سلسلة الآداب - المنجد

محمد صالح المنجد

آداب الاستئذان

آداب الاستئذان إن الله جل وعلا كما أنه حفظ الدماء وصانها من السفك والهدر والضياع، حفظ الأعراض وجعل لها حرمة وصيانة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه آداباً وأخلاقاً تحفظ الناس من النظر إلى أعراض المؤمنين، ولذلك ذكرها الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة، فبدأ بأهمية الاستئذان وثماره المترتبة عليه، ثم ذكر غالب آداب الاستئذان، ومتى يجب الاستئذان، ومتى يسقط؛ مستدلاً بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الاستئذان وأهميته في الشرع

الاستئذان وأهميته في الشرع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة عن أدبٍ آخر من الآداب، وهو أدب الاستئذان، هذا الأدب العظيم الذي جاءت به هذه الشريعة المباركة، وكلها خيرٌ وبرٌ وإحسان ونفعٌ للمسلمين في كل أحوالهم، العلم والإعلام، وأذان من الله ورسوله، أي: إعلام، وأذن للشخص أي: أباح له ذلك، واستأذن: طلب الإذن، والسين والتاء تفيد الطلب، فالعلم والإعلام والإباحة والأنس والنداء معانٍ للاستئذان تتضمنه. وأما بالنسبة للاصطلاح فإن الاستئذان: هو التماس الإذن تأدباً خشية الاطلاع على العورة، وهو أيضاً: استباحة المحظور على وجه مشروع، وهو أيضاً: طلب في الدخول لمحلٍ لا يملكه المستأذن، هذا كله استئذان. ولا شك أن هذه الشريعة التي تريد سعادة المجتمع، وأن يكون مجتمع إيمان وبرٍ وتقوى، ويتبين فيه خصائص هذه الأمة التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] لا شك أن هذا الأدب يبين رغبة الشريعة في هذه الرفعة والمكانة، والإنسان صاحب غرائز وشهوات وميول ورغبات، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك، وحينما حرم الزنا حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج وكل ما يؤدي إليه، ومن المعلوم خطورة النظر في المجتمع الإسلامي، وإنه إذا أطلق يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ولذلك كان شأنه خطيراً، فنزلت أحكام الاستئذان لمعالجة قضايا البصر، وهو -أي الاستئذان- أدبٌ رفيع يحمي حرمة البيوت ويحافظ عليها وأي حرمة أعظم من أن جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم العين التي تنظر بغير استئذانٍ عيناً مهدرةً لا دية لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذن؛ فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح) رواه البخاري. فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن رجلاً ينظر بفتحة الباب، وكان في يده مدراة يصلح بها شعره لها حد، فأخبر الرجل أنه لو علم أنه ينظر إليه لأدخلها من الباب ففقأ عينه، ولذلك نص العلماء على أن الذي ينظر من شق الباب على شخصٍ في بيته وملكه بغير إذنٍ فأدخل صاحب البيت شيئاً في الثقب ففقأ عين الناظر أنها عينٌ مهدرة لا دية فيها. كل ذلك من أجل حرمة البيوت، والشريعة تريد حماية حرمة البيوت، وتريد أن يكون المجتمع نظيفاً والناس يعيشون في عفة، وتمنع الاطلاع على العورات، فهذه العورات محفوظة في الشريعة، وليست فقط عورة البدن، بل كل ما يمكن أن يكون عورة، فللطعام عورة، وللأثاث عورة، وللباس عورة، وللبدن عورة، والإنسان يحب أن يطلع عليه الناس وهو في حالة تجمل متهيئاً لنظرهم، ولذلك فإن الناس لا يريدون أن يطلع شخصٌ على بيوتهم وهي على غير ترتيب، ولذلك إذا استأذن شخصٌ على إنسان في بيته وفي غرفته وهي ليست مرتبة سارع إلى ترتيبها، ففي الاستئذان مراعاة لمشاعر الناس الذين لا يريدون إظهار أشياء ليس من المناسب أن يطلع عليه الآخرون، وربما يكون في البيت بقايا طعام، ربما يكون إنسان فرغ لتوه من طعامه، ولا يريد من الشخص الغريب أن يدخل عليه وفي بيته بقايا طعام مثلاً، فالاستئذان يفيد؛ فيرفع بقايا الطعام قبل أن يدخل الضيف، إذ ليس من المستحسن عنده أن يدخل عليه ضيفٌ فيرى البقايا أو أوساخ أو أشياء غير مرتبة، أو يرى في ثوب نوم أو بقميص داخلي ولو كان ساتراً للعورة، لكن الإنسان لا يحب أن يراه غيره في هذه الحالة، ولذلك الاستئذان فيه مراعاة لمشاعر الناس، بالإضافة إلى قضية ألا يطلع أحد على العورة وألا تثار الشهوة، وألا تقوم الفتنة، وألا يقع الزنا. ولذلك نلاحظ أن آية الاستئذان جاءت بعد الزجر عن الزنا والقذف، فلما ذكر الزجر عن الزنا والقذف في سورة النور ذكر الاستئذان والزجر عن دخول البيت بغير استئذان؛ لأنه ربما أدى إلى وقوع أحد المحظورين، ولذلك فإن أدب الاستئذان يؤدي إلى قطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، وربما يصادف الإنسان حال خروجه رب الدار، وليس فيها إلا امرأته فتذهب به الظنون كل مذهب، وربما أدى ذلك إلى خراب البيت وإلحاق الأطفال بحال اليتم والضياع. وقد أباح الله للمماليك والصغار الطواف في البيوت بغير استئذان لحاجة أهليهم وأسيادهم إلا في الأوقات الثلاثة التي جاء النص عليها وهي: ما قبل الفجر ووقت الظهر، وبعد العشاء، فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذن حتى لو كانوا داخل البيوت من الخدم أو الإماء والعبيد أو الأطفال الصغار، وذلك لأن هذه الأوقات الثلاثة يأوي فيها الرجال إلى نسائهم وأزواجهم وتنزع فيها الثياب، ولذلك جعل الدخول محظوراً لكي لا تقع الأنظار على عورات الأهل من الأبوين، وهذا أدب يغفل عنه الناس، ويتساهلون في دخول الخدم عليهم ودخول الأطفال الصغار، وربما أدى ذلك إلى أن يرى الطفل أشياء تبقى في مخيلته أو في ذهنه وهو في صغره، وربما أدى ذلك إلى أضرار في كبره.

تفسير آية الاستئذان العام

تفسير آية الاستئذان العام أما بالنسبة للاستئذان العام فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:27 - 29]. فهذه أول آية من آيات الاستئذان، وهي آية الاستئذان العام التي أدب الله بها عباده المؤمنين، كان الرجل في الجاهلية إذا لقي أخاه لا يسلم عليه، بل يقول له: حييت صباحاً، وحييت مساءً ونحو ذلك، فأبدلهم الله خيراً من ذلك تحية أهل الإسلام، أنفع الخير والثناء وهي دعاء صالح وطيب، وهذا النهي في الآية وهو قوله: (لا تدخلوا) للتحريم، فمعنى ذلك: أن الدخول لا يجوز إلا بإذن؛ لما في ذلك من الاطلاع على العورات والتصرف في ملك الغير بغير إذن، وهذا نوعٌ من الغصب.

قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا)

قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] معنى ذلك: أن الإنسان يدخل بيته متى ما شاء، وقد يسكن ملكه ويسكن في غير ملكه، فليست الإضافة هنا اختصاص الملك، فلو أنك استأجرت بيتاً، فهل يدخل في قوله تعالى: ((بيوتكم))؟ نعم. فهو بيت لك سواء استأجرته أو كان ملكاً لك، فتدخل فيها في أي وقتٍ ما دام بيتك، وقوله سبحانه: ((تَسْتَأْنِسُوا)) الاستئناس: من آنس شيئاً إذا أبصره ظاهراً أو مكشوفاً أو إذا علمه، وهذا الاستكشاف: هو العلم يكون بالاستئذان، وقد يكون الاستئناس ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له زالت الوحشة، وكذلك فإن الاستئناس يفيد الاستئذان وزيادة: (تستأنسوا) ليس فقط معناها: تستأذنوا، فهي أعلى من الاستئذان، حتى تستشعروا أنس أهل البيت بكم، ففيها إشارة لطيفة إلى أن الزائر لا ينبغي أن يدخل إذا تبين له من حال صاحب البيت أنه لا يرغب في دخوله ولو صرح لك بالإذن، فإن بعض الناس يأذنون لكن على كره ومضض، فلما قال الله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] عرفنا أن المسألة لابد أن يكون فيها أنس وليس مجرد الإذن؛ لأنه قد يحرج، فبعض الناس إذا استأذنت عليه يتردد يقول: تفضل ولكن لم تخرج من نفسٍ طيبة، فإذا كان كذلك لا تدخل لأن الله قال: (حتى تستأنسوا) فيحصل الأنس، فإذا أحسست أنه لم يحصل أنسٌ فلا تدخل. وحتى في مسألة أخذ المال، ما أخذ على وجه الحياء فهو حرام وإن كان أعطاك وسلمك بيده، لَكنْ فيه إحراج، وقع عليه الأمر وقعاً شديداً لا يملك إلا أن يأذن مرغماً، فهذا لا يدل على أنه خرج بطيب نفسٍ منه: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:27]-أي: الاستئناس- أو التسليم خير من أن تدخلوا بغتةً.

قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها)

قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا) قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28] أي: إذا لم تجدوا أحداً من الآذنين يأذن لكم فاصبروا ولا تدخلوا إن لم تجدوا أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوا إلا بإذن أهلها؛ لأن الاستئذان من أجل البيت وساكنه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا} [النور:28] أي: لم يجيبوكم في الدخول، بل ردوكم أو قال: ارجع الآن أو ليس الوقت مناسباً، لو طرق باب واحد وقال لك: يا أخي ليس الوقت مناسباً، أنا غير متهيئ لاستقبالك، أي عبارة من العبارات التي تعني (ارجعوا): {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] وبعض الناس الآن لو قيل لهم: ارجعوا لثارت ثائرتهم، ووقعت الخصومة بينه وبين صاحب البيت، وهاجوا وماجوا وقالوا: لا نأتيك ولا نكلمك، كيف تقول ارجع؟ بعض الناس يكبر عليه أن يقال له: ارجع، يكبر عليه جداً، والله يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] فلماذا تستكبر عن شيءٍ ذكره الله وأرشد إليه؟ والذي يقال له: ارجع فيغضب ويزبد ويرغي ويقاطع صاحب البيت فلا يرجع، هذا إنسان متكبر يرى أن مقامه فوق الآية: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] وأطهر من إلحاحكم وأحسن من الوقوف في الباب، وخيرٌ من الإصرار على الدخول، إن قيل لك ارجع فارجع ولا تلح ولا تصر، فتضمنت الآية الرجوع في حالتين: في حالة عدم الإذن الصريح كأن يقال: لا تدخل لا أسمح لك بالدخول، ارجع. وكذلك في حالة عدم الإذن الظني كأن لا يكون في البيت أحد أو سكتوا، افرض أنك طرقت الباب فسكتوا، أنت سمعت أصواتاً وصياحاً داخل البيت، طرقت الباب سكتوا، واصلت الطرق لم يتكلم أحد، هذه معناها: ارجع؛ لأنه لم يأذن. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] فيدخل في علمه سبحانه وتعالى، أنه يعلم من يدخل بإذن ومن يدخل بغير إذن، فيجازي كلاً بعمله. كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع من دينه وتقواه؛ لأنه تحقق شيء في الآية فينصرف مستبشراً بالخيرية التي ذكرها الله، يريد أن يقال: ارجع؛ لأن الله يقول: ((خيرٌ لكم)) فصار من أهل الخير والخيرية في هذه الآية، وهذا الحكم في البيوت المسكونة سواء فيها متاع للإنسان أو لا، وفي البيوت غير المسكونة التي لا متاع فيها للإنسان.

قوله تعالى: (ليس عليكم جناح)

قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) وأما البيوت التي ليس فيها أهل وفيها متاع للإنسان المحتاج للدخول فقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] فليس عليكم إثم ولا حرج أن تدخلوا بغير استئذان في هذه النوعية من البيوت، وهذه البيوت الغير مسكونة التي فيها متاع لكم للعلماء فيها أقوال. فلعل ما يتضح به المقصود إن شاء الله أن نضرب مثالاً: بيوت على الطريق يأوي إليها الناس لابن السبيل، فنادق وفيها غرف ودكاكين وحوانيت في الشارع، كل هذه تدخل في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] فمثلاً: استأجرت غرفة في فندق أو تريد أن تدخل محلاً في الشارع، كدكان، أو بيت في الطريق مبني لابن السبيل يدخل يستظل فيه وينام، وهو مفتوح لأي واحد يدخل، فهذه لا تحتاج إلى استئذان فقد يكون المتاع: الاستظلال، وقد يكون المتاع: أن تشتري حاجة، وقد يكون المتاع أغراضاً وضعتها في غرفة الفندق، فلا يحتاج أن تستأذن عند الدخول في غرفتك في الفندق، ولا يحتاج أن تستأذن عند دخول دكان في الشارع يبيع، ولا يحتاج أن تستأذن في مبنى في الطريق مهيأ لاستقبال المسافرين أو جعل لابن السبيل يأوي إليه، فإن بعض الناس يقيمون على طرق السفر أو أماكن مظللة مثلاً لاستراحة المسافرين بدون أجرة باباً مفتوحاً بالمجان، فليس هناك من حرج في دخولها، وليس من الضرورة أن يكون فيها متاع يعني: فيها جهاز أو فيها عفش وما شابه ذلك، بل يدخل فيها ما سوى ذلك من الحاجات، بل لو أن إنساناً يريد أن يدخل خربة ليقضي حاجته من بولٍ أو غائط فلا يحتاج أن يستأذن في دخول هذه الخربة، فإن ذلك من المتاع الذي يقصده بالدخول. فإذاً: مثل هذه الأشياء لا حرج من الدخول فيها. وهذا الاستئذان العام.

آية الاستئذان الخاص

آية الاستئذان الخاص أما الاستئذان الخاص فهو الاستئذان داخل البيت، ذاك استئذان لدخول البيت، وهذا استئذان داخل البيت وهو المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58 - 59] هذه الآية عامة للرجال وللنساء وإن كانت بصيغة المذكر، لكن يدخل فيها النساء؛ لأن صيغة التذكير هنا من باب التغليب ليس إلا، وإلا فالنساء يدخلن في ذلك؛ لأن النساء من باب حفظ العورة أشد من الرجال، فإذا ثبت الحكم في الرجال فالنساء من باب أولى، وقوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58] سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] هؤلاء الأحرار، وليس المراد الذين لم يظهروا على عورات النساء؛ لأن الذي لم يبلغ الحلم قد يعرف أحوال النساء فيميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة، وله التفات إلى النساء وإلى ملابس النساء وزينتهن ويصف النساء، فقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: الأحرار غير البالغين، وليس خاصاً بالذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء لكن ما بلغوا الحلم، أما ابن السنتين ونحوها ليس من الذين يظهرون على عورات النساء، ولا يميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة أو يصف ويهتم بشئون النساء وله ميلٌ إلى ذلك. وهذه الأوقات الثلاثة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي أوقات الخلوة والتصرف التي يمكن أن يأتي فيها الإنسان أهله في العادة، فالله عز وجل يعلم أن الاستئذان الخاص مثلاً: استئذان الخدم أو الإماء أو الأطفال على الأبوين مثلاً، كل وقت يشق فجعله واجباً في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنه يوجد مشقة، لأجل الطواف بالخدمة، وقضاء الأشغال والحوائج، فإذا كانت كلما تريد أن تتحرك من مكان إلى مكان تستأذن سيكون هناك مشقة، لكن جعل هناك أوقات معينة ليس فيها دخول إلا باستئذان، وهي مظنة خلع الثياب ومظنة إتيان الرجل أهله واستراحته وقيلولته ونومه، وكانوا في الحر يخلع الرجل إزاره ورداءه، فربما تعرى فينكشف فيطلع غير المستأذن على شيء غير مناسبٍ على الإطلاق. وقوله عز وجل: (ليستأذنكم) يدل على أنه ينبغي أن نربي أولادنا على هذا الأدب، يجب أن يربى الأطفال على عدم اقتحام غرفة نوم الأبوين إلا بإذن، ويربى الأولاد ألا يدخل الواحد على غرفة الآخر إلا بإذن، فقد يغير ثيابه بعد استحمام أو لأجل الخروج من البيت ونحو ذلك، ولما استغرب أحد الناس قال لـ ابن عمر: [أستأذن على أمي؟ قال: أتريد أن تراها عارية؟] فربما أنها تبدل ثيابها، فلابد أن يستأذن استئذاناً خاصاً حتى في الدخول على الأم، وبالذات غرف البنات، ينبغي تعليم من يدخل الاستئذان قبل أن يدخل، هذا أدب إسلامي حصل فيه تفريط أو إخلال يؤدي إلى كوارث.

الاستئذان عند الانصراف إذا كان في اجتماع

الاستئذان عند الانصراف إذا كان في اجتماع وهناك استئذان آخر عند الانصراف، يكون الإنسان في بيته شخص زائر مثلاً أو في مكان اجتماع، أما إذا كان في مكان اجتماع فيه الخليفة أو إمام المسلمين فإنه لا ينصرف إلا باستئذان لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62] فهذا نوعٌ من الأدب أرشد إليه ربنا عز وجل عباده المؤمنين، وهو الاستئذان عند الانصراف، كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، ومدح الله من تأدب بهذا الأدب الرفيع، فكل من كان قائماً على أمر، أو أميراً على جماعة مثل أمير السفر مثلاً، فأراد إنسان أن ينصرف أو يغادر فيستأذن منه؛ لئلا ينفرط عقد الجماعة أو يكون هناك اختلال في الإمرة أو الواجبات ونحوها، وأما بالنسبة للزيارة العادية فإن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أن الإنسان إذا زار أخاه فلا يقومن حتى يستأذنه. فإذا كنت عند شخص في زيارة، فالأدب إذا أردت الانصراف أن تستأذن قبل أن تقوم وليس أن تقوم وتمشي، فهذا احترام لصاحب الدار ولأخيك المسلم، ويكون هذا الاستئذان مصحوباً بالسلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا انتهى أحدكم إلى مجلسٍ فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة). ولذلك روى البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: باب إذا جلس الرجل إلى الرجل يستأذنه في القيام، وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: جلست إلى عبد الله بن سلام فقال: إنك جلست إلينا وقد حان منا القيام، فقلت: فإذا شئت، فقام، فتبعته حتى بلغ الباب. فإذاً: عرفنا الآن التحية عند دخول البيوت، والتحية عند الانصراف، ولنعلم كذلك بأن هذا الأدب وهو أدب الاستئذان بنوعيه العام والخاص، أدب كريم، أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظافرت في ذلك دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فقال بعض العلماء: إنه مستحب، وقال بعضهم: إنه واجب بنوعيه الخاص والعام، قال ابن مفلح: فيجب في الجملة، وأدلة الوجوب كثيرة مثل: الأمر أو النهي، والأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع) وهذه اللام في قوله: (ليستأذنكم) هي لام الأمر، هذا ظاهره يدل على الوجوب ثم ستر العورة واجب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) والاطلاع على العورة محرم، فالمسألة كبيرة.

صيغ الاستئذان

صيغ الاستئذان وأما صيغ الاستئذان فإن الصيغة المشهورة (السلام عليكم أأدخل؟) فإن أذن له دخل وإلا رجع، ودل على هذه الصيغة (أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج - أي أأدخل؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب كيفية الاستئذان، وصححه الألباني. وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا استأذن فقيل له: ادخل بسلام، رجع وقال: لا أدري أدخل بسلامٍ أو بغير سلام، فهذا امتناع ابن عمر رضي الله عنهما الدخول لما قيل له: بسلام، احتمال أن يكون المراد ادخل بسلامك لا بشخصك، ولأنهم اشترطوا عليه شرطاً لا يدري أيفي به أم لا، فمن ورعه كان يرجع. فالمهم الصيغة: السلام عليكم أأدخل، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه استأذن فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ ولكل قومٍ عرفٌ في الاستئذان، ولذلك لو استأذن بأي كلمة: ممكن أدخل؟ لا بأس، أأدخل؟ لا بأس، لكن الصيغة الأتم والأكمل (السلام عليكم أأدخل؟). فهذه الصيغة الأفضل، وقد جاء عن عبد الملك مولى أم مسكين قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي فلما بلغ الباب قال: أندر؟ قالت: أندرون، وهذه العبارة معناها بالفارسية استئذان، فإذاً يمكن أن تدخل على شخص لا يعرف العربية، فتستأذن عليه بلسانه بالإنجليزية أو بغيرها، المهم أن يفهم أنك تريد الدخول وتسمع إذناً صريحاً.

بعض آداب الاستئذان

بعض آداب الاستئذان

أن يستأذن ثلاثا

أن يستأذن ثلاثاً ورد في الحديث: (كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً) عنون عليه البخاري رحمه الله: باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، أما قضية التسليم ثلاثاً ستأتي إن شاء الله تعالى في آداب السلام، وأما مسألة الاستئذان ثلاثاً فإن الاستئذان ثلاثاً لا يزيد عليها الإنسان، وإذا لم يؤذن له فليرجع، وجاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يأذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فليرجع، فقال عمر لـ أبي موسى: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحدٌ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب لـ أبي موسى: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك) عمر أراد أن يستثبت، وأراد المزيد من التأكد، فطلب من أبي موسى شاهداً معه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الاستئذان بثلاث مرات، وأن الإنسان لا يزيد عليها، وأنه إذا لم يؤذن له يرجع، وهذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، طبقه أبو موسى الأشعري مع عمر، وشهد مع أبي موسى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.

إذا لم يؤذن له فليرجع

إذا لم يؤذن له فليرجع الآن عرفنا إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له يرجع، لكن هل يجوز الزيادة على الثلاث؟ منع من ذلك جمهور العلماء؛ لأن ظاهر الحديث الاكتفاء بالثلاث والزيادة عن الثلاث إزعاج، يعني يمكن تقول: ما سمع من أول مرة، كان ساهياً أو لاهياً، نستأذن إذن مرة ثانية، وهكذا، فقد يكون سمع، ولو كان يريد أن يأذن لأذن، وقال ابن عبد البر رحمه الله: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. وبعض العلماء قال: يجوز الزيادة إذا لم يكن فيها إزعاج وإحراج لصاحب البيت، أي لو أن إنساناً مثلاً خاصم شخصاً أو بينه وبينه خصومة، فأراد أن يتصالحا فذهب إلى مكانه، وأراد من الزيادة على ثلاث استرضاء الشخص الذي بينه وبينه خصومة، فلم يقصد بالزيادة على الثلاث الإحراج أو الإزعاج، قصد أن يسترضيه ويلح عليه ويقبل منه الدخول، ويقبل منه الاعتذار، فلا بأس فلها معنى ولها وجه. وقد جاء في حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: فرد سعد رداً خفيفاً يعني: أباه قلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذره يكثر علينا السلام، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفيفاً، ثم قال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد رداً خفيفاً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود في الاستئذان، باب كم مرة يسلم الرجل. فالنبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بالثلاث ورجع، قالها في قوله وعملها بفعله صلى الله عليه وسلم، وإذا تحقق المستأذن أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثلاث؛ لأنهم لما سمعوه ولم يأذنوا دل ذلك على أنهم لا يريدون الإذن، وعدم الزيادة على الثلاث ثابت في السنة.

