سلسلة الأسماء والصفات

محمد الحسن الددو الشنقيطي

سلسلة الأسماء والصفات [1]

سلسلة الأسماء والصفات [1] اشتملت سورة الإخلاص على إثبات وحدانية الله وصمديته، وأخذ منها العلماء الصفات الخمس السلبية في حق الله تعالى كما شرحها الشيخ حفظه الله تعالى.

انقسام الأشياء من حيث الغنى والحاجة إلى المحل والمخصص

انقسام الأشياء من حيث الغنى والحاجة إلى المحل والمخصص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخنا حفظه الله في منظومته في الأسماء والصفات: [وهو تعالى أحد فرد صمد ألحد من قال بخلقه اتحد] بالنسبة للفظ (الفرد) فقد جاء في أحاديث ولم يرد في القرآن، وأما (الصمد) فإن صفة الصمدية مثبتة له، وهي الغنى المطلق عن خلقه، والغنى المطلق معناه: الاستغناء عن المحل والمخصص جميعاً. والأشياء فيما يتعلق بالحاجة والغنى عن المحل والمخصص أربعة أقسام: النوع الأول: ما يحتاج إلى المحل والمخصص معاً: وهو صفات المخلوقين، فهي محتاجة إلى المحل الذي تقوم به؛ لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى محل تكون فيه، وذلك مثل البياض والسواد، والطول والقصر، فهذه لا بد لها من ذات تقوم بها، وتحتاج إلى المخصص. والمخصص المقصود به الخالق الذي يميز هذا المخلوق بست من اثنتي عشرة، وهي المسميات من الممكنات المتقابلات. والممكنات المتقابلات هي: إما الوجود وإما العدم وهما متقابلان فيخصصه بواحدة منهما. والصفات مثلاً البياض والسواد، صفتان متقابلتان يخصصه بواحدة منهما. والأمكنة: هذا المكان والمكان الآخر كل ذلك ممكن فيخصصه الله تعالى بواحد منهما. والأزمنة: اليوم وأمس وغداً، هذه أزمنة متقابلة يخصصه بما شاء منها. والجهات: الشرق والغرب، والجنوب والشمال، والفوق والتحت ونحو ذلك، هذه جهات متقابلة يخصصه بما شاء منها. المقادير: الضخامة والصغر، الكبر والصغر، وكذلك الزيادة والنقص، وغيرها من المقادير، وهي متقابلة وكلها ممكنة، فالشيء قبل وجوده يمكن في حقه ست من اثنتي عشرة، وهي الممكنات المتقابلات التي ذكرناها، وقد نظمها أحد العلماء بقوله: الممكنات المتقابلات وجودٌ العدمُ والصفات أمكنة أزمنة جهات ثم المقادير روى الثقات هذه الاثنتا عشرة كلها ممكنة عقلاً، كل اثنتين منها ممكن عقلاً أن يتصف بإحداهما، فمثلاً هذا ولد يولد لرجل فيمكن في حقه هذه الاحتمالات كلها: الوجود والعدم، والطول والقصر، والبياض والسواد، الوجود في هذا المكان وفي مكان آخر، في الليل أو في النهار، هذه كلها ممكنة، والذي يخصصه ببعضها هو المخصص، وهو الخالق، والشيء قبل أن يكون كان بالإمكان أن يكون وألا يكون، فلما كان دل ذلك على رجحانه، ولا ترجيح بدون مرجح، فالمرجح هو المخصص. ومن هنا فإن صفات المخلوق محتاجة إلى المحل ومحتاجة إلى المخصص، فمثلاً: الفهم، هذا صفة من صفات المخلوق، لا يمكن أن يقوم بنفسه، أي: لا يمكن أن تجد فهماً يمشي في الشارع ليس له ذات يدخل فيها، ويحتاج أيضاً إلى مخصص؛ لأنه بالإمكان أن يكون كبيراً وأن يكون قليلاً وكذلك يمكن وجوده وعدمه إلى آخر الصفات، فإذا وجد وكان بقدر معين فهذا دليل على أن المخصص أراد له ذلك وخصصه به. النوع الثاني: ما يحتاج إلى المخصص لكنه غني عن المحل: وهو ذات المخلوق: ذات المخلوق لا تحتاج إلى ذات أخرى تقوم بها، لكنها محتاجة إلى المخصص الذي يخلقها، ويميزها بالصفات التي تحتاج إليها، فهذا هو الفرق بين ذات المخلوق وصفات المخلوق، فصفات المخلوق تحتاج إلى الأمرين معاً (المحل والمخصص) ، وذات المخلوق تحتاج إلى المخصص لكن لا تحتاج إلى المحل. النوع الثالث: ما هو غني عن المحل وعن المخصص معاً: وهو ذات الله سبحانه وتعالى: فإنه غني عن المحل وعن المخصص معاً، لا يحتاج إلى المحل لأن له ذاتاً، ولا يحتاج إلى المخصص لأنه قديم. النوع الرابع: صفات الله سبحانه وتعالى، فهذه غنية عن المخصص؛ لأنها قديمة، لكن هي قائمة بالمحل، ولا يقال محتاجة إلى المحل؛ لكن يقال: قائمة بالمحل؛ لأنها لا تفارق ذاته تعالى. فإذاً الأشياء كلها أربعة أقسام: ما يحتاج إلى المحل والمخصص معاً، وما يستغني عن المحل والمخصص معاً، وما يحتاج إلى المحل فقط، وما يحتاج إلى المخصص فقط، فإذاً هذه أربعة أقسام، قد نظمها الشيخ محمد بن فال المتتالي رحمه الله بقوله: الأشياء أربع فمنها غني عن المحل والمخصص الغني وضده وهو صفات الخلق وقام بالمحل وصف الحق وما إلى المخصص احتاج فقط فهو بذات حادث قد ارتبط

ذكر الثالثة والرابعة والخامسة من الصفات السلبية لله

ذكر الثالثة والرابعة والخامسة من الصفات السلبية لله والصفة الثالثة: هي قوله: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3] فإنها تقتضي البقاء؛ لأن المخلوق الذي يفنى فهو غير باق وهو الذي يحتاج إلى ولد يكون استمراراً له، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ولد؛ لأنه باق, فوجوده لا يلحقه العدم، فإذاً هذا أثبت له صفة البقاء، والبقاء معناه: نفي العدم اللاحق للوجود. والصفة الرابعة قوله: {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] وهي إثبات لصفة الأولية التي سبقت، ومعناها نفي العدم السابق للوجود. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] هذه الصفة الخامسة وهي المخالفة للحوادث، أي: المخالفة لخلقه. فإذاً هذه خمس صفات تسمى بالسلبية؛ لأن كل واحدة منها تفسر بالعدم. الوحدانية: هي عدم التعدد، والغنى المطلق: هو عدم الاحتياج إلى المحل وإلى المخصص، والقدم: هو عدم الحدوث، والبقاء: هو عدم الفناء، والمخالفة للحوادث: وهي عدم المشابهة للحوادث، فهذه تسمى الصفات السلبية؛ لأن تفسيرها نفي فكلها يبدأ تفسيرها بعدم كذا، وهي التي ذكرها هنا في قوله: (وهو تعالى أحد فرد صمد)

تنزيه الله عن الاتحاد بخلقه

تنزيه الله عن الاتحاد بخلقه (ألحد من قال بخلقه اتحد) ؛ فأحديته تقتضي إثبات الذات له، وهذا مقتض لئلا يتحد بأي ذات أخرى، فالناظم نفى دعوى الاتحاد، ودعوى الاتحاد يدعيها النصارى في الأصل، وهم أول من ادعاها، وقد ادعاها بعض الطوائف من المسلمين. ومعنى الاتحاد: التقاء ذات الخالق بذات المخلوق حتى تتشكل منهما ذات واحدة، وهذا مستحيل في كل شيء، حتى المخلوق لا يمكن أن يتحد بالمخلوق فضلاً عن الخالق، فهذا الماء إذا خالطه سكر وذاب فيه فلا يمكن أن يقال اتحد الماء والسكر؛ لأن خاصة الماء بعد ذوبان السكر فيه غير خاصته قبله وغير خاصة السكر، وهذه القاعدة قاعدة فقهية أصولية وهي: (الشيء مع غيره غيره، لا هو مع غيره) فكل شيء إذا كان مع غيره فهو مادة غيرهما لا هو مع غيره. والاتحاد بالنسبة لذات الخالق بذوات المخلوقين أشد بعداًَ، فالصفات متباينة تماماً، والمشابهة منتفية، والمخلوق محصور والخالق غير محصور، والمخلوق سبقه العدم وسيلحقه العدم، والخالق لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم فكيف يقع الإتحاد؟! فمن أبلغ المستحيلات الاتحاد، والذين يقولون هذا يقولون: اتحد اللاهوت بالناسوت، واللاهوت: يقصدون به خصائص الألوهية، والناسوت: يقصدون به خصائص الإنسانية، وهذا في الأصل قال به النصارى حين زعموا أن الله واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة، وهم يربون أولادهم على هذا، يقولون: هو واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة، وعقولهم تتشرب هذا؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، يقولون: الثلاثة اتحدت فحصل منها واحد. وقال بهذا بعض الطوائف المنحرفة من الشيعة والصوفية، فبعض طوائف الشيعة المنحرفة وهم الذين يسمون بالحشاشين، وينتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، ولذلك ينسبون إليه ويقال فيهم الإسماعيلية، ويسمون أيضاً بالقرامطة نسبةً إلى رجل اسمه: حمدان بن قرمط، ونشأ منهم طوائف منها النصيرية، ومنها الدروز، فكلهم في الأصل من الحشاشين الإسماعيلية القرامطة، ومعنى الحشاشين: أنهم كانوا يسكنون في الحشوش ويغتالون الناس، ويسطون على أموالهم في الليل، ويقطعون الطرق في الشام فهؤلاء يسمون الحشاشين، وقبل ذلك تمركزوا في القرن السادس والسابع في بعض المناطق في الشام وبالأخص في لبنان، وحصلت بينهم وبين أهل السنة حروب حين قطعوا الطرق وأهانوا الناس وأذلوهم، وساعدوا التتار لما أتوا إلى الشام، وكان ممن قاتلهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقاتلهم بنفسه وشارك في قتالهم، وهؤلاء يزعمون أن الله سبحانه وتعالى اتحد بأئمتهم، تعالى عما يقولون علواً كبيراً. ومثلهم بعض غلاة أهل التصوف الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى مكن لبعضهم تمكيناً مطلقاً حتى اتحد العابد والمعبود، ويظنون أنه يصل إلى ذلك بمستوىً من العبادة فترتفع عنه التكاليف به، ويسمون هذا المقام: مقام وحدة الوحدة. وعندهم مقامات مختلفة: مقام الوحدة فقط، ومقام الجمع، ومقام الفرق، ومقام جمع الجمع، ومقام فرق الفرق، وكل هذه اصطلاحات لهم، بعضها مسلم صحيح مثل ما تقرءونه في كتاب مدارج السالكين لـ ابن القيم يشرحها شرحاً صحيحاً في مقام الجمع، ومقام الفرق، ومقام جمع الجمع إلى آخره، لكن بعضها يرجع إلى الاتحاد.

نشوء نظرية وحدة الوجود عن نظرية الاتحاد

نشوء نظرية وحدة الوجود عن نظرية الاتحاد وترتب على نظرية الاتحاد هذه نظرية أخرى أخطر منها، وهي نظرية وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي الحاتمي، فهو لما عرف أن الاتحاد بين أبدان المخلوقين مستحيل فكيف بالاتحاد بين ذات الله وذوات الخلق، صرف الأمر فأتى بنظرية فلسفية وهي أنه قال: إنّ (لا إله إلا الله) معناها: لا موجود إلا الله، فليس في الوجود شيء إلا الله، لكنك لا تعرف هذا إلا إذا وصلت إلى مقام الذوق فعرفته معرفةًَ حقة، فقبل أن تعرفه يمكن أن تزعم أن في الكون شيئاً سواه، وحينئذٍ يختلف عليك العابد عن المعبود، لكن إذا عرفته ووصلت إليه لم يكن هناك عابد ولا معبود، حيث إن فرعون أعلم بالله من موسى، يقول: فإن فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ؛ لأنه بلغ مقام وحدة الوجود، وموسى لم يبلغ هذا المقام، ولذلك يقول أبياته المشهورة: بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب إلى آخر ما قاله، وهو بهذا يزعم أن كلام المخلوقين كله من كلام الله كما قال: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وأراد بهذا تطوير نظرية الاتحاد التي قال بها قبله الحلاج وقتل بسببها بعد أن حاكمه المسلمون، لكنه وجد طوائف تدافع عنه، ووجد من يعتقد أقواله، وألف عدداً من الكتب منها: الفصوص، ومنها: الفتوحات المكية وغيرها، واليوم يتبنى أفكاره عدد من الناس وينشرون كتبه من مطابع في الشام، ومكتبات تنشر كتبه الآن وتتبنى أفكاره، وقد ألف البقاعي رداً عليه، ومن أحسن الردود رد يسمى: (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) وقد طبع اليوم مع كتاب آخر للبقاعي بعنوان: مصرع التصوف، وهو عنوان أحدثه الطابع فقط وليس هو اسم الكتاب.

نظرية وحدة الشهود التي جاء بها الغزالي

نظرية وحدة الشهود التي جاء بها الغزالي ثم جاء الغزالي بعد هذا فطور النظرية، فأتى بنظرية وحدة الشهود، فقال: الواقع أن المخلوق لا يمكن أن يتصل بالخالق بوجه من الوجوه، لكن يصل المخلوق من تطهير نفسه وتزكيتها وصقل بصيرته إلى أن يكون بحيث لا يشاهد غير الله سبحانه وتعالى، وتكون المخلوقات عنده وإن كانت موجودةً إلا أنها في قيمة المعدوم، فلا يخاف شيئاً، ولا يرجو شيئاً، ولا يحس بشيء غير الله سبحانه وتعالى. وهذه بعضها يصل إلى درجة التكفير، وبعضها ليس كذلك، فهي نظرية عموماً فيها المقبول والمردود، ما كان منها مقبولاً هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو مقام المراقبة، وما كان منها مردوداً فهو ما زاد على هذا من الغلو الذي أضافه من وحدة الشهود، وهي أيضاً من المزالق الصعبة، ولذلك أخذ بها بعض الذين اقتدوا بـ الغزالي من بعده، ومنهم: الهروي الحنبلي مؤلف كتاب منازل السائرين، وقد دافع عنه ابن القيم وأراد أن يلتمس له العذر في كتابه مدارج السالكين، وكذلك تأثر به الشيخ عبد القادر الجيلاني ودافع عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواقف، وإن كان بعض كلامه لا يحتمل الدفاع، لكن شيخ الإسلام يقول عنه: إنه قاله في الشطح بزوال العقل فهو مرفوع عنه التكليف في ذلك الوقت، وهذا مثل قوله: (قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى في السماء أو في الأرض) ونحو هذا من الكلام، وهو الذي يقول: زيارة أرباب التقى مَرْهمٌ يُبري ومفتاح أبواب الهداية والخير وتحدث في القلب الخلي إرادةً وتشرح صدراً ضاق من شدة الوزر وتنصر مظلوماً وترفع خاملاً وتكسب معدوماً وتجبر ذا كسر إلى أن يقول: ولا فرق في أحكامها بين سالك ورب ومخدوم وحي وذي قبر وذي الزهد والعباد والكل منعم عليهم ولكن ليست الشمس كالبدر فزر وتأدب بعد تصحيح نية تأدب مملوك مع المالك الحر البيت الأخير فيه مبالغة واضحة. ونظير هذا ما حصل لعدد من المنتسبين إليه في مختلف الفترات، فكلهم يدخل في مقام وحدة الشهود هذه، فيتكلمون بكلام من باب الشطح، مثل ما حصل لـ زروق مما يروى عنه أنه قال: أنا لمريدي جامع لشتاته إذا ما سطا طور الزمان بنكبة فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا وكم طرفة تجنى بأثمار صحبتي فإن كنت في هم وضيق وكربة فناد أيا زروق هات بسرعة ومثل هذا حصل لعدد من الناس حتى لوالد أبي بكر ابن العربي رحمه الله في قصة ذهابه إلى الغزالي، لكن كل هذه الأقوال إنما تصدر ممن كان منهم صالحاً في وقت غيبوبة عقله، ومن كان منهم فاسداً مثل عدد منهم يقع منه هذا لفساد عقيدته وفساد حقيقة أمره، فمن كان منهم صالحاً التمس له من عرفه العذر، مثل عبد القادر الجيلاني، ومثل زروق، ومثل ذي النون المصري وغيره، ومن كان معروفاً بعدم الالتزام والصلاح لا يلتمس له العذر في مثل هذا، ومع هذا فإنه لا يلتمس العذر لأتباعهم الذين وافقوهم على هذا مطلقاً؛ لأن أتباعهم ليسوا مثلهم فيما يتعلق بالشطح الذي قالوه في هذا الكلام، ومن هنا فكان كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي ورسالته للبكري، وكذلك وصيته الكبرى التي يرد بها على أتباع عدي بن مسافر، كلها من هذا القبيل، يقول: إن هؤلاء المشايخ عرفوا بالصلاح والورع، وحصلت منهم أقوال غير مرضية، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد، فلا تتبعوهم في تلك الأقوال التي أخطئوا فيها.

الإلحاد في أسماء الله وصفاته

الإلحاد في أسماء الله وصفاته (ألحد من قال بخلقه اتحد) : جعل هذا من باب الإلحاد، والإلحاد في الأصل التكذيب، ويقال: الإلحاد في آيات الله، والإلحاد في أسماء الله، والإلحاد في صفات الله، فكل ذلك يسمى إلحاداً. فالإلحاد في آيات الله معناه: ضرب بعض القرآن ببعض أو الأخذ بمتشابهه، والإلحاد في أسماء الله معناه: إقرار الاسم وإنكار مدلوله كما هو حال المعتزلة، فالمعتزلة يثبتون أسماء الله وينفون الصفات ويرون أنها أسماء لا تدل على مسمىً ولا تدل على صفات أصلاً. والإلحاد في صفات الله معناه: إنكارها وتعطيلها، فكل هذا يدخل في الإلحاد. والإلحاد هو أعم من هذا، فمنه الإلحاد المطلق، ومعناه: إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، وإنكار بعثة الرسل ونحو ذلك، فهذا أعظم الإلحاد، وأما الإلحاد بتحريف الأسماء ونقص بعضها كما يحصل لبعض ناقصي العقل حيث يحذفون بعض الحروف من بعض أسماء الله كما قال أحد العلماء: نفوا من اسم الله لفظ الهاء فألحدوا في أعظم الأسماء بعض الناس يقول: الل، عبد الل وهكذا يحذفون الهاء من اسم الله، فرأى العلماء أن هذا من الإلحاد في اسم الله؛ لأنهم حذفوا بعض حروفه. فالذين يلحدون في أسمائه توعدهم الله تعالى في كتابه.

سلسلة الأسماء والصفات [2]

سلسلة الأسماء والصفات [2] لقد جاءت صفات الإثبات مفصلة في القرآن والسنة، أما النفي فلم يفصل إلا في نفي الصاحبة والشريك والوالد والولد، وقد كان منهج السلف في التعامل مع صفات الله تعالى إثباتها والوقوف عند النصوص الواردة بها من غير تشبيه ولا تعطيل.

نفي وجود الصاحبة والوالد والولد لله عز وجل

نفي وجود الصاحبة والوالد والولد لله عز وجل

المقصود من نفي وجود الكفء لله

المقصود من نفي وجود الكفء لله ثم قال: (ليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وهذا تقرير لكل ما سبق، ولا يحتاج إلى العطف فيه، يمكن أن تقول: لماذا لم يقل: (وليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ؟ وA أن معنى أنه (ليس لَهُ كُفُواً أحد) : أنه لا صاحبة له ولا ولد ولا والد؛ لأن الكفء هو النظير، يقال: الكفو بالواو، والكفء بالهمزة، والكفؤ بضمتين، وهذه كلها مقروءة، فقراءة نافع وابن كثير وابن عامر (كفؤاً) بالهمزة، وقراءة الكوفيين: (كفواً) بالواو لكن شعبة يقرؤها (كفْواً) بإسكان الفاء بالإسكان وغيره يقرؤها بالضم. والمقصود بهذا أمران: أحدهما: نفي التشبيه مطلقاً؛ لأن الكفاءة مقتضية لقدر من الاشتراك في الشبه، فالبشر من جهة التمثيل أكفاء، لا أحد منهم يزيد على آخر بعضو مثلاً، بل هم صورة واحدة؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء والثاني: وهو المقصود الأساس من نفي الكفء: أنه لا يمكن أن يكافئه ولا أن يناظره أحد حتى يتزاوج معه، أو حتى يحصل بينهما اتحاد، أو حتى يحصل بينهما الاشتراك في أي شيء، فلذلك لا يمكن أن يحصل أي شرك به من أي وجه من الوجوه، فهذا ينفي الصاحبة، والولد، وينفي الوالد، وينفي كذلك المشابهة مطلقاً بأي شيء من مخلوقاته، وينفي كذلك استعانته بأي مخلوق من خلقه، وينفي الحاجة إلى أي مخلوق؛ لأن الخلق كلهم محتاجون إلى الخالق، ويحتاج بعضهم إلى بعض، والخالق غني لا يحتاج إلى شيءٍ من خلقه، فلم يستفد منهم أية صفة، أي: لم يستفد منهم صفة الخلق بعد أن خلقهم، ولا صفة الرزق بعد أن رزقهم، فقد كان خالقاً ولا مخلوق، وكان رازقاً ولا مرزوق، وهو على ما عليه كان، لا تحله الحوادث والآفات، ولا تأخذه سنة ولا نوم، هو الحي القيوم كما كان. وهذه الصفات المذكورة في هذا البيت فيها نفي الصاحبة، ونفي الولد، ونفي الوالد، ونفي الكفو، ونفي الكفو متضمن لنفي الصاحبة، وقد جاء الثلاثة في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] وهذا شامل لنفي الصاحبة، فقصد بذلك على أن يكون تفسير: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أنه ليست له صاحبة ولا ولد أو والد، و (أو) هنا بمعنى الواو، فقوله: (ولا ولد أو والد) معناه: ولا والده.

الإيمان وقاية للعقل من الخرافات

الإيمان وقاية للعقل من الخرافات يقول الشيخ حفظه الله: [ليست له صاحبة ولا ولد ووالد ليس له كفواً أحد] . الذي جاء في نصوص الوحي في وصف الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: إلى إثبات ونفي، والإثبات جاء أكثره مفصلاً، والنفي جاء أكثره مجملاً، وقد جاء نفي مفصل وهو قليل، فبدأ به لقلته في النصوص، وإنما جاء النفي المفصل في النصوص فيما يتعلق بالصاحبة والولد والوالد فقط في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ونحو ذلك. والصاحبة: تطلق على القرينة فهي مؤنثة الصاحب بمعنى المصاحب، والمقصود بذلك: ما يخيل إلى بني آدم من أن حاجة الكائن أياً كان تقتضي وجود قرين له من جنسه. ومن هنا نتذكر بعض الفوائد العقلية التي ذكرناها سابقاً والتي تفيد العقل من الإيمان، وقد ذكرنا أن الإيمان لمصلحة العقل، ومن فوائده: أنه ينفي الخرافات عن العقل؛ لأن الخرافات هي متاهات العقول، فلو لم ترد هذه النصوص من الوحي لبقيت عقائد الناس مثل ما كانت عقائد الإغريق اليونانيين، عندهم الآلهة ذكور وإناث، وهناك عندهم بعض الآلهة ابن زناً من الإله، أي: إله زنى بإلهة فأنجبت له ابناً من زناً وأصبح إلهاً لديهم!! وهكذا من خرافات عقلية لا نهاية لها، ولذلك هذا الإله (أولمبيك) يسمونه إله الرياضة، وهو ابن زنا عندهم، زنت إلهة بإله آخر فأنجبت منه هذا الولد فسميت عليه الرياضة، وإلى الآن تسمعون بالملاعب الأولمبية ونحو ذلك وكله من أولمبيك. فعلى هذا فإن هذه النصوص هي التي حررت العقول من هذه الأوهام وهذه الخيالات التي منشؤها التشبيه بما يعهده العقل؛ ولذلك فإن نصوص التنزيل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، وهي التي تقتضي سد القلب بالكلية عن هذه الأوهام والتخيلات التي هي متاهات تضيع فيها العقول. وكان العرب في الجاهلية يذهبون إلى أن الملائكة بنات الله، والتصور العقلي يقتضي أن البنات لا يمكن أن يوجدن إلا بعد أن توجد أم، والله سبحانه وتعالى فند هذه الفكرة تفنيداًَ قاطعاً في كثير من الآيات، ومن أبلغ ذلك ما كان فيه خطاب للعقل والعاطفة معاً، فقد جاء الخطاب في ذلك للعقل فقط في مثل قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] ، وجاء الخطاب فيه للعقل والعاطفة معاً في مثل قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:17-18] وفي القراءة السبعية الأخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً أأُشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) .

مجيء النفي المفصل في صفات الله

مجيء النفي المفصل في صفات الله فرد هذه الأوهام مهم جداً للعقول، ولهذا جاء النفي فيها مفصلاً، بخلاف بعض الأمور التي لا تكون من ورائها المتاهات الكبيرة فلم يرد النص بنفيها على التفصيل، وإنما جاء النفي الإجمالي في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فقضى ذلك على التشبيه بالمخلوق كالجسم، والأعضاء، والجوارح وغير ذلك، ولم يأت التفصيل فيها، وإنما يفصل فيها المتكلمون ويذهبون فيها كل مذهب فيقولون: ليس بجوهر ولا بجسم وعرض كاللون أو كالطعم إلى آخره. هذا التفصيل العقول في غنىً عنه، ولا تحتاج إليه أصلاً؛ لأنه لا يوجد وهم يميل إلى أن الله خالق هذا الكون كله عرض مثل الطعم أو مثل اللون، فلا يحتاج إلى نفي هذا إلا على سبيل الإجمال فيقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومن هنا ندرك حاجة العقول إلى الإيمان وأنه لمصلحة هذه العقول، وحائل بينها وبين التخبط في المتاهات التي لا يمكن أن تخرج من هذا الوحل. قوله: (ليست له صاحبة ولا ولد) هذا نفي، وزعم الولد قديم في البشرية، فقد زعم اليهود أن العزير ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكل هذا بسبب أن بيئتهم وواقعهم لم تستنر بنور الوحي فتخبطت في الخرافات التي منشؤها ما يقيسون فيه على أنفسهم، فالذي يعظمونه في الأرض هم الملوك، والملوك لهم صواحب ولهم أولاد وبنات، فيرون أن من يقربه الملوك ويدنونه يمت لهم بصلة قرابة فيبحثون عن تلك القرابة، ومن هنا قال اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] فرد هذا الوهم بالكلية. وكذلك فإن النصارى يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أب لعيسى، ثم يزعمون أنه من وراء ذلك أب للبشر كلهم، فالفكرة القديمة لدى النصارى أنه أب لعيسى فقط، واليوم يزعمون أنه أبٌ للعالم كله ويزعمون أن الناس جميعاً أبناء الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ومن أجل هذا تجدون في الكتب المترجمة اليوم التي فيها بعض الأحاديث، مثلاً خرجت ترجمة لرياض الصالحين بالفرنسية: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) ، ترجموا هذا فقالوا: الخلق كلهم أبناء الله!! فهموها هذا الفهم فترجموها به؛ ولذلك فإن خطر التدوين فيما يتعلق بترجمة النصوص هو من جهة أن الأوهام ستسبق إلى ما تعودت عليه إذا لم تستنر بنور الوحي. (أو والد) كذلك نفى الوالد، وقد نفاه الله عن نفسه في قوله: {لَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] فهو نفي للوالد مطلقاً.

نفي وجود الشبيه لله لا يقتضي نفي صفاته عز وجل

نفي وجود الشبيه لله لا يقتضي نفي صفاته عز وجل قال: [وليس مثله علا شيء ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا] .

أقسام الناس في صفات الله

أقسام الناس في صفات الله قال: (وليس مثله علا شيء) هذا هو النفي المجمل وهو الوارد في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذلك أن الناس في صفات الله سبحانه وتعالى افترقوا إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: هم المشبهة الذين انطلقوا من أوهام العقول فشبهوه بالمخلوقات. والقسم الثاني: هم المعطلة الذين نفوا عنه ما أثبته لنفسه من الصفات. والقسم الثالث: هم أهل الحق الذين لم يشبهوه بخلقه، ولكنهم لم ينفوا عنه ما أثبته لنفسه، فيثبتون ما أثبته لنفسه على مقتضى ما يليق به، وينزهونه عن مشابهة خلقه، فهذه الآية جاءت رداً على الطائفتين المنحرفتين المشبهة والمعطلة، ففيها قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهو ردٌ على المشبهة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهو رد على المعطلة، وسنذكر إن شاء الله أن لدينا طائفتين هما طرفان: المشبهة والمعطلة، وأهل الحق في هذا وسط بين الطائفتين. لكن هناك أيضاً طرفان لأهل الحق: طرف لديه زيادة قليلة في الإثبات، وطرف لدية زيادة قليلة في التنزيه، فلذلك كل واحد من الطرفين يتهم الآخر بانتسابه إلى الطرف الذي يليه، فالذين هم أهل إثبات وعندهم فيه زيادة قليلة يتهمهم من سواهم بأنهم مشبهة، وينسبونهم إلى من ورائهم، والذين لديهم تنزيه زائد أيضاً ينسبهم غيرهم إلى من ورائهم من المعطلة، وهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهذا ما سنبينه إن شاء الله، والشيخ احترز من الطائفتين بقوله فيما سبق: (لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعماً ولم يسر على ما رسما) فلذلك كثير من الأشاعرة ينسبون بعض الحنابلة إلى التشبيه وليسوا مشبهين، لكن نظراً للإثبات الذي فيه زيادة قليلة، وكذلك كثير من الحنابلة ينسبون الأشاعرة إلى التعطيل، وليسوا معطلة في أغلبهم، لكن مقصود ذلك أنهم بالغوا في التنزيه أيضاًَ. قوله: (فليس مثله علا شيء) (شيء) هي اسم ليس، أي: وليس شيء مثله (علا) أي: تعالى، وفيه إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى وسنذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل. قوله: (ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا) أي: نفي التشبيه عنه لا يقتضي نفي صفاته التي أثبتها لنفسه، (ولا يلزم ذا) معناه: إذا نفينا عنه التشبيه، فلا يقتضي ذلك إلزامنا بنفي صفاته التي أثبتها لنفسه، بل نثبت له ما أثبته لنفسه ولا يقتضي ذلك تشبيهاً له بخلقه، لذلك قال:

ذكر التفصيل لإثبات الإلهية والنبوة في سورة الطور

ذكر التفصيل لإثبات الإلهية والنبوة في سورة الطور ذكرنا التشابه الجسمي، وقد نفي بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والثاني: المداناة في المكانة حتى يمكن أن يحصل التزاوج أو نحو ذلك. والنفي الإجمالي يأتي على حسب أوهام العقول؛ ولذلك فإن التفصيل البليغ في سورة الطور عجيب جداً، ألا تلاحظون أن أول ما يخيل إلى من سمع رسولاً يقرأ كتاباً ويقول: أنا أرسلت من رب العالمين، أن يتخيل أن هذا الكلام الذي يقرؤه إنما هو شعر، أو سحر، أو كهانة على عادة الناس، هذا أول ما يبدأ في العقل، فرد الله هذه الفكرة بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30-31] أي: فالشعراء يموتون وتنتهي أشعارهم معهم وليست لهم أذكار مستمرة. بعد هذا يفكرون بهذا الوحي الذي أتاهم فيقولون: هذا الكلام إذا فهمنا أنه ليس مثل كلام البشر، لكن من أين أتى؟ هل هو كلام لا يلفت الانتباه ولا يمكن أن ينتبه له أحد، أو هو كلام أعظم من هذا؟ فلذلك رد الله هذه الفكرة بقوله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:32-34] أي: إذا كان هو تقوله من عند نفسه وادعاه، فليس بأبلغ من أن يقول لهم بعدها: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) . وهنا عرفنا أن هذا ليس كلاماً من كلام البشر وأنه وحي منزل، لكن من أين أتى؟ هنا يأتي التفكير فيمن أنزله. فالتفكير فيمن أنزله بدايته التفكير في الخالق، والناس لم يشاهدوا خلق آدم، ولم يشاهدوا خلق السماوات والأرض وإنما رأوا الناس يتكاثرون، وراو المطر ينزل فتنبت الأرض شجراً وييبس وينبت من جديد وهكذا؛ فلذلك يمكن أن يتخيل العقل في هذه اللحظة إنكار الألوهية أصلاً فرد هذه الفكرة بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] . هذه ثلاثة أفكار متسلسلة، بدايتها: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فنحن قطعاً خلقنا ونحن موجودون ولم نكن ثم كنا، فمن خلقنا؟! هل يمكن أن يكون الإنسان غير موجود ثم يوجد من غير تأثير أي شيء آخر؟ هذا مستحيل؛ لأن من مبادئ العقل أن وجود أثر بلا مؤثر مستحيل، وترجيح بلا مرجح مستحيل. (أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ) هل خلقوا أنفسهم؟ هذا مستحيل أيضاً لا يقبله عقل، ولا يمكن أن يدعيه وهم، وإذا ادعى بعض الناس أن غلاماً خلقه أبوه، وأن ذلك خلقه أبوه وهكذا بالتسلسل، لكن من خلق هذه السماء وهذه الأرض، وما نراه من الخلق العظيم الذي لا يمكن أن يكون للإنسان فيه تأثير: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) . وبعد أن تثبت الألوهية لله الذي أنزل هذا الكتاب يأتي توهم آخر في العقل، فيقول: لكن لماذا خص هذا الإنسان بهذا الوحي من بين الناس؟ لماذا لم ينزل هذا على كل الناس أو يختار له منهم من هو أشرف في نظرهم منه؟ قال: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:37] فلا يمكن أن يتحكموا في عطاء الله واختياره، وليس لهم ذلك. وهنا يمكن أن يحصل في الوهم في خيال الإنسان أن الرسالة مكتسبه، وأنه إنما اكتسب ذلك بعمل تقرب به إلى الله حتى ينيله هذه المنزلة والرتبة، فيرد الله على هذا فيقول: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] لو كانت القضية باكتساب وحيلة فإن لكم عقولاً ولكم حيلاً، فلماذا لم تكتسبوها ولم تحصلوا عليها؟! وبعد هذا نصل إلى الكلام على الواسطة التي تنزل هذا الوحي من السماء إلى الأرض؛ لأننا قطعنا النظر عن السلم إلى السماء، ولم ينقل بعد هذا إلا هذا الوحي المنزل من السماء؛ فمن أتى به؟ يأتي الوهم في الملائكة، فهم يزعمون أنهم بنات الله، فرد الله هذه الفكرة فقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ} [الطور:39] ، كيف يكون هو الخالق الذي يهبكم البنيين، ويرزقكم هذه الأعداد الهائلة من الأولاد، ويختار لنفسه بنات فقط؟! هذا مستحيل. فبطلت هذه الفكرة، ولم يبق إلا قضية العداوة الشخصية والحسد لهذا الرسول الذي اختاره الله، وأنزل عليه الملك بالوحي، فرد هذه الفكرة فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] فهل لك عليهم مطالبات تطالبهم بها في مقابل الوحي حتى يحسدوك عليها؟! أم أنك لا تسألهم عليه أجراً، وإنما تريد هدايتهم وإيصالهم إلى الحق؛ فلذلك وجدنا أن العقول بتدرج أفكارها يأتي تنزيل الوحي لهدايتها، ورد كل هذا الخبث حتى يذهب جفاء.

الكلام على صفتي السمع والبصر

الكلام على صفتي السمع والبصر ٍ

أقسام السنة من حيث كونها وحيا

أقسام السنة من حيث كونها وحياً وتنقسم السنة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أقوال نزلت بلفظها ومعناها من عند الله تعالى، لكنها غير معجزة، وهذه هي الأحاديث القدسية، وهي قطعاً وحي بلفظه ومعناه. القسم الثاني: أقوال أنزل معناها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عنها بلغته، وهذه هي السنة النبوية غير القدسية. القسم الثالث: ما تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم به بطبيعته البشرية، فهو بشر من الناس يستفهم ويسأل ويجيب، فهذه لا تعتبر وحياً. إذاً فالسنة ثلاثة أقسام: قسمان من الوحي وقسم ليس وحياً، وإذا نظرنا إلى الآية التي جاء فيها الإطلاق وهي قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فإن (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) نفي نطقه عن هواه، ولكن ذلك لا يقتضي إثبات أنه ما ينطق إلا عن وحي، فلم يقل: وما ينطق إلا عن وحي، بل ذكر أنه لا ينطق عن الهوى، والهوى هو ميل النفس إلى الشهوات، فكل كلامه صلى الله عليه وسلم لا ينطق به عن هوى، لكن منه ما هو طبيعة بشرية فيه، وهي على أكمل أخلاق البشر وأكمل أوصافهم، فلا تكون مائلةً إلى الهوى، ومنه ما هو وحي منزل إليه من عند الله، ولهذا قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] والمقصود بذلك ما كان تشريعاً ونحوه مما أنزل إليه من عند الله سبحانه وتعالى. وقد أثبت الله تنزيل السنة بالإطلاق وسماها الحكمة في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113] والمقصود بالحكمة المنزلة إليه السنة.

الكلام على صفة العين

الكلام على صفة العين وأما العين فقد جاء إثباتها صفة لله سبحانه وتعالى، والنص لم يرد فيه التصريح بأنها محل البصر، لكن اقتضاء ذلك وارد، فالعين التي ثبتت في النصوص تقتضي البصر، وتقتضي الإحاطة والإدراك، وتقتضي الرعاية والحفظ، كل ذلك من متعلقات هذه صفة العين. وقد جاء لفظ العين في مثل قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر العينين، وإن كان اللفظ لا يصح فيه حديث واحد بعينه، ولكنه بطرق متعددة يمكن أن يجمع ذلك إلى عينين. وأما الآية التي فيها: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: هذا من مجاز اللغة والمقصود بمجاز اللغة أن الضمير (نا) في أصل دلالته يطلق على الجمع، فإذا أضيف إليه تثنية كان هذا من القبيح في الاستعمال، أي: لو قلت (تجري بعينينا) كان هذا قبيحاً في الاستعمال اللغوي، ولهذا يقول الله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] وهما امرأتان ليس لهما إلا قلبان، لم يقل: (قد صغى قلباكما) وكذلك تقول: قطعت رءوس الكبشين، وليس للكبشين إلا رأسان لكن هذا هو الأفصح في اللغة، ولذلك يقول المختار بن بونا رحمه الله: ورجح الجمع فالإفراد فما ثنوا على الأصح في اثنين هما جزءاً مثنىً خفضا فالأرجح في اللغة الجمع فقالوا: قطعت رءوس الكبشين، (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ثم بعد هذا الإفراد فتقول: قطعت رأس الكبشين، فهي أفصح في اللغة من قولك: قطعت رأسي الكبشين، وإن كانت التثنية واردةً في اللغة مثل قول الشاعر: أتبكي على ليلى ونفسك باعدت فزادك من ليلى وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا شعباكما معاً: ثنى المضاف إلى الاثنين وهو خافض لهما. وقوله: (المتصف) أبلغ مما لو قال الموصوف؛ لأن الموصوف لا تقتضي إثباتاً للصفة، وإنما تقتضي أنه وصف بذلك، أي: وصفه الواصفون بذلك، لكن (المتصف) تقتضي أنه متصف بذلك فعلاً، وهو أعم أيضاً من قولنا (الموصوف) ؛ لأن الموصوف معناه: ذكر الصفات المعلومة لنا التي وصفه بها الواصفون، أما المتصف فإنه يشمل ما ذكرناه نحن وما لم نذكره من كل أوصاف الكمال، فكل كمال هو ثابت له سواء عرفناه تفصيلاً أو لم نعرفه، وكل نقص فهو منتف عنه سواء عرفنا ذلك أم لم نعرفه، نطقنا بذلك أولم ننطق به، ولذلك قال: (المتصف بما به في نوعي الوحي وصف) . أي: بما وصف به في نوعي الوحي، ونوعا الوحي هما الكتاب والسنة فكلاهما وحي، فالكتاب لا جرم أنه وحي من عند الله سبحانه وتعالى، والسنة كذلك.

إثبات صفتي السمع والبصر لله فيه إثبات كمال علمه وإدراكه تعالى

إثبات صفتي السمع والبصر لله فيه إثبات كمال علمه وإدراكه تعالى ٍ [فهو السميع والبصير المتصف بما به في نوعي الوحي وصف] (فهو السميع) معناه: المتصف بصفة السمع، والسميع في اللغة: يطلق على السامع وعلى المسمع، فالسامع الذي لا يفوته شيء يسمى سميعاً، والمسمِع -أي: المنادي- الذي يسمع الناس يسمى سميعاً أيضاً، وذلك أن فعيلاً تستعمل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فالسميع بمعنى السامع هي الكثيرة في الاستعمال مثل قول الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] والسميع بمعنى المتكلم المسمع منه قول عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع أي: الداعي المسمع. (والبصير) : المتصف بصفة البصر. وهاتان الصفتان بهما كمال العلم والإدراك، فالسميع يتعلق سمعه بالأصوات، والبصير يتعلق بصره بالمبصرات، وقد ذهب بعض المتكلمين مبالغةً منهم في التنزيه إلى أن سمع الله سبحانه وتعالى يتعلق بالأصوات وبالمحسوسات كلها، وأن بصره كذلك يبصر الذات والمعنى، ولكن هذه المبالغة في التنزيه مبالغة في إثبات مخالفته للحوادث، وفيه يقول أحدهم: وأنت بصير تبصر الذات والمعنى. لكن هذا لا دليل عليه، وإنما أخذوه من نفي مشابهته لخلقه، فإنه لما كان سمع الحادث يتعلق بالأصوات فقط، وبصره يتعلق بالذوات فقط، أرادوا إثبات المخالفة له، لكن المخالفة لا تقتضي أن تكون من حيث المتعلق فقط، بل المخالفة من حيث مصدر السمع ومصدر البصر ونحو ذلك، فمصدر السمع والبصر بالنسبة للمحسوسات في الإنسان الأذن في السمع والعين في البصر، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يقاس بخلقه، ولا يمكن أن يشبه بهم، فمجرد إثبات السمع له لا يقتضي إثبات الأذن، وإن كان جاء في الحديث: (وما أذن الله لشيء أذنه إلى قراءة نبي حسنة، أو: إلى نبي حسن الصوت بالقرآن) وسنذكر هذا إن شاء الله تعالى، لكن الأذن هنا بمعنى الاستماع، ولا يقتضي إثبات صفة الأذن.

أقسام ما وصف الله به نفسه في الكتاب والسنة وكيف نتعامل معه

أقسام ما وصف الله به نفسه في الكتاب والسنة وكيف نتعامل معه قال: [يمر ما في وصفه جاء من الـ ـوحي كما يفهم من فيهم نزل] ما جاء في الكتاب والسنة مما وصف به ربنا جل وعلا، ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

إشكالية ترجمة بعض نصوص الصفات وغيرها

إشكالية ترجمة بعض نصوص الصفات وغيرها وهنا إشكال آخر وهو من ناحية الترجمة، إذا ترجمت بأية لغة أخرى، هل تتركها كما هي باللفظ العربي أو تفسرها بمعنى مقابل لها في تلك اللغة؟ هذا محل محير من الناحية الفقهية، فمن العلماء من قال: تفسرها باللفظ المطابق لها في تلك اللغة، لكن هذا يعترض عليه بأن الدلالات اللغوية في كل لغة متباينة؛ لأن اللفظ الواحد قد تتعدد دلالاته من لغة إلى لغة، ويطلق على أشياء بالحقيقة وأشياء بالمجاز، وبالأخص في اللغات غير الراتبة، والعربية لغة راتبة، قليلة التغير في الدلالة، ومن هنا فإن أي طفل عربي لو أنشدته الآن: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل لأمكن أن يشرح لك هذه الكلمات، ولو سألت أي طفل إنجليزي عن معنى بيت لـ شكسبير أو أي واحد من الشعراء في القرن الماضي لما عرف منه كلمة واحدة؛ لأن اللغة تتغير دلالاتها وتختلف. ومن هنا ففي مقام الترجمة، رأينا بعض الترجمات للقرآن تجرأ أصحابها على الله سبحانه وتعالى، وكانت تراجمهم عجيبة جداً، فأحدهم يترجم قول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْط} [الإسراء:29] فيقول: لا تعقد يدك مع رقبتك ولا تمدها مداً شديداً حتى تنقلع! وهذا مناف لمعنى الآية تماماً، وآخر يفسر قول الله تعالى: {وَتَرى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] قرأها بالتخفيف وظن أنها حافين، فقال: أي: بدون نعال!!

ما لا يختلف في كونه صفة لله تعالى

ما لا يختلف في كونه صفة لله تعالى القسم الأول: ما يتضح أنه صفة لله سبحانه وتعالى، فهذا لا يختلف فيه اثنان، وهو مثل العلم والحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر والتكلم، فهذه الصفات لا يختلف اثنان في أنها صفات من صفات الله، ومثلها: الغنى، والكرم، والسخاء، العظمة، والجلال، والجبروت، والكبرياء، والقهر، فهذه صفات لا يختلف فيها اثنان.

صفات الأفعال

صفات الأفعال القسم الثاني: ما هو أفعال، لكن تلك الأفعال تدل على صفات، وتلك الصفات هي منشأ الفعل؛ لأن الفعل له طرفان: فعل وانفعال، فالفعل هو الصادر من الله سبحانه وتعالى، والانفعال هو الطرف الذي لدى المخلوق، فالخلق مثلاً: الله تعالى هو الخالق وأنت المخلوق، فالصفة من عند الله، والمخلوق خلق من عند الله وهو خالقه، لكن الخلق تعلق بذات المخلوق فأصبح مخلوقاً، ومن هنا فهذا النوع لا يطلق عليه صفة بإطلاق، وإنما يسمى: صفات الأفعال، كالخلق، والإحياء، والإماتة، والرزق، وتنزيل المطر، ونحو ذلك من الأفعال التي لها انفعالات تتبدى في المخلوق؛ لأنها لو كانت صفة محضة لما فارقت موصوفها، فلو كان الخلق صفة محضة في الله سبحانه وتعالى والصفة لا تفارق موصوفها؛ لما كنت أنت مخلوقاً، فالمخلوق منفعل للصفة، أي: أن الصفة تعلقت به، ومثل هذا: الغضب والرضا والرحمة، فكل هذه الصفات ذات طرفين، فعل وانفعال، فالفعل إلى الله والانفعال إلى المخلوق.

ما لا يتعين كونه صفة ولا فعلا مما وصف الله به نفسه

ما لا يتعين كونه صفة ولا فعلاً مما وصف الله به نفسه القسم الثالث: ما لا يتعين في الأصل كونه صفة ولا كونه فعلاً، وهو مثل الوجه، والعين، واليدين، والقدم، والساق، والأصابع، ونحو ذلك. فهذه الأمور لا تفهم -من أصل اللغة العربية- معنى الصفة فيها، ولا يفهم معنى الفعل فيها، لكن مع ذلك إذا نظرنا إلى أنه منطلق للفعل فيمكن أن يعتبر صفةً، كاليد مثلاً فإن بها الكتابة، كتب الله التوراة بيمينه لموسى، وخلق آدم بيمينه، فهذا يقتضي أن اليد وأن اليمين صفة من هذا النوع، فاليد صفة لله، وآدم هو المخلوق باليد، فتعلقت به اليد والتوراة مكتوبة باليد فتعلقت بها اليد. وهذا النوع قد أشكل على كثير من الناس، وهو سبب الخوض في باب الأسماء والصفات كما سنذكره، فأصل الخوض في الأسماء والصفات هو هذا النوع، والصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا عنه، ولم يستشكلوا شيئاً منه، وكذلك التابعون، وأول ما ظهر الإشكال فيه في أيام أتباع التابعين، فسئل عنه عدد من أئمة الهدى ومنهم: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وعبد الملك بن صبيح، وهشيم بن بشير الواسطي، والليث بن سعد؛ فاتفق جوابهم وقالوا: (اقرءوها وأمروها) وفي رواية: (أمروها كما جاءت) ، وروى هذا عنهم: الوليد بن مسلم، وقال بعضهم: (قراءتها تفسيرها) فليس لها تفسير، ولا يمكن أن تفسر بكلام الحادث، وإنما تفسيرها قراءتها، فتقرأ وتترك كما أنزلت في الوحي ولا يتعدى بها ذلك. ولهذا قال فيها أحمد بن حنبل: (لا كيف ولا معنى) وقوله: (لا معنى) معناه: لا تفسير، أي: لا تفسرها بأي شيء، فلو سألك سائل عن معنى الوجه أو العين أو اليد، فلا تفسرها بأي لفظ من الألفاظ؛ لأنه لم يرد ذلك في الوحي، ولا نطق به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا نطق به أحد من أصحابه، ولا أحد من أتباعهم، والذين سئلوا عن ذلك من أتباع التابعين قالوا هذا، ولهذا تجدون كتب التفسير مع أنها تفسر الألفاظ المختلفة في القرآن، وكثير من الألفاظ يعتنون بتفسيرها باللغة وما جاء فيها، أما هذه الألفاظ فإنه لا يفسرها أهل السنة، وإنما يشتغل بتفسيرها المتأولون الذين يؤولونها من المتكلمين والمعتزلة، لكن أهل السنة ليس لهم تفسير لها، فإنما يقرءونها ويمرونها فيقولون: نعم، صدق الله، وما وصف به نفسه فهو حق، ونحن نؤمن بها على مراد الله، ولا نتعب أنفسنا في تفسيرها، وإذا كنا من أهل العربية الناطقين بها فنعرف معنى اليد في اللغة، ومعنى العين في اللغة، ومعنى الوجه في اللغة، لكن لا نتكلف أن نبين ذلك لمن سوانا.

