أرجو التيسير من الله ومنك قولٌ يوهم الندية والمساواة، وبين صلى الله عليه وسلم المخرج من ذلك بأن يعطف الإنسان بـ (ثم) لا بالواو؛ لأن (ثم) تقتضي التراخي والتأخير في الرتبة، فهذا هو المخرج، فهذا لو سمي شركاً فكأنه يكون شركاً عملياً وليس شركاً حقيقياً أكبر، فقد يكون -أيضاً- في الاستدلال بهذا الدليل نظر.

نصوص العلماء في قضية العذر بالجهل

نصوص العلماء في قضية العذر بالجهل ويلحظ هنا أننا لم نسهب في ذكر الأدلة من القرآن؛ لأن أكثر الذين تكلموا في قضية العذر بالجهل وانتصروا للإعذار بالجهل يستدلون بأدلة لا علاقة لها بالمسألة التي تهمنا؛ إذ هذه الأدلة التي استدلوا بها هي في عموم الناس وفي الكفار الأصليين، أما قضيتنا فهي في رجل مسلم دخل في الإسلام وارتكب فعلاً من أفعال الشرك وهو يجهل أن هذا شرك، ولم يبلغه أن هذا شرك، فعامة الذين يتكلمون في العذر بالجهل يستدلون -مثلاً- بقوله تبارك وتعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وغيرها من الآيات، كقوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقوله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:8 - 9] إلى آخر الآية، كذلك قوله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]. فالشاهد أن هذه الآيات في الكفار، أما موضوعنا فهو موضوع خارج عن قضية الكفار، فموضوعنا هو في قضية مسلم ارتكب فعلاً من أفعال الشرك أو الكفر وهو يجهل، فالفرق بين المسلم والكافر: أن هذا المسلم أقر الإقرار المجمل بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قبل أن يبدأ في الانقياد لله واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، فالذين لا يعذرون يقولون: إن الميثاق الذي أخذه الله من قبل على ذرية بني آدم -كما جاءت بذلك الأحاديث والآية في سورة الأعراف- يكفي. وفريق آخر استدلوا بأن الإنسان فطر على التوحيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه)، أو بأن العقل يهدي أيضاً إلى التوحيد. والجواب عن هذا كله أن هذه الأشياء لا تثبت تفضلاً من الله عز وجل، ولا يحاسب الإنسان عليها حتى تبلغه الحجة الرسالية، ولم يعول الشرع في ذلك لا على الميثاق الأول ولا على الفطرة أو العقل، وإنما أوقف العذاب على بلوغ الحجة الرسالية التي يكفر تاركها. ومن الأدلة التي استدلوا بها من القرآن قوله تعالى عن الحواريين: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112] إلى آخر الآية في سورة المائدة، فوقف من يعذرون بالجهل عند قوله تعالى عن الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة:112]، والقرآن أثنى على الحواريين، وكأن الحواريين كان عندهم شك في قدرة الله على أن يفعل ذلك، وفي الآية -أيضاً- أخذ ورد من حيث الاستدلال.

أقوال العلماء في العذر بالجهل

أقوال العلماء في العذر بالجهل يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر. وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: الطاعات كما تسمى إيماناً كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به الكفر المخرج عن الملة، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً فإنه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبين له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعياً يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع. وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: صح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل، أو عمل ما شاء الله أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه، فإن بلغه وصح عنده فإن خالفه مجتهداً فيما لم يتبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعلمه معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معانداً بقلبه أو قوله فهو مشرك كافر، سواء في ذلك المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردناها، وهو قول إسحاق بن راهويه، وبه نقول وبالله التوفيق. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا من أعظم الناس نهياً أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما ونعذرهم لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. ويقول القرطبي رحمه الله تعالى: فكما أن الكافر لا يكون مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع. وقال الشوكاني رحمه الله: لا اعتبار بما وقع من فوارق عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه. فهذه نصوص عن بعض العلماء في هذه القضية، أما هؤلاء الذين لم تبلغهم الدعوة على وجهها وماتوا فقد ذكر العلماء أنهم فريقان، فمنهم من أطلق القول بعذرهم، وأن الرحمة تشملهم ابتداء، حتى قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً، فهم معذورون. الصنف الثاني: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون. الصنف الثالث: هم بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا -أيضاً- منذ الصبا أن -والعياذ بالله- كذاباً اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له: المقفع بعثه الله تحدياً بالنبوة كاذباً. يقول الغزالي: فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك النظر في الطلب. فهذا كلام الغزالي في فيصل التفرفة بين الإيمان والزندقة. ومنهم من قال في هذا الصنف: يمتحنون في عرصات يوم القيامة، وصحت النصوص في ذلك كما أشرنا إليها من قبل، وذهب إلى القول به عدد كبير من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وابن حزم وابن كثير والبيهقي، ونسبه أبو الحسن الأشعري إلى أهل السنة والجماعة، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يا رب! جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل. وأما الذي مات على الفطرة فيقول: يا رب! ما أتاني رسولك. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولاً أن: ادخلوا النار. قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق النصوص التي تشير إلى امتحان هؤلاء في عرصات يوم القيامة: وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وأجاب عمن ضعفوا هذه الأحاديث بقوله: إن أحاديث هذا الباب -التي هي امتحان أهل الفترة يوم القيامة- منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإن كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله: أما من لم يبلغه ذكره صلى الله عليه وسلم فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد لهم نار يوم القيامة فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجى، ومن أبى هلك. وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة -التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا - هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، فوجه الجمع بين الأدلة هو عذرهم بالفترة، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل، فبهذا الجمع تتفق الأدلة، فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضاً.

قيام الحجة وشروطها ومعناها

قيام الحجة وشروطها ومعناها

قيام الحجة على المعين

قيام الحجة على المعين هذا في الحقيقة هو من موارد الاجتهاد والنزاع بين العلماء، وذلك عندما يعين بعض الناس شخصاً باسمه ويقولون: فلان معذور أم غير معذور؟ وفي هذه القضية بعينها أقامت عليه الحجة أم لم تقم؟ فإذا ثبت أصل العذر بالجهل فالمنازعة قد تقع في قضية بعينها، أو بالنسبة لشخص بعينه، فهذا مما تتفاوت فيه التقديرات، وهو من موارد الاجتهاد -أيضاً- بلا نزاع، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أشار إلى هذا في بعض كتبه فقال: إن الشخص إذا دفع الحكم بالكفر عن شخص معين يعتقد إسلامه ويحسن الظن به -أي: ويكون قد أخطأ بالفعل في هذه القضية- فإنه لا يكون آثماً في ذلك، بل هو مثاب لحسن ظنه في أخيه المؤمن، بل استدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وخطؤه معفو عنه. فإذاً: هذا يؤكد أنه إذا كانت هناك شبهة الكفر فالأولى أن تدفع شبهة الكفر عن آحاد المسلمين من أن تدرأ الحدود عنهم بالشبهات؛ لأن عواقب حكم الكفر أخطر من إقامة الحد خطأً، إذ قد ندبنا إلى الاحتياط في إقامة الحدود، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات، فلأن يخطئ الولي في العفو خير من أن يخطئ في القصاص) فأدنى شبهة تبطل الحد فلا يقام، فينبغي للإنسان أن يتورع ولا ينظر إلى قضية الجرأة على التكفير على أنها نوع من البطولة والشجاعة والاعتزاز بالدين. وفي الحقيقة أنه ينبغي أن تخاف على نفسك أكثر مما تخاف على هذا الشخص الذي يكون محل النزاع، فالمسألة ليست في أنك راض بكفره، بل لابد من أن تصف الكفر بأنه كفر، أما قضية الإجراءات فإنها توكل إلى أهل العلم، والأحوط أن تكل الأمر إلى أهل العلم في الجزم عند التعيين وتخاف على نفسك؛ لأنك إذا أخطأت في الحكم بالكفر فإنه تحور عليك وترتد إليك هذه الكلمة. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه، فالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة، كما جاء في الحديث.

معنى إقامة الحجة وشروطها

معنى إقامة الحجة وشروطها معنى إقامة الحجة أو صفة قيام الحجة -كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى- أن تبلغه، فلا يكون عنده شيء يقاومها. وقد ذكر بعض العلماء أن من شروط إقامة الحجة أن تكون من إمام أو نائبه، أي: من إنسان ذي سلطان يبين ذلك، وقال بعض العلماء: بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائناً من كان. وقال بعض العلماء: الحجة على العامة لا تقوم إلا من خلال من يثقون به من أهل العلم؛ لأن العامة فرضهم سؤال أهل الذكر، ولا شأن لهم بالنظر في النصوص أو استنتاج الأحكام الشرعية منها، وقد تقوم عليهم برجل ولا تقوم عليهم بآخر، ولا ضابط لمن ترد إليه الفتيا بالنسبة لهم إلا التسامع والاستفاضة، وفي مثل هذا تتفاوت الاجتهادات، والحجة على العامة غير الحجة على العلماء، فالعامة يثقون بأهل الذكر فحسب، والواجب عليهم هو أن يسألوا أهل الذكر، والغالب عند العامة أن الشخص المعتد به عندهم هو من استفاض وانتشر في المجتمع الشهادة له بالعلم، وبرز أمامهم كرمز للعلم الشرعي والفتيا وغير ذلك، ففي مثل هذا الأمر يتفاوت الاجتهاد في قيام الحجة بهذا الشخص أو بهؤلاء الناس، من عدمه. والحجة على أهل العلم ليست كالحجة على العامة، فالحجة على أهل العلم تقوم بالأدلة الشرعية المعتبرة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد يحسن عرضها رجل ولا يحسن عرضها رجل آخر، فكم من حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، وكم من قضية عادلة أضاعها محامون فاشلون، فقد يكون الإنسان معه الحق لكن ليس عنده الأدوات التي تمكنه من الانتصار لهذا الحق، وحينئذٍ يعجز عن إقامة هذا الحق، وفي الحقيقة أن كثيراً من الناس يحسنون الظن بأنفسهم بمجرد أن يطلع أحدهم اطلاعاً يسيراً، فإنه يغتر ويكون صاحب الشبر، وصاحب الشبر هو الذي إذا بدأ يتعلم أشياء يسيرة يغتر ويتكبر على الناس ويختال، ويظن أنه صار شيخ الإسلام وعمدة الأنام، فإذا تعلم الإنسان شبراً آخر تواضع، فإذا تعلم شبراً ثالث علم أنه لا يعلم شيئاً، وعبر عن ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فقال: كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي. وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي. خاصة طلبة العلم الذين ليس لهم فيه قدم راسخة، فإنهم يغترون، فيظن أحدهم بنفسه أنه أقام الحجة وهو لا يحسن إقامة الحجة، مثل المحامي الفاشل، فلذلك لا ينبغي أن يجزم الإنسان بأنه أقام الحجة إلا إذا تحرر من الأهواء، وتسلح بالعلم النافع الذي يستطيع به أن يدفع جميع شبهات الخصم حتى لا يبقى له مدفع أبداً للحق الذي بلغه، فليس كل من حفظ دليلاً أو دليلين في مسألة تقوم بمثله الحجة، بل الأصل في الحجة أنها لا تقام إلا بالمجتهد أو بذي سلطان أو أمير مطاع، فهذا هو الذي عبر عنه الفقهاء بذي السلطان، وهو في الحقيقة أقرب إلى عمل القضاء، فهي قضية إجرائية أكثر من كونها قضية تمس العقيدة، فتتبع الشخص الذي فعل الكفر في كونه معذوراً أم غير معذور، وجاهلاً أم غير جاهل، وفي تأوله كل ذلك يقتضي وجود نوع من العلم الشرعي بدرجة عالية من العلم، حتى نستطيع أن نجزم بأن فلاناً قد قامت عليه الحجة التي يكفر من خالفها.