عدم متابعة الاستئذان ورفع الصوت

عدم متابعة الاستئذان ورفع الصوت ومما ينبغي للمستأذن ألا يجعل استئذانه متواصلاً، أأدخل، أأدخل، أأدخل، ثم ينصرف فهذه صارت مثل واحد يريد ألا يدخل، أعط فرصة لصاحب البيت، ويكون بين كل استئذان والآخر وقتٌ يسير، أما قرع الباب بعنف ويضغط الجرس عشرين مرة كما يفعل بعض الناس، والصياح لصاحب الدار فهذا فيه إيذاء وإيحاش، والله سبحانه وتعالى عاتب الأعراب فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:4 - 5] فهؤلاء كانوا يأتون عند بابه ويصوتون ولا يصبرون، والأولى للإسماع، والثانية ليأخذ الحذر والأهبة أهل البيت، والثالثة ليأذنوا وإن شاءوا ردوه، الأولى استعلام، والثانية تأكيد، والثالثة إعذار، الثلاث وردت في أشياء كثيرة أنها منتهى الأمر، وكذلك فإن الخضر بعد الثلاث امتنع عن مرافقة موسى؛ المرة الأولى قد يكون الإنسان جاهلاً، المرة الثانية قد يكون ناسياً، المرة الثالثة أقيمت عليه الحجة، ما بقي بعد ذلك سبب. الطلاق ثلاث مرات: المرة الثالثة ليس فيها رجعة، فنجد أن الثلاث في الشريعة جاءت في أمورٍ كثيرة أنها منتهى الأجل ونهاية المطاف.

إذا أحرج صاحب البيت فلينصرف ولا يدخل

إذا أحرج صاحب البيت فلينصرف ولا يدخل وكذلك فإن الإنسان إذا لاحظ أن صاحب البيت قد أحرج وخرج إليه في حال غير مناسبة فلا يدخل، بل إنه ينصرف ((فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى عتبان رضي الله عنه واستأذنه فخرج إليه ورأسه يقطر ماءً، فقال: لعلنا أعجلناك؟ قال: نعم يا رسول الله!) والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى سعد بن عبادة ولم يسمع رداً انصرف ولم يلح، فإذاً إذا تبين إنسان أنه قد أحرج صاحب البيت فلينصرف ويعتذر عن حضوره في وقتٍ غير مناسب، إلا إذا لاحظ أن صاحب البيت يريده فعلاً أن يدخل فإنه يدخل. ولذلك الآن من الأمور التي أهلكتنا قضية المجاملات الفارغة، يعني: مثلاً واحد أوصل الثاني إلى بيته بعد العمل بعد تعبه وإرهاقه وعرقه وجوعه، الذي حصل وصله إلى البيت، فهذا الذي ينزل بيته يقول: تفضل معنا، هل هو يقصد فعلاً حقيقة هذه الكلمة؟ لا يقصدها، بدليل أنه لو تفضل معه لصارت نكبةً عليه، هذه تفضل معنا يعني: مع السلامة، لكنهم يقولونها بعبارةٍ أخرى، فلذلك ينبغي عدم الوقوف عند هذه الألفاظ المجردة، بل ننظر إلى ما وراء ذلك من المعاني والأحوال.

الاستئذان على المحارم

الاستئذان على المحارم وينبغي التأكيد على قضية الاستئذان على المحارم لئلا يكون في ذلك انكشاف للعورة واطلاع عليها، وقد سأل رجلٌ حذيفة فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: [إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره] وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: [عليكم بالإذن على أمهاتكم وأخواتكم] وجاء عن موسى بن طلحة قال: [دخلت أنا وأبي على أمي، فدخل فاتبعته، فالتفت إليَّ فدفع بصدري وقال: أتدخل بغير إذن؟] فهذا الأب عاتب ابنه على الدخول على أمه بدون استئذان، يعني: هو زوجها يدخل عليها؟ وسأل عطاء ابن عباس، فقال: [أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قال: إنها في حجري أنا الذي أربيها -قد تكون يتيمة- قال: أتحب أن تراها عريانة؟]. فإذاً: هذه الآثار الصحيحة كما بين ابن حجر رحمه الله تدل على الاستئذان حتى على المحارم، ويستأذن الرجل على أمه ولو كانت عجوزاً، وأن هذا الاستئذان أمرٌ مفروض لعموم البلوى التي تحصل داخل البيوت، وربما يكون الخطر من الداخل أعظم من الخطر من الخارج.

حكم الاستئذان على الزوجة

حكم الاستئذان على الزوجة لكن الاستئذان على الزوجة ليس بواجب، إنما هو من كمال الأدب، قال ابن جرير لـ عطاء: أيستأذن رجل على امرأته؟ قال: لا. لكن قالت زينب زوجة ابن مسعود: [كان عبد الله -يعني زوجها- إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهة أن يهجم منا على أمرٍ يكرهه] إسناده صحيح، صححه ابن كثير رحمه الله في تفسيره، فإذا من كمال الأدب أن يستأذن الإنسان على زوجته، لكن من ناحية الوجوب لا يجب، وهناك فرقٌ بين إعلامها بالدخول وبين الاستئذان عليها، فالزوجة تعلم بالدخول لئلا تكون على حالٍ تكره أن يراها زوجها عليها، وإلا فالزوجة لا يجب الاستئذان عليها، لكن لا يفاجئها فتقع في شيءٍ من الحرج. ولماذا أمرنا ألا ندخل على أهالينا ليلاً من السفر؟ لا يطرق الرجل أهله طروقاً لئلا يقع منها على أمرٍ يكرهه، ينتظر حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، وبعد ذلك إذا أراد أن يدخل فليدخل. طبعاً الآن لو أن إنساناً أخبر زوجته بالهاتف أنا سآتي هذه الليلة، فقد حصل المقصود فيجوز أن يأتي ليلاً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في أسفاره ينتظر قرب المدينة، يعني: أهل المدينة يكون عندهم خبر أنه سيدخل قريباً، إذا وصل في الليل لا يدخل في الليل، ينتظر لئلا يدخل الرجل على زوجته في حال يكرهها، يعني: هو جاء من السفر مشتاقاً إلى زوجته، وزوجته غير ممتشطة وغير مستعدة، فعند ذلك كان عليه الصلاة والسلام يبيت خارج المدينة ثم يدخل في الصباح، إذا جاء في النهار دخل، ويمهل، لماذا يمهل؟ قال: (حتى تستحد المغيبة) التي غاب زوجها تستحد يعني: تحلق العانة بالموس، ونحو ذلك من لوازم التهيئ للزوج، فالمقصود التهيئ للزوج لأنه إذا رآها متفرقة الشعر في حالة العرق والمهنة وهو آتٍ من سفر مشتاق إليها نفر منها، وقد تحدث وحشة بينهما، ولذلك أمرت المرأة بالتهيئ لزوجها إذا جاء من سفر ولا يطرقها طروقاً في الليل إلا إذا أخبرها قبل أن يأتي، كما إذا اتصل عليها قال: سآتي أنا في الليل، الطائرة ستصل في الليل ونحو ذلك.

تقديم السلام على الاستئذان

تقديم السلام على الاستئذان لما تكلمنا عن قضية الاستئذان وقلنا: إنه يرفق بالسلام، السلام قد يكون استئذاناً، وقد يكون الاستئذان بغير سلام، فلو قال الإنسان: أأدخل؟ يكفي للاستئذان، لكن الأفضل أن يكون السلام مرافقاً للاستئذان، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ ويتضح من هنا أن السلام قبل الاستئذان. بالنسبة لموضوع تقديم الاستئذان كنا نتكلم عن موضوع الاستئذان والسلام أيهما قبل؟ يقول ابن القيم رحمه الله: وفي هذه السنن رد على من قال بتقديم الاستئذان على السلام، ورد على من قال: إن وقعت عينه على صاحب الدار قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، وهذان القولان مخالفان للسنة، لأن السنة أن يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم أأدخل (ولا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام) حديث رواه البيهقي، وصححه الألباني: [إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم فقل: لا. حتى تأتي بالمفتاح " السلام] رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة من كلام أبي هريرة، كان إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم يقول: لا. حتى تأتي بالمفتاح، ويقصد بالمفتاح السلام، فإذاً يقدم السلام على الاستئذان.

إرسال الخادم إلى المدعو إذن له

إرسال الخادم إلى المدعو إذن له ماذا بالنسبة لموضوع الرسول الذي يرسل من شخصٍ إلى آخر، واحد أرسل خادمه إلى شخصٍ يقول: فلان يدعوك، هل هذا الخادم يغني عن الاستئذان؟ يقول البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن، وساق حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو إذنه) وجاء في حديث أبي هريرة أنه قال: ادع أهل الصفة قال: فجاءوا فاستأذنوا، فإذاً كيف نجمع بين الحديثين، قال: ابن القيم رحمه الله: إن جاء الداعي على الفور من غير تراخٍ لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخ في المجيء عن الدعوة وطال الوقت احتاج إلى استئذان، فلو إنك قلت لشخص: ادع لي فلاناً فذهب وكلمه، فجاء هذا مباشرةً، يدخل عليك مباشرة ولو بغير استئذان، لكن لو دعاه فجاء بعد فترة من الزمن فيحتاج إلى استئذان، وقيل: إذا حضر مع الرسول فلا يستأذن، وإن تأخر عن الرسول لزمه الاستئذان، فـ أبو هريرة ما كان معهم، ولذلك لما جاءوا استأذنوا، وأما قوله: رسول الرجل إلى الرجل إذنه فذلك إن جاء معه، ولذلك جاء في رواية (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذنٌ) رواه أبو داود، وصححه الألباني. ففي هذا دلالة على أن الدعاء إلى الوليمة إذنٌ بالدخول والأكل، وهذه مسألة واسعة تختلف فيها الأعراف، يعني مثلاً: بعض الناس يقول: الليلة العشاء عندي، يأتي الناس يجدون باب البيت مفتوحاً، ما معنى فتح باب البيت؟ معناه الإذن فلا يحتاج إلى قرع باب ولا استئذان، تدخل مباشرة إلى المجلس، هذه واضحة من أعراف الناس، وإبراهيم عليه السلام كان بابه مفتوحاً للضيوف، ولذلك قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25] دخلوا عليه معناه: أن بيته مفتوح للضيوف، وقد اشتهر بذلك عليه السلام.

اختيار الأوقات المناسبة

اختيار الأوقات المناسبة المجيء لابد له من اختيار الأوقات المناسبة، على كل حال فالإنسان لا يأتي مثلاً في نصف الليل أو بعد نصفه، أنا أطرق الجرس ثلاث مرات إن أذنوا لي وإلا رجعت، ولكن هذا الوقت غير مناسب، فاستئذانك مزعج، لو ما جئت لكان أحسن.

أن يقف بجانب الباب

أن يقف بجانب الباب أين يقف المستأذن من الباب؟ (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء الباب يستأذن لم يستقبله، يقول: يمشي مع الحائط حتى يستأذن فيؤذن له أو ينصرف) رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. فإذاً: لا يقوم مواجه الباب بحيث إذا فتح الباب رأى كل شيءٍ وراء الباب، وقد جاء رجل إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فقام على الباب، فقال: هكذا عنك -تنح يميناً أو شمالاً والآن الإنسان يتنحى في أي جهة؟ يعني: لا يستقبل الباب بل يذهب يميناً أو شمالاً، يذهب عكس اتجاه فتحة الباب، أي في الجانب الذي لا يرى منه إلى الداخل؛ وإنما يكون في الجانب الآخر، فإذا كان الباب يُفتح يميناً وقف إلى الشمال، وإذا كان الباب يفتح شمالاً فيقف يميناً، والمهم أنه يجلس في المكان الذي إذا افتح الباب لا يرى ولا يطلع، وإذا جعل ظهره للباب أو جنبه بحيث أنه لا يرى وتأخر عن الباب فهذا من الأدب، وبعض الناس بل قلة منهم من يراعي هذه الأشياء، مع أنه من الدين والشريعة ومن السنة وفيها أجر؛ ولكن يوجد تهاون في الحقيقة وإهمال في هذه الأمور.

أن يخبر باسمه حتى يعرف

أن يخبر باسمه حتى يعرف ومن ملأ عينه من قاع بيتٍ -يعني بعض الناس تراه ينفتح الباب فقط، وهو يحاول أن يرى أكبر قدر ممكن، فهذا مخالف للأدب وشيء شنيع- فإذا ضرب الباب، الآن الجرس يقوم بالاستئذان فهو مفيد، فالبيوت قديماً لو قلت: السلام عليكم أدخل؟ يسمعوا، لأنه قد لا يكون على الباب إلا ستارة، أو يكون باباً بسيطاً، والبيت ليس فيه طبقات وأشياء عميقة، بيوت بسيطة وصغيرة، حجرات النبي عليه الصلاة والسلام ماذا كانت؟ الآن البيوت أدوار وطابق ثانٍ وثالث، ويكون الإنسان في بابٍ وراء بابٍ وراء بابٍ (أبواب مغلقة) فلو قلت: السلام عليكم، بأعلى صوتك والمكيفات شغالة لا يمكن أن يسمعك، فيقوم الآن الجرس مكان الكلام، فأنت تطرق الجرس أول مرة وثاني مرة وثالث مرة، فإن رد عليك تقول: السلام عليكم فلان، تقديم الاسم أحسن، لكن إن سأل أهل البيت تأكد الجواب؛ لأنه قد ورد في الصحيحين عن جابر قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دينٍ كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا أنا كأنه كرهها) فأنا: هذه ليست تغني بالتعريف، فعندما يقال: من؟ لا تقل: أنا؛ وقل: فلان، وإذا كان في أكثر من شخص بهذا الاسم فيقول: فلان الفلاني، لأنه لو طرق الباب وقالوا: من؟ قال: عبد الله، مَن عبد الله؟ فيقول: فلان بن فلان، أو أبو فلان المقصود أن يعرفه صاحب البيت بشخصيته، بكنية معروفة مشهورة أو باسم العائلة الأول والأخير، المهم أن يأتي له بالاسم الذي يتميز به، لأن صاحب البيت لو أذن لك على أنك فلان وأنت لست بفلان فإذنه لا يغني، وليس المقصود مخادعة صاحب البيت حتى يظن أنك فلان فيأذن ثم يتضح أنه شيءٌ آخر، فهذا ليس استئذان.

ألا يكون الاستئذان مزعجا

ألا يكون الاستئذان مزعجاً وهذه الأجراس والقرع الموجود ينبغي أن يكون بدون إزعاج، فإن أبواب النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقرع بالأظافر من الرقة، ومن المبالغة في الأدب والتوقير والإجلال. وبعض الناس يضع يده على الجرس ولا يرفعها، والجرس يواصل الطرق، بعض الأجراس تواصل التصويت بالضغط على الزر، وهذا من قلة الأدب، وجبريل لما صعد بالنبي عليه الصلاة والسلام للسماء جعل يستأذن فيقال: من؟ فيقول: جبريل، فيقال: ومن معه؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً كان يوجد تعريف بجبريل وبمن معه، هذه قد تكون من الإحراجات أن يأتي واحد معه ثلاثة يطرق الباب فيقال: من؟ فلان تفضل! ويدخل معه ثلاثة، عرِّف وقل: معي فلان وفلان وفلان، المشكلة أن عدم التعريف يسبب إحراجاً لصاحب البيت، فلابد من الإفصاح وتقديم المعلومات، فإذا دخل الإنسان إلى البيت فإن هناك آداباً للمجلس قد سبق بيانها في غير هذا الموضع.

حالات يسقط فيها الاستئذان

حالات يسقط فيها الاستئذان وفي الختام فإن هناك حالات يسقط فيها الاستئذان، كمن أراد الدخول لإنقاذ إنسان من حريق أو إسعاف شخص في هجوم سارق، أو اقتحام لإنكار منكر في بيت دعارة أو مصنع خمر، ولا يجوز الاستئذان هنا (دور أهل الحسبة) فلا مجال للاستئذان في مثل هذه الحالات، والأمر بالرجوع أدب شرعي، وإذا استأذن فيقال له: ارجع فيجب أن يرجع دون أن يحمل في نفسه شيئاً. وكذلك فإن الإنسان إذا جاء إلى منزل ليس فيه أحد فلا يسقط الإذن؛ لأن داخل البيت قد يكون فيه أشياء لا يراد منه أن يطلع عليها.

الإذن المعتبر

الإذن المعتبر وكذلك لا عبرة بمن إذنه غير معتبر، فلو طلع واحد صغير عمره ثلاث سنوات أأدخل؟ وقال: ادخل فهذا إذنه غير معتبر، وقد يدخلك على أمه، فبعض الناس قد يتساءل، فلذلك يتأكد يقول: اذهب إلى أبيك وقل له: فلان، أو يطرق الجرس مرة ثانية ومرة ثالثة ولا يكتفى بإذن الصغار، وبعض الناس عنده سائق أو خادمة أو شخص أعجمي تقول: أأدخل؟ يقول: هاه، أو يقول: إيه، يظنها إذناً وهو ليس بشيء. ويقول ابن القيم رحمه الله: يقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان؛ إذا صارت القرائن قائمة على أنه إذن، أو أنه نقل إذن من صاحب البيت، وقد يكون الإذن بغير الكلام كأن يجعل علامة تدل على الإذن، مثلاً طرقت الجرس قلت: السلام عليكم أأدخل، فتحوا الباب بالزر الكهربائي، هذا الفتح معناه إذن بالدخول، وقد يحصل هذا في بعض البيوت إذن بالدخول، لكن يجب أن يتأكد الإنسان لأن أحياناً تطرق البيت تقول: السلام عليكم يظنون أنه ولدهم الذي خرج إلى البقالة، فيفتح الباب تلقائياً بالزر الكهربائي، هذا ليس معناه إذن لك بالدخول، فينبغي أن تتأكد أن الفتح لك أنت يا أيها المستأذن. وكذلك يمكن أن بعض الناس قد يكون بينه وبين شخص علاقة خاصة فيقول: أنت ما يحتاج أن تستأذن إذا أردت أن تدخل البيت، يعني هذا ما يحتاج استئذان أبداً تجيء على المجلس مباشرةً، النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن مسعود: (إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي -يعني السر- حتى أنهاك). وكذلك فإن الاستئذان قد يكون على إنسان يصلي، فماذا يفعل؟ لو أنه سبح يوحي لك بالإذن فادخل، أو الانتظار قد يسبح يعني: بالانتظار حتى يفتح لك الباب، أو يتقدم المصلي فيفتح لك الباب ونحو ذلك. فهذه بعض الأشياء المتعلقة بالاستئذان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤدبنا بأدب كتابه، وأن يعلمنا سنة نبيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

آداب البشارة

آداب البشارة إن التبشير بالخير والأمور السارة من آداب الإسلام العظيمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يبشر في أمور الدين البشارة العامة، وكذلك البشارة الخاصة، وقد تعرض الشيخ في هذا الدرس إلى مواطن البشارة وآدابها.

الفرق بين البشارة والبشارة

الفرق بين البِشارة والبُشارة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أما موضوع البشارة: فإن البِشارة يعرفها العلماء بأنها ما يُبِشِر به الإنسان غيره من أمر، وهي بكسر الباء (البِشارة) والبُشارة بضم الباء ما يُعطاه المُبشِّر بالأمر, أي: إذا بشرك إنسان فأعطيته شيئاً فهذه العطية تسمى: بُشارة, والأمر الذي بشرك به يسمى: بِشارة. قال ابن الأثير رحمه الله: البُشارة بالضم ما يعطى البشير, وبالكسر الاسم، وسميت بذلك من البشر وهو السرور؛ لأنها تظهر طلاقة وجه الإنسان، وهم يتباشرون بذلك الأمر، أي: يبشر بعضهم بعضاً, والبِشارة إذا أطلقت فهي للبشارة بخير, هذا هو الأصل, ويجوز استعمالها مقيدة في الشر, كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] وقد جاء في الحديث الصحيح في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه, وإن الكافر إذا حضره الموت بُشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه). فالآيات التي فيها التبشير أو البشارة بالعذاب الأليم للكفار كثيرة, واستعمال البشارة في الخير هو الأصل, وقد ورد في القرآن في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وبشرت مريم بكلمة من الله, والبشارات التي ذكرت في القرآن كثيرة. إذاً: إذا استعملت البِشارة في الشر فلا بد من استعمالها مقيدة، مثلاً: بشر بعذاب ونحو ذلك, ولا يقال: بشر فقط بدون أن يذكر المبشر به. والبشارة تكون من المخبر الأول بخلاف الخبر, فإنه قد يكون من الأول والثاني والثالث وكلهم مخبرون, أما البشارة فهي من المخبر الأول, فإذا جاء واحد وكررها فلا تكون بشارة, وكذلك الخبر قد يكون صادقاً أو كاذباً، أما البشارة فإنها تختص بالخبر الصادق السار غالباً. والبُشارة ما يعطى المبشر، وهي تشبه الجعل الذي يعطى على عمل معين, لكن الجعل قبل العمل, فهو يقول: من فعل لي كذا أعطيته كذا والبُشارة تعطى بعد الإخبار بالأمر السار ولو لم يقل: من بشّرني بكذا أعطيته.