بيان منهج السلف في فهم الصفات الخبرية

بيان منهج السلف في فهم الصفات الخبرية

منهج الصحابة في الصفات هو الإمرار والإقرار

منهج الصحابة في الصفات هو الإمرار والإقرار وقوله: (كما يفهم من فيهم نزل) معناه: كما فهمه من نزل فيهم الوحي، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون الذين عاصروهم من المخضرمين، فإنهم فهموا هذه النصوص ولم يستشكلوا شيئاً منها، ولم يفهموا فيها تشبيهاً، ولم يفهموا أنها ألغاز، ولم يفهموا أنها لا معنى لها، بل فهموها وسلموا لها وانتهى الأمر عندهم، والشيخ في منظومة أخرى يقول: الظاهر الذي عليه نبقي موهم تشبيه لرب الخلق هو الذي أهل اللسان فهموا إذ نزل الوحي به عليهم فلا أبو بكر لخير الرسل يقول أشكل علي اشرحه لي ولا أبو جهل يقول اختلفا أثبت ما من التماثل نفى حين أنزلت هذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] لا أبو بكر استشكل هذا وقال: كيف يكون مخالفاً للحوادث وهو مع ذلك السميع البصير، فأثبت له الصفات ولكن نفيت مشابهته للخلق مع أن هذه الصفات موجودة في الخلق؟ لم يستشكل أبو بكر هذا. ولا أبو جهل أيضاً يلتمس فيه تناقضاً مع أنه يبحث عن أي تناقض: وهذا اللفظ الظاهر هو من الألفاظ التي يستفصل فيها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الظاهر ظاهران: ظاهر هو الذي يفهمه أهل اللغة وقت نزول الوحي، وهذا هو الذي تقر عليه الصفات ويؤمن بها على حسبه، وظاهر هو الذي يفهمه من ليس من أهل اللغة بقياسه على المخلوق، وهذا قطعاً ممنوع، وكلاهما يتكلم فيه بعض العلماء، فيظن الناس أنهم على خلاف وعلى طرفي نقيض، والواقع خلاف ذلك، فمثلاً إذا قال المقري وهو من الأشاعرة: واللفظ إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعاً واقطع عن الممتنع الأطماعا فإنما يقصد الظاهر الذي يفهمه الإنسان تشبيهاً، ولذلك لم يقل: إن الألفاظ تقتضي هذا، وإنما قال: (واللفظ إن أوهم) فقط (فاصرفه عن ظاهره إجماعا) ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء. والآخرون الذين يقولون: تقر النصوص على ظاهرها، مقصودهم بذلك معناها الذي فهمه أبو بكر وقت نزولها، وفهمه الصحابة وقت نزولها، وفهمه التابعون ولم يستشكلوا منها شيئاً، وهو الذي يفهمه أهل اللغة بسليقتهم. وهذان المعنيان استوعبهما الشيخ في قوله بعد الأبيات التي ذكرناها عنه: وهو الذي في قول باب المرتضى سيف الهدى العضب الحسام المنتضى ما أوهم التشبيه في آيات وفي أحاديث عن الثقات فهو صفات وصف الرحمن بها وواجب بها الإيمان ثم على ظاهرها نبقيها ونحذر التأويل والتشبيها قال بذا الثلاثة القرون والخير باتباعهم مقرون وهو الذي فصّله القرآن والسنن الصحاح والحسان وكم رآه من إمام مرتضى من الخلاء في بني أولي الرضا ومن أجاز منهم التأويلا لم ينكروا ذا المذهب الأصيلا والحق أن من أصاب واحدْ لا سيما إن كان في العقائدْ ووافق النص وإجماع السلف فكيف لا يتْبع هذا من عرف فمن تأول فقد تكلفل وغير ما له به علم قفا وفي الذي هرب منه قد وقع وبعضهم عن قوله به رجع يقصد به الأشعري -رحمه الله-: حتى حكى في منعه الإجماعا وجعل اجتنابه اتباعا وقد نماه بعض أهل العلم من الأكابر لحزب جهم يقصد الإمام أحمد رحمه الله: فاشدد يديك أيها الموفق على الذي سمعته من الحق وظاهر فصرفه عنه يجب وهو الذي يفهمه من قد حُجب فهو يسير في الظلام الدامس رهن موانِ الفتنة الطوامس وهو الذي يقول فيه المقري المغربي المالكي الأشعري واللفظ إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماع وقول المقري هنا: (فاصرفه عن ظاهره) كان الأولى أن يقول: فاصرفه عن موهمه، أي: عن الذي يتوهمه به المشبه فقط. قال: (كما يفهم من فيهم نزل) أي: من نزل الوحي فيهم، ولم يقل (من نزل عليهم) ؛ لأن الوحي لم ينزل إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده، والصحابة لم ينزل عليهم الوحي، لكن نزل فيهم.

التفريق بين كلام السلف والخلف وبيان المقصود بالسلف

التفريق بين كلام السلف والخلف وبيان المقصود بالسلف فهذا القسم الثالث هو المحير المشكل فيما يتعلق بالنصوص، ولذلك عده بعض العلماء من الصفات المشكلات، كما قال ابن السبكي في جمع الجوامع، ونظمه السيوطي رحمه الله في قوله: وما أتى به الهدى والسننُ من الصفات المشكلات نؤمنُ بها كما جاءت منزهينا مفوضين أو مؤولينا. بالتفصيل ليس يقدح بالاتفاق والسكوت أصلح وهذا هو المقام الذي تسمعون فيه التفريق بين كلام السلف وكلام الخلف، فمذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم، مع أنه أحوج إلى مزيد علم، وسنذكر ذلك تفصيلاً إن شاء الله في موضعه. والمقصود بالسلف هنا: مالك، والأوزاعي، والليث، ويزيد بن هارون وطبقتهم التي سمينا بعضها، فهم الذين تكلموا في هذا، ولا يدخل فيه الصحابة ولا التابعون فليس لهم كلام في هذا، لم يرو عن أحد منهم فيه كلام، بل هذه الإشكالات التي ترجع إلى الألفاظ، أول من روي عنه الكلام فيها: عمرو بن دينار وهو من أواسط التابعين، روي عنه الكلام فيما يتعلق بصفة الكلام لله فقط فقال: إن القرآن غير مخلوق، لكن من قبله لم يثبت عنه أي كلام فيما يتعلق بهذه الأمور الخلافية المتعلقة بالاعتقاد. ومن هنا أطلق الشيخ وقال: (يمر ما في وصفه جاء من الـ ـوحي كما يَفهم من فيهم نزل) (يمر) معناه: يقرأ كما هو، فكأنك تمره على لسانك إلى قلبك، فتسلم به تسليماً مطلقاً، انطلاقاً من المبدأ الذي ذكرناه سابقاً، وهو أن مبدأ الاعتقاد هو التسليم بأن العقول لا تصل إلى هذه الحقائق، وأنها محتاجة فيها إلى الوحي، فمن هنا تسلم بها تماماً، وتنقاد لها غاية الانقياد، وتجعلها أقوى مما تراه أو تسمعه، وجزمك بها أقوى مما تراه أو تسمعه؛ لأنك قد ملأت عقلك بالتصديق بعجز العقل عن إدراكها، وملأت عاطفتك بمحبة الله، وإثبات هذه الصفات طريق إلى محبة الله سبحانه وتعالى، كما ذكرنا سابقاً أنك إذا عرفت صفاته أحببته بها. من هنا قال: (يمر ما في وصفه جاء من الوحي) سواء كان كتاباً أو سنة.

سلسلة الأسماء والصفات [3]

سلسلة الأسماء والصفات [3] الصفات التي أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم يجب إثباتها؛ لكن بغير تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل.

إثبات الصفات مشروط بعدم التكييف والتمثيل والتحريف والتأويل

إثبات الصفات مشروط بعدم التكييف والتمثيل والتحريف والتأويل قال: [من غير ما تكييف أو تمثيل له ولا تحريف أو تأويل]

معنى التحريف

معنى التحريف (ولا تحريف) : أي: لا تحرف هذه النصوص، والمعنى: ولا تنقل عن دلالتها الأصلية، بل تترك على دلالتها، وتحريف النص معناه: وضعه في غير موضعه، كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} [النساء:46] . وأصله تحريف القلم، أي: الميل به عن أن يكون عمودياً، وأن يكون في كتابته أفقياً، فتعطيل إحدى سني القلم عن الأخرى هو تحريف، وتحريف الكلام معناه: نقله وبتره وتحويله من موضعه إلى موضع آخر، فمثلاً الكلام الذي جاء في الثناء على الله من الوجه والعينين واليدين ينقله بعض الناس إلى أن يجعله عيباً ونقصاً، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، فالله عز وجل أتى به ثناءً على نفسه، فكيف ينقل ويجعل نقصاً وعيباً؟ هذا تحريف واضح.

معنى التأويل

معنى التأويل (أو تأويل) : أي: لا تؤول هذه الصفات بأي شيء آخر، حتى لو كان ذلك التأويل بصفات ثابتة لله؛ لأن ذلك فيه جراءة عليه، وقول عليه بما لا نعلمه، ولم يأذن لنا بذلك ولم يأتنا به نص. وسنتعرض لمسألة التأويل في مبحث لاحق إن شاء الله تعالى. وهنا ترد احتمالات نظمها الشيخ في أبيات ثلاثة حيث يقول: من أثبت الصفات لله علا على الذي بالخلق لاق مثلا ومن نفاها كذب النص ولا يبعد من ذلك من تأولا أما الذي أثبتها على ما يليق بالله فلا يلاما هذه الاحتمالات العقلية الواردة أربعة: إما أن تثبتها على ما تعرفه في المخلوق فهذا هو تشبيه التمثيل. وإما أن تنفيها أصلاً وهذا هو التعطيل. وإما أن تؤولها وهذا قريب من التعطيل، وليس تعطيلاً لكن قريب منه. وإما أن تثبتها لله على ما يليق بالله فهذا هو الوجه الصحيح.

معنى التمثيل

معنى التمثيل [أو تمثيل] : كذلك لا تمثل هذه الصفات، فلا يحل تمثيلها بشيء من خلقه، ومحل التمثيل فيها ما كان من نطقها، أما ما كان بالإشارة فلا يسمى تمثيلاً، كمن فسر قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة} [الزمر:67] فقبض أصابعه مثلاً، أو قال: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن) فمد إصبعيه، أو أشار بيده إلى السماء في إثبات صفة العلو فهذا لا يسمى تشبيهاً ولا تمثيلاً، وقد ورد منه في بعض النصوص ما يقتضي ذلك، كذلك وضع اليد على الأنف في حديث: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ونحو ذلك، فهذا لا يسمى تمثيلاً، والإشارة إلى ذلك يقصد بها تفهيم الناس معنى الصفة، ولا يقصد بها تشبيه ذلك بالمخلوق، فالتمثيل معناه: ذكر المثال أو المِثل، فالمثال منفي عن الله قطعاً لأنه لا مثل له، والمثل منه ما هو منفي، ومنه ما هو مثبت، فهو ينقسم إلى قسمين: الأول: مثل للتشبيه وهو منفي عنه قطعاً، والثاني: مثَل للتفهيم فقط وهو المذكور في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24] في كثير من الآيات كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:29] ، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] ، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:76] ، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] فهذا المثل المثبت، أما المثل المنفي فهو الوارد في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] فمثل التشبيه هو المنفي، ومثل التفهيم مثبت. وكذلك القول في القياس، فقياس التمثيل ممنوع، وقياس الأولى جائز، وقياس الأولى كأن تضرب مثلاً وتقصد به أنه إذا انتفى هذا المثل عن المخلوق فالله تعالى أولى، وهذا كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17] أي: فإذا كان المخلوق لا يرضى هذا ولا يحبه لنفسه؛ فكيف يضربه لبارئه وفاطره؟! وهذا المثل: مثل الأولى أو قياس الأولى، مثل ما تقول: أنت تؤمن بأن لك نفساً وأن لك روحاً قطعاً، وبأنها تعرج وتنزل، وبأنها تسمع وتبصر، ولكنك لا تعرف كيفيات ذلك، فإذا كنت تؤمن بروحك التي هي أقرب شيء إليك، وتؤمن بأن لها هذه الصفات، ولا تعرف كيفية اتصافها بذلك، فالله عز وجل أولى بأن تؤمن به وأنت لا تعرف كيفية اتصافه بالصفات، فهذا من باب قياس الأولى فقط، فأنت أثبت لله ذاتاً، وأثبت له سمعاً، وبصراً، وكلاماً، وأثبت لنفسك نفساً روحاً، وأثبت لها سمعاً، وبصراً، وكلاماً هو حديث النفس، لكن لا تعرف كيف تتصف النفس بذلك، وهل للنفس فم أو عين أو أذن؟ لا تعرف شيئاً عن ذلك، وكذلك الروح لا تعرف شيئاً عنها نهائياً، وهي أقرب شيء إليك، فإذا فهمت ذلك فمن باب أولى الكلام في صفات الله عز وجل، وهذا هو قياس الأولى. ومثله القياس الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية فقال: (إن بعض المخلوقات يشترك مع بعض المخلوقات في الاسم والصفات، لكن ذلك لا يقتضي شبهاً بينهما، فالإنسان له وجه والفيل له وجه، لكن هل وجه الإنسان كوجه الفيل؟! لا، فإذا كان بعض المخلوقات لا يشبه بعضاً مع اشتراكهما في الاسم والصفة، فمن باب أولى الباري سبحانه وتعالى في مخالفته لكل المخلوقات، ومثل هذا قول ابن عباس: ما في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فالله أثبت أن في الجنة ماءً، وأن فيها خمراً، وأن فيها عسلاً، وأن فيها لبناً، وأن فيها فرشاً وثماراً، وطعاماً، وأزواجاً، ولكن هل هي مثل ما في الدنيا؟ ليست مثلها تماماً، بل لا تشترك معها إلا في الأسماء، فما في الجنة قطعاً مخلوقات، وما في الدنيا مخلوقات، وقد اشتركت في الاسم، ومع ذلك لا تشبهها، فمن باب أولى الخالق عز وجل، فإنه يمكن أن يكون بعض صفاته يشترك في الاسم مع صفات المخلوق، لكن شتان بينهما.

معنى التكييف

معنى التكييف (من غير ما تكييف) "ما" زائدة، والمعنى: من غير تكييف، والتكييف معناه: التماس الكيفيات، لا تقل: كيف؟ والكيف عنه مرفوع كما قال مالك، لا تبحث عن كيفية الصفة، ولا عن كيفية اتصافه بالصفة، فالكيف يشتمل أمرين هما: كيفية الصفة نفسها، وكيفية اتصافه بالصفة، فمن الصفات مثلاً ما يبحث فيه أصحاب التشبيه عن كيفية الصفة: كالوجه، والعين، واليد ونحو ذلك، ومنها ما يبحث فيه عن كيفية اتصافه بها، وذلك مثل: العلم والإرادة والقدرة والرحمة. وهذا البحث هو الذي جعل كثيراً من الناس يشبهه بالبشر تعالى الله عن ذلك، وجعل آخرين أيضاً يبحثون عن كيفية اتصافه بالصفات، فيصلون إلى ما يسمى بالمعنويات، وهي الأحوال التي قالوا فيها: إنها واسطة بين الوجود والعدم، فيقولون مثلاً: نثبت لله الحياة، ونثبت صفة أخرى غير الحياة وهي كونه حياً، ونثبت لله صفةَ العلم، ونثبت له صفةً أخرى وهي كونه عليماً، ونثبت له صفةَ الإرادة، ونثبت له صفةً أخرى هي كونه مريداً، ونثبت له صفةَ القدرة، ونثبت له صفةً أخرى وهي كونه قديراً، ونثبت له صفة السمع، وصفةً أخرى وهي كونه سميعا، وصفة البصر وصفةً أخرى وهي كونه بصيراً، وصفة الكلام وصفةً أخرى وهي كونه متكلماً. وأول من قال هذا ونشره هو: الفخر الرازي في كتابه: المحصل، وقال: إن هذه الأحوال وهي كونه حياً، عالماً، مريداً، قادراً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، وهي سبع صفات، قال: إنها واسطة بين الوجود والعدم، فلا هي موجودة ولا هي معدومة؛ لأنها لو كانت معدومةً لما اتصف بها، ولو كانت موجودة لكانت معنىً زائداً على أصل الصفة، فهي من الأمور المعضلة التي ذكرها الفخر الرازي ولا داعي لها أصلاً؛ لأنها من البحث في التكييف.

الأسئلة

الأسئلة

ترجمة بعض الصفات من المشكلات

ترجمة بعض الصفات من المشكلات Q لماذا لم تجب عن إشكال الترجمة لبعض الصفات؟ A نعم، لم نجب عن ذلك لأنها من المشكلات العويصة.

معنى اسم الله البصير

معنى اسم الله البصير Q عن معنى البصير؟ A ذكرنا أن البصير المتصف بصفة البصر، والمقصود بذلك أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه البصر، وأنه متصف بذلك على أبلغ الوجوه؛ لأن (بصير) ليست بمعنى مبصر فقط، ولا باصر؛ لأن الباصر الذي يصح منه البصر، والمبصر: الذي يتصف بصفة البصر، لكن البصير تجمع كل ذلك وتزيد عليه أنه لا يفوته شيء، ولا يخفى عليه شيء، فلا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، ونظره إلى ذلك دائم فلا يفوته أي شيء. لكن نظر الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: نظر بمعنى العلم والاطلاع، ونظر بمعنى التكريم، ولذلك تجدون النظر بمعنى التكريم منفياً عن أهل النار في قول الله تعالى: {لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] وليس معناه: أنه لا يراهم، بل هو يراهم وهو مطلع على بواطن قلوبهم وهو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ لكن معناه: لا ينظر إليهم نظرة تكريم ورحمة، فالرحمة حظهم منها قد أخذوه في الدنيا، أما يوم القيامة فلا رحمة للكافر: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] .

حكم الإشارة بالأعضاء عند ذكر بعض الصفات

حكم الإشارة بالأعضاء عند ذكر بعض الصفات Q هل تعتبر الإشارة باليد، أو بكيفية معينة جائزةً شرعاًَ، وما ضابط ذلك، وما الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ A أن الإشارة كما ذكرنا إذا قصد بها التفهيم فقد وردت في بعض النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الإشارة إلى الأذن في قوله: (وما أذن الله لشيء أذنه إلى نبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) وكذلك الإشارة إلى الأنف في قوله في حديث الصوم: (لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) وكذلك قبضة اليد فيما يتعلق بذكر القبضة يوم القيامة: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] .

قوله: (من غير ما تكييف) للمبالغة في النفي

قوله: (من غير ما تكييف) للمبالغة في النفي Q لما قال الشيخ حفظه الله: (من غير ما تكييف) ولم يقل: من غير تكيف ولا تمثيل، فهل لهذا مغزى؟ A أنه ليس له مغزىً مخصوص، لكن فقط للمبالغة في النفي؛ لأن غير وما كلتاهما أداة نفي، فإذا تكررتا اقتضى ذلك تمام النفي.

لم يستعمل أحد من السلف لفظ الذات

لم يستعمل أحد من السلف لفظ الذات Q هل استعمل أحد من السلف لفظ الذات؟ A لا، الذات ليست من العربية، بمعنى مقابل الصفة كما سنذكره إن شاء الله قريباً.

الفرق بين التأويل والتفويض والإمرار

الفرق بين التأويل والتفويض والإمرار Q ما الفرق بين التأويل والتفويض والإمرار؟ A أن التأويل: هو صرف للفظ عن مقتضى دلالته الأصلية، مثل حمله على المجاز إذا كان وروده على الحقيقة. والتفويض معناه: جهالة معناه وإحالة علم ذلك إلى الله، فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أن يقولوا في كل شيء جهلوه: الله أعلم، وأن يحيلوا العلم إلى الله في كل ما جهلوه، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي بن كعب: أن الله سبحانه وتعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، حين سأله سائل فقال: من أعلم أهل الأرض، فقال موسى: أنا. والإمرار هو: قراءتها فقط، كما ذكرنا ما روي عن السلف من أن تفسير هذه الآيات قراءتها، أي: أن تقرأ فقط.

معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) Q عن لفظ: (إن الله خلق آدم على صورته) . A هذا سنذكره إن شاء الله تعالى؛ لأن الشيخ تعرض له قليلاً، وذكر أن الأحاديث التي جاءت في هذا نوعان، منها: ما هو قابل أن يحمل على غير ما يفهم منه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضرب أحدكم أخاه فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) فإن بعض أهل العلم قالوا: ليس هذا الحديث من أحاديث الصفات أصلاً، وإنما المقصود به أن الله خلق آدم على صورة الأخ الذي تضربه، فلذلك لا ينبغي أن تضرب وجهه؛ لأنه على صورة أبيك آدم فاحترمه. وأما الأحاديث الأخرى التي فيها (على صورة الرحمن) ونحو ذلك من التصريح بهذا، فالمقصود بالصورة مختلف فيه: فقالت طائفة: المقصود بذلك الكمال والحسن، والجمال قطعاً صفة لله سبحانه وتعالى، فالمقصود بالصورة حينئذ الصفة، فالله سبحانه وتعالى هو المتصف بصفات الكمال والحسن والجمال، فهذه صورته بمعنى صفتة، والمقصود بذلك صفة الوجه. وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بذلك على الصورة التي اقتضاها الرحمن فهي أكمل الصور، فأكمل الصور هو الصورة التي اختارها الرحمن لآدم، فهذا معنى: على صورته.

الإشارة إذا كانت للتفهيم فإنها جائزة ولا يقصد بها التجسيم ولا التشبيه

الإشارة إذا كانت للتفهيم فإنها جائزة ولا يقصد بها التجسيم ولا التشبيه Q ما كان بالحركات لا يكون تمثيلاً، أرجو التوضيح بالأدلة؟ A ذكرنا إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبيين بعض الأحاديث، ونحن لا نقصد أن ما كان بالحركات، إنما نقصد أن ما كان من الإشارات للتفهيم بدلالة النص، فالإشارة هنا لا يقصد بها التجسيم ولا التشبيه وهذا لا حرج فيه، وما كان يقصد به التشبيه ونحو ذلك فهذا لا يجوز.

الفرق بين التمثيل والتشبيه

الفرق بين التمثيل والتشبيه Q ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ A أن التمثيل أبلغ من التشبيه؛ لأن التشبيه هو الاشتراك في الشبه، وقد يقوى ذلك الشبه كما يشبه الغراب الغراب، وقد يكون أدنى من ذلك، فتشبيه الرجل الأبخر بالأسد هو لاشتراكهما في صفة البخر فقط، لا في صفة الشجاعة ولا في صفة القوة، والتمثيل: هو أن يكون مثلاً له، أي نداً مساوياً له، وبينهما عموم وخصوص، فالتمثيل قد يكون من ناحية المكانة لا من ناحية الشبه، والتشبيه قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، وإنما جاء في القرآن نفي التمثيل، وذلك في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهو أبلغ من التشبيه.

الفرق بين تفويض الكيف وتفويض المعنى

الفرق بين تفويض الكيف وتفويض المعنى Q عن قول الإمام أحمد: لا كيف ولا معنى، ما الفرق بينه وبين التفويض؟ A بالنسبة للتفويض يطلق على أمرين: يطلق على تفويض الكيف وعلى تفويض المعنى، فتفويض الكيفيات تفويض مطلوب من كل أحد؛ لأن الكيفيات لا تصل إليها العقول، فتفوض إلى الله كيفيات صفاته؛ لأنك لا يمكن أن تدرك ذلك بعقلك. وأما التفويض في المعنى: فإنه لم يعرف الكلام فيه قديماًَ، بل أول من ذكر عنه أنه صرح به هو أبو الحسن الأشعري، وذلك حين خالط الأعاجم، واختلطت اللغة العربية بغيرها من اللغات فقال: إذا قلت للأعجمي: الاستواء معلوم والكيف مجهول، قال لي: معلوم عندك، أما أنا فغير معلوم عندي، وإذا قلت له: اليد معلومة في اللغة، قال: أنا غير معلومة عندي، فاضطر حينئذ إلى أن يفوض وأن يقول له: الله أعلم بمراده به. وسنتكلم على هذا النوع من أنواع التفويض، وهل هو مذهب السلف أو قريب من مذهب السلف؟ لأن بعض الناس يزعم أنه مذهب السلف تماماً، وهذا الذي ذكره السبكي والسيوطي وغيرهما حتى الحافظ ابن حجر، ولكن الواقع أن بينه وبين مذهب السلف فرقاً بسيطاً جداً، فالسلف مثلاً يقولون في مثل هذه الصفات: الاستواء معلوم، وأصحاب التفويض يقولون: الله أعلم به، ولا يؤول ذلك واحد منهما، ولا ينفيه واحد منهما، ولا يصرح بشرح لفظ من ذلك واحد منهما، الخلاف فقط في الجواب عنه، فهذا يقول: معلوم، وهذا يقول: الله أعلم به، فالأمر فيه سهل. أما بالنسبة لكلام الإمام أحمد فإنه قد يفهم منه الوجهان معاً، قد يكون المقصود بقوله: (ولا كيف) أنه لا يبحث عن الكيف، فيكون هذا من تفويض الكيف، وقطعاً لا يقصد به أنه لا كيف للصفة؛ لأن كل صفة لا بد لها من كيف، لا يفهمها العقل بلا كيف، لكن الكيف مجهول، وقوله: (ولا معنى) محتملة لأمرين: الأول: إما أن يكون المعنى: لا تفسير لذلك، أي: لا يحل لك أن تفسره بأي لفظ آخر، وهذا القول هو الراجح. القول الثاني: أن (لا معنى) معناه: أن معناه مجهول بالنسبة لنا نحن، وإنما نؤمن بأنه حق، وبأن الله إنما وصف نفسه بذلك كمالاً له، وهذا القول هو قول التفويض.

الكلام على تأويل قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه)

الكلام على تأويل قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) Q صرف بعض الآيات عن ظاهرها كالوجه في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] مع إثبات الصفة بالجملة هل يعد هذا من التأويل؟ A أن هذه الآية مختلف في تفسيرها وهي قوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) فالتفسير الراجح فيها: أن الوجه المذكور فيها ليس الوجه بالمعنى كالصفة المقصودة، وإنما المقصود بالوجه الذات، فالوجه يطلق على الذات، والمقصود في الآية ليس أن ذاته غير وجهه، بل المقصود أن كل العالم يفنى ويبقى الله سبحانه وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] معناه: تبقى ذاته متصفة بصفاته، والوجه يطلق على ثلاث إطلاقات: فالأول: يطلق على السبيل فيقال: تصدق فلان لوجه الله، معناه: في سبيل الله. والثاني: يطلق على الذات مثل: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) . والثالث: يطلق على الصفة المخصوصة مثل: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فهذا فيه إثبات صفة مخصوصة وهي صفة الوجه. فإذاً هذه ثلاث إطلاقات من لفظ واحد وهو لفظ الوجه.

الكلام على مقولة: المعطل يعبد عدما والمشبه يعبد جسما

الكلام على مقولة: المعطل يعبد عدماً والمشبه يعبد جسماً Q ما حجة المقولة: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد جسماً، وما صحة القول بأن المعطل أخف ضرراً من المشبه؟ A بالنسبة لكون المعطل يعبد عدماً، فالمقصود به أنه شبهه بالمعدومات، فالمعطل والمجسم كلاهما مشبه؛ لأن المعطل شبهه بعدم، حيث نفى عنه الصفات كلها كالمعتزلة الذين ينفون عنه كل الصفات، فجعلوه كالعدم المحض؛ لأنه لا يمكن أن يكون موجود غير متصف بصفة، لا يمكن أن يتصور عقلاً أن الشيء موجود وهو غير متصف بأية صفة، فالمعتزلة إنما نفوا الصفات فراراً من تعدد القديم، لذلك قال المختار ابن منى رحمه الله: ومن تعدد القديم المعتزلْ فر إلى نفي المعاني إذ جهلْ فعندما تصوروا أن القديم لا يمكن أن يكون متعدداً نفوا الصفات؛ لأنهم يرونها شيئاً زائداًَ عن الذات. والمشبه يعبد جسماً؛ لأنه شبهه بالمخلوق، والجسم هنا من الألفاظ التي لم ترد بالإثبات ولا بالنفي، لكن ما دامت كذلك فهي من المنفيات؛ لأنه لا يحل إطلاق شيء على الله سبحانه وتعالى مما لم يطلقه على نفسه ولم يطلقه عليه رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لقصور العقل عن بلوغ ذلك. وأما القول بأن المعطل أخف ضرراً من المشبه فذلك أن المعطل بالغ في التنزيه، وأما المشبه فإنه وصل إلى النقص، حيث لا يزال الشيطان يوقعه حتى يصل به إلى ما وصل إليه كثير من المشبهة في زمان السلف، فقد كان بعضهم نسأل الله السلامة والعافية يثبت حتى أعضاء البدن لله سبحانه وتعالى، ويشبه ذلك بنفسه نعوذ بالله.

سلسلة الأسماء والصفات [4]

سلسلة الأسماء والصفات [4] درج كثير من العلماء في العصور المتأخرة على إطلاق كلمة (ذات الله) على ما يقابل صفاته سبحانه وتعالى، وهذا المعنى غير معروف في لسان العرب ولا في المصطلحات الشرعية، ولا تضاف كلمة (ذات) إلى الأعلام إلا شذوذاً، والأصل أن تضاف إلى غير الأعلام كالإله فيقال: (ذات الإله) كما كانت مستعملة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ويقصد بها عند من أطلقها منهم أنها ملته وشرعته وسبيله، لا بمعنى ما يقابل الصفة كما يطلقها المتأخرون.

إطلاق لفظ (الذات) على الله عز وجل

إطلاق لفظ (الذات) على الله عز وجل قال شيخنا حفظه الله: [يقال نفسه كما قال كتب ربكم الآية أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له ملته شرعته سبيله والأصل أن تضاف للإله لا للضمير أو للفظ لله كمثل ما قال خبيب إذ صلب وقال نابغة ذبيان الذرب لأنها تأنيث ذي الملتزمِ فيه الإضافة لغير العلمِ لظاهر قال ابن مالك وقد ذكر ما يلزم (ذو) في ذا الصدد ذو ذات أنثاه ذوات الجمع وجريان الأصل مثل الفرع نعم أتت مضافةً لله في كذبات القانت الأواه وهو شذوذ ونظيره ذو بكة مما وجهه الشذوذ] هذه الأبيات كلها في مبحث واحد، وهو مبحث إطلاق الذات على الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى له صفات ويقابلها هو (الذات) فالذي يطلق عليه لفظ الله سبحانه وتعالى هو هذا الاسم، فيدل على الله وعلى صفاته، فهو بفهم العقل لا يمكن أن يفصل عن الصفات أصلاً في الوجود الخارجي؛ لكن في الوجود الذهني يمكن أن يتخيل الفصل، فأنت إذا أردت أن تثبت ماهيةً دون أن تخوض في صفاتها فهذا بالنسبة للماهيات المخلوقة الأمر فيه سهل؛ لكن بالنسبة لله تعالى فإن صفاته لا تفارق ذاته، فلا يمكن أن تثبت الذات دون الصفات، لكن مقابل الصفة ماذا يسمى؟ سماه الله نفساً في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وفي قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] فإطلاق النفس عليه لا إشكال فيه قطعاً؛ لأنه ثابت في النصوص فتكون نفس الله وصفات الله، لكن لم يُستعمل في صفات الله هذا الاستعمال، وإنما استعملوا له (ذات) على مقابل الصفة. فالشيخ قال: (يقال نفسه كما قال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ الآية) فلا إشكال في هذا.

إطلاق الذات على الله في مقابل الصفة اصطلاح حادث

إطلاق الذات على الله في مقابل الصفة اصطلاح حادث وبهذا نعلم أن لفظ ذات إنما جاء إطلاقه على مقابل الصفة في العصور المتأخرة، وإن كان بعض أئمتنا يطلقه لكنه إنما يقصد بذلك المجاراة، وأصبحت كلمة دارجة في عرف الناس، والناس يقولون: خطأ مشهور خير من صواب مهجور، وهذه الخيرية نسبية؛ لأنها إذا كانت تقتضي إثباتاً أو نفياً في مجال الاعتقاد فليست كذلك، لكن المقصود به الإفهام والمجاراة، فإذا كان الناس لا يعرفون مقابل الصفة إلا بالذات فإننا نقيس عليه هذه الكلمة، وإن كانت ليست في لغة العرب أصلاً، فليس في لغة العرب لفظ (ذات) تطلق على مقابل الصفة، وإنما هي من ألفاظ المتكلمين التي اندرجت بالعربية فأصبحت دارجة فيها، فهي من الكلام الدارج.

إضافة الذات إلى الله ورد شذوذا في حديث كذبات إبراهيم

إضافة الذات إلى الله ورد شذوذاً في حديث كذبات إبراهيم (نعم أتت مضافة لله في كذبات القانت الأواه) نعم: استدراك على ما سبق، وذلك أنه جاء في صحيح البخاري: (ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله) وفي رواية: (أن اثنتين منهن في ذات الله) يعني: إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله، فأضيفت هنا (ذات) إلى (الله) فيكون هذا من الشاذ في اللغة؛ لأنه أضيف فيه لفظ (ذات) إلى العلم وهذا نادر، وكذبات إبراهيم هي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] كذب في ذات الله ليتركوه فيخلو بأصنامهم ويحطمها، والثانية قوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] يقصد الأصنام، والثالثة: قوله في زوجته: هي أختي ويقصد بذلك أخوة الدين، هذه ثلاث كذبات كلهن في ذات الله، أو اثنتان منهن في ذات الله، والمقصود بذات الله: سبيل الله، أي: قصد بذلك إعلاء كلمة الله، ومن هنا أجاز العلماء الكذب في العمل لنصرة دين الله، وإذا خيف على العمل له فيكون الصدق فيه محرماً والكذب واجباً؛ لأن الصدق يؤدي فيه إلى ضرر، وما حرم الكذب إلا من أجل الضرر الذي يؤدي إليه، وما أوجب الصدق إلا من أجل النفع الذي يحصل به، فإذا ترتب على الصدق ضرر وعلى الكذب نفع انعكس الأمر وانتقض الحكم. وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للحجاج بن علاط السلمي رضي الله عنه أن يكذب على قريش حتى يستخلص منهم أمواله، وقد كذب كذباً لو كذبه أحد لم يؤذن له به لكان كفراً؛ لأنه زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد هزم وأنهم أخذوه أسيراً، وأنهم قالوا لن نقتله حتى نبيعه بمكة، فمن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هزم فقد كفر؛ لأن هذا استخفاف بمقامه صلى الله عليه وسلم. قوله: (وهو شذوذ) . يقصد الشذوذ اللغوي ولا يقصد الشذوذ الحديثي، فليس الحديث شاذاً من ناحية الرواية الحديثية. والشاذ لدى المحدثين هو: رواية المنفرد إذا خالفه من هو أوثق منه أو أكثر، فالحديث الذي رواه عدد لا يكون شاذاً، بل لا بد فيه من الانفراد. والأمر الثاني: لا بد أن يكون ثقة، فإن كان غير ثقة كان حديثاً منكراً، وإذا انفرد به غير الثقة لا يسمى شاذاً وإنما هو منكر. القيد الثالث: أن يكون خالفه، والمقصود بالمخالفة: المخالفة بالإثبات أو النفي أو بإضافة حكم، لا مجرد الزيادة، فزيادة الثقة لا تعتبر شذوذاً، وكذلك الزيادة في الإسناد وهي المسماة عند المحدثين: المزيد في متصل الأسانيد، فلا تسمى شذوذاً أيضاً. أما الشاذ في اللغة: فهو ما انفرد عن القاعدة وهو المقصود هنا؛ لأن القاعدة هي المعبر عنها بالأصل، وقد ذكرنا من قبل أن الأصل يطلق على القاعدة، فالأصل أن تضاف (ذو) إلى الاسم الظاهر غير العلم، وهنا أضيفت إلى العلم فهو شاذ، أي: منفرد عن القاعدة. (ونظيره ذو بكة) : كما في الأثر الذي ذكرناه عن ابن الزبير فيما كتب على الحجر. (مما وجهه الشذوذ) : أي: وجهه اللغوي شذوذ.

إضافة الذات إلى العلم نادر وشاذ

إضافة الذات إلى العلم نادر وشاذ ونظم القاعدة في قوله: وقل أن تضاف ذو إلى العلم إضافة لفظ (ذو) إلى علم نادرة جداً، وقد ذكر ما ورد منه وهو: (ذو تبوك وذو مكة) ذو تبوك. أي: أميرها وقائدها، وتبوك: اسم محلة دون الشام أو من الشام، وكانت عيناً في الجاهلية ولم يكن عليها سكنى، وإنما عسكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصل إليها أمر من سبقه إلى العين ألا يأخذ شيئاً من مائها، فسبقه رجلان فانصرفا للماء فدعاهما ووبخهما على ذلك توبيخاً شديداً، كما في الصحيح ثم قال لـ معاذ: (يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً) فكان ذلك بعد أن مضت سنوات قليلة حتى كانت تبوك جناناً، وملئت بالحياة والزراعة والنخل، وما زالت كذلك إلى اليوم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فتوضأ فيه وأمر أن يصب ذلك في عينها، فلم تغر من ذلك الوقت ببركة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ذو بكة: جاء هذا في حجر وجده ابن الزبير داخل الكعبة حين هدمها لإعادة بنائها، فوجد فيها حجراً كتب عليه: أنا الله ذو بكة، حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض (ذو بكة) معناه: مالك مكة وبكة هي مكة كما جاء ذلك في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] فبكة من البك وهو الإهلاك؛ لأنها تبك الظالمين، فإنها لم يعتد فيها ظالم من قبل إلا أهلكه الله، كما قالت القرشية لابنها: أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحبير يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير والله آمن طيرهاوالعصم تأمن في ثبير وقد كان أهل الجاهلية يشاهدون هذا، ولكن عندما جاء الإسلام رفع ذلك، كما قال ذلك ابن عباس: قد كان ذلك في الجاهلية حيث لا حاكم يردع عنها، فكان الذئب يطرد الأرنب فتدخل في الحرم فيرجع عنها، وكان الإنسان يعصي الله من الليل في مكة فيفضحه الله من النهار، وتسلط عليه بائقة من البوائق: إما أن تنزل عليه صاعقة، أو أن تأتيه حية بين الناس فتأخذه، أو نحو ذلك، فلما جاء الإسلام رفع الله بالسلطان والقرآن ما كان يردعه مباشرة، وأصبح الناس يذنبون في الحرم فلا تعجل لهم العقوبة، لكن ذلك سيزيد عليهم؛ لأن الذنب يعظم بحسب الزمان والمكان. وقول ابن مالك: (وذات أنثاه ذوات الجمع) أي: ذات هي التي تطلق على مؤنث ذو. (ذوات الجمع) أي: ذوات هي جمع ذات، (وجريان الأصل مثل الفرع) جريان الأصل وهو ذو تجري فروعه كلها فذات، وذوات، وذوو كلها لا تضاف إلى العلم ولا تضاف إلى الضمير إلا نادراً، فمن إضافتها إلى العلم قوله: ذو بكة، وقوله: ذو تبوك، ومن إضافتها إلى الضمير قول الشاعر: صبحنا الخزرجية مرهفات أباد ذوي أرومتها ذووها ذوو عروبتها ذووها: ذووها أضيفت إلى الضمير هنا، وهذا نادر جداً لم يسمع منه غير هذا البيت.

أول تحقيق للكتب في التاريخ وذكر أصح نسخة للبخاري ودور ابن مالك في ذلك

أول تحقيق للكتب في التاريخ وذكر أصح نسخة للبخاري ودور ابن مالك في ذلك وأما صحيح البخاري فأكثر الكلمات التي فيها غرابة لغوية أو إشكال جمعها ابن مالك حين كان اليونيني يريد تحقيق صحيح البخاري، وهو أول عملية تحقيق في هذه الأمة، هذا التحقيق الذي يفخر به المستشرقون إنما نشأ في بداية القرن الثامن الهجري حينما ابتدأه اليونيني رحمه الله، فجمع ستة عشر عالماً في دمشق، وأعطاهم أموالاً طائلة، وجمع إليهم نسخ صحيح البخاري المروية في دمشق، فقابلها وكتب الفروق بينها بكل دقة، وجعل الكلام الساقط من بعض النسخ بين قوسين، وأشار عليه بحروف تدل على النسخ، وكانت نسخة اليونيني أصح نسخ صحيح البخاري وأجمعها للروايات؛ لأنه جمع الاختلاف الوارد في رواية ابن عساكر، وفي رواية كريمة، وفي رواية الكشميهني، وفي راوية أبي ذر الهروي، وفي رواية المستملي، وفي رواية الأصيلي، وفي رواية المؤيد، فجمع كل الاختلافات الواردة في روايات صحيح البخاري وأبان الفروق بينها، فإذا أشكلت عليهم أية مسألة لغوية فـ ابن مالك موجود بين ظهرانيهم أحالوها عليه، فكتبها وكتب الجواب عنها، وجمع ذلك في كتاب سماه: التوضيح والتصحيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وهو كتاب مطبوع الآن، لذلك فـ ابن مالك هو مرجع سواء كان في مجال الوحي والنصوص، أو في مجال اللغة. والشيخ هنا استشهد بكلامه في كافيته، والكافية هي النظم الذي نظمه لأحد أولاده وأراد به أن يقوي ملكته في النحو، فنظم له الكافية الشافية وهي ألفان وسبعمائة وثمانون بيتاً، كما قال هو فيها: ومنتهى أبياتها ألفان مع مئين سبع وثمانين تبع وهو أول كتاب من كتب النحو يكثر فيه من الاستشهاد بالحديث، وكل من سبقه من النحويين يندر لديهم الاستشهاد بالحديث، فلو رجعت إلى كتاب سيبويه وشروحه، لا تجد عناية بالاستشهاد بالحديث، وكتاب سيبويه فيه ثلاثمائة وثمانون آية من القرآن؛ لكن الأحاديث فيه معدودة على الأصابع والظاهر أنها أربعة أحاديث، وأول من أكثر من الاستشهاد بالحديث هو ابن مالك في شرحه الكافية المسمى: شرح الكافية الشافية وقد طبع في خمس مجلدات. وهذا البيت من الشافية يقول فيه: وذات أنثاه ذوات الجمع وجريان الأصل مثل الفرع

أصل (ذات) أنها تأنيث (ذو) والاستشهاد لذلك من كلام ابن مالك وذكر طرف من مناقبه

أصل (ذات) أنها تأنيث (ذو) والاستشهاد لذلك من كلام ابن مالك وذكر طرف من مناقبه قوله: (لأنها تأنيث ذي الملتزم فيه الإضافة لغير العلم) هذا تعليل قوله: (والأصل أن تضاف للإله) وإنما كان هذا هو الأصل في اللغة؛ لأن (ذات) هي تأنيث (ذو) الذي هو من الأسماء الخمسة. (الملتزم فيه الإضافة) والذي هو بمعنى صاحب، لكنه لا يضاف لعلم ولا إلى ضمير، ولهذا قال: (لغير العلم من ظاهر) ومعناه: من الأسماء الظاهرة فلا يضاف للعلم ولا إلى الضمير. (قال ابن مالك وقد ذكر ما يلزم ذو في ذا الصدد) قال ابن مالك: وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الجياني منشأً، الأندلسي إقليماً، الدمشقي داراً وبها توفي سنة (772هـ) ، الطائي نسباً، الشافعي مذهباً بعد أن كان مالكياً، وهو محدث فقيه لغوي، وهو الذي استطاع أن يفك للناس الإشكالات اللغوية في صحيح البخاري بعد أن أحجم عنها كثير من الناس، فكثير من الألفاظ جاءت في الصحيحين تتباين فيها النسخ والروايات، ويختلف الناس فيها من ناحية اللغة، وإلى الآن ما زال بعضها مشكلاً في صحيح مسلم؛ لأن صحيح مسلم لم يعمل عليه أحد، بينما عمل ابن مالك على صحيح البخاري. مثال ذلك: (لقد بلغ هذا الكلام قاعوس البحر) ، أو (قاموس البحر) ، أو (ناعوس البحر) كلها روايات في صحيح مسلم. ونحن إلى الآن لا نعرف أيها صحيح من الناحية اللغوية، وهي مشكلة تردد فيها شراح صحيح مسلم كلهم: أبو العباس القرطبي في المفهم، والمازري في المعلم، والقاضي عياض وهو من أشد الناس عناية باختلاف النسخ في صحيح مسلم، ونقل كلام القاضي عياض النووي ولم يزد عليه شيئاً في هذا الباب، وكذلك الأبي، وكذلك السنوسي وكل شراح مسلم تحيروا في هذه الكلمة.

ذكر الشاهد على إضافة (ذات) من شعر النابغة

ذكر الشاهد على إضافة (ذات) من شعر النابغة وقوله: (وقال نابغة ذبيان الذرب) معناه: ومثل ما قال نابغة ذبيان وهو النابغة الذبياني من بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، والنابغة أحد شعراء الجاهلية المشاهير، وكان هو حكم أهل الجاهلية في سوق ذي المجاز وفي سوق عكاظ يتحاكمون إليه في شعرهم، وهو أحد الذين علقت قصائدهم على الكعبة، وأحد الشعراء الستة الجاهليين الذين هم أشهر أهل الجاهلية شعراً، مع أن معلقة النابغة اختلف فيها ما هي؟ فقال طائفة من أهل العلم: هي قوله: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت فطال عليها سالف الأبد أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقالت طائفة أخرى هي قوله: عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار والنابغة هذا كان حكيماً في الجاهلية معروفاً، وقد عاش حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يسلم، ويمكن أن لا تكون قد بلغته الدعوة، وكان ناقداً بليغاً في النقد، فحين أنشده حسان بن ثابت أبياته التي يفخر فيها ويقول: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً بين له أنه في هذا البيت وحده أخطأ عدة أخطاء، فقال: قال: جفنات، ولم يقل: جفان، مع أن جفنات جمع قلة. وقال: الغر، ولم يقل: البيض، والغر بياض الوجه فقط. وقال: يلمعن، ولم يقل: يضئن. وقال: بالضحى، ولم يقل: بالدجى؛ لأن الضحى لا فائدة من الضوء فيه. وقال: وأسيافنا، ولم يقل: سيوفنا، والأسياف جمع قلة. وقال: يقطرن، ولم يقل: يجرين، وهي أبلغ منها وأشهر. والنابغة يقول في قصيدته التي يمدح بها الحارث بن أبي شمر الغساني التي مطلعها: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب يقول فيها في مدح بني جفنة: حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب لئن كان للقبرين قبر بجلق وقبر بصيداء الذي عند حازب وللحارث الجفني سيد قومه ليلتمسن بالجيش دار المحارب إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم من الضاريات بالدماء الدوارب لهن عليهم عادة قد عرفنها إذا عرض الخطي فوق الكواثب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب وهذا البيت هو محل الاستشهاد، وفيه روايتان: إحداهما: مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب والأخرى: محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب ومعنى مجلتهم، أي: مكان إجلالهم وتعظميهم الذي يجلونه ويعظمونه هو ذات الإله، ومعناه: ملة الله وشريعة الله، والرواية الأخرى: محلتهم ذات الإله: أي: أن الذي يعدلون به ويرجعون إليه في أمورهم هو شرعة الله، ولا يرجعون إلى هواهم ولهذا قال: (فما يرجون غير العواقب) أي: أمور الآخرة، فهنا قال: (ذات الإله) ولم يقل: ذات الله، فأضاف لفظة (ذات) إلى الإله؛ لأنه ليس علماً ولا ضميراً، فهذا هو السياق اللغوي. والذرب معناه: الذي تعود على أن لا يغلب في الكلام ولا في غيره، والذرابة: هي طلاقة اللسان، وقد تكون محمودة وقد تكون مذمومة، فإذا كانت في الحق كانت محمودة، وإذا كانت في غيره كانت مذمومة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أهل النار بأنهم: (كل عتل جواض متفيهق مستكبر) متفيهق معناه: الذي يكثر الكلام ويتشدق به، وذكر في وصف المنافقين أنهم يتخللون بألستنهم كما تتخلل البقر بألسنتها، فهذا النوع من التفيهق والتقعر في الكلام والتكلف فيه مناف للشرع؛ ولذلك لا يكون مدحاً. ولا يخفى أن كثيراً من الناس تعرفهم في لحن القول يتفيهقون في الكلام، ويتفاصحون فيه ويتقعرون فيه، وهذا الوصف نلومه، بل قد يقتضي نفوراً، كما حصل لرجل كان في الوفاة فدخل عليه رجل يريد أن يلقنه الشهادة فقال: قل: لا إله إلا الله، ولك أن تقول: لا إلهٌ إلا الله! ولك أن تقول: لا إلهاً إلا الله! فقال: أخرجوه عني. لأنه تقعر له في الكلام، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] فهذا التكلف مذموم شرعاً، فمن أجل هذا فإن الذرابة في وصف النابغة يمكن أن تكون من باب الذم؛ لأنه جاهلي وقد جاء في شعره كثير من معاني الجاهلية، ويمكن أن تكون أيضاً بمعنى الفصاحة والبلاغة فقد اشتهر بكثير من الإبداع العجيب، وبالأخص فيما يتعلق بالاعتذار، فهو أشعر الناس في مجال الاعتذار، وذلك في اعتذاره للنعمان بن المنذر.

الأصل عدم إضافة (الذات) إلى الضمير ولا إلى العلم

الأصل عدم إضافة (الذات) إلى الضمير ولا إلى العلم (والأصل أن تضاف للإله لا للضمير أو للفظ الله) والأصل في الذات في اللغة أن تضاف للإله، ولا ينبغي أن تضاف إلى الله؛ لأن (ذا) هو من الأسماء الخمسة الملازمة للإضافة، لكنه لا يضاف إلى الضمير ولا إلى العلم، والله علم، ومن أجل هذا قال: (والأصل) أي: الأصل في اللغة (أن تضاف للإله) ؛ لأن الإله ليس ضميراً ولا علماً بل هو اسم محلىً بأل، (لا للضمير أو للفظ الله) أي: الذي هو علم، مثال ذلك:

ذكر الشاهد على إضافة ذات إلى (الإله) من شعر خبيب

ذكر الشاهد على إضافة ذات إلى (الإله) من شعر خبيب (كمثل ما قال خبيب إذ صلب) أي: خبيب بن عدي أخو بني جحجبى وهو رجل من الأنصار رضي الله عنه، خرج في بعث الرجيع الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليأتي بأخبار مكة، وأمر عليه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وكانوا ثمانية فغدر بهم بنو لحيان وبنو عصية، فقتل عاصم بن ثابت فحماه الله بالدبر، أي: بالنحل، وذلك أن امرأة من قريش قتل عاصم ثلاثة من أولادها يوم أحد، وهي زوجة أبي طلحة بن عثمان بن عبد الدار، فنذرت أن تشرب الخمر في رأسه، وجعلت لمن أتاها برأسه مائة ناقة، فأراد بنو لحيان أن يأتوها برأس عاصم فحماه الله بالدبر، فجاء النحل فحال بينهم وبينه حتى جاء الليل، فجاء سيل فحمل جثته، وقتلوا عدداً منهم وأخذوا رجلين وهما: زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي فباعوهما بمكة، فاشترتهما قريش وكان ذلك في الشهر الحرام، فأمسكوهما حتى خرجت الأشهر الحرم، فأخرجوهما خارج الحرم وقتلوهما. وقصة قتل خبيب: أنهم حين أرادوا أن يصلبوه سأله أبو سفيان: هل تحب أن تكون الآن بين أهلك وذويك وأن محمداً مكانك نقتله؟ فغضب خبيب وقال: (والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، وأنني نجوت من بين أيديكم) ، وقد شاهدوا منه أشياء عجيبة كانت سبباً لإسلام بعضهم فيما بعد، فقد كان سجيناً عندهم وكانت تأتيه أرزاق ليست في مكة، فقد أتوه ذات يوم فوجدوا بين يديه طبقاً من العنب وليس ذلك في وقت وجود العنب أصلاً، ورأوا منه أخلاقاً كريمة، فقد خرجت أم خالد بنت الحارث تطلب ولداً لها فوجدته قد أجلسه في حجره وبيده سكين فخشيت أن يذبح الولد، فقال: معاذ الله أن أفعل هذا وأنا في حرم الله، وهذا ابن صغير ما له ذنب أقتله به، فرأوا أخلاقاً عالية فأسلم عدد منهم بعد ذلك، وكانوا يحدثون بهذا ويقولون: ما رأينا أكرم من خبيب بن عدي، وحين صلبوه أنشد أبياته المشهورة التي يقول فيها: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع فقوله هنا: (وذلك في ذات الإله) هو محل الاستشهاد من قصة خبيب، حيث قال: (في ذات الإله) ولم يقل: في ذات الله، فنسب لفظة ذات إلى الإله؛ لأنه ليس ضميراً ولا علماً.