نصوص العلماء في عدم تكفير المعين

نصوص العلماء في عدم تكفير المعين هناك بعض النصوص لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء في قضية عدم تكفير المعين، وعدم الاجتراء على ذلك. ونبدأ بكلام لـ ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق)، يقول رحمه الله: واعلم أن أقصى الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله عليهم السلام، أو لشيء مما جاءوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختل العقل ولا مكره. يقول: وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع. ويقول: وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها إذا قارف المعلوم بالضرورة للبعض أو للأكثر لا المعلوم له وتأول، وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التصريح، أو التبس علينا في حقه، وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد، ومضادة الأدلة الجلية عقلاً وسمعاً، ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة، وهؤلاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عند المحققين. وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: أما قول بعض أهل العلم: إن المتأول كالمرتد فهاهنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جره التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن، ولا ببيان من الله ولا ببرهان، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب في البقيع، فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة -أي: الداهية- التي هي أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين، فأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز وجل وحرقة من الغيرة الإسلامية علمت -وعلم كل من له علم بهذا الدين- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه: إنه إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والأحاديث بهذا المعنى متواترة، فمن جاء بهذه الأركان الخمسة، وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائناً من كان، فمن جاء بما يخالف هذا من ساقطي القوم وزائفي العلم بالجهل فاضرب به في جهه، وقل له: قد تقدم هذيانك، هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر. يقول الشيخ صديق حسن خان: وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام، فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان، وهذا منقول عنه نقلاً متواتراً، فمن كان هكذا فهو المؤمن حقاً، وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية. مثلاً: إذا نظرنا إلى أدلة تحريم الغيبة ووجوب حفظ عرض المسلم بأنواعها نجد أنها من أكبر الذنوب وأكبر الكبائر، فكيف يكون الأمر إذاً؟! إن من الغيبة أن يقول المرء عن شخص: فلان قصير. أو نحو ذلك، أو يعيب ملابسه، أو ابنه، أو أي شيء يخصه، فهذا من الوقوع في عرض المسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم)، فهذا فيه تعظيم شديد جداً لعرض المسلم، فكيف بالطعن في دينه وانتسابه إلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فما من شك في أن الجرأة على التكفير أخطر من ذلك، والأمر الذي يرتاب فيه الإنسان عليه يقول فيه: أقول ما يقول أهل العلم. أو: أنا طالب علم. أما أن يخضع للإرهاب الفكري كأن يقول له شخص: من لم يكفر الكافر فهو كافر حتى يزيل الوحشة التي يجدها المبتدع فلا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الأساليب. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: وفي الأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية؟! فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة، وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضاً: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضاً: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وهو في الصحيح، وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية، فالهداية بيد الله عز وجل {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير سورة الحجرات في قوله تبارك وتعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] قال: وليس قوله: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع. والحقيقة أن مشكلة التسرع في قضية التكفير ترجع إلى التداعيات التي تترتب عليها، والآثار الذي تنتج عنها، وهذا أمر محسوس، وقد لمسنا في الواقع الحي نماذج له، وكثير من البلاد تعيش مرارة هذه الانحرافات حتى اليوم، فإن من المكفرين من وصل إلى حد تكفير أئمة، بل وصل بعضهم إلى حد تكفير الأنبياء، فقد وقع أن بعض هؤلاء كان ينكر أن هناك ظلماً دون ظلم، وكفراً دون كفر، وجهلاً دون جهل، فاستدل بعض الإخوة -وظنوا أن الحجج ستكون قاطعة تخرسهم- بمثل قول يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فعاند المكفر وأصر، وقال: إن معنى (كنت من الظالمين) أن يونس عليه السلام كفر ثم أسلم. وحملوا على ذلك كل حديث، حتى نسبوا إلى آدم أنه كفر -أيضاً- بالذنب ثم أسلم، فالتوبة دخول في الإسلام من جديد، وهذا من الضلال والانحراف في العقيدة. ومما نلمسه من آثار هذه البدعة تكفير السلف، مثل الإمام البخاري، فبعض هؤلاء الضالين كفر الإمام البخاري؛ لأنه قال في كتابه: (باب كفران العشير وكفر دون كفر) فعد هذا كفراً، فكفر البخاري وكفر مسلماً، وكان يقول شكري مصطفى: يجوز الاستدلال بأحاديث البخاري وإن كان كافراً، والكافر يمكن أن يكون صادقاً. وكفروا -أيضاً- كثيراً من العلماء المعاصرين، ومنهم الشيخ ناصر الدين الألباني وغيره من أئمة الهدى، فالشاهد أن من آثار ذلك: استحلال الأعراض، والدماء، والأموال، وعقوق الوالدين كما يقع، بل ربما تقع إراقة دم الأب أو الأم، واستحلال الفروج، فلضلالاتهم قد يأخذون امرأة من زوجها ويزوجونها شخصاً آخر، فهل هناك جرأة أعظم من هذه الجرأة؟! فهذا هو شؤم هذه الدعوة الضالة، إلى جانب فتح باب عظيم لأعداء الإسلام من الصحفيين والإعلاميين لتشويه الدعوة والتنفير منها بحجة أن هذا هو الذي يدعو إليه هؤلاء الناس، وهو السخرية من العبادات، وتكفير الذين يصلون في المساجد لأنهم يأوون إلى معابد الجاهلية ويشاركون الجاهليين في عبادتهم، فتصور ديناً أو عقيدة أو نحلة وصل خذلان الله تبارك وتعالى لأصحابها إلى أنهم يتعبدون بهجرة المساجد، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]، فكان شكري مصطفى يعتقد أن جميع المساجد على وجه الأرض مساجد ضرار لا تجوز الصلاة فيها ما عدا أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وما عدا ذلك من المساجد فلا يجوز الصلاة فيها؛ لأنها كلها مساجد ضرار، ومن يصلي فيها كافر، حتى بلغني أن مثل هذا كان إذا سمع الأذان يقول: هذا مكاء وتصدية المشركين. فصارت عبارات الأذان ونداء التوحيد مكاء وتصدية عندهم، وهذا هو الذي حكاه الله عن المشركين في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]، فهل هؤلاء عندهم دين؟! وهل يخافون الله عز وجل ويراقبونه؟! وهل هؤلاء يعدون العدة ليوم الحساب حينما يعتدون على شعائر الله وعلى دين الله تبارك وتعالى بهذه الطريقة؟! فالشاهد أن هذه القضية ليست بالهينة، ويترتب عليها من الآثار ما نلمسه في واقعنا من هذه المناكر. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: إن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: (من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) أي: إن كان غير مستحق لهذا يعود هذا الأمر عليه، وفي لفظ في الصحيح: (فقد كفر أحدهما) ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير، وقد قال الله عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]، فلاب

الإيمان والكفر [27]

الإيمان والكفر [27] الصلاة عند أهل السنة والجماعة جائزة خلف كل بر وفاجر، وكذا الصلاة عليهم، ومحل الصلاة هي المساجد التي بنيت لعبادة الله، ولا يجوز لمسلم أن يهجر المساجد ويترك الجمعة والجماعة بغير عذر، فإن فعل ذلك فقد ابتدع، وقد ابتلي الإسلام في عصرنا ببعض المنتسبين إليه الذين جعلوا مساجد الله مساجد ضرار، وتقربوا إلى الله بترك الجمعة والجماعة مشترطين في ذلك شروطاً أملتها عليهم أهواؤهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الصلاة خلف أئمة المسلمين

الصلاة خلف أئمة المسلمين فحديثنا سيكون -بإذن الله تعالى- عن قضية من القضايا المهمة التي نتطرق إليها، والتي هي ثمرة من ثمرات الفكر الخبيث الذي ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]، فهذه الجماعة الخبيثة أعادت فكر الخوارج -وهي المسماة بجماعة التكفير والهجرة- ومن سار على دربها اجترأ المنتسبون إليها على حدود الله تبارك وتعالى كثيراً، ومن هذه الجرأة موقفهم من المساجد التي هي بيوت الله عز جل، وقضية الصلاة خلف عموم المسلمين في مساجدهم في بلاد المسلمين. فنبدأ أولاً بدراسة شرح ما يتعلق بهذه القضية من متن العقيدة الطحاوية، حيث يقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). يقول الشارح رحمه الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر)، وقد استعمل الشارح عبارة الحديث مع أنه ضعف الحديث، فقال: رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة. وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً، وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر أو فاجر، وإن هو عمل بالكبائر، والجهاد واجب مع كل أمير بر أو فاجر وإن عمل الكبائر)، وفي هذا الحديث -أيضاً- ضعف، وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً. ومعروف فسق الحجاج وجرأته على إراقة دماء المسلمين، بل خيار المسلمين رضي الله عنهم. وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده إلى عمير بن هانئ قال: شهدت ابن عمر والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء وربما حضر الصلاة مع هؤلاء. وهذا سند صحيح، وأخرجه البيهقي -أيضاً- بلفظ: عن عمير بن هانئ قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج، فأتيته وقد نصب على البيت أربعين منجنيقاً -حيث ضرب الكعبة بالمنجنيق- فرأيت ابن عمر إذا حضر في الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم؟! فقال: يا أخا أهل الشام! ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق. يعني: أنا لا أثني على ما يفعلونه من الشر، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق. وروى الشافعي بسنده عن نافع أن ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج، فصلى مع الحجاج، وروى ابن سعد في الطبقات عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أميراً إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله. وسنده صحيح. وأيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان، قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؟! قال: فيقول: لا والله، ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة. يعني أن صلاة الأئمة في المساجد يعتدون بها حتى ولو كانوا من الظلمة أو الفاسقين ما داموا على أصل الإسلام. وفي المجموع قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: الصلاة وراء الفاسق صحيحة ليست محرمة، لكنها مكروهة، وكذا تكره وراء المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وتصح، ونص الشافعي في المختصر على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فإن فعلها صحت، وقال مالك: لا تصح وراء فاسق بغير تأويل، كشارب الخمر والزاني، وذهب جمهور العلماء إلى صحتها. يقول شارح الطحاوية: وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً. وفي صحيحه -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم)، يعني الأئمة في عهود الإسلام الأولى، حيث كان -كما هو في حكم الإسلام- الذي يلي الإمامة والجماعة الجامعة للمسلمين الخليفة أو الحاكم أو الوالي، وكالمحافظ اليوم مثلاً، وهذا هو شأن الصلاة، حيث ينبغي أن يكون أول من يتولاها ويحاسب من يتخلف عنها هو الإمام، فكان الذي يلي إمامة الصلاة من الأئمة قد يكون ظالماً أو فاسقاً. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلوا خلف من قال: (لا إله إلا الله)، وصلوا على من مات من أهل (لا إله إلا الله))، أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها. يقول الشارح رحمه الله: اعلم -رحمك الله وإيانا- أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة. إذاً: هذا اتفاق بين أئمة الإسلام، وهو أنه يجوز لك أن تصلي خلف الشخص الذي لا تعرف عنه بدعة ولا فسقاً. يقول: وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول له: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال. ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه -أي: حيث لا يوجد سوى هذا المسجد، ولا يوجد إمام إلا هذا الإمام المعين الذي هو الإمام الراتب بالمسجد- كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء. يعني: لو كان الإمام مرتكباً بدعة لا تكفره، ولا مناص من الصلاة خلفه، فمن صلى في البيت لأجل بدعة الإمام صار هو المبتدع, أو صار حرياً بأن يوصف بأنه مبتدع. يقول: ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر. وفي صحيح مسلم عن طريق حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان وأتي بـ الوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم. فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال: عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال: يا علي! قم فاجلده. فقال علي: قم -يا حسن - فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها. فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر! قم فاجلده. فجلده علي بعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكلٌ سنة، وهذا أحب إلي. والشاهد أن هذا رجل فاسق كان يشرب الخمر، ومع ذلك صلى خلفه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الصحيح أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير البررة وقتيل الفجرة لما حصر صلى بالناس شخص آخر غير الإمام الذي هو عثمان رضي الله عنه، فسأل سائل عثمان وهو في الدار قد حاصره الثوار الفجرة فقال: إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة. فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم. أخرجه البخاري من حديث عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج. فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا تجنب إساءتهم. فهذا هو المقياس المنضبط في الحكم على مثل هذه الأمور، فهذه العبارة عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، وأن يحفظها كل منا حتى يلقمها كل من يشخط الكلام ويتشدق بهذه البدع الإبليسية ويقوم بطرد الناس عن بيوت الله تبارك وتعالى وتخريبها، فماذا يبقى إذا خربت هذه القلاع المتبقية التي منها تنطلق الدعوة إلى الإسلام، ويحفظ على الناس دينهم؟! فما من شك في أن في هذا مضادة لمقاصد الشريعة الإسلامية العليا، فينبغي أن يحفظ الناس هذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه، وهو يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. يقول الشارح: والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحي

قاعدة أهل السنة في رحمة أهل البدع والمعاصي والصلاة معهم

قاعدة أهل السنة في رحمة أهل البدع والمعاصي والصلاة معهم هذه رسالة من الرسائل المهمة جداً، وإن كان أغلب شرح الطحاوية مقتبس من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وهذه الرسالة من الرسائل المباركة التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى نصيحة للمسلمين، وسنذكرها -إن شاء الله- لأهميتها، وتسمى (قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال الله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:102 - 106]. يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة. يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (أنهم كلاب أهل النار. وقرأ هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]). قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم -يعني: لا يرفع ولا يتقبل منهم- يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)، وفي رواية: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). وفي بعض الأحاديث الأخرى: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه). يقول شيخ الإسلام: والخوارج هم أول من كفر المسلمين بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق ويرحمون الخلق. وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار. وذلك لأن بعض هؤلاء الشيعة -وهم أشد الشيعة غلواً- زعمواً أن علياً رضي الله عنه هو الله، وعبدوه وألهوه، والعياذ بالله، فدعا بنار وأحرقهم، فلما أدخلهم النار قالوا: ألم نقل لك: إنك إله؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا الله. والعياذ بالله، فقال علي رضي الله عنه قال: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا يعني: قلت له: أوقد هذه النار. يقول: وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه. وهو عبد الله بن سبأ اليهودي ابن السوداء، هكذا كان لقبه، وهو الذي أشعل نيران الفتنة، وهو الذي أسس للشيعة دينهم. وأمر علي رضي الله عنه بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وهم فرقة أخرى من فرق الشيعة، وهي فرقة المفضلة الذين كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه -فيما قد تواتر عنه- يقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، والله لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. أي: حد الكذاب. يقول شيخ الإسلام: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم تظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره. بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يصلون خلف المسلم المستور. ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، كما أشرنا من قبل إلى هذا الخلاف، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أن الإنسان لو صلى خلف مبتدع أو فاسق مع إمكان أن يصلي خلف عدل فصلاته صحيحة، وأكثر العلماء يصححون هذه الصلاة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يتمكن من الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر، كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فإنه يصلي خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحد: إنه لا تصح إلا خلق من عرف حاله. ومعنى هذا أنه استحب بعضهم أن يصلي خلف من يعرف حاله نظراً لشيوع البدع والانحرافات والضلالات، لكن ليس النقاش في صحة الصلاة. وقد حصل أن قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة؛ لأن الدولة الفاطمية الخبيثة أفسدت الحياة في مصر، وأرست كل البدع التي تختص بها مصر دون سائر الشعوب الإسلامية، كالمقابر التي وضعت في المساجد، والمولد، ونحو ذلك من الضلالات، بل تركت -أيضاً- آثاراً من التعصب لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم والغلو فيهم، وتركت بصماتها إلى عهد قريب، وكان العلماء يعدون مصر في ذلك الوقت دار حرب، حتى ألف الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ذلك الوقت كتاباً سماه (النصر على مصر)، وأكثر الناس حينما يُذكَر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى تلتفت أذهانهم إلى سيرة هذا الملك الصالح الذي حرر بيت المقدس من أيدي الصليبيين، ونحن -معشر المصريين- ينبغي أن نشكر لـ صلاح الدين رحمه الله تعالى جميله، فقد طهر مصر من الدولة الفاطمية، وهو الذي أحدث هذا التغيير في الدولة الفاطمية في مصر، وقضى عليها، وأعاد مكانها مذهب من هو أقرب إلى مذهب أهل السنة بلا شك. يقول شيخ الإسلام: ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه؛ لأن عامة الناس كان قد حصل فيهم هذا التغيير في العقيدة، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر. يقول شيخ الإسلام: فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد كان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان على ذلك، كما في صحيح مسلم. وكذلك عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف المختار ابن أبي عبيد معروف أن المختار بن أبي عبيد ادعى النبوة، والأخبار تثبت أنه كان يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل، وقد قيل لـ ابن عمر رضي الله عنهما: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه! فقال: صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَر

الصلاة خلف أهل الفجور والبدع

الصلاة خلف أهل الفجور والبدع يقول شيخ الإسلام: فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً) فهنا ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم خلاف الترتيب المتعارف عليه الآن بين عموم الناس إذا حضرت الجماعة، فإنهم لا يعملون بهذا الحديث، وربما صدروا الأكبر سناً لأول وهلة، وهذا في حالة إذا لم يكن هناك إمام راتب، فعليهم أن يقدموا الأولى. ويقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} [البقرة:114] يعني: لا أحد أظلم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]، فهؤلاء ممن يسعون في خراب ببيوت الله عز وجل، والمفروض هو أن الدعوة الإسلامية تحرص كل الحرص على أن توجد لها مواقع جديدة في المجتمع توثر بها على القطاع الأعظم من المسلمين، فالقلاع المتبقية الآن هي هذه المساجد، فماذا يبقى بعد أن نهدم بأيدينا هذه القلاع وهذه الحصون؟! ماذا يبقى بعد ذلك للإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟! فهل نستجلب نحن وصف الغربة الذي هو إضعاف الدين بأيدينا؟! فهل عند قائل هذا عقل فضلاً عن الدين. يقول شيخ الإسلام: وأما إذا ولي رجل بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذا الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان رد بدعة ببدعة. يقول: حتى إن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم. فأكثر العلماء كرهوا إعادة صلاة الجمعة إذا صليتها خلف فاجر، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ونحن نعلم الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تنبأ ببعض الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فسأله الصحابة: ماذا نفعل إذا أدركنا هؤلاء الأمراء؟ قال: (صلوا الصلاة لقوتها، واجعلوها معهم نافلة) فكل واحد يصلي الصلاة لوقتها لحاله وحده، فإذا أقام الصلاة في غير وقتها هؤلاء الأمراء فصلوها معهم نافلة إظهاراً لطاعة أولي الأمر. والشاهد في هذا أن هؤلاء الأمراء فساق، فإذا كان أمير يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها ويداوم على ذلك فهذا فسق منه، فلو كانوا يصلون في أول الوقت لأمرهم أن يصلوا معهم، ولكونهم سوف يؤخرونها عن وقتها أمرهم أن يصلوا الصلاة لوقتها مراعاة لحرمة الصلاة، ثم يصلوا خلفهم نافلة، فما دامت النافلة تصح خلفهم فكذلك الفريضة خلفهم مع فسقهم. يقول شيخ الإسلام: حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة، ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد. فما دمت قد بذلت وسعك لصحة الصلاة فلا تعد، حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس، وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته. يقول شيخ الإسلام: وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فـ عمر وعمار لما أجنبا وعمر لم يصل وعمار تمرغ كما تمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء؛ لأن هذا الذي كان يستطيعه ساعة دخوله في الصلاة، وأبو ذر لما كان يجنب وبدأ يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منعتها الصلاة والصيام لم يأمرها بالقضاء. والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيئ في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات. والمسيئ هو خلاد بن رافع، صحابي أنصاري شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد مع علي الجمل وصفين، وتوفي أول إمارة معاوية، وهذا الحديث رواه السبعة. والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرها بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ. وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وفي الصحيحين: (ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل رسله مبشرين ومنذرين) فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً. ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الكلام في حكم من يسب الصحابة رضي الله عنهم. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حكم الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع فقال رحمه الله: وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موقع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء للإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور والبدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية -يعني الداعية إلى البدعة- وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة. ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى، بخلاف من أظهر الكفر، فإن كان داعية -أي: إن كان المبتدع داعية- إلى البدعة غير ساكت وغير مستتر بها منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد صلاته أو إتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك. ويعني بالمظهر للمنكر من لا يبالي بالجهر بالمعصية، ولو كان مستتراً بالمعصية لكان ذلك أهون، لكنه يجهر بها، كحلق اللحية -مثلاً- وقد علم أنه حرام، وكالتدخين ولباس خاتم الذهب وغير ذلك من المعاصي الظاهرة التي يتلبس بها كثير من الناس. يقول: فإذا أمكن لإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين لتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه، كالجمعة والأعياد والجماعات إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم إفساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمع والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ إذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد بين العلماء، منهم من قال: إنه يعيد؛ لأنه فعل ما لا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهياً عنها، فيعيدها، ومنهم من قال: لا يعيد؛ لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع عند نداء الجمعة، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع. وكثير من الم

شروط المساجد من وجهة نظر جماعة التكفير والهجرة

شروط المساجد من وجهة نظر جماعة التكفير والهجرة بالنسبة لموضوع المساجد فإن فرقة التكفير والهجرة كما تسمى -وكانوا هم يسمون أنفسهم جماعة المسلمين- لها نظرة شاذة فيما يتعلق بموضوع المساجد نتجت من الشذوذ في قضية معرفة المسلم من الكافر، كما أشرنا من قبل إلى قوله تعالى: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]. يقول الأستاذ رجب مذكور في كتاب له يسمى: (التكفير والهجرة وجهاً لوجه)، في صفحة مائة وثلاث وتسعين: وتقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت وحتى الآن مساجد ضرار. أي أن ذلك قد يكون من الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة، وهذا من جرأة هؤلاء الناس على الله عز وجل وعلى دين الله، وليسوا وحدهم في ذلك، بل كثيراً ما نسمع من كثير يذكرون أن هذه الأمة ما كان فيها خير، وبمجرد ما انقضت القرون الخيرية انتهى كل شيء وانهار، حتى ظهرت جماعاتهم هذه التي ظهرت قريباً وأعادت الإسلام من جديد، وكأن كل هذا التاريخ مبتور، والأمة كانت تعمى في ضلال، ولو انتقينا أسوأ واحد من خلفاء الدولة الأموية نسبياً لوجدناه بالنسبة لحكامنا اليوم كالخلفاء الراشدين؛ لأنهم كانوا يحكمون بما أنزل الله، وكانوا يقومون الليل، ويقيمون في الناس شرع الله تبارك وتعالى، مع أنه قد يكون هناك سفك لبعض الدماء في أي نوع من الأشياء التي غايتها أن تكون معاصي أو كبائر، لكن لم يمس انحرافهم أصل دين الإسلام. فهؤلاء بالنسبة لحكامنا اليوم عباد متبتلين، وأئمة هدى على أصل الإسلام، كانوا يقيمون علم الجهاد، ويفتحون البلاد في سبيل الله إلى عهد الدولة العثمانية التي تغلغلت في أحشاء سويسرا وأخذت أجزاء من فرنسا، فهؤلاء كانوا يجاهدون في سبيل الله، وكانوا يقيمون حكم الله تبارك وتعالى، فهذه النظرة ليست صائبة، أعني اعتبار أن هذه أمة لا خير فيها، وبمجرد أن انتهت الخلافة الراشدة انتهى معها كل شيء، فهذا من الضلال المبين. يقول الأستاذ رجب مذكور: تقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت وحتى الآن مساجد ضرار، باستثناء أربعة مساجد فقط: المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد الأقصى بيت المقدس، ومسجدي قباء والنبوي بالمدينة المنورة، وبناءً على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وما زال يوجد الآن من أهل البدع والضلال في قضية التكفير من يكفرون من يصلي في معابد المشركين التي هي المساجد في زعمهم. يكفرونك لأن تصلي في المساجد، وكأنك تذهب إلى سينما أو خمارة أو نحوهما من أماكن الفسق والفجور، ولست ذاهباً إلى بيت من بيوت الله التي يذكر فيها اسم الله عز وجل، وبناء على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وقالوا: إنه لا يجوز من حيث التسمية ابتداءً أن نسمي أي مسجد مسجداً لله، إلا بعد أن نتحرى فيه شروطاً ثلاثة هي:

إخلاص الدعوة لله

إخلاص الدعوة لله أولا: الدعوة التي تعلن فيه، حيث اشترطوا بتسميته مسجداً لله أن تكون الدعوة فيه خالصة لله وحده، وهل المسلمون الذين يصلون في المساجد يعبدون المسيح بن مريم، أو يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، أو يعبدون بوذا؟! إنهم يعبدون الله وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. فإذا وقع في بعض المساجد دعاء غير الله وعبادة غير الله -كما يحصل في المساجد المبنية على القبور التي تعبد فيها الموتى من دون الله، وتذبح لهم الذبائح، ويطاف بقبورهم، ويتمسح بأعتابهم- فهذا منكر، ونقول كما قال العلماء: إن هذه المساجد مبنية على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. فدين الإسلام لا يجتمع فيه مسجد وقبر أبداً، والحكم يكون للسابق، فإذا كان الأصل المسجد وبني عليه قبر فإنه ينبش القبر وينقل إلى قبور المسلمين، وإن كان العكس فالعكس، هذا إذا كان مجرد قبر، فما بالك إذا كان يتخذ لعبادة غير الله؟! فهذا شيء حقيقي وواقع، فلا بأس بتطبيق هذا على مثل ذلك، أما أصل المساجد الموجودة في بلاد المسلمين فإنه -لله الحمد- لا يعبد فيها إلا الله عز وجل، ويرتفع فيها الأذان بشهادة الحق وشهادة التوحيد. فهذا هو أول شرط عندهم، وهو أن تكون الدعوة خالصة لله وحده، وما معنى أن تكون الدعوة خالصة لله وحده؟! معناه أنها لن تكون كذلك إلا إذا كانت على دعوتهم، فهي الوحيدة التي تستحق هذا الوصف العظيم. ودليلهم على هذا الشرط قول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، فيقولون: إن المسجد لا يصح أن نسميه مسجداً لله حتى ننظر في الدعوة التي يدعى إليها فيه، فهل هي لله خالصة أم لا؟ ونقول: إن التسمية قد لحقت بالمسجد قبل أن يدعى المسجد، فسمي مسجداً رغم أنوفهم أجمعين منذ وقفه صاحب الأرض وقال: هذه أرض لله موقوفة ليبنى عليها مسجد. فيصير مسجداً منذ هذه اللحظة، وقبل أن يقوم أحد فيه بالدعاء لله عز وجل. ومن زعم أن تسميته مسجداً لله لا تجوز من هذه اللحظة، وإنما يفرض إرجاء التسمية مدة من الزمن فقد ضل. فهم يقولون: إننا لا نحكم على مثل هذا المسجد بأنه مسجد حتى تمر مدة فترة امتحان واختبار، فننظر في خطيب المسجد يوم الجمعة، ثم نقوم وندرس خطبته، وفي ضوء نتيجة هذا التقييم تكون التسمية من عدمها. يقول: أقول: من زعم ذلك فليأتنا ببرهان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فاشتراطه باطل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو رد وإن كان مائة شرط). يقول: وتظل تسميته مسجداً لله مصاحبة له ما بقي مخصصاً لهذا الغرض ما دام بناؤه شرعياً منذ اللحظة الأولى، أعني: لم يبن على قبر -مثلاً- لوجود نهي عن ذلك، فإذا افترضنا أن مسجداً من مساجد الله بناه رجل من المسلمين الصالحين لوجه الله، ثم اعتلى منبره خطيب جاهل أو منافق فكانت خطبته تحتوي على خلط في أحكام الله، أو تملقاً لحاكم أو كبير فإن وزر هذا الخطيب يقع على نفسه، وعلى من لم ينكر عليه بأي صورة من صور الإنكار المعروفة، ولا يمس البناء شيء تماماً، كما لو حدث أن اعتلى المنبر أحد رجال فرقة التكفير ودعا إلى هذه الافتراءات التي يفترونها على دين الله، فإننا حينئذ لن نقول له: إن هذا المسجد قد أصبح مسجد ضرار، وإنما كل الذي يمكن أن يحدث أن المصلين يقومون فيضربونه ويطردونه من المسجد، ولكن المصلين قد لا يفعلون ذلك إذا كان الخطيب يتملق لحاكم على حساب دين الله إيثاراً منهم للسلامة وخوفاً مما لا يحمد عقباه، ويكتفون -مثلاً- بالإنكار القلبي، وقد يكون بعضهم منافقاً مثل الخطيب تماماً فتتلاقى الأرواح، ويفتقد حتى الإنكار القلبي الذي هو أضعف الإيمان. يقول: والذي أريد أن أقوله أن هذا التغيير باليد أو اللسان أو القلب، أو حتى في حالة النفاق الذي يفتقد الإنكار القلبي أيضاً، فإنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا يتحمل المسجد منه شيئاً، فإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أن ينشد المسلم ضالته في المسجد فيقول: من يدلني على هذا الشيء الذي ضاع مني؟ فلو قام رجل أو رجال ففعلوا ذلك الأمر المنهي عنه فإن وزرهم على أنفسهم، كما أن الخطيب منهي عن أن يتملق لمنافق، وهذا لا يؤثر في المسجد بشيء تماماً، كما لا يؤثر لو أن رجلاً قام فنشد الضالة أو باع وابتاع في المسجد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهل معنى ذلك أن المسجد صار سوقاً؟! هل هذا يغير صفة المسجد من حيث كونه مسجداً؟! يقول: ولا يصح أن يقال: إن المسجد أصبح ضراراً لوجود هذه المخالفة أو تلك، فلقد كان المشركون يزحمون المسجد الحرام بالأصنام، فما تحول المسجد عن كونه مسجداً لله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه رغم وجود هذه الأصنام المعبودة من دون الله، وكل الذي حدث أن المسلمين قد كلفوا حين القدرة بإزالة تلك المنكرات من بيوت الله وتحطيمها بعد أن جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.

تحقق صفات عمار المسجد

تحقق صفات عمار المسجد واشترطوا لتسمية المسجد مسجداً لله أن يستوفي عماره الأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، وفي قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. فقالوا: إنه لا يجوز لنا أن نسمي مسجداً ما مسجداً لله حتى يستوفي عماره هذه الأوصاف المذكورة في الآيات السابقة. يقول: وعن الشرط الثاني الذي اشترطته فرقة التكفير هو استيفاء أوصاف من يعمرون بيوت الله كما ذكرت في الآيات القرآنية، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ما يجب أن يتصف به عمار بيوته من صفات قلبية وظاهرية لنتحرى هذه الصفات في ذات أنفسنا، وندعو إليها، ونذكر بها، ولكنه سبحانه وتعالى لم يذكر لنا هذه الصفات من أجل أن نتعقبها في الناس، ونؤسس عليها حكماً شرعياً بأن هذا المسجد لله أم لا. ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية، وذلك مثل ما ورد في قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا} [النور:37]، فكيف تحكم على شخص بأنه يخاف يوم القيامة أو لا يخاف؟! فهذا عمل قلبي ولا سلطان لك على قلب هذا الإنسان، بل المنافق يصلي مع المسلمين في جماعة، ويحضر معهم الجماعة. يقول: ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية لا يمكن استيفاؤها من أصحابها، ولم نكلف بذلك، وأيضا ًفإن المسجد قد لحقت به التسمية -كما قلنا- منذ اللحظة الأولى التي بني فيها بناءً شرعياً وخصص للصلاة، ولم نكلف أبداً أن نؤجل التسمية حتى يعمره الناس، ثم يقوم المسلم بفحص أحوالهم الظاهرة والباطنة، ثم على أساس نتيجة الفحص يطلق التسمية أو يحرمها. إن هذا التنطع لم يعرفه السلف، ولا أقره النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، ولا الذين آمنوا معه، وما عرفته الأرض كلها إلا بعد أن منيت بهذه الفرقة الشاذة التي تزين هذا التنطع بزعم الغيرة على دين الله، أو بادعاء أن البشرية كلها لن تهتدي إلا على أيديهم. وخلاصة القول أن من زعم أن الصفات التي وصف الله بها عمار بيوته هي شروط لابد من وجودها حتى يسمى المسجد مسجداً لله فليأتنا بهذا الشرط، وإلا فهو شرط باطل ومردود على أصحابه، كما قال الله عز وجل في هذه الآيات في سورة التوبة: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، نعم أخذ بعض العلماء من هذا أن الإنسان يتحرى المسجد الذي يصلي فيه أن يكون أهله من أهل الخير والاستقامة والصلاح إرضاء لله عز وجل. وأفضل للإنسان أن يصلي مع قوم هم أتقى لله، وأقرب إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلامنا هنا عن الشروط، فهم يعتبرون أن المسجد لا يسمى مسجداً إلا بذلك، فهناك فرق.

التأسيس على التقوى

التأسيس على التقوى حيث اشترطوا -أيضاً- لتسمية المسجد مسجداً لله استيفاء التقوى ممن أسسه، لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]. وشققوا في موضوع التقوى كلاماً طويلاً، وقالوا على سبيل الفلسفة إن هناك مساجد بنيت على التقوى يقيناً، وثانية بنيت على التقوى راجحاً، وثالثة على التقوى مرجوحاً، ورابعة على غير التقوى يقيناً. إلى آخر هذا الضرب من التفلسف واصطناع الأسلوب العلمي في الكلام. يقول الأستاذ رجب مذكور في رد هذا الشرط: أما عن الشرط الثالث -هو أننا لم نسم المسجد مسجداً لله حتى نعرف أنه قد أسس على التقوى-فإذا كانت التقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا) فالتقوى في القلب، ومهما ادعاها أحد الناس فإننا نكل أمره إلى الله، ولا نجزم بوجودها فيه، ولا بانتفائها عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم ذلك، فلست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً، إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون. أي: ولابد من أن يكون المؤسس تقياً، هذا هو الشرط، فمن مات من عدة قرون كيف لنا أن نتحقق من كونه أسس المسجد على التقوى أو لم يوسسه على ذلك، ولو كان موجوداً فكيف نعرف التقوى وهي في قلبه؟! يقول: لست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً؟! إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون، وفي كثير من الأحيان لا نعلم من الذي أسسها، ولم يكلفني الله إذا رأيت يافطة -ويقصد بها كلمة (لافتة) على حد تعبير فرقة التكفير والهجرة- مكتوباً عليها (مسجد الله)، لم يكلفني الله أن أسأل: من الذي أسس هذا المسجد؟ وهل أسسه من أول يوم على التقوى أم على غيرها؟! إن ذلك إعنات وحرج لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرفه المتشنجون من أصحاب البدع والأهواء التي تلبس مسوح الدين. أما قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نهاه عن الصلاة في مسجد بعينه يعلم الله وحده الغرض الذي أسس من أجله، ولولا إخبار الله لرسوله به لصلى فيه صلى الله عليه وسلم: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فلا تحمل هذه الآية تكليفاً عاماً للمسلمين إذا رأوا مسجداً أن لا يعتبروه مسجداً لله حتى يعرفوا نية مؤسسه، وإنما كل ما فيها توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ورائه إلى أحقية القيام. أي أن القيام أحق وأفضل في مسجد وصفه الله تعالى بأنه أسس على التقوى من أول يوم، حيث قد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: ولو شئت لتعقبت تفاصيلهم الباطلة فيما يقتصر بهذا الشرط، وبينت خطأهم في مسألة التقوى، والراجح والمرجوح فيها، بل إنه حسب تحليلاتهم العقلية السخيفة كان ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي في المسجد الحرام قبل تطهيره من الأصنام، لتساوي أدلة الإثبات مع أدلة النفي كما يزعمون؛ إذ إنهم يقولون: إنه مؤسس على التقوى يقيناً، ودخله الضرار يقيناً بوجود الأصنام المعبودة من دون الله فيه. فحسب مفهومهم للتوقف يجب أن يتوقف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيه، أليس كذلك؟! فانظر -هداك الله- كيف يمكن أن تذهب التحليلات البشرية بأصحابها حتى تصل بهم إلى الاستدراك على رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

آثار دعوة التكفير

آثار دعوة التكفير يقول: ولكن لا يفوتني هنا أن أذكر أن إمام فرقة التكفير ومؤسسها الراحل قد جعل إشراف الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله على المساجد في مصر هو أحد دليلين -بل أول دليلين- على كفر الرجل، وهو ما بنى عليه خطته الآثمة في خطف ذلك الشيخ الطاعن في السن وقتله غيلة وغدراً، فقد سئل في غرفة المداولة أثناء محاكمته: وما رأيك في المرحوم الشيخ الذهبي أمسلم هو أم كافر؟ فأجاب: هو عندي كافر. Q وما دليلك؟ قال: دليلي أنه كان يعمل في هيئة الأوقاف، وكان وزيراً لها، ومديراً للإشراف على مساجد الضرار، جريمته أنه مدير إشراف على مساجد الضرار، وقد أقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله في قسم الوزراء، وهو ما لا يمكن أن يعتبر جهلاً منه بوجوب الحكم بما أنزل الله. فاعتبر أن قسمه على الدستور في حقه إنكار لوجوب الحكم بما أنزل الله، واعتبره -أيضاً- قسماً على الحكم بغير ما أنزل الله، أي: كأنه قال: أقسم بالله أن أحكم بغير ما أنزل الله. يقول: وكلا الاتهامين الخطيرين كفر لا شك فيه، لكن لا يمكن إثباتهما عليه بمثل هذا التساهل والتجرؤ في استصدار الأحكام؛ لأن هناك أوجه تأول كثيرة، وأعذاراً لابد من انتفائها حتى يحكم على الشخص المعين بالكفر ليس هذا مقام تفصيلها. يقول: وأنا أعرف أن أسلوب التكفير والهجرة هذا في استصدار الأحكام يروق للكثيرين، خاصة المتعالمين وبعض الشباب ذوي الفهم المتسر والعلم الضئيل بأصول الأحكام وضوابطها، ولكن أحكام الإسلام العتيدة ليست بأماني أحد، وإنما هي شريعة محكمة بضوابطها، ثابتة في أصولها هيهات أن تتبدل أو تتحول وفقاً لرغبة أحد أو اتجاه طائفة. أما الإشراف على المساجد وتعميرها فهو إن ابتغي به وجه الله خالصاً فهو عمل صالح وقربة إلى الله، ولكن الموازين المختلة تجعله دليلاً على الكفر يوجب استحلال الدماء والأموال والأعراض، ثم الاستعلاء على عباد الله، والتطاول عليهم بالدعاوى العريضة والمزاعم الفارغة، أين هؤلاء جميعاً ومن يتبعهم في الدعوة إلى تخريب المساجد والعدوان بوصفها بمساجد الضرار ومعابد الجاهلية؟! أين هم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي رواية: (بنا الله له في الجنة مثله)؟! وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة).