التبشير بالخير من الآداب الإسلامية العظيمة

التبشير بالخير من الآداب الإسلامية العظيمة والتبشير بالخير والشيء الطيب السار والأمر المفرح من السنة, وهو من الآداب الإسلامية العظيمة, فأما أعظم ما نبشر به المؤمن فهو البِشارة بما أعد الله له، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] وكذلك فإن الله سبحانه قد بشر المؤمنين بالملائكة، قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:9 - 10]. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبشر بالأمور الدينية كثيراً، فليس فقط لمن جاءه ولد أو مال أو هدايا أو نحو ذلك, بل كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يبشر بالأمور الدينية, وقد جاءه أعرابي كما في صحيح البخاري في كتاب المغازي فقال: (ألا تنجز لي ما وعدتني؟ -قيل: إنه وعده وعداً خاصاً، أو إنه وعده أن يعجل له نصيبه من الغنيمة- فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت من أبشر -الأعرابي لم يقبل أبشر أبشر كلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فأقبل الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: رد البشرى فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا, ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجّ فيه ثم قال: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا, فنادت أم سلمة من وراء ستر: أن أفضلا لأمكما -لأنها: أم المؤمنين- فأفضلا لها منه طائفة) ولا شك أن هذا كان خيراً لهما من كل مال وغنيمة، ولكن الأعرابي لا يفقه. والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بنو تميم قال: (يا بني تميم! أبشروا، قالوا: بشرتنا فأعطنا) هؤلاء أيضاً أعراب لا يفهمون البشرى إلا في الأمور المادية, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقبلوا البشرى) يريد أن يعلمهم شيئاً ينفعهم في معادهم وآخرتهم: (فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم, فجاءه أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم, قالوا: قبلنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن بدء الخلق والعرش) إلى آخر الحديث. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بأن صلاة العشاء عند نصف الليل خير عظيم، قال: (أبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم). فهذه كلها بشارات دينية عامة، وهناك بشارات دينية خاصة لبعض الصحابة, مثل قصة ثابت بن قيس لما غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: (يا رسول الله! أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال: ما شأنك؟ فقال: شر, كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عملي، فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال: كذا وكذا -فقال موسى بن أنس الراوي: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة- فقال: اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة) فهذه بشارة عظيمة جداً، ولا أعظم من أن يبشر الإنسان بأنه من أهل الجنة.

الرؤيا الصالحة من البشارات

الرؤيا الصالحة من البشارات كذلك من البشائر الدينية الشرعية الرؤيا الصالحة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن النبوة تذهب، ولكن تبقى المبشرات بعده عليه الصلاة والسلام، وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له, وقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (الرؤيا الصالحة من الله) ثم قال في آخر الحديث: (فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر، ولا يخبر إلا من يحب).

المدح على العمل الصالح من البشارات

المدح على العمل الصالح من البشارات ومن البشائر الدينية التي بشر بها المسلم أنه إذا عمل عملاً صالحاً ثم تكلم الناس عن هذا العمل وتحدثوا به ونشروه وحمدوه عليه, وهو لا يقصد إلا وجه الله, لكن اطلع عليه الناس أو أن الناس تناقلوا ذلك الخبر فهذا الحمد لا ينقص من أجره ولا يجعله عرضة للعذاب أبداً, وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت الرجل يعمل العمل بالخير ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن) بوب عليه النووي رحمه الله "باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره". والبشرى تكون في مناسبات كثيرة منها: المريض, فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم أم العلاء , قالت: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال: أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح, والبشارة للمريض وردت في أكثر من حديث.

تبشير طالب العلم

تبشير طالب العلم ومن الناس الذين يبشرون أيضاً: طالب العلم، كما جاء عند الدارمي رحمه الله تعالى, عن عاصم بن زر بن حبيش قال: (غدوت على صفوان بن عسال المرادي وأنا أريد أن أسأله عن المسح على الخفين, فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم, قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال -ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم-: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع). إذاً يبشر طالب العلم بالأجر إذا رئي أنه يطلب به وجه الله تعالى.

تبشير أهل المصائب بالأجر العظيم

تبشير أهل المصائب بالأجر العظيم كذلك من الناس الذين يبشرون بالأجر: أهل المصائب، مثل من مات له ولد, كما جاء عند الترمذي وهو حديث حسن قال: حدثنا سويد بن نصر حدثنا عبد الله بن المبارك عن حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: (دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر, فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم, فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد). وينبغي أن تكون نفسية التبشير للآخرين والفأل الحسن وانشراح الصدر والوجه الطلق هي سمة المؤمن, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا). ولذلك يجب على الخطيب ألا يكون حديثه ووعظه للناس في صفة النار وحال أهلها فقط دون أن يخبرهم بصفة الجنة, وما أعد الله لأهلها وما فيها من النعيم المقيم وأنواعه, بل عليه أن يجمع بين الترغيب والترهيب، وينبغي أن نراعي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (إن رحمتي سبقت غضبي).

البشارة في الفتوح

البشارة في الفتوح أيضاً من مواطن البشارة التي وردت في السنة، البشارة في الفتوح، كما بوب البخاري في كتاب الجهاد والسير: باب البشارة في الفتوح, إذا فتح بلد وانتصر المسلمون فلا بد أن ينقل الخبر على أنه بشارة لعموم المسلمين, ويخبر المسلمون بذلك وينشر. وهذا من البشائر السارة كما جاء في حديث جرير بن عبد الله في البخاري قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ -وكان بيتاً في خثعم يسمى: كعبة اليمانية, وهو من أوثان المشركين- قال: فانطلقت في خمسين ومائة من أحمس وكانوا أصحاب خيل, فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني لا أثبت على الخيل فضرب على صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري فقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً) فانطلق إليها فكسرها وحرقها، فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره، أي: عند الفتح. وكان المسلمون يرسلون البشائر إلى أبي بكر وعمر وعثمان بالفتوح.

البشارة عند الموت

البشارة عند الموت كذلك من المواطن التي يبشر فيها الشخص عند الموت, إذا كان من أهل الصلاح والخير، فإنه عند نزول الموت به ينبغي أن يبشر بثواب الله إذا كان حاله حال أهل الصلاح، حتى يموت وهو يحسن الظن بربه, ولذلك لما طعن عمر رضي الله عنه دخل عليه شاب من الأنصار فقال: [أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله، كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت, ثم استخلفت فعدلت، ثم الشهادة بعد هذا كله, فقال عمر: ليتني -يا بن أخي- أنجو كفافاً] الحديث. وكذلك ولد عمرو بن العاص عند وفاة عمرو بن العاص قال له: ألم يقل لك النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟ ألم يبشرك بكذا وكذا؟

البشارة بموت الطاغية

البشارة بموت الطاغية ومن البشائر المتعلقة بالدين البشرى بموت الطاغية, فإذا مات طاغية أو إنسان مجرم جبار ظالم أو قتل فالبشرى بموته وقتله أيضاً مما ورد في هذه الشريعة, والدليل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في قصة ذلك الصحابي الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقتل أبي رافع الذي كان يهجو النبي عليه الصلاة والسلام ويؤذي المسلمين, فلما ضربه بالسيف ووضعه في بطنه وسمع صوت العظم خرج دهشاً قال: [حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فسقطت منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية, فلما كان الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع , فقال: فقمت أمشي ما بي قلبة, فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا] أي: كانت رجله مكسورة, لكنه لحق أصحابه، وكان انتظر طوال الليل إلى الصباح ليسمع الناعي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيبشروه. إذاً: فالبشرى بموت طاغوت أو طاغية من آداب هذه الشريعة.

استحباب إعطاء البشارة للمبشر

استحباب إعطاء البشارة للمبشر ويستحب لمن جاءته البشرى كمن بشر بغلام أو بنعمة جاءته أن يعطي المبشر شيئاً, قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في التعليق على قصة كعب رضي الله عنه، ولا بأس أن نذكر طرفاً من هذه القصة العظيمة: قصة كعب رضي الله عنه وردت في عدد من كتب ودواوين السنة, ففي كتاب الجهاد في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس) وقص الحديث, قال: (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أي الثلاثة- حتى إذا طال عليّ تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي, فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام, ثم صليت الصبح -صباح خمسين ليلة- على ظهر بيت من بيوتنا فسمعت صارخاً: يا كعب بن مالك! أبشر, فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه، فانطلقت حتى إذا دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس, فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني). وقد عنون له أبو داود: باب في إعطاء البشير. وكذلك وردت رواية أخرى في صحيح البخاري , في كتاب تفسير القرآن، يقول كعب رضي الله عنه: أنه في هذه الواقعة لم يكن من شيء أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم, يعني كان همه الذي أهمه وقت هجره ومنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من كلامه, يقول: كان الهم الذي أهمني وأقلقني أن أموت في هذه الليالي التي أنا مهجور فيها، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي ولا يسلم علي, فكلاهما بالنسبة له مزعج جداً, فأنزل الله توبته على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أم سلمة! تيب على كعب , قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: إذاً يحطمكم الناس، فيمنعونكم النوم سائر الليل) حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر. إذاً: الصحابة كانوا مهتمين بتبشير كعب. وفي القصة المعروفة المشهورة لما جاء البشير كعباً أعطاه ثوبيه, قال ابن القيم رحمه الله: "وفي نزع كعب لثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم, وعادات الأشراف, وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره, قال: وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه" طبعاً بدون كشف عورته أمام الناس، لكن يجوز أن يعطيه جميع ثيابه, وكذلك قول بعض الناس: هات البشارة, فهذا له إشارة في كلام أهل العلم أنه يعطى. والبشارة سواء كانت في الأمر الطيب الديني أو الأمر الطيب الدنيوي مثل الولد أو المال فلا شك أنها مما يثاب عليها, ويعطى فيها, والحديث يدل على التسابق في تبشير المسلم بالخبر السار, وأن المسلم إذا صار له شيء طيب من باب المشاركة الشعورية له أن يتسابق إخوانه في تبليغه, لذلك لما أرسل عمر ابنه عبد الله إلى عائشة يستأذنها أن يدخل مع صاحبيه، ثم أقبل عبد الله قال عمر: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! أذنت, فقال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك. وذكر البشارة للناس أو تبشير من يريد من الناس, لو جاء أحد وقال: أعطني كذا أو أريد منك خدمة فتقول له: أبشر، فهذا لا شك أنه من الأمور الطيبة التي جاءت بها السنة, فإن الناس لما سمعوا في المدينة أن مالاً جاء به أبو عبيدة من البحرين، جاءوا النبي عليه الصلاة والسلام بعد صلاة الفجر, فقال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ قالوا: أجل يا رسول الله! قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم, فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا) الحديث. إذا أتى إليك شخص يريد شيئاً بمقدورك أن تعمله له فقل له: أبشر, كأن يريد منك مالاً أو مساعدة أو يريد أن تعينه بأمر من الأمور فتقول له: أبشر, فهذا مما ورد في السنة.

من آداب البشارة وأحكامها

من آداب البشارة وأحكامها كذلك من آداب البشارة الشرعية أن الإنسان إذا بشر بشيء يسره يخر ساجداً لله, وهو سجود الشكر, كما روى أبو داود في كتاب الجهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خرّ ساجداً شاكراً لله) فالشاهد من الحديث قوله: أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله. إذاً: من آداب المبشر أنه يسجد شاكراً لله, وأنه يعطي من بشره. كذلك المرأة إذا جاء من يخطبها من أهل الصلاح فإنه يقال لها: أبشري, كما جاء عند أبي داود والحديث صحيح أن زينب لما انقضت عدتها أرسل النبي عليه الصلاة والسلام زيداً ليذكره عندها, فقال زيد: (يا زينب أبشري أرسلني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك). وكذلك من الأحكام الشرعية المتعلقة بلفظة البشارة: أن المرأة التي توفي عنها زوجها لا يجوز أن تخطب في العدة إلا تعريضاً, ولا تخطب تصريحاً بل تلميحاً, ومن الكلمات التي أوردها العلماء في التلميح للمرأة إذا مات زوجها وهي في العدة لمن أراد أن يخطبها أن يقال لها: أبشري, كما جاء في صحيح البخاري في كتاب النكاح, عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] قال: يقول: إني أريد التزوج، ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة, وقال القاسم: يقول: إنك علي كريمة، وإني فيك لراغب, وإن الله لسائق إليك خيراً أو نحو هذا, وقال عطاء: يعرِّض ولا يبوح، يقول: إن لي حاجة وأبشري وأنت بحمد الله نافقة, وتقول هي: قد أسمع ما تقول، ولا تعد شيئاً ولا يواعد وليها إلخ. إذاً: كلمة أبشري من الكلمات التي يجوز لمن يخطب امرأة في عدة الوفاة أن يقولها فتكون من التلميح لا من التصريح, وبعض الفقهاء قال: عبارة: لا تسبقيني بنفسك, يجوز أن يقولها لها، ومن الطرائق قالوا: إن رجلاً مات فخرجت امرأته -طبعاً المرأة لا تتبع الجنازة- في جنازة، فاقترب منها رجل فقال لها: لا تسبقيني بنفسك, فقالت: قد سبقت, أي: في واحد جاء قبلك وخطب. فهذا بعض ما يتعلق بآداب البشارة، وهي من الأخلاق الإسلامية الجميلة التي ينبغي المحافظة عليها ونشرها وإشاعتها في مجتمع المسلمين. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يبشرون عند موتهم بجنات النعيم، وأن يختم أعمالنا بالصالحات, والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

آداب التهنئة

آداب التهنئة إن التهنئة والتبريك من آداب الإسلام العظيمة، وخصاله الجميلة، وقد وردت الآثار والأحاديث في التهنئة والتبريكات، وهنا ذكر لبعض ما يتعلق بالتهنئة وكثير من آدابها.

تعريف التهنئة

تعريف التهنئة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. بالنسبة لموضوع التهنئة فإن التهنئة في اللغة هي بخلاف التعزية, فيقال: هنأه بالأمر والولاية تهنئة وتهنيئاً، إذا قال له: ليهنك أو ليهنأك أو هنيئاً, فإذا قال له أي عبارة من هذه العبارات فهذه تهنئة. والهنيء والمهنأ ما أتاك بلا مشقة ولا تنغيص ولا كدر, والهنيء من الطعام السائغ, واستهنأت الطعام أي: استمرأته. وقد تدخل التهنئة في التبشير، ولها مرادفات أخرى تشترك معها في بعض المعنى مثل: التبريك, والترفئة, ونحو ذلك.

التبريك المتعلق بالتهنئة

التبريك المتعلق بالتهنئة أما بالنسبة للتبريك فهو مصدر برك، هو أن يقول الشخص لآخر: بارك الله عليك أو بارك الله لك, ومعنى هذا: الدعاء للإنسان بالبركة, والبركة هي النماء والزيادة, والتبريك خير من عند الله سبحانه وتعالى, يصدر من حيث لا يحس الشخص، والبركة شيء لا يحصى ولا يحصر, ولذلك يقال لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: أن فيه بركة, والنبي صلى الله عليه وسلم ترك لـ عائشة طعاماً من شعير كانت تأكل منه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مدة طويلة ولم ينته, ثم لما كالته فني. إذاً: قد يكون الطعام الذي يبقى كثيراً دون أن ينتهي أو أنه لا ينتهي إلا بعد مدة طويلة فيه بركة. والمال يبقى عنده وهو ينفق منه ولا ينتهي بسرعة فيحس أن فيه بركة, ولا شك أن المال الذي فيه بركة يختلف عن المال الذي ليس فيه بركة, فمن آثار البركة في المال أنه لا ينفد بسرعة, ومن آثار عدم بركة المال نفاده بسرعة. ومن آثار البركة في المال أن له نتائج محسوسة ينتفع بها الإنسان, ومن آثار عدم البركة في المال أنه لا ينتفع به. وموضوع البركة موضوع طويل ربما يحتاج إلى درس خاص، ولعله يكون في خطبة, فنتكلم عن موضوع البركة وأسبابها وما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى, لكن الدعاء بالبركة يدخل في التهنئة, وهي أن تدعو للشخص بالبركة.

بعبض الآثار والأحاديث الواردة في البركة

بعبض الآثار والأحاديث الواردة في البركة لنأخذ بعض الآثار والأحاديث في ذلك: فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد سمي بذلك؛ لأنه ما من نبي جاء بعده إلا كان من نسله, كما دلت عليه الآيات الواردة: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام:84] ثم ذكر بعد ذلك أنبياء كثيرين، فكل نبي أتى بعد إبراهيم فهو من ذرية إبراهيم، فلذلك سمي إبراهيم بأبي الأنبياء, وإبراهيم عليه السلام لما ترك هاجر وابنها في مكة كبر إسماعيل وتزوج وجاء إبراهيم بعد ذلك ليتفقده, فجاء إلى الزوجة الأولى وحصل ما حصل من الكلام الذي لم يعجبه، وبعد ذلك جاء إلى الزوجة الثانية ولم يجد ولده إسماعيل، فسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالتهذه الزوجة المبرورة غير الكفورة: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله, فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم, قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء, قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء؛ فلذلك يقول أهل العلم: إن اللحم والماء تناولهما والإكثار منهما يضر إلا في مكة , فإن تناول اللحم والماء لا يضر بسبب دعوة إبراهيم عليه السلام، فهو دعا لهما فقال: اللهم بارك لهما في اللحم والماء. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالبركة لمن يزورهم، فلما أُتي بشراب شربه ثم ناوله الذي عن يمينه، قال: فقام أبي وأخذ بلجام دابته بعدما طعم عندهم وأراد أن ينصرف وقال: (ادع الله لنا, فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم). كذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من الملكين أن يدخلاه بيته الذي في الجنة دعا لهما بالبركة, فإذا أردت أي طلب من شخص ما تقول: أعطني هذا بارك الله فيك, وهذه الصيغة لها دليل، فقد جاء في صحيح البخاري في كتاب التعبير لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع الملكين: (قالا لي: هذه جنة عدن -طبعاً في الرؤيا- وهذاك منزلك, قال: فسما بصري صعداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء, قال: فقلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله, قالا: أما الآن فلا) حتى يكون دخوله صلى الله عليه وسلم قصره في الجنة يوم القيامة. فالشاهد أنه لما طلب شيئاً قال: (بارك الله فيكما ذراني) الحديث. فلو طلبت شيئاً فقلت مثلاً: بارك الله فيك افعل لي كذا ونحوه فله شاهد. والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة أبي طلحة لما مات ولده فأخفت امرأته الخبر وغسلت الولد وكفنته ووضعته في ناحية البيت وتزينت لزوجها حتى وقع عليها ولما علم غضب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم, فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أعرستم الليلة؟ -أي: أتيتها- قال: نعم. قال: بارك الله لكما) فولدت غلاماً مات شهيداً، واسمه عبد الله وهو أخو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. وكذلك الملك لما جاء إلى الثلاثة الأقرع والأبرص والأعمى من بني إسرائيل ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأعطى هذا قطيعاً من الإبل وهذا قطيعاً من البقر، كان يقول للشخص بعدما يعطيه: (بارك الله لك فيها, ثم أتى الأقرع وقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس, قال: فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها) ولذلك توالدت وتكاثرت حتى صارت وادياً عظيماً. فإذا جاء الإنسان نعمة أو مال يدعى له بالبركة. كذلك من معنى التبريك المتعلق بالتهنئة ما جاء في حديث البخاري رحمه الله تعالى في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش، فإنه لما تزوج بها دعا الناس إلى الخبز واللحم فأكلوا ولم يبق أحد يدعى إلا دعي, حتى قال أنس: (فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحداً أدعوه, فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك, فطرق حجر نسائه كلهن يقول لهن كما قال لـ عائشة ويقلن له كما قالت عائشة). إذاً من تهنئة المتزوج أن يدعى له بالبركة بعد الدخول أيضاً؛ لأن عائشة قالت له بعد الدخول: (كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك). وأيضاً الإنسان إذا عرض عليه شيء من المال وهو لا يريد أخذه فإنه يدعو بالبركة حتى لو أخذه, لكن الشاهد على الأول حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه, لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري , فقال سعد الأنصاري لـ عبد الرحمن المهاجري: [أقاسمك مالي نصفين وأزوجك، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق] فهو تاجر يعرف التجارة, كأنه يقول: لا أريد أن آخذ منك شيئاً، دلوني على السوق وأنا أعرف طريقي, وفعلاً تاجر حتى صار له مال كثير.

الترفئة

الترفئة ومما يتعلق بالتهنئة -أيضاً- الترفئة، وهي نوع خاص من التهنئة، وهو التهنئة بالزواج، أي لا يقال: رفاه ترفئة وترفياً وترفيئاً وترفئة إلا لمن هنأه بالزواج, ولذلك عرف أن تقول: بالرفاء والبنين، ومعنى الرفاء: الالتئام والاتفاق والالتحام وجمع السند. هذا بالنسبة لما يتعلق بالتهنئة والأشياء القريبة منها.

الأحاديث الواردة في التهنئة

الأحاديث الواردة في التهنئة ولنأخذ بعض الأحاديث التي وردت في التهنئة. من أشهر الأحاديث التي وردت حديث كعب بن مالك الذي أشار إليه النووي رحمه الله وغيره في هذا الباب, قال البخاري رحمه الله في كتاب الاستئذان: باب المصافحة, وقال ابن مسعود: [علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه] وقال كعب بن مالك: (دخلت المسجد وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني) والبخاري رحمه الله أتى بها معلقة لكن وصلها في الصحيح، ووردت كذلك في صحيح مسلم , وجاء في الحديث الطويل: (والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لـ طلحة) , فالشاهد منه أنه قال: هنأني, هنأه بأي شيء؟ بتوبة الله سبحانه وتعالى عليه, إذاً هذه تهنئة تتعلق بأمر ديني. كذلك -مثلاً- أن يهنئه بما عنده من العلم أو إذا أصاب الحق, مثلاً: سئل سؤالاً فأفتى بفتيا فأصاب الحق، فيهنأ كما هنأ النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب , فقد روى مسلم رحمه الله في كتاب صلاة المسافرين وقصرها عن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم, قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]-يعني في الأول ما أراد أن يجيب، أدباً، ينتظر الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كرر النبي صلى الله عليه وسلم Q أجاب بما يعرف- قال: فضرب على صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) فهذا من التهنئة. والتهنئة على أي حال مستحبة في الجملة؛ لأنها مشاركة من المسلم لأخيه المسلم فيما يسره ويرضيه, وكثيراً ما يكون فيها دعاء بالبركة كما سبق في بعض الأحاديث, ولا شك أن التهنئة مما يبعث التواد والتراحم والتعاطف بين المسلمين. والمؤمنون يهنئون في الجنة بما عندهم من النعيم، كما قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19]. والتهنئة تكون بكل ما يسر ويسعد مما يوافق شرع الله تعالى, فعلى سبيل المثال التهنئة بالنكاح، وقد عقد ابن ماجة رحمه الله في سننه باباً في كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح, وكذلك التهنئة بالقدوم من السفر أو الحج. أما التهنئة بالنكاح فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مهنئاً بالنكاح: (بارك الله عليك) وثبت أنه كذلك قال: (بارك الله لك) وتكون التهنئة في حق من حضر النكاح ومن جاء بعد ذلك، وتكون بعد العقد وبعد الدخول أيضاً, ويطول وقتها بطول الزمن المتعارف عليه بين الناس. والتهنئة التي وردت في النكاح هي الدعاء بالبركة كما ورد, وتسمى: ترفئة. ويدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد: (كان إذا رفأ إنساناً -تزوج- قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير). وتهنئة أهل الجاهلية في النكاح مرفوضة وهي قولهم: بالرفاء والبنين, وقد جاء عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين, فقال: لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لهم وبارك عليهم) وليس العيب في كلمة الرفاء، فإن معناها: الارتفاق والائتلاف والالتئام وهذا ليس بمكروه, لكن العيب في قولهم: بالبنين, فإنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات, ولذلك يهنئون بالبنين؛ لأنهم لا يريدون البنات, ولذلك يئدون البنات, وطريقة وأدهم للبنات مختلفة فبعضهم كان يجعل امرأته عند حفرة إذا صارت ولادتها فإن خرج المولود أنثى ألقي في الحفرة وردم عليها, وإن كان ذكراً أخذوه, وكان بعضهم يأخذها بعد ولادتها فيدفنها بنفسه كما روي عن عمر أنها كانت تلعب بلحيته وهو يحفر لها, فبكى عندما تذكر ذلك, وكان بعضهم يذبحها ذبحاً, فجاء الله سبحانه وتعالى بإبطال هذه العادة الذميمة وبيان أن الذي يعيل البنات يكون له أجر، وأن الذي يطعمهن مما أعطاه الله ويكسوهن مما أعطاه الله ويؤدبهن ربما يكن سبباً في دخوله الجنة، ولما كانت النفوس ربما يحصل فيها شيء من الكراهية للبنات جاءت الشريعة بأشياء تعوض هذا النقص, وما كانت ذرية النبي صلى الله عليه وسلم إلا من بنته. فإذاً تهنئة أهل الجاهلية مرفوضة لهذا السبب, وكذلك قيل: إنه ليس فيها ذكر لله, فقولهم: بالرفاء والبنين ليس فيها ذكر لله ولا دعاء, وإنما هو يقال من باب التفاؤل, فهذا سبب آخر لكراهيتها.