من أطلق عبارة (ذات الله) من القدماء فإنما يقصد سبيله أو ملته أو شرعته

من أطلق عبارة (ذات الله) من القدماء فإنما يقصد سبيله أو ملته أو شرعته (أما من نسب ذاتاً له) أي: وقال: ذات الله، ومعناه: أضاف الذات إلى الله، والمقصود إذا كان ذلك في النص أو في كلام السلف مثل: سبيل الله، أو ملة الله، أو شريعة الله، لذلك قال: [.. أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له ملته شرعته سبيله] أي: اعلموا أن ثم مضافاً إلى الله، أي: مملوكاً لله مثل ملته، أو شرعته، أو سبيله. والملة والشريعة والشرعة معناها متقارب، لكن الملة: تطلق على ما يشمل الاعتقاد والعمل، والشريعة: تطلق على العمل، والشرعة: تطلق على العمل والأخلاق، فالملة تشمل الاعتقاد والعمل والأخلاق، والشريعة تشمل الأعمال فقط، يعني: أعمال التشريع فقط. والشرعة: تشمل الأعمال والأخلاق دون الاعتقادات، ولهذا قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} [المائدة:48] فشرعة الأنبياء مختلفة، ولكن عقيدتهم واحدة لقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الشورى:13] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95] فملته ما يشمل الجميع في الأصل إلا ما استثني من ذلك. وليس معناه أن كل تشريع نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في ملة إبراهيم، بل هذه الشريعة أكمل من ملة إبراهيم بالكلية، إذ لا يمكن للبشرية أن ترجع إلى الوراء فتأخذ بتشريع قد أخذت به قديماً قبل نضجها، والبشرية لم تتكامل في زمان إبراهيم، بل خاضت بعد ذلك كثيراً من التجارب؛ ولهذا شرع لها كثير من الأديان بعد ذلك على مقتضى المراحل التي تمر بها، وإنما كملت البشرية في وقت النضج الحقيقي حين أرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة. فمن هنا تشترك هذه الشريعة مع ملة إبراهيم في بعض الأمور، سواءً كان ذلك في التشريعات أو في الأخلاق، ففي باب الأخلاق: أخلاق إبراهيم مشروعة لهذه الأمة كالضيافة، وخصال الفطرة، وعدم العجلة والتأني، وعدم الدعاء على قومه والحلم عنهم، فهذه أخلاق إبراهيم وهي مشروعة لهذه الأمة، وقد أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ بدعاء نوح على قومه، ولا بدعاء هود، ولا بدعاء صالح، ولا بدعاء موسى. وكذلك لم تكن هذه الأمة مطالبة بكثير من الإيغال في الروحانيات مثل ما طولب بذلك أصحاب عيسى، فكثير مما ورد عن عيسى عليه السلام من الأوصاف غير مطلوب من كل الناس في هذه الأمة، من مثل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ونحو ذلك، فليس هذا مطلوباً من هذه الأمة، بل عندنا الميزان الوارد في سورة الشورى في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:39-43] فهذا ميزان بين أن تصبر وتغفر أو أن تأخذ بحقك، وذلك أن كل واحدة منهما لها مقام، فمن المقامات ما ينبغي فيه الحلم وعدم المؤاخذة بالحق، ومن المقامات ما ينبغي فيه المؤاخذة بالحق وعدم التحلُّم كما قال الحكيم: وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان أي: ذلة وليس حلماً حقيقاً. وكذلك يقول أبو الطيب المتنبي: إذا قيل مهلاً قال للسلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل ولولا تولي نفسه حمل حلمه على الأرض لانهدت وناء بها الحمل ويقول أيضاً: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى (أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له) : يقصد بذلك القدماء ولا يقصد به المتأخرين، فالمتأخرون يطلقون الذات ولا يقصدون هذا المعنى الذي ذكره، بل القدماء سواء كانوا من أهل الجاهلية أو من صدر الإسلام إذا أطلقوا ذات الله أو ذات الإله فإنما يقصدون بها ملته أو شرعته أو سبيله.

الأسئلة

الأسئلة

الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهزم يوم أحد والجيش الإسلامي هزم

الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهزم يوم أحد والجيش الإسلامي هزم Q هل يقال هزيمة أُحُد مثلاً أو نحو ذلك؟ A إذا قصد بذلك هزيمة المؤمنين أو الجيش الإسلامي فلا حرج، ولكن إذا قصد به التنقص من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه هو في نفسه هزم، فإنه غير صحيح وهو باطل من ناحية الاعتقاد، فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لم يهزم هو وأحد عشر رجلاً معه وامرأة واحدة، أما البقية من المسلمين فقد هزموا فعلاً، هزم الجيش الإسلامي وكان عداده أكثر من سبعمائة رجل، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد عشر رجلاً وامرأة واحدة هي نسيبة رضي الله عنها، والبقية كلهم هزموا: وثبت مع النبي اثنا عشر بين مهاجر وبين من نصر وثبتت نسيبة المبايعة قبل وعن خير الورى مدافعة فجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً انهزموا ذاك اليوم، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، لكن هو نفسه لم يهزم والذين بقوا معه لم يهزموا، ونفس الأمر حدث يوم حنين حيث هزم الناس ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مائة، وهزم عنه حتى كثير من أصحابه المقربين إليه، ولم يبق معه إلا مائة منهم امرأتان هما: أم سليم بنت ملحان وعائشة أم المؤمنين، وصاح العباس في الناس: يا أهل الشجرة! يا أصحاب البيعة!

سلسلة الأسماء والصفات [5]

سلسلة الأسماء والصفات [5] لله تعالى صفات مذكورة في الكتاب والسنة، وقد خالف في إثباتها المشبهة والمعطلة، وقد ذكر أهل السنة قواعد ترد على الفرقتين، وتبين الطريقة السليمة في إثبات صفات الله الذاتية والفعلية من غير انحراف.

الكلام على قاعدة (القول في صفات الله كالقول في ذاته ونفسه)

الكلام على قاعدة (القول في صفات الله كالقول في ذاته ونفسه) يقول الشيخ حفظه الله: [وما نقول في صفات قدسه فرع الذي نقوله في نفسه]

الرد بالقاعدة على المشبهة والمعطلة

الرد بالقاعدة على المشبهة والمعطلة هذا شروع في وضع قواعد لتوحيد الأسماء والصفات، وهذه القواعد أهمها قاعدتان: أولاهما: أن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذه القاعدة هي التي نظمها في هذا البيت بقوله: (وما نقول في صفات قدسه فرع الذي نقوله في نفسه) أي: إن الكلام في صفاته مثل الكلام في ذاته، وهذه مزيلة لكل إشكال، سواء كان من جهة المعطلة أو من جهة المشبهة: أما من جهة المعطلة: فإنهم يثبتون له نفساً هي الذات عندهم، وهم يعرفون أن للمخلوق ذاتاً ومع ذلك لا يقتضي إثبات أن له ذاتاً وأن للمخلوق ذاتاً التشبيه قطعاً عندهم! فما الفرق بينها وبين الوجه واليدين والعين والقدم والساق؟! لا فرق، وهم إنما نفوا الصفات فراراً من التشبيه، فلماذا لم ينفوا الذات كذلك فراراً من التشبيه؟ وأما من ناحية التشبيه: فإن المشبهة سبب غلطهم هو فهمهم لهذه الصفات على مقتضى مشابهتها للمخلوق، ومع ذلك فهم يثبتون لله ذاتاً ولا يشبهونها بذوات المخلوق فما الفرق؟ أي: إذا كانوا يؤمنون بأن له ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ولا ينبغي لها أن تشبه أي شيء، فلماذا يشبهون صفاته بصفات الخلق؟ فالقول في الصفات كالقول في الذات، فهذه القاعدة من أهم القواعد في هذا الباب؛ لأنها قاضية على الاتجاهين معاً، وهي أبلغ شيء في رد هذه الانحرافات التي تنشأ في هذا الباب. قوله: (فما نقول في صفات قدسه) أي: في صفاته المقدسة، والقدس بمعنى الطهارة والنزاهة، يقال تقدس بمعنى تطهر، ويطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى للدلالة على تنزهه عن كل نقص، فهو المنزه عن كل نقص. وأضاف الصفات إلى القدس لتعظيمها؛ لأن هذه الصفات مقتضية لإثبات الكمال ولنفي النقص؛ فلذلك كانت صفات قدس. قوله: (فرع الذي نقوله في نفسه) أي: مرتب عليه فهو فرع عنه؛ لأننا إذا أثبتنا أن له نفساً مخالفة لأنفس المخلوقين، فكذلك نثبت له ما أثبته لنفسه من الصفات التي تخالف صفات المخلوقين، ولا تشبهها بوجه من الوجوه. ورتب على هذه القاعدة قوله: [فإن يقل جهميهم كيف استوى كيف يجيء فقل له كيف هو] أي: إذا قال المعطل وهو الذي يسمى بالجهمي نسبة إلى الجهم بن صفوان: كيف استوى؟ معناه: سأل عن الكيف في صفات الذات: كيف الوجه، أو اليدين، أو العين؟ أو سأل عن الكيف في الصفات الفعلية كالمجيء والاستواء والنزول ونحو ذلك؟ فجوابه أن يقال له: كيف هو؟ أي: لماذا لا تطلب الكيف في ذاته وتطلب الكيف في صفاته؟ فهو لا يمكن أن يوجه إلينا سؤالاً عن كيفية ذاته؛ لأنه مؤمن بها مسبقاً، وإنما أشكل عليه إثبات هذه الصفات التي جنسها في الاسم ثابت للمخلوق؛ فلذلك إذا أعيد عليه السؤال فسئل عن كيفية ذاته فإنه يقول: أنا أؤمن بأن له ذاتاً لكني جاهل بكيفيتها، فيقال: كذلك آمنت بأن له هذه الصفات وأنت جاهل بكيفياتها. وكلام السلف في نفي الكيف المقصود به: نفي استيعابه وإدراكه، وإلا فالكيف من المقولات اللازمة لكل صفة.

صفات المخلوقين تقتضي السؤال عن عشر مقولات والخالق بخلاف ذلك

صفات المخلوقين تقتضي السؤال عن عشر مقولات والخالق بخلاف ذلك والصفات أياً كانت فإنها في إثباتها تقتضي عشر مقولات، هذه المقولات هي التي تسمى: مقولة الملك، ومقولة التملك، ومقولة الفعل، ومقولة الانفعال، ومقولة الكيف، ومقولة الكم، ومقولة الأين، ومقولة المتى، ومقولة الإضافة، ومقولة التصور، فهذه عشر مقولات وهي التي نظمها أحد المناطقة في قوله: زيد الطويل الأزرق ابن ملك في بيته بالأمس كان متكي في يده غصن لواه فالتوى فهذه عشر مقولات سوا فالكيف معناه: السؤال عن الهيئة. والكم معناه: السؤال عن القدر. والمتى معناه: السؤال عن الوقت. والأين: السؤال عن المكان. والتصور: السؤال عن الحقيقة. ومقولة الملك معناها: السؤال عن الحيازة. ومقولة الفعل معناها: السؤال عن التصرف. ومقولة الانفعال معناها: السؤال عن التأثر. ومقولة الإضافة معناها: السؤال عن نسبة غيره إليه. وهذه المقولات لا يمكن إدراك أي تصور إدراكاً كاملاً إلا بها، ولكن فيما لا يمكن أن يحاط به في التصور لا يمكن أن يؤتى بجواب هذه المقولات؛ فلذلك لا توجه إليه سبحانه وتعالى فإنه لا يسأل عن كيفه، ولا عن كمه، ولا عن متاه، ولا عن أينه، وإذا سئل عن الأين فالمقصود بذلك إثبات صفة العلو فقط، دون أن يزعم أن له جهة تحده وتحيط به فالإحاطة في حقه ممنوعة؛ لأنه هو الذي خلق الجهات، وكذلك الكم لا يسأل عنه فهو الكبير المتعال ولا يمكن أن يتصور المخلوق كمه؛ لكن لا يقتضي هذا أن ننفي هذه المقولات أصلاً، فلا يقال: لا كيف له، أو لا كم له، أو لا أين له، أو لا متى له، لكن يقال: لا يحيط به شيء من هذه المقولات ولا نعلمها نحن. لكن لو كشف الحجاب عنا فرأينا وجهه سبحانه وتعالى كما نرى القمر ليلة البدر لا نضام في رؤيته، فإن الكيف سيفهم بعضه، ولا يمكن أن تحيط به الرؤية لكن تعرف بعض الكيف؛ ولهذا فإن ما قاله الإمام أحمد فيما يتعلق بالكيف قال: (أمروها وأقروها ولا كيف ولا معنى) ، فمقصوده بلا كيف: لا تسألوا عن الكيف، ومقصوده بلا معنى: لا تخوضوا في معناها، وإلا فلها معنىً ولها كيف، ولذلك قال مالك رحمه الله للذي سأله عن الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا صاحب سوء، فأخرجوه عني) فأثبت الكيف ونفى العلم به، فالكيف موجود لكن المعنى نجهله. (فإن يقل جهميهم) أي: جهمي المعطلة المعترض منهم أياً كان (كيف استوى؟ كيف يجيء؟) أو يسأل عن كيف أي صفة من الصفات، (فقل له: كيف هو؟) أي: اسأله عن كيف ذاته فإنه سيبهت بذلك.

الكلام على قاعدة (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)

الكلام على قاعدة (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر) ثم ذكر القاعدة الثانية وهي: أنه لا فرق بين بعض الصفات وبعض، أي أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في بعض، والقول في بعض الصفات كالقول في بعض، هذه القاعدة الثانية مهمة قال فيها: [لا فرق بين ما سميه يعد وصفا لنا كعلم أو جزءاً كيد] (لا فرق بين ما سميه) أي: المشترك معه في الاسم من الصفات، فمن الصفات ما لا يشترك معه صفة للمخلوق في اسمه، ومنها ما يشترك معه بعض صفات المخلوق في الاسم، فصفة الوجه تضاف إلى المخلوق وتضاف إلى الخالق، لكن الوجه في المخلوق معروف، والوجه في الخالق نؤمن به ولا نبحث عن كيفه، وكذلك في العلم والإرادة والقدرة، كل له علم وإرادة وقدرة بحسبه. فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضها، فلذلك قال: (لا فرق بين ما سميه يعد وصفاً لنا كعلم أو جزءاً كيد) فالباب في الجميع واحد، فبعض الصفات يشترك معه بعض صفات المخلوق في الاسم كالعلم والإرادة والقدرة، وبعضه يشترك معه بعض أبعاض المخلوق في الاسم كالوجه والعين واليد والقدم والساق ونحو ذلك؛ لكن لا فرق فيما يتعلق بإثباته لله سبحانه وتعالى؛ لأن الجميع في حقه صفة.

معنى كون الوجه واليد ونحوها صفات لله عز وجل

معنى كون الوجه واليد ونحوها صفات لله عز وجل وهذه المسألة ذكرها كثير من الذين ساروا على طريقة السلف من المتأخرين، وورد الكلام فيها عن عدد من السابقين كـ ابن خزيمة والدارقطني وأهل تلك الطبقة، لكن اختلف اللاحقون في معنى كون هذه صفات لله سبحانه وتعالى، فورد عنهم فيها وجهان: الوجه الأول: ما ذكره ابن القيم من أن هذه -أعني الوجه- والعين واليدين والقدم والساق والأصابع إما أن تكون أبعاضاً، وإما أن تكون صفات، قال: والأبعاض تدل على التجزئة، وهي نقص فهي محالة على الله، فلم يبق إلا أنها صفة، هذه طريقة ابن القيم. الوجه الثاني: هو ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أنها صفة الرحمن، قال: المقصود بكون الوجه واليدين والعين صفة لله تعالى إثبات كينونتها، أي: كونه ذا يدين صفة من صفاته، وكونه ذا وجه صفة من صفاته، وكونه ذا عين صفة من صفاته، وكونه ذا قدم صفة من صفاته، وكونه ذا ساق صفة من صفاته، وكونه ذا أصابع صفة من صفاته، فإثباتها وصف له، أي: إنك إذا أثبت له وجهاً فقد وصفته بأنه ذو وجه، وإذا أثبت له اليدين فقد وصفته بأنه ذو يدين وهكذا، وهذه الطريقة التي سلكها الحافظ ابن حجر أقرب وأسهل من التي سلكها ابن القيم. (لا فرق بين ما سميه) أي: المشترك معه في الاسم، وهو الذي أطلق عليه هذا الاسم فقط (يعد وصفاً لنا كالعلم) والإرادة، والقدرة، والحياة. (أو جزءاً) : وهو ما يشترك معه بالاسم ويعتبر جزءاً في المخلوق، لكن نسبته للخالق أنه صفة، فلا فرق بين الصنفين، وهذا لا يقتضي تشبيهاً لمجرد الاشتراك في الاسم، ألا ترى أن الجنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] وهذه سميها في الدنيا معروف، ولكنه لا يشترك معها إلا في الاسم فقط، كما قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) والاشتراك في الاسم لا يقتضي شبهاً، وإذا كان هذا التباين الكامل وانقطاع الشبه بين المخلوقات مع الاشتراك في الاسم، فكيف تكون المقارنة لو كان هذا بين الخالق والمخلوق؟

إثبات صفة الوجه واليدين ونحوها هو من باب التسليم والإيمان بالغيب

إثبات صفة الوجه واليدين ونحوها هو من باب التسليم والإيمان بالغيب ومن هنا نعلم أن هذه الصفات إنما أخبرنا بها على وجه امتحان إيماننا بالغيب؛ لأن أصل إخبارنا بما لا يصل العقل إلى كيفه؛ إنما هو امتحان بالتفريق بين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن به، فالمزية ليست في الإيمان بالشهادة، إنما هي في الإيمان بالغيبيات التي تقصر دون تصورها العقول. فإذا انطلق الإنسان من منطلق التسليم المطلق لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يتصف بهذه الصفة الحميدة التي هي الإيمان بالغيب؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى -كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم- يأتي أهل الجنة في صورة يوم القيامة فيقول: أنا ربكم فيقولون: لا لست بربنا، فيقول: وما الأمارة بينكم وبين ربكم؟ فيخبرونه أنه يكشف عن ساق، فيتجلى لهم في صورة أخرى، فيكشف عن ساق فيخرون له سجداً، ويقولون: أنت ربنا، وفي ذلك الوقت كل من لم يكن يسجد لله في الدنيا يجعل الله ظهره من نحاس فلا يستطيع السجود، وبهذا فسر قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] وقد جاء في تفسير الآية غير هذا، كما صح عن ابن عباس: أن هذا مما تطلقه العرب على الشدة، فيقولون: (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: يشمر للأمر، وهذا يقتضي الشدة. ولا مشاحة في الأمر؛ لأن الحديث ثابت في صحيح البخاري، والآية معناها محتمل له، فيمكن أن تفسر الآية على مقتضى الحديث، ويمكن أن تفسر على التفسير الذي فسره ابن عباس، فلا يتعين أن يكون هذا هو المقصود بالآية؛ لأن الحديث لم يقل: وهذا معنى قول الله تعالى، ولذلك يغلط بعض الناس في الكلام في هذه الآية، فالذي يعدها من آيات الصفات جزماً غلط؛ لأنه جاء في تفسيرها عن ابن عباس غير ذلك؛ ولذلك من ينكر على من فسرها بغير هذا، أو يجعله مؤولاً أو نحو ذلك غلط؛ لأن تفسيرها بهذا ثابت عن ابن عباس وغيره، لكن لا يقتضي ذلك نفي صفة الساق فإنها ثابتة في الحديث الذي ذكرناه. [فالباب في الجميع واحد] أي: في صفات الله سبحانه وتعالى [واحد] . (فما لنا فيها إلا الخبر) أي: فلا نستطيع أن نصل إلى كنهها، وما عرفنا أنه حي إلا بخبره، وما عرفنا أن له وجهاً إلا بخبره، فما الفرق بين اتصافه بالحياة وبين اتصافه بكونه ذا وجه؟! فالباب في الجميع واحد، وهو باب التسليم المطلق. [فلا تكن معطلاً] أي: فلا تكن معطلاً لهذه الصفات نافياً لدلالتها، كمن يرى أن هذه الآيات التي جاءت فيها هذه الصفات أو أن الأحاديث التي ورد فيها ذلك هي من المتشابه الذي نؤمن بلفظه ونكف عن معناه، فهذا من تعطيلها عن دلالتها. [ولا ممثلاً] : أي لا تكن مشبهاً أيضاً، فتظن أن اشتراك هذه الصفات مع صفات المخلوق أو أجزائه بالاسم يقتضي شبهاً، فليس الأمر كذلك.

من أمثلة الصفات الواردة في النصوص

من أمثلة الصفات الواردة في النصوص ثم بدأ في عد بعض الصفات التي جاءت بها النصوص فقال: [يأتي يجي يكشف عن ساق يضع قدمه على جهنم يسع بفضله الخلق يداه بالعطا مبسوطتان كيف شاء بسطا كلتاهما في يمنها يمين فهو بذا من خلقه يبين] هذه الصفات بعضها صفات فعلية، وبعضها صفات ذات، والصفات الفعلية بعضها اختيارية بمعنى: متكررة، وبعضها ثبتت مرة واحدة.

من الصفات الفعلية: المجيء والإتيان

من الصفات الفعلية: المجيء والإتيان فمن صفات الأفعال قوله: (يأتي) : وهذه الصفة ثابتة بكتاب الله لقول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) هذا إثبات لهذه الصفة، وقد جاء تفسير ذلك: أن الباري سبحانه وتعالى عندما يحشر الناس إليه وينادى فيهم: هلموا إلى ربكم! فيخرجون: {مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] يجمعون بالساهرة، وهي أرض بيضاء كالكرسفة، فيرى الشخص الواحد كل من كان على هذه الأرض منذ آدم إلى نهاية الدنيا، يحيط بهم البصر، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، ويصف الملائكة صفاً بأجناسهم، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فيظل بظل عرشه من شاء من عباده، ويمنع من شاء من ذلك، ففي هذا جاء قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:22-24] . فمن هنا كان ذكرنا لهذه الصفات إنما يقتضي العمل على لازمها، وألا نقرأها صفات مجردة كما يحصل لدى كثير من الناس، فكثير من الناس يقرأ هذه الصفات على أنها مجرد معان يفهمها، أو ألفاظ يلوكها بلسانه ولا تؤثر في عمله، ولا في شعوره، ولا في محبته لله، ولا في إخلاصه له، ومن هنا تصبح هذه المادة مقتضية للقسوة والغلظة، بعد أن كان المقصود منها الترقيق والمحبة والعاطفة في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه بقلب سليم. وفي قوله: (يجي) إثبات لهذا الفعل وهو فعل المجيء، والمجيء هو والإتيان واحد؛ لكن لأن الله سبحانه وتعالى أثبت الفعلين في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى قال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] نعم: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود:105] .

صفة الساق

صفة الساق وقوله: (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) : هذا فعل آخر وهو فعل الكشف، والمقصود به: ليس الكشف عن ذاته، وإنما هو الكشف عنا نحن، فنحن المحجوبون لا هو، فالله عز وجل لا يمكن أن يحيط به حجاب، ولهذا قال الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] . فالحجاب يتعلق بالمخلوق ولا يمكن أن يتعلق بالخالق، ولهذا فالحجاب الذي (لو كشف لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض ومن فيهن) هذا الحجاب هو على السماوات والأرض لا على وجهه سبحانه وتعالى. فإثبات صفة الكشف هنا مهم؛ لأنه يتعلق بالكشف عن الساق، وكشف الحجاب عن ساق فيه إثبات لصفة الساق لله سبحانه وتعالى، وقد صح ذلك في الحديث الذي ذكرناه في صحيح البخاري، وأيضاً على تفسير آية نون.

صفة الوضع وصفة القدم

صفة الوضع وصفة القَدَم وقوله: (يضع قدمه على جهنم) : هذه الجملة مثبتة لصفتين: صفة فعلية وصفة ذاتية مثل سابقتها، فالفعل يثبت صفة فعلية، والاسم يثبت صفة ذاتية، فقوله: (يضع) هذا إثبات لصفة الوضع، فهو (يضع قدمه على النار فينزوي بعضها على بعض وتقول: قط قط، أو قطني قطني) . وقوله: (يضع قدمه على جهنم) ، هذا إثبات لصفة القدم لله سبحانه وتعالى. (على جهنم) : وهو اسم من أسماء النار، واختلف فيه هل هو عربي أو أعجمي؟ فقيل: هو عربي، والنون التي فيه زائدة وأصله من التجهم وهو تغير الوجه، والمقصود بذلك أن من رآها استاء لها. وقيل: هذا اللفظ عجمي وليس من ألفاظ العربية، وهذا الذي تميل إليه النفس. والله سبحانه وتعالى قد تعهد للنار بملئها، وجاء في الحديث أنها: (إذا أمر ببعث النار يخرج إليها من كل ألف تسع مائه وتسعة وتسعون) وإذا أعلن ذلك وأعلنت تلك النتائج: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] فهذا الوقت هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] لأن كثيراً من الناس في ذلك الوقت كما قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] نسأل الله السلامة والعافية. فإذا أعلنت هذه النتائج يحال بين الناس بحيلولة عجيبة: يضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ومن أعظم ذلك الظلام الشديد الذي يأتي، فلا يستطيع أهل الكفر التقدم، ويستطيع أهل الإيمان ذلك بالنور الذي جعل الله في وجوههم وأبصارهم، فيتقدم أهل الإيمان ويبقى أهل الكفر في الحافرة، فإذا بقي أهل الكفر رأوا نور أهل الإيمان فقالوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا حتى نستضئ بنوركم، وفي هذا الوقت يحال {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] . فإذا وردوا النار فإنه سيتفاوت دخولهم فيها بحسب الحساب، وبحسب مرورهم على الصراط، فالصراط إذا نصب على متن جهنم (فهو أحد من السيف، وأرق من الشعر, وعليه كلاليب كشوك السعدان، والناس يتفاوتون عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم) . والمخدوش إنما يخدش من جسمه الجزء الذي يستحق النار كأن يكون نبت شيء من لحمه من حرام فالنار أولى به، فهذا لا يقع في النار ولكن يؤخذ اللحم الذي نبت من النار، تمسكه كلاليب الصراط فيسقط في النار، وهذا معنى المخدوش الذي أمسك فقطع شيء من لحمه أو أعضائه نسأل الله السلامة والعافية. وفي هذا التفاوت يوجد جماعات كلما رمي فيها بجماعة استقبلهم من سبقهم: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] بدأ الحوار بينهم: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] وحينئذٍ لا تزال النار تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. تريد زيادة، وذلك لإرعاب أهلها واتساعها نسأل الله السلامة والعافية، مع أن الله يضخم كل من وقع فيها، فيضخم جثته؛ لأنه ضمن للنار ملئها، فمقعد الكافر فيها كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، ومع ذلك تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) وهذا لإرعاب من يأتي، ولهذا قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12-14] نسأل الله السلامة والعافية. فإذا كمل أهل النار ولم تكتف وهي تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فإن الباري سبحانه وتعالى يضع عليها قدمه، فتئط وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطني قطني أو قط قط؛ معناه: يكفيني يكفيني، وهذا فيه إثبات لصفتين: صفة الوضع وهي من صفات الأفعال، وصفة القدم وهي من صفات الذات.

صفة الوسع

صفة الوسع (يسع بفضله الخلق) : وهذا إثبات أيضاً للصفة الفعلية في قوله: (يسع الله سبحانه وتعالى) ، وقد وصف نفسه بأنه هو الواسع، وقد جاء ذلك في حديث أبي هريرة من الأسماء التسعة والتسعين، والمقصود به أن عطاءه يتسع لحوائج الناس، فيعطي قبل المسألة، ويعطي بعدها ولا ينقص ذلك شيء من عطائه وفضله، ففضله هو الواسع المحيط بكل من يحتاج، والفضل هنا المقصود به الكرم والبذل، وذلك أن جميع نعم الله سبحانه وتعالى هي من التفضل الذي يتفضل به على عباده. وليس شيء من نعم الله مستحقاً على الله، فقد ذكرنا أن من القواعد المهمة لدى أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء. وهذا مخالف لمذهب المعتزلة كما سبقت الإشارة إليه، وسنذكر هنا مزيد إيضاح له، فإنهم يرون وجوب الصلاح والأصلح على الله سبحانه وتعالى، ولما كان سبحانه وتعالى يتفضل على الناس بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقتضى ذلك أن نعلم أن الجنة لا يمكن أن تنال بالأعمال، ولا يمكن أن يدخل أحد الجنة بعمله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) والآيات الكثيرة التي فيها: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] فالباء التي فيها ليست للعوض، وإنما هي للسببية. والباء ترد لأربعة عشر معنىً قد أشرنا لها من قبل، فمن معانيها السببية، فهذا العمل سبب لدخول الجنة، وهو الكسب الذي كان يكسبه بعمله، فيكون سبباً لدخول الجنة، وذلك مثل أعمالنا اليوم فإنها ليست عوضاً لرزقنا، وإنما الرزق بفضل الله سبحانه وتعالى والأعمال هي سبب في الرزق فقط. فالأعمال لا تضمن الرزق للإنسان، بل نشاهد كثيراً من الناس يعملون، ولا يتركون مجالاً من مجالات الارتزاق إلا تعبوا فيه، ومع ذلك لا ينالون شيئاً، ونجد أن آخرين يرزقون من دون أن يبذلوا أي سبب، كم رأينا من الناس ممن أتعب عمره وأفناه في طلب الرزق فما حصل على فائدة، وكم رأينا من الناس ممن جاءته نفحة من نفحات الله وهو غير متسبب في أي شيء، وكم شاهدنا من أنواع الحيوانات التي لا تقدر على أي اكتساب ومع ذلك يأتيها رزقها في مكانها: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] . فإذا كان الأمر كذلك؛ فإننا نعلم أن الأسباب التي نتسبب بها كحراثة الأرض، وكالبناء، والأعمال إنما هي أسباب فقط، لكنها لا تضمن مسبباتها. وكذلك الأعمال الصالحة الأخروية فهي بمثابة الأعمال الدنيوية في أنها سبب للنجاة يوم القيامة، وسبب لدخول الجنة لكنها لا تضمنها، فمن يضمن لك قبول عملك، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل ما يشاء ويرد ما يشاء: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولو عاش الإنسان عمراً في طاعة الله، لم يجب على الله أن يتقبل شيئاً من عمله؛ لأن العبرة بالخواتيم فقد يكون غير مخلص، وقد يبتلى بسوء الخاتمة، ويكون ذلك سابقته التي علم الله في الأزل، ومن هنا علم أن الباء في الآيات كلها للسبب، وأن الباء في الحديث للعوض: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) أي عوض عمله. (يسع بفضله الخلق) : والخلق المقصود به المخلوقات، فهو مصدر في الأصل لكنه يطلق على اسم المفعول، والمقصود به: كل ما خلق الله، فكل ما خلق الله يسعه بفضله، حتى الكفار فإن الله تعالى لديه من أنواع العذاب الأليم وتعجيله ما صرف عنهم، فقد أخر عنهم العذاب في الدنيا وأملى لهم: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] فنالوا حظهم بفضله، حيث تفضل عليهم بخلقه، وبالعافية، وبالمال والأولاد وغير ذلك، لكن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ومنهم إبليس فقد عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، وسلط على من سلط عليه من أهل الدنيا؛ لكنه لا حظ له يوم القيامة.

صفة البسط وصفة اليدين

صفة البسط وصفة اليدين قوله: (يداه بالعطا مبسوطتان كيف شاء بسطا) : كذلك هذه الجملة مثبتة لصفتين: صفة ذاتية، وصفة فعلية: فالصفة الذاتية هي قوله: (يداه) ، وهذا إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى، وقد أثبت الله ذلك في كتابه في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ويداه كلتاهما يمين كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث سيشير إليها المؤلف. وقوله: (بالعطا مبسوطتان) هذه صفة فعلية وهي بسط اليدين بالعطاء، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فقوله: (يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) تفسير لقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فالمقصود بالبسط العطاء، ولا يقصد به ما يتبادر إلى الذهن من مجرد البسط فقط، بل المقصود ببسط اليدين: بسط الفضل وعمومه، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلذلك هما مبسوطتان بالعطاء سحاء الليل والنهار لا تغيضان. والبسط بسطان: فالبسط الأول: بسط عطاء، والبسط الثاني: بسط قبول التوبة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) هذا بسط للقبول بالتوبة، وذلك أن التوبة لا تتم إلا في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: أن يتوب الله على عبده، بمعنى أن يوجه قلبه للتوبة ويوفقه لها، وهذه من فضل الله السابق على عمل المكلف. ثم المرحلة الثانية: هي توبة العبد إلى الله، وهي ندمه على ما فرط في جنب الله وخروجه منه ونيته ألا يعود إليه، وهذه من المكلف. ثم المرحلة الثالثة: هي توبة الله الأخيرة، وهي قبوله لتوبة العبد، ولذلك قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] توبتان من عند الله ثم قال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] أي تاب على الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، هذه التوبة الأولى، ثم قال: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] هذه توبتهم هم: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] فهذه التوبة من عند الله سبحانه وتعالى، يتوب على الإنسان ليتوب، ثم يتوب عليه بعد ذلك ليقبل منه. والعطاء: اسم مصدر لإعطاء، فالإعطاء هو المصدر أعطى إعطاءً، والعطاء هو اسم المصدر، ويطلق على المناولة لأي شيء، ويطلق على ما ينفع بالخصوص، ولذلك اصطلح في صدر الإسلام على تسمية الراتب الذي يوزع على المسلمين من بيت مالهم بالعطاء، وهو مهموز لكنه هنا في البيت حذفت همزته للضرورة وهذا كثير في الشعر، وفيه قول ابن مالك رحمه الله: وقصر ذي المد اضطراراً مجمع عليه والعكس بخلف يقع فقصر الممدود في الشعر متفق عليه.

صفة المشيئة في العطاء

صفة المشيئة في العطاء قوله: (كيف شاء بسطا) : هذا إثبات لصفة أخرى لله سبحانه وتعالى، وهي صفة المشيئة في العطاء: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] فالله سبحانه وتعالى يهب، وبسطه مربوط بمشيئته، فيهب ما شاء لمن شاء كما قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] وفي قوله تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] . والكيف هنا راجع إلى العطاء، فالعطاء يمكن أن يعرف كيفه؛ لأنه يمكن أن يكون ذكوراً ويمكن أن يكون إناثاً، يمكن أن يكون مالاً كثيراً ويمكن أن يكون قليلاً، يمكن أن يكون عافية وصحة إلى آخره، فكل ذلك متعلق بكيفيات العطاء لذلك قال: (كيف شاء بسطا) .

كلتا يدي الرحمن يمين مباركة

كلتا يدي الرحمن يمين مباركة قوله: (كلتاهما في يمنها يمين فهو بذا من خلقه يبين) : (كلتاهما) أي: كلتا يديه، (في يمنها) معناه: في بركتها، (يمين) وهذا إشارة إلى ما جاء في الحديث أن آدم قال: (وكلتا يدي ربي يمين مباركة) فقوله: (كلتا يدي ربي يمين) ، أتبعها بقوله: (مباركة) ؛ ليبين ذلك معنى اليمين؛ لأن اليمين مشتقة من اليمن واليمن هو البركة، فكلتاهما توصف باليمن الذي هو البركة. فما جاء في صحيح مسلم من صفة الشمال محمول على الشذوذ؛ لأنه يخالف هذه النصوص الكثيرة المثبتة لليمين، ولم يصح إثبات الشمال لله في هذا الحديث، فقد انفرد به رجل واحد، وهذا يعارضه رواية من هو أكثر منه وأوثق. فرواية: (ويمسك الأرضين بشماله) من حديث الزهري، وقد انفرد به الزهري وهو ثقة لكن خالفه من هو أكثر منه عدداً، فكان الحديث شاذاً من هذا الوجه، وقد ثبت ذلك في كثير من الأحاديث منها: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) وغير ذلك من الأحاديث. وإثبات صفة اليمين لله سبحانه وتعالى جاء في كثير من الأحاديث الأخرى مثل قوله: (إن الله كتب التوراة لموسى بيمينه) (خلق آدم بيمينه) وغير ذلك من الأحاديث التي فيها تفسير لليد التي في القرآن، كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وفي الحديث: (بيمينه) وهي شاملة لهما معاً فكلتاهما يمين، فالله خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. (فهو بذا من خلقه يبين) أي: فهذا من مظاهر مخالفته لخلقه، فالمخلوق مثل البشر له يدان؛ لكن إحداهما يمين والأخرى شمال، والله سبحانه وتعالى كلتا يديه يمين ولذلك قال: (فهو بذا من خلقه يبين) أي: يخالف خلقه من هذا الوجه. وهنا بحث في (يبين) والمقصود به المخالفة، وأما ما كثر إطلاقه في عرف السابقين كقولهم: بائن من خلقه، فإن هذا اللفظ لم يرد في النصوص الشرعية، وإنما ورد في التوسع عند الرد على الذين يزعمون أن شيئاً من العالم في ذات الله؛ فلذلك قال كثير من الناس في إثبات صفة الفوقية: إن الله فوق عرشه بائن من خلقه، ولكن لم يرد ذلك في النصوص، فالأفضل الاقتصار على ما جاء في النص، وعدم الجراءة على إطلاق لفظ لم يرد.

صفة الرؤية وعدم إمكان وقوعها في الدنيا

صفة الرؤية وعدم إمكان وقوعها في الدنيا قال: [يرى ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت مثلما جاء الخبر] فهنا صفتان: إحداهما من الإيجاب، والأخرى من السلب، وقد ذكرنا من قبل أن الصفات منها سلب ومنها إيجاب، وأن الإيجاب مفصل، وأن السلب مجمل، فبدأ بالصفة الإيجابية وهي قوله: (يرى) وفيه إثبات صفة الرؤية لله سبحانه وتعالى، فإن الله يرى كل شيء، ولا يخفى عليه أي شيء: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] فلذلك لا تخفي عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، فكل ذلك يراه. ولكن رؤيته تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤية علم وإحاطة وبصر ونظر، والثاني: رؤية تقدير وحفظ، فرؤية التقدير والحفظ هي التي يعبر عنها بالنظر، ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] أي: لا ينظر إليهم بعين رحمته وحفظه؛ لكن مع ذلك لا يخفون عليه بل هو يراهم، وكذلك قوله عز وجل لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فهذه الرؤية المخصوصة المقصود بها مع إثبات النظر والإبصار: الحفظ والإحاطة أيضاً، فهو حافظ لهما، عاصم لهما من فرعون وجنوده. ثم الصفة السلبية هي قوله: (ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت) : وهذه الصفة السلبية متضمنة لإثبات أيضاً؛ لأنها مغياة بغاية، فنفي الرؤية عن المخلوق ليس نفياً مطلقاً، بل هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فقد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن المؤمنين (سيرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته) وجاء في كثير من الآيات ما يدل على ذلك، مثل قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فهذه الرؤية الأخروية ثابتة بالنصوص ويجب الإيمان بها، وقد أنكرها المعتزلة فكثر الرد عليهم، ومن الذين ألفوا في الرد عليهم: الإمام الدارقطني فألف كتابه في إثبات الرؤية، وقد كان كثير من السلف يمتحن بها توبة ورجوع الجهمية عن جهميتهم، فمن أثبت منهم الرؤية وأقر بها فهذا دليل على توبته. أما الرؤية الدنيوية فإنه لا يمكن أن تدركه الأبصار لقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ولذلك فإن موسى سأله رؤية دنيوية حين كلمه بكلامه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولن هنا للنفي؛ لكنها لا تقتضي التأبيد خلافاً لبعض المعتزلة، فإنه رأى أن (لن) للنفي على وجه التأبيد، ومعناه: لن تراني مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا منفي؛ ولذلك قال أهل البلاغة: إن لن لا تدل على التأبيد، كما قال السيوطي رحمه الله في عقود الجمان: وقيل للتأبيد لكن ترك ورده لابن خطيب زملكا رده ابن خطيب زملكا. وينسب للزمخشري أنه قال: إن (لن) للنفي على سبيل التأبيد أي: لتأكيد النفي وتأبيده، ولكن لم يرد هذا في الكشاف حسب علمي، ولا في المفصل، وإن كان في الأنموذج، ولم أر من نص على أنه فيه، وهذه كتب الزمخشري المتعلقة باللغة، ولكن عموماً هو يقر أنه معتزلي ويعتز بذلك، وهذا مذهبه.

رؤية الله في المنام والكلام على رؤية النبي لربه في الدنيا

رؤية الله في المنام والكلام على رؤية النبي لربه في الدنيا كذلك اختلف في رؤية الله في النوم، فقالت طائفة من السلف: لا يمنع نص من رؤيته في النوم؛ لأن الرؤية في النوم إنما هي بالأرواح لا بالأشباح فليست راجعة للبصر، والنفي إنما جاء معلقاً بالأبصار بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] وعلى هذا فالرؤيا غير الرؤية، فيمكن أن يرى من الرؤيا لا من الرؤية في الدنيا. وروي عن الإمام أحمد أنه رآه في النوم مرات كثيرة، وأنه سأله عن أقرب ما يتقرب به المتقربون إليه؟ فقال: قراءة القرآن، فقال: أي ربي بفهم وبغير فهم؟ فقال: بفهم وبغير فهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) . لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فالخلاف فيها مستقل، فقال بعض الصحابة بثبوت رؤيته بعين البصر، وقال آخرون: إنما هي رؤية بالروح والبصيرة لا بالبصر. ومن الذين أثبتوا رؤيته بالبصر عبد الله بن عباس، ومن الذين نفوا ذلك: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، قالت عائشة: (لقد قف شعري مما قلت) ، وقالت: (من أخبرك أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية) ، وقالت: (ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم على الله الفرية) وذكرت فيهن: (ومن أخبرك أن محمداً رأى ربه بعين بصره) . وعموماً فالآيات التي فيها ذكر الرؤية لا يقصد بها رؤيته لله سبحانه وتعالى، وإنما يقصد بها رؤيته لجبريل عليه السلام كقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] فالمقصود بذلك رؤيته لجبريل فقط: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:11-14] فجبريل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: المرة الأولى: على جبال مكة قد غطاها وسترها؛ فصعق منه حين رآه. والمرة الثانية: في ليلة الإسراء عندما بلغ سدرة المنتهى وفارقه عاد إليه فرآه على صورته، له ستمائه جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب. وقد اختلف العلماء في معنى التصور وأن جبريل يتصور بصورة بشر كما في حديث عمر، وحديث عائشة، وحديث جابر، وحديث ابن عمر وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي فيها أنه يتشكل في صورة بشر: فقالت طائفة من أهل العلم: يعدم الله تعالى ما عدا تلك الصورة من جسده، ثم يعيدها إليه من جديد، أي: يخلقها من جديد. وقالت طائفة أخرى: بل جاء جبريل على صورته؛ ولكن الله حجبه بحجابه فلم ير الناس منه إلا تلك الصورة وهي صورة دحية الكلبي. وقالت طائفة أخرى: بل هذه الصورة وهمية غير حقيقية، وإنما هي تمثل كما مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض الجدار الجنة والنار. فإذاً مباحث الرؤية هنا ثلاثة أقسام: القسم الأول: الرؤية الأخروية، وهذه ذكرنا أنه لا خلاف بين أهل السنة في إثباتها. القسم الثاني: الرؤية في النوم، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة. المسألة الثالثة: رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة. فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول متفق عليه، والاثنان الآخران مختلف فيهما، ولهذا يقول السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع: والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفي والجواز الذي في الدنيا يقصد به جواز العقل المحض، وليس الجواز بمعنى الوقوع في الدنيا، (وفي نوم) أي: كرؤيته في النوم، (وفي الوقوع للهادي) وهو النبي صلى الله عليه وسلم (اقتفي) أي اتبع. (ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت) أي: لا يراه منا أحد ذو بصر أي: ببصره لا ببصيرته، وهنا الشيخ يشير إلى رؤيا النوم في قوله: (ذو بصر حتى يموت) وهذه غاية للنفي فهي مقتضية لإثبات رؤية الآخرة؛ لذلك قال: (حتى يموت مثل ما جا في الخبر) أي: مثل ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. والخبر يطلق على المأثور سواء كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفاً على أحد من أصحابه، أو مقطوعاً عن أحد من التابعين. وقالت طائفة من أهل العلم: هو مرادف للأثر، لكن جرى الاصطلاح عند المحدثين: أن يطلقوا الأثر على الموقوف والمقطوع، وأن يطلقوا الخبر على المرفوع، فالخبر أكثر إطلاقه على المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر أكثر إطلاقه على الموقوفات والمقطوعات، والخبر: مشتق من الخبر الذي هو أحد قسمي الكلام؛ لأن الكلام إما إنشاء وإما خبر، فالإنشاء هو: التعبير عن معنىً بلفظ يقارنه في الوجود، والخبر هو: التحدث عن أمر قد مضى، ولا يقصد بالحديث أن يكون دائماً خبراً ولكن بعد نقله أصبح خبراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث به في الماضي، فأنت تخبر الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم به فأصبح خبراً، ولذلك يشتق منه فعل (أخبرنا) ، والمحدثون يطلقون هذا الفعل (أخبرنا) على ما تلقاه الشخص عن طريق القراءة أو ما دونها من الإجازة أو نحوها، أما ما تلقاه الإنسان بالسماع فيطلقون عليه: سمعت أو حدثنا، وهذا عند جمهورهم، كـ مسلم بن الحجاج ومن دونه، أما البخاري فلا يميز بين حدثنا وأخبرنا بل يطلق على الجميع حدثنا وأخبرنا وحدثني وأخبرني.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين كلام ابن القيم وابن حجر في صفة القدم والوجه

الفرق بين كلام ابن القيم وابن حجر في صفة القدم والوجه Q ما الفرق الجوهري بين قول الإمام ابن القيم: الساق والقدم وغيرها صفات لله، وبين قول الحافظ ابن حجر فيها؟ A أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه هذه المذكورات، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يبحث فيها الصحابة، لا من جهة كونها صفات أو غير ذلك، ولم يرد عنهم كلام فيها، ولا التابعون ولا أتباعهم، وإنما بدأ البحث فيها بعد هذا، فوجدنا عدداً من الذين جاءوا في هذه الطبقة يطلقون عليها صفات، فهل هذا من باب التأويل؟ هذا هو محل البحث. نقول: ليس هذا تأويلاً، لكن ما معناه؟ ابن القيم يرى أن معناه أنهم: عملوا بالسبر والتقسيم فوجدوا أن هذه إما أن تكون صفات، وإما أن تكون أبعاضاً، فكونها أبعاضاً مقتض للنقص فهو ممنوع، فلم يبق احتمال إلا أن تكون صفات، وهذا بالسبر والتقسيم فقط. أما ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر فهو واضح من جهة أنهم أثبتوا كونها صفات ولا يقتضي ذلك تأويلاً لها، بل يقتضي أن إثبات كون الله ذا يد أو ذا عين وصف قطعاً؛ لأنه يوصف بذلك، فالكينونة أي: المصدر الصناعي، وهو كونه ذا وجه، وكونه ذا يدين، هذا هو الوصف. فعلى رأي ابن القيم: فالوجه صفة، واليدان صفة، والعين صفة إلى آخره. وعلى رأي ابن حجر: الوجه ليس صفة ولكن كون الله ذا يد صفة، والعين ليست صفةً لكن كون الله ذا عين صفة، مثل العلم والإرادة؛ فالإرادة نفسها ليست صفة، والعلم ليس صفة، لكن كون الله ذا علم -أي: اتصاف الله بالعلم- هو الصفة، أما العلم بمعنى المعلوم فليس صفة لله، لكن اتصاف الله بالعلم هو صفته.

الصفات الاختيارية هي التي تتعلق بالمشيئة

الصفات الاختيارية هي التي تتعلق بالمشيئة Q لم سميت هذه الصفات صفات اختيارية؟ A صفات اختيارية معناه: الصفات التي يفعلها متى شاء، فالصفات المتعلقة بالمشيئة دائماً تسمى صفات اختيارية؛ مثل النزول والكلام والخلق والرزق والإماتة والإحياء، فهي صفات فعل علقت بالمشيئة، فهو يهب لمن يشاء، يتكلم متى شاء وهكذا. فهذه صفات معلقة بالمشيئة فلذلك سميت اختيارية؛ لأن الله سبحانه وتعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وليجزم أحدكم المسألة فإنه لا مكره له) .

كيف يتحاور أهل النار فيما بينهم في النار مع شدة العذاب عليهم

كيف يتحاور أهل النار فيما بينهم في النار مع شدة العذاب عليهم Q بعض العوام يستغرب ما يكون في النار من كلام أهلها والحوار بينهم، مع العذاب الشديد؟ الجواب عن ذلك: أن هذا من عذابهم، وأن الله يعذبهم بإقامة الحجة عليهم، حتى يستطيع بعضهم أن يكلم بعضاً، مع أن حرارة هذه النار لا تتصورونها: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ومع ذلك فهذه الشمس ستكون عقيرة في النار، وحرارتها المتوقعة أكثر من أربعة عشر مليون درجة حرارية، يعني: أن نسبة معينه من الاقتراب منها تعدم الأشياء إعداماً مطلقاً، فضلاً عن أن يلتصق بها الشيء أو أن يكون قريباً منها، ولذلك فأشعتها التي تنطلق منها هي انفجارات نووية هائلة، ففي الثانية الواحدة يقع عدد كبير جداً من الانفجارات النووية على سطح الشمس! ومع ذلك فهذه الشمس لا تساوي شيئاً من حرارة جهنم ولا أي نسبه مئوية! والله تعالى مع ذلك يخلق لأهل النار هذه القدرة على الكلام، وتقع بينهم محاورة؛ ليكون هذا أشد نكاية بهم، وأشد تعذيباً لهم، وذلك مثلما فهم أصحاب القليب وأسمعهم الله كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم موتى، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80] ، {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45] ، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر:22-23] ومع ذلك أسمعهم الله كلامه ليكون أبلغ في تعذيبهم، فإذاً هذا لا يخرج عن عذاب أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية. ومن أمثلة حوار أهل النار مع غيرهم: الرجل الذي يرمى به في النار فيقع فيها، فتندلق أقتابه أو أمعائه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيتأذى به أهل النار فيقولون: يا فلان! أو لم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت أمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه، فهذا حوار بينه وبين أهل النار، مع أن أمعائه قد اندلقت في النار، وهو يدور بها كما يدور الحمار برحاه! ومع هذا فإن عذاب أهل النار ليس درجةً واحدة: فمنه ما يكون بالزمهرير وهو البرد الشديد، ومنه ما يكون بهذا الحر المحرق: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:59] ومنه ما يكون بالحيات والتنانين والعقارب، ومنه ما يكون بأن يعذب الإنسان بمثل ما قتل به نفسه، وكما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أنه ذهب به الملكان ومرا به على المعذبين، فرأى أنواعاً من أنواع العذاب على الزناة، وعلى القتلة، وعلى أكلة الربا وغير ذلك، وهذا كله لا يمنع من كلامهم فيها.

خلق الله آدم بيمينه يقتضي أن كلتا يديه يمين

خلق الله آدم بيمينه يقتضي أن كلتا يديه يمين Q ثبوت أن الله خلق آدم بيمينه على سبيل الإفراد، هل يقتضي أن له شمالاًَ؟ A لا، بل يقتضي إثبات اليمين لله سبحانه وتعالى، وأن كلتا يديه يمين؛ لأنه قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فقد خلقه بيديه، ومع ذلك أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أنه خلقه بيمينه، فهذا يقتضي أن كلتا يديه يمين.

الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية

الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية Q نريد توضيح الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية؟ A الصفات الذاتية هي التي لا تعلق لها بالمخلوق، وإنما هي متعلقة بالذات، وأما الصفات الفعلية فهي التي لها طرفان: طرف هو الفعل، وطرف هو الانفعال، فالطرف الذي هو الفعل راجع إلى الله، والطرف الذي هو الانفعال راجع إلى المخلوق كالإحياء والإماتة والخلق ونحو ذلك، فالخلق طرف الفعل منه إلى الله، وطرف الانفعال منه إلى المخلوق وهكذا، فهذه تسمى صفات الفعل. وأما الصفات التي لها وجهان: ذاتية من وجه وفعلية من وجه مثل الإرادة ونحوها، فإنها ذاتية من وجه وفعلية من وجه؛ لأن الإرادة متكررة؛ ولهذا يقع التزاحم بين الإرادتين، مثل ما صح في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) فتتزاحم الإرادتان، وهذا دليل على أن الإرادة من هذا الوجه صفة فعلية؛ لكن مع ذلك هي صفة ذاتية في الأصل، فيجتمع فيها الأمران.