الجمعة وموقف فرقة التكفير منها

الجمعة وموقف فرقة التكفير منها أما بالنسبة لفريضة الجمعة فقد ذكرنا أنهم أراحوا أنفسهم، بل أتعبوها -بلا شك- حق التعب حينما أخذوا موقفاً خطيراً وجريئاً من فريضة الجمعة، فهم يسقطون فريضة الجمعة إلى الأبد؛ لأنهم يوقفون إقامتها أن إلى أن يمكنهم الله في الأرض ويقيموا دولتهم. وهذا التمكين إنما هو حلم وهمي في رءوسهم فحسب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن في الأرض الصالحين من عباده الذين آمنوا وعلموا الصالحات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. ونريد من الإخوة دائماً أن يستحضروا خطر البدع بالنسبة للمعصية، كالوقوع في بدع العقيدة، مثل تأويل صفات الله عز وجل، ومثل هذه بدع الخوارج أو غيرها التي هي أخطر بكثير من الوقوع في معصية من المعاصي، فينبغي استحضار هذا؛ لأن من الولاء والبراء أن تعادي من يشذ عن منهج أهل السنة والجماعة من الفرق النارية التي ذمها الله وذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]. يقول: لما كان هذا التمكين لا وجود له مطلقاً فقد قلت: إنهم يسقطونها إلى الأبد. ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين)، رواه مسلم. فترك صلاة الجمعة بدون عذر من الذنوب العظيمة، ومن كبائر الذنوب، والعقوبة المترتبة عليه شديدة جداً، يقول عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات -والودع هو الترك- أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين). ويعاقبهم الله بأن يسلط الغفلة على قلوبهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]. وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق على كل مسلم في جماعة، إلا عبداً أو صبياً أو امرأة أو ضريراً)، وهناك خلاف في تصحيح هذا الحديث. والمهم أنه قد يقيناً أن الجمعة فرض عين على كل مسلم، فيحرم على أحد من الناس أن يسقط وجوبها والعمل بها، ولو لخير من الزمان إلا بدليل قطعي يقيني. وقالت فرقة الهجرة: إن فريضة الجمعة لها شروط إذا توافرت أقيمت الفريضة، وإلا توقفنا عنها حتى تستوفي شروطها، وشرط في إقامة الجمعة التمكين، فلا جمعة مع هذه الصراعات. يقول: ويبدوا أن أئمة هذه الفرقة قد شعروا بسخافة هذا الكلام، فحاولوا أن يضيفوا إليها سنداً آخر، فطبقوا عليها قاعدة: تعارض الفرائض، وهذه من الطامات الكبرى التي ابتليت بها هذه الفرقة الضالة، زينوا لأنفسهم وأتباعهم الكثير من المعاصي بسبب هذه القاعدة المشئومة، فاستباحوا بها المحرمات بلا استثناء، بادعاء أن هذا المحرم أو ذاك يتعارض مع ما هو أهم منه، وأقرب بزعمهم، ومقياس الفريضة، والأقرب عندهم هو التكتيك الحركي للجماعة، أو -حسب تعديلهم- هو مدى قرب أو بعد هذه الفريضة بالنسبة للغاية التي يسعون إليها، فدخلت -أيضاً- قضية الحركية والتكتكة ونحو هذه الأشياء، فوصل بهم الأمر إلى أنهم ارتكبوا بعض هذه الكبائر بحجة أن هذا يتعارض مع الفريضة التي نسعى إليها، وهي التمكين، فمن أجل ذلك التمكين استباحوا كثيراً من المحرمات، ولا شك في أنه قد حصلت قصص ومآسٍ عن استحلال أو فعل المحرمات من هؤلاء المبتدعين بسبب هذه القاعدة الإبليسية، أعني قاعدة تعارض الفرائض، حيث زين لهم الشيطان ارتكاب الموبقات بحجة أن قاعدة تعارض الفرائض. فقالوا: إن الضرورة الأمنية لحركة الجماعة تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة. وما أشأم هذه الضرورات الأمنية التي بها الناس يتنازلون عن دينهم، ويترخصون في ارتكاب كثير من المعاصي بسبب الضرورة الأمنية لحركة الجماعة التي تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة. والذي يهمنا الآن هو الدليل الشرعي لفرقة التكفير والهجرة على شرط التمكين، فاستدلوا ببعض الأحاديث على أن التمكين هو شرط إقامة الجمعة، والرد -باختصار- على ما استدلوا به من هذه الأدلة وهو أن الله عز وجل أثبت في كتابه أن اليقين لا يزول بالظن والتخرص، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، فمن أراد أن يسقط فرضاً ثابتاً بيقين -كفرض الجمعة- فعليه أن يأتينا بدليل يقيني يثبت دعواه، وأما هؤلاء فعامة الآثار التي استدلوا بها حكايات وغرائب لا تثبت، فهي مردودة عليه. يقول في نهاية البحث: وعموماً فإن كل ما بني على الباطل فهو باطل، إذ إن عدم حكمهم على غيرهم بالإسلام وتوقفهم فهيم جعلهم حتى لو أرادوا أن يقيموا هذه الفريضة فلن يجدوا المسجد الذي يصلون فيه، ولا الإمام الذي يصلون خلفه، فهي إذاً متاهة بدءوها وزينها الشيطان لهم، ولابد أن تحكمهم بالسير في دروبها، ولن يخلصوا منها إلا إذا أراد الله لهم الهداية: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]، فهذا باختصار ما يتعلق بقضية المساجد، وقضية الصلاة خلف الأئمة برهم وفاجرهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الإيمان والكفر [28]

الإيمان والكفر [28]

الأسئلة

الأسئلة

نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة وأهميته في الواقع الذي نعيشه

نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة وأهميته في الواقع الذي نعيشه Q متى نشأ مصطلح أهل السنة والجماعة، وما هي أهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه؟ A هذا سؤال عن تنبؤ النبي صلى الله عليه وسلم بفرقة هذه الأمة، وما ذكره من هلاك هذه الفرق جميعاً إلا واحدة، وهي الجماعة، وهي التي اصطلحت الأمة على تسمية أهلها بأهل السنة والجماعة، فالسؤال هو عن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة، والمقصود به، وأهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه الآن. أما بالنسبة لزمن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من النصوص التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فمضمون التسمية مأثور في السنة وكلام السلف، فمن ثم نقول: إن بداية هذا المضمون هي في ذلك الوقت الذي هو ليلة القدر في إحدى ليالي شهر رمضان المعظم، في الليلة المباركة حينما نزل جبريل عليه السلام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2]، هذه هي البداية التاريخية لمضمون هذه التسمية؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما أمرنا بلزوم السنة واتباعها والحرص على العض عليها بالنواجذ، وذم الشذوذ عنها ومخالفتها. وما أكثر النصوص التي جاءت تحث على لزوم الجماعة، فمضمون التسمية موجود منذ بداية هذه الدعوة، فالأصل في التسمي بأهل السنة والجماعة هو ما ورد من النصوص في الوحيين التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فهذا مأثور في السنة وفي كلام السلف. أما ظهور التسمية مصطلحاً يدل على فئة معينة وعلى اتجاه عقدي معين فلم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن المسلمين لم يحصل بينهم فرقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا جميعاً يضمهم اسم الإسلام، وإن وجد -أيضاً- فيهم مضمون اتباع السنة والجماعة بكل معانيها، لكن صدق ظهور المصطلح بظهور الفُرقة حينما ظهر أهل البدع، فتميز أهل السنة بهذا اللقب. ولم تقطع أصول التاريخ الإسلامي بتحديد السنة التي ظهر فيها هذا المصطلح، وإن كان مضمونه هو حقيقة دين الإسلام الذي تلقاه الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. فالسؤال عن توقيت أو بداية نشوء هذه التسمية للدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز إنما هو سؤال عن بداية التسمي بهذا الاسم والتميز به، وليس سؤلاً عن نشأة المسمى الذي هو المذهب وأهله، فمن الخطأ البين الخلط بين هذين الأمرين، وأهل السنة والجماعة ليسوا فرقة ولا طائفة طارئة كسائر الفرق المنشقة عنهم، وإنما هم الأصل، فمن العسير أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع الفرق النارية التي يتيسر لنا بسهولة تحديد منشئها؛ لأنها شذت وفذت عن الأصل، وارتبط التميز باسم أهل السنة والجماعة بظهور البدع التي أعقبت وقوع الفرقة في الأمة، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ظهرت البدع والفرقة التي كانت تحيطها هذه البدع برز هذا اللقب الشريف، ليدل على تمسك أهله بالإسلام المحض الخالص عن الشكوك، فقبل حصول الافتراق لم يحتج المسلمون إلى هذا التمييز؛ إذ ما كان المسلمون يعرفون التمييز بين السنة والشيعة والخوارج ونحو ذلك، فقبل حصول الفرقة لم يحتج المسلمون إلى أن يتميزوا باسم أهل السنة والجماعة، فقد كان الإسلام وأهل الإسلام هم الاسم والمسمى، يقول عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. وقال تبارك وتعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، يعني: وفي هذا القرآن. ولهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن السنة أجاب: هي ما لا اسم له سوى السنة. وتلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وأقدم انشقاق حصل في صفوف الجماعة الأولى، وأول صدع في وحدة العقيدة هو حركة الخوارج المارقين الذين تنبأ بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكان وقوع ذلك بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقوع فتنة صفين، ثم تلا ذلك ظهور بدع غلاة الشيعة الذين ألَّهوا علياً رضي الله عنه، وادعوا النص عليه، وظهر السبابة الذين يسبون الشيخين رضي الله عنهما، وكذلك المفضلة الذين فضلوا علياً رضي الله عنه عليهما، وقد تصدى لهم جميعاً أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعاقبهم كلاً بحسبه. غير أن هذا الابتداع لم يؤثر في بداية الأمر في القاعدة العريضة من المسلمين الملتزمين بالسنة وأهلها، ولم يحتج المسلمون حتى ذلك الوقت إلى التميز؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، والأصل لا يحتاج إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج إلى التمييز الفرع المنشق، الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حين يتنكب السبيل. ولذلك لما سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن أهل السنة أجاب: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي، وقال محمد بن سيرين. والمتوفى سنة عشر ومائة من الهجرة. لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم. وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وقال عبد الله بن مصعب للرشيد حينما سأله عمن طعنوا على عثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وهم أنواع الشيع وأهل البدع وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة اليوم. فأهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وأهل السنة بين الفرق الإسلامية كالإسلام بين الملل، كما أن الإسلام هو الدين الوسط بين اليهودية والنصرانية وغيرها من الملل، ويتميز أهل السنة والجماعة -أيضاً- بأنهم دائماً الأمة أو الفرقة الوسط بين الغلاة والجفاة، وبين المُفْرِطين والمُفرِّطين، فمذهبهم لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وتجد في كل مسائل العقيدة التي خالف فيها أهل السنة أهل البدع تجد فريقاً يذهب إلى أقصى اليمين، وفريقاً آخر يذهب إلى أقصى اليسار، وهم الأمة الوسط العدول، فأولئك المبتدعون كانوا أحق الناس بوصف التطرف؛ لأن التطرف يعني الأخذ بأقصى الأطراف والغلو يميناً أو يساراً، فهؤلاء هم المتطرفون، أما الوسط فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يكون المقياس في كل شيء، انظر إلى ما جاء به الإسلام، فهذا هو الوسط فكل ما خالف الإسلام فهو تطرف، لا كما يفعل الزنادقة والملاحدة من العلمانيين وأعداء الدين بإيحاء من أعداء الإسلام حين يصفون الملتزمين بدينهم والمعظمين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتطرف، والحقيقة أنهم هم الذين تطرفوا في موالاة الشيطان وأوليائه إلى أبعد الحدود، فصاروا حرباً على الإسلام والمسلمين، فكل من شذ عن طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتطرف الخبيث الهالك. أما سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي المحجة البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، والذي ينحرف عما جاء به رسول الله هو الهالك، وهو المتطرف المنحرف. والمقصود أن أهل السنة متوسطون معتدلون، فمذهبهم لا مع هؤلاء الغلاة ولا مع هؤلاء الجفاة، وإنما هم مع كل منهم في ما أصابوا فيه، وفي نفس الوقت برآء من باطل كل منهم، فمذهبهم حقّ، وهذا الحق بريء من كل انحرافات الفرق الضالة. ثم برز الذين اتبعوهم بإحسان منافحين عن السنة وكلما قرن البدعة برز له رموز وعلماء أهل السنة باسم أهل السنة والجماعة يتصدون لهؤلاء المبتدعين، فكانوا يواجهون البدعة بالدعوة إلى السنة، ويجابهون الفرقة بالدعوة إلى الالتزام بالجماعة، هكذا ظهر هذا الاسم وبرز في مقابل الانحرافات التي كانت تأخذ مجراها في التاريخ الإسلامي، خاصة أيام الاشتباك العقلي مع البدع الوافدة. فعلى ضوء هذه المقدمة التي نقدمها لهذا السؤال -وهو: متى نشأ هذا المصطلح- لا نجد أدنى حرج في أن نرفع عقيدتنا مرددين مع أئمتنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، وإنه مذهب وطريقة الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ينبغي أن يكون راسخاً في أذهاننا، وقد ترد على هذا الكلام شبهة، إذ إ بعض الناس يقول: لماذا يشتهر الإمام أحمد بأنه إمام أهل السنة، أو ابن تيمية أو غيرهما من علماء الأمة؟! والجواب أن اشتهار بعض الأئمة بإمامة أهل السنة -كالإمام أحمد رحمه الله تعالى- لا يرجع إلى أنه هو مؤسس المذهب؛ لأن السنة كانت موجودة معروفة قبله، ولكن يرجع إلى أنه اشتهر بالدعوة إليها، والصبر على أذى من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة الثلاثة وغيرهم قد ماتوا قبل المحنة، فلما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن في حياة الإمام أحمد بعد موت الأئمة قبله رحمهم الله كان الإمام أحمد قد علم السنة رحمه الله، وأظهرها، وثبت عليها، وانتصر لها، ومن ثم صار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها، لا أنه أحدث مقالة أو اتبع رأياً. حتى إن المأمون نفسه لما تكلم بحق الإمام أحمد ومن اتبعه قال: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة ولذلك كان بعض العلماء إذا أراد أن يتميز بوضوح إلى أهل السنة قال: وأنا على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. ومن هذا المنطلق