التهنئة بالمولود

التهنئة بالمولود وأما بالنسبة لمواضع أخرى من التهنئة أيضاً: التهنئة بالمولود, لكن لم يرد في هذا -والله أعلم- شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن ورد أن الحسن رحمه الله تعالى قد هنأ بذلك، فقد روى ابن عساكر أنه جاء رجل عند الحسن وقد ولد له مولود، فقيل له: يهنيك الفارس, فقال الحسن: [وما يدريك أفارس هو أم بغَّال؟ -أي: الذي يركب البغل، أي: لعله يكون بغالاً- ولكن قل: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب وبلغ أشده ورزقت بره] , وهذا على فرض ثبوته عن الحسن -فإن السند يحتاج إلى معرفة صحته- لا يعدو أن يكون دعاء وارداً عن بعض السلف , فلا يرقى إلى سنة تحفظ وتقال وتعتبر كذكر من الأذكار بهذه المناسبة, لكن إن دعا بها اتباعاً أو اقتداءً بـ الحسن رضي الله عنه إذا ثبت عنه ذلك, فهو أمر حسن ما دام أنه لا يعتقد أنها سنة ولا يعتقد أنها حديث مرفوع ولا أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو دعاء طيب, فقد دلت الأحاديث المتقدمة في مسألة الدعاء بالبركة على أن الدعاء بالبركة للشخص إذا جاءه أمر يسره من مال أو مولود أو توبة أو علم. فمن عموم هذه الأشياء يؤخذ أنه إذا حصل له مولود -مثلاً- فإنه يدعى له بالبركة فيه, كما قال الحسن: [شكرت الواهب بورك لك في الموهوب وبلغ أشده ورزقت بره]. ولو رد عليه الآخر وقال -مثلاً-: وبارك الله لك أو بارك فيك، أو جزاك الله خيراً وأجزل ثوابك ونحو ذلك من الردود الطيبة فهو أمر حسن, وليس في هذا نص مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

التهنئة بيوم العيد

التهنئة بيوم العيد أما بالنسبة للتهنئة بيوم العيد فإن التهنئة بالعيد قد جاء ما يدل على مشروعيتها عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم, فقد جاء عن محمد بن زياد قال: [كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم] قال أحمد رحمه الله: إسناد حديث أبي أمامة جيد, وكذلك ذكره ابن حجر رحمه الله تعالى, واحتج على مشروعية ذلك بهذه الرواية التي رواها البيهقي رحمه الله, وقال البيهقي: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد: تقبل الله منا ومنك, وساق ما ذكره من أخبار وآثار بمجموعها ترتقي إلى درجة الحسن, ولو قال لفظاً آخر من الألفاظ في التهنئة بالعيد فلا بأس, كما قال ابن عابدين رحمه الله: والمتعامل في بلاد الشامية والمصرية: عيد مبارك عليك ونحوه, فإذاً لو دعا له بالبركة في العيد أو أن يكون مباركاً عليه فلا بأس بذلك. وسئل الإمام مالك رحمه الله عن قول الرجل لأخيه يوم العيد: [تقبل الله منا ومنك] يريد الصيام، يعني تقبل الله منك الصيام, فقال: [لا أعرفه ولا أنكره] معنى: لا أعرفه ولا أنكره أي: لا أعرف أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون سنة ولا يكون بدعة فأنكره. فإذاً لو قال المسلم لأخيه في العيد أي كلمة طيبة فلا بأس بذلك. وبالنسبة للتهنئة بسائر الأعوام والشهور كأن يقول إذا دخل العام الهجري الجديد: عام مبارك, أو بارك الله لك في هذا العام, فقد قال الحافظ المنذري نقلاً عن الحافظ المقدسي أنه أجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه, والذي أراه أنه مباح لا سنة فيه ولا بدعة, فإذا قال: عام جديد مبارك بارك الله لك في هذه السنة شهر مبارك ونحو ذلك يدعو الله أن يكون هذا الشهر شهراً مباركاً عليه, فلا بأس بذلك, وكذلك نقل القليوبي رحمه الله عن ابن حجر أن التهنئة بالأعياد والشهور والأيام مندوبة, أي: على وجه العموم, وهذه قد لا يكون فيها حديث مرفوع ولا سنة معلومة معينة لكن من عموم التهنئة أنه إذا دخل العام الجديد فلا بأس. وهذا ملخص ما ذكره الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز لما سئل عن هذه المسألة.

التهنئة بالقدوم من السفر

التهنئة بالقدوم من السفر أما بالنسبة للتهنئة بالقدوم من السفر فإنه قد ثبت في القدوم من السفر المعانقة والسلام، والقيام والاستقبال وصنع الوليمة وهي تسمى: النقيعة, وقد ثبت في السنة أنه (لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرع الباب قام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله) , وكذلك استقبل جعفراً عند عودته من الحبشة، فماذا يقال للمسافر إذا قدم من السفر؟ الناس يقولون مثلاً: الحمد لله على سلامتك أو سلامة الأسفار ومثل هذه الكلمات الطيبة تدخل في عموم الكلام الحسن الذي يقوله الإنسان لأخيه عند حدوث مناسبة سارة كسلامة وصوله من السفر, فلو لم يثبت في ذلك سنة معينة فقال الناس لبعضهم بعضاً: الحمد لله على السلامة أو على سلامتك, أو الحمد لله الذي جمع الشمل بك, ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الاستبشار بقدوم الغائب وقدوم المسافر فهذا أمر حسن لا بأس به, ولا يدخل في البدعة, لكن إذا قال مثل هذه الألفاظ فعليه ألا يعتقد أنها سنة أو أنه يتقرب إلى الله بشيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لو رجع مجاهد من غزو منتصراً فقال له شخص: الحمد لله على النصر الذي كتبه, الحمد لله على ما قدر على أيديكم من إعزاز دينه ونحو ذلك فهذا أيضاً لا بأس به. كذلك القدوم من الحج والعمرة فإذا قيل له: الحمد لله على سلامتك، تقبل الله عمرتك تقبل الله حجك, ونحو ذلك وهو لا يعتقد أنها سنة ولا يلتزم فيها بلفظ معين, فلا بأس بها, لكن لو أنهم جعلوها ذكراً مطرداً له صيغة معينة, كقول الناس لبعضهم البعض دائماً بعد الصلاة: تقبل الله, أو يقول بعد الوضوء: زمزم، دائماً وباستمرار بحيث يجعلونه كأنه ذكر من الأذكار, فهنا يكون بدعة, ولكن الألفاظ التي فيها دعاء للشخص القادم لا بصيغة معينة ولا يقصد بها أنها سنة ولا يحافظ عليها محافظته على السنة والأذكار الشرعية, فهذه لا بأس بها. وبعضهم إذا شربت يقول لك: هنيئاً -مثلاً- فيدعو بأن يكون شراباً هنيئاًَ, فهذا إذا لم يواظب عليه مواظبته على الأذكار الشرعية ولم يفعله على أنه سنة أو كأنه سنة أو يحاكي به السنة أو ينافس به الشريعة فلا بأس به. وكذلك التهنئة باندفاع النقمة أو قدوم النعمة لعموم حديث كعب , والإنسان -مثلاً- إذا بشر بوظيفة أو مال أتاه فهنئ بذلك ودعي له بالبركة فإن هذا أمر حسن ولا بأس به.

التهنئة بالثوب الجديد

التهنئة بالثوب الجديد وبالنسبة لما ورد في هذا، فقد عنون السيوطي في كتابه بلوغ الأماني لأصول التهاني باباً بعنوان: التهنئة بالثوب الجديد, وقال: أخرج البخاري عن أم خالد بنت خالد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساها خميصة فألبسها بيده وقال: أبلي وأخلقي) وقد كررها مرتين، كأنه يدعو لها بأن تعيش وتلبس حتى تبلى عليها, وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر قميصاً فقال: (البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً) وكان قد سأله: (هل ثوبك جديد أم غسيل؟ قال: بل غسيل يا رسول الله! قال: البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً) فإذا كان جديداً فيقول: (أبلي وأخلقي) أو كما ورد أن أبي نضرة قال: [كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس أحدهم ثوباً جديداً قيل له: تبلي ويخلف الله عز وجل].

كلام الأدباء في التهاني

كلام الأدباء في التهاني وبالنسبة لما ورد في كلام بعض الأدباء أو ما نقل في التهاني فقد ذكر ابن قتيبة رحمه الله في عود الأخبار فصلاً في التهاني، ذكر فيه بعض الأشياء, فمما ذكره أثر الحسن المتقدم، وكذلك الدعاء للمتزوج باليُمن والبركة, وقد ورد في التهنئة بالنكاح باليمن والبركة وعلى خير طائر, يعني: دعاء بأن يكون المنقلب في هذا الزواج منقلباً حسناً. وكذلك قال: كتب بعض الكتاب إلى رجل يهنئه بدار انتقل إليها: بخير منتقل وعلى أيمن طائر ولأحسن إبان، أنزلك الله عاجلاً وآجلاً خير منازل المشركين. هذا مما ورد في كتابات بعضهم. وكتب رجل من الكتّاب إلى نصراني قد أسلم يهنئه: الحمد لله الذي أرشد أمرك، وخص بالتوفيق عزمك, وأوضح فضيلة عقلك, ورجاحة رأيك, فما كانت الآداب التي حويتها والمعرفة التي أوتيتها لتدوم بك على غواية وديانة شائنة لا تليق بلبك. قال: حمد لله الذي هداه للإسلام، والدين الذي لا يقبل غيره، وأن الله قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. قال: والحمد لله الذي جعلك في سابق علمه ممن هداه لدينه, وجعله من أهل ولايته, وشرفه بولاء خليفته, وهنأك الله نعمته, وأعانك على شكره, فقد أصبحت لنا أخاً ندين بمودته وموالاته بعد التأثم من خلطتك -كنا نتأثم من مخالطتك ونعتبرها إثماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي) - ومخالفة الحق بمشايعتك، فإن الله عز وجل يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. وكتب رجل إلى آخر يهنئه بفطام مولود فقال مما كتبه له في التهنئة: وكل ما نقَّل الله الفتى وبلغه من أحوال البلوغ ورقّاه فيه من درجات النمو فنعمة من الله حادثة تلزم الشكر, وحق يجب قضاؤه بالتهنئة. وكتبت مهنئاً بتجدد النعمة عندكم فيه، فالحمد لله المتطول علينا قبله بما هو أهله, والمجري لنا فيما يوليك على حسن عادته, وهنأك الله النعم, وصانها عندك من الغير -أي: التغير والتبدل- وحرسها بالشكر، وبلغ بالفتى أقصى مبالغ الشرف, وجعلك من الأمل فيه والرجاء له على العيان واليقين بمنه وفضله. وكتب بعضهم مهنئاً آخر بالحج: وأنا أسأل الله الذي أوفدك إلى بيته الحرام وأوردك حرمه سالماً وأصدرك عنه غانماً، ومنّ بك على أوليائك وخدمك أن يهنئك بما أنعم به عليك في بدأتك ورجعتك بتقبل السعي ونجح الطلبة. أي: المطلوب أن يستجيب الله له وتعريف الإجابة. وكذلك كتب بعضهم إلى آخر يهنئه بولاية -حصل على وظيفة عالية- فكتب له وقال: وبلغني خبر الولاية التي وليتها فكنت شريكك في السرور، وعديلك في الارتياح، فسألت الله أن يعرفك يمنها وبركتها، ويرزقك خيرها وعادتها إلخ. وعلى أية حال فإن التهنئة في مثل هذا أمر طيب, وهناك مناسبات لم ترد في السنة، لكن يكتب الإنسان رسالة أو يهنئ باللفظ أو يأتي الشخص أو يرسل له, فهذه كلها تدخل في عموم ما ورد من التهنئة بالمناسبات السارة, كما لو نجح نجاحاً فهنأه: مبارك عليك هذا النجاح، أو جعله الله لك عوناً على طاعته، أو جعل الله هذه الشهادة مما يعمل بها في سبيله أو لخدمة دينه ونحو ذلك, هذه كلها من التهاني وتدخل في عموم التهنئة. إذاً: أصل التهنئة مشروع وما ثبت منه يلتزمه الإنسان ويواظب عليه، مثل التهنئة بالنكاح، فهي ثابتة بألفاظ معينة, وإذا لم يثبت فيه شيء فالأمر فيه سعة، ويهنئ الإنسان بما شاء من الألفاظ ما دام أنه لا يعتقد أنها سنة، ولا يواظب عليه مواظبته على الأذكار الشرعية, هذا بالنسبة للبشارة والتهنئة، وبذلك نكون قد أنهينا هذا الموضوع. طبعاً بالنسبة للتهنئة بأعياد الكفار: لا شك أنه يحرم التهنئة بأعياد الكفار، وهذا مما يخل بعقيدة الولاء والبراء, فإنه لا يجوز تهنئة الكفار بحال في أعيادهم؛ لأن في تهنئتهم إقراراً لهم على باطلهم, فإذا هنأهم بعيدهم فكأنه يقرهم عليه، وأنه قد فرح وسر به، مع أن أعيادهم شيء ديني, فالأعياد مناسبات دينية وليست مناسبات دنيوية، ولهذا ما تتأمل في أعياد أمم الأرض إلا وتجد أنها مرتبطة بمناسبة دينية, فمثلاً: إذا قالوا: عيد الميلاد، هم يحتفلون بميلاد من؟ المسيح الذي هو ربهم أو ابن الله عندهم, كذلك إذا قالوا: عيد الفصح أو عيد الشكر ونحوه, هذه الأعياد عندهم في عقائدهم -اليهود والنصارى- أعياد دينية، فلما يهنئهم معنى ذلك أنهم يقرهم ويشاركهم فيها ويقرهم عليها ولا شك أن هذا حرام.

الأسئلة

الأسئلة .

حكم تهنئة الكافر بعيده

حكم تهنئة الكافر بعيده Q ما حكم من هنأ الكافر بعيده على نيته؟ A إن قصد إيماناً بما هم عليه فهو كافر, وإن قصد المجاملة فهو عاصٍ فيه نفاق لأهل الكفر.

حكم التهنئة بقول: (من العائدين)

حكم التهنئة بقول: (من العائدين) Q ما حكم قول الشخص: "من العائدين", ورد المقابل: "من الفائزين"؟ A أيضاً لا بأس بهذه الكلمة؛ لأنه يقصد بقوله: (من العائدين) أي: الذين يعود عليهم العيد, وذلك يقول: (من الفائزين) أي: في الدنيا والآخرة, فلا بأس بذلك, ولكن ليست كمثل: تقبل الله منا ومنك لورودها عن الصحابة.

حكم تهنئة من يقص شعر رأسه بقول: نعيما

حكم تهنئة من يقص شعر رأسه بقول: نعيماً Q ما رأيك في تهنئة من يقص شعر رأسه بقوله: نعيماً؟ A من حلق مثل من شرب وقيل له: هنيئاً، فينطبق عليه ما تقدم, لكن المشكلة أن مواظبة بعض الناس على الكلمة حتى لا تكاد تفوتهم, فهم يعلمونها أولادهم الصغار كأنها سنة, حتى يعاتب الولد إذا لم يقلها, فإن تعليمهم بهذا الشكل قد يخشى من الوقوع في محظور إقرار هذه الكلمة كأنها سنة, وأن تعتبر ذكراً من الأذكار الذي لا ينبغي التخلف عنها ولا عن مقولتها، وأيضاً لا تقال لمن حلق لحيته، وبعضهم يقترح أن يقال له: جحيماً. فهذه مثل ما تقدم في مسألة الشراب.

الرد على شبهة أن الدين لم يشمل جميع جوانب الحياة

الرد على شبهة أن الدين لم يشمل جميع جوانب الحياة Q لو قال قائل: إن الدين لم يشمل جميع جوانب الحياة؛ لأنه لم يأت فيه دليل التهنئة. A طبعاً هذه الشبهة ممكن أن ترد بعدة أشياء: أولاً: أن التفصيل في جميع القضايا لا يمكن؛ لأن الأشياء متجددة, فلنفرض أنه حصلت نعمة في هذا الزمان ولم تكن موجودة من قبل, فما الذي ستأتي به الشريعة لأجل هذه المستجدات؟ فإذاً قاعدة الشريعة أنها تأتي بشيء عام, وقاعدة عامة، ثم إذا حصلت أشياء تدخل في عموم القاعدة, إذا حصلت جزئيات ومسائل مستجدة تدخل في عموم القاعدة, فتكون الشريعة قد جاءت بشيء عام يدخل فيه أفراد ومسائل مستحدثة، ولذلك لا يمكن أن نقول: إن الشريعة لم تأت بشيء في هذا الموضوع أبداً, لأنها جاءت بشيء عام يمكن أن نأخذ منه عموم التهنئة في المناسبات السارة بالكلام الطيب والدعاء بالبركة على ضوء ما تقدم من الأحاديث والآثار والأدلة. وأما بعض الأشياء -مثلاً- التي تحصل باستمرار مثل النكاح ولها وزن عظيم في النفس, وليست كالقدوم من السفر بل أعظم وأعلى, فالإنسان قد يسافر كثيراً، قد يسافر في الأسبوع الواحد مرات, وقد تكون حياته متنقلة في الأسفار كسائقي الحافلات والشاحنات, فنجد أن بعض المناسبات وردت فيها أذكار معينة، وبعضها لم ترد، بعض المناسبات التي قد يكون فيها وقع عظيم أو مناسبة كبيرة لها أثرها في النفس قد وردت فيها أذكار معينة في التهنئة, وبعضها لم ترد، فبقيت لعموم الكلام الطيب الذي يقال فيه, ولذلك كلام الفقهاء الذي سبق نقله يعبر عن فقه دقيق: [لا أعرفه ولا أنكره] لا أعرف أنها سنة ولا أنكر على أنها بدعة, والشريعة أوجدت مجالاً للكلام الطيب الذي يقوله الناس؛ لأن المستجدات كثيرة.

حكم تهنئة الكافر بالأمور الدنيوية

حكم تهنئة الكافر بالأمور الدنيوية Q ما حكم تهنئة الكفار بالأمور الدنيوية؟ A إذا كان محارباً فلا يجوز تهنئته قطعاً؛ لأن المحارب ليس له منا إلا السيف، فكيف نهنئه؟! لكن إذا كان كافراً غير محارب فإن كانت التهنئة بمناسبة دينية كالأعياد فإنها لا تجوز, وإن كانت التهنئة بمناسبة مثل ولادة ولد -مثلاً- فلا بأس بها خصوصاً إذا صارت وسيلة للدعوة إلى الله, كأن يتقرب بها إلى قلبه حتى يحب هذا المتكلم فيتقبل منه.

مقولة: كل ما جاء به الرسول حق

مقولة: كل ما جاء به الرسول حق Q بالنسبة للشبهة السابقة هنا قول لـ ابن القيم رحمه الله: "كل ما جاء به الرسول حق" وليس كل حق جاء به الرسول. A طبعاً عبارة: "كل ما جاء به الرسول حق" واضحة أما عبارة "وليس كل حق جاء به الرسول" فإن قصد بها التفصيلات الجزئية فنعم, لكن إن قصد الشيء الإجمالي فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء لنا بالقواعد الإجمالية التي يعرف بها الحق, وهذا متفرع من هذا، فبما أنه وجد من أثره إذاً هو منه.