هل الكفار يمرون على الصراط؟

هل الكفار يمرون على الصراط؟ Q ذكرت في أهوال يوم القيامة السور الذي يضرب بين المؤمنين والكافرين، ويرى البعض أن أهل الكفر -أهل الظلمة- يذهب بهم إلى النار ولا مرور لهم على الصراط، وأن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] خاص بالمؤمنين، فهم الذين يمرون على الصراط بحسب أعمالهم، نريد أن نسمع الترتيب في ذلك والسابق منها واللاحق، والحوض والميزان والظلمة وغير ذلك؟ A بالنسبة للعبور على الصراط ظاهر الأحاديث أنه يشمل الجميع، فعندما يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل المحشر، فإنه يؤذن لهم جميعاً إلى الصراط، لكن يؤمر آدم بإخراج بعث النار، وهؤلاء قطعاً سيقعون عن الصراط في النار، لكن يبدو أن الصراط يمر به الجميع، وأن أبواب جهنم تحت الصراط: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] . لكن لو قيل بأن بعثاً يمكن أن يدخل النار دون المرور بالصراط فلا مانع، مثل ما ورد أن بعض أهل الجنة يدخلون الجنة دون حساب، ولا يمرون بشيء من العقبات، ولا يحسون بالأهوال، وحينئذ يكون عبور أهل الجنة من باب رحمة الله ولطفه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101-102] ويكون تعجيل أهل النار إليها قبل الصراط أو دون أن يمروا عليه، أو أن يكون مرورهم عليه صورياً، يكون ذلك من باب عدل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يستحقونه. أما الترتيب بين هذه المشاهد أو الأهوال: فأولها الحشر كما ذكرنا من قبل، ثم إذا أُذن للناس وشفع الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن أول ما يمرون به وأول منزلة بعد الحشر: حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراجح؛ لأنه جاء في وصفه أنه لا يظمأ من شرب منه أبداً، ولو كان بعد الصراط لما احتاج الناس إليه؛ لأنهم سيدخلون الجنة، لكن يذاد عنه الذين غيروا وبدلوا، ويذاد عنه أيضاً الذين أعانوا الظلمة، وقد جاء في حديثين ذكر أنواع من يذاد عنه: الحديث الأول: (ألا لا ألفين أقواماً أعرفهم فيذادون دوني كما تذاد غرائب الإبل، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، وفي لفظ: أمتي أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا منذ فارقتهم مرتدين على أعقابهم فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً) هؤلاء قد غيروا وبدلوا. والحديث الآخر: عند عبد الرزاق في المصنف وإسناده صحيح، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض) فهؤلاء أيضاً يذادون عن الحوض ويطردون عنه. وكذلك الميزان فإنه سابق على الصراط، فبعد مشهد الحوض، يأتي وزن أعمال العباد، والمقاصة بينهم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وفي ذلك الوقت أيضاً يأتي العرض على الله سبحانه وتعالى وبسط كنفه على عباده المؤمنين، ثم يأتي الحساب بعد الميزان محاكمة على الأعمال، ثم بعد ذلك تأتي هذه الظلمة وكذلك النور الذي ينور الله به المؤمنين، وهو إعلان النتيجة؛ لأنه سيعطى أهل هذا النور كتبهم بأيمانهم، ويعطى أهل الظلمة كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، نسأل الله السلامة والعافية.

ابن حجر يسير على منهج أهل التأويل في كثير من أحاديث الصفات

ابن حجر يسير على منهج أهل التأويل في كثير من أحاديث الصفات Q هل التأويل المنسوب لـ ابن حجر هو ما ذكره في الوجه واليد، أم في مسائل أخرى؟ A ما ذكره ابن حجر هنا لا يعد تأويلاً، لكنه في كثير من أحاديث الصفات يسير على منهج التأويل في بيانها.

هل قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) من آيات الصفات؟

هل قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) من آيات الصفات؟ Q ما توجيه قولكم بغلط من فسر الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] بأنها من آيات الصفات، وما هو تفسير ابن عباس لها؟ A أنا ما ذكرت أن أحداً ممن فسرها غلط، إنما ذكرت أن بعض من فسرها جزم بأنها من آيات الصفات، ولم يدع مجالاً للخلاف فيها، وجعل من لم يفسرها بهذا من المعطلة، والواقع أن في الآية تفسيرين، أحدهما يجعلها من آيات الصفات فيكون معناها موافقاً لمعنى الحديث، والآخر لا يجعلها من آيات الصفات ويجعل معناها الشدة، فيكون هذا من أهوال يوم القيامة؛ لكن لا يقتضي إثبات صفة الساق لله، وإنما ثبتت الصفة في الحديث فقط. ولا يمكن الجزم به، وتفسير ابن عباس أن قوله: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بمعنى الشدة أي أن: هذه الكلمة تطلقها العرب على الشدة في الأمر، والشدة وصف لحال الناس يوم القيامة، وكل أهوال يوم القيامة شدة.

الإنفاق والعطاء من الله تعالى هو لحكمة بالغة

الإنفاق والعطاء من الله تعالى هو لحكمة بالغة Q هذا السؤال عن قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] هل حصر بسط اليد بالإنفاق فقط؟ A الآية فيها أنه سبحانه وتعالى: (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي: مبسوطتان بالعطاء؛ لأن هذا رد على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وقالوا: لا يعطي الناس ما يكفيهم، وهذا بناءً على قولهم بفقره نسأل الله السلامة والعافية: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ولذلك فشبهة اليهود هي التي أخذ بها المشركون والمنافقون؛ لأن اليهود يقولون: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) ؛ ولذلك أمر عباده بالإنفاق، ويقولون: لا يعطي عباده ما يكفيهم؛ ولذلك أمر بالإنفاق عليهم والصدقة! والله سبحانه وتعالى رد عليهم فقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) . وهذه الشبهة هي التي أخذ بها المشركون فيما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة يس: {وإِذَا قِيْلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] وهي الشبهة التي أخذ بها المنافقون فقالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] . فالله سبحانه وتعالى رد هذا، وأخبر أنه ينفق فيعطي ما شاء بحكمة بالغة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] وقد ضل بهذه بعض القدرية، فيقول أحدهم: كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي جعل الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا والجواب: أنهم لم يؤمنوا بالقدر ولم يسلموا له؛ ولذلك دخلت عليهم الزندقة.

الرؤيا المنامية لا تؤخذ منها الأحكام

الرؤيا المنامية لا تؤخذ منها الأحكام Q ما حكم الرواية عن أحمد في رؤيته لله سبحانه وتعالى للعمل بمقتضاها؟ A أن هذه رؤيا نوم، والمرائي لا تؤخذ منها الأحكام، ولكنها تسر ولا تغر، وهي من المبشرات كما قال تعالى: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] ولا ينالها إلا الشخص المعذب، وسبحان الله! الذين ذكروا أنهم رأوا الله تعالى في المنام، إنما يذكرون هذا في حال تعذيبهم في ذات الله، لا أعلم أحداً ذكر أنه رأى الله في المنام إلا إذا كان قد عذب في ذات الله عذاباً شديداً، فالإمام أحمد إنما رآه وهو يقاد إلى الخليفة ليضرب عنقه.

نفي رؤية الله في الدنيا صفة سلبية تقابل الرؤية المثبتة له في الآخرة

نفي رؤية الله في الدنيا صفة سلبية تقابل الرؤية المثبتة له في الآخرة Q عن قوله: (يرى ولا يراه منا ذو بصر) قلت: إن فيه صفتين إيجابية وهي النظر، وسلبية، فما هي الصفة السلبية؟ A السلبية في قوله: (لا يراه منا ذو بصر) أنه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] ، صفة، وكونه يرى في الآخرة صفة إيجابية، وكونه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) في الدنيا صفة سلبية.

معنى قوله تعالى: (وأتوا به متشابها)

معنى قوله تعالى: (وأتوا به متشابها) Q كيف نجمع بين مقولة ابن عباس في نعيم الجنة، وقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] ؟ A (وَأُتُوا بِهِ) أي: بنعيم الجنة (مُتَشَابِهاً) أي: فيما بينه، وليس معناه أنه يشبه ما في الدنيا، بل ما يعرض عليهم من نعيم الجنة هو ما يأتيهم الآن، وما يأتيهم غداً، وما يأتيهم بعد غد، يظنونه نفس الشيء لا يتغير، فيشبه بعضه بعضاً، وهذا من تمام النعيم.

التبعيض نقص في حق الله تعالى

التبعيض نقص في حق الله تعالى Q كيف يعد التبعيض نقصاً في حق الله سبحانه وتعالى؟ A لأن التبعيض يقتضي الإحاطة، فإذا أثبت أحد جزءاً فمعناه أن ذلك الجزء يمكن النظر إليه وحده، أو الإحاطة به وحده، وهو أيضاً يقتضي العجز؛ لأن المخلوق هو الذي يحتاج إلى هذه الأجزاء في تصرفه، أما الخالق فلا يحتاج إلى الأبعاض.

ما اختلف فيه الصحابة لا يدخل في مسائل العقيدة

ما اختلف فيه الصحابة لا يدخل في مسائل العقيدة Q هل هناك ترجيح في قولي الرؤية المختلف فيها؟ A أن المسائل إذا اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واختلف فيها من دونهم، لم تعد من الأمور التي يجب اعتقادها، وإنما ندرس القولين فيها، ولا يمكن أن نخطئ ابن عباس ولا أن نخطئ عائشة، وقد جاء في حديث أبي ذر في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نور أنّى أراه) ، وهذا الحديث محتمل للمذهبين معاً، وكذلك جاء في بعض طرقه: (رأيت نوراً) وهذا يقتضي أنه رأى نور الله سبحانه وتعالى، ويقتضي أنه لم ير رؤية إحاطة؛ لأنها أصلاً مستحيلة. وقد ذكرنا من قبل أنه ليس للسلف مذهب واحد في مثل هذه الأمور، وإنما لهم فيها خلاف، والجميع لا يخرج عن مذهبهم، لكن لا يسمى عقيدة، وإلا لوجب على كل مكلف أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج أو أنه لم يره، وهذه من الأمور التي لا تجب، ولم يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نمتحن الناس بها ونجعلها عقيدة لازمة، وقد بينا من قبل أن العقيدة اللازمة هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل.

سلسلة الأسماء والصفات [6]

سلسلة الأسماء والصفات [6] الصفات الفعلية الثابتة لله تعالى منها ما اشتق منه اسم الله تعالى، ومنها ما ليست كذلك، وقد أثبت الله لنفسه في كتابه وأثبت له رسوله صفات كثيرة، وقد ذكر الشيخ هنا بعضها وشرحها.

بعض صفات الله الفعلية

بعض صفات الله الفعلية قال الشيخ: [يسمع يبصر يحب يعجب يضحك يرضى يستجيب يغضب] هذا البيت كله يتضمن ثماني صفات من صفات الله سبحانه وتعالى الفعلية، بعض هذه الصفات مقتضية أيضاً لبعض الأسماء من أسمائه، فمثلاً:

إثبات صفة السمع لله عز وجل

إثبات صفة السمع لله عز وجل قوله: (يسمع) : هذا إثبات لصفة السمع لله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] فهذا إثبات لهذه الصفة الفعلية، وهو إثبات أيضاً لاسم (السميع) فهو اسم مشتق من هذه الصفة. وسمع الله سبحانه وتعالى الراجح أنه للأصوات أي: يتعلق بالأصوات، وأنه لا يتعلق بالذوات، وخالف في هذا المتكلمون، فإنهم يقولون: سمعه يتعلق بالذوات والأصوات، وبصره يتعلق بالذوات والمبصرات، وليس لهم على هذا أي دليل، وإنما قصدوا به إتمام صفة المخالفة فقط، لذلك قال أحدهم: وأنت بصير تبصر الذات والمعنى، وهذا الذي قاله لا دليل عليه، وإلا لكان السمع والبصر صفة واحدة؛ لأنه إذا اتفقا في المحل -والمحل قطعاً هو ذات الله سبحانه وتعالى- وإذا كان متعلقهما واحداً فهما صفة واحدة؛ لأنه لا يفرق بينهما بالمحل، وإنما يفرق بينهما بالمتعلق.

إثبات صفة البصر لله عز وجل

إثبات صفة البصر لله عز وجل وقوله: (يبصر) هذا إثبات لصفة البصر، وهي صفة الرؤية التي سبقت، ورؤيته معناها: أنه يرى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، ومنها اسمه (البصير) فهو مشتق من هذه الصفة، فالله سبحانه وتعالى أثبت ذلك لنفسه في كثير من الآيات في كتابه.

إثبات صفة المحبة لله عز وجل

إثبات صفة المحبة لله عز وجل وقوله: (يحب) هذه صفة فعلية وهي صفة المحبة، فالله سبحانه وتعالى يحب، وجاء ذلك مسنداً إلى أعيان وإلى أفعال، فمن الأعيان قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] ، وجاء بالسلب في قوله: {لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] هذا للأعيان. وجاء مسنداً إلى الأفعال في قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ} [النساء:148] هذا في النفي، وفي الإثبات مثل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) وقوله: (إن الله يحب إذا أنعم نعمة على عبده أن يرى آثارها عليه) وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4] لكن هذا يشملهما معاً فهو للذات والصفة؛ لأن المحبة للذوات هي بسبب الصفة، أي: بسبب فعل هذا الفعل؛ لأن الاسم الموصول مستلزم للصفة، معناه: أحبهم بسبب قتالهم في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ولم يشتق من هذه الصفة اسم لله سبحانه وتعالى. والمحبة بينها وبين الأمر عموم وخصوص فإن الله سبحانه وتعالى يحب أن يؤتى ما أمر به، ويكره أن يؤتى ما نهى عنه، لكنه يأمر بأشياء لا يقدرها أصلاً، وينهى عن أشياء ويقدرها فتقع. وقد جاء إسناد المحبة إلى أشخاص بأعيانهم، فقد ورد في الحديث الذي أخرجه الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمرني أن أحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم، وهم علي بن طالب، والمقداد بن عمرو، وعمار بن ياسر، وبلال بن رياح) ، وكذلك صح في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) قال سفيان وهو سفيان بن عيينة أحد رواة هذا الحديث: ولا أراه إلا قال في البغض مثل ذلك. أي: إن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم ينزل له الخذلان في الأرض فيبغضه الناس.

إثبات صفة العجب لله عز وجل

إثبات صفة العجب لله عز وجل وقوله: (يعجب) هذه صفة أخرى وهي صفة العجب، وقد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل في عدد من الأحاديث: (إن الله يعجب لرجلين يقتل أحدهما الآخر وهما في الجنة) الرجل الذي يكون مشركاً فيقاتل فيقتل مسلماً فيكون شهيداً في الجنة، ثم يؤمن القاتل بعد ذلك. وإثبات صفة العجب فيها أيضاً ما ذكرناه في المحبة، فإنها مقتضية للتشريف للشيء الذي يعجب الله عز وجل منه، مثل الشيء الذي يضحك منه، ويقتضي ذلك أن يتعجب منه عباده، والشيء الذي يحبه يقتضي أن يحبه عباده وهكذا. وهذه الصفة لم يشتق منها اسم. وقد قرئ قول الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] بضم التاء، وعلى هذا تكون هذه الآية إثباتاً لصفة العجب أيضاً.

إثبات صفة الضحك لله عز وجل

إثبات صفة الضحك لله عز وجل وقوله: (يضحك) هذا إثبات لصفة الضحك لله سبحانه وتعالى، وقد ثبت ذلك في عدد من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها: (إن الله يضحك إلى المصلي في جوف الليل، ويضحك إلى القائم في الصف) وغير ذلك من الأحاديث التي فيها إثبات الضحك لله سبحانه وتعالى. وهو مثل صفة العجب والمحبة فيما ذكرناه، فإذا ذكر ذلك مع أي فعل فهو يقتضي زيادة فضله ومحبته، ويقتضي من المؤمنين المبادرة إليه لمحبتهم لله عز وجل، فيحبون ما يضحك منه سبحانه وتعالى، وقد جاء أن أعرابياً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يضحك الله إلى المصلي في جوف الليل، فقال يا رسول الله: أويضحك ربنا عز وجل؟ قال: نعم، قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا) فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وهذه الصفة لم يشتق منها اسم أيضاً.

إثبات صفة الرضا لله عز وجل

إثبات صفة الرضا لله عز وجل (يرضى) : هذه صفة فعلية أخرى وهي صفة الرضا، والفرق بينها وبين المحبة أن الرضا يقتضي حصول المغفرة ويختص بالأعمال، فإذا رضي الله عن عبد من عباده فإن ذلك يقتضي مغفرة ما مضى منه، وقد يقتضي مغفرة المستقبل وهذا هو الرضا الأكبر الذي لا سخط بعده، فالرضا قسمان: فالأول: رضاً يختص بالماضي، ويقتضي مغفرته. والثاني: رضاً يعم المستقبل وهو الرضا الأكبر الذي لا سخط بعده، وهو ما حل على أهل بدر حتى قال الله لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومثله ما حل على أهل الشجرة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، فقال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18] ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) . وهذه الصفة تسمى: رِضاً ورِضواناً، ورُضواناً، ورُضاً، فهذه أربعة مصادر لرضي، والله سبحانه وتعالى جاء بها مثبتة ومنفية، مثبتة في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18] ، {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] وجاء بها منفية في قوله: {لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] .

إثبات صفة الاستجابة لله عز وجل

إثبات صفة الاستجابة لله عز وجل وقوله: (يستجيب) هذا إثبات لصفة أخرى من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي صفة الاستجابة، والمقصود بها إجابة الدعاء. فالله سبحانه وتعالى يستقبل الدعاء فيثيب عليه ويجيبه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] وقال سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] فهذا إثبات لصفة الاستجابة، ومنها اشتق اسم المجيب في حديث أبي هريرة في التسعة والتسعين اسماً من أسماء الله تعالى. والاستجابة لا تتعلق بالدعاء وحده، بل كثير من الأعمال تعرض عند الله، ولهذا جاء في أذكار الصلاة: سمع الله لمن حمده، و (سمع) هنا بمعنى استجاب؛ لأنها التي تتعدى باللام؛ أما (سمع) التي معناها سماع الصوت، فإنها تتعدى بنفسها مثل قول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، أما التي تتعدى باللام فمعناها الإجابة، فمعنى (سمع الله لمن حمده) أجاب دعاءه، والحمد دعاء، وقد ذكرنا أثر ابن عيينة حين سئل عن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) قيل له: أفهذا دعاء؟! قال: بلى، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماًً كفاه من تعرضه الثناء

إثبات صفة الغضب لله عز وجل

إثبات صفة الغضب لله عز وجل وقوله: (يغضب) -عائذاً بوجهه من ذلك- وهذه صفة من صفات الفعل وهي الغضب، والله سبحانه وتعالى يغضب ويشتد غضبه وكلتاهما ثابتة في النصوص. والغضبة الكبرى هي البطشة الكبرى، وهي إقامة القيامة، فإنه إذا لم يبق في الأرض من يقول: الله، يغضب الله على أهل الأرض الغضب الأكبر الذي بسببه تقوم الساعة، ولذلك يقول الأنبياء: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وذلك حين يتمحض الشرك في الأرض، أما قبل ذلك فلا يأتي الغضب الماحق في الدنيا، وإنما يحل الغضب على قوم أو بلد أو نحو ذلك. ومظاهر الغضب هي أخذ الله سبحانه وتعالى، وهو أنواع: فمنه: الأخذ الوبيل الماحق مثل ما حصل للأمم السالفة. ومنه: أخذ دون ذلك، كما في حديث ابن عمر في سنن ابن ماجة والمسند وغيرهما، وفيه: (ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما لم يحكم أئمتهم بما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) فهذه من مظاهر الغضب لكنها ليست عامة فلا يأخذ بها الجميع. وغضب الله سبحانه وتعالى سببه الشرك به ومعصيته، ولهذا فإن الغضب الأكبر وهو غضب القيامة سببه تمحض الشرك به في الأرض. وهذا الفعل لم يشتق منه اسم، وهو والسخط سواء، فقد أثبت الله السخط لنفسه أيضاً وهو بمعنى الغضب، واختلف فيهما فقيل: الغضب أعم من السخط، والسخط أخص منه، وقالت طائفة: معناهما واحد فهما من المترادف؛ لأنهما يتعاقبان في القرآن بنفس المعنى، ولذلك نسب السخط إلى اليهود والغضب عليهم أيضاً في القرآن، وهذا يقتضي ترادف السخط والغضب.

إثبات صفة البغض لله عز وجل

إثبات صفة البغض لله عز وجل قال: [يبغض يطمس الوجوه يطبع يقبض يبسط ويعطي يمنع] قوله: (يبغض) هذا إثبات لصفة فعلية أخرى هي بغضه، وهي مقابل المحبة التي سبقت، فإن الله سبحانه وتعالى يبغض الأفعال الذميمة التي حرمها ونهى عنها، ويبغض أعداءه بذواتهم، فالذين خلقهم للنار قد أبغضهم، والأفعال التي حرمها قد أبغضها، فهذا الفعل أيضاً يتعلق بالذوات وبالأفعال، ويأتي على ضد المحبة التي سبقت، ولهذا أخرج مسلم في الصحيح ومالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) فيستعيذ من الصفة بضدها. وهنا السخط ضد الرضا والمحبة، وكذلك البغض ضد المحبة، وقد جاء في حديث ليس بالقوي: (أن الله سبحانه وتعالى في آخر الدنيا يحشر المؤمنين إلى الشام، ويبقى في البلاد قوم تقذرهم نفس الرحمن) ، وهذا بمعنى البغض، هذا إذا ثبت الحديث لكن الحديث لم يثبت، ولو ثبت الحديث لأثبتنا صفة أخرى هي صفة الاستقذار.

إثبات صفة الطمس لله عز وجل

إثبات صفة الطمس لله عز وجل وقوله: (يطمس الوجوه) : هذه صفة فعلية أخرى وهي الطمس، وقد جاءت منسوبة إلى الوجوه كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47] . وجاءت غير منسوبة إلى الوجوه، كما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] فالطمس على الأموال بمعنى إذهابها واجتياحها، وطمس الوجوه هو ردها على أدبارها نسأل الله السلامة والعافية. وكذلك جاء الطمس على البصائر والقلوب، والمقصود به الختم عليها حتى لا تنتفع بخير ولا تقبل عليه ولا تقبله أصلاً، فالقلوب المطموس عليها هي التي لا تتوجه إلى الخير ولا تقبله أبداً.

إثبات صفة الطبع لله عز وجل

إثبات صفة الطبع لله عز وجل وقوله: (يطبع) كذلك الطبع على القلوب هو صفة فعلية مثل سابقتها، والله سبحانه وتعالى أثبته لنفسه بقوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة:93] وهذا الطبع هو الختم عليها بطابع النفاق نسأل الله السلامة والعافية، فتكون هذه القلوب مطبوعاً عليها لا يمكن أن يدخلها خير: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16] فلا يمكن أن يصلها الخير. ومن هنا فإن الناس في الذكرى ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: هم الذين يسمعون الذكرى بآذانهم فتنقلها بكل أمانة إلى قلوبهم فينتفعون بالذكرى، وفيهم يقول الله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11] وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73] وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18] هؤلاء هم الذين ينتفعون بالذكرى. القسم الثاني: هم الذين لا يتحملون سماع الذكرى أصلاً، حتى آذانهم لا تتحمل سماعها فيفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفََرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49-50] والقراءة الأخرى: {مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] التي تقرءون بها. والقسورة الأسد، فهؤلاء لا يمكن أن تخالط الذكرى أسماعهم. القسم الثالث: قوم يسمعون الذكرى بآذانهم ولكنها لا تصل إلى قلوبهم؛ لأن قلوبهم مطبوع عليها، فالآذان تسمع الذكرى لكن لا تتجاوز تراقيهم، فالقلوب مختوم عليها من هنالك، والختم حول التراقي أو النحور كما في أحاديث الخوارج، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد:16] فالقلوب لم تستفد. القسم الرابع: الذين يفصلون في الذكرى، فيقبلونها من بعض الناس دون بعض، إذا رأوا من يعجبهم شكله أو يعرفونه قبلوا الذكرى منه، وإذا رأوا آخر فسمعوا منه خيراً لم يقبلوه؛ لأنه ليس في ذلك المحل! وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين ابتلاهم الله بالكبر والعجب، وصفتهم مثل صفة قريش حين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31-32] .

إثبات صفة القبض والبسط لله عز وجل

إثبات صفة القبض والبسط لله عز وجل وقوله: (يقبض يبسط) : (يقبض) هذه صفة أخرى من الصفات الفعلية فالله سبحانه وتعالى، وهذا الفعل يشمل عدة أمور: فهو سبحانه يقبض الأرواح بإرسال الملك المكلف بها: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، ويقبض السماوات والأرضين يوم القيامة كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، ويقبض الشمس فيذهب الظل مع النهار كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان:45-46] ، ويقبض الرزق، وهذا النوع من القبض هو المقصود هنا وهو المقابل للبسط، يقبضه فيزويه عمن يشاء، وهذا يشمل أمرين: الأول: إزاحة الأموال مثلما حصل لصاحب الجنتين في سورة الكهف، وهذا من قبض الله عز وجل، والثاني: عدم إزاحتها ولكن انتقال الرزق منها، فيكون المال موجوداً لكن ينتقل الرزق منه، كحال آل فرعون: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] وكثير من الناس يعطى مالاً يتصرف فيه لكن لا يرزق به ولا يقدمه لآخرته حتى ينتفع به، ولا ينتفع به في رفاهية نفسه في الدنيا، بل يحال بينه وبينه حيلولة مطلقة. وهذا القبض هو المقابل للبسط، والبسط: هو الذي يتعلق بالرزق في قول الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] . وهذا القبض والبسط وإن كان في المحسوسات كقبض الأرزاق وبسطها, فإنهما أيضاً يتعلقان بالسعادة النفسية, ويتعاقبان على النفوس, فالنفوس تارةً تشهد تجليات القبض، وتارةً تشهد تجليات البسط, فتجد الإنسان في بعض الأحيان مرتاحاً جداً ولا يدري سبباً لذلك, وتجده منقبضاً أحياناً أخرى ولا يدري سبباً لذلك، وهذا من تجليات القبض والبسط. ولهذا يقول شيخي رحمه الله: القبض والبسط في الأكوان شيئان على مراد الفتى قد لا يجيئان يتعاقبان لكل منهما أجل هذا بآن وهذا بعض في آن لجوهر البسط في آن على أحد فآنه المختفي في مظهر الثاني والعسر لا يغلب اليسرين منفرداً فالعسر فرد وإن اليسر يسران لا تجزعن ولا تفرح لحادثة فإن دارك دار ذات ألوان وراع في كل حال ما يناسبها ولا تشح بفان أيها الفاني

إثبات صفة الإعطاء والمنع لله عز وجل

إثبات صفة الإعطاء والمنع لله عز وجل وقوله: (ويعطي يمنع) , هاتان الصفتان أيضاً متضادتان وهما: صفة الإعطاء وصفة المنع, فالله تعالى يعطي ما يشاء لمن يشاء, ويمنع ما يشاء, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الرفع من الركوع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) , وقال: (رحمن الدنيا والآخرة تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء) .

الأسئلة

الأسئلة

معنى حديث: (يعجب الله من الشاب ليست له صبوة)

معنى حديث: (يعجب الله من الشاب ليست له صبوة) Q (يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة) هل هذا حديث أو أثر، وإذا ثبت فما معناه؟ A بالنسبة لثبوته لا أذكر شيئاً فيه, ولا أدري درجته, لكن معناه أن الله سبحانه وتعالى سلط على الإنسان الشهوات، وبالأخص في بداية شبابه، فعقله ما زال ضعيفاً وتجربته ما زالت ضعيفة، ومع ذلك فإن شهوته قوية, فلذلك إذا تغلب عليها فقد انتصر، وكان محلاً للإعجاب به, ولهذا يستحق أن يظل في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.

حشر المؤمنين إلى الشام لقتال اليهود قبل قيام الساعة

حشر المؤمنين إلى الشام لقتال اليهود قبل قيام الساعة Q أين يكون الناس قبل حشرهم إلى أرض الشام؟ A الناس في الأرض: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] , لكن أول من يحشر إلى أرض الشام هم اليهود، كما قال تعالى: ((وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ)) أي تفرقوا في الأرض {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء:104] يحشرهم الله إلى الشام, وأول ذلك: طرد النبي صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع من المدينة؛ ولذلك قال الله فيه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] هذا أول حشر إلى الشام. وأما حشر المؤمنين إليه فقد جاء فيه: (يوشك أن يكون خير مهاجرهم مهاجر أبيهم إبراهيم) فيهاجرون إلى الشام لقتال اليهود, وهذا المقصود به خيرتهم، وإلا فلا يمكن أن يتسع الشام لكلهم؛ لأن الشام هو الذي ينزل فيه عيسى بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيجتمع إليه أنصاره من المؤمنين الذين هم خيرة أهل الأرض يومئذٍ ويكونون في الشام، وقد جاء قبل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم) وهذا الحديث أخرجه الترمذي في السنن وإسناده حسن. وكذلك جاء في الشام عدد كبير من الأحاديث، جمعها الحافظ ابن عساكر فأوصلها إلى قرابة ألف حديث في فضائل الشام وحشر الناس إليه وغير ذلك, وبه فسر كثير من أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وهم أهل الغرب) وقال صلى الله عليه وسلم: (هم أهل الشام) وإن كان الشام ليس في غرب المدينة، لكن يطلق عليه ذلك؛ لأن غرب المدينة البحر, والبحر من سار بساحله يوصله ذلك إلى الشام. وقال آخرون: هو اتجاه المغرب، كما جنح إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: كل الفتن والمصائب والبدع جاءت من المشرق، وأما المغرب فلم يأت منهم إلا خير، فجاء منه العلم والحفاظ في كثير من العصور, وهذه القاعدة يمكن أن تنقض بالعبيديين فقد ظهروا في البداية في المغرب في المهدية في تونس، ثم رحلوا إلى المشرق, لكن يجاب على هذا: بأن التشيع كله في الأصل من المشرق, فـ عبيد الله بن إسماعيل جاء أيضاً من المشرق, فأنشأ ذلك بالمغرب. وقال أحد علمائنا في شرحه لصحيح مسلم عندما بلغ هذا الحديث: الغرب في اللغة له ثلاثة معان: يطلق على الدلو العظيمة, يقول: لا أعرف بلداً من بلاد الله أكبر دلاء منا. ويطلق على مغرب الشمس، يقول: ونحن آخر المسلمين إلى جهة المغرب. ويطلق على القوة والشوكة، يقول: نحن أهلها، ولم يجاهد قوم دون إمام فينصروا ويغنموا غيرنا, وهذه دعوى، لكن المهم أنها مبشرات. وحشر المؤمنين إلى الشام لقتال اليهود جاء فيه الحديث الذي في الصحيحين: (لتقاتلن اليهود حتى تقاتل بقيتكم الدجال) , وفيه: (أنه حتى يقول الحجر والمدر: يا عبد الله! هذا يهودي خبيث تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) وجاء في مسند البزار وغيره من حديث نهيك السكوني رضي الله عنه: أنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة من خطبه: (لتقاتلن الدجال أو لتقاتلن بقيتكم الدجال , أنتم شرقي نهر الأردن وهم يومئذٍ غربيه) ، قال: ولا أدري ما الأردن يومئذٍ, والحديث في إسناده مجهول، لكن مع ذلك تشهد له الأحاديث السابقة الصحيحة.

سلسلة الأسماء والصفات [7]

سلسلة الأسماء والصفات [7] بين يدينا عدد من الصفات الفعلية المتقابلة، وكلها مما يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى.

من صفات الله الفعلية

من صفات الله الفعلية يقول الشيخ حفظه الله: [يخفض يرفع يعز ويذل يكره يمقت ويهدي ويضل] ما زلنا في ذكر بعض الصفات التي جاءت بالإثبات التفصيلي في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمنها:

إثبات صفة الخفض والرفع لله عز وجل

إثبات صفة الخفض والرفع لله عز وجل (الخفض والرفع) : فالله سبحانه وتعالى يخفض خفضاً حسياً وخفضاً معنوياً, فالخفض الحسي مثل خفض المنافقين في النار, حيث جعلهم تحت الكافرين فيها، ومثل خفضه لبعض المخلوقات عن بعض, فهذا هو الخفض الحسي، ومنه الخسف وغيره. وأما الخفض المعنوي: فهو مثل خفضه لمنزلة الكافرين في الدنيا وفي الآخرة، كخفضه في الدنيا لمنزلة أكثر الكافرين على أتباع عيسى بن مريم، فقد جعل أتباعه فوق الكافرين إلى يوم القيامة, فخفض الكافرين تحت رئاسة أتباع عيسى إلى يوم القيامة, كما تعهد بذلك لعيسى في قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] . وكذلك فإن من صفاته الرفع, وهو كذلك رفع حسي ورفع معنوي, فالرفع الحسي: مثل رفعه للأعمال الصالحة, كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] . ومثل رفعه لبعض عباده رفعاً حسياً كرفعه لإدريس عليه السلام، فقد قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] , وذلك في السماء الرابعة، حيث لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها. ومثل ذلك رفع الأرواح التي تعرج إليه فإنه يرفعها. وأما الرفع المعنوي: فهو رفع بعض الناس درجات فوق بعض, وقد تعهد الله بذلك للمؤمنين ولأهل العلم في قوله تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] , وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تواضع لله رفعه) , فالتواضع مدعاة للرفعة يرفع الله به الدرجات, وكذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، أو درجات في الجنة) , فهذا رفع حسي بالنسبة لرفع الدرجات في الجنة. ومثل هذا رفعه سبحانه وتعالى لكتابة أعمال المتقين، فإنه يرفعها فيجعلها في عليين, واختلف في تفسير عليين فقيل: هو اسم لأعلى الجنة, وقيل: هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمال الصالحين, وهو مشتق من العلو؛ لارتفاع منزلته ومكانته, فقيل: هو جمع علِّيٍّ، والعلي: المرتفع، ومن ذلك قول الشاعر: كأن حوطاً جزاه الله صالحةً وجنةً ذات عليٍّ وأشراع لم يقطع الخرق تمسي الجن ساكنه برسلة سهلة المرفوع هلواع والآية محتملة للأمرين؛ لأنه جاء ذكر عليين في الآية مرتين, فقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] , وإذا أخذنا بهذا الجزء من هذه الآية ترجح المعنى الأول: أن عليين معناه أعلى الجنة، لكن قال بعدها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8-9] ففسر عليين بالكتاب, وحينئذٍ إذا أردنا الجمع بين القولين في الآية، فإما أن نقول في الآية الأولى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] , أي: في أعلى الجنة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19] {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] محل كتاب مرقوم، فيكون على حذف مضاف. وإذا أردنا الجمع على القول الثاني فنقول: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ) معناه: كلا إن كتابة عمل الأبرار لفي عليين، أي: في الكتاب {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8-9] , فيكون الكتاب بمعنى الكتابة, وكون الكتاب بمعنى الكتابة وارد في القرآن وفي السنة, فمن القرآن قول الله تعالى في ثنائه على عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:48] , فالكتاب الذي يعلمه عيسى إنما هو الكتابة؛ لأنه لو كان الكتاب معناه الكتب المنزلة لأغنى عن ذلك قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:48] , فالكتاب المنزل الذي تعلمه عيسى هو التوراة والإنجيل, فلما عطف التوراة والإنجيل على الكتاب علم التغاير؛ لأن العطف يقتضي المغايرة, فلهذا كان المقصود أن يعلمه الكتابة, وكان عيسى من كتاب العالمين المشاهير، ومن أحسن الناس كتابة. وهذا الخفض والرفع من هاتين الصفتين ورد في السنة أيضاً في حديث قبض الأرواح: أن الملائكة يرتفعون بها إلى السماء, فإن كانت روحاً مطمئنة استأذنوا ففتحت لها أبواب السماء, وإن كانت نفساً خبيثةً لم تفتح لها أبواب السماء، وقيل: ارجعي من حيث جئت لا مرحباً بالنفس الخبيثة. وكذلك فيما يتعلق بالرفع الحسي في الحديث: رفع جبريل قرى قوم لوط حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم ردها على الأرض, وهذا بإذن الله سبحانه وتعالى وأمره. ومن هاتين الصفتين اشتق اسمان من أسماء الله تعالى وهما: الخافض والرافع, وقد رتبهما الشيخ على هذا الترتيب، على ترتيب الاسمين في السنة في حديث أبي هريرة في ترتيب الأسماء، فقد جاء فيه الخافض قبل الرافع, ومما يدل على ذلك من النصوص أيضاً قول الله تعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] , فهذا وإن كان بغير اللفظ إلا أن معناه هو معنى الرفع والخفض المعنوي لا الحسي. وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وغيرهما: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، وسكت) . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) ، وذلك في قصة القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يكن يقوى لها شيء، ولا تسابقها راحلة إلا سبقتها، حتى جاء أعرابي على قعود له أحمر فسبقها، وقد جاء في هذا الحديث الوضع مقابل الرفع، فهو صفة أخرى تقابل هذه، والجميع من الصفات الفعلية: الخفض والرفع والوضع.

إثبات صفة الإعزاز والإذلال لله عز وجل

إثبات صفة الإعزاز والإذلال لله عز وجل قال: (يعز ويذل) وهذا أيضاً إثبات لصفتين متقابلتين كالسابقتين، فالله سبحانه وتعالى هو المعز المذل، وهذان الاسمان مشتقان من هاتين الصفتين. والمعز: من العزة التي هي المكانة والقدر. والمذل: من الذلة التي هي المسكنة وانحطاط المنزلة. وقد قال الله تعالى: {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] ومنهما اشتق له هذان الاسمان: المعز المذل، اللذان جاءا في حديث أبي هريرة. والعز: صفة الله سبحانه وتعالى، ومنه اشتق العزيز، وهذه الصفة غير صفة المعز، فالمعز معناه: الذي يعز من شاء من عباده، والعزيز معناه: العزيز بنفسه، فالعزيز من صفات الذات، والمعز من صفات الأفعال. ومعنى العزيز مختلف فيه، فقيل: معناه الذي لا نظير له، من العزة التي هي القلة، وهذا من معاني الوحدانية، إذ العزيز عند المحدثين الذي انفرد به راويان في طبقة من طبقات الإسناد أو أكثر، فسمي عزيزاً لقلة رواته أو لندرة وجوده، ويمثلون له بما رواه أبو هريرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) , فهذا انفرد بروايته أبو هريرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرد بروايته عن كل واحد منهما اثنان. والمعنى الثاني للعزيز: أنه من العزة التي هي القهر والقوة, فهو سبحانه وتعالى القوي وهو الجبار ذو القوة المتين, فهذا معنى العزة أيضاً، والعرب يقولون: (من عز بز) أي: من غلب سلب غيره عزته, وفي ذلك تقول الخنساء رضي الله عنها: تعرقني الدهر نفساً وحزا وأوجعني الدهر ضرباً وغمزا وأفنى رجالي فبادوا وبادوا وأصبح قلبي بهم مستفزا كأن لم يكونوا حمى يتقى إذا الناس إذ ذاك من عز بزا تريد هذا المثل.

إثبات صفة الكره والمقت لله عز وجل

إثبات صفة الكره والمقت لله عز وجل (يكره) : كذلك من صفات الأفعال صفة الكره, فالله سبحانه وتعالى يكره بعض الذوات وبعض الأفعال, فهذه الصفة تتعلق ببعض الذوات وبعض الأفعال, فبعض الذوات مكروهة لدى الله سبحانه وتعالى كأهل النار، فإنه كرههم ومقتهم, وكذلك بعض الأفعال مكروهة عند الله تعالى كما قال الله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:38] , وفي القراءة السبعية الأخرى: (كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروها) , فهذا الذي يكرهه الله عز وجل من الأعمال هو ما لا يرتضيه لعباده، وهذا يشمل المحرمات التي حرمها عليهم، والمكروهات التي نهاهم عنها نهياً دون تحريم, ولذلك صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ربكم حرم عليكم وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فالمحرم والمكروه كلاهما مكروه بهذا المعنى، وكلاهما متعلق بهذه الصفة التي هي صفة الكراهة. (يمقت) : وهذه صفة فعلية أخرى موافقة في متعلقها للصفة السابقة, فالمقت -نسأل الله السلامة والعافية- أشد من الكره, والله سبحانه وتعالى يمقت بعض الذوات ويمقت بعض الأفعال, فبعض الأفعال مقيتة عنده -أي: مكروهة عنده- وبعض الذوات كذلك مقيتة عنده, ولذلك صح في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في الحديث الطويل الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) , أي: مقت أهل الأرض جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب حافظوا على ديانتهم، وبقوا في الأديرة والمتعبدات منقطعين عن الناس. ومقت الله عز وجل له أمارات تظهر على العبد, فإذا مقته الله كرهه الناس، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل, ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) , قال سفيان بن عيينة -أحد رواة هذا الحديث- ولا أراه إلا قال في البغض مثل ذلك، ومعناه: إذا مقت الله عبداً نادى جبريل، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى غير رواية سفيان بن عيينة: (إذا مقت الله عبداً نادى جبريل إني أكره فلاناً, فيبغضه جبريل، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء, ثم يوضع له المقت في الأرض) -نعوذ بالله- فيكون ممقوتاً لدى أهل الأرض. فالمقصود من مقت أهل الأرض: مقت أهل الإيمان منهم, لا مقت عوامهم وجمهورهم, فأكثرهم لا يؤمنون, فأهل الإيمان منهم يجدون أن نفوسهم المؤمنة لا تطمئن إلى هؤلاء الأشخاص، وتكرههم بسبب أعمالهم, وليس معنى ذلك: أن كل أهل الأرض سيبغضونهم، بل سيجتمع عليهم أولياؤهم الذين يزيدونهم غواية فيما هم فيه. ونلاحظ أن الصفتين السابقتين وهما (يكره ويمقت) ليستا من الصفات المتقابلة كما ذكرنا, فبينهما توافق لا تقابل, بخلاف: يخفض يرفع، يعز ويذل, فهذا فيه تقابل.

إثبات صفة الهداية والإضلال لله عز وجل

إثبات صفة الهداية والإضلال لله عز وجل ومن الصفات المتقابلة قوله: (يهدي ويضل) , وهذا فيه إثبات لصفتين متقابلتين وهما الهداية والضلالة. فالله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء, فمن هداه فبفضله ومن أضله فبعدله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] , وهداية الله سبحانه وتعالى صفة من صفات الأفعال, لكنها تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد وهداية توفيق: فهداية الإرشاد هي إرساله للرسل وإقامته للحجة بالدليل العقلي والعلمي, فيهدي عبده بأن يريه الطريق, وهذه الهداية لا تقتضي نجاته, بل قد يعمل الإنسان بمقتضاها فينجو، وقد يخالفها فلا ينجو؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، وهداية الإرشاد هذه كثيراً ما يقابلها العمى في القرآن. وقد أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] . وأما الهداية الثانية: فهي هداية التوفيق، وهي من صفات الله المختصة به فلا يتصف بها من سواه، ولذلك نفاها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] , ولذلك ينبغي لمن يقرأ الفاتحة أن ينوي في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] , هداية التوفيق لا هداية الإرشاد؛ لأن هداية الإرشاد قد حصلت، ويبقى أن يسأل الله هداية التوفيق, وهي الاستقامة بعد أن عرف المنهج، فهداية الإرشاد معناها مجرد أن تقوم عليك الحجة, وقد قامت عليك بهذا الكتاب الذي تقرؤه وبالرسول الذي جاء به، وهداية التوفيق هي التي تسألها الله، فتسأله أن يوفقك لما يرضيه ولسلوك طريق الذين ارتضاهم. وهذه الهداية يقابلها الإضلال، والهداية والإضلال يترتبان على المحبة والكره, فمن أحبه الله هداه، وكل من تعلقت به صفة المحبة لابد أن يهديه الله, وكل من تعلق به المقت والبغض لابد أن يضله الله. ولهذا فإن الناس ينقسمون في الآخرة إلى سعداء وأشقياء فقط: فالسعداء هم الذين هداهم الله حين أحبهم، والأشقياء هم الذين أضلهم الله حين مقتهم. وفي الدنيا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مؤمن ومنافق وكافر، لكن في الآخرة هم قسمان فقط, {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] , فالشقي: يشمل الكافر والمنافق، والسعيد: هو المؤمن الذي مات على الإيمان. وهذا الإضلال يشمل إضلالين: إضلالاً عاماً: وهو من بداية عمر الإنسان إلى أن يموت على ضلالته. وإضلالاًً خاصاً: وهو الإضلال في الخواتيم, وهو أن يختم الله له بالضلالة، نسأل الله السلامة والعافية. ولا اعتراض على الله سبحانه وتعالى في اختياره: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ، وقال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] , فيختار من شاء للهداية على أساس حكمته وعلمه الذي لا إخلاف فيه ولا تناقض، ويختار من شاء -نسأل الله السلامة والعافية- للضلالة, فيضله ويحول بينه وبين الهداية, حتى لو قامت عليه كل الحجج وجاءته الهداية -هداية الإرشاد- فإنه لا ينتفع بها كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109-111] , فهذا يدلنا على أن هداية التوفيق منحة ربانية, فليست راجعة إلى عقل ولا إلى علم, وإنما هي منحة ربانية يهبها لمن يشاء؛ ولذلك قال الله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] , فهذا اختيار رباني. وقد جاء في حديث المهدي أنه يصلحه الله في ليلة, فهو لم يكن مهتدياً ولكن الله يهديه ويصلحه في ليلة واحدة.

إثبات صفة الإقبال والإعراض لله عز وجل

إثبات صفة الإقبال والإعراض لله عز وجل [يقبل يعرض يتوب يرحم يأخذ منا الصدقات يُطعم وليس يُطعم. ] (يقبل ويعرض) هاتان الصفتان من صفات الأفعال المتقابلة, ولا يشتق منهما اسمان لله بخلاف السابقتين الهداية والضلالة فإنه يشتق منهما اسمان لله, فهو الهادي المضل، الهادي لمن يشاء، المضل لمن شاء، لكن (يقبل) : صفة من صفات الأفعال التي لم يرد اشتقاق اسم منها, وكذلك (يعرض) : هي صفة من صفات الأفعال التي لم يرد اشتقاق اسم منها. وإقبال الله سبحانه وتعالى على عبده هو غاية التشريف؛ لأنه هو الذي يلي منزلة الرؤية, فالله سبحانه وتعالى إذا أقبل على عبده, فتمام رؤية العبد له ما يقع يوم القيامة حين يكشف عنه الحجاب فيراه رأي العين، وهي الزيادة التي قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] , وأما في الدنيا فقد حجب المخلوق عن الرؤية, لكنه عوض أهل الإيمان بالإقبال فيقبل الله عليهم، ويكون هذا تعويضاً عن الرؤية. وإقبال الله سبحانه وتعالى على عبده إنما يكون بحسب اقتراب العبد منه, ولذلك قال: (فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) هذا هو الإقبال، ويكون أيضاً بحسب إتقانه لعمله الصالح الذي يعمله، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت وأنا خير مما التفت إليه) , فالإقبال هنا يقابله الإعراض, وإقباله مقتض لرحمته وعنايته وحفظه ورعايته، وإعراضه مقتض لتعرض الإنسان لسخطه ومقته، ولذلك فإن نظره هو من جنس إقباله, فنظره بعين الرحمة يحصل به كل مقتضيات الرحمة, والله سبحانه وتعالى أخبر أن من لا يرتضيهم لا ينظر إليهم, وقد أخبر عن كثير من الناس يوم القيامة أنه لا ينظر إليهم ولا يزكيهم كما في قوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] . والمقصود هنا: لا ينظر إليهم بهذه النظرة، أي: نظرة الإقبال التي تقتضي الرحمة. أما النظر الذي يقصد به العلم والإحاطة والبصر, فالله سبحانه وتعالى مبصر لكل الكائنات، لا تخفي منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً, ولا يمكن أن يحتجب عنه أي شي، فهو يرى كل شي، لكن النظر بعين رحمته هو الذي يختص به أهل الإيمان والمحبة, والنظر بعين السخط -نسأل الله السلامة والعافية- هو لأهل الكفر والشقاوة.

إثبات صفة التوبة لله عز وجل

إثبات صفة التوبة لله عز وجل (يتوب يرحم) : هذه صفة من صفات الأفعال, ولم يذكر لها مقابل، وقد اشتق منها اسم الله سبحانه وتعالى: التواب) ، وتوبة الله سبحانه وتعالى على عباده قسمان: توبة سابقة لتوبة العبد, وتوبة لاحقة لتوبة العبد, فالتوبة السابقة لتوبة العبد هي التي تقتضي توفيقه لأن يتوب, والتوبة اللاحقة هي التي تقتضي قبول توبته فلا يمكن أن يتوب أحد حتى يتوب الله عليه، فأولاً يوجه قلبه للتوبة, ثم بعد ذلك إن شاء تاب عليه توبة ثانيه وهي قبول توبته، وإن شاء لم يتب عليه. ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة:117] , هذه هي التوبة الأولى عليهم بمعنى توفيقهم للتوبة, أي: توفيقهم لأن يتوبوا, ثم قال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] , وهذه توبة غير الأولى، ولذلك عطفها بثم، والعطف يقتضي المغايرة: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) . قال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] , (ثم تاب عليهم) : هذه التوبة الأولى (ليتوبوا) أي: التوبة الثانية وهي التي بدأهم بها في قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) معناه: وقد تاب على الثلاثة الذين خلفوا. فإذاً: الثلاثة الذين خلفوا لما كانوا يعانونه من الضيق ذكر الله في هذه الآية توبتهم الآخرة قبل توبتهم الأولى, أما النبي والمهاجرون والأنصار؛ فلأنهم ليسوا من أهل هذه المعاناة؛ وقد قفلوا ولم يجدوا كيداً، فإنه جعل التوبة الأولى في الوقوع هي الأولى في الذكر، ثم ذكر التوبة الثانية بعدها على الترتيب. ونظير هذا فيما يتعلق بالتوبة الشفاعة، فالشفاعة أيضاًَ لا يمكن أن يشفع أحد لدى الله إلا بعد الإذن له بالشفاعة, فيأذن الله له بالشفاعة ثم بعد ذلك يشفع, فالشفاعة تسبق فعل الشافع وتعقبه, تسبقه بالتوفيق له والإذن فيه, وتعقبه بقبوله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] , وكما قال تعالى في الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] .

إثبات صفة الرحمة لله عز وجل

إثبات صفة الرحمة لله عز وجل (يرحم) : هذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الرحمة, وهي صفة عظيمة كتبها الله على نفسه, لكن اسم الرحمة يطلق على صفة من صفات الله وعلى لازم تلك الصفة، وهو فعل من فعل الله, وتجدونهما معاً في النصوص, فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرحمة في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] , ومع ذلك ذكر الرحمة التي هي فعله في قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] , وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعبادة المؤمنين في الجنة, وأنزل رحمة واحدة في الدنيا فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها) , فهذه الرحمة المخلوقة ليست هي الصفة, وإنما هي متعلق الصفة وأثرها؛ لأنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها) . أما الرحمة غير المخلوقة فهي صفة الله، وهي المذكورة في قوله: (إن رحمتي سبقت غضبي) , وفي رواية: (تغلب غضبي) , والمقصود بذلك: تزاحم الصفتين في المتعلق. ورحمة الله سبحانه وتعالى هي من أكثر صفاته أثراً, وصفات الله لها آثار في خلقه, فما يتعلق منها بالخلق له آثار, لكن رحمته هي أوسعها أثراً، ولهذا قال الله فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] , ولذلك عدّ الله من آثارها شيئاً عظيماً فقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73] , فالليل والنهار وما سكن فيهما كل ذلك من رحمة الله, ولهذا قال في المطر: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] , فكل هذا من آثار رحمة الله؛ ولهذا إذا نظرنا إلى ما فيه أهل الأرض من المعايش والخيرات والبركات التي جعلها الله في هذه الأرض، ومن أعظمها هذا الأكسجين الذي يتنفسون به، والماء الذي يشربونه, وستر الله الجميل الذي يجعل بعضهم يركن إلى بعض ويميل إليه, وجبل قلوبهم على الألفة والمحبة وغير ذلك، كل هذا أثر من آثار رحمة الله سبحانه وتعالى, ومع ذلك فما في الدنيا من رحمة الله المخلوقة إلا رحمة واحدة من مائة رحمة. ويذكر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دخل على هارون الرشيد , فوعظه فبكى هارون بكاءً شديداً, وكان في غزو، وكان هارون يغزو في كل سنة، وكان عبد الله بن المبارك كثيراً ما يغزو معه، فسأله أن يحدثه بما يزيده طمعاً فيما عند الله تعالى وترغيباً لما عنده, فقال: يا هارون! ما نصيبك في هذه الدنيا من رحمة الله؟ قال: أوفر نصيب، فقد منّ الله علي بالإيمان والعقل والحكمة والعلم وإمارة المؤمنين، وأن ملكي شمل مشارق الأرض ومغاربها، وامتن علي بالمال والأولاد وصالح الأهل، وغير ذلك من أنواع ما يرغب فيه, فقال: هذا حظك من رحمة واحدة قسمت بين أهل الدنيا كلهم برهم وفاجرهم أولهم وآخرهم, فما ظنك بنصيبك من تسعة وتسعين رحمة يوم القيامة؟! نلت من هذه الرحمة الدنيوية هذا النصيب, وهي رحمة واحدة، فكيف سيكون نصيبك من تسع وتسعين رحمة يوم القيامة؟! ولذلك فإن هذه الرحمة أمر الله بها عباده، فهي كما ذكرنا من الصفات التي هي للتعلق والتخلق, وقد ذكرنا أن أسماء الله منها ما هو للتخلق والتعلق، ومنها ما هو للتعلق فقط, والتعلق معناه: أن يسأل الله به ويدعى به, لكن لا يمكن أن يتصف به المخلوق, وذلك مثل الكبرياء والعظمة والجلال, ومنها ما هو للتعلق والتخلق ومنه الرحمة, فقد أمر الله بها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يَرحم لا يُرحم) , وصح عنه في الحديث المسلسل بالأولية: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) , وهذه الرحمة متعلقها في الأصل من يحتاج إليها وهم كل ضعيف مبتلى، فهم أحق الناس بالرحمة. والبلاء أنواع: فمنه البلاء في الدين، ومنه البلاء في البدن، والبلاء في المال، والبلاء في الأهل، والبلاء في العقل وغير ذلك, فأولى الناس بالرحمة هم المبتلون؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر في صحيح مسلم وهو أيضاً في الموطأ وكتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم, فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد, وإنما الناس مبتلىً ومعافىً فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) , فرحمة أهل البلاء مختلفة باختلاف الحال, فمثلاً: الفاجر الذي هو مبتلى في دينه, رحمته أن تحاول أن تعينه على الشيطان، وأن لا تعين الشيطان عليه حتى يهتدي على يديك، والكافر رحمته هي محاولة إدخاله في الإسلام، والمبتلى بأي بلاء رحمته بحسب ذلك، ولهذا يقول أحد الحكماء: ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة وقر كبيرهم وارحم صغريهم وراع في كل خلق حق من خلقه فهو مخلوق لأرحم الراحمين.