معنى السلفية باعتبارها منهجا في الحق

معنى السلفية باعتبارها منهجاً في الحق Q ما هي السلفية باعتبارها منهجاً في الحق وفي الفهم والسلوك، وهل يجوز أن تحاصر السلفية بحيث يعبر بها عن إطار حزبي معين؟ A السلفية -والله أعلم- نسبة إلى السلف الذين هم أهل السنة والجماعة، ومنهج السلفي ليس منهجاً علمياً جافاً ونظرياً مجرداً، بل هو منهج علمي وعملي في نفس الوقت، فعندما أقول: سلفية فينبغي أن ينطلق ذهننا إلى ذلك النموذج الأعلى الذي طبق في حياة السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من الأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولا ينظر فقط إلى عقيدة السلف، ولكن ننظر -أيضاً- إلى عبادتهم وأخلاقهم وجهادهم وفهمهم للإسلام، واستقلال كلمة السلفية علماً على حزب أو جماعة محددة أو اتجاه معين هذا له سلبيات، وينبغي أن نحافظ على المنهج بعيداً عن أن تحتكره طائفة معينة؛ لأن هذا سيفقد المنهج كونه هو الميزان الذي ينبغي أن تحاكم به جميع الاتجاهات، وهو المنهج المعصوم، ولكن الذين ينتسبون إليه ليسوا معصومين، وحينئذٍ إذا احتكرت طائفة اسم السلفية أو اسم أهل السنة والجماعة -وهكذا احتكار مثل هذه الألقاب الشريفة- فإن ذلك يجعل المنهج خادماً لا مخدوماً، ولا يصلح أن يكون المنهج خادماً لأي تجمع، ولذلك ينبغي أن يبقى بعيداً عن الحزبيات، وحتى يبقى صالحاً لا بد من أن يحاكم الناس جميعاً به ويلزموا به، فالمنهج معصوم والناس غير معصومين، والمنهج حاكم والناس محكوم عليهم، والمنهج مخدوم والناس خادمون له، كما كان هذا شأنه، ولا ينبغي أن يسخر لخدمة حزب أو تجمع غير معصوم، وذلك لكي يبقى هو الميزان الأعلى الذي يوزن به الجميع بمن فيهم من ينتسبون إلى هذا المنهج. ثم إنه يخشى من ذلك أن يغذي دائماً واقع راية حزبية، ويغذي الشعور الحزبي والعصبي بين المسلمين، وقد يتوهم بعض منهم بمرور الزمن أن السلفية أو أهل السنة جزء مبتور من كيان الأمة الإسلامية أو داخل الأمة. وفي حالة تغنى حزب أو تجمع بهذا الاسم الشريف أو ذاك فإن أخطاء هذا التجمع أو أخطاء أفراده سوف تحمل للمنهج، وفي هذا إساءة إلى هذا المنهج، بالإضافة إلى أن التعبير عن هذا المنهج بصورة حزبية أو تكتل معين فيه تحجيم للدعوة السلفية، وحصر لها في إطار محدود، وحينئذٍ يكون في ذلك الحيلولة دون القاعدة العريضة من الأمة، ودون الانتساب إليه باعتبار أنها صفة حزبية لا أكثر، فليست صفة منهج، لكنها صفة حزب. ونعود فنقول: إنه لا مانع من استعمال هذه الألقاب أو التسمي بها إذا كان استعمالها استعمالاً غير حزبي. ومثله كل لقب شريف، كلقب المهاجرين والأنصار، فهما من أشرف الألقاب في الإسلام، بل مدح الله تبارك وتعالى أهلهما أعظم المدح في القرآن فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. ومدحهم بالمعنى فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:8 - 9]، فمدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أدنى حرج في أن يتسمى فلان مهاجرياً وفلان أنصارياً، لكن حدثت حادثة كسح فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، أي: ضربه على مؤخرته، فهو خطأ فردي وقع بين اثنين من المسلمين، فقال المهاجري لما ضرب: يا للمهاجرين! فدعا بدعوى الجاهلية، كما كان يتناصر الناس، فمن يظلم من قبيلة عبس يقول: يا لعبس. وينادي بأعلى بصوته حتى يأتي إليه كل منتسب إلى قبيلته، بغض النظر عن كونه ظالماً أو مظلوماً، كما يحصل في الصراعات الطائفية عند بعض الناس الجهلة الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام، وتجري عصبيات جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيقول أحدهم: هذا من أهل بلدي، فأنا أنصره ظالماً أو مظلوماً. وكذلك يقول الآخر. فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فأراد كل منهما أن يستعمل اللقب الشريف استعمالاً حزبياً يفرق المسلمين ويضعف كيانهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة)، فسماها دعوى الجاهلية، فدل هذا الحديث على وجوب التخلي عن هذه الأسماء إذا صارت علماً على حزبية جاهلية مفرقة للأمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (ليس منا من شق الجيوب، أو لطم الخدود، أو دعا بدعوى الجاهلية)، وقال عليه الصلاة والسلام في أعظم مشهد شهده مع أصحابه رضي الله عنه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فهذه دعوى سماها في هذه الحال دعوى الجاهلية فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟!)، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، إذاً: يجب التخلي عن ذلك إذا صار الاسم علماً على حزب، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة)، ووصفها بالنتن والخبث، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى الأرض وقبل أن يولد جاء وصفه ومدحه في التوراة والإنجيل بصفات معينة ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فقوله: (دعوها فإنها منتنة) وصف لها بالنتن، ووصفها الخبث يدل على أنها من الخبائث التي حرمها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يستجيز أن يتسمى بشيء من هذه الألقاب ينبغي له أن لا يحدد الفكر لهذا التجمع، لكن ينبغي أن نعلن دائماً للناس أننا خادمون للفكر، وليس هو خادماً لنا، ونحن المحكومون بالمنهج، ولسنا حاكمين عليه. ثم ينبغي أن نحذر تربية الناس على الولاء لغاية حزبية، إنما يكون الولاء للمنهج وللأصول، وأن تكون معاملة الناس والتمييز بينهم على حسب ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب ولائهم لأشخاص أو لطائفة معينة، فلا بد من إحياء هذه المعايير بين وقت وآخر، وإلا انزلقنا إلى ما انزلق فيه غيرنا ولن نعتبر بهم. فهذا بالنسبة لمسألة تأطير المنهج، أو الفصل بين الفهم والسلوك، فمنهج أهل السنة فهم وسلوك، وليس هو فقط قضايا محصورة، إنما هو منهج للتعامل مع كل الظروف، والله تبارك وتعالى في سورة المعارج يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:19 - 26]، فالتصديق لابد له من أن ينعكس في السلوك، فليست السلفية مجرد مفاهيم تصب في عقولنا وقلوبنا، وإنما هي مفاهيم تصب في أذهاننا وتستقر، ونعقد عليها قلوبنا، ثم تنعكس على سلوكنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26]، ثم أردف ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27]، فالجنة والنار موجودتان أبداً لا تفنيان، وهذا كلام متعلق بالفهم، لكن تستخلص منه وجود الجنة والنار، وينعكس هذا التصديق في سلوكك وامتثالك لقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28].

الإيمان والكفر [29]

الإيمان والكفر [29]