من أسباب تحريم بعض الألعاب

من أسباب تحريم بعض الألعاب Q ما حكم ممارسة بعض ألعاب القوى كالكاراتيه مع اجتناب اللطم على الوجه أو الضرب في الأماكن المؤذية ولبس الملابس الواقية, مع العلم أن هذه الألعاب إحدى فنون القتال؟ A سبق الكلام على بعض الأحكام المتعلقة بالألعاب, فمن أسباب تحريم الألعاب ما يلي: أولاً: أن تكون اللعبة مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة, فقد تكون مباحة لكن لأنها تصد عن الذكر وعن الصلاة حيث إنهم يطيلون بها تصبح محرمة, فمنها ما يكون محرماً لذاته ومنها ما يكون محرماً لغيره. ثانياً: أن تكون مما فيه قمار, مثل المراهنات, والآن بعض ألعاب الكرة ومسابقات الأندية فيها مراهنات، وهذا لا شك أنه حرام. ثالثا: أن يكون فيها نرد, لأجل الحديث الوارد في ذلك, كلعبة الطاولة وغيرها, والنرد هو حجر الزهر. رابعاً: أن يكون فيها ما يشبه القمار أو فكرة القمار مثل لعبة الورقة, فهي قائمة على فكرة مشابهة للميسر, والحظ في توزيع الأوراق. خامساً: أن يكون فيها صلبان مثل لعبة الشطرنج. سادساً: أن يكون فيها صور ذوات الأرواح، سواء كانت تماثيل مثل الشطرنج أو صوراً كلعبة الورق التي فيها صور الولد والبنت والشايب. سابعاً: أن تكون مما فيه إيذاء بكسر أو إسالة دماء, كألعاب العنف التي فيها استخدام الضربات الشديد وقد تصيب الإنسان بمقتله, ولا شك أن بعضهم قد قتل فيها وهذا معلوم, وأي لعبة فيها تكسير فهي محرمة، حتى ولو لعبوا بملابس طويلة إلخ, ولكن فيها خشونة متعمدة فهي حرام؛ لأن هذا إيذاء للمسلم فهو لا يجوز, وهذا من الأدلة التي استدل بها الشيخ عبد الرحيم رحمه الله على تحريم لعبة الكرة حيث قال: الدليل على ذلك أنهم يجعلون عربة الإسعاف في الملعب في كل مباراة. ثامناً: أن يكون فيها كشف عن العورات كالفخذ, مثل لعبة الكرة وغيرها، ومثل لعبة الجمباز حيث أنه يلبس لباساً ضيقاً جداً مجسماً للعورة ومبيناً تقاطيعها وتفاصيلها، فهي حرام. تاسعاً: أن تكون هذه اللعبة مما فيه جعل ولم ترد الشريعة بجواز الجعل فيه, فمثلاً: المسابقات على الخيل والرمي يجوز أن يكون فيها جعل, وما شابه ذلك كما قاس ابن تيمية رحمه الله وتبعه ابن القيم في كتاب الفروسية مسابقات حفظ القرآن، مسابقات العلم الشرعي وغير ذلك من المسابقات، لا يجوز جعل الجعل على ظاهر الحديث: (لا سبق إلا في نص أو خف أو حافر) فلو عملوا مسابقة فيها جوائز غير هذه فإن الجمهور على عدم جوازه, فلو قالوا مثلاً: الذي يأكل هذه التفاحة المعلقة نعطيه كذا هذه جائزة؛ لأنه يعتبر هذا جعل سبق على هذا, أو من أكل أولاً نعطيه كذا وليست في الرماية ولا علاقة لها بالجهاد ولا بالعلم الشرعي, فعلى قول جمهور أهل العلم لا يجوز جعل الجائزة فيها. عاشراً: من أسباب تحريم الألعاب كذلك: أن تكون هذه الألعاب مما يؤدي إلى التناحر والتباغض بين الذين يلعبون بها, يعني تعتبر اللعبة فيها إثارة أحقاد, واللعبة فيها ضغائن مثل تشجيع الأندية فإنه يفرق الأمة إلى شيع وأحزاب. ما حكم التشجيع؟ أفتى الشيخ: محمد بن إبراهيم بتحريمه, ومن أدلته على التحريم قال: أنها تفرق الأمة شيعاً وأحزاباً وأنها تغرس العداوة والبغضاء لفريق معين ضد الفريق الآخر أو مشجعيه فتكون حراماً لأجل هذا. حادي عشر: من أسباب تحريمها: أن يكون فيها ضرب للوجه, فكل ما كان فيه ضرب للوجه فهو حرام كالملاكمة. ثاني عشر: كل لعبة فيها تحريش بين البهائم فهي حرام, كمناقرة الديكة, مثلاً: اثنان من الديكة يناقران أو نطاح الأكباش, فهذه محرمة. ثالث عشر: ما كان فيه أصوات موسيقى، وكثير من الألعاب كالكمبيوتر وغيرها لا تخلو من هذا الأمر المحرم. فهذه بعض الأسباب أو بعض المحرمات الموجودة في بعض الألعاب.

التهنئة بالشفاء من المرض

التهنئة بالشفاء من المرض Q ما حكم قول: هنيئاً لك العافية بعد الشفاء من المرض؟ A أيضاً لا بأس به, دعاؤه طيب. أو: الحمد لله على سلامتك, فقد ورد حديث عند الحاكم وهو حديث خوات بن جبير -وأظن أن السيوطي ذكره أيضاً في مسألة التهنئة في العافية من المرض- قال: أخرج الحاكم عن خوات بن جبير قال: (مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فلما برئت قال: صح جسمك يا خوات) وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن مسلم بن يسار , لكن أظن في هذا الحديث علة.

حكم التهنئة بعيد الميلاد الشخصي

حكم التهنئة بعيد الميلاد الشخصي Q ما حكم التهنئة بعيد ميلاد شخص؟ A طبعاً لا يجوز؛ لأنها مناسبة محرمة, فأعياد الميلاد فيها تشبه بالكفار, وهم الذين ابتكروها وأدخلوها على المسلمين, ونحن المسلمين ليس عندنا إلا عيدان، الفطر والأضحى، وعيد الأسبوع الجمعة، ومن أدخل عيداً آخر فإنه يكون آثماً؛ لأن الشريعة حصرت أعياد الأمة بهذه, فإذاً عيد الأم، وعيد رأس السنة، وأعياد الميلاد كلها من الأمور المحرمة, هذا بالنسبة لهذا الموضوع. ونتابع الكلام إن شاء الله في الدرس القادم عن أدب جديد آخر والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب الجوار

آداب الجوار آداب الجوار في الإسلام عظيمة، وحقوق الجار كثيرة، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحكام المتعلقة بآداب الجار وحقوقه، وفي هذه المادة شرح مفصل لتلك الآداب والحقوق.

تعريف الجار عند أهل اللغة والاصطلاح

تعريف الجار عند أهل اللغة والاصطلاح الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سنتحدث في هذه المجموعة الثانية من الآداب عن "أدب الجوار". والجِوار بكسر الجيم مصدر جاور، يقال: جاور جواراً ومجاورة، ومن معاني الجوار المساكنة والملاصقة، وأيضاً تطلق على الاعتكاف في المسجد والمجاورة في الحرمين، ويطلق الجوار أيضاً على العهد والأمان، ومن الجوار الجار، ويطلق على معان، منها: المجاور في المسكن، والشريك في العقار أو التجارة، والزوج أو الزوجة، والضرة يطلق عليها جارة، كما جاء في حديث: (لا يغرنكِ إن كانت جارتك أوضع). وكذلك يطلق على الحليف والناصر، وقال الشافعي رحمه الله: كل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار، وبناءً على ذلك فإن المجاور على مقاعد الدراسة في فصل المدرسة وصفوف الجامعة يعتبر جاراً، ويدخل في حقوق الجوار. وقال الراغب رحمه الله: الجار من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايفة، فإن الجار لا يكون جاراً لغيره إلا وذلك الغير جار له، كالأخ والصديق. والمعنى الاصطلاحي للجوار هو: الملاصقة في السكن أو نحوه، وعندما أقول: ونحوه، يدخل فيها الدكاكين والمحلات والمكاتب والشركات والمؤسسات، فصاحب المكتب جار لصاحب المكتب الذي بجانبه وهكذا.

حد الجار والجوار

حد الجار والجوار وحد الجار كما ذهب الشافعية والحنابلة أربعون داراً من كل جانب، من الأمام والخلف واليمين والشمال، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا) وبعضهم ضيق فقال: الجار هو الملاصق من جميع الجهات، أو المقابل له، بينهما شارع ضيق، فلا يفصل بينهما نهر متسع أو سوق كبير ونحو ذلك، وبعضهم عرفه بأنه: ما يجمعهما مسجد أو مسجدان متقاربان، وبعضهم قال: إن العرف هو الذي يضبط قضية الجوار، وحملوا حديث الأربعين على التكرمة والاحترام، ككف الأذى ودفع الضرر، والبشر في الوجه والإهداء، وإلى غير ذلك. ولاشك أن الملاصق أولى الناس بأن يطلق عليه اسم الجار، ويقال حتى للساكن معك في المدينة: جاوره فيها، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:60] ولما استعظم حق الجار عقلاً وشرعاً عبر عن كل من يعظم حقه بالجار، كما قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] وقد تُصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره: جاره وجاوره وتجاور معه. ثم إن جمع جار جيران، والاسم هو الجوار، ويقال للمشارك في العقار والمقاسم: جار أيضاً. وأما بالنسبة لحقه فإن حقه عظيم جداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36]. وإذا أردنا أن نضبط الجار بالعدد؛ فإن أقرب التعريفات التي مرت معنا والتي يسندها الدليل: أربعون جاراً من كل جانب من الجوانب.

أنواع الجار

أنواع الجار وفي الآية التي قرأناها قبل قليل: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] ما هو الفرق بين هذا وهذا؟ أما صاحب القربى فالقربى معروفة، وأما بالنسبة للجار الجُنُب، أي: البعيد الذي لا قرابة له، فلما ذكر جار القربى ذكر النوع الآخر من الجيران وهو الجار الذي ليس له قرابة. والجيران عموماً ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد. فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار صاحب القربى، فله حق القرابة وحق الجوار وحق الإسلام. وأما الجار الذي له حقان، فجارك المسلم غير القريب، فله حقان حق الإسلام وحق الجوار. وإذا كان لك جار كافر فله حق واحد وهو حق الجوار. وبعض من فسر الآية أدخل في قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] كل من جاورك في صناعة أو دراسة أو سفر، فالذي يجلس بجوارك في مقعد الطائرة -مثلاً- أو السيارة يعتبر جاراً، والمرأة جار للرجل الزوج، والزوج جار؛ لأجل الاشتراك الحاصل والقرب الشديد الذي يكون بينهما.

الأحاديث الواردة في الجار

الأحاديث الواردة في الجار وأما بالنسبة للأحاديث الواردة في الجار فإنها كثيرة جداً.

وصية جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بالجار

وصية جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بالجار من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه، ومعنى يوصيني به أي: بالاعتناء به والاحتفاء بشأنه، وأن تكون دائماً مهتماً بشأنه، وقوله: (حتى ظننت) أي: من شدة الإيصاء (أنه سيورثه) حتى يكون من أسباب الإرث الجوار، فأسباب الميراث ثلاثة: أسباب ميراث الورى ثلاثه كل يفيد ربه الوراثه وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب فكاد أن يكون أسباب الميراث في الورى أربعة: نكاح وولاء ونسب وجوار: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وقد كان الجوار في بداية الإسلام من أسباب الميراث والتعاهد والتناصر، أي: الإخوة في الدين لها دخل بالميراث، ثم نسخت بآية المواريث للقربى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75].

وصية الرسول لأبي ذر

وصية الرسول لأبي ذر قال عليه الصلاة والسلام موصياً أبا ذر: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) رواه مسلم، وهذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله تعالى عنه في مسألة طبخ المرقة -أي: طبخ اللحم- والمرق قد يحوي لحماً وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر رضي الله تعالى عنه أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بمرقة أن يكثر منها ويرسل إلى جاره. وقوله: (فأكثر ماءها)، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه. (وتعاهد جيرانك)، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: (إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران) فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير. ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له. قال أبو ذر: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف) طبعاً (منها) يعود على المرق، و (بمعروف) هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) و (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أيضاً: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) هذه رواية مسلم، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه. ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه. لما قال: (يا نساء المسلمات!) أي: يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة) وهو الشيء اليسير جداً.

الوصية بالسماح للجار بالاستفادة من جاره

الوصية بالسماح للجار بالاستفادة من جاره إن بين الجيران مرافق مشتركة كالجدران والأسوار ونحوها، وربما احتاج الجار أن يضع خشبة على الجدار المشترك، أو على جدار الجار ليستفيد منه، وقد يمنعه، ويقول: هذا حائطي -مثلاً- ونحو ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ثم يقول أبو هريرة: [مالي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم] متفق عليه. فقوله: (لا يمنع) نهي أن يمنع جاره أن يغرز ولو كان في ملكه، وقوله: (أن يغرز خشبة في جداره) يعود على جدار المانع الذي يمنع، فإذا كان المقصود جداره هو فهذا لا يحتاج إلى وصية، لكن قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أي: جدار الجار الآخر؛ لأن ذلك شيء يسير، وينبغي أن يتسامح به ويتساهل فيه، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: [مالي أراكم عنها] أي: عن هذه الخصلة من السماح للجار أن يغرز خشبة عندك [مالي أراكم عنها معرضين؟!] هل استغربتم الكلام، أو أعرضتم عنه بقلوبكم، أو نفرتم منه، أو لا تفعلونه في الواقع؟ [والله لأرمين بها]، أي: بهذه السنة التي جاءت في الحديث [بين أكتافكم]، أي: سأبلغكم إياها، وألقيها على مسامعكم، وأوجعكم تقريعاً مما فيها، كما يضرب الإنسان الآخر ويرميه بالشيء بين كتفيه. والرسول صلى الله عليه وسلم لما أوصى بهذه الوصية أراد أن يكون هناك اشتراك في المرافق، أو الشيء الذي بينك وبينه لا تمنعه الاستفادة منه، إذا أراد أن يضرب مسماراً، أو يشد حبلاً مثلاً، أو يضع جزءاً من خشب أو ساتر، ونحو ذلك من هذه الأشياء المفيدة التي تفيده ولا تضرك، فلا تمنعه من الارتفاق بها والاستفادة منها. وهذا الحديث يمكن أن يفهم منه الوجوب، ولذلك اختلف العلماء في حكم تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، هل يجب أن يمكنه، ويأثم إذا منعه؟ قال بذلك بعض العلماء، وهما قولان للشافعي، والإيجاب قال به أحمد وأبو ثور رحمهما الله من أصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، والمعظم للسنة يقتضي أن يأخذ بهذا، وكلام أبي هريرة: [ما لي أراكم عنها معرضين؟!] ربما يدل على شيء من هذا، وكأن أبا هريرة لاحظ أنهم استغربوا الكلام، أو أنهم توقفوا عن العمل مثلاً، فقال: [مالي أراكم عنها معرضين؟!] أي: لا تريدون هذا.

حرمة إيذاء الجار والأمر بالإحسان إليه

حرمة إيذاء الجار والأمر بالإحسان إليه وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) والإيذاء أنواعه كثيرة، وإيذاء الجار حرام، وسنأتي على بعض أنواع الإيذاء، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) فذكر الإحسان وعدم الإيذاء حتى تكتمل القضية من طرفين: إحسان وعدم إيذاء؛ لأن عدم الإيذاء لا يتضمن الإحسان، أي: أنت ممكن لا تؤذي لكن لا تحسن، فليس المطلوب فقط أنك لا تؤذي، ولكن أن تحسن أيضاً. أما الإحسان فهو ينافي الإيذاء، أي: إذا قال أحسن، فواضح أنه لا تؤذي، لكن عندما قال: لا تؤذي، فقد أكد على هذا الجانب؛ لأنه يحصل أذية من الجيران لبعضهم، ولذلك أكد عليه من جهتين: الإحسان وعدم الإيذاء، لكن عدم الإيذاء لا يعني وجوب الإحسان. والرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها وقالت له: (يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر بإكرام الجار عملت عائشة رضي الله عنها، وقد كان الزاد عندهم قليلاً، ولم يكونوا على سعة من العيش، وكانت تمر أيام كثيرة لا يوقد في بيت النبي عليه الصلاة والسلام نار ولا هناك شيء يطبخ، وأرسل مرة في طلب طعام لضيفه فلم يجد إلا الماء، وأحياناً يأتي لبن من هنا أو شيء من هنا، مما يهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا من جهة العيش ليسوا في سعة، فلما كان هذا، وربما يحضر عند عائشة القليل، والجيران كثر، قلنا: أربعون من كل جانب، فما الذي يسع هؤلاء الجيران الكثر؟ فلذلك سألته قالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) وهذا أحد الأقوال في تفسير (والجار الجنب والجار ذي القربى) على أحد الأقوال، ولكن القول الأشهر: القربى صاحب القرابة النسبية. وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه الترمذي وهو حديث حسن. و (خيرهم لجاره) أي: في النفع والدفع، فهو ينفعه ويدفع عنه ما يؤذيه، فهذا خير الناس وأكثرهم ثواباً، وأكرمهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى.

تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من جار السوء

تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من جار السوء وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أحاديث متعددة في مسألة الجار، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الجار السيء، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول) حديث صحيح، رواه ابن حبان، والحاكم وصححه الذهبي والألباني، فجار البادية -مثلاً- أنت ذاهب إلى البحر فجاء عندك جار سوء، هذا مهما مكث لا يطيل، لكن في البلد وبالذات إذا كان بيتك بيت ملك، وحتى إن كنت مستأجراً، فالنقل من البيت عذاب {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ} [الحشر:3] الجلاء عن البيت والديار عذاب، ولولا أن كتب الله عليهم هذا النوع من العذاب لعذبهم بعذاب آخر، هذا معنى الآية. فجار السوء في دار المقامة مصيبة؛ خصوصاً إذا كان بيتاً لا تجد له بديلاً، فهذا من أكبر المصائب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ منه، قال: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول).

إعانة الجار من علامات الإيمان الكامل

إعانة الجار من علامات الإيمان الكامل ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً إذا بات شبعان وجاره جائع، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به) رواه البزار وإسناده حسن؛ لأن بعض الجيران قد لا يعلم بحقيقة جاره، ولذلك إذا وصل إليك علم عن جارك، فقد قامت عليك الحجة في مساعدته.

من سعادة الإنسان الجار الصالح

من سعادة الإنسان الجار الصالح ومن سعادة الإنسان في المقابل الجار الصالح، كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من سعادة المرء: الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع) وقال: (أربع من السعادة: وذكر الجار الصالح، وأربع من الشقاء: وذكر الجار السوء) فإذا كان للإنسان جار صالح كان هذا من أسباب سعادته في الدنيا وهناء عيشه.

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة والرسول عليه الصلاة والسلام أوصى وصية لـ أبي هريرة رضي الله عنه فقال: (من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن، أو يعلِّم من يعمل بهن؟ قال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله! فأخذ بيدي فعد خمساً، قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة، وقال محقق جامع الأصول: حديث حسن. إذاً: أحسن إلى جارك تكن مؤمناً.

أذية الجار من أسباب دخول النار

أذية الجار من أسباب دخول النار وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن امرأة أنها من أهل النار مع صلاتها وصدقتها وصيامها، لماذا؟ لأنها كانت تؤذي جيرانها، والحديث رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ورواه ابن أبي شيبة، قال رجل: (يا رسول الله! إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها -باللسان- قال: هي في النار، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الإقط -الإقط هو اللبن المجفف، وهو من الشيء الزهيد- ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة) فما نفع تلك كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ لأنها تؤذي جيرانها، وهذه نفعها الإحسان وعدم إيذاء الجار، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنها في الجنة، فهذه من الأدلة على خطورة هذا الموضوع، وأنه لابد من الاهتمام به.

حال جيران الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة

حال جيران الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطبقون ذلك عملياً، فكان جيرانه عليه الصلاة والسلام يهدون إليه، ولذلك لما جاع أبو هريرة رضي الله عنه؛ أرسل له صلى الله عليه وسلم قدحاً من لبن، فأشرك أهل الصفة فيه، وقد كانت أسماء امرأة الزبير رضي الله تعالى عنهما عندما جاءوا من مكة إلى المدينة في حالة هجرة وحالتهم صعبة، وعليهم إنشاء بيت جديد وأسرة في مكان غريب، فليس الأمر سهلاً، مع قلة ما في أيديهم، فقد خرجوا بلا مال مهاجرين إلى الله ورسوله، فتقول أسماء موضحة أن مما سهل عليها المعيشة أنه كان لها جارات صدق يخبزن لها، يساعدنها في الخبز والعجن، فقالت: [جيران من الأنصار نسوة صدق] كن يساعدنها.

حاجة الجيران إلى بعضهم بعضا

حاجة الجيران إلى بعضهم بعضاً الإنسان لا يزال محتاجاً إلى جاره؛ لأن هناك طوارئ كثيرة لا يعينه فيها إلا الجار، ولذلك رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له، فقال: [لا تناص جارك، فإن هذا يبقى والناس يذهبون] ناصى جاره أي: أخذ بناصيته، وصار بينهما أمر فيه شدة، وكذلك فإن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: [إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، قال: اذهب فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه]. وكذلك فإن الحسن البصري رحمه الله من شدة حق الجار كان لا يرى بأساً أن يطعم الإنسان جاره اليهودي أو النصراني من أضحيته. وجاء الحسن بن عيسى النيسابوري إلى عبد الله بن المبارك، فقال: الجار المجاور يأتيني، فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً، والغلام ينكره، فأكره أن أضربه ولعله بريء. أي: فإن ضربت غلامي قد يكون الغلام بريئاً، وإن سكت فقد يكون الجار صادقاً وغلامي مخطئاً مخطئ، فكيف أصنع؟ قال: إن غلامك لعله يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظ عليه -الآن هذا يحتاج إلى مراقبة وأن تحسب عليه تصرفاته- فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث. أي يقول: هذا الغلام الذي عندك لا يخلو أن يخطئ، وليس ضرورياً في حق الجار، بل يخطئ أي خطأ آخر، يهمل فيكسر شيئاً مثلاً؛ فأنت الآن جارك يشتكي من الغلام والغلام ينكر، وأنت لا تعلم أهذا الغلام صادق أم الجار، فماذا تعمل؟ قال: عدَّ على هذا الغلام مواقفه، فإذا جاء أمر أخطأ فيه؛ فعاقبه بعلم جارك، فيظن الجار أنك عاقبته من أجله، والغلام يعلم أن العقوبة من أجل خطئه، فما ظلمت وأرضيت الجار، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين.

حقوق الجار في الإسلام

حقوق الجار في الإسلام إن حقوق الجار متعددة وكثيرة، ومما ذكره العلماء في حقوق الجار: إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عد إليه، وإذا مرض فعده، وإذا أصابه خير فهنئه، وإذا أصابته مصيبة فعزه، وإذا مات فاتبع جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً؛ لأن ذلك من الإيذاء النفسي، فهذا يرى جاره يدخل الكراتين، وهو ليس عنده شيء، لا كيلو ولا حبة من الفواكه، فإذا لم ترد أن تعطيه منها فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، فهذا ولده يخرج وفي يده الحبة الكبيرة من الفواكه وولد ذاك مسكين ليس عنده شيء، فلا تجعل ولدك يغيظ ولد جارك، بأن يخرج إليه بشيء لا يملك مثله، فيتألم الغلام الآخر. وكذلك من الحقوق: إيصال الخير إليه بكل الطرق، مثل كف الضرر عنه بكل طريقة، ثم البدء بالسلام؛ لأنك لا بد أن تلقاه على باب البيت كثيراً، هو يدخل ويخرج، وأنت تدخل وتخرج، فابدأه بالسلام، ولا تطل معه الكلام بحيث تضايقه، ولا تجمع له الزلات ثم تحاسبه عليها كما تحاسب موظفاً أو سائقاً أو خادماً عندك، وأظهر السرور بما أسره، واصفح عن زلاته، ولا تطلع على عوراته، ولا تضايقه بوضع الجذع على جداره، ولا تطرح القمامة أمام بابه، ولا تضيق عليه الطريق، ولا تقف بسيارتك أمام باب (الكراج) -كما في هذه الأيام- أو تأخذ مكان سيارته المظلل الذي أمام بيته؛ لأنه -الآن- هناك مواقف قد تكون مخصصة، كل عمارة مثلاً تخصص لكل شقة موقفاً للسيارة، أو يأخذ المكان الذي أمام البيت بالضبط، أو يسد عليه مكان الخروج، واستر ما انكشف من عوراته.