إثبات صفة الأخذ لله عز وجل

إثبات صفة الأخذ لله عز وجل (يأخذ منا الصدقات) : هذه صفة أخرى من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الأخذ، وهذه الصفة متعددة المتعلق: فالمتعلق الأول: أن يأتي أخذ الصدقات بمعنى قبولها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ الصدقات بمعنى: يتقبلها، وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صح عنه أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد من كسب طيب إلا كان كأنما وضعها في كف الرحمن، ولا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) فمن تصدق من كسب حلال كأنما وضع صدقته في كف الرحمن، يعني: يأخذها الله منه ويتقبلها، ويكون قرضاً حسناً عند الله عز وجل، فلذلك لا يزال الله ينمي له صدقته هذه ويضاعف له أجرها بحسب انتفاع الناس بها أبد الآبدين، (كما ينمي أحدكم فلوه) أي: كما يربي أحدكم فلوه، أي: ولد فرسه (أو فصيله) أي: ولد ناقته، حتى تكون هذه الصدقة كالجبل، وتنمية الله عز وجل ليست مثل تنمية البشر، فيبارك فيها ويضاعفها أضعافاً مضاعفة وهكذا، فلذلك قال: (يأخذ منا الصدقات) . أما المتعلق الثاني: فالأخذ بمعنى الإذلال، فالله سبحانه وتعالى يأخذ أعداءه أخذ عزيز مقتدر، ومعنى ذلك: أن يهلكهم بأخذ البغتة، وقد ذكر سبحانه وتعالى أمثلة لذلك، كأخذه لقوم نوح بالطوفان، وأخذه لقوم هود بالرياح، وأخذه لقوم صالح بالصيحة، وأخذه لغيرهم من الأمم، وهذا هو الأخذ الوبيل الذي يأخذ به أعداءه وهو الذي ينبغي أن يخافه أهل الإيمان دائماً وأن لا يأمنوا مكر الله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . إذاً: هذان متعلقان بصفة الأخذ، الأول: أخذ بمعنى القبول، والثاني: أخذ بمعنى الإذلال.

إثبات صفة الإطعام لله عز وجل

إثبات صفة الإطعام لله عز وجل (يطعم وليس يطعم) : هاتان الصفتان متقابلتان بالإثبات والنفي، إحداهما: صفة الإطعام: فالله سبحانه وتعالى يطعم عباده فهو الذي تكفل لجميع مخلوقاته برزقها، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] ، ولذلك فهو الذي يطعم هذه المخلوقات كلها.

سلسلة الأسماء والصفات [8]

سلسلة الأسماء والصفات [8] الله سبحانه وتعالى موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص، ولهذا فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه سبحانه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك إثبات صفة الحكم والاستفهام لخلقه وهو أعلم بهم، وأنه لا ند له ولا نظير ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.

إثبات صفة الحكم لله عز وجل

إثبات صفة الحكم لله عز وجل يقول الشيخ حفظه الله: يحكم بالحق يستفهم وهو أعلم. كذلك من الصفات المثبتة لله سبحانه وتعالى صفة الحكم، فقد أثبتها لنفسه في كثير من الآيات، وإثباتها في القرآن جاء بصيغة الفعل، وجاء بصيغة الاسم بالحصر: فصيغة الاسم مثل قول الله تعالى على لسان يعقوب ويوسف عليهما السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67] ، فيعقوب عليه السلام يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] ، ويوسف عليه السلام يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] ، وكذلك قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] . وبالفعل مثل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] ، ونحو هذا من الآيات التي فيها الإثبات بالفعل. والمقصود بالحكم الفصل، والفرق بينه وبين صفة القضاء: أن صفة القضاء يختلف إطلاقها باختلاف المخاطب، فمثلاً: قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، إن كان الخطاب لأمة الدعوة فقضى هنا بمعنى: أمر، وإن كان الخطاب لأمة الإجابة فقضى بمعنى: أوجب، فالقضاء المطلق هو بمعنى الأمر فقط الذي لا يشمل جزماً، وإن كان لأمة الإجابة الذين آمنوا وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فهو على سبيل الإيجاب والجزم. أما الحكم فلا يكون إلا جازماً، ولذلك فالقضاء قد يكون بالخطاب التكليفي الشرعي وقد يكون بالخطاب القدري، فإن الله يقضي بمعنى: يوجب، أو يحرم، فهذا هو قضاؤه التشريعي، أما قضاؤه القدري فمعناه: تنفيذ ما علم وأراد أن يقع في الأزل، فما أراده الله يقضيه، أي: ينفذه ويوقعه على وفق إرادته وعلمه. أما الحكم فكذلك يتعلق بالدنيا والآخرة: ففي الدنيا يطلق على الخطاب التشريعي، كقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] . وفي الآخرة يطلق على فصل الخصام يوم القيامة عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، فيختصم الناس إليه، وحينئذٍ يقام الخصام بين كل فريقين اخلتفا، فكل خلاف في الدنيا يُفصل في ذلك الوقت، ولذلك سمي ذلك اليوم يوم الفصل، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الله أكبر! أنا أول من يجثو بين يدي ربي يوم القيامة للخصام، حين أنزل الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19-21] ) ، وهؤلاء هم الذين كفروا من أهل المبارزة يوم بدر وهم: عتبة بن ربيعة. وشيبة بن ربيعة. والوليد بن عتبة بن ربيعة. والذين آمنوا الذين يخاصمونهم وهم الخصم الثاني هم: علي بن أبي طالب. وحمزة بن عبد المطلب. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. فيجثو الناس بين يدي الله سبحانه وتعالى للخصام، ولذلك قال الله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] ، فهذا هو الحكم الأخروي المذكور في قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:113] وكثير من الآيات فيها تعليق الحكم بيوم القيامة. ومثله قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] ، والمقصود: الحكم الأخروي، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ذكر وقعة الجمل يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] ، يقصد بذلك إحالة الحكم في مثل هذا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يفصل فيه وحده. وحكم الله سبحانه وتعالى بالحق دائماً؛ لأنه لا يقول إلا الحق، كما قال تعالى: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] ، ولذلك فإن الملائكة عليهم السلام إذا فزع عن قلوبهم قالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] ، فحكمه لا يكون إلا بالحق، وهذا الحق معناه: الحق المحض الذي ليس فيه جور ولا ظلم ولا تهافت ولا تناقض ولا اختلاف في وجه من الوجوه؛ فليس مثل حكم غيره، فالحاكم في الدنيا حاكم مخلوق حتى لو كان معصوماً فإنه يحكم وفق البينة ووفق ما يسمع، لكن قد لا يكون ذلك حقاً محضاً، ولهذا جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين اختصما عنده: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو ليدعه) . فالحاكم الدنيوي يقضي، ولكن قضاءه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما هو بحسب الظاهر فقط، أما حكم الله تعالى فهو الحق المحض الذي لا يمكن أن يقع فيه اختلاف ولا لبس، وهذا وجه الفرق بين صفة الله وصفة المخلوق، فالحكم يثبت للمخلوق ويثبت لله سبحانه وتعالى، لكن حكم الله بالحق دائماً، وحكم المخلوق الله أعلم به؛ فقد يوافق الحق وقد لا يوافقه، ولهذا قال: يحكم بالحق.

استفهام الله عز وجل

استفهام الله عز وجل وقوله: (يستفهم وهو أعلم) ، أي أن الله سبحانه وتعالى يستفهم، وهذا الاستفهام أنواع، فمنه: - استفهام تقريري، مثل قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] . - ومنه استفهام إنكاري، وكثيراً ما يقع في القرآن للرد على المشركين، فيأتي الاستفهام إنكارياً، ولكنه لا يقصد به الاستعلام؛ لأنه هو أعلم، ونظير ذلك الاستفهام من أجل الاستشهاد مثل حديث: (إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يرتفعون إلى ربهم، فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا عليها أشد حرصاً ولها أشد طلباً، فيقول: ومماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) . فهذا الاستفهام كله وهذه الأسئلة كلها لا يقصد بها زيادة علم، وإنما يقصد بها استشهاد الملائكة على ذلك، والملائكة يشهدون كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] ، فالملائكة يشهدون هذا، والله سبحانه وتعالى يسألهم لتثبت الشهادة عندهم بأنه استشهدهم على هذا. والاستفهام في اللغة معناه طلب الفهم، لكنه في الاصطلاح لا يقصد به ذلك، بل يقصد به السؤال مطلقاً. وأسئلة الله سبحانه وتعالى لخلقه بالاستفهام كثيرة، سواء كانت على وجه التشريع مثل سؤاله لموسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ، وهذا النوع من الاستفهام لا يدخل في الأنواع السابقة؛ فليس استفهاماً إنكارياً ولا تقريرياً ولا استشهادياً، وإنما يسمى استفهاماً تأنيسياً، فيؤنسه بهذا السؤال؛ لأنه يخاطبه ديان السماوات والأرض، وهو بشر فلو خاطبه بغير هذا الخطاب لأمكن أن ينشق شغاف قلبه من خشية الله، ولكنه أنسه فخاطبه بهذا الاستفهام العجيب فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ، وهنا أجاب موسى بهذا الجواب الذي فيه إطناب، وأراد بذلك التزود بتكليم الله سبحانه وتعالى له فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] ، وكان الجواب المطلوب على طبق سؤاله أن يقول: عصاً، فيكفي لو قال: عصاً، ولكنه انتهز فرصة تكريم الله له هذا التكريم العجيب، فأطال مدة الجواب، ولهذا قال: (يستفهم وهو أعلم) . وقد جاء في عدد من الأحاديث التي فيها سؤال الله تعالى للملائكة: (فيسألهم وهو أعلم) ، وهذا يدلنا على أن الاستفهام لا يقصد به الاستخبار ولا زيادة علم. والألفاظ الواردة في القرآن في الابتلاء والامتحان التي يأتي بعدها (ليعلم) ، فلا يقصد بها مزيد علم لله سبحانه وتعالى وإنما يقصد بها إيضاح ذلك للناس، وهو الخروج من حيز العلم الغيبي إلى علم الشهادة، مثل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ، ونحو هذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، ثم عقب الآية لينفي احتمال تجدد العلم فقال: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:28] فلا يمكن أن يزداد علمه بحصول ذلك.

نفي المعين والظهير والند والنظير عن الله عز وجل

نفي المعين والظهير والند والنظير عن الله عز وجل قال الناظم رحمه الله: [وما له معين أو ظهير وما له ند ولا نظير] قوله: (وما له معين أو ظهير) ، قد نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه الكفء في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وهذا نافٍ لأن يكون له معين من خلقه، فلا يمكن أن يستعين بأحد من خلقه؛ فهو القادر على ما يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه. وكذلك الظهير، فالظهير هو الذي يشد الظهر أو يساعد الإنسان على أن يحتاج به إلى قوة، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ذلك، وأما ما يوهم ذلك من الآيات مثل قوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51] ، فمفهوم هذا قد يتوهم منه بعض الناس أن غير المضلين يمكن أن يتخذوا عضداً، وليس الحال كذلك، بل المقصود أنه يقوي بهم الحق، فغير المضلين يجعلهم جنوداً للحق، وهو الذي يؤيدهم وينصرهم ولا يحتاج إلى نصرتهم، ولهذا قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] . ومثل هذا قوله حكاية عن موسى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] ، ومثل هذا قوله تعالى خطاباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنُّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:86-87] ، فكل هذا إنما المقصود به: نصرة الحق؛ إذ لا يحتاج الله سبحانه وتعالى إلى أحد من خلقه، لذلك قال: (وما له معين أو ظهير وما له ند ولا نظير) والعكس أيضاً: ليس له ند، والند هو المكافئ الذي يمكن أن يقاتل الإنسان أو يواجهه، فقد كان أهل الحرب قديماً يجعلون المباراة بين كل اثنين يتقاربان في الشجاعة والقوة، ويسمى أحدهما ند الآخر. وهكذا المباراة أيضاً، باراه بمعنى: سابقه، ومنه فلان يباري الريح، أي: يسابقها. ومنه النديد، فكل ذلك وارد: الند والنديد والقرن والقرين، فالنديد جاءت في شعر الأسود بن عبد يغوث في غزوة بدر في قوله: وما لأبي حكيمة من نديد أتبكي أن يضل لها بعير أي: لا يقارنه أحد، وأبو حكيمة هو زمعة بن الأسود؛ وقد قتل يوم بدر كافراً. وقوله: (وما له ند ولا نظير) ، كذلك نفى النظير، أي: الذي يمكن أن يواجهه أو يرد عليه أي شيء، أو يشاركه في أي شيء، فكل هذا مردود، ولهذا قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، وقال: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] ، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام في إثبات الوحدانية لله بدليل التمانع، فإنهم يقولون: لو أمكن تعدد الآلهة فإن الإلهين إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإن اختلفا فلابد أن يغلب أحدهما الآخر أو لا يغلبه، فإن لم يستطع أحد منهما التغلب على الآخر فهما عاجزان لا يتصفان بالألوهية، وإن غلب أحدهما الآخر فالمغلوب غير إله؛ لأنه غُلب، والغالب غير إله؛ لأنه كان يمكن أن يُغلب، وما جاز على المثل جاز على مماثله، وإن اتفقا فسيصنعان شيئاً، والعالم كله لابد أن يكون مصنوعاً للإله، فجواهر الأفراد وهي الذرات التي لا يمكن أن يشترك في صناعتها اثنان، وإذا صنعها واحد فقد استغنت عن الآخر، وكل جوهر فرد إذا صنعه أحدهما فقد استغنى عن الآخر، والمستغنى عنه غير إله، والآخر مثله؛ لأن ما جاز على المثل جاز على مماثله، فانتفى التعدد بالكلية، وأخذوا هذا الدليل من هذه الآية: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] .

حفظ السماوات والأرض لا يئود الله ومن فيهما لا يعجزونه

حفظ السماوات والأرض لا يئود الله ومن فيهما لا يعجزونه قال الناظم رحمه الله: [ولم يكن يئوده حفظ السما والأرض أو يعجزه من فيهما] كذلك من الصفات المنفية عن الله سبحانه وتعالى أنه لا يئوده -أي: يثقله- حفظ السماء والأرض، وقد جاء ذلك في آية الكرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] . وآده الشيء يئوده بمعنى: أثقله، كما قال الشاعر: جبل على جمل يكاد يئوده فتراه يمشي مشية المرحوض جبل، معناه: رجل ضخم. على جمل يكاد يئوده، معناه: يثقله. فتراه يمشي مشية المرحوض: أي المثقل. فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء من خلقه، فلا يئوده حفظ السماوات والأرض، كما قال: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] . وقوله: (أو يعجزه من فيهما) ، كذلك لا يعجزه أحد من خلقه، ولذلك فإن الجن قالوا هذا كما حكى الله عنهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] ، فهذا لا يمكن أن يقع أبداً. وأعجزه يعجزه معناه: انقطع دونه ولم يستطع الوصول إليه، وهو من العجز، والعجز معناه القصور دون الشيء أو الكسل عنه، وفعلها: عجَز يعجز عجزاً، وأما عجِز يعجز بالكسر في الماضي والفتح في المضارع فمعناها: كبرت عجيزته، أو صار عجوزاً، وفعلها: عجز، فالعجز معناه: ضخامة العجُز. و (من) في الأصل تطلق على العاقل وحده، لكنها تطلق عليه مع غيره لاختلاطه به أو اشتراكهما في العموم، وما في السماوات وما في الأرض فيهم العقلاء وغير العقلاء، فأطلقت لفظة (من) لتشمل كل ذلك. ومن في السماوات ومن في الأرض هذا يشمل أنواع المخلوقات، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى منها أربعة أصناف في العالم العلوي وأربعة أصناف في العالم السفلي، وذلك في سورة فصلت في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] ، وهذه قشرة الأرض. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:10-12] ، فالسماوات السبع تقابل الأراضين السبع، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12] ، وهذا يقابل قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] . وقوله: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] ، هذا يقابل قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10] . وقوله: {وَحِفْظًا} [فصلت:12] ، هذا يقابل قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:10] ، فهذه أربعة أنواع تقابلها أربعة. وبالإضافة إلى هذا فجنود الله تعالى لا حصر لها، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، وقد جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ فما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله أو راكع) ، هذا بالنسبة للسماء. وكذلك بالنسبة لكثرة جنود الله سبحانه وتعالى في الأرض من الملائكة والجن وغير ذلك من الجنود التي لا نعلمها، ومع هذا فجميع هؤلاء لا يخفي أحد منهم أحداً عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلتبس عليه كلامهم ولا خطابهم ولا وظائفهم ولا ما هم فيه، ولهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] ، فكل من في السماوات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه، أو قد علم هو صلاة نفسه وتسبيح نفسه فلم يعلمها غيره. فنحن لا نعلم تسبيح الحصى، ولا تسبيح البحار، ولا تسبيح الجبال، لكن الجبال تعرف تسبيحها والبحار تعرف تسبيحها وهكذا، ولهذا قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فنحن لا نعرف ذلك، ولكنها هي تعرف ذلك، وهو سبحانه وتعالى يعرف تسبيح كل ذلك لا يلتبس عليه.

نفي صفة الإعياء عن الله عز وجل وذكر بعض الأدلة على البعث

نفي صفة الإعياء عن الله عز وجل وذكر بعض الأدلة على البعث قال: [لم يعي بالخلق ابتداءً من عدم كذاك لا يعيا بإحياء الرمم] كذلك نفى الله عن نفسه صفة الإعياء، أي: التعب بخلق الخلق، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة (ق) : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] ، وهذا الاستفهام إنكاري معناه: لم نعي بالخلق، وهذا مثال للاستفهام الإنكاري الذي سبق، وكذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] ، وهذا دليل من أدلة البعث، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن البعث في سبعمائة وسبعة وستين آية، وأثبته بعدد من البراهين العقلية العجيبة، ومنها: الاستدلال بخلق الأكبر على خلق الأصغر، فالذي يخلق السماوات والأرض لا يعيا أن يخلق إنساناً. وهكذا الاستدلال بالنشأة السابقة على النشأة اللاحقة وبالنشأة الأولى على النشأة اللاحقة، فهذا الإنسان خلقه الله من عدم فهو الآن يمشي ويتكلم، وإذا صار تراباً أو رميماً فلا يعيي الله ولا يعجزه أن يعيده كما كان؛ لأنه قد خلقه قبل هذا. وكذلك الاستدلال بإخراج الضد من ضده، فإن المشركين كانوا يفتون العظام ويقولون: يزعم محمد أن ربه سيحيي هذا أو يعيده إنساناً بعد أن صار رميماً، والرميم عندهم ضد الحي تماماً. فالله يستدل على البعث بإخراجه للضد من ضده، ولذا أخبر أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومثل لذلك أيضاً بالنار، كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71-73] . وكذلك استدل على البعث أيضاً باختلاف حال الإنسان نفسه، فالإنسان في حياته يمر به كثير من الأحوال المتباينة، فما الفرق بين حاله في بعثه بعد الموت مع أحواله الأخرى؟! فإنه ينام ويوقظه الله، ويمرض ويبرئه الله ويشفيه، ويجوع ويطعمه الله ويسقيه، ويكون ضعيفاً ويقويه ثم يضعفه بعد قوة، ويكون شعره أسود ثم يعيده ذا شيبة، فهذه أحوال كلها بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، فلا يمكن أن يعجزه تغييره أحوال الإنسان من حال إلى حال. وترون هذه الأدلة كلها وزيادة عليها في خواتم سورة يس، في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس:77] ، وهذا إخراج الشيء من ضده، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ، وهذا تغير حاله وخلقه من نطفة إشارة إلى الأطوار التي يمر بها، وهي التسعة المذكورة في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12-16] . كذلك قال: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] * {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] * {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] ، وهذا الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة اللاحقة، {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، وهذا الاستدلال بعلم الله تعالى بجميع الكائنات حيث لا يفوته ذرة من الإنسان، كما قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] ، فلا يمكن أن يذهب منه شيء عن علم الله عز وجل. ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80] ، وهذا إخراج الشيء من ضده تماماً، {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس:80-81] وهذا استدلال بالأكبر على الأصغر {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] . ثم استدل بتمام قوته وقدرته وأنه لا يفعل بالعلاج كما يفعل المخلوق، فالمخلوق يعالج، والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه العلاج؛ لأن أمره إنما هو كن، فلا يستطيع شيء أن يمتنع عليه أين كان، والمخلوق إنما يعالج ويتعب؛ لأن كثيراً من الأشياء قد تغلبه وتمتنع عليه، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يمتنع عليه أي شيء أراده، ولهذا قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . وكذلك من الأدلة على البعث القسم، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] ، وقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، فهذا قسم على البعث، ومعناه: لتبعثن، وقد حذف المقسم عليه هنا لعلمه من المجادلة وسبب نزول الآية، ولهذا قال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فيفهم من الآيات أن المقسم عليه هو البعث، وأن المعنى: لتبعثن. فلهذا قال: (لم يعي بالخلق ابتداءً من عدم كذاك لا يعيا بإحياء الرمم) وهذا ضرب مثل، ولهذا قال الله تعالى في سورة الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم:27-28] ، فهذا مثل عجيب، فلذلك قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، أي: من ناحية تصورنا نحن، وإلا فالجميع يقول له: كن فيكون. وأهون هنا معناه: أقل إعجازاً له؛ لأن الشيء إذا عرف وخرج للوجود فابتكره مبتكر وأبدعه مبدع إذا حاكاه غيره وصوره على نفس التصميم السابق، فإن الثاني لا يلحق بالأول في الإبداع، بل الإبداع للأول الذي ابتكره، فلهذا كان الخلق الثاني أقل إعجازاً من الخلق الأول، فأنتم تعجبون من خلقه لكم وإنشائه لكم بعد الموت، فخلقه لكم من العدم في البداية أعظم وأعجب من إحيائكم بعد أن متم؛ لأن الخلق الأول أكبر معجزة وأغرب من الخلق الثاني والإحياء بعد الموت بكثير. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

سلسلة الأسماء والصفات [9]

سلسلة الأسماء والصفات [9] الكلام صفة كمال لله سبحانه وتعالى، والله تعالى تكلم بكلمات تشريعية وكلمات كونية، وكما أنه تعالى يتكلم فهو أيضاً يتصف بالسكوت، ولكنه سكوت عن علم فهو صفة كمال لله تعالى.

كلمات الله الشرعية والكونية

كلمات الله الشرعية والكونية يقول الشيخ حفظه الله: [ويتكلم متى شاء بما شاء. ] التكلم صفة كمال لله عز وجل، وكلامه تعالى شرعي وكوني.

ميزة الكلمات الشرعية

ميزة الكلمات الشرعية والكلمات الشرعية لها ميزات: الميزة الأولى: هي الاختيار لها، فإن الله سبحانه وتعالى يصطفي لهذه الكلمات من شاء من خلقه، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، في القراءة الأخرى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته) وهنا بحث دقيق وهو في تفسير قوله: (رسالته) و (رسالاته) ما الفرق بينهما؟ وA أن قوله (رسالته) هي الشريعة بكاملها، وقوله (رسالاته) هي الأحكام على كثرتها، فكل حكم رسالة بخصوصها، مثلما تكتب رسالة إلى شخص في أمر تريده ثم ترسل إليه رسالة أخرى، فكل ذلك يسمى رسالة وتجمع على رسائل، فكذلك نزول الملك بسورة أو بآيات يسمى رسالة، والشريعة بكاملها تسمى رسالة، فلهذا جمعت تارة وأفردت أخرى، وبهما قرئ في هذه الآية. وكذلك قوله تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالتِي وَبِكَلامِي) وفي القراءة الأخرى: {بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، فهذا باعتبار الأحكام المنزلة عليه. والاصطفاء المذكور أيضاً في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75] ، فهو اجتباء مخصوص، ولا يمكن أن يكون هذا لكل البشر، بل قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] . كذلك من مميزات هذا النوع من الكلمات -أي: الكلمات الشرعية- أنه محصور في الكتب المنزلة، وقد ختمت بالقرآن، فلا يمكن أن ينزل منه شيء بعد القرآن، وختم التشريع أيضاً ببعض القرآن وهو قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، فعلى هذا قد اكتملت الكلمات التشريعية، وما رضيه الله لخلقه من الشرائع قد أكمله عندما أنزل هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة في حجة الوداع. الميزة الثالثة: التفاوت في التشريع، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في الكلام على النسخ فتتنزل شريعة تصلح لمدة محددة ثم تنسخ بشريعة أخرى، ويبقى ذلك الكتاب غير صالح للتطبيق فيما بعد، ولكن يجب الإيمان به بأنه كتاب منزل من عند رب العالمين، والكتب التي تأتي بعده تأتي مصدقة لما فيه من الأخبار ملزمة للإيمان به، كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97] . الميزة الرابعة: أن هذه الكلمات محصورة العدد، فالقرآن -مثلاً- محصور العدد، حتى حروفه محصورة وكلماته محصورة وسوره محصورة وآياته محصورة، فسوره مائة وأربع عشرة سورة، وكلماته معروفة عددها، وحروفه معروف عددها، وذلك بخلاف ما سنذكره في الكلمات الكونية، وهذه الكلمات الشرعية يقع فيها التبديل والنسخ، فليست مقصودة بقوله: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34] ، بل هذه الكلمات يقع فيها التبديل كما قال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101] ، ومن هنا ترد دعوى النصارى التي يروجون لها اليوم في الكتب الخضراء التي طبعوها في أمريكا لترويج المسيحية والتي يقولون فيها: إن الإنجيل ثبت في القرآن أنه كلام الله، وثبت في القرآن أيضاً: أنه لا مبدل لكلمات الله، فلا يمكن أن يبدل ولا أن يغير، فكيف تزعمون أننا غيرنا فيه أو بدلنا؟ فيجاب: بالقول بعدم توارد الآيتين على محل واحد، فالإنجيل كلام الله من الكلمات التشريعية، والكلمات الكونية هي التي لا تبديل فيها؛ لقوله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34] . فالكلمات التشريعية تبدل حتى في القرآن؛ لقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101] .

ميزة الكلمات الكونية

ميزة الكلمات الكونية أما الكلمات الكونية فهي كلمات الفعل التي يخلق الله بها خلقه ويدبر بها أمره، وهذه تمتاز بأنها يخاطب بها كل شيء من خلق الله، ولا يجتبى لها ولا يختار، بل يخاطب بها المؤمن والكافر والشجر والحجر وغير ذلك فيقال للشيء (كن فيكون) . وهذه الكلمات تمتاز أيضاً بأنها لا حصر لها ولا يمكن أن تعد، كما دلت على ذلك الآيات: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي)) } [الكهف:109] معناه: الكلمات الكونية: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، ولا يقصد به هذا القرآن، فأنت تستطيع أن تكتبه بيدك ولا تنفذ أقلامك ولا مدادك، لكن المقصود الكلمات الكونية التي لا تنحصر. وهناك ميزة أخرى للكلام الكوني: وهو أنه مستمر لا انقطاع فيه، فهو الذي به تدبير الأمر كله في الدنيا والآخرة، وهذا الكلام نسب إلى الكوني بلفظة (كن) ؛ لأنه جاء فيه لفظ: (كن) ، في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ، ولقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فهي تكوينية، وليس معناها أنها منسوبة إلى الكون، بل هي منسوبة إلى (كن) التي هي فعل أمر التكوين، فبها يكون الله ما شاء من خلقه؛ ولهذا يخاطب بها العاقل وغير العاقل، ويخاطب بها الكافر والمؤمن. فالكلمات التشريعية يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، فالبر إذا جاءه أمر الله الصريح في القرآن: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] امتثل ذلك، والفاجر إذا جاءه هذا لم يمتثل. فإذاً: ليس فيها إجبار ولا إكراه، بل فيها تخيير {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ومعناه: أن الكلمات الشرعية هي تشريعات هذا التشريع، أما الكلمات الكونية فإنها تسيير لا محيد عنه، ولا يستطيع أي شيء أن يخالفه؛ فلذلك هي التي لا يتعداها بر ولا فاجر، فالبر إذا قيل له: مت، لا يستطيع أن يمتنع، والفاجر إذا قيل له: مت، لا يستطيع أن يمتنع، فالنفوس جميعاً بيد الله، وإذا قال: (كن) لا يستطيع شيء أن يتخلف ولا أن يتأخر ساعة ولا أن يتقدم: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .

الكلام صفة كمال لله تعالى

الكلام صفة كمال لله تعالى (والتكلم) : صفة كمال، ولهذا يعد كلام الله تعالى من صفات كماله، فهو مقتضٍ للكمال بنوعيه: الكلام الكوني والكلام التشريعي، فالكلام الكوني متضمن للكمال من جهة أنه لا يحتاج إلى معالجة ولا إلى أسباب، فهو الغني الحميد لا يحتاج إلى أي شيء من خلقه، أما المخلوق فإنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بمعالجة وتعب ونصب، والله سبحانه وتعالى يخلق الأشياء بقوله: (كن) فيكون، فلا يحتاج إلى أي معالجة؛ ولهذا كان الكلام هنا صفة كمال. كذلك الكلمات التشريعية صفة كمال؛ لأن بها الاختيار التفضيلي، وبها الامتحان للناس، وبها البيان وبها الإعجار والتحدي: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، فهذا كله يقتضي وصف الله سبحانه وتعالى بالتكلم. وهذا التكلم لا يحل البحث في كيفيته، ولكن يجب الإيمان بعظمته وجلاله؛ ولهذا لم يرد شيء في وصف التكلم إنما جاء في وصف الكلام، إلا آية واحدة من كتاب الله جاء بها ما يشعر بهيئة التكلم، وهي قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فبين هنا أن الملائكة عليهم السلام إذا تكلم الله عز وجل بشيء من أوامره تغشى قلوبهم ذلك؛ لجلال الله وعظمته وجلال كلامه، ففزعوا هذا الفزع الشديد، ثم يفزع عن قلوبهم أي: يزول عنها ما بها من الفزع. والتفزيع معناه إزالة الفزع، والمقصود به إعادة الطمأنينة ورجوع التفكير، ففي وقت الكلام لا يمكن أن يتدبروا ولا أن يتفهموا إجلالاً لله ولكلامه، فإذا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] وهذا يشعر بعظمة تكلم الله سبحانه وتعالى في الملائكة الذين وصفهم الله بالقوة والشدة: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ومع ذلك إذا تكلم الله سبحانه وتعالى وصلوا لهذا الحال، بحيث لا يفهمون ولا يستوعبون وإنما يقولون: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) ؟ وإنما يستوعب منهم من خصصه الله لذلك وهيأه له وهم المصطفون منهم في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [الحج:75] ، ولذلك يسألهم بقية الملائكة عما وجه إليهم: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] . وكذلك كتابة هذا الكلام الكوني أو التشريعي من صفات الكمال، فقد كتب الله الكلمات الكونية قبل خلق الخلق كلهم، فأمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فجرى بذلك: رفعت الأقلام وجفت الصحف، وجعل ذلك في صحف عنده فوق العرش. والكلمات التشريعية كذلك يكتبها، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وأنزل على إبراهيم صحفاً وعلى موسى صحفاً، وكذلك القرآن فإنه مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه وتعالى في وصف القرآن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] . وقد اختلفت القراءة في هذه الآية فجاء في بعض القراءات السبعية: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (فِي لَوْحٍ محفوظٌ) أي: قرآن مجيد محفوظ في لوح، وفي بعضها: (في لوح محفوظٍ) أي: أن اللوح نفسه هو المحفوظ، فاللوح حافظ ومحفوظ، محفوظ بأمر الله بحيث لا يمكن أن يطلع عليه إلا من اختاره الله لذلك، وحافظ لأنه يحفظ ما كتب فيه من القرآن المجيد، وقد اشتهر على الألسنة اللوح المحفوظ، مع أنه يمكن أن يوصف أيضاً بأنه حافظ، والعرب يقولون: كتاب حافظ، بمعنى: كتاب جامع، ويقولون: بنو فلان لا يحيط بهم كتاب حافظ، معناه: كتاب يجمع أسماءهم.

كلام الله صفة اختيارية

كلام الله صفة اختيارية والله سبحانه وتعالى يتكلم، وقد أثبت ذلك كما قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] ، وكلامه صفة من صفاته الاختيارية، وهذا معنى قوله: (متى شاء بما شاء كما شاء) ، فهو صفة اختيارية. ومعنى الصفة الاختيارية: الصفة المتكررة التي تتعلق بالمشيئة والإرادة، فكل صفة تعلقت بالمشيئة والإرادة وكانت متكررة فهي من الصفات الاختيارية، أما الصفات التي لم يرد تعليقها بالإرادة كالاستواء ونحوه فلا تعد من الصفات الاختيارية، بل هي من صفات الأفعال فقط، والصفات المعلقة بالإرادة هي مثل: الإحياء والإماتة والخلق والرزق وإنزال المطر وغير ذلك، فهذه كلها معلقة بالمشيئة. قال: (ويتكلم متى شاء) : معناه: في أي ساعة شاء، وفي أي وقت شاء، فالكلمات التشريعية قد تكلم بها في الوقت الذي شاء وأكمل تشريعه، والكلمات الكونية لا يزال يتكلم بما شاء منها (يتكلم متى شاء بما شاء) . [كما شاء] . معناه: أن كلامه التشريعي يأتي بلغات مختلفة على ما شاءه الله سبحانه وتعالى، فتارة ينزله بالعبرية وتارة بالعربية وغير ذلك، فيتكلم بأية لغة شاء، وينزل بها كلامه، وهذا معنى قوله: (كما شاء) . وأيضاً: فإن ذلك الكلام تارة يكون محكماً وتارة يكون متشابهاً، وكلٌ من عند الله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] ، فكل من عند ربنا، بمعنى أنه هو الذي شاء لهذا أن يكون مجملاً، وشاء لهذا أن يكون متشابهاً، لذلك قال: (كما شاء) .

الكلام الكوني لا ينفد

الكلام الكوني لا ينفد ثم تكلم على الكلام الكوني بعد الكلام التشريعي فقال: [لو أن الكلم مداده البحر بسبعة أمد وشجر الأرض قلام ما نفد] (لو ان) هذا بنقل الهمزة وهي قراءة ورش عن نافع في كل القرآن. (لو ان الكلم) ، معناه: لو أن الكلم وهو اسم جنس وواحدته: كلمة، والمقصود به: كلام الله الكوني. (مداده البحر بسبعة أمد) البحر المقصود به: ما يعرفه الناس من المحيطات والبحار والأنهار، فكلها يطلق عليها البحر؛ لأن (أل) التي فيها جنسية. (بسبعة أمد) معناه: بسبعة أبحر غير المعروفة، فهذه الأرض ما فيها كله بحر واحد، فهو المقصود هنا، واليبس من الأرض حوالي الربع فقط وكل البقية بحار، ومع ذلك فهذا البحر المعروف لدنيا، وهو ما في الدنيا من الماء كله، سواء كانت بحاراً أم محيطات أو أنهاراً أو بحيرات أو بحيرات جوفية؛ كل ذلك داخل في قوله: بحر، (لو أمد) هذا البحر بسبعة أبحر من مثله ما نفدت كلمات الله، وعدد السبعة كما ذكرناها من قبل له سر الله أعلم به، ولكن المقصود هنا المبالغة، أي: أنه لا يمكن أن يحتوي مخلوق أياً كان هذه الكلمات الكونية. (وشجر الأرض قلام) : كذلك لو أن شجر الأرض كله كان قلاماً، وقلام: جمع قلم، وأقلام أيضاً جمع قلم. (ما نفد) : أي: هذا الكلام، وهذا مأخوذ من الآيتين المذكورتين: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] وفي قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] .

صفة السكوت لله عز وجل

صفة السكوت لله عز وجل [ورحمة سكت عن أشياء من غير نسيان على ما جاء]

السكوت عن علم صفة كمال

السكوت عن علم صفة كمال صنيع الشيخ هنا أن الصفات المتقابلة من صفات الله سبحانه وتعالى يذكرها في حيز واحد؛ ليكون ذلك أسهل لفهمها واستيعابها، فعندما ذكر صفة الكلام ذكر الصفة التي تقابلها وهي صفة السكوت، وهي أيضاً صفة كمال؛ لأن السكوت يقتضي المعرفة بما يسكت عنه؛ ولذلك يقول عبد الله بن الزبعرى رضي الله عنه: فإن أحلف ببيت اللـ ـه لا أحلف على إثم ما من إخوة بين قصور الشام والردم كأمثال بني ريطـ ـة من عرب ومن عجم هشام وأبو عبد مناف مدره الخصم وذو الرمحين أشباك من القوة والحزم يكن القول في المجلس أو ينطق عن حكم فالسكوت إذا كان عن علم فهو صفة كمال، وهذه الصفة لم ترد في القرآن، ولكنها وردت في حديثين: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء، لكن معناه يشهد له قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة:101] ، وكذلك يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . والحديث الثاني: هو قوله صلى الله عليه وسلم: (وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) فهذا أيضاً شاهد للسابق في إثبات صفة السكوت، وكلا الحديثين يصل إلى درجة الحسن فيكون بذلك صحيحاً لغيره.

اختلاف الأمة فيما سكت عنه من رحمة الله بها

اختلاف الأمة فيما سكت عنه من رحمة الله بها وإثبات صفة السكوت أشار له الشيخ بقوله: (ورحمة سكت عن أشياء) فبين أن السكوت التشريعي إنما يكون على أساس علم ورحمة بعباده، فسكت عن أشياء لم يبين للناس الحكم فيها، وإنما أرجعهم فيها إلى تدبرهم وعقولهم واستنباطهم، وهذا من رحمته. ولذلك حصل الخلاف فيها، ومن هنا قال بعض أهل العلم: الخلاف في مسائل الاجتهاد فسحة، والمقصود بكونه فسحة ورحمة من عند الله سبحانه وتعالى: أن المسائل الاجتهادية لو كانت كلها منصوصة نصاً؛ لوقع الناس في حرج، ومن هنا قال الشعراني في كتابه الميزان: إن الاختلافات الفقهية كلها خلافات صورية لا خلافات حقيقية؛ وذلك أن للشريعة حدين، أحدهما: حد العزيمة، والثاني: حد الرخص، وما بينهما متسع، فإذا وجدت مسألة اختلف فيها العلماء فقال بعضهم بإباحتها وقال طائفة أخرى بتحريمها، فاعلم أن الذي قال بالإباحة نزع إلى جهة الرخصة وأن الذي قال بالتحريم نزع إلى جهة العزيمة، وبهذا تكون الشريعة أصلاً واحدة، لكن مشارب الناس فيها وأفهامهم مختلفة. ومن هنا فإن من اضطر للأخذ بقول من مسائل الخلاف فمن فقهه أن يأخذ بالأيسر، فإذا وقع الإنسان في ضائقة ومشكلة ووجد خلافاً بين أهل العلم في مسألة معينة -ولم يكن ذلك اتباعاً للهوى- فاختلافهم هنا رحمة بالنسبة إليه ليأخذ بالألطف والأرفق، وهذه المسألة بحثها الأصوليون كثيراً ولم تزل محتاجة إلى زيادة بحث.

العمل بالضعيف وشروطه

العمل بالضعيف وشروطه كما يحتاج الناس إلى البحث فيها حتى في معادلة الأقوال، فإن الأصوليين يبحثون فيها في العمل بالضعيف فقط، يقول سيدي عبد الله بن الحافظ إبراهيم في مراقي السعود: وذكر ما ضعف ليس للعمل إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل بل للترقي في مدارج السنا ويعرف المدرك من به اعتنى وكونه يلجي إليه الضرر إن لم يكن يشتد فيه الخور وثبت العزو وقد تحقق ضر من الضر به تعلق وهنا يقول: إن العلماء ذكروا الأقوال الضعيفة في كتبهم، وذكروا الأحاديث الضعيفة في كتبهم، وذلك ليس للعمل، فلم يذكروها ليعمل بها أساساً، (إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل) بل قد اتفقوا على أن العمل بالراجح واجب لا راجح، (بل للترقي في مدارج السنا) أي: بل ذكروها للترقي، ومعناه زيادة رفع الدرجات، (في مدارج السنا) في حصر العلم وجمعه، والسناء: الرفعة، أي: لتعلم كل ما قيل في الأمر، فيتقوى لديك الحق وتعرف أدلته وما نوقش فيه (ويعرف المدرك من به اعتنى) أي: وأيضاً ليعرف مدارك الناس فمن كان صاحب عناية بذلك فإنه يعرف واضح الدلالة من خفيها، وقطعي الدلالة من ظنيها. (وكونه يلجي إليه الضرر) أي: وأيضاً لكون الضعيف قد تلجئ الضرورة للعمل به، لكن بشروط وهي: الشرط الأول: (إن لم يكن يشتد فيه الخور) أي: إن لم يكن يشتد فيه الضعف، فإذا كان الحديث موضوعاً أو ضعيفاً جداً لا ينجبر، فهذا لا يعمل به، وكذلك القول إذا كان قولاً ضعيفاً جداً فإنه لا يعمل به؛ ولذلك قال: (إن لم يكن يشد فيه الخور) . والشرط الثاني: (وثبت العزو) ، أي: لابد أن يثبت عزوه أيضاً لمن قال به من أهل العلم إذا كان قولاً مثلاً. والشرط الثالث: (وقد تحقق ضر من الضر به تعلق) أي: أن يتحقق أن الضرورة قد نزلت، (ومثل الضرورة الحاجة الكلية) والحاجة الكلية تنزل منزلة الضرورة، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية: أن الحاجة الكلية أي: العامة تنزل منزلة الضرورة فيستباح بها بعض المحظورات، والضرورات تبيح المحظورات؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وإن الله سبحانه وتعالى يذكر دائماً بعد آيات التحريم الضرورة، فمثلاً في الأطعمة في سورة المائدة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] ، وهكذا بعد كل استقطاع وعد للمحرمات يأتي ذكر الضرورة كقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] .

ذكر الاختلاف المذموم

ذكر الاختلاف المذموم (ورحمة سكت عن أشياء) هذا اللفظ هو الذي جاء في الحديث، فالمقصود بـ (أشياء) هنا: ما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والورود، فيصبح محلاً للاجتهاد قابلاً للاختلاف فيه، والاختلاف أصله مذموم، ولكنه في مثل هذا الموطن محمود، فأصل الاختلاف عموماً مذموم؛ ولذلك جعله الله تعالى نوعاً من أنواع العذاب وجعله منافياً للرحمة، فجعله نوعاً من أنواع العذاب في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] ، وجعله منافياً للرحمة في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] ، وفسر به الشرك في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30-32] . وتوعد الله عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] ، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45-46] ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاختلاف كثيراً، وبالغ في التحذير منه حتى سمى القتال فيه كفراً، والمقصود بذلك أنه: كفر دون كفر كما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فالمقصود بهذا: كفر دون كفر. والتحذير من الاختلاف عموماً ورد في النصوص بكثرة؛ لكن الخلاف في المسائل الاجتهادية فسحة ورحمة، والله سكت عنها رحمة، وكان قادراً على أن يجزم بها بالتشريع بالنص، ولكنه سكت عنها رحمة بعباده وتوسعة عليهم. (من غير نسيان) ، فالسكوت لابد معه من التنزيه، فإنه لا يسكت عن جهل كما يحصل لنا نحن، فنحن نسكت إذا جهلنا، فالله سبحانه وتعالى متصف بالعلم الكامل الذي لا يعروه قصور؛ فلذلك لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم ولا يمكن أن ينسى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] فلذلك قال: (من غير نسيان) ، فالنسيان مستحيل عليه: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه صفة جاءت عرضاً في تقرير الصفة المثبتة فحين أثبت صفة السكوت جاء في تقريرها عرضاً الصفة المنفية التي هي النسيان، فالنسيان صفة منفية عن الله سبحانه وتعالى. (على ما جاء) يشير بهذا إلى أن الحديثين الواردين في صفة السكوت فيهما كلام من ناحية الصناعة الحديثية، لكنه ثبت معناهما فلا ضرر في ذلك الكلام حينئذٍ، لهذا قال: (على ما جاء) أي: على ما ورد، وهذا يشير فيه إلى الكلام فيهما، فليست هذه الكلمة تسليماً كما يمكن أن يتفهمه من كان من أهل الاستعجال، بل قصد بها التنبيه على ذلك.

سلسلة الأسماء والصفات [10]

سلسلة الأسماء والصفات [10] الله تعالى محيط بخلقه علماً وقهراً، وحيثما توجهوا إليه أقبل عليهم، فلذلك ينبغي أن يراقب المرء ربه، ويمتثل شرعه وأمره.

ذكر صفات الإحاطة والصورة والوجه

ذكر صفات الإحاطة والصورة والوجه

إثبات إحاطة الله بخلقه

إثبات إحاطة الله بخلقه يقول الشيخ: [أحاط بالناس وأينما يول مستقبل فثم وجه الله جل] هذه صفة أخرى وهي صفة الإحاطة، وهذه الصفة عبارة عن صفتين: الصفة الأولى: صفة الإحاطة بمعنى كمال العلم والإدراك، وهذه هي معنى المعية العامة. والصفة الثانية: بمعنى القهر والجبروت، وهذه الإحاطة التي بمعنى القهر تنقسم إلى قسمين: ناجز ومتأخر. فالناجز منها: هو أخذ الله الوبيل الذي يأخذ به المكذبين، فأخذه الوبيل الذي يأخذهم به هو من إحاطته بمعنى قهره وجبروته، فهو قهر ناجز. وأما المتأخر فهو أخذهم يوم القيامة. ففي قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:43-45] هذا كله من الناجز، ثم قال: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] فهذا هو المتأخر، والناجز مقتضٍ للمتأخر، فإذا جاء أخذه الشديد فأهلك قوماً في الدنيا بكفرهم، فذلك متضمن لعذابهم يوم القيامة؛ لأن من مات على الكفر فلابد أن يعذب يوم القيامة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60] والإحاطة في هذه الآية المقصود بها: القهر الناجز؛ لأن ذلك نزل في أصحاب بدر فقد أحاط الله بهم فساقهم إلى حتوفهم، وقدمهم إلى تعجيل العذاب لهم نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أماكن مصارعهم، فجعل يضع يده في مكان ويقول: (هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان) . فهذا هو تجلي الإحاطة الناجزة بالعباد: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) ، لكن الناس هنا لها وجهان: فإما أن يكون المقصود بها الناس عموماً، أي جميع الخلائق من البشر، فهذا إحاطة قهر، فهو سبحانه وتعالى غالب على أمر الجميع، وإما أن يكون المقصود بالناس المهلكين منهم بالخصوص، فتكون الآية مثلاً نازلة في أصحاب بدر وتختص بأهل القليب، ويكون هذا من العام المراد به الخصوص. والعام ثلاثة أقسام: عام باقٍ على عمومه، وعام مخصوص، وعام مراد به الخصوص، والفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص: أن العام المخصوص يأتي أولاً عاماً ثم يخصص بعد ذلك، والعام المراد به الخصوص ينزل أول ما ينزل على أن معناه الخصوص، ولفظ (الناس) يأتي في القرآن على الوجهين، فمن العام الباقي على عمومه قول الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة:21] ، قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1] . ومن العام المراد به الخصوص قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، هذا كله من العام المراد به الخصوص.

إثبات صفة الإقبال والوجه لله جل وعلا

إثبات صفة الإقبال والوجه لله جل وعلا قوله: (وأينما يول مستقبل فثم وجه الله جل) هذا مأخوذ من آية البقرة، وهو متضمن لصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى: فالصفة الأولى: صفة الإقبال، فالله سبحانه وتعالى يقبل على عبده إذا أطاعه بالعبادة. والصفة الثانية: إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ، فهاتان الجهتان مملوكتان لله سبحانه وتعالى، فليس التوجه إلى إحداهما تعظيماً لتلك الجهة، بل هي مملوكة لله سبحانه وتعالى، وإنما يتوجه الإنسان حيث أمر فقط، فإذا أمره الله بالتوجه إلى أي جهة توجه إليها. والمشرق معناه مكان شروق الشمس، والمغرب معناه مكان غروبها، وقد جاء في القرآن لفظ المشرق والمغرب بالإفراد كما هنا: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، وجاء بالتثنية كما في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] ، وجاء بالجمع كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40] . ومعنى الإفراد: الجنس أي: جنس المشرق، فيشمل جهات الشروق كلها. وجنس المغرب في جهة الغروب فيشمل أماكن الغروب كلها، والمقصود بالمشرقين والمغربين: مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ومغرب الشتاء ومغرب الصيف؛ لأنهما الطرفان، وخطوط العرض ثلاثة؛ ولذلك تسمى المشارق والمغارب، فالمشارق باعتبار الخطوط الثلاثة: مدار السرطان وخط الاستواء ومدار الجدي، وعليها أيضاً المغارب فهي ثلاثة، ولذلك قال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ومع هذا ذكر الطرفين فقط في قوله: (رب المشرقين ورب المغربين) ، فالمشرقان المقصود بهما الطرفان، وجعل ما بينهما وسطاً فهو مندرج فيهما، والوسط إذا اندرج أمكن إسقاطه لذكر الحدين، وكذلك يقال في المغربين. وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115] ، معناها: إلى أي اتجاه أقبلتم (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فإن أطعتم فإن الله سبحانه وتعالى يقبل على من أطاعه، وإن كان توليكم معصية فإن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن عصاه، ومن هنا لا يمكن أن يعجزه أحد من خلقه، بل لا يمكن أن يتصرف أي تصرف إلا وهو محيط به، هذا معناها من الناحية العقدية. لكن اختلف في معناها من الناحية الفقهية، فقالت طائفة من أهل العلم: إنما نزلت هذه الآية في القبلة أول ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقد كان بمكة يصلي قبل الركن اليماني فيستقبل البيت ويستقبل الشام معاً، فلما اتجه إلى المدينة اختلفا عليه، فكان الشام قبل الشمال والبيت جهة الجنوب، فتحير بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فكان في ذاك تخييراً للقبلة، ثم نسخ هذا بتعيين البيت في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] . وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بها: قبلة السائر الراكب في النافلة فإنه يصلي إلى أي اتجاه كان، وعلى هذا تكون محكمة غير منسوخة، والإحكام أولى من النسخ، وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة بناء على هذا الخلاف في تفسيرها. ووجه الله يطلق على ثلاثة معان: فالإطلاق الأول: بمعنى ذات الله سبحانه وتعالى، أي نفس الله سبحانه وتعالى، فيشمل نفسه وجميع صفاته، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] والمقصود: بقاء ذاته سبحانه وتعالى: والإطلاق الثاني: بمعنى السبيل فوجه الله بمعنى سبيله، والعرب يقولون: جاء فلان من هذا الوجه أو خرج في هذا الوجه أي: في هذا السبيل، وعلى هذا قولك: تصدق فلان لوجه الله، أي: في سبيل الله، وما أخرج لوجه الله معناه: في سبيل الله. والإطلاق الثالث: بمعنى الصفة المخصوصة وهي المقصودة هنا، فهو إثبات صفة الوجه، وهي من الصفات التي سبق الكلام فيها والإشكال الذي جاء فيها، وذكرنا الحل ذكره ابن القيم والحل الذي ذكره ابن حجر، فالوجه صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى يجب الإيمان بها، ويجب مع ذلك الإيمان بأن وجهه لا يشبه وجوه المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وتنطبق على هذه الصفة القاعدتان السابقتان: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات.