الأسئلة

الأسئلة

حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج وعصرية المواجهة

حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج وعصرية المواجهة Q استعمل في الآونة الأخيرة في بعض المصنفات تعبير (سلفية المنحى والمنهج وعصرية المواجهة)، على أساس أن هذا التعبير فيه رد على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فما هو تعليقكم على ذلك؟ A هذه العبارة تحتاج لنوع من التوضيح؛ لأن فيها إيهاماً، فلا نقول كما تقول هذه العبارة: سلفية المنهج عصرية المواجهة، لكن نقول: سلفية المنهج سلفية المواجهة. ومثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فهل حينما نتلو هذه الآية في هذا الزمان نقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة عصرية، أم أن فيها من العموم ما يقضي استفراغ الوسع في الأخذ بأسباب القوة؟! وهل يفهم من قولنا: سلفية المنهج سلفية المواجهة، أن الجهاد في سبيل الله في هذا الزمان يكون بالسيوف والرماح والنبال والخيول حتى نحترز فنقول: عصرية المواجهة؟! إن هذا الاحتراز لا نحتاج إليه، وإلا فسنحفظ الأمة الإسلامية في متحف من متاحف التاريخ! فسلفية المواجهة هي بطبيعتها لابد من أن تكون عصرية؛ لأن المنهج شامل لكل زمان ولكل مكان. ثم إن مفهوم هذه الثنائية: (سلفية المنهج عصرية المواجهة)، فيه إدخال البعد الزمني في تعريف السلفية، وكأن هذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية الذي يعني الرجوع إلى الوراء، وأنها فهم متجه إلى الوراء، فعندما نقول: سلفية المنهج فإن هذا يعني فهماً متجهاً إلى الخلف، وعصرية المواجهة تعني فهماً متجهاً إلى الأمام. ونحن نقول: المنهج السلفي لا هو متجه إلى الخلف ولا هو متجه إلى الأمام، بل هو متجه إلى أعلى، بمعنى أن السلفية ليست رجوعاً إلى الوراء، بل السلفية عملية ارتقاء وتسامٍ وصعود إلى مستوى السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم. فإدخال العنصر الزمني أو البعد الزمني في تعريف المنهج على أساس أن له بعداً زمنياً يتجه إلى الوراء معناه أنه لا يصلح لمواجهة مشاكل العصر المتجه إلى الأمام، فكأن السلفية هي مجرد تراث ذكري لا يتضمن منهجاً للتعامل مع كل العصور. وباختصار نستطيع أن نعبر عن الحقيقة في هذا الأمر أننا نريد بسلفية المنهج وسلفية المواجهة أن نعيش عصرنا، ونواجه مشكلاته بنفس الطريقة التي نتوقع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا سيسلكونها إذا عاشوا في عصرنا. فالسلفية لا تتجه -كما ذكرنا- إلى الوراء ولا إلى الخلف، وإنما السلفية تتجه إلى أعلى، فهي عملية ارتقاء وارتفاع إلى مستوى السلف الصالح رضي الله عنهم في عقيدتهم ومفاهيمهم وسلوكهم وأخلاقهم والتزامهم وذلك من الثوابت التي لا تتفاوت بتفاوت العصور، وارتقاء إلى مستوى العصر الذي نعيشه، فلابد من أن يكون هناك مواجهة لتحديات هذا العصر، وارتفاع إلى مستوى العصر، أخذاً بالأسباب التي أمرنا الله بها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. فكل ما يحقق مصالح المسلمين ويوفر لهم عناصر القوة بكل أنواعها ينبغي أن نرتقي إليه، هذا هو جوهر السلفية للتعامل مع العصر، لا كما يحصل من بعض الناس ممن يستسلمون أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار في هذا الزمان، فلا يقوى أحدهم على مواجهة الواقع الذي يتحداه، لكنه يهرب منه بشتى الأحلام، فيرى أننا مسلمون وموحدون، وحينما نحارب الكفار يظن أنه ستنزل علينا معجزة من السماء، وتنزل معنا الملائكة تحارب حتى لو قاتلناهم بالرماح والسهام والسيوف، وسوف نغلبهم لأننا موحدون، كلا، فأنت بهذا الظن بالآية ولا احترمت الأسباب، حيث قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. وأما دفاع الله عن بيته الحرام بالطير الأبابيل فإنه كان في وقت إسلام، ولم ينزل قرآن، ولم تأت سنة، ولا قامت الأمة بعد. فلا ينبغي أن نتوقع أن ينصر الله دينه بكلمة (كن)، وقد جرت سنة الله بأنه لا بد من الابتلاء، ولابد من الجهاد والبذل في سبيل هذا الدين، أما مجرد النوم والأماني فذلك يعني الهروب من مواجهة الحقيقة. وهناك صورة أخرى من الهروب أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار، وهي أن بعض الناس يقول: الحل والمخرج من البعد العظيم أنه ستحصل حرب نووية تدمر فيها القوة الكافرة كلها، ويقضى على كل العالم، ويبقى المسلمون، وبعد ذلك هم الذين سيقومون من جديد بالرماح والسيوف ويجاهدون ويعيدون الإسلام من جديد. وهذا هروب من مواجهة الحقيقة. والحقيقة هي أن البعد الحضاري من المستطاع ملء الفجوة فيه لولا الخونة الذين أذلوا المسلمين لأعداء الله في الشرق والغرب، والذين أشركوا كل قوى الكفر في تحديد مصير المسلمين، ولم يشركوا المسلمين أنفسهم في تحديد هذا المصير، والآن يحدد مصيرنا اليهود والنصارى، ونحن لا حول لنا ولا قوة. والمقصود أن هذا الأمر داخل في الأسباب المادية بشيء من الصبر والإصرار والهمة، وهناك قابلية لحصول نوع من التقدم بالنسبة للمسلمين يمكنهم بها مواجهة أعداء الله مهما بلغ بطشهم، لكن بالعلوم الحديثة، وبالأخذ بجميع أسباب القوة، وليس بالأماني التي نقول فيها: أماني إن تك حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا فلا بد من مواجهة المشكلة كما تواجه أي مشكلة أخرى، واستفراغ الوسع في الأسباب، ثم بعد ذلك يجيب الله المضطر إذا دعاه، بعد أن نأخذ بالأسباب لا بالأحلام وانتظار حدوث خوارق من السماء؛ لأن هذا لم يقع حتى مع أشرف خلق الله، نعم إن الله قادر على أن يقول للشيء: (كن) فيكون، فيصبح كل من في الأرض عباداً ربانيين ليس فيهم مشرك ولا مبتدع ولا ضال ولا فاسق، لكن ليس لهذا خلقت الخليقة، وهذا ينافي الحكمة التي خلق الله من أجلها الخلق ليبتليهم. فالمنهج السلفي أو منهج أهل السنة والجماعة لا يعني ولا يشير إلى جيل ولا إلى أجيال مضت، ولكن تتسع دائرته لتشمل الحاضر والمستقبل. ثم إنه لا يتعلق بالأزمان والعصور، ولكن يتعلق باتباع طريقة ثابتة واحدة حتى وإن قل أصحابها، فالتعبير بسلفية المنهج وعصرية المواجهة كأن فيه دمغاً للسلفية بأنها دعوة رجعية تنافي التقدم، ولذلك احتيج لهذه الثنائية فقيل سلفية المنهج وعصرية المواجهة، وهذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية، فالسلفية عند الغربيين عقدة من أسلافهم الصالحين، ويطلقون لفظ السلف عندهم على القرون الوسطى المظلمة، وعلى العهود المظلمة في أوروبا؛ لأن هؤلاء لهم حق في أن تصيبهم هذه العقدة من جراء ما عاناه أسلافهم من حرب للتقدم العلمي، والاكتشافات العلمية، وقهر الكنيسة وبطشها، والعقيدة الشركية التي قدمتها لهم، ومحاكم التفتيش، إلى غير ذلك مما حصل في أوروبا، فكان لهذا الفعل رد فعل ظهر في فصل الدين عن الحياة، والكفر بالدين، ورفع شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، فسلفهم السيئ الظالم المشرك الوثني يسمون عصوره العصور المظلمة، فأوروبا والغرب ما رأى أهلها النور أبداً بعد تلك القرون المظلمة، حتى في هذا الزمان ما زالوا يعيشون في بربرية هي أشد من العصور المظلمة التي يعيبونها. فالشاهد أن موقفهم من السلفية هو انعكاس لمفهوم السلفية عندهم، فيقولون: السلفية رجوع إلى الوراء حتى انساق بعض الصحفيين وراء هذا المفهوم، فيعبرون عن الرجعي بكلمة سلفي، حتى إن بعض الصحفيين في إحدى المجلات الإسلامية -مع الأسف- لما تكلم عن السلفية الناصرية، يعني الذين يريدون أن يعودوا إلى فكر عبد الناصر، فيسمونهم السلفية الناصرية، يعني أن كل شيء يشير إلى الوراء فهو سلفي، كما يفعل زكي نجيب محمود في كثير من مقالاته، حيث يقول: كيف يكون الجيل الحالي أكثر سلفية من الجيل الماضي؟! ترى البنت تمشي مع أمها وهي سلفية وأمها متبرجة في ملابسها. هذا معنى كلامه، فيقول: كيف نجد الثورة في الشباب في كل العالم تتجه إلى الأمام، ونجد بيننا من يدعوهم إلى السلفية. فيرى أن السلفية رجوع إلى الوراء دائماً. وأوروبا لما تخلت عن الدين وعما كان عليه أسلافها تقدمت، أما نحن فلا يوجد مبرر أبداً لأن نتأثر بهذا المفهوم عن السلفية وننساق خلفه؛ لأن أسلافنا هم خير أمة أخرجت للناس. وأعلى أنموذج بشري دب على هذه الأرض كان في صورة هذه الجماعة أو العصابة المؤمنة التي أخرج الله بها العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فبالنسبة لنا الأمر عكسي، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الإسلام بهذا المنهج القويم. ومما يزيد الاشتباه في هذا التعبير المهم -وهو سلفية المنهج وعصرية المواجهة- باقي السؤال، وهو أن هذا التعبير يشيع رداً على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فهذا مما يؤكد أن ما فهمناه في محله، وأن المقصود بهذه الثنائية الإشارة إلى البعد الزمني الذي أشرنا إليه، فما المقصود بالقضايا التاريخية، وإحياء مثل هذه القضايا التاريخية؟! إن كثيراً من الناس يشير بهذا التعبير، وكل من هب ودب يشنع على السلفيين بأنهم يحيون قضايا اندثرت، كما يفعل كثير من المشايخ، وهذا فيه جناية على منهج أهل السنة والجماعة، جناية مغطاة؛ إذ إن عادة أهل السنة وعلماء أهل السنة أنهم لا يبدءون بإثارة أي شيء لم يتكلم فيه السلف الأوائل، لكن كانوا كلما ظهرت بدعة وخرج المبتدعة بصورة من صور الانحراف يتصدون لهم، فيؤلفون الكتب ويناظرون ويناقشون الدلالات من منطلق قوله تبارك وتعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، ومن منطلق قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]. فمن هذا المنطلق كانوا يضطرون إلى الرد على أهل البدع، وكانوا يدفعون دفعاً إلى التصدي لهؤلاء المبتدعة،

الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها

الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها Q ما الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها؟ A اتفق أهل السنة على تكفير المستحل للمعاصي أو المحرمات، أما الإصرار فلا يكفر صاحبه، بل اتفق أهل السنة على تبديع من قال: إن الإصرار يكفر فاعله. والإيمان حقيقة مركبة من جزأين: قول وعمل، والقول منقسم إلى قسمين: قول بالقلب، وقول باللسان، والعمل عمل بالقلب وعمل بالأركان، وفيها اللسان. فقول القلب بالنسبة لأصول الدين أو أصول العقيدة هو التصديق، وقول اللسان هو النطق بكلمة الشهادة، وعمل القلب غير قول القلب، فقول القلب هو الإقرار والتصديق، أما عمل القلب فهو شيء آخر من أركان الإيمان، الذي وهو محبة هذا الشيء، والانقياد له، والتوكل على الله وحده إلى آخر هذه الأعمال القلبية. فالإيمان حقيقة مركبة من جزأين: تصديق الخبر، والانقياد للأمر، حتى من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق إنما عنى بذلك التصديق المستلزم للانقياد، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالخبر والانقياد للأمر أو الحكم فمن كذب بالخبر صار كافراً كفر تكذيب، ومن صدق الخبر ولكن رد الأمر ولم ينقد له صار كافراً كفراً الرد والإباء والامتناع، مثال ذلك: إبليس لما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود، فقد كان مصدقاً بأن هذا الأمر صادر من الله، ومع ذلك كفره الله تعالى فقال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، لأنه وقع في نوع آخر من الكفر، حيث وجد عنده التصديق، فهو يعلم ويصدق بأن الله أمره بالسجود، وما قال: أنا أشك في هذا الأمر. ويعلم أن الآمر هو الله، إذاً: وجد التصديق، لكن لم يوجد الانقياد للأمر، لم يوجد قول القلب الذي هو قبول الخبر، وصار إبليس كافراً كفر رد وإباء وامتناع، ومثله من يقول: الشريعة الإسلامية شريعة الله، لكن لا أطبقها وأرفضها. فيمتنع إباء أو إعراضاً أو استكباراً، وكلها غير امتناع الجحود؛ لأن الجحود كفر تكذيب. أما الذي لا ينقاد قلبه ولا يتقبل الحكم بقلبه، بل يعرض عنه ويرفضه فهذا كافر كفر إباء وامتناع وإعراض. ثم لا بد من أن نعلم أن الانقياد الذي يؤثر في أصل الإيمان ليس هو الامتثال العملي للأحكام؛ إذ الانقياد نوعان: الانقياد العملي، والانقياد القلبي، فالانقياد القلبي كفعل القلب، وذنوب القلب أعظم من ذنوب الجوارح، فامتناع القلب عن الانقياد الذي يؤثر ويقدح في أصل الإيمان ويرتبط به ليس هو الامتثال العملي بالجوارح في الأحكام كما تزعم الخوارج، وإنما هو قبول الأحكام والتزام الشرائع جملة كما هو مذهب أهل السنة، وحتى نوضح هذه الحقيقة ونجليها أكثر نذكر الأحوال الثلاثة: الحالة الأولى: حال رجل لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفر تكذيب؛ لأن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فهو لا يعتقد تحريم الخمر، ويقول: هي حلال فهذا مكذب بحكم الله عز وجل، جاحد لمعلوم من الدين بالضرورة، ولا شك في كفره حقيقة عند الله عز وجل. الحالة الثانية: رجل شرب الخمر وداوم على شربها، وعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً بقلبه أنها حلال، فهذا كافر -أيضاً- كفر تكذيب، وفاقد لأحد ركني الإيمان الذي هو تصديق الخبر. وهذان الشخصان لا سبيل للحكم عليهما بالكفر في الظاهر إلا إذا قام دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي، فإذا قام دليل على أن في القلب جحوداً وتكذيباً فهذا يكفر، كأن ينطق بلسانه ويقول: أنا لا أعتقد تحريم الخمر. فهذا اللسان هو الذي يغرف مما في القلب، فترجمان القلب هو اللسان، فإذا دل دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي كأن يصرح بلسانه بهذا الاعتقاد فإنه يكفر بذلك. الحالة الثالثة: مؤمن بأن حكم الله عز وجل في الخمر هو تحريم شربها، لكنه لا يقبل هذا الحكم اقتداء بقلبه، فيقول: هو حكم الملك، ولكنني لا أقبله ولا ألتزمه. ويرده ويرفضه، بل قد يعترض عليه وينتقده ويعيبه، ويعقد قلبه على عدم ترك شرب الخمر أبداً، فهذا الاستحلال يئول إلى كفر الرد والإباء وعدم القبول، فهذا القلب لم ينقد أصلاً للحكم، فهو مثل كفر إبليس؛ إذ هو عالم بأن الخمر حرمها الله، لكن لم يحصل الانقياد القلبي الذي هو كون الإيمان قولاً وعملاً، وقولاً بالقلب وقولاً باللسان. أي أن القلب لم ينقد ولم يقبل هذا الحكم، ومثل هذا الرد حتى مع التصديق بأن هذا حكم الله يكفر به صاحبه، ومصداق ذلك في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، إلى أن قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فهذا عرف أنه حكم الله لكنه لم يحكم شرع الله، والله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] وهذا وجد حرجاً، ولم يسلم تسليماً لحكم الله، فهذا نوع أكبر من الكفر. ونحن نعلم حديث ابن مظعون لما شرب هو وطائفة الخمر وتأولوا الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:93] إلى آخر الآية، فأفتى الصحابة رضي الله عنهم في ذلك بمحضر ابن عمر رضي الله عنه بأنهم إن أقروا به جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا. وعلى أي الأحوال فهذا الشخص الذي يرد ويرفض الانقياد لحكم الله يرتكب نوعاً آخر من الكفر غير كفر التكذيب، وهو كفر الرد والإعراض والإباء، مثل اليهود الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشهدوا له بأنه رسول الله، وقالوا: نشهد أنك رسول الله. لكن قالوا هذه العبارة على سبيل الإخبار عما في قلوبهم لا على سبيل الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، فلم يصيروا مسلمين بمجرد ذلك، مع أنهم معتقدين أن الرسول حق، بل قد قال الله عز وجل عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وليس هناك أحد يخطئ في معرفة أولاده، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون أنه رسول الله حقاً، لكن لم ينقادوا لحكمه، فكفرهم كفر عناد وإباء ورفض وعدم تحكيم. فهذه الصور الثلاثة السابقة: صورة الشخص الذي لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، وصورة رجل آخر يشرب الخمر ويداوم على شربها، ويعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً -أيضاً- بقلبه أنها حلال، وصورة رجل يصدق بأن حكم الله في الخمر هو تحريم شربها، لكنه يرفض بقلبه هذا الحكم ولا ينقاد له قلبياً، هذه الصور الثلاث يصدق على أصحابها ضابط الاستحلال، وهؤلاء مستحلون لما حرم الله، فهذا الاستحلال يكفرهم، وله صورتان: الأولى: عدم اعتقاد الحكم الشرعي، وهذا يرجع ويئول إلى كفر التكذيب، الثانية: عدم التزام هذا الحكم وقبوله والانقياد له بقلوبهم، فهذا يرجع إلى كفر الرد وعدم القبول.