حفظ دار الجار في غيبته

حفظ دار الجار في غيبته ولا تغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، فقد يسافر ويرجع ويجد البيت كله مسروقاً، قال: والله رأينا سيارة شركة جاءت وحملت، فقلنا: يمكن أنك نقلت! والمشكلة الآن أنهم لا يدرون عن أحوال بعضهم، فهذا ينقل من المنطقة ولا تدري عنه أنه سينتقل من البيت، ثم بعد ذلك يقول: فكرنا أنك نقلت من البيت، وما هو إلا لص محترف، أتى بسيارة شركة وقال: عندي بيت، ومن الشركة التي تتأكد أن هذا بيت ملك فلان؟ بمجرد أنه عرف أن هذا البيت قد غاب صاحبه، فتح الباب وأتى بشركة، وقال: انقلوا الأثاث، وهو من بعيد لو وقع شيء لهرب، وإذا لم يقع شيء أخذ الأثاث، وهذا جاره يقول: أنا لا أدري، ظننتك نقلت، الجار نقل، خبر كبير كيف لا يدرى عنه؟! فلذلك إذا سافر الجار؛ من حق الجار عليه أن يلاحظ داره في غيبته، ولو رأى شيئاً أمام بيت الجار كأناس غرباء واقفين، فإنه يسألهم: ماذا عندكم؟ ماذا تريدون؟ لا بد أن تعتبر بيته مثل بيتك. ولا تسمع كلاماً فيه بدون دليل، ولا تسمح لأحد أن يوغر صدرك عليه.

غض البصر عن نساء الجار

غض البصر عن نساء الجار وغض بصرك عن نسائه؛ لأن الجار لا يخلو أن تخرج نساء بيته أو بناته من الدار، إذا خرجن فربما تكون المرأة لم تعدل ملابسها بعد، فبعض النساء تخرج وتعدل على الطريق، من قلة الدين تجد بعض النساء وهي خارجة تكمل لبس العباءة، وهي قد صارت في الشارع، ومن المفترض أنها قبل أن تخرج من بيتها يكون الحجاب قد اكتمل كله، لكن مع الأسف بعض النساء لا تكمل لبس حجابها إلا وهي في الشارع، فما على الجار إلا أن ينصح وأن يغض بصره. كذلك تقف السيارة -مثلاً- أمام باب الجار فتنزل منها نساؤه، والمرأة إذا نزلت لا تخلو أن تنكشف ساقها مثلاً، فغض البصر عن نساء الجيران وهن يدخلن ويخرجن، وهن ينزلن من المركبة وهن يصعدن إليها. كذلك بعض الخادمات تخرج لرمي القمامة مشمرة فلابد من نصح الجار أن الخادمة التي عنده لابد أن تحتشم، وخروجها لإلقاء القمامة في البرميل لابد أن يكون بحشمة وحجاب، وإذا لم تحتشم فإنه يمنعها من الخروج، ويجعل السائق أو هو بنفسه يخرج القمامة، فإذا خرجت الخادمة غض بصره لحق الجار؛ لأن هذه خادمة الجار، وبعض الناس يقول لك: خادمة الجار ليس لها قيمة، لو أننا عبثنا معها هي سيرلانكيه. حتى وإذا كانت سيرلانكية، هل يعني هذا سقطت الحرمة؟! فمن حقوق الجار أن تحترم حتى حرمة خادمته وتقوم بالنصيحة. وأن تتلطف مع أولاده؛ لأن من المشكلات الكبيرة أن بعض الناس يعتبر أن له الأحقية في معاقبة أولاد الجيران، فتجده يأخذ راحته في ضرب ولد الجار، كأن يكون الولد يلعب بالكرة، وهو ولد من طبيعته اللعب، فالأشياء العادية تحتمل، وإذا كان قد زودها فلا بأس أن تحتمل أنت، وإذا أصبح الأمر لا يطاق كلم أباه، لكن أن تعطي لنفسك الأحقية بضرب ولد الجار فوراً بدون إعلام ولا إخبار أبيه فهذا غير صحيح، والإنسان المطلوب منه أن يتحمل. والآن حق الجار أن يتحمل أذاه، وليس أن يرصد له تحركاته. جاء واحد من الإخوان، قال: يا أخي -والله- أنا لا استريح لهذا الجار، لا أجدهم إلا يحركون الستارة، وإذا نظرت لهم يغلقون الستارة طول الوقت، يكشفون الستارة وينظرون إلى مدخل البيت وإلى شبابيكه، فهذا في الحقيقة قلة دين وقلة مروءة، وضعف في الأخلاق.

نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين

نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين ثم إن من حقوق الجار أن تعلمه أمور دينه، وأن ينصح في الأشياء التي فيها واجبات، مثلاً ينصح بصلاة الجماعة، ويزار ويكلم ويناصح ويوعظ، وكذلك إذا جعل منكراً في بيته ينصح بإزالته، وهذه المسألة من المسائل التي تكلم فيها العلماء، وهي قضية إنكار منكر الجار، نقل عن مهنا الأنباري رحمه الله عن أحمد أنه سمع صوت طبل عند جيرانه، فأرسل إليهم ونهاهم. فيرسل إليه الولد ويقول: لو سمحتم! لا تشغلوا هذا المنكر في البيت، فإن أذاه قد وصل إلينا، فاتقوا الله. وأما بالنسبة للمنكرات التي في قعر بيت الجار، فهذه لها تعامل خاص، جاء عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية محمد بن أبي حرب في الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهول عليه، يقول: يا فلان! بيت فيه كذا، ويخرج منه كذا، ويدخل إليه كذا، نحن الآن في شارع وحي واحد، وهناك نساء أجنبيات من أشكال وألوان مختلفة داخلات خارجات، إما أنك ترى لك حلاً وإلا نرفع بك إلى المحكمة، فإذا صار بيت الجار موضع اشتباه يوعظ ويخوف بالله، وإذا ما اتعظ يجمع عليه الجيران ثلاثة أو أربعة أو خمسة ويذهبون معاًَ؛ لأنه قد لا يخاف من الواحد لكن يخاف من المجموعة، فإن لم؛ هدده، فيقول: سأشتكي وأرفع الأمر إلى القاضي، لأن مصلحة الجار في الحقيقة أن يكف عن المنكر، إذا أردت أن ترحمه؛ فعليك أن تسعى لمنعه من المنكر الذي يعذب بسببه في الآخرة، وتدرأ عنه عذاب الآخرة بنصيحته. وأما بالنسبة لقضية التجسس، لو قال واحد: جاري أخاف أن يكون عنده بلاء، أريد أن أتجسس، نقول: المسلم الذي ظاهره العدالة لا يجوز التجسس عليه، لا يوجد هناك قرائن على الفساد، ولا رأيت مناظر وأشياء مريبة، فلا يجوز أن تقول: يمكن أن هناك شيئاً وأنا لا أدري، ما الذي أدخلك في الموضوع؟ لا يجوز لك أن تتجسس مطلقاً في هذا الجانب، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: [إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به].

احتمال أذى الجار

احتمال أذى الجار وكذلك من حقوق الجار: ليس كف الأذى، وإنما احتمال الأذى، فأنت تكف أذاك وتحتمل أذاه، وأن تبتدئ معه بالخير، وأن تحذر من إتباع النظر إليه فيما يحمله إلى داره، وتحذر من الاستماع إلى كلامه. والآن بسبب تقارب هذه البيوت بعض الجيران عندهم أخبار الجيران كلها بالتفصيل، الخصومات التي بينه وبين زوجته بالتفصيل، والخصومات التي بين زوجة الجار والخادمة بالتفصيل، وكل الأشياء، مثلاً: افرض أن هناك غرفة يصل إليك منها الصوت، وصار عندهم كلام خاص حتى لو كان مشكلة بين الرجل وزوجته فإن عليك أن تخرج إلى غرفة أخرى لكيلا تستمع الكلام، ولو سمعت شيئاً لا تنقله في المجالس، فتقول: عندنا جارنا فلان يقول لزوجته كذا، وهي ترد عليه كذا، وتنقل الحوارات الخاصة؛ لأن هذه من أسرار البيوت في الحقيقة، فينبغي حفظ سره، وقضاء حاجات أهل الجار إذا غاب.

عدم إزعاج الجار بالأصوات العالية

عدم إزعاج الجار بالأصوات العالية وكذلك الحذر من إزعاجه بالأصوات، فإن بعض الناس يشغل أقصى ما يمكن من صوت المسجل ونحوه ويؤذي جاره، وهذا مشاهد وكثير، وبعض أنواع البيوت قد تكون أسقفها مشتركة فالصوت يصل بسرعة للاشتراك في السقف أو البناء، فيكون ما يشغله من أصوات في بيته واصل إلى الجار، سواءً كان طاعة أو كان معصية، أو كان شيئاً مباحاً، فلا يجوز الإزعاج به مطلقاً، قد يكون في وقت القيلولة، وقد يكون في وقت الليل، وقت نومه وراحته. وكم من جيران يرمون قماماتهم أمام أبواب جيرانهم، وكم من جيران يستعيرون بعض المتاع من جيرانهم ثم لا يردونه، وكم من جيران لا أمانة لهم على أموال جيرانهم، وكم من رجل فاضل هجر داره من أجل جاره المؤذي، وربما وسط الإنسان وسائط لكي يكف الجار أذاه.

دعوة الجار إلى الخير

دعوة الجار إلى الخير وكذلك فإن من حقوق الجار أيضاً: أن الإنسان يدعوه إلى الخير، افرض جارك شيخاً أو عالماً أو إمام مسجد، تذكره بالخير في دعوته ليحضر معك في هذا، فتوصل إليه نفعاً، مثلاً: أهل الحي لهم مجلس يأتون فيه بأمور من الخير، فإذاً ينبغي عليك أن تدعو جارك ليستفيد من الخير، ولو غاب وقد تناقلوا فيما بينهم كتاباً مفيداً أو شريطاً إسلامياً نافعاً فخذ نسخة لجارك، تقول: فلان غائب نصيبه وحصته عندي، من الوفاء له أن تتذكره في غيبته لتأخذ له ما يستفيد منه. والإنسان أحياناً إذا آذاه جاره لا يستطيع أن يرد الأذى بالأذى، لكن قضية تأليب الناس الآخرين عليه كعامل ضغط -الذي سبقت الإشارة- بأن يجمع الجيران مثلاً، هذا العامل من الضغط قد نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد آذاه جاره، والحديث عند أبي داود وهو حديث صحيح، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، قال: (اطرح متاعك على الطريق) يقول للمُؤْذَى الذي أُوذي: أنزل عفشك على الرصيف، فهذا الرجل امتثل لأمر النبي عليه الصلاة والسلام وأنزل متاعه على الرصيف، فجعل الناس يمرون به لما طرح متاعه على الطريق، ويسألونه: لماذا وضعت متاعك على الطريق؟ يقول: جاري هذا مؤذ، ولم أستطع تحمله، فجعل الناس يلعنون هذا الجار، يقولون: فعل الله به وفعل الله به، فجاء إليه جاره فقال: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه. فبعض الناس لا يخافون من الله، ولكن يخافون من الرأي العام، ومن عموم الناس، ومن ضغط المجتمع إذا اجتمع عليهم الناس، وهذا الذي نبه إليه صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ليتخلص من أذية جاره. وكذلك فإن الجيران يختلفون في الأحوال من جهة الصلاح وعدمه، قال ابن حجر رحمه الله: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الجار الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زلله غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه.

الجار في الشعر العربي

الجار في الشعر العربي وقد كان الشعراء المسلمون يتمدحون بكيفية كف الأذى عن جيرانهم، فيقول أبو جعفر العدوي: شراء جارتي ستراً فضول لأنني جعلتُ جفوني ما حييت لها سترا وما جارتي إلا كأمي وإنني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست محلاً منك وجهاً ولا شعرا لا أنظر إلى الوجه ولا إلى الشعر. وقال حاتم الطائي في القديم: ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر أي: قبل ما ينزل قدري لطعامي يكون قدر الجار نزل. ما ضر جاراًً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر حتى إذا ليس له باب لا يتضرر مني. أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر وقال أحمد بن علي الحراني: والجار لا تذكر كريمة بيته واغضب لابن الجار إن هو أغضبا احفظ أمانته وكن عزاً له أبداً وعما ساءه متجنبا كن ليناً للجار واحفظ حقه كرماً ولا تك للمجاور عقربا

أناس عرفوا قيمة الجوار

أناس عرفوا قيمة الجوار ويروى أن جاراً لـ ابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها. وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم. فكان الجار يباع قبل الدار، قالت امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً} [التحريم:11] عندك أولاً ثم بيتاً. أين هؤلاء من أكثر جيران زماننا، الذي لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجراتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولاداً؟! قال بعض من بلي بجار السوء: ألا من يشتري جاراً نئوماً بجار لا ينام ولا ينيم ويلبس بالنهار ثياب نسك وشطر الليل شيطان رجيم يقول: أريد جاراً ينام، فأنا جاري لا ينام بل يسعى في الشر. قال علي بن أبي طالب للعباس: ما بقي من كرم إخوانك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران. وقال بعضهم: سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً علمت أنهم من حلية الزمن فالجيران خصوصاً في بلد الغربة، كهؤلاء الجيران الذين جاءوا من بلدان أخرى للعمل في هذه البلاد، أناس جاءوا من مصر والشام واليمن وأفريقيا وباكستان والهند ومن غيرها، فما الذي يهون عليهم المعيشة في بلد الغربة؟ إن أهم شيء -في الحقيقة- يهون عليهم لهو الجار، إذا كان جاره طيباً ظن كأنه في وطنه، كما قال هذا الرجل: سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني كأني أصبحت في وطني، بل يمكن أحسن، وهذا بسبب هؤلاء الجيران. مما رأى من الخير أصبح مثل وطنه أو أحسن.

من أحكام الجوار

من أحكام الجوار

تعلق التزكية بالجار

تعلق التزكية بالجار وكذلك فإن مما يتعلق بالجوار من الأحكام، أن التزكية عند العلماء غير الشهادة، فالتزكية لها شروط، إذا أردت أن تزكي شخصاً، وانتبه لهؤلاء الذين يذهبون للمحكمة، يقول: احضر لنا شهوداً فيحضر مزكين، فما أسهل التساهل بقضية المزكين! يقول أهل العلم في التزكية: لابد للتزكية من أمرين زيادة على ما يشترط في الشاهد -أي: من العقل والضبط والعدالة إلخ- أحدهما: معرفة أسباب الجرح والتعديل؛ لأنه يشهد بهما، والأمر الثاني: خبرة باطن من يعدله أو يجرحه بصحبة أو جوار أو معاملة. القاضي الذكي الفاهم إذا جاءته قضية تزكية -والتزكية مهمة- قال: أحضر لي أناساً من جيرانك يزكونك. ولكن انظر الآن في المحكمة، يأتي بعض الناس في طرقات المحكمة، يقول: ماذا تريد؟ يقول: أريد مزكياً، يقول: وأنا أريد شاهداً، تعال أزكيك وأنت اشهد لي، سبحان الله! لا يعرفه، كيف يزكيه؟! لا يجوز، لابد أن يكون قد عايشه ورافقه وجاوره وسافر معه، وأمضى معه وقتاً طويلاً، وشاركه في مال أو في شيء، كيف يزكي شخصاً لا يعرف حقيقته؟! لا يجوز ذلك مطلقاً.

الزوجة في السكن بين جيران صالحين

الزوجة في السكن بين جيران صالحين وكذلك مما ذكر أيضاً في موضوع إسكان الزوجة، قالوا: إن من شروط شرعية المسكن الزوجي أن يقع بين جيران صالحين تأمن فيه الزوجة على نفسها. أي: لو أن الزوج أسكن زوجته وسط أناس سيئين؛ فإن لها الحق أن تذهب إلى القاضي وتقول: ما سكني السكنى الشرعية، فالسكنى الشرعية يجب أن تكون بين أناس صالحين، هذا سكني وسط أناس سيئين، أنا لا آمن على نفسي، هذا زوجي إذا ذهب إلى العمل يضربون عليَّ الباب والهاتف، وهذا يناديني من الشباك، طبعاً إذا كانوا أهل فسق وهكذا.

عظم إثم الزنا بزوجة الجار

عظم إثم الزنا بزوجة الجار ولذلك كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الكبائر عند الله، ويتفاوت إثم الزنا ويعظم جرمه بحسب موارده، فالزنا بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنا بأجنبية أو بمن لا زوجة لها؛ لأن فيه انتهاكاً لحرمة الزوج وإفساداً لفراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه يدخل عليه ولد وليس من أولاده، سيضاف إلى نسبه، وهذا أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية، فإن كان زوجها جاراً انظم له سوء الجوار، وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق، لو كان الجار أخاً أو قريباً من الأقارب، وانظم إليه قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار، فإن كان الجار غائباً في طاعة الله والعبادة وطلب العلم والحج والجهاد؛ تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟) أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ يمكن يأخذها كلها، لأنه يقال: خذ ما تريد من حسناته، والناس محتاجون إلى حسنة واحدة.

أحقية الجار المحتاج بالصدقة وحقوق أخرى

أحقية الجار المحتاج بالصدقة وحقوق أخرى ثم إن الجار المحتاج أولى بالصدقة، نص على ذلك العلماء، كما قالوا في مسألة الصلاة في المساجد: المسجد المجاور لك أولى لحرمة الجوار، ثم قالوا في مسألة انتشار الحريق إلى بيت الجار: إذا انتقل بتفريط، مثلاً: شخص أوقد شرارة في يوم عاصف، وهو يعلم أن الريح تنقل الشرر، فاحترق بيت الجار، فإنه يضمن ذلك. ثم من أثر الجيرة في مسألة القرض، أن الإنسان المقرض لا يجوز له أن يقبل هدية من المقترض في فترة القرض، إلا إذا جرت العادة من قبل القرض بهدايا بينهما، وذكروا مثالاً للجيران، أي: يهدونا طعاماً نهديهم طعاماً، أنا اقترضت من جاري فأهديته فيجوز أن يقبل هديتي؛ لأن بيننا علاقات سابقة في الهدايا، لكن إذا ما كانت هناك علاقات سابقة ولا جوار، فلا يجوز أن يقبل أصلاً هدية ولا أن يأخذ المقرض من المقترض هدية في وقت القرض. هذا ما تيسر ذكره مما يتعلق بالجيران. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بحقوق جيراننا، وأن يهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، وصلى الله على نبينا محمد.

آداب الحوار [1، 2]

آداب الحوار [1، 2] في هذا الدرس يتكلم الشيخ عن آداب الحوار، وقبل ذلك يتحدث عن تعريف الحوار، وأهميته التي تكمن في معرفة الحق والرد على أهل الباطل، ثم ذكر بعض الحوارات التي وردت في الكتاب والسنة. بالإضافة إلى ذلك وضح الشيخ الأخطاء التي تقع من المتحاورين، محذراً من قضية الحوار بين الأديان، ومبيّناً المقصود منها.

تعريف الحوار

تعريف الحوار إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذه هي المجموعة الثانية من سلسلة الآداب الشرعية، وقد مضت المجموعة الأولى، وكنا قد انتهينا منها في سلسلة سابقة في عام مضى. وهذا الموضوع -أيها الإخوة- موضوع عظيم؛ وذلك لأن الإنسان لا يخلو في حياته في حركاته وسكناته، بل حتى إذا خلا بنفسه، فهو إما أن يكون في علاقةٍ مع الله عز وجل، أو مع الخلق، أو مع النفس من جاجته إلى الأدب. وقد سبق تعريف الأدب في السلسة الأولى وبيان أمورٍ تتعلق به، وفي هذه السلسلة -أو المجموعة الثانية- سنتحدث عن مجموعة أخرى -إن شاء الله- من الآداب، ونستهل ذلك بأدب الحوار في هذا الدرس. أما بالنسبة للحوار: فهو من حار يحور إذا رجع، والمحاورة الجواب، والحوار هو تراجع الكلام والتجاوب فيه بالمخاطبة والرد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حواراتٍ في كتابه العزيز، وهذه اللفظة وردت في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:34] وفي قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] الحوار خطاب وكلام. وقلنا: حار أي: عاد ورجع، والحوار يعيد فيه الشخص ويبدئ، والمحاورة مراجعةٌ وكلامٌ في المخاطبة، وهي مجاوبة وتجاوب، فمراجعة المنطق والكلام في المخاطبة تسمى حواراً. والفرق بين الحوار والمناظرة والجدال والمحاجة: أن الحوار أعمها جميعاً وكلها تدخل فيه؛ لأنها كلها تشترك معه في أنها مراجعة في الكلام ومداولة له بين الطرفين، فهي تدخل في معنى الحوار من هذه الجهة، ثم تخرج المناظرة في دلالتها على النظر والفكر، والجدال والمحاجة في دلالتهما على المخاصمة والمنازعة