الكلام على الصورة في حق الله عز وجل

الكلام على الصورة في حق الله عز وجل أما بالنسبة للصورة فلم يذكرها الشيخ هنا، وقد جاء فيها عدد من الأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) وهذا الحديث الراجح فيه أنه ليس من أحاديث الصفات أصلاً، وأن الضمير في قوله: (فإن الله خلق آدم على صورته) يعود على الأخ، أي: صورة أخيك هذا، فإذا كنت تحترم أباك آدم فاعلم أن وجه أخيك هذا قد خلق على صورة وجه آدم، فعظمه واحترمه أن تلطمه وتضربه على وجهه؛ ولهذا فاحترام الوجه مطلوب حتى في حق الكفرة، فإن الله سبحانه وتعالى عندما علم الملائكة القتال، قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] وهذا يقتضي اتقاء الوجه في الضرب. والأحاديث الأخرى فيها التصريح بالصورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) وفي رواية: (على صورة الرحمن) فاختلف العلماء في معناه: فقالت طائفة: المقصود بها الصورة التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى، فإن أكمل صورة عند الله سبحانه وتعالى هي الصورة التي خلق عليها آدم، وعلى هذا لا تكون الصورة صفة من صفات الله وإنما المقصود بها الاختيار، فصورة الرحمن معناها: الصورة التي هي أفضل الصور عنده وهي التي خلق عليها آدم. القول الثاني: أن الصورة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ تكون من الصفات المشكلات التي يجب الإيمان بها ولا يحل البحث في كيفيتها، وليس معناها أن آدم بينه وبين الله تعالى تشابه، بل المقصود أنه خلق سميعاً بصيراً متكلماً، وهذه صفة الله سبحانه وتعالى فإنه سميع بصير متكلم، وآدم كذلك. وأما الصورة التي جاءت في حديث يوم القيامة: (أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين في صورة ينكرونها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست ربنا، ثم يتجلى لهم في أحسن صورة فيعرفونه فيكشف عن ساقه فيخرون له سجداً) ، فالصورة حينئذٍ المقصود بها ما يريهم الله سبحانه وتعالى. فالصورة الأولى ليست ذات الله سبحانه وتعالى قطعاً؛ لأنهم لم يعرفوه بها. والصورة الثانية كذلك؛ لأنها بدل عن الأولى، فليس المقصود أن ذلك نظر إلى ذاته سبحانه وتعالى، وأن ذاته يجوز إطلاق الصورة عليها بدلالة هذا الحديث؛ لأن هذا الحديث فيه أنهم يرونه في صورته فيقولون: لست ربنا فيأتيهم في صورة أخرى، فهذا دليل على أنه ليس المقصود بذاته؛ لأنه لا تعروه الحوادث والآفات، ولا يمكن أن يحصل عليه تغير؛ لأن التغير منافٍ للخلود، ولكن المقصود ما يتجلى لهم.

الكلام على حجاب الله تعالى

الكلام على حجاب الله تعالى والحجاب ليس على الله سبحانه وتعالى فهو غير محجوب ولا يمكن أن يحجب أصلاً، بل الحجاب على الناس؛ ولهذا قال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فالناس هم المحجوبون، فيكشف الحجاب عن الناس فيتجلى لهم ببعض صفاته أو بالكمال الذي فيه فيعرفونه. وهذا الحجاب أنواع: منه حجاب النور، وهذا في حق المقربين والمصطفين، والحجاب الآخر: هو الحجاب الكوني في حق من سواهم؛ ولهذا قال: (لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهما) السبحات: هي أنوار وجهه، وقال: (رداؤه الكبرياء) وهذا معناه: اتصافه بصفة الكبرياء سبحانه وتعالى وتجليه بها، وحظره بأن يتصف بها من سواه، وهذا تشريف لصفة الكبرياء؛ لأن الله جعلها رداء نفسه فهي صفة عظيمة جداً محظورة على الخلائق، فهي صفة كمال لله، ولو حاول البشر الاتصاف بها كانت صفة نقص فيهم، وهي مذمومة ولا يجوز أن يتصفوا بها أصلاً. فإذا قيل: كل صفة كمال اتصف بها المخلوق فالله سبحانه وتعالى أولى بالاتصاف بها، وأن كل صفة نقص هي عيب في المخلوق فالله سبحانه وتعالى منزه عنها من باب الأولى. فما يقال في صفة الكبرياء؟! فالجواب عن هذا: أن صفة الكبرياء بالنسبة للمخلوق في أصل التصور البشري هي صفة كمال وليست صفة نقص، ولهذا يتصف بها الملوك والجبابرة والكبراء، ولكنها صفة نقص شرعاً، فلو لم ينزل الشرع بتحريمها لكان الناس يتنافسون فيها؛ لأنها من المظاهر التي تميل إليها الطباع، وأيضاً فإن هذه القاعدة محلها فيما لم ترد فيه النصوص، أما ما وردت فيه النصوص فالله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه.

الأسئلة

الأسئلة

لا يفهم من قول الله: (قبل أن تنفد كلمات ربي) أن كلمات الله تنفد

لا يفهم من قول الله: (قبل أن تنفد كلمات ربي) أن كلمات الله تنفد Q قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، وفي قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] . قد يفهم من ظاهر الآية أن كلمات الله تنفد بدليل قوله: (قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) ، فما الجواب عن ذلك؟ A لا يقصد بهذا أنها تنفد أبداً، بل هذا من الغايات التي لا حصر لها، فلن ينفد البحر أصلاً بالكتابة، فإذا كان الشيء يعلق على مستحيل فإنه مستحيل، فنفاد كلمات الله علق على أمر مستحيل، فالبحر لن ينفد وتنفد سبعة أبحر تمده من بعده، فالذي علق عليه أبلغ منه استحالة وأشد بعداً؛ ولهذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) ، لا يقتضي إثبات الملل لله سبحانه وتعالى، بل يقتضي نفي الملل؛ لأن معناه: لا يمل وأنتم تملون معناه: حين تملون، و (حتى) هنا بمعنى (حين) وهذا معروف في لغة العرب ومنه قول الشنفرى: صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا معناه: لا يمل الشر حين يملونه.

البحث في كيفيات صفات الملائكة إذا تعلقت به فائدة لا حرج فيه

البحث في كيفيات صفات الملائكة إذا تعلقت به فائدة لا حرج فيه Q النهي عن البحث في الكيفيات، هل يتعلق أيضاً بالملائكة كتكليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، هل يجوز البحث في كيفيته أم لا؟ A المخلوق مطلقاً البحث في كيفيته إذا كان مما يتعلق به فائدة للإنسان لا حرج فيه شرعاً؛ فلذلك البحث في كلام جبريل وعن نزول الوحي لا حرج فيه، ولهذا سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفيته، ولو كان مما لا ينبغي السؤال عن كيفيته لما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل على السؤال عنه، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الكيفية، فذكر أنه أحياناً يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، فلا يرى ملكاً ولا يستطيع أن يستوعب الكلام في ذلك الوقت، بل يسمع مثل صوت السلسلة الثقيلة على الحجر الصلب؛ ولهذا فإن من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده ونزل عليه الوحي على هذه الصورة يسمعون مثل أزيز النحل، كما كان عمر يسمعه، فيعرف أن هذا هو الوحي قد نزل ذاك الوقت، وهذا مما يمكن تفاوت الناس فيه بتفاوت قوتهم الروحانية، فمن كان ضعيف الروحانية لا يمكن أن يحس بشيء من هذا أصلاً، ومن كانت روحانيته قوية فإنه يمكن أن يسمع مثل أزيز النحل كما حصل لـ عمر، ومن قوى الله روحانيته بأكثر من هذا كرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه مثل صلصلة الجرس، وتفاوت الناس في السماع إنما هو بتفاوت قوة الروحانية؛ لأن الملائكة من عالم الأرواح. وهذه الهيئة بين فيها الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليست في كل القرآن، بل يأتيه الوحي أيضاً عن طريق الملك فيكلمه فيعي عنه ما يقول، ولم يرد أنه ألقى إليه كلاماً من القرآن بحضرة أحد، بل كان يأتيه بصورة الملك فيكلمه ويسمع الناس التناجي بينهما، سولكن لا يسمعون شيئاً مما قال الملك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه به خشية أن ينساه، حتى أنزل الله عليه هذه الآية: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19] ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرق وقت نزول الوحي بصورة الملك، فإذا انطلق الملك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان، فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل.

مصطلح الروحانية مستعمل عند المتقدمين

مصطلح الروحانية مستعمل عند المتقدمين Q مصطلح الروحانية، هل هو سائغ لغة؟ وهل يستعمله المتقدمون؟ A نعم؛ لأن الروحانية اسم مصدر صناعي من الروح، والمقصود به قوة الروح وملكاتها المختلفة، ويستعمله المتقدمون كثيراً، وبالأخص الذي يتكلمون في هذا الفن.

كتابة كلمات الله الكونية غير محدثة بل هي أزلية

كتابة كلمات الله الكونية غير محدثة بل هي أزلية Q هنا يرد إشكال فيما يتعلق بكتابة الله سبحانه وتعالى للكلمات الكونية، مع أنها غير محصورة؟ وA أن كتابة الله لها في الأزل كتابة غير محدثة، والكتابة المحدثة هي المنتهية، أما القديم فإنه لا يقتضي فناءً ولا انحصاراً، فتلك الكتابة ليست محدثة أصلاً حتى يقال: إنه قد كتب وحصر، بل تلك الكتابة أزلية قبل الكون كله، فلا تقتضي انحصاراً ولا نفاداً. وأيضاً: فإن كتابته لا تقتضي أن الله قد تكلم به من قبل في ذلك الوقت، بل المقصود أنه كتب كل ما أراد أن يتكلم به في المستقبل، ثم يتكلم في أي وقت بما شاء أن يقع فيه.

نزول بعض الملائكة غير جبريل ببعض الآيات إنما هو للتشييع فقط

نزول بعض الملائكة غير جبريل ببعض الآيات إنما هو للتشييع فقط Q ورد أن بعض الآيات من القرآن نزل بها غير جبريل من الملائكة، مع أن الله قد استأمن جبريل على الوحي، فكيف يكون الجمع؟ A أن ما ورد في بعض الآيات من نزول غير جبريل من الملائكة بها فذلك إنما يكون تشييعاً فقط، وجبريل قد نزل ونزل معه غيره كما ورد في سورة الأنعام، وهي أطول سورة مكية نزلت دفعة واحدة على قول، وكانت السور المكية قصاراً، فجاءت سورة الأنعام طويلة فنزل معها عدد كبير من الملائكة، وقد ورد أن خواتم سورة البقرة نزل بها رضوان خازن الجنة، لكن ذلك لا يقتضي انفراده بالنزول، والقرآن كله نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو جاء معه ملك آخر بالبشارة فلا يخطر بذلك أن جبريل غير مؤتمن عليه، بل الملك الآخر للتشييع فقط ولتعظيم الشيء الذي نزل معه، والآية صريحة في أن كل القرآن نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فنزول رضوان مع خواتيم سورة البقرة إنما كان لتشييعها؛ وذلك لأنه لا يقرأ منها جملة إلا أوتيها، فقد كانت تشريفاً عظيماً.

تكليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج نوع من أنواع الوحي

تكليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج نوع من أنواع الوحي Q عن تكليم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؟ ف A أن هذا نوع من أنواع الوحي، وقد أوصل العلماء أنواع الوحي إلى اثني عشر نوعاً باختلاف الوارد فيه، فمنها الثلاثة المذكورة في سورة الشورى: فالنوع الأول: هو المذكور في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] ، والمقصود بالوحي رؤيا النوم، معناه: أن يرى ذلك في النوم، ومنامات الأنبياء وحي كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنوع الثاني: هو المذكور في قوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] ، وهذا مثل تكليمه لموسى، وتكليمه لمحمد صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كلمه الله من وراء حجاب وافترض عليه الصلوات الخمس، وشرفه بغير ذلك من أنواع التكليف، وهذه ميزة للنبي صلى الله عليه وسلم وتفضل عليه، فموسى كلم في الأرض بسيناء، والرسول صلى الله عليه وسلم كلم فوق سبع سماوات، وكلاهما كليم الله. النوع الثالث: هو المذكور في قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] ، وفي القراءة الأخرى: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، ومعنى ذلك في قراءة الرفع: أن هذا نوع مستقل، فالنوعان السابقان بينهما ما يجمعهما، وهذا النوع مستقل؛ لأنه بواسطة الملك، وأما قراءة النصب فتجعل هذا نوعاً آخر من حيث أن أنواعه كلها مترابطة. والفرق هنا بين الرفع والنصب دقيق: فقراءة الرفع: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) المقصود بها: أن الوحي سيكون على نوعين فقط: النوع الأول بالمباشرة والنوع الثاني بالواسطة -أي: بواسطة الملك- وإذا نصبت فقلت: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) فالمقصود بذلك حصر بالأنواع المختلفة وترابطها جميعاً، وغير هذا من الأنواع مثلما جاء في حديث الحارث بن هشام وغيره. فإذاً: أنواع الوحي متعددة، وصوره وطرائقه مختلفة، وجبريل إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بأي صورة كان، ولم يلتبس عليه إلا مرة واحدة حين سأله عن الدين ولم يعرفه فيها حتى انطلق وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنه لم يعرفه، وقال: (ردوا علي الأعرابي) وفي رواية: (ردوا علي الرسول، فطلبوه ولم يجدوا شيئاً، فقال: إنه لجبريل، وإنه لم يأتني قط بصورة إلا عرفته إلا ما كان من هذه المرة) .

الخلائق التي كلمها الله عز وجل

الخلائق التي كلمها الله عز وجل Q ما هي الخلائق التي كلمها الله عز وجل؟ A أما الخلائق التي كلمها الله سبحانه وتعالى: فمنها ما جاء في القرآن من تكليم السماوات والأرض، ومن الوحي إلى النحل، وجاء في الحديث بعض التكليم لبعض الأشياء بعينها مثل القرية في قوله: (وأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي) ، وتكليم الجبال كذلك، لكن كل هذا من الكلمات الكونية، فليس في هذا التكليم تشريف بخصوصه، وإنما يكون الاجتباء بالكلمات التشريعية. وبالنسبة لتكليمه لآدم عليه السلام ولجميع الرسل فهو في اليقظة: وحياً من وراء حجاب، وفي المنام مباشرة، ومنه ما كان بواسطة الملك.

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المطر: (إنه حديث عهد بربه)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المطر: (إنه حديث عهد بربه) Q في حديث نزول المطر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فيه: (إنه حديث عهد بربه) فما المقصود بذلك، مع أنه إنما ينزل من مكان قريب؟ A أن المقصود به أن الله سبحانه وتعالى نزله من مكان لعبادته لا يعصى فيه إلى هذه الأرض التي هي مكان المعصية، فكان هذا الماء مباركاً، والله سبحانه وتعالى باركه في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق:9] وليس المقصود أن المطر منزل من ذات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من خزائن رزقه وهي في السماء كما في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] والسماء المقصود بها العلو مطلقاً فكل ما علاك فهو سماؤك، وقد جاء هذا في قول الشاعر: إذا ما استحمت أرضه من سمائه جرى وهو مودوع وواعد مصدق فالشاعر يصف فرساً يجري فيقول: (إذا ما استحمت أرضه من سمائه) أي: انصبغ بطنه من عرق ظهره، فسمى البطن أرضاً وسمى الظهر سماء، (جرى وهو مودوع) أي: متروك دون أن يحرك ودون أن يهمز، (وواعد مصدق) معناه: ما وعد به من السبق على غيره من الخيول لابد أن يصدق فيه.

كلام الله لإبليس كان من الوحي

كلام الله لإبليس كان من الوحي Q ما هو تكليم الله لإبليس؟ A أما بالنسبة لتكليم الله تعالى لإبليس عليه لعنة الله فيما جرى بينهما، فيبدو أنه أيضاً كان من الوحي، وأنه ليس بالمباشرة وإنما عن طريق الملك، فقد كان إبليس يدخل في عموم خطاب الملائكة، فحين أمر الملائكة بالسجود لآدم كان هو مأموراً معهم، ولكنه امتنع فكان سؤاله لربه وجوابه له وتعهده له بالبقاء. وكذلك الكلام مع فرعون: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:90-92] فهذا ليس كلاماً لفرعون، بل لم يكلمه الله وإنما أخبر عن هذا فقط، ولهذا لم يقل: (قال) وإنما قال: (أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ) (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) فلم يقل: فقال له، وإنما هو توعد من الله سبحانه وتعالى ولم يكلمه به.

كيفية خلق إبليس من نار

كيفية خلق إبليس من نار Q كيف خلق إبليس من نار؟ A وبالنسبة لخلق إبليس فقد جاء أنه خلقه من نار، ولكن لا ندري كيف خلق من نار، بل هو خلق منها وسيعود إليها نسأل الله السلامة والعافية، فخلق من مارج من نار، أي: اقتطعت قطعة من النار وصور منها إبليس، ولهذا فإن معنى مارج من نار: أي: قطعة مشتعلة من النار خلق منها إبليس وذريته. وأما في حجمه فلم يرد شيء، لكن ورد أنه يتعاظم في بعض الأحيان وينتفخ، وأنه يتصاغر في أحيان أخرى، ويبدو أن الجن أيضاً كلهم هكذا، فلهم ملكة التشكل بأشكال مختلفة، وبعضهم أعظم أجساماً من بعض، وبعضهم يسهل عليه التشكل في صور عظيمة وبعضهم ليس كذلك. واختلف في ذرية إبليس هل خلقوا أيضاً من نار أم لا؟ والراجح أنه هو خلق من النار أما ذريته فإنهم خلقوا على خلق مختلف كخلق ذرية آدم، فإن آدم خلق من تراب، ولكن ذريته لا يمرون بنفس المرحلة التي مر بها، بل بعد ذلك يخلقون من نطفة، كذلك ذرية إبليس لا يخلقون من نار كما خلق هو.

دفن الجن لموتاهم

دفن الجن لموتاهم Q أين يدفن الجن موتاهم؟ A لا أدري، لم يرد المكان في دفنهم، لكن هم يسكنون في هذه الأرض مثل غيرهم، والأرض قد جعلت كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فيدفن فيها الموتى مطلقاً.

مآل أهل النار من الجن

مآل أهل النار من الجن Q أين يكون مصير أهل النار من الجن؟ A بالنسبة للدنيا فإنهم يدفنون في هذه الأرض التي يسكنونها، فهذه الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، لكن في يوم القيامة من كان منهم من أهل النار ذهب إليها، ويعود الشيء إلى أصله، كما قال أبو تمام في وصف رجل من ملوك المجوس قتله المعتصم فرماه في النار وقال: قد كنت تعبدها حياً فادخلها ميتاً، فقال فيه: صلى لها حياً وكان وقودها ميتاً ويدخلها مع الفجار وكذاك أهل النار في الدنيا همُ يوم القيامة جل أهل النار

سلسلة الأسماء والصفات [11]

سلسلة الأسماء والصفات [11] من أعظم صفات الله صفة الاستواء وصفة النزول إلى السماء الدنيا، وصفة العلو والفوقية، وأهل السنة يثبتونها بلا تشبيه ولا تعطيل، وقد ضل فيها المشبهة والمعطلة.

من صفات الله الفعلية

من صفات الله الفعلية

إثبات صفة الاستواء لله جل وعلا

إثبات صفة الاستواء لله جل وعلا يقول الشيخ حفظه الله: [قد استوى إلى السماء واستوى بعد على العرش بخلف المحتوى] هذه صفة أخرى هي صفة الاستوى وهي من الصفات الفعلية، وهي على نوعين: النوع الأول: المعدى بإلى، والنوع الثاني: المعدى بعلى فالنوع الأول: المعدى بإلى، جاء في السماء في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] والاستواء المعدى بإلى هو بمعنى التوجه والنظر، وأما الاستواء المعدى بعلى فمعناه الاستقرار والثبات. وأما استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه فلا يفسر، فهو من الصفات الثابتة التي قراءتها تفسيرها ولا يجوز تفسيره بأي شيء؛ لأننا لا علم لنا بهذا؛ فلهذا من فسره بما فسرنا به الاستواء في اللغة فقد ابتدع، فمن قال: استوى على العرش بمعنى: استقر عليه أو نحو هذا فقد ابتدع في دين الله، فلم يرد هذا عن أحد، بل قال الإمام أحمد: (لا كيف ولا معنى) . لكن يكون الاستواء معلوماً إذا سئل عنه في اللغة العربية، فيقال: يطلق الاستواء على الاستقرار والثبات، لكن تفسيرها في الآية قراءتها، ولا يتعدى ذلك. و (استوى إلى السماء) ليست مثل الاستواء على العرش والتفريق واضح؛ لأن هذه عديت بإلى وهذه عديت بعلى؛ فلهذا قال: (قد استوى إلى السماء واستوى بعد على العرش) وهذا الاستواء بعلى بخلف المحتوى، ومعنى ذلك: أنه مع اختلاف الاستواءين في التفسير فالاستواء المعدى بإلى قيل: معناه النظر والتوجه، فقد خاطب الأرض أولاً ثم خاطب السماء بعدها، خاطبهما بكلام يشملهما، ثم خاطب الأرض بتكوينها حيث بدأ بتكوين الأرض، ثم بعد ذلك كون السماء، وقوله: (بخلف المحتوى) المحتوى معناه: ما تحتويه الصفة من المعنى، والمقصود هنا: بخلف المعنى، فالمحتوى هو: المعنى، وهو من (احتوى الشيء) بمعنى جمعه، والمقصود بذلك: جمع اللفظ للمعنى. قال: [وليس كاستوائنا نحن على الـ فلك والانعام بل العرشَ حَمَلْ وحامل] فهذا الاستواء الذي هو صفة الله سبحانه وتعالى يجب اعتقاد تنزيهه عن أن يكون مشابهاً لاستواء المخلوقين على فرشهم، أو على الفلك: وهو السفن، أو على الأنعام التي يركبونها، فالله سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن من شأن الحامل أن يكون أكبر من المحمول، والله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنه هو المتصف بصفة الكبر والكبرياء والكِبَر، فهو أكبر من أكبر خلق من خلقه، فلا يمكن أن يحده ولا أن يحيط به ولا أن يكون أكبر منه شيء أبداً، ولا يمكن أن يقارن بشيء من خلقه سبحانه وتعالى، فلهذا احتاج إلى التصريح هنا بنفي التشبيه. إذاً: لا يتوهم أن هذه الصفة تقتضي أن الحامل أكبر من المحمول، بل قال: (وليس كاستوائنا نحن) أي: البشر (على الفلك) والفلك: جنس وهو السفن، ومنه قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:12] فالفلك: السفن، (والأنعام) أي: الدواب التي يركبها الناس. (بل العرش حمل وحامل) بل الله سبحانه وتعالى هو الذي رفع العرش وهو الذي يحمله ويحمل حملته، فهذا رد على ما يتوهم من أن الحامل أقوى من المحمول أو أعظم منه، فحملة العرش على عظمهم، والعرش الذي هو أكبر منهم، هم محمولون، والله سبحانه وتعالى هو الذي حمل الجميع، فهو الذي خلق العرش وخلق حملته وحملهم ورفعهم، فلا يمكن أن يتصور أبداً حاجته إلى شيء من ذلك، فإنه لا يحتاج إلى العرش ولا إلى حملة العرش فهو العلي القدير. وبالنسبة لحملة العرش فقد ورد في عددهم وفي صفتهم أشياء، فورد في عددهم يوم القيامة قول الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وجاء في الحديث: أنهم اليوم أربعة وأنهم يوم القيامة ثمانية، وجاء في حديث العباس وصفهم بالأوعال وأن ما بين شحمة أذن أحدهم وبين منكبه مسيرة خمسمائة عام. وحديث الأوعال فيه ضعف، لكن مع ذلك له طرق أخرى، وجاء أيضاً في وصف حملة العرش وصف عظمهم، لكن عموم وصفهم بالأوعال لا يقتضي إثبات صفة الوعلية لهم، وإنما هو مجرد مثَل من تصورهم، ولذلك ذكر فيهم هذه الصفة العظيمة العجيبة: أن ما بين شحمة أذن أحدهم وبين منكبه قدر ما بين السماء والأرض، أي خمسمائة عام.

إثبات صفة النزول لله جل وعلا

إثبات صفة النزول لله جل وعلا قال: [وحامل وإلى دنيا السما ينزل كل ليلة لا مثلما ينزل مخلوق بإخلا حيِّز منه وشغل حيز فميِّز] هذه صفة أخرى من الصفات الفعلية وهي صفة النزول، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا وذلك حين يبقى ثلث الليل، فلا يزال يقول: ألا من يدعوني فأستجيب له ألا من يسألني فأعطيه) فهذا النزول صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى، والمقصود به التجلي، فالله سبحانه وتعالى قريب في علوه علي في دنوه، فنزوله إلى السماء لا يقتضي منافاة علوه، بل هو العلي في دنوه. واستواؤه على العرش أيضاً لا يقتضي بُعده، بل هو القريب في علوه، وهذا كله يقتضي قطع مشابهته لخلقه، فهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وفي الحديث أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وقال: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع مجيب) . وهذا النزول فيه حكم عظيمة منها: أنه تشريف للعابدين في هذه الساعة، مثلما جاء في الإخبار عن ضحك الله لمن يصلي في جوف الليل، وضحكه لمن يقوم في الصف للصلاة، وأن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف، ونحو ذلك، وهو مثل قوله: (فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهو من قربه من عباده وإكرامه للعبَّاد منهم. وقد خصص هذا الوقت من الليل بميزات عظيمة، فمنها أنه وقت كسل ونوم؛ ولهذا لم يشرع الله فيه فريضة لئلا يكون ذلك عنتاً على عباده، ولكنه جعله مجالاً للتنافس: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ، فيتنافس الناس في التقرب إلى الله في هذا الوقت، ولهذا قال الحافظ أبو الحسن الإشبيلي رحمه الله في مقدمة كتابه التهجد: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، فلم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً. فهذا وصف عجيب جداً، هؤلاء يخرون في هذا الوقت، فتجافي جنوبهم المضاجع، ويخرون بين يدي الله سبحانه وتعالى فيقدمون إليه عبادتهم، ويتذللون بين يديه ويقدمون إليه طلباتهم وحوائجهم، في الوقت الذي لم يؤذن فيه لكثير من الناس، فهذا الوقت حجب فيه كثير عن باب الملك الديان، بعضهم حجب بالكفر وبعضهم حجب بالفسوق وبعضهم حجب بالغفلة وبعضهم حجب بملذات الدنيا وشهواتها من النوم وغيره، وبعضهم حجب بالمرض، فإذا أذن الله تعالى لقوم وشرفهم بأن يطرقوا الباب في هذا الوقت فيفتح لهم، فهذا تشريف عظيم جداً يستحضر الإنسان به مدى سعادته حين يتذكر أن من حوله يغطون في نومهم وأنه قد أذن الله له في هذا الوقت بأن يباهي به ملائكته. ولهذا فإن هذا النزول لا يمكن أن يقاس بالصفات الفعلية الأخرى، فلا يمكن أن تقول: إن الله في الثلث الأخير من الليل دائم النزول باعتبار اختلاف البلدان، فما من ساعة إلا وهي أول الليل على قوم وفي النهار على قوم ووسط النهار وآخره على قوم، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود: أن هذا الوقت من الليل لكل طائفة من الناس هو هذا الوقت الذي شرف فيه أهل ذلك المكان، ولا تعارض في صفات الله، بل هو قادر على ما يشاء، كما أنه الآن يأمر ملايين الأوامر في وقت واحد وكلها يقول لها: كن فيكون، وليس هناك أمر قبل أمر ولا نهي قبل نهي، والحركات التي يتحرك بها العباد وتصور الآن المليارات منها في لحظة واحدة كلها بأمره، ولا يكون أمر قبل أمر، بل هي في لحظة واحدة كلها قال لها: كن. فلهذا قال: (وإلى دنيا السما) ومعناه: إلى السماء الدنيا وهي سماء هذه الدنيا، والدنيا مختلف فيها: هل هي من الدنو أو من الدناءة؟ فقالت طائفة من الناس: الدنيا التي هي هذه الدار مشتقة من الدناءة؛ لأنها متدنية القيمة عند الله، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، كما جاء في الحديث، وقيل: هي من الدنو؛ لأنها قبل الأخرى فهي أدنى منها إلينا، أي: أقرب وأدنى من الدار الآخرة، وسماء هذه الدنيا السماء الأولى. (في كل ليلة لا مثلما ينزل مخلوق) وهنا اضطر أن ينفي ما تتوهمه العقول الضعيفة إذا قرأت صفة النزول، فيتوهم بعض الناس أن نزوله مناف لاستوائه، فوقت النزول لا يكون مستوياً فيه على العرش، ووقت الاستواء لا يكون فيه نزول إلى السماء!! قال: هذا إنما هو في صفات المخلوقين، أما في صفات الله فلا. (لا مثلما ينزل مخلوق) لأن نزول المخلوق فيه شغل حيز وخلو حيز منه، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ولا يمكن أن يشمله ولا أن يحيط به مكان، وما الفرق بين أوامره التي تأتي في لحظة واحدة على المليارات من الحركات والسكنات والموت والحياة وغير ذلك، وبين نزوله واستوائه، فالجميع من صفات الله سبحانه وتعالى. (لا مثلما ينزل مخلوق بإخلا حَيز منه وشغل حيز فميز) و (الحيز) معناه: المكان الذي يحوز الشيء ويحويه، والمعنى: ميز بين صفات الله وصفات خلقه، فلابد من التمييز هنا بين صفات الله العظيمة وبين صفات خلقه التي هي على قدرهم؛ لذلك أردف هذا بصفة أخرى وهي صفة العلو، وهذا مناسب جداً أن تذكر صفة العلو بعد صفة النزول؛ لأنه هو العلي في نزوله والقريب في علوه كما ذكرنا.

إثبات صفة العلو لله جل وعلا

إثبات صفة العلو لله جل وعلا قال: [وهو العلي لا تحده جهه ضل المعطلة كذا المشبهه] وهذا إثبات لصفة العلو، فالله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه بذلك في ثماني عشرة آية من آيات كتابه، وهذه الصفة تنقسم إلى قسمين: علو حسي، وعلو معنوي. فالعلو الحسي: هو استواؤه على عرشه وارتفاعه فوق خلقه، والعلو المعنوي: هو القهر والكبرياء والعظمة. والعلو جاء إثباته بلفظ العلو، وجاء إثباته بالفوقية، والفوقية أيضاً تأتي بالمعنيين: تأتي حسية ومعنوية، فالحسية مثل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] ، ففي هذه الآية إثبات صفة الفوقية الحسية، وأما الفوقية المعنوية فمثل قوله تعالى في أتباع عيسى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] فهذه الفوقية ليست حسية، بل المقصود بها الفوقية المعنوية بالترفع عليهم فقط. وكذلك فوقية الله سبحانه وتعالى على خلقه فوقية حسية وفوقية معنوية: فوقية حسية بارتفاعه وعلوه واستوائه على عرشه، وفوقيته المعنوية بمخالفته للحوادث وقهرهم بإحاطته بما هم فيه. لكنه مع إثبات صفة العلو أراد أيضاً أن يأتي بما ينفي التشبيه فقال: (لا تحده جهة) فالعلو جهة، وهي جهة فوقية مثبتة لله سبحانه وتعالى، لكن لا تحده، وهنا يقال: إن القاعدة: أن الجهة من الألفاظ التي يفصل فيها، فإن قصد بها مطلق الفوقية دون حد فنسبتها لله سبحانه وتعالى صحيحة، وإن قصد بها الحيز واحتواء مكان فهي ممنوعة مستحيلة. فإذاً: الفوقية إثبات للجهة دون حد؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية حين سألها: (أين الله؟ فأشارت بأصبعها إلى السماء) ، وهنا لم يقصد امتحانها بصفة الفوقية أبداً، إنما قصد امتحانها في وجود الله سبحانه وتعالى والإقرار به.

الامتحان في الاعتقاد ابتداع

الامتحان في الاعتقاد ابتداع ومن هنا يغلط كثير من الناس فيظن أن الامتحان بالإيمان إنما هو في صفة الفوقية، بل الإيمان يحصل حتى لو جهل الإنسان بعض صفات الله سبحانه وتعالى، ولا يجب الإيمان بها تفصيلاً، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟) فهذا لا يقتضي إلا سؤالها عن الإيمان برسالته فقط؛ لذلك قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، ومن هنا قال البخاري رحمه الله: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) ، وقد نص العلماء على أن الامتحان في الاعتقاد وسؤال الناس عن اعتقادهم ونحو ذلك بدعة في الدين، وأنه لا يحل إلا في موضعين: أحدهما: من جاء من قبل الكفار هارباً فدخل إلى دار الإسلام، فيحل امتحانه ليعرف هل هو جاسوس للكافرين أو ليس كذلك، وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] . الثاني: من كان مظنة الكفر ويراد عتقه، حيث يشترط الإيمان في الرقبة التي تعتق، فيحل امتحانها حينئذٍ حتى يعلم الإنسان إيمانها، وبشرط ألا تكون في الأصل من دار الإسلام، بأن كانت نسيبة من دار الكفر، أما من كان في دار الإسلام فلا يسأل من أجل العتق هل هو مؤمن أم لا، بل هذا من الابتداع. والبخاري رحمه الله قال: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) في قصته مع أهل نيسابور حين كان مع محمد بن يحيى الذهلي فسألوه عن تكلمنا بالقرآن، فأجاب: بأن تكلمنا بالقرآن صفة من صفاتنا وصفاتنا مخلوقة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فشغبوا به فأخبرهم أن الامتحان في الاعتقاد ابتداع وبين لهم ذلك، وقد ذكر هذا الحافظ ابن حجر في هدي الساري مقدمة فتح الباري، وذكره الذهبي أيضاً.

المعطلة والمشبهة ضلوا في صفة العلو

المعطلة والمشبهة ضلوا في صفة العلو وقوله: (لا تحده جهة) معناه: لا تحيط به جهة، (ضلَّ المعطلة كذا المشبهة) أي: ضل في هذه الصفة قسمان من الناس: المعطلة الذين ينفون هذه الصفات أصلاً، والمشبهة الذين يبالغون في الإثبات حتى يشبهونها بخلقه، فكلا الطائفتين على ضلال، والمعطلة مشتقة من التعطيل، والتعطيل معناه: الترك، بأن يكون الشيء عاطلاً أو عطلاً، فالعاطل معناه: الذي لا حركة به يقال: مبنى عاطل، أي: غير مشغول بالناس فلا حركة فيه، مثل قول الله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ، والعطل معناه: الخالي من الزينة، وجيد معطل معناه: لا زينة فيه، ومن ذلك قول امرئ القيس: وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل أي: غير خال من الزينة. فالتعطيل هو إخلاء الصفة عن معناها، والتشبيه هو من التشبه وهو تمثيل الله بخلقه وقد سبق شرحه.

إثبات صفة الاصطفاء لله جل وعلا

إثبات صفة الاصطفاء لله جل وعلا قال: [قد اصطفى من ملك ومن بشر رسلاً فأدوا عنه ما به أمر] أخبر أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الاصطفاء، والاصطفاء هو الاختيار، فهو يختار ما يشاء، ما كان للناس الخيرة، كما قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] . والاصطفاء: افتعال من الصفوة فاصطفى أصلها: (اصتفي) ، فالطاء منقبلة عن تاء والألف منقلبة عن ياء، فـ (اصتفي) فاصطفيَ معناه أخذ الصفوة، فالتاء تقلب طاءً والياء تقلب ألفاً؛ لأن حرف العلة إذا تحرك وفتح ما قبله وجب قلبه ألفاً، وتاء الافتعال تنقلب طاءً إذا جاءت بعد حرف مستعلٍ مثل الصاد هنا.

الاصطفاء العام

الاصطفاء العام والاصطفاء نوعان: اصطفاء عام وهو مثل قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:33-34] ، فهذه الاصطفاء عام بمعنى: انتقاء الجنس والنوع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، وجعلني من قريش في المحل الأسنى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر) . فأحاديث الاصطفاء كلها من هذا الاصطفاء العام الذي لا مانع أن يدخل فيه أهل الكفر، فيختار العنصر بكامله ويكون خيره أكثر من شره وأفضل، لكن لا مانع أن يكون مع ذلك بعض الشر، كاصطفاء ذرية عمران على العالمين، واصطفاء ذرية إبراهيم، وفيهم من كان مؤمناً ومن كان كافراً كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253] ، وكما قال تعالى في سورة النساء: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} [النساء:54-55] فقد اصطفاهم الله عموماً بهذا التشريف الدنيوي. والاصطفاء العام هو اصطفاء دنيوي وليس اختياراً أخروياً؛ ولهذا فإن قريشاً مثلاً اصطفاهم الله، لكن فيهم البر والفاجر، ففيهم أبو جهل وغيره؛ ولهذا كانت لهم القيادة حتى في جاهليتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (قريش قادة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة) وهذا الاصطفاء يعلق به بعض الأحكام الشرعية؛ لأنه من أحكام في الدنيا، مثل الإمامة -مثلاً- في قريش، ومثل قوله: (قدموا قريشاً ولا تقدموها) ونحو ذلك.

الاصطفاء الخاص

الاصطفاء الخاص أما الاصطفاء الخاص: فهو اختيار الفرد من العنصر، وهذا هو اصطفاء رسل الله من الملائكة والبشر دون غيرهم من الأجناس حيث قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75] ، وهذا الذي ذكره الشيخ هنا في قوله: (قد اصطفى من ملك) معناه: من جنس الملائكة ملك، (ومن بشر) معناه: من جنس بني آدم. والملك أصله مألكٌ مشتق من المألكة التي هي الرسالة؛ وذلك أنهم رسل الله يرسلهم بما شاء إلى خلقه، والمألُكة والمألكة بمعنى الرسالة: ومنه قول عدي بن زيد: أبلغي النعمان عني مألُكاً أنني قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شبق كنت كالغصان بالماء اعتصاري مألُكة بمعنى رسالة، وخفف فسمي ملكاً. وأطلق على جنس بني آدم بشراً؛ لأنه الجنس من الحيوان الذين لم تغط بشرتهم بالشعر، أما بقية الحيوانات فقد غطي بشرها بالشعر. وقيل: مشتق من البشر لظهور البشر على وجوههم؛ لأنهم إذا استبشروا ظهر البشر على وجوههم. والبشر أطلق في القرآن على جنس البشرة، ومن ذلك قول الله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] ، فالمقصود أنها تزيل الجلود نسأل الله السلامة والعافية. (رسلاً) جمع رسول، والمقصود بهم من حمل رسالة من عند الله سبحانه وتعالى، ويجوز فيها الإسكان والضم يقال: (رسْلاً مبشرين ومنذرين) ويقال: (رسُلاً مبشرين ومنذرين) بالضم، ويجوز الإسكان في غير القرآن فيقال: رسْلاً أيضاً. فهي جمع تكسير وفيها نوعان من أنواع التكسير: أحدهما تغير الشكل، والثاني النقص. وأنواع التكسير إما نقص فقط أو زيادة فقط أو تغير شكل فقط، أو نقص وتغير شكل، أو نقص وزيادة، أو نقص وتغير شكل وزيادة هذه ستة، وقد تكون مصرحاً بها، وقد تكون مقدرة، فالجميع أثنا عشر نوعاً، والمذكور هنا اثنان منها في قوله: رسلاً. (فأدوا عنه ما به أمر) (فأدوا) أي: بلغوا وائتمنوا على أمانات الله التي ائتمنهم عليها فأدوها إلى الناس، وهذا واجب، فمن صفات الرسل التي يجب الإيمان بها الصدق والأمانة والتبليغ، وهذه الصفات الثلاث يشملها قوله: (فأدوا عنه ما به أمر) .

الإيمان بصدق الرسل وأمانتهم وتبليغهم من الإيمان بالله

الإيمان بصدق الرسل وأمانتهم وتبليغهم من الإيمان بالله فمن الإيمان بالرسل الإيمان بصدقهم، فلا يجوز في حقهم الكذب فيما يبلغونه عن الله، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يستحيل في حقه الكذب، وقد صدقهم بالمعجزات، وتصديق الكاذب كذب، فكذبهم يستلزم نسبة الكذب إلى الله تعالى الله عن ذلك، فاقتضى هذا نفي الكذب عنهم بالكلية فيما بلغوه عن الله سبحانه وتعالى فهم معصومون من الكذب. ثانياً: الأمانة، فالله قد اختارهم وائتمنهم على الوحي، ولذلك قال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: صدقناك في خبر السماء أفلا نصدقك في خبر الأرض، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأمين من في السماء) . قال: إن الله سبحانه وتعالى ائتمنه فهو أمينه، وفي السماء معناه: العلي. والثالثة: التبليغ أي: تبليغ الرسالات؛ لأن الله توعدهم على ترك التبليغ فوجب أن يكونوا قد بلغوا أنه قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] . وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] . وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] . وهذه من الكلمات التي سبق التنزيل بها، فقد قرئت في السبع (رسالاته) وقرئت (رسالته) . فيستحيل في حقهم أضدادها وهي الكذب والخيانة والكتمان، لكن التبليغ لا يجب عليهم أن يبلغوا جميع أممهم؛ لأن الله جعل لهم أعماراً محددة يموتون فيها، فيجب على الرسول أن يبلغ من تقوم بهم الحجة سواء كان واحداً أو أكثر. فالحجة قد تقوم بواحد إذا كان عدلاً ضابطاً؛ لأن روايته معتبرة، ولهذا فكثير مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انفرد به واحد، وإن كان القرآن لم يحصل فيه هذا إلا في آيتين اثنتين منه، لم يوجد من كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خزيمة بن ثابت وشهادته بشاهدة رجلين، وهي خاتمة سورة التوبة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128-129] . هاتان الآيتان انفرد بكتابتهما خزيمة وإن كان غيره قد حفظهما، لكن الحفظ لم يعتمد عليه في تدوين المصحف لاحتمال أن يكون قد نسخ في العرضة الأخيرة، وأما الكتابة فإنها مقتضية للإقرار في العرضة الأخيرة. (فأدوا عنه) أي: عن الله سبحانه وتعالى. (ما به أمر) أي: ما أمرهم ببيانه وتبليغه، فقد ينزل إليهم شيء لا يؤمرون بتبليغه، وقد ينزل إليهم شيء فيؤمرون بتبليغه إلى شخص بعينه، كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي سورة البينة. والقاعدة هي ما ذكرناه أنه لا يجب عليهم تبليغ كل أحد، بل يجب عليهم تبليغ من تقوم بهم الحجة، وهذه التي نظمها شيخي رحمها الله بقوله: لا يلزم الرسول أن يبلغ جميع ما علم مما بلغ بل كان يكفيه إذا ما أنفق مرويّه واحداً أو ما اتفقا وهذا لفظ القاعدة في كتب التفسير: أنه إذا بلغ مرويه إلى شخص واحد تقوم به الحجة فذلك كاف؛ لأنه هو المؤتمن عليه يبلغه لمن وراءه. وقد شرط التبليغ على الاتباع، فكل قوم يشترط عليهم تبليغ ما تعلموه لمن وراءهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع) وقال: (بلغوا عني ولو آية) ، وقال: (نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) . وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة عدول يؤدي كل جيل ما تحمل إلى الجيل الذي بعده. (فأدوا عنه) أي: عن الله سبحانه وتعالى (ما به أمر) أي: ما أنزل عليهم مما أمرهم بتبليغه إلى الناس.

سلسلة الأسماء والصفات [12]

سلسلة الأسماء والصفات [12] من الأركان التي يجب على كل مسلم الإيمان بها: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل على رسله وأنبيائه، ما سمي منها وما لم يسم، وأن القرآن خاتمها وناسخها، وأنه كلام الله عز وجل. ومما يجب الإيمان به أن كلام الله عز وجل صفة من صفاته، فهو يتكلم متى شاء بما شاء، بصوت وحرف لا يشبهه في ذلك أحد من خلقه.

وجوب الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله عز وجل

وجوب الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا أرحم الراحمين! يقول الشيخ حفظه الله: [والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل فذر قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل] من أركان الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة، وهذا الركن في أصله داخل في الركن الأول الذي هو الإيمان بالله؛ فأركان الإيمان ستة، لكن ثلاثة منها ترجع إلى واحد. فالإيمان بالله يشمل الإيمان بالكتب المنزلة والإيمان بالقدر؛ لأن الكتب المنزلة كلام الله، والقدر من علم الله، فهذا كله يرجع إلى الإيمان بالله. فإذاً: تعود هذه الأقسام في حقيقتها إلى أربعة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر. أما الإيمان بالكتب والإيمان بالقدر فهو من الإيمان بصفات الله، وللعناية بالإيمان بالكتب جُعل الإيمان بها ركناً مستقلاً من أركان الإيمان، وللعناية بالقدر وكثرة زيغ الناس فيه جُعل الإيمان به ركناً مستقلاً. والكتب جمع كتاب، والكتاب في اللغة فعال للآلة، من (كتب) بمعنى: خاط، فهو آلة الخياطة، ثم أطلق بعد هذا على الأوراق التي تكون حاوية للرسوم المقصودة فتخاط لتجمع، فسميت كتاباً، ثم سميت الحرفة التي هي الضرب بالحروف على الأوراق كتابة، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] . ومنه قول الشاعر: تخطه من ذوات المصر كاتبة قد طالما ضربت باللام والألف وإطلاق الكتب على كلام الله سبحانه وتعالى المنزل إلى الرسل من البشر سببه: أن هذا الكلام الذي ينزله الله تعالى عليهم كان ينزل عليهم مكتوباً، إلا القرآن فلم ينزل مكتوباً، وإنما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سمي كتاباً، وتسميته كتاباً بمجاز آخر وهو: أن الرسالة التي يرسلها أحد إلى أحد تسمى كتاباً، فتقول: أرسل إلي فلان كتاباً، وهذا القرآن هو كتاب الله إلى خلقه، فهو رسالة من عند الله إلى خلقه، وقد أنزلها على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وليست مكتوبة، ولكنها رسالة يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فمن أجل هذا سمي كتاباً. والحاجة إلى كتابة الكتب السابقة: أنها لم تكن في علم الله تعالى تصلح إلا لمدة محددة لا تتجاوزها؛ فلذلك جاءت مكتوبة من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يؤمر الناس بحفظها؛ لأن الحفظ في الصدور أبقى من مجرد الكتابة، فالعلم مع كثرة كتابته وكثرة الكتب المؤلفة فيه يقل إذا لم يكن محفوظاً بالصدور، ومن هنا فإن الكتب السابقة كلها لم يكن أهلها يحفظونها، إنما كانوا يستودعونها ويستحفظونها مكتوبة، ويتوارثها الناس نسخاً مكتوبة.

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل وسماها

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل وسماها فمن الرسل من أنزلت عليه الكتب في شكل صحف، وقد جاء التصريح بذلك في إبراهيم وموسى، كما قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] ، وفي هذا أن صحف إبراهيم وموسى من الصحف الأولى، وهذا يدلنا على أن الكتب المنزلة في الصحف ليست محصورة في هذه فقط، بل المنزل على نوح أيضاً كان صحفاً، وكذلك على من دونه من الرسل. وأيضاً أطلقت القراطيس في أنبياء بني إسرائيل على الكتب؛ حيث جاء ذكر ذلك في سورة الأنعام في قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91] . وقد كتب الله التوراة لموسى بيمينه في الألواح، فسلمه هذه الألواح، واستشهد على ذلك سبعين من قومه، شهدوا على استلام موسى للألواح من ربه، وهذه الألواح كانت أربعة عشر لوحاً، فانكسر منها اثنا عشر وبقي اثنان، ومع ذلك فقد جاء بعد موسى معززون لشريعته من أنبياء بني إسرائيل، وأنزل على كثير منهم وحي. وأما الكتب المسماة فهي هذه الأربعة التي هي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. فالتوراة هي الكتاب المنزل على موسى باللغة العبرية، وهي العبرانية. وهذه الكلمة مختلف فيها هل هي عربية أو غير عربية، والراجح: أنها من العربية، فالتوراة أصلها: التورية، أي: الكلام الذي يشير إلى أحداث ستقع، وليس فيه التصريح بذلك. وقيل: هي غير عربية؛ لأنها لو كانت عربية لما قيل: التوراة، ولقيل: التورية. وعلى هذا الاختلاف اختلف القراء في قراءتها في القرآن هل تقرأ بالإمالة أم لا؟ فمنهم من يقرؤها بالإمالة بين بين، كـ ورش، فمثلاً: يقرأ قوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:1-4] . ومنهم من يميلها إمالة محضة، كـ أبي عمرو والكسائي فيقرآن: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:3-4] . ومنهم من يكون له فيها وجهان، كـ قالون فله وجهان: بالتقليل والفتح. وأما الإنجيل فهذا اللفظ باللغة العبرانية معناه: الكتاب، وقد استعمل في لغة العرب بذلك، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أناجيل أمتي في صدورها) . وأما الزبور فهو الكتاب المنزل على داود، واشتقاقه من الزبر، وهو الكتابة، فزبر معناه: أخذ المزبر فكتب به، والمزبر هو القلم، وهذا من لغة العرب، ومع ذلك سمي به هذا الكتاب، ويطلق عليها قديماً المصاحف، كما جاء في الحديث: (إن داود كان يقرأ في المصحف) والمقصود بالمصحف الزبور. والمصحف يجوز فيه ثلاثة لغات: المَصحف والمِصحف والمُصحف، ومعناه: ما يجمع الصحف، فهو مشتق من الصحيفة؛ لأنه يجمعها، فلذلك يطلق على القرآن وعلى غيره من الكتب المنزلة.

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل ولم تسم

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل ولم تسم وما لم يسم من كتب الله سبحانه وتعالى يجب الإيمان به إجمالاً، ولا يجب الإيمان تفصيلاً إلا بهذه الكتب، ولا يجب الإيمان تفصيلاً من هذه الكتب بما فيه إلا بالقرآن؛ لأن الكتب الأخرى قد نسخت ورفعت، وغيرت وبدلت قبل ذلك. والإيمان بها يقتضي التصديق بما جاء بها من الأخبار على ما أخبر الله به عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، فهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب، فيجب على كل المسلمين أن يعتقدوا صدق ما أنزله الله على رسله جميعاً من الكتب، وصدق ما فيها من الأخبار.