الفرق بين الاستحلال المكفر والإصرار غير المكفر

الفرق بين الاستحلال المكفر والإصرار غير المكفر Q كيف نفرق بين الاستحلال الذي يكفر صاحبه باتفاق أهل السنة، والإصرار الذي لا يكفر صاحبه؟ A نفترض أن رجلاً يشرب الخمر، وهو مقيم على هذه المعصية، ولم يقلع عنها ويتب منها بسبب غلبة الشهوة وضعف الإرادة، مع بقاء اعتقاده القلبي بأن الله حرمها، ومع بقاء مبدأ قبول حكم التحريم والتزامه به، أي: يعتقد أن الخمر حرام، ويصدق أن هذا حكم الله، ثم هو بقلبه قبل هذا الحكم وما رفضه، لكن غلبته شهوته، فلا يستطيع أن يفارق هذه المعصية، فمثل هذا المصر لا يكفره السلف؛ لأنهم لا يعدون تكرار الذنب ومجرد الإقامة الظاهرة عليه دليلاً على استحلال القلب، ويقولون: إن مات موحداً غير تائب من هذا الذنب فهو تحت المشيئة: إن شاء عفا الله عنه بفضله، وإن شاء عذبه بعدله، لكنه لا يخلد في النار. ومثال هذا كثير، كالرجل الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب حماراً، وكان يؤتى به وقد شرب الخمر، ففي مرة من المرات قال بعض الصحابة حينما أحضر ليقام عليه الحد: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) قال هذا عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل مداوم على شرب الخمر، ومع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فهذا مصر لكنه غير مستحل. وكذلك أبو محجن الثقفي، ومعروفة قصته، فقد كان مداوماً على شرب الخمر، فهو مثال للشخص الذي تغلبه شهوته، ثم تاب بعدما أبلى في الجهاد كما هو معلوم. فالفرق بين الاستحلال الذي اتفق أهل السنة على تكفير صاحبه، وبين الإصرار على المعصية الذي اتفقوا على تبديع من يكفر به هو أن الاستحلال إما أن يكون بتكذيب حكم الله وعدم الإقرار به، فهنا يكون متعلقاً بمبدأ تصديق الخبر، وإما أن يكون برد هذا الحكم وعدم التزامه، والاعتراض عليه، والاستكبار عنه، وهو هنا يتعلق بمبدأ قبول الأحكام، فتخلف التصديق كفر تكذيب، وتخلف القبول كفر رد وإباء، وكلاهما قادح في أصل الإيمان. أما الإصرار على المعصية فيتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، فهو بقلبه قد قبل الحكم، وبقي تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه بالجوارح، لكنه بقلبه قابلٌ حكم الله، وملتزم بحكم الله، فالإصرار يتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، أي: تنفيذ الأحكام أو عدم تنفيذها، وهذا قادح في كمال الإيمان لا في أصله، وينقص إيمانه بهذه المعصية، ولا يذهب بالكلية، ويضربون مثالاً لذلك بالبدن الذي فيه روح، فالبدن الذي لا روح فيه، البدن الذي فيه روح أصل الإيمان موجود فيه بشقيه: تصديق الخبر والانقياد للأمر، فيبقى الجسد حياً حتى لو بترت بعض أعضائه، فلو بترت ساقه أو أطرافه أو عينه أو غير ذلك من أعضائه يبقى كائنا حياً يستطيع أن يعيش ما زالت فيه الروح، لكن إذا خرجت الروح لم ينفعه شيء، فإذا خرج الإيمان بشقيه -تصديق الخبر والانقياد للأمر- لا يبقى فيه إيمان، بل يقضى عليه بالكلية، كالشجرة إذا اجتثت من جذورها، لكن إن كسرت واستخرج منها بعض الأغصان فإن ذلك ينقصها ولا يبقيها سليمة، وتبقى حية مع ذلك.

حكم تحكيم القوانين الوضعية

حكم تحكيم القوانين الوضعية Q هل تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر أم كفر دون كفر؟ A هذا السؤال بعبارة أخرى هو: هل تحكيم شريعة غير شريعة الله تبارك وتعالى يدخل في الاستحلال أم في الإصرار؟ ومن ثم فهل فاعله يكون كافراً كفراً أكبر، أم يكون كافراً كفراً دون كفر؟ إن هذه الشريعة هي الدستور الأعلى، والقانون الأوحد المهيمن، لكن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا عرض عليه قضية أو قضيتان أو عشر قضايا أو أغلب القضايا التي تعرض عليه، فحكم في قضايا عارضة جزئية بغير ما أنزل الله، لا بسبب التكذيب، ولا بسبب الرد والرفض، وإنما بسبب مجاملة لصديقه أو قريبه، أو رشوة أغري بها، أو محسوبية، أو هوى، فهذا كله كفر دون كفر، وهذا معصية، وليس كفراً يخرج من الملة، لكنه ينقص إيمانه؛ لأن هذا انحراف عارض في التطبيق وليس في المبدأ. وبعبارة أخرى نقول: من رغب عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستبدلها بالقوانين الوضعية فهذا الاستبدال له صور عدة: فإما أنه يكون رافضاً لها بقلبه، وحينها لم يوجد قول القلب الذي هو الانقياد والإقرار والقبول، أو يكون كارهاً لها، أو معتقداً أن القوانين الوضعية أفضل من الأحكام الإلهية، باعتبار أنها أحكام رجعية جامدة لا تناسب العصر، كما يقع من العلمانيين وخصوم الإسلام، أو يفعل ذلك عناداً ومكابرة، فيؤمن بأنه حكم الله لكن يعاند ويكابر ولا يقبله ولا ينقاد له، فهذا كافر خارج عن ملة الإسلام، ولو كان مصدقاً بها مقراًَ بأنها شريعة الله عز وجل، وكفره ككفر إبليس الذي ما شك في أن الأمر بالسجود صادر عن الله تبارك وتعالى، لكنه رد حكم الله ولم يلتزمه، ففي حق مثل هذا نستدل بقوله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فالمسألة هنا ليست مسألة خطأ في التطبيق أو خطأ عارض، بل هي مسألة مبدأ، فحين يحصل التخلي عن أصل تحكيم الشريعة وإبطال تحكيمها في أغلب شئون الحياة والدولة، وتنكيس راية الشريعة تماماً، ثم استبدال راية الشريعة براية القوانين الوضعية الجاهلية لتصبح هي بدل الشريعة الإسلامية مع أن الشريعة هي المظلة ذات السيادة، وهي المهيمنة على المجتمع، فإن ذلك لا يتضمن عدم الحكم بما أنزل الله بتعطيله وإبطاله فحسب، بل يتضمن جريمة أخرى هي الإباحة العامة للحكم بغير ما أنزل الله. فما بالك لو انضم إليه الإلزام القسري، أي: إلزام الأمة جميعها بالتحاكم إلى هذه القوانين الجاهلية؟! وليس الأمر إلى هذا الحد، بل يفتن كل من تمرد على هذه القوانين أو حاول تغييرها حتى ولو كان قاضياً. ما أكثر ما يتردد في ساحات المحاكم الوضعية من عبارات تقشعر منها الجلود وتشمئز لبشاعتها النفوس لما تتضمنه من رد الدفاع الشرعي، حينما يدافع المدافع بأدلة الشرع الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل القاضي الوضعي الحكم الشرعي والدفاع الشرعي، لا لشيء إلا لأنه يخالف القوانين الوضعية. فيرد حكم رجم الزاني، أو جلد الشارب، أو قطع يد السارق؛ لأنه يخالف القوانين، وهذا فصل بين الخلق والأمر، وقد يكون هذا الشخص مؤمناً بأن هذا حكم الله، لكنه لا ينقاد إليه قلبياً، ويجعل عدم تطبيق الشرعية مبدأ عاماً، فيلزم كل الناس بتعطيل الشريعة أولاً، ثم باستباحة الحكم بغير ما أنزل الله إباحة عامة يلزم بها سائر الناس ويمتحن ويفتن من خالفها أو تمرد عليها، فالله عز وجل له الخلق والأمر، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالذي يخلق هو الذي يأمر ويحكم، فكما أنه لا يخلق إلا الله، كذلك لا يأمر ولا يشرع إلا الله عز وجل. ونشير بهذه المناسبة إلى عبارة (الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع)، فهذه العبارة تنافي العقيدة الإسلامية تماماً؛ إذ إنها تساوي القول بأن الله عز وجل هو الخالق الرئيس لهذا الكون. فهل يقبل أن الله هو الخالق الرئيس؟! إن الله تعالى كما له الخلق له -أيضاً- الأمر، فكما أنه لا يصح أن تقول: الله هو الخالق الرئيس، كذلك لا يصح أن تقول: شريعة الله هي الشريعة الرئيسة للقوانين. وقد حصل أن جنكيز خان ملك التتار استبدل أحكام القرآن وأحكام الشريعة بكتابه (الياسق) أو (اليافا)، وجعله خليطاً من الشريعة الإسلامية مع بعض القوانين الأخرى من الملل الأخرى، ووقفت الأمة منه موقفاً عظيماً خطيراً لإبائه ورده ورفضه الشريعة الإسلامية. فأرجو أن يكون بهذا اتضح الفرق بين الإصرار وبين الاستحلال، وبعض العلماء يقولون: الحكم بالكفر الأكبر نتيجة الاستحلال له صورتان: تكذيب الخبر، أو رد الحكم وإبطاله وعدم الانقياد له والتزامه، وفي الحالة الثانية قالوا: هو كفر، لكن لا يحكم على قائله أو فاعله بالكفر حتى يتثبت من وجود أفعال أو شروط معينة، وانتفاء موانع تمنع من الحكم بالكفر على الشخص، لكن يقال: من فعل كذا فهو كافر. ولا يجزم بأن فلاناً بعينه كافر حتى نتأكد من زوال العوارض الأهلية من إكراه أو جهل أو تأويل.

حكم الصلاة خلف الإباضية من الخوارج

حكم الصلاة خلف الإباضية من الخوارج Q هل تجوز الصلاة خلف الإباضية من الخوارج؟ A الخوارج من أهل البدع، والأصل أنك إذا كنت مستطيعاً أن تعزل الإمام المبتدع الفاسق ببدعته -كبدعة الخوارج مثلاً- فإنه يجب عليك أن تعزله، ولا تصل خلفه، فإن عجزت فعليك أن تصلي في مسجد آخر، فإن لم تجد جمعة ولا جماعة ولا عيداً إلا خلف هذا المبتدع ففي هذه الحالة إن كنت لا تستطيع تغييره إلا بإحداث فتنة أكبر فصل خلفه، كما بين ذلك شيخ الإسلام في الكلام الذي ذكرناه عنه في مثل هذا، فهذه هي القاعدة في شأن أهل البدع عموماً. فالقاعدة أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فما دام أنه لم يحكم بكفره، وما دام باقياً على أصل الإسلام حتى وإن تلبس بهذه البدعة فتصح صلاته بغيره مع الكراهة؛ لأن بعض العلماء متفقون على هذه الكراهة، والله تعالى أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

§1/1