أهمية الحوار

أهمية الحوار وأهمية الحوار في حياتنا كبيرة جداً، فمن جهة نحتاج أن نعرف أدب الحوار؛ لأن الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى الحوار، حوار الداعي مع المدعو، والله عز وجل قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل:125] وهذا أمرٌ بالحوار في الدعوة. ثانياً: الوصول إلى الحق نحتاج إلى الحوار للوصول إلى الحق، وهدفٌ عظيم أن يصل المسلم إلى الحق. ثالثاً: الرد على أهل الباطل، وهذا يتم بالحوار لإقناعهم، وهو فرعٌ من الدعوة التي تقدم الحديث عنها، وعلى سبيل المثال: المنافقون في عصرنا يتكلمون عن تحرير المرأة، ويدْلون بحجج هي واهية، لكن لابد من الحوار مع هؤلاء لإسقاط الحجج التي احتجوا بها وبيان وهيها؛ فمثلاً يقولون: لماذا تنكرون الاختلاط وهناك اختلاط في الحرم؟ فنقول: فرقٌ بين الاختلاطين الاختلاط العارض والاختلاط الدائم، فهذه حال امرأة تدخل الحرم لكي تؤدي العمرة أو الحج في الطواف والسعي، ثم بعد ذلك تنفصل عن الرجال في الصلاة، ثم أنتم تقولون: تختلطوا في الأعمال وأماكن الدراسة والعمل طيلة العام؛ فأين هذا من هذا؟ ثم هذه عبادة أقل شيء أن الإنسان يستحي فيها من أن يعمل شيئاً محرماً، أو أن تتبرج المرأة وتتزين أو تغري، أو أن تجذب إليها الفسقة وغيرهم، ثم أين هذا من وقوع ذلك يومياً وباستمرار في الأعمال وأماكن الدراسة ونحو ذلك؟ ثم إن هذا الاختلاط في تلك الأماكن لا يخلو من زينة ودنيا، بخلاف ما يحدث في الحرم من دين وعبادة ونحو ذلك من أوجه الرد، والشاهد أن المسألة مسألة حوار للرد عليهم. عندما تأتي امرأة عاهرة لا تضع حجاباً على وجهها ولا على شعرها، وتقول: لماذا تأمروننا بتغطية الوجه، وكشف الوجه مذهب الأئمة الثلاثة؟ فنقول: أولاً من سمح لكِ أن تتكلمي في الفقه؟ وما علاقتك بالأحكام الشرعية؟ إن الذي يتكلم في الأحكام هم العلماء وطلبة العلم، أما الفاسق والفاسقة من هؤلاء المنافقين والعلمانيين فلا دخل لهم بالعلم الشرعي، ولا يجوز لهم أن يتحدثوا في هذا الأمر، ولا أن يرجحوا وينظروا في الأدلة. ثم هل يريدون الذي يناقش في ذلك من أرباب الأهواء والشهوات بالتأكيد أنه لا يريد الوجه فقط؛ بل يريد ما بعد الوجه من كشف الشعر وبقية الجسم والاختلاط إلخ. فإذاً يريدون مسألة الوجه أن يدقق الكلام فيها للتوصل إلى ما بعدها من الفساد، وهكذا فالمقصود أننا في الواقع نتعرض لكلام هؤلاء فيجب أن نجيب عليهم، وأن نقيم عليهم الحجة، وقد ندخل في حوارات مع مثل هؤلاء، فلابد أن يكون لهذه الحوارات شروطاً وآداباً، ثم إننا نعيش -أيها الإخوة- في عصرٍ قد كثرت فيه الآراء والاجتهادات، والوصول إلى تنقيح هذه الآراء ومعرفة الصواب منها يحتاج إلى حوار، نحن الآن في أمرٍ مريج قلة العلم، وكثرة القضايا، وهي مشكلة كبيرة، وهذا لا شك يحتاج إلى إجادة الحوار. ثم من فوائده أيضاً: التعليم، فهناك حواراتٌ تعليمية؛ كما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام في الحديث المشهور بحديث جبريل، وهذا الذي ندعو الشباب إلى إقامته كبديلٍ نافع عن التمثيليات التي فيها شبهات من الكذب، أو تقمص الشخصيات، أو ادعاء أشياء ونحو ذلك، فنقول لهم: إذا أردتم بديلاً عن التمثيليات التي فيها كلامٌ كثير فأعطونا الحوارات العلمية أو الحوارات المفيدة، أقيموا حوارات بين اثنين أو أكثر يظهر فيها تعلم أمور نافعة بدلاً من هذه التمثيليات التي يكون فيها غناء، أو يكون في بعضها محرم أو شبهة. وكذلك فإن الحوار فيه استرجاع للصفاء عند حصول الشحناء؛ فإن مما يزيل الشحناء الحوار أو المعاتبة، والمعاتبة حوار؛ لأن كلاً من الطرفين سيبدي معذرته ولماذا فعل ما فعل، وإزالة الشحناء والبغضاء في الحوار بالمعاتبة هي نوعٌ من الحوار

بعض الحوارات في الكتاب والسنة

بعض الحوارات في الكتاب والسنة والله سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه العزيز حوارات كما تقدم

الحوارات في كتاب الله

الحوارات في كتاب الله ومن الحوارات في القرآن الكريم الحوار الذي دار بينه عز وجل وملائكته الكرام: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:30 - 33] فهذا حوار. كذلك دارت حوارات بين الأنبياء وأقوامهم، وهذه كثيرة جداً {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] وبسبب هذه الحوارات دخل أناس في دين الإسلام، والآن على شبكة الأنترنت -مثلاً- حوارات بين مسلمين وكفار ينتج منها دخول أشخاص في الدين، وفي الشركات والأعمال -لمن ابتغى وجه الله من الدعاة إلى الله تعالى- حوارات بينهم وبين زملائهم في العمل، يهتدي بها أشخاص، أنت تريد أن تقنع شخصاً بعدم إدخال جهاز مفسد إلى البيت فبالحوار؛ لأنه سيبدي ما عنده من الأسباب ويقول لك: تحتوي على أخبار، تحتوي على فوائد، تحتوي على منافع، تحتوي على أشياء تعليمية، وتحتوي على حياة الحيوان، وتحتوي على كذا، ثم أنت تبين له الأضرار والمفاسد، وتدور على ذلك مناقشة، هذا حوار. وقد كان إبراهيم الخليل عليه السلام ممن اشتهر بالحوار، وقوة الحجة، وظهور البرهان، والقدرة على الإفحام، كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83] وحاور الملك الكافر {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] ثم صار جدالاً عقيماً: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] فقطع عليه الخط وألزمه بهذه الحجة الباهرة، وكذلك لما حاج قومه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:51 - 53] هذه هي الحجة، قال: ما هذه التماثيل؟ قالوا: وجدنا آباءنا إلخ {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:54 - 56] ولما كسر الأصنام استدعي للتحقيق: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:62 - 64] الآيات. وموسى عليه السلام كان له حوارات مع فرعون، ومؤمن آل فرعون كان له حوار جميل جداً ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمن.

الحوارات من السنة

الحوارات من السنة وسيرة نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم العطرة زاخرة بالمواقف والحوارات مع المشركين وغيرهم، ولما حاور عتبة بن ربيعة وقال: قل يا أبا الوليد أسمع، وانتهت بأن مضى عتبة فزعاً مما سمع. وكذلك لما جاءه ضمام بن ثعلبة وافداً إليه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وقال: (أيكم محمد؟ فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: يابن عبد المطلب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال: إني سائلٌ فمشددٌ عليك في المسألة فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: اسأل ما بدا لك، قال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وبسط الأرض ونصب الجبال أألله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا زكاةً في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ وسأله عن الحج، فلما ولى قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن).

حوار ابن عباس مع الخوارج

حوار ابن عباس مع الخوارج وسار الصحابة على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في الحوارات والمناظرات

ابن عباس يسمع جميع الشبه

ابن عباس يسمع جميع الشبه ولما خرج الخوارج على علي رضي الله عنه، واعتزلت الحرورية في حروراء، قال ابن عباس لـ علي رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة -أخر الصلاة قليلاً - فلعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم قال: إني أتخوفهم عليك، قال: قلت: كلا إن شاء الله، فلبست أحسن ما عندي ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة فدخلت على قومٍ لم أر قوماً أشد منهم اجتهاداً -يعني: في العبادة- أيديهم كأنها ثكن الإبل، ووجوهاً معلمةً من آثار السجود، فقالوا: مرحباً بك يـ ابن عباس، ما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: لا تحدثوه؛ هذا من قريش الذين قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وقال بعضهم: لنحدثنه، قال: قلت: أخبروني ما تخصمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً، قال: وما هن؟ قالوا: أولهن أنه حكَّم الرجال في دين الله ورضي بالحكمين، عمرو بن العاص من طرف معاوية، وجعل أبا موسى من طرفه، فحكم الرجال في دين الله، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] قلت: وماذا؟ -لا بد من استفراغ الشبه كلها قبل الجواب لأن ذهن السامع ينشغل بشبهه حتى لو سمع جواب الشبهة الأولى- قال: وماذا؟ قالوا: قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، قاتل معاوية وقاتل في الجمل ولا أخذ سبياً ولا غنائم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم، قلت: وماذا؟ قالوا: نحى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم، وحدثتكم عن سنة نبيكم ما تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم.

مسألة تحكيم الرجال

مسألة تحكيم الرجال قال ابن عباس: أما قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]. أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق؛ أم في أرنبٍ ثمنها ربع درهم؟ قالوا: في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، فرجعوا واعترفوا، قال: أخرجتم من هذه؟ قالوا: الله منعنا.

مسألة قتال علي بدون سبي ولا غنم

مسألة قتال علي بدون سبي ولا غنم قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، أتسبون أمكم -لأنه كان في الطرف الآخر في القتال في معركة الجمل عائشة، أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ -أتأخذون عائشة في السبي وتطئونها ملك يمين وفي السبي؟ - فقد كفرتم إن فعلتم هذا، وإن زعمتم أنها ليست أمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فإذا قلتم: ليست أمنا كذبتم الله، وإذا قلتم أمنا فهل تسبون أمكم وتطئونها؟ وأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: الله منعنا. والجهاد في الإسلام يكون لأسباب، فمنها: جهاد الكفار الذين رفضوا الإسلام أن ينتشر في بلادهم، ووقفوا سداً أمام الدعوة، فيقاتلون لكسر شوكتهم ليكون الدين لله، لكن لو فتحوا لنا بلادهم قالوا: ادخلوا إلى بلادنا واحكموهم بالإسلام فلا نقاتلهم. قتال آخر: وهو قتال الدفع، إذاً يوجد جهاد هجومي وجهاد دفاعي، والذي ينكر الجهاد الهجومي كذاب أشر، منهزم بغيض، سفيه جاهل؛ فإن الصحابة في عهد أبي بكر وعمر بن الخطاب جاهدوا فارس والروم وهجموا عليهم وغزوهم إلى بلادهم حتى فتحوها، فالذي ينكر أن في الإسلام جهاداً هجومياً؛ مثل انهزام العقلانيين أصحاب المدرسة التنويرية الذين ينكرون الجهاد الهجومي على الكفار، وإنما حملهم على ذلك الانهزام النفسي، فقالوا: أين نذهب بوجوهنا من الكفار فإنهم يقولون: أنتم تهاجمون وتظلمون، فإذاً الجهاد في الإسلام للدفاع عن النفس. ونقول: وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟ هل كانوا يفعلون الباطل والظلم والاعتداء على الناس، فتباً لهم! وهناك جهاد الدفع، إذا هجم الأعداء لزم دفعهم وجهادهم، وهناك قتال شرعي، كما لو خرجت طائفة على إمام المسلمين وخليفتهم؛ فإنهم إذا أبوا الرجوع وتسلحوا قوتلوا لإرغامهم على الدخول في بيعة الخليفة، (إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما) هذا قتال شرعي، بين مسلمين وعلي رضي الله عنه قاتل من هذا الباب، ولا يلزم أن يكون قتال علي لمن خرج عن بيعته وهو الخليفة أن يكون مثل جهاد المشركين فيه سبي وغنائم، لكن الخوارج ما فهموا هذا، وقالوا: لماذا قاتل علي معاوية وقاتل عائشة والجيش الذي فيه عائشة، وما أخذ غنائم؟

مسألة تنحي علي عن كلمة أمير المؤمنين

مسألة تنحي علي عن كلمة أمير المؤمنين قال: وأما قولكم أن علياً رضي الله عنه نحى نفسه عن أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتاباً فقال: للكاتب -وهو علي رضي الله عنه- اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك وما قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي، فلما جاء علي يكتب الصلح بينه وبين معاوية قال: كتب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورفضت كلمة أمير المؤمنين وتركها علي لأجل الصلح، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك كتابة رسول الله للمصلحة الشرعية، ولعقد الصلح الذي أمره الله به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي؛ أخرجتم من هذه؟ قالوا: الله منعنا. من هذا الحوار رجع من الخوارج عشرون ألفاً وانضموا إلى علي رضي الله عنه، وبقي من الخوارج أربعة آلاف، وهؤلاء هم الذين واجهوا في معركة النهروان وقتلهم علي رضي الله عنه.

آداب في الحوار

آداب في الحوار

معرفة المسألة المتحاور فيها

معرفة المسألة المتحاور فيها قبل الدخول في الحوار لابد من علمٍ بالمسألة التي سيكون الحوار عنها، وتكون محور الحوار، وإذا لم يكن الإنسان ذا علمٍ بما يحاور من أجله فلا يجوز أن يدخل في الحوار أصلاً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] فبعض الناس يدخلون في الحوارات بغير علمٍ فيفسدون أكثر مما يصلحون، لأنه إما أن ينزلق للإفتاء والكلام في دين الله بغير علم وهذه مصيبة، أو أن يخرج الطرف الآخر منتصراً عليه، وهذه مصيبة وكارثة أخرى؛ وصاحب الباطل يخرج منتصراً؛ لأن صاحب النزاع لا حجة له، دخل في الحوار دون إعداد ودون علم، فإذاً لابد من علم بشرع الله المطهر كتاباً وسنةً، وبالواقع الذي يتعلق بموضوع الحوار والنقاش، والله عز وجل قال لأهل الكتاب: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:66]

فهم حجج الطرف الآخر فهما صحيحا

فهم حجج الطرف الآخر فهماً صحيحاً ثم لابد أن يكون هناك حسن فهم لحجج الطرف الآخر وأدلته وأقواله، والخلفيات المؤثرة في واقعه وتصرفاته، وفي كثير من الأحيان يتحاور الطرفان، ويطول الحوار، وتتشعب المسائل، ويستمر الخلاف ولا يصلان إلى نتيجة، والسبب أن كل واحدٍ منهما لم يفهم مراد الآخر وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم ولذلك لا يرد أحد على آخر حتى يفهم كلامه إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ أسأت إجابة وأسأت فهماً ولذلك لا ينبغي أن يناقش الإنسان ويدخل في حوار وهو لم يفهم مراد وقصد الطرف المحاور، فسماع حجة الطرف الآخر نصف الطريق، ولابد من هذه الخطوة. وبعض أسباب سوء الفهم التي تحدث بين الناس عموماً، وبين الشباب وبين الدعاة والمدعوين، وبين الدعاة وبعضهم البعض؛ قد تكون راجعة إلى قلة العلم، أو أن يأخذ جزءاً من حديثه ويترك أجزاءً، فتجد واحداً أول ما يسمع كلام الثاني يقول: بس قف ثم ينهال عليه قبل أن يسمع بقية كلامه، ثم يكون ما رد عليه موجود في كلام الآخر وليس هو موضوع النقاش أصلاً، ولو أنه تأنى وسمع الباقي لاكتفى وعرف الكثير. ثم -أحياناً- من أسباب سوء الفهم: أن الإنسان يقرأ أقوال الآخرين أو يسمعها بخلفيات معدة عنده مسبقاً، يحمل عليها أقوال الآخرين، كأن تسمع عن شخص أشياء ثم تأتي تتناقش معه، فتفسر كلامه بناءً على ما سمعته عنه، وقد يكون ما سمعته عنه غير دقيق ولا صحيح، فتبدأ من باب اتهام النيات تفسر كلامه على ما في ذهنك أنت، ولا تتجرد بحيث تفهم كلامه على حقيقته، والإنسان لا يخلو من خلفية معينة عند النقاش مع أي شخص. وأحياناً يكون من أسباب سوء الفهم: عدم اللقاء بين المتحاورين وإنما يعتمدان على المراسيم وعلى الرواة والنقلة، قال كذا، وقال: كذا، وقد يكون الناقل غير دقيق فيسيء في النقل من هذا لهذا، فتزداد الفرقة وتعظم الهوة بينهما، ولو أنهما التقيا في مجلسٍ واحد لاتضحت لديهم الصورة وزال اللبس، ولا يلزم أن يكون اللقاء علنياً أمام الناس إذا لم يكن من المصلحة النقاش أمام العامة، وليكن في مجلس خاص. ثم من أسباب سوء الفهم: الاختلاف باستخدام الألفاظ والمصطلحات، وقد يستخدم إنسان مصطلحاً يفهمه الخصم فهماً آخر، فأحياناً لابد من ضبط المصطلحات قبل النقاش. وهذه قصة لطيفة صارت في مجلس زواج عند القاضي، جاءت المرأة وأبوها وجاء الشخص الذي يريد الزواج ومعه شهود، وجلسوا عند القاضي، قال القاضي لأبي الفتاة: ابنتك هذه بكر؟ قال: لا. فهذا الشاب يقول: نظرت وكأن الشيطان صار جالساً بجانبي، وجلست أضرب أخماساً في أسداس أنا أريد أن أتزوج، وعرفنا أنه ما سبق لها الزواج، والآن القاضي يقول له: أهي بكر؟ يقول: لا. يقول: وتلون وجهي بجميع الألوان وصرت في أمرٍ مريج، وكأن صاعقة وقعت في المجلس، ووجم الناس والشهود، فوجئ الجميع بهذه العبارة، يقول: حتى تدخل واحد بنباهته وقال: يا أخ فلان عفواً ما تعريف كلمة بكر عندك؟ قال: بكر أي: أول الأولاد، قال القاضي: يا أخي! لكل مقامٍ مقال، نحن الآن لا نسألك عن بكرك نحن نقول: البنت بكر، قال: إيه هذه بكر، عندما فهم معنى كلمة بكر. وسبحان الله! الواحد قد يفهم بوجهٍ غير الوجه الذي يفكر فيه الآخرون، فلابد من تفسير المصطلحات؛ لأنها قد تجعل النقاش والجدال عقيماً إن لم تفهم.

تحديد الأصول والمراجع عند الاختلاف

تحديد الأصول والمراجع عند الاختلاف حتى يكون النقاش مفيداً فلابد أن يكون هناك أصول يرجع إليها، والأصول التي يرجع إليها في النقاشات -وخصوصاً النقاشات العلمية- هي الكتاب والسنة بطبيعة الحال؛ لأن الله قال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلابد أن يكون هناك تسليم بهذا، وليس إذا أتيت له بآية قال: لا. كما قال الشيخ عبد الرحمن الصمد رحمه الله، قال: لما أراد أن يناظر واحداً من الصوفية في بلاد الشام، فدخلوا في قضية الأموات والمقبورين فقال الشيخ: هذا الميت الذي تقولون عنه إنه ولي هو بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وكيف يملك لكم أنتم نفعاً، كيف يملك لغيره نفعاً وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟ قال: بلى عنده ما عنده، فأتى الشيخ بالآية وقال: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] فقال ذاك الصوفي: يا ابني! هذه آية وهابية نشرك فيها. فسبحان الله! صار القرآن مقسماً إلى قرآن وهابية، وقرآن صوفية، إنها لمصيبة! فإذاً لابد أولاً من التسليم بالمرجع، أي: لنحتكم إليه إذا تنازعنا {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]. ولذلك لما جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق رحمهما الله في كراء بيوت مكة، والمسألة الأخرى؛ ما حكم تملك بيوت مكة؟ فالمهم أن الشافعي رحمه الله كان يرى جواز التملك والإجارة، ما دام أنه ملكه فليفعل فيه ما يشاء، وإسحاق كان لا يرى كراء بيوت مكة، فقال الشافعي في النقاش والحوار قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] فنسب الديار إلى مالكها أو إلى غير مالكها؟ الإضافة هذه (ديارهم) تدل على أن هذه ملك لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب الديار إلى أربابها أم إلى غير أربابها؟ واشترى عمر بن الخطاب داراً للسجن من مالكٍ أو من غير مالك؟ فقال إسحاق: الدليل على صحة قولي أن بعض التابعين قال: كذا كذا، فقال الشافعي لبعض الحاضرين: من هذا الذي يناقش؟ فقيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، قال إسحاق: هكذا يزعمون! قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك فكنت آمر بعرك أذنيه، يعني: لو كان غيرك أمامي لأمرت بعرك أذنيه، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال عطاء وطاوس والحسن، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ فإذاً لابد أن يكون هناك مرجع عند الاختصام وأقصد: أصولاً وضوابط يرجع إليها لكي يكون الحوار مجدياً

تحديد موضوع النقاش والحذر من التشعبات

تحديد موضوع النقاش والحذر من التشعبات لابد من تحديد الهدف، وتحديد الهدف مسألة مهمة، والشافعي رحمه الله كان إذا ناظره إنسان في مسألة فدخل في غيرها قال: نفرغ من المسألة الأولى ثم نصير إلى ما تريد، يعني: دعنا نأخذها واحدةً واحدةً، قال الخطيب البغدادي رحمه الله في ذكر آداب الجدل والمناظرة: ويكون كلامه يسيراً جامعاً بليغاً، فإن التحفظ من الزلة مع الإقلال دون الإكثار، وفي الإكثار ما يخفي الفائدة ويضيع المقصود، ويورث الحاضرين الملل. وقال الجويني رحمه الله: وعليك بمراعاة كلام الخصم، وتفهم معانيه على غاية الاستقصاء، فإن فيه أماناً من اضطراب ترتيب حصول الكلام عليك، فيسهل عليك عند ذلك وضع كل شيءٍ موضعه، وإن طول عليك بعباراته الطويلة فلخص من جميعها موضع الحاجة إليه فتحصرها عليه، يعني: تقول في النهاية: يا أخي! طيب وأصل كلامك ورأيك أنك تقول: كذا كذا، تلخص كلامه الطويل الذي قاله، فإن وافق على هذا التلخيص فاشرع في نقد ما قاله وتفنيده إذا كان ضد الحق بحسب ما تعلمه أنت. فإذاً لابد من حصر موضوع النقاش؛ لأن التشعبات والنقاشات الكثيرة جداً تضيع المقصود، وتدخل في متاهات، وهذا كثيراً ما نلاحظه في الحوارات العقلية.