الإيمان بنسخ ما كان قبل القرآن من أحكام

الإيمان بنسخ ما كان قبل القرآن من أحكام كذلك من الإيمان بها: الإيمان بأن ما فيها من الأحكام ما نسخ منه بالقرآن لم يعد صالحاً للعمل به، ولا يجزئ بين يدي الله؛ لأن الله أخبر بذلك في كتابه في قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . مع ذلك فهذه الكتب المنزلة ينبغي أن نعلم أن فيها أمراً يخفى على كثير من الناس، وهو أن رسل الله ينقسمون إلى قسمين: إلى رسل قد جاءوا بشرائع جديدة، وإلى رسل قد جاءوا مكملين لشريعة سابقة، والجميع يصدق عليه قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] . فلا تنافي بين أن يكون الرسول مجدداً لشريعة من قبله، وبين أن يكون له شرعة ومنهاج، والشرعة والمنهاج الذي أوتيه مكمل ومتمم لشرع من قبله. ويتفاوت فضل الرسل بذلك، فأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، أوتوا شرائع جديدة. ولا منافاة بين هذا وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم؛ لأن الملة إنما يقصد بها في أغلب إطلاقاتها: ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، لا ما يتعلق بالتشريعات. ولهذا فإن خصال الفطرة من ملة إبراهيم، والضيافة من ملة إبراهيم، والغسل من الجنابة من ملة إبراهيم، وعقد النكاح من ملة إبراهيم، وكذلك الحج أصله من ملة إبراهيم. ومن ملة إبراهيم عدم الدعاء على قومه، والحلم عنهم والصفح، وهذا أبرز شيء أخذ به الرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فكثير من الأنبياء الآخرين جاء في القرآن التصريح بدعائهم على قومهم، وبالهلاك الذي حصل لقومهم. وقوم إبراهيم لا يدري أحد ماذا حصل لهم، ولا يستطيع أحد الآن أن يقول: إنهم أُهلكوا بالوصف الفلاني، فتجد إهلاك قوم نوح وهم قبلهم، وإهلاك قوم موسى وهم بعدهم، وأقوام غير هؤلاء من الرسل، كقوم شعيب وقوم لوط وصالح هود، لكن قوم إبراهيم لم تذكر أخبار هلاكهم، وإنما يعرف أن الله أنجى إبراهيم عليه السلام، وأن النار كانت برداً وسلاماً عليه، وأنه هاجر عنهم. وعلى هذا تكون الكتب بعضها مجدداً كالزبور؛ فإن جمهور المفسرين يذكرون أن هذا الكتاب ليس فيه تشريعات جديدة لبني إسرائيل، وإنما فيه المواعظ والحكم وأذكار يذكرون الله بها، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] ، فبعد ذكر الله الذي فيه جاء فيه أحكام، منها حكم الله النافذ وسنته الكونية التي لا تتغير: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] .

مخالفة الإنجيل للتوراة

مخالفة الإنجيل للتوراة وأما الإنجيل فقد جاء فيه تغيير كثير لأحكام التوراة، وقد صرح بذلك عيسى عليه السلام في سورة آل عمران في قوله تعالى حكاية عنه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:50] ، فقد صرح بأنه سيحل لهم بعض الذي حرم عليهم. وقد ذكر بعض العلماء مقارنة بين ملة موسى وملة عيسى، فجعلهما طرفين مختلفين في كثير من المسائل، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسطاً بينهما. ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأيام فذكر أن في الأسبوع يوماً فاضلاً عند الله، وأن الله أخبر به الرسل، وأن موسى أخبر به قومه فضلوا عنه؛ فطلبوه فالتمسوه في اليوم الذي بعده، وهو يوم السبت، فجاء النصارى فطلبوه، فالتمسوه في اليوم الذي بعد ذلك، وهو يوم الأحد، وهدى الله المسلمين إليه، وهو يوم الجمعة. فهو اليوم الفاضل، والناس في ذلك تبع لنا، فاليهود عندهم يوم السبت، والنصارى عندهم يوم الأحد. ومن هذه الأحكام: قضية تعدد الزوجات، فإنه مباح في التوراة إلى غير حدود، حيث يجوِّز للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، ولذلك تزوج سليمان بن داود ألف امرأة. وأما الإنجيل ففيه تحريم تعدد الزوجات مطلقاً، حتى لو تزوج الإنسان فماتت زوجته في ليلتها الأولى لم يحل له الزواج بعد ذلك. وجاءت هذه الشريعة وسطاً لمراعاة حقوق الزوجين معاً، فلا يستطيع الرجال ولا يحتاجون إلا إلى أربع نسوة في أقوى صورهم. وكذلك لم يبح التعدد فيما كان أكثر من هذا، وإذا كان الرجل أيضاً لم يستطع العدل أو لم يستطع في جسمه أو ماله أو مسكنه التعدد لم يحل له مطلقاً. وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الحائض؛ فإن اليهود حُرم عليهم الجلوس مع الحائض على فراش واحد، وحرم عليهم الكلام معها ما دامت حائضاً. والنصارى أُحل لهم وطء الحيَّض، وفي الشريعة الإسلامية جاءت الوسطية، فحل الأكل معها، والجلوس معها على فراش واحد، والكلام معها، ولكن حرم وطؤها، وهذا من مظاهر وسطية الشريعة الإسلامية. ومظاهر هذا كثيرة في الملتين، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن ما بقي من الإنجيل بيد النصارى حكم واحد فقط، وهو عدم تعدد الزوجات، وأن كل الأحكام الأخرى قد غيروها وبدلوها! فكل ما يتعلق بالأحكام من أصل الإنجيل قد غير وبدل، وما بقي منه إلا حكم واحد، وهذه الكتب تختص بالرسل من البشر، وقد ذكرنا أن الرسل يكونون من البشر ومن الملائكة، فلذلك قال: والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل والرسْل: جمع رسول، وهو جمع تكسير، أصلها (رُسُل) وكتبت بالإسكان. وأضيفت الرسل إلى البشر لأنهم رسل إليهم، وهذا مخرج للرسل من الملائكة، فإنهم لم تنزل عليهم كتب، وإنما يؤتمنون على توصيل الكتب إلى البشر أو توصيل الأوامر والنواهي إلى الملائكة. والإنزال من عند الله سبحانه وتعالى هو الوحي، وهو مختلف الصور، فقد يكون بالكتابة وتسليمه، وقد يكون بالكلام مباشرة من وراء حجاب، وقد يكون بإرسال الملك، وقد يكون بتكليمه في النوم، وغير ذلك، فكل هذا يسمى إنزالاً؛ لأنه قادم من جهة العلو، وكل ما هو قادم من جهة العلو، يوصف بأنه نازل ومنزل.

أنواع إنزال الوحي

أنواع إنزال الوحي

إثبات صفة الكلام لله

إثبات صفة الكلام لله وهذه الكتب كلها من كلام الله، وقد أثبتنا له عز وجل صفة الكلام من قبل، وهذا زائد على ذلك، فمجرد إثبات صفة الكلام الذي سبق معنا يشمل الكلام التشريعي والكلام القدري الكوني، ولكن تخصيص الكتب بأنها كلام الله مهم هنا، فلذلك احتجنا إلى التصريح به. قال: (من كلامه جل) ، أي: هي من كلام الله سبحانه وتعالى بأي لغة كانت، وكل رسول إنما يرسل بلغة قومه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] ، فيكلمه الله تعالى بلسان قومه، وهذه الكتب من كلام الله سبحانه وتعالى، تكلم بها كما يليق بجلاله.

الكلام على اصطلاح الكلام النفسي عند الأشعري ومن وافقه

الكلام على اصطلاح الكلام النفسي عند الأشعري ومن وافقه وهنا مسألة البحث التي كثر الكلام فيها، وقد أشرنا إليها من قبل، وهي أن المعطلة من الجهمية والمعتزلة اتفقوا على إثبات الكلام لله، وهذا يتفق عليه جميع أهل السنة على مختلف مذاهبهم، فإنهم يتفقون على إثبات صفة الكلام لله، ولكنهم اختلفوا في إثبات الكلام النفسي، والكلام النفسي معناه: الكلام المنسوب إلى النفس، وليس معناه حديث النفس، كما يفهمه بعض الناس، فبعض الناس إذا سمع (الكلام النفسي) ظن أن معناه: حديث النفس الذي هو درجة من درجات اليقين، وهذا غير صحيح، بل الكلام النفسي معناه: الكلام الذي هو غير ملفوظ به، بل القدرة على الكلام، أي: أن يكون أحد قادراً على الكلام، فهذا هو الكلام النفسي. وتسميته بهذا نسبة إلى النفس، بخلاف تكليم المخلوق فإنه ليس كلاماً للنفس. ولذلك غلط أصحاب وحدة الوجود في هذا الباب، فجعلوا كل كلام منسوب إلى الله؛ لأنه خلقه، حتى قال ابن عربي الحاتمي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وهذا غلط فادح؛ لأن كل كلام في الوجود من خلقه، إلا كلامه عز وجل الذي تكلم به فهو كلامه لا خلق من خلقه. فهناك فرق بين كلامه وبين خلقه، كما سبق. والكلام النفسي إذا فسرناه بأن معناه: القدرة على التكلم متى شاء بما شاء، فلا مشاحاة فيه، وينبغي ألا يكون محلاً للخلاف، لكن اختلف أهل الاصطلاح في تسميته بذلك، فذهب الأشعري والماتريدي وابن كلاب إلى تسميته بالكلام النفسي، وسلك هذه الطريقة جمهور العلماء من الأصوليين والمتكلمين وغيرهم. وأنكر هذا الاصطلاح شيخ الإسلام ابن تيمية. وأظن ذلك راجعاً إلى تصور معنى الكلام النفسي؛ لأن من أنكره كأنه تصور أن معناه: حديث النفس فقط، وإلا فلا يمكن أن يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية أن الله سبحانه وتعالى قادر على الكلام متى شاء، وأن علمه يحيط بكل شيء، لا يمكن أن يخفى هذا عليه، ولذلك حين وصل إلى هذه النقطة سماها باصطلاح آخر، فقال: كلام الله قديم النوع محدث الآحاد أو الأفراد. والنوع مقصوده به: الكلام النفسي، لكنه سماه النوع، وهذا الاصطلاح الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية اصطلاح بعيد جداً؛ لأن النوع لا تصور له في الخارج إلا بأفراده، فمثلاً: الإنسان نوع من أنواع الحيوان، وهل يمكن أن يكون إنسان موجوداً ليس من البشر المعروفين، لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى؟ لا يمكن أن يقع هذا أبداً؛ لأن الإنسان إنما يتصور بفلان أو فلانة مثلاً، فلا يفصل بين مفهوم النوع وما صدقه فمفهومه تفسيره، وما صدقه أفراده. فلا يمكن أن تكون الأفراد محدثة ويكون النوع قديماً أو العكس؛ لأن النوع إنما يتجلى في أفراده، وكذلك الجنس.

معنى قول الأشعري: الكلام اللفظي ليس صفة لله

معنى قول الأشعري: الكلام اللفظي ليس صفة لله أما الكلام اللفظي -وهو الشق الثاني من شقي الكلام- فإن الأشعري رحمه الله ذكر أن الكلام اللفظي ليس صفة الله، بل قال: القرآن فيه صفة الله وصفة عدو الله، وضرب لذلك أمثلة: فمن صفات الله في القرآن: قول الله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1-2] ، وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، وغير ذلك من الصفات. وفيه صفة عدو الله، كقول الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] ، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11-16] ، فهذه صفة عدو الله. لكن لم يفهم كلامه هذا عدل على الصحيح، فتلقفه أصحابه من غير فهم، فظنوا أنه يقصد أن الكلام اللفظي ليس كلام الله، وهو لم ينف أن يكون كلام الله، إنما نفى أن يكون صفة الله، وشتان بين الأمرين، فظنوا أنه يقصد أن هذا الكلام اللفظي ليس من كلام الله، وأن إطلاق الكلام عليه مجاز، وأن المقصود به لازمه، فيقولون: معنى كون القرآن كلام الله: أنه دال على كلام الله، أو دال على مدلول كلام الله، فقد يكون دالاً على كلام الله مباشرة بأن يكون الكلام منسوباً إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] ، أو على مدلول كلام الله، كما إذا كان الكلام محكياً، كقول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] ، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ، وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، فالكلام المحكي هنا ليس من كلام الله، لكن كلام الله دل عليه، بمعنى: استوعبه. والبحث هنا ينبغي فيه التدقيق؛ حيث نقول: إن الكلام اللفظي كلام الله تكلم الله به، وضمنه كلام من شاء من خلقه، فحكى ذلك الكلام عن خلقه، لكنه في حكايته لكلام الخلق إن كان الكلام مرضياً عنده أدرجه دون أن ينسبه لغيره، وإن كان الكلام غير مرضي عنده نسبه إلى قائله؛ ليدل بذلك على أنه ليس من كلام الله، وليس مرضياً عنده. فإن كان مرضياً عنده أدرجه في كلامه، كقول الله تعالى في سورة مريم عندما حكى كلام الملائكة عليهم السلام: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:59-64] ، معناه: وتقول الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا * وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:62-67] . وقوله: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ} [مريم:66] ، حين لم يكن كلام الإنسان مرضياً صرح بنسبته إلى الإنسان، ولما كان كلام الملائكة مرضياً عند الله لم ينسبه إليهم، فلم يقل: وتقول الملائكة كما قال: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ} [مريم:66] ، ونظير هذا كثير في القرآن، فكثيراً ما يأتي اللفظ المرضي عند الله تعالى دون نسبة. وقد يوقع بعض المفسرين ذلك في اختلاف، فمثلاً: قول الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ، اختلفوا فيه هل هو من الكلام المحكي عن امرأة العزيز أو ليس كذلك؟ لأنه محفوف بكلامها من قبله ومن بعده, فقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف:53] ، هذا من كلامها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) هذا تقرير من الله تعالى: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] ، هذا أيضاً من كلامها. وكذلك قوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34] ، فقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديق من الله تعالى لكلامها المحكي.

الرد على المؤولين لكلام الله

الرد على المؤولين لكلام الله فهذا الكلام كله كلام الله، وعلى هذا فهو كلامه بالحقيقة لا بالمجاز، وهذا الذي يقول فيه السيوطي رحمه الله: كلامه القرآن ليس يخلق وهو بلا تجوز ما تنطق ألسننا به وفي المصاحف خط ومحفوظ بصدر العارف فالذي تنطق ألسنتنا به وهو مكتوب في مصاحفنا ومحفوظ في صدورنا هو كلام الله على الحقيقة لا على المجاز، وهو الكلام الذي تكلم الله به. وأما المتأولة فإنهم غلطوا في ذلك فاختلفوا فيه، وهذا الخلاف هو الذي أشار إليه الشيخ هنا إشارة عابرة؛ لأنه لا يريد أن يذكر أقوال الفرق، لكن أراد الرد عليها فقط بلطف، فقال: فذر قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل قوله: (فذر) معناه: اترك. وقوله: (قولهم) أي قول المتأولين من المتكلمين، (القرآن قد دل على الكلام) أي: أنهم يزعمون أن القرآن قد دل على الكلام، ويرون أن الكلام المقصود به الكلام النفسي الذي لا لحن فيه ولا إعراب ولا تقديم ولا تأخير. والقرآن على هذا يكون جميعاً بمعنىً واحد؛ لأنه لو كان دالاً على صفة واحدة من صفات الله لما اختلف؛ لأن الصفة لا تختلف، ولو كان كذلك أيضاً لكان معنى كل كلمة من القرآن هو معنى الكلمة التي بعدها، فيكون معنى قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] هو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ويكون هو معنى قوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، وهذا مستحيل، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام الذي فيه الخبر والوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص تعبيراً عن صفة واحدة، ولا ترجمة لصفة واحدة، ولو كان كذلك أيضاً لكان القرآن والتوراة والإنجيل والزبور معناها واحد. ولهذا فإنهم يغلطون في هذا الباب فيقولون: يعبر عنه بالعبرانية فيكون توراة، وبالسريانية فيكون إنجيلاً، وبالعربية فيكون قرآناً. وهذا خطأ بالكلية؛ فشتان بين التوراة والإنجيل من حيث التقسيم والأحكام، وشتان بينهما وبين القرآن من حيث المعاني والأحكام والإعجاز والترتيب وغير ذلك. وهذا المعنى هو الذي نظمه أحدهم بقوله: تلاوة له دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات وأول الناس قولاً جاء عن سلف بأن ذلك من حذف الإضافات عنوا بـ (دل على الكلام) دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات قوله: (تلاوة له) أي: نطقنا نحن به. وقوله: (دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات) ، أي: أن هذا اللفظ يدل على معانٍ وراءه، وهذا لا نختلف فيه. وقوله: (وأول الناس) يقصد المتكلمين ممن هم على مذهبه هو. وقوله: (قولاً جاء عن سلف) أي: مذهب السلف في القرآن كلام الله. وقوله: (بأن ذلك من حذف الإضافات) ، أي: أنه من حذف المضاف، ومعناه: أن القرآن معنى كلام الله، أو مدلول كلام الله. وقوله: (عنوا بدل على الكلام دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات) أي: وضعوا الحذف مكان الإثبات. وقوله: (قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات) أشوى الصيد بمعنى: أصابه على الشوى، والشوى: الطرف، والصيد إذا أصيب في شواه لم يتأثر ولم يصطد. والشنفرى هو الشاعر المعروف، والبيت المشار إليه بقوله: (خرق) أي: الذي فيه هذه الكلمة وهو قوله: ولا خرق هيق كأن فؤاده يظل به المكاء يعلو ويسفل فهذا من باب الكناية؛ لأن المقصود (ولا خرق هيق كأن فؤاده) أي: قلبه. وقوله: (يظل به المكاء يعلو ويسفل) أي: يظل يرتجف كأن طائراً يمسك بقلبه فيصعد به وينزل، وليس المقصود أن الطائر فعلاً يحمل قلبه ويصعد به وينزل، بل المقصود: أن قلبه مندهش يتقلب، فهو خائف غاية الخوف، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مبناه على المبالغة في صفة المخالفة؛ لأنهم فهموا الكلام على أنه مثل كلام المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فاضطروا لأن يأولوه، ونحن نعلم أن كلام الله يليق بجلاله، وأنه أثبته لنفسه، وأنه كلامه، فلا داعي لكل هذا التأول، ولذلك قال: (قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل) ومعناه: هو على الذي دل الكلام عليه.

كلام الله حروف وأصوات لائقة بجلاله

كلام الله حروف وأصوات لائقة بجلاله قال: [بل الحروف والمعاني وردا والله بالصوت يكلم غدا] وقوله: (بل بالحروف والمعاني ورد) ، أي: بل القرآن نزل من عند الله بالحروف وبالمعاني، فكل ذلك كلام الله، حروفه من كلام الله ومعانيه من كلام الله. والذي يحذرونه هو نسبة الأصوات إلى الله؛ لأنهم يظنون أن الصوت مثل صوت المخلوق، وأنه عرض يحل بالجسم، ويقولون: لا يحل الصوت إلا في جسم مجوف، وهذا إنما محله في الجسم الحادث، أما الصوت المنسوب إلى الله سبحانه وتعالى فعلى ما يليق بجلاله، ولا يشبه أصوات المخلوقين، فلهذا قال: (والله بالصوت يكلم غدا) . وصفة الصوت أيضاً ثابتة في حديث آدم: (إن الله ينادي آدم، فيناديه بصوت: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ) . والمقصود بالصوت هنا: كلام الله على ما يليق بجلاله، لا يشبه أصوات المخلوقين، ولا تشبهه أصوات المخلوقين. وقوله: (يكلم غداً) ، أي: يوم القيامة يكلم آدم بصوت. ثم قال: [ولا تقل ذا الصوت عن تموج هواء أو تخلل فيه يجي أو حرفه كيفية تحدث له بالضغط جل الله أن نمثله] بالنسبة للصوت يجب الإيمان به كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم أنه على ما يليق بجلاله، وأنه منزه عن أن يكون مشبهاً لأصوات المخلوقين. وإذا ثبتت الصفة لله سبحانه وتعالى فإننا نعلم أنها صفة كمال، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين التي هي صفات نقص وعجز، فإن صفات المخلوقين ناشئة عن عجز، وأصواتهم إنما أخرجوها لأنهم يحتاجون إليها، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شيء؛ فهو الغني الحميد، ولذلك قال: (ولا تقل ذا الصوت) أي: الصوت الذي يخاطب الله به آدم يوم القيامة. وقوله: (عن تموج هواء) أي: لا تقل هذا؛ لأن هذا إنما هو في صوت المخلوق فقط. وقوله: (أو تخلل فيه يجي) أي: تخلل في الهواء يجيء ذلك الصوت منه كحال أصوات المخلوقين، فإن أصوات المخلوقين إنما هي الهواء المنطلق من الرئة، فيضغط عليه في مكان معين فيخرج صوت. وقوله: (أو حرفه كيفية تحدث له) ، كذلك لا تقل: إن الحروف كيفيات تحدث له؛ فهو سبحانه وتعالى منزه عن الغِيَر فلا يمكن أن تحل به الحوادث والآفات، فلذلك كانت الحروف التي أنزل بها القرآن والتي تشكل منها كقوله: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1-2] ، ونحو ذلك، فهذه الحروف نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى ليست مثل نسبتها إلى المخلوق، فالمخلوق إنما ينطق بالحروف على كيفية تحدث له بالنطق، والله سبحانه وتعالى مخالف للمخلوق، فحرفه وكلامه على حسب ما يليق بجلاله وعظمته مما هو مخالف لحال خلقه. وقوله: (تحدث له بالضغط) أي: بالضغط على الهواء في مكان معين حتى يخرج الحرف، فهذا للمخلوق لا للخالق.

كلام الله غير مخلوق وصوت قارئه مخلوق

كلام الله غير مخلوق وصوت قارئه مخلوق قال الشيخ حفظه الله: [بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه] جل الله أن نمثله بقارئ في صوته أو حرفه، فقارئ كلام الله ليس هو المتكلم الأول بالكلام، وليس كلامه كتكلم المتكلم الأول بالكلام، بل القارئ يتكلم على حسب حاله وما يليق به، والخالق كلامه على حسب ما يليق بجلاله وعظمته، فلا يمكن تمثيله به ولا تشبيه أي شيء من صفاته بشيء من صفات المخلوقين كما هو الحال في ذاته كما سبق؛ لذلك قال: (بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه) كل من الخالق والمخلوق كما لاق به من وصفه، فصوت المخلوق وحرفه من صفات المخلوقين على ما يليق بهم، وصوت الله سبحانه وتعالى وكلامه على ما يليق بجلاله وعظمته. [فنحن حين ننشد الآن قفا نبك وقد أودى بمنشيها العفا لسنا بمجتري هواء نفثه أو محدثين عين ما قد أحدثه] هذا مثال يبين الأمر جداً؛ فإذا كان الاختلاف بين كلام المخلوقين بهذه المنزلة، فكيف بالاختلاف بين كلام الخالق والمخلوق! فالمخلوقون يتكلمون وكلامهم متفاوت بشكل عجيب! فأصوات الفيل لا تشبه أصوات الإنسان، بل هي متنافية معه، وأصوات بعض الناس لا تشبه أصوات بعضهم، فبعض الناس خشن الصوت وبعضهم مليح الصوت، وبعضهم مرتفع الصوت وبعضهم منخفضه، وبعضهم رخيم الصوت وبعضهم أبح، فأنواع الناس في الكلام متباينة، وأصواتهم متفاوتة، وإذا كان المخلوق لا يشبه المخلوق في الصوت، فكيف يشبه بكلام الخالق سبحانه وتعالى أو بصوته؟! مثَّل هنا مثالاً فقال: من قرأ قصيدة قالها شاعر سابق، هل معناه أنه يأخذ الهواء الذي نفثه ذلك الشاعر، فيسكنه هو في رئته ثم يضغط عليه كما ضغط عليه الشاعر حتى يخرج الصوت كما هو؟! A لا، فنحن حين ننشد الآن قصيدة امرئ القيس التي قالها قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عام: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل لا نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده كما فعل هو ومعنى (أودى) : أهلك، (منشيها) أي: امرئ القيس الذي أنشأها، (العفاء) : وهو التغير والانعدام. (لسنا بمجتري هواء نفثه) أي: حين ننشدها، فليس معنى أننا نحاكيه بإنشاده أن نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده نحن حتى نخرجه مرة أخرى كما أخرجه هو. (أو محدثين عين ما قد أحدثه) أي: ولسنا أيضاً محدثين عين ما قد أحدثه هو بالضغط على نفس الطريقة كما ضغط هو. [وذاك من كيفية إن صرفه ما بين حلق ولهاة وشفه] (من كيفيةٍ إن صرفه) معناه: حين صرف ذلك الهواء (ما بين حلق ولهاة وشفه) : وهذه هي أصول مخارج الحروف، فإذا كان الفرق واضحاً فيما بيننا، فكيف يكون الفرق بين صفاتنا وصفات الخالق سبحانه وتعالى؟! ونحن نعلم أن ضرب الأمثلة لله سبحانه وتعالى منهي عنه بقول الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، ولكن ضرب المثل المنهي عنه هو: القياس المثلي. وأما قياس الأولى: فيجوز ضربه له؛ لأنه ضربه لنفسه في عدد من الآيات كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:29] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71] فهذا يقتضي جواز هذا النوع من الأقيسة وهو قياس الأولى لا قياس المماثلة، فلذلك قال: (لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) ، فهذا ممنوع في قياس المماثلة، لكنه يجوز في قياس الأولى. (ولا تصغوا لمن عطل أو من مثل) (لا تصغوا) من صغى بمعنى: مال، (لمن عطل) صفات الله أو أسماءه، ومعناه: نفى معانيها وجعلها ألفاظاً لا تدل على شيء، فهؤلاء هم المعطلة، (أو من مثل) وهم المشبهة الذين شبهوه بخلقه وضربوا له مثلاً على وجه المماثلة سواء صرحوا بذلك أو نفوه؛ لأن المعطلة أيضاً مشبهة من وجه آخر، فالمعطلة يشبهونه بالمعدومات، والممثلة يشبهونه بالموجودات، وكلا الأمرين فيه تشبيه في الواقع، لكن هؤلاء تشبيههم منفي، وهؤلاء تشبيههم مثبت، والجميع منهي عنه؛ فلذلك قال: (ولا تصغوا لمن عطل) فشبهه تشبيهاً بالنفي الذي ليس فيه أي تنزيه ولا أي إثبات لصفات الكمال، (أو من مثل) حيث شبهه بخلقه تعالى الله عن ذلك، فكلاهما زالق في هذا الباب.

صفة التكليم من الله سعادة للكليم

صفة التكليم من الله سعادة للكليم [كلم موسى بكلامه اتخذ خليلاً إبراهيم مَن أوَّل شذ] يقول: إن أبلغ الأدلة على أن الكلام اللفظي كلام الله وليس دلالة على كلام الله أو دلالة على ما يدل عليه كلام الله: أنه كلم موسى بكلامه، فهذا الكلام قطعاً صفة ذاته لا خلق من خلقه؛ فلذلك قال: (كلم موسى بكلامه) وقد صرح بذلك في كتابه فقال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وهذا تشريف وتفضيل لموسى عليه السلام حيث اجتباه الله برسالاته وبكلامه، وهذا الاجتباء قال أهل العلم: يحصل للإنسان به من الشرف الدنيوي سعادة الدنيا؛ لأن سعادة الآخرة: هي إدراك الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسعادة الدنيا: هي منتهى اللذة بحيث تنقطع عنه كل آلامه، ويصل إلى أقصى آماله، فهذا يحصل بتكليم الله عز وجل. لكن قالوا: إن أهل الإيمان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن بتدبر وصلوا إلى هذه السعادة، فإنهم يعلمون أن الله يخاطبهم فيقول: (يا أيها الذين آمنوا) فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله بيديك، فيشعرون أن الله يخاطبهم وأنهم داخلون في ذلك، وإذا سمع أحدهم قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] يقول: لبيك اللهم لبيك! ويعلم أنه داخل في هذا الخطاب وأن الله وجه إليه هذا الكلام، فينال في ذلك لذة وسعادة عجيبة تقضي على كل شيء بعلمه أن الله يخاطبه ويكلمه. فالمزية التي يغبط عليها موسى عليه السلام: أن الله كلمه، ويحصل المؤمن على مستوى منها حين يعلم أنه داخل في خطاب الله له حين كلمه.

إثبات صفة الخلة لله عز وجل

إثبات صفة الخلة لله عز وجل ثم قال: (اتخذ خليلاً إبراهيم) : وهذه صفة أخرى وهي اتخاذ إبراهيم خليلاً، وقد أثبتها الله لنفسه في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] . وهذا تشريف عظيم لإبراهيم عليه السلام حيث اتخذه الله خليلاً، فخالط قلبه حب الله سبحانه وتعالى فتخلله حتى لم يبقِ فيه محلاً لشيء آخر. ومعنى الخلة: أن تتخلل المحبة القلب حتى لا تدع فيه محلاً لأي شيء آخر، فإبراهيم قد ملأ قلبه حبُّ الله فلم يبقَ فيه محل لولد ولا أهل ولا وطن ولا أي شيء آخر، فخرج عن أقاربه جميعاً متجهاً إلى الله، وهاجر في ذات الله عز وجل، وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، وترك أمته وولده بمكة في واد غير ذي زرع، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. ولما أوحي إليه بذبح ولده قال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ، فلم يُبقِ في قلبه مكاناً لمحبة أي شيء غير محبة الله سبحانه وتعالى، فاستحق بذلك جائزة كبرى هي: الخلة، فاصطفاه الله من خلقه خليلاً. وهذه الخلة أيضاً أعطاها الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد اتخذه الله خليلا، فقد ثبت عنه أنه قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) . وخلة الله هي أعلى منازل العبادة، ولم تثبت إلا لرجلين فقط: إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. قال: (مَن أوَّل شذ) أي أن هذه الصفات كلها من أوَّل شيئاً منها شذ، أي: انحاز عن الطريق المستقيم، والشذوذ معناه الانفراد عن الجادة، يقال: هذه الدابة شاذة نادة، أي تهرب عن البهائم ولا تسير معها في طريقها.

كل ما أوهم نقصا فهو مؤول بالنص

كل ما أوهم نقصاً فهو مؤول بالنص [فالله لم يسكت على ما أوهما حدوثاً أو نقصاً له بل أفهما] يقول: إن التأويل إنما يحتاج إليه عندما تقتضي الصفة نقصاً، فإذا كانت الصفة لا تقتضي نقصاً فإنه لا يحتاج إلى هذا التأويل، أما إذا كانت الصفة بذاتها تدل على النقص فإن الله لا يتركها دون تأويل، بل لابد أن يرِدَ تأويلها بالوحي، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (عبدي مرضت فلم تعدني؟ فقال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فقال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده) ومثله بقية الحديث: (استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) وهكذا؛ فلذلك قال: (فالله لم يسكت على ما أوهما حدوثاً أو نقصاً له بل أفهما) : فكل ما يوهم حدوثاً أو نقصاً لا يمكن أن يقر دون تأويل، بل يجب تأويله بالنص، فالله لم يسكت على ما أوهم حدوثاً أو نقصاً له، بل أفهم معناه وبين مراده بقوله: (مرضت فلم تعدني) في هذا الحديث، وكذا في (جعت) وهي رواية من روايات الحديث، والرواية المشهورة المعروفة هي: (استطعمتك فلم تطعمني) وفي رواية أخرى: (جعت فلم تطعمني) ، وهي مؤولة بنفس التأويل؛ لأنه ذكر: (أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدتني عنده أو لوجدت ذلك عندي) . وبهذا نكون قد انتهينا من توحيد الصفات ووصلنا إلى الكلام في الأسماء.

سلسلة الأسماء والصفات [13]

سلسلة الأسماء والصفات [13] لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد أثبت أهل السنة لله ما أثبته لنفسه من الصفات والأسماء كما يليق بجلاله، وذموا من ألحد في أسماء الله أو نفاها، وكذلك صفاته.

إثبات أسماء الله الحسنى

إثبات أسماء الله الحسنى قال الشيخ حفظه الله: [أسماؤه الحسنى على الصفات دلت فذلت أوجه النفاة]

أصل اشتقاق الاسم

أصل اشتقاق الاسم والاسم مختلف فيه: فقيل: هو مشتق من السمو؛ لأنه يسمو به مسماه فيرفعه من حالة المجهولية إلى المعلومية فيعرف به. وقيل: مشتق من السمة؛ لأنه علامة على مسماه، وقد اختلف الكوفيون والبصريون فيه: فقال البصريون: أصله (سمو) كقنو فحذفت لامه وعرضت الهاء بهمزة الوصل مثل ابن، فإن همزة الوصل التي فيه عوض من اللام وأصله بنو وهكذا. وقال الكوفيون: أصله (وسم) من السمة التي هي العلامة، ففاء الكلمة هي المحذوفة وعوض منها همزة الوصل. لكن مذهب البصريين أصح؛ لأننا نقول: أسماء ولا نقول: أوسام، ونقول: سمي ولا نقول: وُسَيم، ونقول: سميت ابني زيداً، ولا نقول: وسمت ابني زيداً، وهذا الذي يقول فيه أحدهم: اشتق الاسم من سما البصريُ واشتقه من وسم الكوفيُ والمذهب المقدم الجليّ دليله الأسماء والسميُّ

ما يطلق من الأسماء على الصفات

ما يطلق من الأسماء على الصفات والاسم المقصود به: ما يعين مسماه ويعرف به، وهو نوعان: اسم معين لذات مسماه، وهذا هو المسمى بالعَلم، واسم يطلق على مسماه إذا كان معروفاً، وهذا يشمل الضمائر والأوصاف، فكل صفة هي اسم بالمعنى الأخير، فكل صفة من صفات الله اشتق منها اسم يطلق عليها، والاسم هنا بالمعنى الأخير، وليس معناه أنه معين له ولا يطلق على غيره، بل الاسم الذي يطلق عليه ولا يجوز إطلاقه على غيره هو: الله والرحمن فقط، فالله هل تعلم له سمياً؟ لا يمكن أن يسمى بهذا الاسم أحد، والرحمن كذلك؛ ولذلك استعمل هذان الاسمان في القرآن استعمال الأسماء: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] . أما الرحيم: فهو اسم من أسماء الله مشتق من صفة من صفاته، لكنه لا يعين ذاته، بل يمكن أن يوصف به غيره كقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، والذين يقولون: إن هذه الأسماء إنما تعينه بشرط دخول (أل) عليها، يقولون: (الرحيم) بأل خاصة به، وأما (رحيم) فيمكن أن يوصف بها كل متصف بالرحمة، فهذا مخالف للقياس اللغوي؛ لأن (أل) هنا إنما تكون بحسب موقع الاسم الذي هي فيه، فإذا كان نعتاً لمعرفة حلي بأل، وإذا كان نعتاً لنكرة حذفت منه أل، ومثل ذلك الحليم، فتقول: بشرناه بغلام حليم، والحليم بأل تستعمل إذا كان نعتاً لمعرفة كقول الشاعر: وقد يستبلد الرجل الحليمُ فالحليم هنا: نعت رجل، والرجل معرفة فعرفت فيه، كذلك: عليم والعليم وكريم والكريم، إذا كان نعتاً لنكرة حذفت منه أل وإن كان نعتاً لمعرفة أثبتت فيه أل، فلا يعين ذلك الله سبحانه وتعالى، بل يوصف به المخلوق ويسمى به. ومن هنا اختلف في الصفات المختصة بالله سبحانه وتعالى هل يصح أن يسمى خلقه بأوصافها أم لا؟ فمثلاً: هل يجوز أن نسمي شخصاً: المنتقم، أو المهيمن، أو الجبار، أو المتكبر أو نحو ذلك؟ أما المهيمن فقد وصف الله تعالى القرآن بأنه مهيمن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] وهو في لغة أهل اليمن بمعنى الشاهد. ويذكر: أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي مجلسه ابن عباس فقالت: يا أمير المؤمنين! إن بعلي عبد حقي، وترك الوصيد رهواً، ولي عليه مهيمن، فهل عليه من مسيطر؟ قال: ما فهمت ماذا تقولين، فقال ابن عباس كلمات كلهن في كتاب الله: بعلي تقصد زوجي: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:72] . عبد حقي أي: تركه، ومنه قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: التاركين لعبادة ذلك الولد. وترك الوصيد رهواً، الوصيد الباب: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] ، رهواً أي: مفتوحاً: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24] . ولي عليه مهيمن أي: شاهد {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] . فهل لي عليه مسيطر: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22] والمسيطر هو الحاكم المجازي. فإطلاق المهيمن على إنسان وتسمية ولده المهيمن مثلاً أو نحو ذلك، مختلف فيها: فقال طائفة من أهل العلم: تحل، ولكن لا يجوز التسمية بالله ولا بالرحمن، أما ما دون ذلك من الأسماء فتحل التسمية به، إلا ما كان منها عيباً في المخلوق كالمتكبر والجبار ونحو ذلك فلا يحل التسمية به؛ لأنه من الألقاب التي لا يحل التنابز بها، ولكن يمكن أن يوصف بها من كان متصفاً بتلك الصفة، يقال: فلان متكبر، أو أخرجوا عنا هذا المتكبر أو هذا الجبار ونحو ذلك؛ ولهذا يطلق الجبار على جذع النخلة الضخم، ومنه قول الشاعر وهو زياد بن حمل النجدي: متى أمر على الشقراء معتسفاً خل النقا بمروح لحمها زيمُ والوشم قد خرجت منه وقابلها من الثنايا التي لم أقلها ثرم فليت شعري عن جنبي مكشحة وحيث يبنى من الحناءة الأطم عن الأشاءة هل زالت مخارمها وهل تغير من آرامها إرم وجنة ما يذم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحمل محتزم (جبارها) أي: جذوع النخل الضخمة. وأما (الغفور) فلا يمكن أن يوصف به غير الله أصلاً، فلا يسمى به إلا إذا قصد به معنىً آخر وهو أنه من الغفر الذي هو الخفاء والستر، فقد يقال مثلاً: الليل كافر غافر. (كافر) معناه: ساتر لما فيه، (غافر) معناه: مكفٍ له، ومنه اشتقاق الغفر الذي هو منزلة من منازل القمر لاختفائها، والمغفر الذي يغفر الرأس، أي: يستره عن السيول.

مسألة التوقيف في الأسماء الحسنى

مسألة التوقيف في الأسماء الحسنى وهذه الأسماء العلى قد اختلف فيها مثل الاختلاف السابق في الصفات، هل هي توقيفية أو لا؟ وقد ذكرنا من قبل ثلاثة أقوال في الصفات: القول الأول: أن الصفات كلها توقيفية. القول الثاني: أنها كلها جائزة الإطلاق إذا اقتضت كمالاً، فكل صفة تقتضي كمالاً يجوز إطلاقها عليه ولو ولم ترد. القول الثالث: الاكتفاء بما ورد ولو لم يصرح به، بل يكتفى بالفعل والمصدر ونحو ذلك. والأسماء أيضاً مختلف فيها: فقيل: هي توقيفية مطلقاً، وعلى هذا جاء الدعاء: (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) ، فهذا فيه: (سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك) أي: مما سميت به نفسك: (أو علمته أحداً من خلقك) أي: مما سميت به نفسك: (أو ستأثرت به في علم الغيب عندك) معناه: بعد أن سميت به نفسك. وقيل: هي أيضاً مثل الصفات، فكل صفة ثبتت لله يجوز اشتقاق الاسم منها، ولكن هذا القول فيه توسع زائد؛ لأن بعض الصفات -كما ذكرنا- لا يحل تفسيرها، بل تفسيرها تلاوتها. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] مثلاً، هذه في موضع معين مقصود بها المقابلة وشدة الأخذ والأخذ الوبيل. وقيل بالتفصيل: فالصفات التي ورد بها النص وتقتضي كمالاً ولا توهم نقصاً يجوز اشتقاق الأسماء منها مطلقاً، والصفات التي توهم النقص مطلقاً سواء ورد بها النص أو لم يرد لا يشتق منها الاسم.

أنواع الصفات وحكم اشتقاق الأسماء منها

أنواع الصفات وحكم اشتقاق الأسماء منها ونحن ذكرنا أربع صور للصفات؛ لأنها إما أن يرد بها النص أو لا يرد بها، وكل واحدة منهما إما أن توهم النقص أو لا توهمه: فالنوع الأول: وهو ما ورد به النص مما لا يوهم النقص فهذا يشتق منه الاسم. النوع الثاني: ما ورد به النص وقد يوهم النقص لدى ضعاف العقول ومن في ذهنه نقص، فهذا لا يشتق منه الاسم. النوع الثالث: ما لم يرد به النص ولا يوهم النقص فهذا الراجح جواز اشتقاق الأسماء منه كالمحسن والمتفضل والمنعم، فيجوز اشتقاق الأسماء منه وعلى هذا يجوز التعبيد له، يقال: عبد المحسن وعبد المنعم وعبد المتفضل، كعبد المقصود وعبد الموجود ونحو ذلك. وقالت طائفة من أهل العلم: لا يجوز في كل هذه الأسماء التعبيد، ومثل هذا في الدعاء هل يقال: يا محسن، يا متفضل، يا منعم، يا موجود، يا مقصود، أو لا يقال ذلك في الدعاء؟ هذا محل خلاف على الذي ذكرناه.

عد أسماء الله الحسنى وإحصاؤها

عد أسماء الله الحسنى وإحصاؤها وعموماً فإن أسماء الله سبحانه وتعالى جاءت النصوص بما يدل على كثرتها، ولم يرد لها حصر بعدد محدد، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) . وقد اختلف العلماء في معنى قوله: (من أحصاها) : فقالت طائفة: من عرف أعدادها بذواتها. وهذا مشكل؛ لأن معناه التعبد بشيء مجهول؛ لأنه لم يرد بيانها في هذا اللفظ، لكن يجاب عن هذا بأن المقصود بها حينئذٍ ما ورد في حديث مداره على الوليد بن مسلم من رواية أبي هريرة وهو عند الترمذي وابن حبان والحاكم وابن خزيمة ولفظه: (الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت -وفي رواية المغيث- الحسيب، الجليل، الكريم، القريب -وفي رواية الرقيب- المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، المتين -وفي رواية المبين- الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور) وفي رواية بدل هذه بإثبات الوكيل والحنان المنان، وإثبات الحنان المنان جاء في صحيح ابن حبان، وإن كان مالك قد كره الدعاء بقول: يا حنان يا منان، لأنه لم يصح عنده هذا الحديث، وهو في صحيح ابن حبان كما ذكرنا. والذين يطعنون في اتصال هذا الحديث يزعمون أنه موقوف على أبي هريرة، أو يزعمون أن الوليد بن مسلم قد يكون دلس فيه، ويجاب قولهم: بالنسبة للوليد بن مسلم المعروف بتدليس التسوية بأنه صرح بالسماع هنا، وأيضاً فإن أبا هريرة حتى لو كان موقوفاً عليه فإن هذا مما لا يعرف بالرأي، وبالأخص أنه أدرجه مع الحديث. فإذاً: لابد أن يكون لهذا العد للأسماء أصل على اختلاف رواياته، مع أن الوارد في حديث أبي هريرة لو جمعناه لزاد على المائة اسم باختلاف الروايات؛ لأن فيه المتين والمبين، وفيه المغيث والمقيت، وفيه الرقيب والقريب، وفيه البر والوكيل بدلهما الحنان المنان، فعلى هذا فإن معنى الحديث من أحصاها أي: من حفظها وعدها. وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: معنى (من أحصاها) من آمن بها على الإجمال، لكن هذا القول بعيد من الناحية اللغوية؛ لأن لفظ الإحصاء معناه: العد.

اسم الله الأعظم ليس منحصرا في اسم واحد

اسم الله الأعظم ليس منحصراً في اسم واحد ولله تعالى أسماء بكل اللغات، فليست أسماؤه محصورة في العربية، وقد سبق البحث في الله هل هو من العربية أو لا؟ وقد دعاه كثير من عباده بكثير من الأسماء فاستجيب لهم، وعلى هذا فالأحاديث الواردة في الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى لا تقتضي انحصار ذلك في اسم واحد، بل قد يكون الاسم الأعظم لدى بني إسرائيل غير الاسم الأعظم في هذه الأمة. وهذا الاسم لا ينبغي لأحد من هذه الأمة معرفته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يدعو الإنسان به فيستجاب له، لكن لا يتأكد من أنه هو الاسم الأعظم بخصوصه، ويبدو أن الاسم الأعظم يتفاوت بحسب الأشخاص أيضاً كما يتفاوت بحسب الأمور، فيمكن أن يكون الاسم الأعظم في حق شخص معين هو الاسم الفلاني كذا، وشخص آخر يكون الاسم الأعظم في حقه هو الاسم الفلاني؛ وذلك نظراً لتنوع الأمم. ولا فرق بين أن يكون الاسم الأعظم لدى اليهود هو الاسم الفلاني، والاسم الأعظم لدى هذه الأمة الاسم الفلاني، وبين وجود ذلك في الأفراد؛ لأن الاسمية لا تنسخ، فكونه اسم تسمى به هذا لا ينسخ، لكن يأتي الوعد عليه، والوعد عليه يختلف باختلاف العبادات مثلما ذكرنا من قبل في النزول، فوقت النزول يختلف باختلاف البلدان، ولكن إثبات النزول لله تعالى هو نزول واحد، مع أن الثلث الأخير من الليل يختلف باختلاف البلدان، فلا مانع أن يكون الاسم الأعظم كذلك. ومع هذا فقد اشتغل عدد من الناس في البحث في الاسم الأعظم ما هو؟ فقالت طائفة: هو (الله) ، وقالت طائفة أخرى: هو (ذو الجلال والإكرام) ، وقالت طائفة أخرى: هو (القيوم) ، وقالت طائفة أخرى: هو (الحي) ، وكل هذا أصله أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر بعض الآيات بخصوصها فذكر أنه في آيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] وآية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فبعض العلماء بحثوا عما تجمع هاتان الآيتان من الأسماء. وقد جاء في حديث عائشة أن الاسم الأعظم من الأسماء التي دعت بها، وقد جاء في حديث الأنصاري الذي قال: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت ديان السماوات والأرض، قال له: لقد سأل هذا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وإذا دعي به أعطى) وهذا يقتضي تنوع الاسم، فالأسماء التي قالتها عائشة غير الأسماء التي دعا بها هذا الأنصاري، فدعاء عائشة: (اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم) . وعموماً لا ينبغي للإنسان أن يشتغل وأن يتعب نفسه في البحث عن الاسم الأعظم بخصوصه، بل يسأل الله بأي اسم من أسمائه فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، ويقول تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، ويقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] . وقد تخبط طوائف من العلماء في البحث عن الاسم الأعظم حتى أدى بهم هذا إلى الخرافة، فبدأت طائفة منهم تبحث في تقطيع الحروف ونحو ذلك، وأهل علم الجدول يرون أن الاسم الأعظم مركب فيعدونه ألفاً (أيقش) وهي الألف التي هي رمز الواحد والياء التي هي رمز عشرة والقاف التي هي رمز مائة والشين التي هي رمز ألف، وبعضهم يعدها بالكتابة بنجمة سليمان وفيه خاتم سليمان، وهو نجم مسدس فيه شعار اليهود، وغير هذا من التخبطات التي لا أصل لها.

كل اسم من أسماء الله الحسنى يدل على صفة أو أكثر من صفاته

كل اسم من أسماء الله الحسنى يدل على صفة أو أكثر من صفاته (أسماؤه الحسنى على الصفات دلت فذلت أوجه النفاة) (أسماؤه الحسنى) الحسنى: المتصفة بالحسن، وهذه صفة كاشفة. والصفات تنقسم إلى قسمين: صفات مميزة وصفات كاشفة. فالصفات المميزة: معناها التي تميز بعض الموصوف عن بعضه مثل قولك: جاء الصحابة من المهاجرين، أو جاء الصحابة الأنصاريون، أو جاء الصحابة البدريون، فهذه الصفة مميزة؛ لأنها تميز بعضهم عن بعض. والصفات الكاشفة: مثلما لو قلت: الصحابة الكرام، فالصحابة كلهم كرام، فهذه كاشفة للجميع، وكذلك قولك: القرآن الكريم أو القرآن العظيم، هذه صفة كاشفة لكل القرآن، لكن قولك القرآن المدني أو القرآن المكي هذه صفة مميزة، وأسماء الله كلها حسنى. (على الصفات دلت) فهذه الأسماء لا يجوز تعطيلها، بل كل اسم يدل على صفة فأكثر، فاسم (الله) يدل على جميع الصفات، وكل اسم اشتق من صفة فإنه يدل على تلك الصفة أيضاً، وقد يقتضي أكثر من صفة، فبعض الصفات يدخل فيها كثير من الصفات الأخرى. (فذلت أوجه النفاة) يترتب على ذلك ذلة أوجه النفاة؛ لأنهم ألحدوا في أسماء الله فعطلوها عن معانيها، وهذا مأخوذ من قوله: {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] ، أي: في ذلك الوقت، فمن حمل ظلماً وبالأخص إذا كان إلحاداً في أسماء الله وصفاته.

إثبات الأسماء والصفات لابد أن يكون على طريقة السلف الصالح

إثبات الأسماء والصفات لابد أن يكون على طريقة السلف الصالح قال: [فأثبتوا من نصه ما السلفُ أثبت وانفوا ما نفى ثم قفوا] ما يتعلق بالأسماء والصفات يثبت فيه ما جاء عن السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم وأتباع أتباعهم من المرضيين الذين شهد لهم الناس بالخيرية وسلوك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيثبت من ذلك ما أثبتوه وينفى منه ما نفوه، ويوقف بعد ذلك على هذا الحد فلا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا يقتضي التوقيف في الصفات وفي الأسماء، وهو قول لكثير من أهل العلم، لذلك قال: فأثبتوا من نصه ما السلف أثبت وانفوا ما نفى ثم قفوا والسلف فَعَلْ بمعنى مفعول، مثل لَقَطْ ونَقَص وقَنَص، فالقَنَص معناه: المقنوص كما قال الشاعر: يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم (شاة ما قنص) معناه: يا شاة قنص. والسلف: المقصود به ما سلف، وأصل ذلك أن الناس قديماً كانوا إذا ارتحلوا من مكان قدموا المترفين منهم فيركبون أحسن المراكب ويخرجون أمامهم، ويكون من وراءهم تبعاً لهم، فمنهم من يمشي ومنهم من ينتظر رجوع الدواب والمواشي، فالمتقدمون يسمون سلفاً كأنهم أسلفوهم أي: قدموا إليهم قرضاً ليؤخذ منهم فيما بعد، والعصور السابقة من هذه الأمة هي سلف لمن يأتي بعدها. والمقصود بالسلف الصالح إذا أطلق: الذين زكاهم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وتزكيته لهم نوعان: تزكية مشروطة، وتزكية مطلقة؛ فالتزكية المشروطة: هي التي في قوله: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم فيفتح لهم) ، وهذه مشروطة بالرؤية، فمن عاش في ذلك الوقت ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاش في عصر التابعين ولم يرى صحابياً، أو عاش في عصر أتباع التابعين ولم يرى تابعياً -وهذا كثيراً ما يحصل- لا يعتبر به، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

سلسلة الأسماء والصفات [14]

سلسلة الأسماء والصفات [14]

سبب تسمية الكلالة بهذه التسمية

سبب تسمية الكلالة بهذه التسمية Q لماذا سمي ميراث الكلالة بهذا الاسم؟ A أن الكلالة من (كلَّ) بمعنى تعب، والإنسان الذي ليس له أصل ولا فرع كأنه قد تعب من الحياة فانقطع وحده، ويقال: كلَّ الفرس إذا جرى حتى انقطع، وكلَّ السيف إذا لم يقطع، وكلَّ الإنسان بمعنى: تعب من سيره، فمن هنا جاء اشتقاق الكلالة.

معنى الأذن في قوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم)

معنى الأذن في قوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) Q قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61] ، هل (أذن) هنا بمعنى: الاستماع؟ A لا؛ لأن الآية قرئت بقراءتين سبعيتين: (قُلْ أُذْنُ خَيْرٍ لَكُمْ) بالإسكان، وقرئت: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) [التوبة:61] ، بالضم، والمعنى في كلتيهما أي: موصل، فالأذن عند العرب هو المحقن الذي يحقن به اللبن في وعاء اللبن، والمقصود به: ما يبلغ، فقد كان المنافقون إذا طلب منهم تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما هو إلا أذن، أي: مبلغ عن الله فقط، فكأنه بمثابة المحقن الذي يحقن فيه اللبن، ثم لا يكون له فائدة بعد ذلك، فرد الله عليهم هذا القول بقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة:61] .

حكم التجويد والتوسع في القراءات

حكم التجويد والتوسع في القراءات Q ما رأيكم فيمن لا يرى التجويد لتلاوة القرآن أو التوسع في القراءة والتلفيق بين القراءات؟ A التجويد أنواع: منه ما هو واجب؛ وهو الذي إذا لم يأخذ به الإنسان أفسد قراءته، وهذا واجب لا خلاف فيه، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله: الأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم وهذه المرتبة يأثم الإنسان بتركها. القسم الثاني: التجويد الذي يقتضي اختلاط الحروف في مخارجها وصفاتها، أو إدغام بعض ما لا يدغم، أو إزالة بعض الحركات بالإشالة والسرعة كالهذرمة، وكذلك التنطيق الزائد، فترك هذا واجب، وفعله يوقع في الإثم. القسم الثالث من التجويد: ما كان سنة، وهو ما يقتضي تحسين القرآن وحسن تقطيعه، ويعين على تدبره، كالوقف في مواضع الوقف على التمام أو الكمال، ونحو ذلك، فهذا التجويد سنة. ومنه تجويد مندوب عند طائفة من أهل العلم: وهو تحسين الصوت به حتى يكون أرق من صوته العادي، وذلك بأن يشجي صوته به، حتى يكون ندياً شجياً. ومنه ما هو مكروه: وهو ما يكون كشكل الطرب والغناء ونحو ذلك. ومنه ما يكون محرماً: وهو ما يبالغ الإنسان فيه حتى يتقعر ويخرج به الكلام عن أصله. فإذاًَ: التجويد تعتريه أحكام الشرع بهذا، وأما التوسع في القراءة بالقراءات فإن ذلك بحسب ما تيسر، والله تعالى يقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، وقد قال السيوطي رحمه الله: إن القراءات العشر برواياتها العشرين مما تيسر في زماننا. أي: أنها ميسورة وسهلة، وقد ألفت فيها الكتب، وتداولها الناس؛ فأصبحت متيسرة. وابن الجزري رحمه الله ذكر في النشر ألف طريق وطريق واحدة في القرآن، فقال: هذه ألف طريق وطريق واحدة يمكن أن يقرأ بها جميعاً، فهي متيسرة سهلة، وقد نظمها في طيبة النشر. وأما التلفيق بين القراءات فإذا كان في الكلمة الواحدة فهو محرم قطعاً، مثل من يجمع بين قراءتين متنافيتين؛ كالذي يرقق الراء في كلمة الآخرة فإنه لا يحقق الهمزة، وهذا مثال في تحريف الكلمة الواحدة؛ لأنه لحن، وليس كلاماً من لغة واحدة. وإذا كان في الجملة الواحدة فمحل خلاف، فقيل بتحريمه، وقيل بكراهته. وإذا كان في الآية الواحدة فهو مكروه قطعاً، وإذا كان في آيتين ولم يكن على وجه التعليل فهو خلاف الأولى. ومع ذلك فإن كثيراً من أهل العلم يرى أن القراءات أنفسها ملفقة من الحروف السبعة التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فليست القراءة موافقة لحرف واحد، بل كل قراءة فيها أخذ من كل الحروف، ولا يمكن الجزم بهذا؛ لأن الجزم فيه صعب، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن على سبعة أحرف؛ لكن لم يبين لنا أن هذا هو الحرف الأول وهذا هو الحرف الثاني وهذا هو الحرف الثالث وهذا الرابع وهذا الخامس وهذا السادس وهذا السابع، بل قرأ بالجميع، وأقر الناس على قراءة الجميع، فبالإمكان أن يحفظ فلان من الناس سورة التوبة على الحرف الأول، ويحفظ هو نفسه سورة يس مثلاً على الحرف الخامس، وسورة أخرى على الحرف السادس ويلفق الجميع، فيكون قد حفظ القرآن بحروفه المتعددة، وهكذا.

الحكمة في توفيق من لم تقبل توبته إلى التوبة

الحكمة في توفيق من لم تقبل توبته إلى التوبة Q ما هي الحكمة من توفيق الله تعالى العبد للتوبة إذا كان لن يتقبل منه هذه التوبة؟ A الحكمة من توفيق الله للعبد لأي عمل صالح وهو لا يريد أن يتقبله منه هي الرحمة بغيره، فقد يوفق الله العبد لأن يتوب من ذنب ليطهر الله الأرض من ذلك الذنب؛ لأن الأرض تشكو إلى الله من ذلك الذنب، فيترك الإنسان ذلك الذنب، والله تعالى يعلم أنه سيعود إليه، أو أنه يختم له بالشقاوة فلا يتقبل الله توبته، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] . ومثل هذه الأعمال كلها، فمثلاً قد يوفق الله العبد للصدقة، فيجعل تلك الصدقة رحمة للمتصدَق عليه، ولكنه لا يقبلها من المتصدِق؛ لأنه علم أن في قلبه مرضاً فيبطلها بالمن والأذى ونحو ذلك، نعوذ بالله من سوء الخاتمة! فلله تعالى في ذلك حكم عجيبة جداً. ولهذا فإن أعمال الكافرين قد تحقق رحمة للمؤمنين، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل من مائدة ابن جدعان هو وكثير من المؤمنين الضعفاء ومع ذلك لا يتقبل الله تلك المائدة من ابن جدعان، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يقدمه؛ لأنه كان قد اشتهرت مائدته؛ لأنه كان ينادي عليها المنادي بفجاج مكة وشعابها، حتى قال فيه الشاعر: له داعٍ بمكة مشمئل وآخر فوق دارته ينادي فالرسول صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة قال: (إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ، والله تعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] . وأهل الفترة هم في النهاية إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، فإن كانوا من أهل الجنة فما تقربوا به إلى الله سبحانه وتعالى يحسب لهم إذا امتحنوا يوم القيامة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به؛ فإنه يتقبل منهم ما مضى من أعمالهم؛ لأنه لم تكن قد قامت عليهم الحجة في الماضي. وإن كانوا من أهل النار فلم ينجحوا في الامتحان الأخروي، فإنه لا يتقبل منهم، إنما يتقبل الله من المتقين. ونفس الشيء يكون للذين لم تبلغهم الدعوة من أهل الفترة، فتقام عليهم الحجة يوم القيامة بالامتحان، حيث يمتحنهم الله ببعثة النبي إليهم، ومن علم الله فيه الخير وفقه لتصديقه ومن علم فيه غير ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- حجبه عن ذلك.

سبب حصول الغلبة للنصارى في الوقت الحاضر

سبب حصول الغلبة للنصارى في الوقت الحاضر Q كيف يكون لأتباع عيسى عليه السلام الغلبة على غيرهم في الزمان الحاضر؟ A أن النصارى هم أكثر سكان أهل الأرض إلى الآن، وأيضاً دولهم ذات مكانة في الدنيا، فقد فتح لهم في مجالات الدنيا من أيام عيسى إلى زماننا هذا. وقد كان لهم من المال والقوة الشيء الكثير، حتى كان رجال الكنيسة هم الدرجة الثانية في المجتمعات الإقطاعية في أوروبا، وكان لهم الحكم، وكانوا يقتلون من خالفهم، ففي العصور المظلمة في أوروبا كان رجال الكنيسة فيها يتحكمون في العلم، ويقتلون من أتى بأي اختراع، ويتحكمون في كل شيء. وقد يكون هناك حكمة معينة وهي: إعزاز هذا الدين الذي جاء به عيسى؛ لأنه عاش في ذلة ومسكنة، وعاش أتباعه في حياته بذلة ومسكنة، حيث كان اليهود يطاردونهم ويريدون قتل عيسى، ولم تكن لهم دولة في حياة عيسى ولا تمكين ولا في أيام الحواريين، وهم قد باعوا أنفسهم لله حين قال لهم عيسى عليه السلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52] ، فأراد الله تمكيناً دائماً لهم مقابلاً لذلك، وهذا مثل إبراهيم عليه السلام حين طرده أبوه وأقرب الناس إليه ورموه في النار، فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.

معنى كون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

معنى كون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك Q ما صحة قول القائل: إن الله منزه عن استطابة الروائح الكريهة تعليقاً على حديث: (إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ؟ A ليست الرائحة كريهة؛ لأن خلوف فم الصائم طيب عند الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، بل طيبه عند الله سبحانه تعالى أن يتقبله منه، بشرط أن يكون ذلك الصائم محقاً في صومه مخلصاً فيه لله، أما إذا كان الصائم غير مخلص لله فلا يكون خلوفه مستطاباً عند الله، وإذا كان الصائم مخلصاً لله فهو مستطاب عنده بأي وجه من الوجوه كان. فالمقصود: أنه ترك طعامه وشرابه من أجل الله سبحانه وتعالى، فكان هذا الصوم لله خالصاً، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) . وإنما يذكر هنا ما كان صفة صريحة جاء بها النص أو كان متعلقاً بصفة جاء بها النص ولو لم تذكر تلك الصفة، فقوله: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ، هذا ليس تصريحاً بصفة، لكنه تصريح بمتعلق صفة لم تذكر، فالشم صفة لم تثبت بلفظها لكن متعلق هذا ذكر في هذا الحديث، بخلاف ما جاء فيه أفعل من غير هذا مثل: أثقل عند الله، أو أرجح عند الله من كذا، فهذا المقصود به في الميزان الذي عند الله، فهو ليس متعلقاً بصفات الله، مثل المقصود بالعندية هنا، فالعندية بمعنى القرب في الميزان يوم القيامة فقط، ولذلك فلابد من النظر إلى دلالة الصفة على متعلقها سواءً ذكرت الصفة أو ذكر متعلقها فقط.

سبب وقوع القصاص بين الحيوانات التي لا تكليف عليها

سبب وقوع القصاص بين الحيوانات التي لا تكليف عليها Q كيف يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء يوم القيامة مع رفع التكليف عنها؟ A أن هذا لنفي الظلم، فالظلم يقع حتى مع عدم التكليف، ولذلك لا ينبغي أن يترك الصبيان يظلم بعضهم بعضاً، وهكذا البهائم، وقد روي في السير والقصص أن رجلاً صالحاً كان على ماء فكانت ترده الأسود، فكان إذا ظلم أسد أسداً أو ضايقه بالماء ضربه بعصاه حتى يأخذ له حقه.

تكليف العبد ومحاسبته يوم القيامة

تكليف العبد ومحاسبته يوم القيامة Q هل الطفل يحاسب على أعماله يوم القيامة؟ وكيف تكتب حسناته وسيئاته؟ A الطفل له حسنات تكتب ويجازى عليها يوم القيامة، لكن سيئاته لا تصل إلى درجة الحرمة؛ فلا يعاقب عليها؛ لأنه ليس واصلاً إلى تلك الدرجة، وهذا محله في حقوق الله، أما في حقوق الناس فإنها من الحقوق التي لا تترك، بل لابد أن يأخذوها، وحقوق الناس تابعة للخطاب الوضعي لا للخطاب التكليفي، ولهذا فإن القاتل وهو نائم أو القاتل خطأً لابد أن يؤخذ منه الحق لذوي المقتول، والقاتل خطأً تجب عليه الدية، حتى لو كان الخطأ قد رفع فيه التكليف، وهكذا الصبي لو قتل أو جرح أو كسر شيئاً فإنه يجب ذلك في ماله، وهكذا النائم، فالمرأة إذا نامت حول طفلها فانقلبت عليه فمات، فقد قتلته خطأً تلزم فيه الدية والكفارة. فالخطاب التكليفي هو الذي يشترط له تكليفاً، أما الخطاب الوضعي فلا يشترط له ذلك، ومنه الضمان ونحوه. أما الصبيان فإن أجورهم يوم القيامة ثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم حين رفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولك أجر) ، فأثبت أن للصبي حجاً، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الصبيان بالصلاة لسبع وضربهم عليها لعشر، وأمر بالتفريق بينهم في المضاجع، وهذا أيضاً لنفي ما يمكن أن يتصور بين ذكورهم وإناثهم من الاختلاط المحرم. وهنا يرد خلاف أصولي مشهور هو في معنى التكليف؛ لأن التكليف مختلف فيه، فقيل: هو إلزام ما فيه كلفة. وقيل: هو طلب ما فيه كلفة. وعلى كل واحد من القولين إشكال، فإذا قلنا: التكليف إلزام ما فيه كلفة، فمعناه أن المندوبات والمكروهات والمباحات ليست من أقسام التكليف؛ لأنها لا إلزام فيها. وإذا قلنا: التكليف هو: طلب ما فيه الكلفة، فمعناه أن الصبي مكلف؛ لأنه يطلب منه المندوبات على سبيل الندب والواجبات على سبيل الندب أيضاً، وينهى عن المحرمات على سبيل الكراهة وعن المكروهات على سبيل الكراهة أيضاً، هذا إشكال أصولي وارد. فينبغي إذا ظلم الطفل طفلاً آخر أن يقتص له منه، لكن يكون ذلك بلطف. وأما إذا كان في الآخرة فسيقتص له؛ لأنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وهذا من باب أولى. وأما رفع القلم فهو فيما يتعلق بحقوق الله، أما حقوق الناس فمشكلة؛ لأن حقوق الناس لابد أن يأخذوها، فهو حق لا يترك، أو يجازي الله عنها يوم القيامة، فيمكن أن الله يرضي صاحبها في مقابلها، ولهذا كانت أخطر الحقوق. والحقوق ثلاثة: - ذنب لا يغفر، وهو: الشرك بالله. - وذنب لا يترك، وهو: حقوق العباد. - وذنب تحت المشيئة؛ إن شاء الله أخذ به، وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله، فرفع القلم هو في حقوق الله.

حكم استخدام أجهزة الصدى في المساجد

حكم استخدام أجهزة الصدى في المساجد Q ما حكم استخدام أجهزة الصدى في المساجد؟ وهل يعد ذلك من التكلف؟ A رأيي أنه من التكلف الذي لا ينبغي، وفيها مشغلة لكثير من المصلين عن الخشوع، فلا أرى جواز استعماله، وحتى إن كثيراً من الأئمة يتكلف فيما يتعلق بتقريب الميكرفون من فمه والتمايل معه، وهذا من التكلف الذي ينبغي أن يهجر.

متن يشمل أنواع التوحيد كلها

متن يشمل أنواع التوحيد كلها Q ماذا يجاب به من يقول: إن هذا المتن يقتصر على جانب الأسماء والصفات فقط؟ A ليس هذا صحيحاً، بل فيه أنواع التوحيد كلها، وحتى فيه أمور زائدة على ما ليس من توحيد الله عز وجل، مثل أقسام الإيمان الأخرى؛ فإنها كلها مذكورة فيه، وقد جاء التصريح بما يتعلق بتوحيد الإلوهية في قوله: واجتنبوا الشرك الجلي والخفي ولو بما فيه اختلاف السلف فأفردوه جل بالعباده لا تشركوا في نوعها عباده فلا تسموا ولداً عبد علي أو تنذروا لصالح أو لولي ولا تمسوا قبراً أو تمسحوا ولا تطوفوا حوله أو تذبحوا لا تعبدوه بسوى ما قد شرع بل نتقرب بجلب ما نفع وصرح بتوحيد الربوبية في قوله: وبالربوبية وحدوه فهو الذي تعنو له الوجوه لا تجعلوا إذا دعوتم وسطا بينكم وبينه فهو خطا وكل هذا من توحيد الربوبية. وأما أنواع الإيمان الأخرى فهي مذكورة فيه: الإيمان، وتعريف الإيمان، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل، والكتب المنزلة، والملائكة، وبالقدر خيره وشره، ومشاهد القيامة، وما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، كل هذا مذكور فيه؛ فهو متضمن لكل أبحاث الإيمان.

بعض اللغات في الهمزة

بعض اللغات في الهمزة Q لماذا لم يثبت الشيخ الهمزة في يشاء في قوله: فما يشا فينا يكن لو لم نشا؟ A هذه الهمزة فيها أوجه كثيرة في اللغة، ومنها: تحفيفها بقلبها ألفاً، وهو كثير، وهي لغة قريش في مثل هذا، ولو أتى بالهمزة لم يكن ذلك مستقيماً في الوزن، فأسهل منها الإتيان بالألف؛ لأنه لو أتى بها ساكنة في الآخر كان النطق بها صعباً، ولذلك يقول ابن المبري رحمه الله: والهمز في النطق به تكلفُ فسهلوه تارة وحذفُوا وأبدلوه حرف مد محضاً ونقلوه للسكون لفظاً كل هذه تسهيلات في القراءة، وهذا ذكره ابن المبري في كتابه الدرر اللوامع في أصل ما قرأ الإمام نافع.

سؤال متعلق بتحريك قافية النظم

سؤال متعلق بتحريك قافية النظم السؤال الثالث: لم لا يصح تحريك قافية البيت رقم ثمانية وأربعين: وليس يطعمه ولن يناله لحومها ودماء ما يهدى له A بل يجوز فيها أن تقول: ولن ينالهُ لحومها ودماء ما يهدى لهُ، لكن الإسكان في مثل هذا أجود في القافية.

بعض معاني الإدراك

بعض معاني الإدراك Q الإدراك بمعنى سعة العلم، هل يدخل في ضمن ذلك قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ؟ A هذا كله إدراك، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك تفصيلاً، فهو إدراك كامل له، لكن العلم قد يكون بالإدراك مثل المذكور هنا، وقد يكون دون ذلك، مثل علمك أنت بمن يطرق عليك الباب، فأنت جازم بأن وراء الباب شخصاً يطرق عليك، لكن لا تدركه؛ لأنك لا تعلم لونه، ولا تعرف قامته، ولا هل هو صغير أم كبير، ولا هل هو ذكر أو أنثى، فهذا هو الفرق بين العلم والإدراك، فإن العلم يشمل الجميع.

إطلاق لفظ القرآن على الكتب المنزلة من عند الله تبارك وتعالى

إطلاق لفظ القرآن على الكتب المنزلة من عند الله تبارك وتعالى Q حديث: (ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن التلاوة يتغنى بالقرآن) ، هل (بالقرآن) هنا زيادة؟ A هي رواية في الحديث؛ لأن القرآن المقصود به: الكتاب المنزل مطلقاً، وقد جاء في كثير من الأحاديث إطلاق القرآن على الكتب الأخرى التي تقرأ، فقد جاء ذكر قراءة داود للقرآن، والمقصود بالقرآن الزبور المنزل عليه، أو الكتب التي كان يقرؤها وهي التوراة والإنجيل والزبور، وجاء هذا في عدد كبير من الأحاديث التي فيها تصريح بقراءة الأنبياء للقرآن.

الفرق بين القضاء والحكم

الفرق بين القضاء والحكم Q ما هو تلخيص الفرق بين القضاء والحكم؟ A قضاء الله سبحانه وتعالى هو رتبة من مراتب قدره، والمقصود به: تنفيذ ما يريد أن يكون على وقت ما أراد، مثل جلوسنا هذا قد أراده الله قبل خلقنا ثم كتبه، وقد كتب أنه سيقع في هذه السنة كذا وفي هذه الليلة كذا، ثم ينفذ ذلك في وقته الآن، فهذا قضاءه. ويأتي القضاء بمعنى الأمر دون إلزام، وذلك مثل قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، إذا كان الخطاب لأمة الدعوة. ويأتي بمعنى الأمر بالإلزام إذا كان الخطاب لأمة الإجابة في هذه الآية مثلاً. ويأتي القضاء بمعنى الفصل بين الخصوم، وذلك مثل القضاء في يوم القيامة. أما الحكم فإنه في أغلب إطلاقاته في النصوص الشرعية إنما يطلق على الإلزام بالقوة الحكمية، مثلاً: الفصل بين المتخاصمين وفض النزاع هذا يسمى حكماً، والقهر والغلبة يسمى حكماً، لكن مجرد الإيجاب أو مجرد الطلب غير الموجب يسمى قضاءً ولا يسمى حكماً، فبينهما تداخل، وبينهما عموم وخصوص. فالحكم يشمل ما لا يشمله القضاء؛ حيث يطلق على السلطان، والقضاء يشمل ما لا يشمله الحكم؛ حيث يطلق على تنفيذ الأشياء بعد أن لم تكن، فكل واحد منهما يختص بشيء، ويشتركان في عموم دلالتهما، وهذا الحال من وجود عموم وخصوص لهما من وجه كثير في الصفات، فهي تتداخل في أشياء، وتختص كل صفة بشيء آخر. أما السؤال عن إطلاق القضاء، فإطلاق القضاء بيننا أغلبه على فصل النزاع مثلاً، ولكن كلمة (قضى) في اللغة تستعمل لكثير من المعاني غير هذا: فهي تطلق على الموت: مثل قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] . وتطلق على الإنهاء والإبلاغ: مثل قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] . وتطلق على الفصل: ومن ذلك قول الله تعالى: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] . وتطلق على الخلق: مثل قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12] ، ولها عدة إطلاقات غير هذه، حيث تطلق تقريباً على عشرة معانٍ في اللغة العربية.

معنى مثلية الأرضين السبع للسماوات السبع

معنى مثلية الأرضين السبع للسماوات السبع Q ما هو التقابل في السماوات السبع والأرضين السبع؟ A لم يرد في القرآن التصريح بأن الأرضين سبع إلا في موضع واحد وهو في سورة الطلاق في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] ، فقد صرح بمثلية الأرضين للسماوات، والمثلية لا يقصد بها المثلية بمعنى التشابه؛ لاختلاف حال السماوات عن حال الأرضين، وإنما نص العلماء على أن المقصود بالمثلية: المثلية العددية فقط، وإلا فلا يمكن مقارنة السماوات والأرض لا من حيث الضخامة والكبر ولا من حيث الارتفاع والانخفاض ولا من حيث مكونات الخلق، فالمثلية إنما هي في العددية فقط. وأما في الأحاديث فقد جاء التصريح بأن الأراضين سبع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن) وجاء كذلك في الحديث: (إن السماوات السبع والأراضين السبع في قبضته) . وأما في العلم الحديث فإن أهل العلم الحديث في أصل نظريتهم لا ينطلقون من مبدأ الإيمان والتسليم بما جاء به الوحي، وإنما يتحدثون عما وصلوا إليه وما وجدوه، ولذلك ليس للسماء ذكر في قاموس العلم الحديث، ولا يعرفون شيئاً اسمه السماء، إنما يعرفون الطبقات المحيطة بالأرض فقط، وهي أنواع: بعضها غازات، وبعضها طبقات جوية، وبعضها فضاء خارجي إلى آخره، لكن هذه كلها من عالم الأرض وليست من عالم السماء، حتى المدارات البعيدة التي فيها الكواكب البعيدة جداً والتي تبعد السنوات الضوئية عن الأرض، ومع ذلك تعتبر من الأرض ولا علاقة لها بالسماء؛ لأن السماء لا يمكن أن يصلها البشر بوجه من الوجوه. وأما بالنسبة لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح:16] ، ليس المقصود أن القمر حجر من السماء أو أنه لاصق بها، بل هو كما تقول: فلان في البيت، وليس معناه أنه حجر من سقفه أو منه، بل المقصود: أنه في داخله، فكذلك القمر وغيره من الكواكب كلها ليست في داخل السماوات، وكلها تنسب إلى الأرض، ولذلك المجموعة الشمسية التي نحن فيها والمجموعات الشمسية الأخرى والمجرات المعروفة كلها، وطبقة اليونسفير وما دونها والفضاء الخارجي؛ كل هذا الذي اطلع عليه علمياً اليوم هو من الأرض لا علاقة له بالسماء، ولهذا فإن السماء محفوظة، كما وصفها الله بذلك في قوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] ، فلا يمكن أن يصل البشر إليها بوجه من الوجوه. وهذه السماء الدنيا فقط هي المزينة بالكواكب، أما السماوات الأخرى فليس فيها شيء من الكواكب هذه، ولهذا قال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] ، وهذا التزيين هو بحسب الرؤية؛ لأننا إذا رأينا المصابيح فإنما تكون زينة للسماء، ولا يمكن أن تكون زينة للأطباق الأخرى التي فوقها، فهي تحول دونها السماء الدنياء. والسماء سقف حصين له أبواب تفتح ولا يمكن النفوذ منه دون فتح الأبواب بحال من الأحوال، حتى الأرواح التي يعرج بها الملائكة إذا لم يؤذن لهم ويفتح لهم أبواب السماء يرجعون إلى الأرض بها، ولهذا قال الله تعالى في أرواح أهل الشقاوة: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ، والرسول صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به حين عرج إلى السماء استفتح جبريل واستأذن وعرَّف بنفسه وبمن معه حتى فتح له باب السماء. ولا يمكن أن يصل البشر ولا الجن إلى أقطار السماء أبداً، ولهذا قال الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] ، وهذا للتحدي، فصيغة افعل هنا ليست للأمر، وإنما هي للإعجاز مثل قوله سبحانه: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:50-51] ، فهي للإعجاز المطلق. إذاً: إذا كان الناس عاجزين عن اكتشاف السماء الدنيا فمن باب أولى السماوات الأخرى التي فوق ذلك، والكرسي فوق السماوات، والعرش فوق ذلك، والله سبحانه وتعالى فوق كل ذلك. أما الأرضون فقد اختلف فيها ما هي: فقيل: هذا الذي نكتشفه نحن ونعلمه ويصل إليه علمنا كلها أرض واحدة بما فيها من الكواكب، وإن كانت هذه الأرض التي نسكنها لا تمثل شيئاً بالنسبة للكواكب الأخرى؛ لأنها كوكب صغير في المجموعة الشمسية التي هي فيها، وفيها كواكب أضعاف الأرض عدة مرات. وقالت طائفة أخرى: بل الكواكب الكبرى أرضون، وهذا قد يشكل إلا إذا اعتبر بالمجرات الكبرى فلا يبعد أن تصل إلى السبع فيكون الأمر كذلك، وقد روي عن ابن عباس ما يدل على هذا، فقد جاء عنه: أن الأرضين السبع في كل واحدة منها آدم كآدمنا، وأن فيها شرائع ورسل كرسلنا. وهذا الذي قاله ابن عباس إن كان قاله برأيه فالمقصود أنه أخذه من المثلية في قوله: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] ، ففهم ابن عباس من المثلية. المثلية في الملك والجبروت، ولا يكون ذلك إلا بوجود هذه الجنود فيها. لكن ظاهر الآيات أن الجنس البشري مقصود على هذه الأرض، وأن لله تعالى خلائق أخرى لا نعرفها ولا ينبغي لنا أن نعرفها في الأرضين الأخرى وفي غيرها، ولهذا حين استشكل المشركون وجود نبي من البشر في الأرض قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95] ، فبين أن الرسل في هذه الأرض لا ينبغي أن يكونوا إلا من أهلها من البشر، إذ لو كان سكانها ملائكة لكان رسلهم من جنسهم، أي: لكان رسلهم ملائكة، وهكذا. وعموماً هذا الخلاف فيما يتعلق بالأرضين لا نستطيع حسمه، وينبغي الوقوف عنده، ولا يتوسع الإنسان فيه؛ لأن العلم محصور، وليس لنا من العلم إلا الشيء القليل، كما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، لكن الذي يجزم به ويقطع أن السماوات فوق كل هذه المخلوقات، وقد جعلها الله عز وجل سقفاً محفوظاً، والله عز وجل أخبر عن رفعه لها، وهذا الرفع لا يمكن أن يتصور مثله، ولذلك في المسافات وفي الارتفاع وفي الشرح ما جاء قياسها إلا بالسنوات، وهذا يدلنا على قضية السنوات الضوئية هذه وأهميتها في تقييم المسافات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يذكر السنوات في ذكر المسافة، كذكر خمسمائة عام في مسافة الانتقال إلى العلو، وكان هذا متشابهاً قبل أن تعرف السنة الضوئية، واليوم بالنسبة للمسافات لو كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر للناس المسافات مثل مسافات الأرض لكانت المسافات التي تقطع اليوم في هذه المراكب أضعاف أضعاف ما يمكن أن يتصور في ذلك الوقت. فإذاً: من إعجاز الخبر النبوي أنه لم يقوِّم المسافات في الارتفاع إلا بالسنوات، مع أن تقويم المسافات عند أهل ذلك الزمن كان بالمراحل أو بالوحدات مثل الأميال أو نحو ذلك، لكنه صلى الله عليه وسلم ما حدد بهذا، وإنما حدده بالسنوات، والسنوات من وحدات الزمن وليست من وحدات المكان، والمسافات من وحدات المكان وليست من وحدات الزمان، فارتبطت وحدات الزمان بوحدات المكان ليصل هذا إلى حد الإعجاز.

أقسام الصفات واشتقاق الأسماء منها

أقسام الصفات واشتقاق الأسماء منها Q ما حكم إطلاق الألفاظ التي فيها تكريم على الله سبحانه وتعالى دون توقيف؟ A هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فقالوا: الصفة إما أن تقتضي نقصاً أو لا تقتضي نقصاً، وإما أن يرد بها نص أو لا يرد بها نص، فهذه أربعة أقسام من الصفات: القسم الأول: الصفات التي لا تقتضي نقصاً وورد بها النص، فهذه لا إشكال فيها إطلاقاً، مثل صفات الله الواردة في النصوص الشرعية. القسم الثاني: الصفات التي قد توهم نقصاً، ولكنها ورد بها النص، فهذه تثبت وينزه الله عن ذلك النقص مثل قوله تعالى في الحديث القدسي: (جعت فلم تطعمني) ، وقد فسر ذلك وبين المقصود به، وهذه لا يُتعدى بها محل النص، ولا يجوز إطلاقها إلا في موضعها، ومثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] ، ومثل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، فلا يُتعدى بها محلها، ولا يتجاوز بها نفس الآية أو الحديث الذي وردت فيه أبداً. القسم الثالث: ما لا يقتضي نقصاً ولم يرد به النص، مثل صفات الكمال التي لم يرد بها النص، فهذه اختلف في إطلاقها، والراجح جواز إطلاقها؛ لدلالة عمومات المدح عليها؛ لأن الله امتدح نفسه بكل كمال، وامتدحه رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذا يقتضي وصفه بكل كمال نعبر نحن عنه. القسم الرابع: ما يقتضي نقصاً ولم يرد به نص، فهذا لا يجوز إطلاقه بالكلية. يبقى مسألة أخرى وهي: اشتقاق الأسماء من هذه الصفات، أما الأسماء التي جاء إطلاقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي توقيفية، وما ورد به النص من الأسماء فليس فيه شيء يقتضي نقصاً، وهذا لا نقاش فيه. أما الصفات التي لا تقتضي نقصاً ولم يرد بها نص فقد اختلفت في استعمال الأسماء منها، مثل: المحسن، فالمحسن لم يرد به نص، وأنت قد تسمي ولدك مثلاً: عبد المحسن، أو عبد المتفضل، وهذا لم يرد به النص، فهل يجوز إطلاقه؟ الجواب: هذا محل خلاف بين أهل العلم: قالت طائفة من أهل العلم: يجوز أن تسمي عبد المحسن، ويجوز أن تطلق على الله أنه محسن؛ لأن كل من قام به وصف يجوز أن يشتق له منه اسم، والعكس أيضاً: من لم يقم به وصف لا يجوز أن يشتق له منه الاسم، ولذلك يقول الناظم: وغير من قام به وصف فلا يشتق منه اسم له من عقلا والسيوطي رحمه الله ذكر أطراف هذه المسألة حيث قال: أسماؤه سبحانه موقفه ثالثها الاسم فقط دون الصفه ويكتفى بمرة والمصدر والفعل والظنون في المعتبر فأسماؤه سبحانه توقيفية، وهذا على القول بأن الأسماء والصفات توقيفية. القول الثاني: أن الأسماء توقيفية بخلاف الصفات. القول الثالث: أنها غير توقيفية مطلقاً لا الأسماء ولا الصفات، أي: أن كل وصف يقتضي كمالاً يجوز إطلاقه على الله، ويجوز أن يشتق له منه اسم كالمتفضل والمحسن. هذه الأقوال الثلاثة اختصرها السيوطي رحمه الله في قوله: أسماؤه سبحانه موقفه ثالثها الاسم فقط دون الصفه ثم قال بعد هذا في الصفات: ويكتفى بمرة، أي: لو جاء الاسم في حديث واحد من أخبار الآحاد أو الصفة في خبر واحد من أخبار الآحاد مرة واحدة فيكفي ذلك في إثباتها. قوله: والمصدر، أي: كذلك إذا جاء المصدر فقط فإنك يجوز أن تشتق لله منه اسماً أو صفة لثبوته بالوحي. وقوله: والفعل، أي: كذلك لو أطلق فعل على الله سبحانه وتعالى ولم يرد منه وصف فيجوز اشتقاق الوصف منه، وكثير مما نذكره من الصفات هنا إنما جاءت بلفظ الفعل أو المصدر كما في الحكم، فلم يأت اشتقاق الوصف منه إلا أحكم الحاكمين، وأحكم الحاكمين وصف من الحكم أو من الحكمة، لكنه أضيف إلى الحاكمين فكان ذلك يقتضي إثبات الصفة، وقد جاء بالفعل وجاء بالمصدر: جاء بالمصدر في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ، وجاء الفعل في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [البقرة:113] . وقوله: والظنون، أي: أخبار الآحاد إذا وصلت إلى درجة المقبول بأن كانت صحيحة أو حسنة، فذلك كافٍ في الاحتجاج بها في إطلاق الصفات والأسماء على الله سبحانه وتعالى، هذا هو القول الراجح.

حكم التأويل في النصوص الشرعية

حكم التأويل في النصوص الشرعية Q هل يصح أن يقال: إن ما جاء في النصوص من مثل: (مرضت فلم تعدني) ، من الصفات المؤولة؟ A نعم، ثبت تأويله بالنص، والتأويل ليس كله محظوراً، ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التدمرية القاعدة الثالثة في التأويل أن التأويل ليس منفياً مطلقاً ولا مثبتاً مطلقاً، بل منه ما هو مثبت، ومنه ما هو منفي. والتأويل عند الأصوليين هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يقتضيه، فاللفظ إذا جاء دليل شرعي يقتضي صرفه عن معناه الظاهر المتبادر يحمل عليه، هذا هو معنى المؤول عند الأصوليين، وهو التأويل الصحيح؛ لأن التأويل الصحيح لابد أن يكون بدليل، إذ التأويل من غير دليل تأويل باطل.

حدود الأرض

حدود الأرض Q ألا يكون القول بأن المجرات ومجموعتنا الشمسية تابعة للأرض يناقض كون الأرض من أصغر كواكب المجموعة؟ A لا يناقض ذلك؛ لأن الأرض لها إطلاقان: تطلق على هذا الكوكب الذي نحن عليه بيبسه وبلله، وتطلق على ما هو أكبر من ذلك، ولهذا فإن الجاذبية الأرضية تابعة للأرض ومساحتها مساحة قريبة من الأرض، مثلاً: حجاب الصوت لا يتجاوز خمسين ألف قدم تقريباً، والجاذبية تزيد على ذلك قليلاً، ويختفي من منطقة إلى أخرى، وما فوق الأرض من الأحجبة التي تحجبها عن أشعة الشمس ونحو ذلك من الطبقات الغازية يتبع الأرض، مثل طبقة الأوزون، ومثل الطبقات الأخرى التي تتبع الأرض، وهي معدودة. ولذلك فإن الأهوية القريبة من الأرض مثل الأكسجين الذي نتنفس به وغيره هي تابعة للأرض قطعاً، ولهذا يجوز بيعها إذا تملكها الإنسان، فإذا ملكت أرضاً فيجوز أن تبيع الهواء الذي فوقها بأمتار معينة؛ فمن ملك أرضاً ملك هواءها، وما كان معدوماً لا يجوز بيعه، وما لم يكن من الأرض ليس لنا، والله تعالى يقول: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] ، فأنت تستطيع أن تبيع -مثلاً- عشرة أمتار فوق ثلاثين ألف قدم، ولهذا فناطحات السحاب الآن ما فوقها من الهواء تبع لها، ويملكه أهل الأرض، فلا يحجر عليهم فيما بنوه، فالسقوف فوق ذلك ملكهم، ولهذا نص الفقهاء على هذا، فمثلاً: يقول خليل رحمه الله: وجاز بيع عمود عليه بناء للبايع إن انتفت الإضاعة وأمن كسره ونقضه البائع، وهواء فوق هواء إن وصف البناء وغرز جذع في حائط وهو مضمون إلا أن يذكر مدة فإجازة تنفسخ بانهدامه. فهذا يدلنا على أنها تابعة للأرض.

أقسام الطوائف الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه وموقف ابن عمر رضي الله عنه من ذلك

أقسام الطوائف الذين قاتلوا علياً رضي الله عنه وموقف ابن عمر رضي الله عنه من ذلك Q ما هو موقف ابن عمر رضي الله عنه فيما حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم؟ وهل كان هذا الموقف متفقاً عليه أو كان محل خلاف؟ A كان محل خلاف؛ فالطائفتان المتقاتلتان كانتا تريان الخوض في الأمر والمناقشة فيه والمجادلة، ولذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يستشهد الصحابة على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم له بمقاتلة الخوارج، وبمقاتلة الناكثين والخارجين والمارقين. فهو يفهم ذلك على أن الناكثين هم: من خرج مع طلحة والزبير رضي الله عنهما وقد بايعوه، ورأى أنهم نكثوا بيعته. والخارجين: يقصد به أهل الشام الذين خرجوا عن بيعته. والمارقين: هم الخوارج الذين مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. فإذاً: هذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: الناكثون، وهم أهل حق لا غبار عليهم، بل أكثرهم من أهل الجنة مقطوع بذلك. القسم الثاني: الخارجون، وهم طائفة باغية عليه، يعني: فئة باغية من أهل الإسلام ومن أهل الخير والصلاح، وفيهم من هو من أهل الجنة قطعاً أيضاً. أما القسم الثالث: فهم المارقون. فهو رأى قتال هذه الطوائف الثلاث، واستدل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له، واستدل على الزبير بحديث: (تقاتله وأنت له ظالم) ، واستدل عليه أيضاً في قتال الخوارج بأنه قال: (بل يقتلهم خاصف النعل) ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريق فانقطع شسع نعل علي رضي الله عنه، فجعل يخصف نعله، فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الخوارج ومروقهم من الدين، وأن من قتلهم له أجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لو شهدهم لقتلهم كقتل عاد وإرم، فقال: (أأقتلهم؟ قال: بل يقتلهم خاصف النعل) ، يقصد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا تشريف له، وكل واحد من الخلفاء الراشدين له ميزة اختص بها. فمذهب ابن عمر رضي الله عنه هو اعتزال القضية بالكلية، وهذا الذي رآه هو، ورآه أسامة بن زيد، ورآه سعد بن أبي وقاص، وغيرهم من كبار الصحابة رأوا هذا الرأي، لكن كان مع علي في رأيه ثمانمائة ممن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، وكلهم مقطوع بأنهم من أهل الجنة، ويجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة. وكان كذلك مع معاوية رضي الله عنه عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان في أهل الجمل من هو مقطوع بأنه من أهل الجنة، كـ عائشة والزبير وطلحة، وكان في الفئة الأخرى مع علي رضي الله عنه عدد مقطوع بأنهم من أهل الجنة. فإذاً: لم تكن القضية محل اتفاق، لكن كان مذهب هؤلاء هو اعتزال الطائفتين، وقد استمر عليه ابن عمر حتى بعد هذا، حتى في معركة كربلاء، وكان إذا ذكرت له معركة كربلاء يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] ، ولا يخوض في أمرها، مع أنه نصح الحسين رضي الله عنه ألا يتوجه إلى العراق. وحين دخل على عائشة بعد الجمل قال: لوددت أنك ما خرجت، فقد كنت أعلم عاقبة الأمر. فقال: لمَ لم تنصحني يا أبا عبد الرحمن؟! قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك. يقصد: أن عبد الله بن الزبير غلبها على رأيها. فـ ابن عمر كان يقدر هذه الظروف، ولذلك لم يبايع لأحد بعد بيعته لـ علي في المدينة إلى أن بايع عبد الملك بن مروان، وبيعته لـ عبد الملك مروية في صحيح البخاري، فإنه كتب إليه بذلك. ولم يبايع معاوية رضي الله عنه، وحين طلب معاوية بيعة أهل المدينة من جديد امتنع ابن عمر عنها، وهكذا امتنع عبد الرحمن بن أبي بكر والحسين وعبد الله بن الزبير عن تلك البيعة من جديد.

العلاقة بين الإنس والخلائق الأخرى

العلاقة بين الإنس والخلائق الأخرى Q هذه الخلائق الأخرى التي جاءت بها النصوص كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، هل بينها من الألفة والتعارف مثل ما بين البشر؟ وهل تعرف أجناسها وأحوالها وقد حجب البشر والجن عن ذلك، أو ليس الأمر كذلك؟ A العلاقة بين الإنس والجن هي الموضحة بالنصوص؛ فإن الجن يروننا من حيث لا نراهم، وقد حرمنا رؤيتهم على الوجه الذي هم عليه على الحقيقة، ولا يقتضي ذلك حرماننا من رؤيتهم مطلقاً، وهم يروننا وليس معناه أنهم يروننا مطلقاً، بل قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، أي: من غير الجهة التي ترونهم منها. والجن على هذا في الدنيا يطلعون على كثير من أمور الإنس، ويذكر أن في يوم القيامة يراهم الإنس وهم لا يرون الإنس، فينعكس الأمر، يذكر هذا عن بعض الصحابة وبعض السلف. وقد جاء أن الخلائق الأخرى تشعر بأشياء لا يشعر بها الإنس والجن، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن) ، وكذلك في حديث أسماء في الصحيحين في عذاب القبر: (أن الملكين يضربانه بمزربة معهما، وفي الرواية الأخرى: يضربانه بمطارق بين فوديه أو بين قرنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن) ، قوله: (من يليه) يمكن أن يكون من الملائكة والأشجار وهذه الأنواع أيضاً التي نجهلها. لكن مع هذا فيتصور أن بعض ما اكتشف منها ليس له ذلك العلم، فمثلاً: اكتشف الآن الميكروبات والجراثيم ونحوها من عجائب الخلق، وهذه يرى بعض أهل العلم أنها داخلة في الجن، وأنها فصائل من الجن؛ لأن لها بعض أوصاف الجن؛ قالوا: لأن فيها التكاثر والضرر على الإنسان، ولزوم الأقذار والأوساخ، وأنها تجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذه من خصائص الجن، وكلها تحصل في الميكروبات، فهي خصائص ثابتة بالنص للجن، وهي حاصلة في هذه الأجناس، ومع ذلك هي حيوية فعلاً وفيها حياة، وبالأخص بعض الميكروبات الضارة جداً التي تجري من ابن آدم مجرى الدم، ولها تمييز في أماكن الضعف. ونحن نراها، لكن لا نراها بالعين المجردة، فيمكن أن نراها بوسائل خاصة، ومثل هذا قد ينطبق على الجن، فالله سبحانه لم يقل: لا ترونهم مطلقاً، إنما قال: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، فيمكن أن يكتشف في المستقبل مجاهر يرى بها الجن أيضاً، ولا مانع من هذا، لكن لا يرون من الجهة التي يروننا منها. فلذلك هذه المخلوقات العجيبة والذرات الكونية المتحركة فيها ذرات تتحرك دائماً، وهذه الحركة هي عبارة عن حياة وإن لم يكن فيها نماء ولا زيادة. فمثلاً (الكوارتز) هذه في حركة دائمة، ويقال: إن الجبال أيضاً في داخلها حركة دائماً، وكذلك البراكين فيها حركة دائمة، سواءً كانت في يبس أو كانت في بلل، فالبراكين نوعان: براكين صخرية، وهي التي في اليبس، وحركتها أنك تشعر بغازيتها وبالحيوية فيها، ولذلك يزداد نشاطها في بعض الأزمنة ويخف، ومن البراكين ما ينشط في وقت معين ويخف نشاطه في وقت آخر. والبراكين البحرية كذلك مثل بركان باسيد هذا الذي يطلق على البركان الكبير الأعظم في الدنيا الذي يوجد في المحيط الأطلسي؛ فإنه أكبر بركان في الدنيا، وهو إلى الآن لازالت النار تشتعل فيه، وله نفق في البحر تمشي فيه النار يميناً وشمالاً، ولا تتأثر به الكائنات الحية الموجودة في البحر، وقد أطلق عليه الأمريكان اسم باسيد، وهذا الاسم يرتبط بأسطورة قديمة لدى اليونانيين حين يطلقون باسيد على إله البحر كما يسمونه، فهو إطلاق خرافي من الإطلاقات الشركية اليونانية القديمة.

الفرق بين علم الظهور والعلم المتجدد

الفرق بين علم الظهور والعلم المتجدد Q ما معنى ذكر علم الله بعد الابتلاء ونحوه؟ A يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران:142] ، ويقول سبحانه: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، ونحو ذلك. والمقصود بذلك: ظهور ذلك وخروجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وليس المقصود تجدد العلم. فالعلم هنا يطلق على إطلاقين: يطلق على علم الله به، وهذا يستوي فيه عالم الغيب والشهادة. ويطلق على علم المخلوقات به، وهذا يختص بعالم الشهادة فقط. فما دام الشيء في عالم الغيب فإن الله يعلمه ولا تعلمه المخلوقات، لكن إذا ظهر إلى عالم الشهادة علمه من أراد الله له أن يعلمه من المخلوقات، وقد قرئ في القراءات الشاذة: {لِيُعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:28] ، فإذا قرأت: ((لِيُعْلَمَ)) [الجن:28] ، فما معنى الآية؟ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن:26-27] ، أي: بالإرهاصات التي تسبق بعثته، {وَمِنْ خَلْفِهِ} [الجن:27] ، أي: بالمعجزات التي يشهدها، {رَصَدًا} [الجن:27] ، {لِيُعْلَمَ} [الجن:28] ، معناه: ليعلم الناس {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} [الجن:28] ، أي: أن قد أبلغ الرسل رسالات ربهم. وعلى هذا فالمعجزات ربما يعلم فيها النبي بعض الغيب ويخبر به، لكن عن طريق الوحي، فيكون ذلك معجزة، فقوله: {لِيُعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:28] ، أي: ليعلم الناس أنهم لم يأتوا بهذا من تلقاء أنفسهم، وإنما أخبروا عن ربهم؛ لأنه قد قامت المعجزة حجة على ذلك.

إخبار المتقدمين يوم القيامة بالمكتشفات العلمية

إخبار المتقدمين يوم القيامة بالمكتشفات العلمية Q ما يتجدد من الاكتشافات العلمية ونحوها، هل يخبر بها الناس يوم القيامة حتى يستوي في علمها المتقدمون والمتأخرون، أم تبقى حكراً على المتأخرين الذين عرفوها في الدنيا ولا يعلم بها من مضى؟ A أن هذا راجع لتقسيم الأرزاق، فالله سبحانه وتعالى يكتب لكل طائفة من الرزق ما يشاء لها، وكل قوم يقدر لهم من الرزق ما يتناسب معهم، ولذا فقد تجدد من الأرزاق وأنواع المعاشات والسكن واللباس والمراكب وغير ذلك ما حرمه السابقون، وفي الجنة يعوض الجميع خيراً مما كانوا فيه، حتى الذين نعموا بأرقى أنواع المعاش إذا دخلوا الجنة كأن لم ينالوا أي شيء مما يحبونه. وبالنسبة لمجرد إطلاعهم على هذه الأمور لم يرد به نص، فالأصل عدم ذلك، لكن يبدو أن بعض الرسل قد أخبروا بشيء من هذه الأمور، ولذلك جاءت كثير من نصوص الوحي تدل على بعض الإعجاز العلمي الحالي، وعلى كثير من الأمور التي لم تكن تعرف في الزمان الأول وهي من الإعجاز العلمي الموجود، مثل: عدد مفاصل الإنسان، هذا لا يمكن أن يعرف في القديم، وقد عرف بالوحي، ومثل: الإخبار بالظلمات التي في البحر، قال تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] ، وهذا كان سبباً لإسلام أحد العلماء الكبار؛ لأنه درس البيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن موجوداً فيها؛ إنما هو في القطبين الشمالي والجنوبي، ولم يقصدهما قطعاً، ولا علم له بهما، وقد نزل الوحي بهذا. فإن هذا الظلام الدائم في هذا المكان هو في القطب الشمالي حيث يمكث ستة أشهر كاملة لا تطلع عليه الشمس بسبب الغيوم المتراكمة، وهكذا أيضاً نفس الشيء في القطب الجنوبي. والإعجاز العلمي في هذا كثير جداً لا حصر له، وكثير منه بدأ الناس اليوم يكتشفونه ويظنونه مكتشفاً جديداً، ويكون قد جاء بالوحي، مثل العلاجات النبوية بالعسل وغيره، ونحو ذلك. وتطاول الناس في البنيان هذا ما عرف في العصور القديمة، إنما عرف في زماننا هذا، والتطاول معناه أن يقول المتطاول: هذا أكبر مني داراً فلابد أن أطيل داري، وهكذا، قال صلى الله عليه وسلم في ذكر أمارات الساعة: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) . وكذلك الإخبار ببعض ما سيحصل من التطور الحضاري في بعض الأماكن بخصوصها، مثل فتح العراق، واليمن، والشام، حيث أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سيقع من أمور ستحصل، وأخبر أيضاً عن أمور غيبية في المدينة وفي مكة وفي غيرهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت بنيان مكة يطاول جبالها فاعلم أن الأمر قد أظلك) ، وفي الحديث الآخر: (إذا تبعجت بطون مكة كظائم فاعلم أن الأمر قد أظلك) وهذه الأمور قد حصلت الآن. السؤال: ومعنى الحديث: إذا تبعجت بطون مكة كظائم: أن مكة كانت وادياً غير ذي زرع كما وصفها الله بذلك في قوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] ، فلم يكن الناس يزرعون فيها ولا يحرثون، فإذا كانت بطونها وأوديتها كظائم معناه: جنات ومزارع، (فاعلم أن الأمر قد أظلك) ، أي: أن الساعة قد اقتربت.

أجساد الأنبياء لا تبلى

أجساد الأنبياء لا تبلى Q ما معنى (أرمت) في حديث: (وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت) ؟ A الرمم: جمع رمة، والرمة تطلق على القبر، وتطلق على العظام الرميمة، أي: المتفتتة، فمن إطلاق الرمة على القبر قول توبة بن الحمير: ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن بين رمسينا من الأرض سبسب لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب فقوله: وإن كنت رمة، معناه: قبراً، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟) ، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) . فقولهم: (وقد أرمت) معناه: أنهم كانوا يظنون أن كل ميت تأكل الأرض جسده، ولكنه بين لهم أن الأنبياء لا يدخلون في ذلك، ومثلهم الشهداء، قد اختلف في الشهداء: هل الشهداء كلهم كذلك أو يختص هذا بمن جاء النص فيه؟ فقالت طائفة من أهل العلم: جميع الشهداء لا تأكلهم الأرض أصلاً. وقالت طائفة: ويشمل ذلك العلماء أيضاً. وقالت طائفة: ويشمل حملة القرآن. وقالت طائفة: ويشمل المؤذنين، وهذا كله مبناه على التجارب، فقد جرب حصول ذلك، فبعض العلماء نبشت قبورهم بعد فترة طويلة ووجدت أجسامهم كما هي، وقد حصل هذا لشهداء أحد، فقد نبش معاوية رضي الله عنه بعضهم عندما أراد إجراء العين التي بجوار أحد إلى المدينة، فأمر بستة عشر من الأنصار من شهداء أحد فاستخرجهم، وكان ذلك بعد ست وأربعين سنة من دفنهم. وكذلك أخرج السيل جثث أربعة شهداء من المهاجرين وهم: حمزة بن عبد المطلب، وابن أخته عبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، ومصعب بن عمير أخرجهم السيل في عام ستمائة وأربعين من الهجرة فوجدوا كما هم، ولذلك هم اليوم في المكان المعروف وحدهم من شهداء أحد، ولا يقطع بأحد أنه من شهداء أحد غير المهاجرين الأربعة، وكل اثنين في قبر؛ لأنهم دفنوا في الستمائة وأربعين. والله أعلم، وصلى الله عليه نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

§1/1