الإخلاص عند المناظرة

الإخلاص عند المناظرة لابد أن يتصف المحاور بالإخلاص، وأن يكون القصد وجه الله تعالى، ويخلص النية في جداله بأن يبتغي وجه الله وليس المغالبة للخصم. الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة - أي: ما دخلت في نقاش مع أحد قط ونيتي أن أغلبه فقط- وإنما دخلت في النقاش للوصول إلى الحق مني أو منه، وعندي أو عنده. والمقصود هو طلب الحق، فإذا توافرت الرغبة للوصول إلى الحق لدى الطرفين وصل إليه بإذن الله، لكن المشكلة أن يكون الغرض من الحوار أن ينصر الإنسان رأيه بغض النظر عن كونه خطأً أو صحيحاً، ولذلك لابد أن يدخل الإنسان ساحة الحوار وهو يبحث عن الحق حتى لو كان عند خصمه، قال الله تعالى في حوار أهل الكتاب: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] (وإنا أو إياكم) أحد الطرفين، لا نقل: نحن على حق وأنتم على باطل من أول الطريق؛ فلن يجدي النقاش إذا كان كل من الطرفين يدعي أنه وحده على الحق: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] وينبغي أن يكون المحاور لا فرق عنده بين أن يظهر الحق على يديه أو على يدي الآخر، المهم الوصول إلى الحق. ومن إخلاص الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ، وقال: ما كلمت أحداً إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه، وهذا تجرد صعب، لكن من أراده وفقه الله تعالى إليه، بل ربما وصلت القضية إلى أن بعض المتحاورين من السلف لما تحاورا رجع كل منهما إلى الطرف الآخر. ومع الشافعي وإسحاق مرة أخرى، لكن الآن الطرف الآخر، إسحاق ناظر الشافعي -والإمام أحمد موجود في المجلس- في جلود الميتة إذا دبغت، قال الشافعي: دباغها طهورها، يعني: تستعمل، قال إسحاق: ما الدليل؟ فقال الشافعي: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: هلا انتفعتم بجلدها) فقال إسحاق: حديث ابن عكيم (كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ -أي جلد- ولا عصب). وهذا الحديث أشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة، حديث ميمونة يقول: (هلا انتفعتم) وهذا يقول: (لا تنتفعوا) وهذا الثاني متأخر قبل موته بشهر، فقال الشافعي: هذا كتابٌ وهذا سماع -يقول: حديثي الذي احتججت به سنده السماع وحديثك -يا إسحاق - بالكتابة (كتب إلينا رسول الله) يريد أن يقول: إن حديثي أقوى، السماع أقوى من الكتابة- فقال إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر رسائل وكانت حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي؛ لأن إسحاق أتى له بالحديث المتأخر، وهو حديث حجة ولو كان كتاباً؛ بدليل أن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم قامت بها الحجة على كسرى وقيصر، فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي فأفتى بحديث ميمونة، يعني: انتهى النقاش بأن تبنى إسحاق رأي الشافعي، وقضية السكوت عن الكلام كانت اعتباراً، لكن الإنسان ممكن أن يرد بأي كلام

المناظر يذكر ما له وما عليه

المناظر يذكر ما له وما عليه ثم من أدب الحوار أن الإنسان يذكر ما له وما عليه، يعني: لو أراد أن يناقش في مسألة فقهية؛ كطهارة الدم، أو قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية وراء الإمام، أليس الطرفين في مسائل خلافية؟ أليس لكل منهما أدلة؟ بلى. فإذاً نورد ما لهذا القول وما عليه، وليس له أن يخفي أدلة الفريق الآخر، فإنه ليس من الإنصاف، بل هو من اللبس والتلبيس -إخفاء وكتم- ولذلك بعض الجهلة إذا أرادوا النقاش مع النصارى يخفون فضائل عيسى عليه السلام، يقولون: نتحدث بفضائل محمد عليه الصلاة والسلام، بل بعضهم يبتدع، لما رأوا الرافضة يسبون أبا بكر وعمر قال واحد منهم: سبوا علياً كما سبوا عقيقكم كفرٌ بكفرٍ وإيمانٌ بإيمان أي: واحدة بواحدة. فإذاًً عندما ندخل في حوار فلابد أن نقيم الوزن لحجج الطرف الآخر، وفي كثير من الأحيان -خصوصاً في المسائل الاجتهادية والآراء- لا تستطيع أن تزن رأي الآخر، لكن تقول: يا أخي! هناك رأيان، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى وأرجح فقط، أما أن تقول هذا حق وهذا باطل، فهذا لا يأتي في المسائل الاجتهادية، وإلا ما صارت اجتهادية ولا حدث الخلاف فيها، ولكن نتكلم الآن على قضية الرجحان. سنكمل -إن شاء الله- بقية الموضوع في الحلقة القادمة

من أدب الحوار قبول الحق ولو من عدو

من أدب الحوار قبول الحق ولو من عدو فقد تقدم الكلام في الحلقة الأولى عن آداب الحوار، ونتابع الحديث اليوم في الحلقة الثانية من هذا الأدب الذي يحتاجه كل باحثٍ عن الحق، وكل داعيةٍ إلى الله، وكل أخ في مناقشة إخوانه من المسلمين، ويحتاجه حتى الزوج مع زوجته، والولد مع أبيه وأمه، وهذه المسألة -وهي مسألة الحوار- إذا كانت في الحق فإن الله سبحانه وتعالى يوفق أطراف الحوار للوصول إلى الحق؛ لأن القصد الأول من الحوار هو معرفة الحق. ولذلك -أيها الإخوة- لابد أن يوطن أطراف الحوار أنفسهم على قبول الحق من أي الأطراف جاء، فإذا تبين الحق فلا يجوز الجدال فيه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6] ويجب المصير إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحق ولو جاء من عدو، وقد روت طفيلة بنت صيفي الجهنية قالت: (أتى حبرٌ من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال: فمن حلف فليحلف برب الكعبة، قال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال حقاً فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما بقوله ثم شئت) رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وكذلك صححه الألباني في السلسلة الصحيحة. ومعروفٌ أيضاً قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي جاء بصورة رجلٍ يسرق الطعام من مال الزكاة، فأمسكه ثم أطلقه حتى قال له في الثالثة: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني وأعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: وما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، قال أبو هريرة: فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك وأخبره بالخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أمَا إنه قد صدقك وهو كذوب). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز إذا قال يهوديٌ أو نصرانيٌ فضلاً عن الرافضي قولاً فيه أي حق لا نقبله، ولا يجوز أن نرفضه؛ لأنه جاء من عدو، ولذلك ينبغي في الحوار سماع كلام الخصم، وتقبل الحق الذي جاء منه بقبول حسن، والاعتراف بالخطأ والتسليم بالحق الذي يظهره الخصم، والمسألة كما ترون -أيها الإخوة- مسألة تجرد، فمن تجرد لله وفقه الله. ثم من آداب الحوار المهمة ألا يكون قصد المحاور الانتصار للنفس، والعلو على المحاورين الآخرين، أو إفحام الخصم واستعراض القوة، وقد تقدم الكلام على ذلك، ومن أهم أسباب الانتصار للنفس أن المحاور يرجو في حواره مع غيره أن يرفع كفته، أو كفة شيخه أو مذهبه أو طائفته وحزبه وجماعته، ويغفل على أن ظهور الحق على يديه أو على يد صاحبه خيرٌ له وفضلٌ عليه من الله تعالى، قال الجويني رحمه الله: فأول شيءٍ على المناظر أن يقصد التقرب إلى الله سبحانه، ويطلب مرضاته في امتثال أمره سبحانه وتعالى فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الحق، ويتقي الله أن يقصد بنظره أو بمناظرته المباهاة وطلب الجاه، والمماراة والرياء، ويحذر أليم عقاب الله، ولا يكون قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة والقهر، فإنه من دأب الأنعام الفحولة كالكباش والديكة. والإنسان إذا كان قصده بالحوار أن يتغلب على خصمه فقط فإنه لا يرعوي عن إتيانه بأي حجة من حقٍ أو باطل، ولا يقبل الحق إذا جاء من الخصم، وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرَّف الكبر قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) فبطر الحق أي: رده، وغمط الناس: ظلمهم وعدم إعطائهم حقوقهم وبخسهم إياها، وهو عين الكبر، ولذلك لابد في الحوار من التواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمةٌ في يد ملك) طبعاً هذا شيءٌ من الغيب لا نعلمه (فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، فيرفع الله ذكره وشأنه بين الناس، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته) رواه الطبراني وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب: [إن العبد إذا تواضع لله عز وجل رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله، فهو في نفسه حقير وفي أعين الناس كبير، فإذا تكبر وعد صوره ووهصه، أي: ضرب به الأرض]

الحذر من المراء والجدال

الحذر من المراء والجدال ثم من الآداب المهمة في الحوار الحذر من الجدال، فإن اللدد والخصومة من الآفات القاتلة، فيصطبغ الحوار بصبغة التعنت والعناد، ولا يعود القصد هو الحق ولا الهدى، ويتحول الحوار إلى مراء وجدل، فما هو المراء والجدل بالباطل؟ المراء: أن تنكر الحق الذي ظهرت دلالته ظهوراً واضحاً وتتعصب للباطل، والتعصب للمذهب أو الشيخ أو الفئة يحول الحوار إلى مراء وجدال، وينتهي إلى خصومة وفرقة، وتمتلئ الصدور بالأحقاد وتشحن النفوس بالكراهية، والجدل آفة يصاب بها الإنسان غالباً في المحاورات، والجدل من طبيعة الناس الفارغين، الذي عنده عمل وإنتاج لا يقع في الجدال في الغالب، الذي يقع في الجدال هم أهل الفراغ، ولذلك يهدرون أوقاتهم بالجدال، ومع الأسف فإن عدداً من الشباب يحولون المجالس العلمية، والمحاضن التربوية، والمجتمعات الدعوية إلى مراء وجدال تقضي على البذور الكريمة والفائدة والنفع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (ما ضل قوماً بعد هدىً آتاهم إلا أوتوا الجدل) وقال: حسَّان بن عطية رحمه الله: إذا أراد الله بقومٍ شراً ألقى بينهم الجدل وخزن العلم، فلا يكون علماً وإنما يعطون الجدل. لو قال قائل: إن من الجدال ما هو مفيد، ألم يقل الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فنقول: إنه تعالى ما قال: {وجادلهم} فقط، وإنما قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ومعنى ذلك أن الجدال أنواع، فما هي أنواع الجدال؟ الجدال محمودٌ ومذموم. أولاً: فالجدال المذموم ما كان بغير حجة ولا دليل. ثانياً: الجدال لنصرة الباطل والشغب للتمويه على الحق، وكان الكفار يفعلونه كثيراً، قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ} [غافر:5] وهؤلاء مهما نصحتهم لا يستفيدون، كما قال نوح لقومه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]. ومن الجدال ما يكون محموداً ومنه ما يكون مذموماً. قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله: من الجدال ما يكون محموداً مرضياً، ومنه ما يكون مذموماً محرماً، فالمذموم منه ما كان لدفع الحق، أو تحقيق العناد، أو ليلبس الحق بالباطل، أو لما لا يطلب به تعرف ولا تقرب، أو للمماراة، أو لطلب الجاه، أو إظهار التفوق على الخصوم، أو أنه يعرف أن عنده لسانة وقدرة على الحوار، وأنه لا يتوقف ولا ينقطع، والله سبحانه وتعالى ضرب أوجه الجدال المذمومة في قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]. أما الجدال المحمود: فهو الذي يحقق الحق ويكشف عن الباطل، ويهدف إلى الرشد، ويرجى به رجوع المبطل إلى الحق، وهذا المقصود بقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقول الله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فالمقصود به الجدال المذموم، أما لو تناقش بعض طلبة العلم في مسائل مثلاً في الحج ليستدلوا بها على السنة؛ كأن يتناقشوا في مكان الوقوف عند رمي الجمرات، وأين يضع الجمرة، فمثل هذا لا يكون جدالاً مضيعاً للوقت ولا منهياً عنه في الحج؛ لأنه لمصلحة الحج، فإذاً هذا الجدال لمصلحة الحج، ويعظم به الأجر وتصاب السنة

الهدوء عند الحوار

الهدوء عند الحوار ومن الآداب المهمة في الحوار: الهدوء، وكثيراً ما تتحرك الطبائع الكامنة في النفوس، ويحدث غليان وغضب وانفعال وعصبية، وتندفع الكلمات، وتتسابق الأطراف كالسيل الجارف بالتهكم والسخرية وتراشق التهم ونحو ذلك، وهذا من أخطر آفات الحوار؛ لأنه لم يعد هناك حوار مثمر، وهذا مفسد للعلاقات، ولذلك بعض الناس تحس أنك لو ما دخلت معه في حوار لكان أحسن، كنت صاحباً له قبل الحوار، وبعد الحوار صار بينكما قطيعة، ولذلك تتنافر القلوب من آثار الحوار المذموم. إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر والصراخ والشتائم كل إنسان قد يقدر عليه، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير وجاهل وعالم، وكما قال قائل: صغار الأسد أكثرها زئيراً وأصرمها اللواتي لا تزير أي: لا تزأر، والذي يميز الرجل الرباني الصادق في حواره هدوء نفسه، وعفة لسانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:43 - 44] والنبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس: (لم يكن سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً)، وشيخ الإسلام رحمه الله خاض غمار حوارات كثيرة، ومناظرات مع أهل البدعة، وكان من الخلاصات التي خرج بها يقول: الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب لكان عليه أن يكبر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]. والإنسان إذا جلس في مجالس أهل العلم ينبغي أن يتأدب، ولذلك الحوار العلمي ينبغي أن يأخذ أدباً أعلى بكثير من الحوار في المسائل الدنيوية، أو في الأسعار، أو في السلع، أو في مساومات أو في نحو ذلك، وبعض الإخوان قد يظن أن الحوار مع أهل البدع يقتضي أن ترفع الصوت، وتظهر الغضب، وتقطب الجبين، وتحمر العينان، وتتسارع الأنفاس، وهذا غير صحيح. ولكي يتقبل الشخص الآخر فلابد أن تظهر الهدوء في النقاش؛ لأن القصد الآن ليس ألا تتيح له فرصة في الكلام إذا كان الحديث بينك وبينه، وإنما المقصود أن يصل الرجل إلى الحق ويقتنع به، ولذلك عامة الناس لا يحبون التشنج والانفعالات في النقاشات، ويقولون: هذا الشيخ الذي خرج من البرنامج الفلاني ما عنده إلا العصبية والانفعال، وتلك المرأة غلبته وتفوقت عليه، مع أنه خرج لينصر الحق بزعمه، وهي تمثل أهل الباطل، فالناس ينفرون من التشنج والانفعال، نعم بعض الأحيان يلزم إظهار شيء من الشدة، لكن لا إلى أن يتحول الحوار إلى صراخ، والغضب لا يبقي سداداً للفكر، ويتعكر المنطق بسببه، وتتقطع مادة الحجة، وقال ابن القيم رحمه الله: الغضب نوعٌ من الغلق تستغلق به على الإنسان الأمور، وكيف يأتي المرء بحجة أو ينقض حجة للخصم إذا كان في حال الغضب، الغضب عدو العقل وهو للعقل كالذئب للشاة قلما يتمكن منه إلا اغتال العقل، هكذا صوره ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب) وكلما ازداد انفعال المتحاورين ازدادت الشقة بينهما وابتعد الواحد منهما عن الآخر (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب). روي أن المزني رحمه الله ناظره إنسان كثير الصياح والشغب فقال المزني: أخبرنا الشافعي أن أبا حنيفة ناظر رجلاً فكثر صياح أبي حنيفة فمر به رجل آخر وقال: أخطأت يا أبا حنيفة، فقال أبو حنيفة: ما هذه المسألة؟ -أنت أيها المار ما الذي نتحدث عنه؟ - فقال الرجل: لا أدري، فقال أبو حنيفة: وكيف عرفت أني أخطأت؟ فقال الرجل: لأنك إذا أخطأت صحت، وإذا أصبت رفقتَ، فعلمت أنك أخطأت حيث رأيتك تصيح. إذاً فمسألة الصياح هذه تفسد الحوار. إذا ما كنت ذا فضلٍ وعلمٍ بما اختلف الأوائل والأواخر فناظر من تناظر في سكونٍ حليماً لا تلح ولا تكابر يفيدك ما استفاد بلا امتنانٍ من النكت اللطيفة والنوادر وإياك اللدود ومن يرائي بأني قد غلبت ومن يفاخر فإن الشر في جنبات هذا يمني بالتقاطع والتدابر وروي أن رجلاً من بني هاشم اسمه عبد الصمد رفع صوته في النقاش عند أحد الخلفاء، فقال له: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد إن الصواب في الأسدّ لا في الأشدّ، الأسد: القول السديد، الأشد: وليس بالصوت الشديد. وإذا أفحش الخصم في جوابه فينبغي عدم الحدة؛ لأن الصياح لا يقابل بالصياح والاستخفاف؛ فهذا من أخلاق السفهاء، ومن الطرائف أن أحد الشعراء سمع اثنين ينتسبان إلى الفقه ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس. فقال: البغل والجاموس في جدليهما قد أصبحا عظةً لكل مناظر برزا عشية ليلة فتباحثا هذا بقرنيه وذا بالحافر ما أتقنا غير الصياح كأنما لقنا جدال المرتضى ابن عساكر فالمناقشة ليست بالقرون والحوافر، وإنما بالكلام المتزن الهادئ، والإنسان إذا كان عصبياً فلا ينصح بخوض حوارات، ومن كان حاد المزاج فقد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا أردنا أن نرشح أشخاصاً للحوار، فلنرشح أشخاصاً عُرفوا بهدوء الطبع؛ لأن المحاور خصوصاً في هذا الزمان ينتدب على أنه يمثل فكرة من الأفكار، أو منهجاً من المناهج، فإذا كان إنساناً حاداً عصبياً يمكن أن يؤدي إلى إقناع الناس بالباطل، أو ينفروا من الحق، فينبغي أن يعتنى بالحوارات ولا يدخل فيها إلا من عنده صفات علمية وأخلاقية تؤهله للدخول.

حسن الاستماع والإصغاء للآخرين

حسن الاستماع والإصغاء للآخرين ومن لوازم الهدوء في الحوار: حسن الاستماع والإصغاء للآخرين، وإعطاؤهم الفرصة للتعبير عن آرائهم، أحياناً ينشغل المحاور بإخراج كل ما في جعبته، ويكون هذا همه، لكن هذه طريقة قد لا تكون مقنعة للآخر؛ لأنه ليس المهم فقط أن يفرِّغ الإنسان كل ما في جعبته، بل من المهم أيضاً أن يستفرغ ما في جعبة الطرف الآخر، إذا استفرغت ما في جعبة الآخرين سهل عليك الرد، لا أن تقول كل ما عندك، ثم يقول هو كل ما عنده. والقضية قد لا تحتاج لكل هذا، فيكفي قليل من الكلام، ولذلك فإعطاء الخصم فرصة ليتكلم يساعد على إخماد ما لديه من الشبهات، والمحاور الجاد هو الذي يهتم بصاحبه ويصغي لكلامه، وعدم الإصغاء وكثرة المقاطعة والاعتراض سيجعل الأمر أكثر صعوبةً، والمشكلة أننا أحياناً لا نتناقش مع أهل البدع والعلمانيين والمنافقين، نتناقش مع إخواننا وأصحابنا وزملائنا، وربما عاملنا هذا مثل هذا، وهذا ظلم، إذ كيف تعامل أخاك بالحوار مثلما تعامل المبتدع والضال والكافر والمنافق؟ ولا يكن ديدن الواحد كما قال القائل: إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوقفة: لا تعط أحداً فرصةً للحديث، تكلم بغير انقطاع، وإذا خطرت لديك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه لأنه ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك بالاستماع إلى الكلام السخيف، اقتحم عليه الحديث واعترضه في منتصف كلامه. ولا شك أن مثل هذا لا يمكن أن يحبه الناس، ولذلك فالعبرة بكسب الأشخاص لا بكسب المواقف، يعني: أنت قد تدخل في نقاش وتسجل نقطة على الخصم، لكن لم تكسبه، لأنك لم تعطه فرصةً للحديث، فقد يقول الناس: فلان غلب فلاناً، لكنك خسرت الرجل وإن كسبت الموقف، فالذكي لا ينظر إلى كسب المواقف فقط، ينظر إلى كسب الأشخاص أيضاً. وبعض المحاورين يسارع إلى الرد، ويبادر في المقاطعة قبل أن يستقبل صاحبه الحجج والبراهين التي لديه، وهذا يؤدي إلى شحن وإثارة النفوس، والشريعة قد جاءت بكل ما يقطع النزاع ويغلق أبواب الخصام والنفور، وبعض الناس ربما إذا جاء الشخص الآخر بالحديث يقول: هذا معروف، أو أعلم ذلك إلخ. كان عطاء بن أبي رباح رحمه الله يقول: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً، وقال: إن الشاب ليتحدث بحديثي كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد، وقال بعضهم: أسمعه كأني أسمعه منه المرة الأولى وقد سمعته من غيره ثلاثين مرة. وتراهم يفضي بالحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، كما قال الشاعر: وتراه مصغٍ للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به فإذا خرج الخصم من الحوار وقد عرف بأنك إنسان تريد الوصول إلى الحق، وأنك مؤدب في النقاش، فهذا مكسب، وينبغي أن يكون كل واحدٍ من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال المناظرة، مستمعاً إلى كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذاك طريق معرفته والوقوف على حقيقته كما ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: وليتق المناظر مداخلة خصمه في كلامه وتقطيعه عليه، وإظهار التعجب منه، ولا يمكنه من إظهار حجته، فإنما يفعل ذلك المبطلون والضعفاء. قال حكيم من الحكماء لابنه: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ فإن حسن الاستماع انتباهك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال في الوجه والنظر والصبر حتى ينهي الآخر ما لديه من الأخلاق التي يحتاج إليها في المناظرة، وليس حسن الاستماع مجرد الإنصات، فبعض المحاورين يسكت ويجعلك تتكلم وتتم الحديث دون مقاطعة، لكن يتغافل عنك ويتشاغل بكتابٍ بين يديه يقلب أوراقه، أو يعبث بالقلم أو ينظر إلى السماء، وربما انتهيت وهو لا يدري أنك انتهيت، فهذا في الحقيقة ما أنصت وإنما سكت، والإنصات هو الانتباه لما يقوله الآخر.

عدم اتهام النيات

عدم اتهام النيات ومن الآداب المهمة أيضاً: عدم اتهام النيات؛ فبعض المتحاورين يتهم نية الشخص الآخر وهو لم يطلع عليها، وهذا يثير الطرف الآخر ولا شك، فإذا قال: أنت صاحب هوى، أنت تقصد كذا، فإذا لم يتبين هذا من كلامه فالحكم عليه يعتبر اتهاماً لنيته، واتهام النيات لا يقبله المستمعون، فإنهم إنما يريدون رداً مقنعاً، أما أن يقول الواحد للآخر: أنت تقصد كذا فهذا لا يقبله الناس، ويفعل هذا كثير من الناس لإسقاط الأطراف الأخرى في الحوار، مع أن المسألة -كما قلنا- ليس المقصود منها إسقاط الطرف الآخر، المقصود منها الوصول إلى الحق.

التهيؤ للحوار بالمكان والوقت المناسبين

التهيؤ للحوار بالمكان والوقت المناسبين وينبغي أن يهيأ للحوار جو مناسب بعيد -مثلاً- عن الضجيج فيراعي فيه تهيئة الجو، التعارف بين الطرفين، والدخول مع شخص مجهول في حوار دون التعرف عليه مما يبعد فرصة الوصول إلى الحق معه، وتحديد أيضاً موعد مناسب للحوار مثلما فعل موسى عليه السلام: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] فاختار موسى عليه السلام يوم العيد الذي تتعطل فيه الأعمال ويجتمع فيه كل الناس، واختار الوقت الذي لا يكون فيه ليلٌ ما يرى الناس ماذا يحدث، ولا تكون فيه الشمس ضاربة في العين فلا يبصرون أو لا يكادون يبصرون من شدتها وتوهجها، قال: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] ففي الضحى اختيار حكيم من موسى عليه السلام لإجراء الحوار والمناظرة أو المغالبة.

عدم التأثر من أساليب أصحاب الباطل

عدم التأثر من أساليب أصحاب الباطل وينبغي كذلك في الحوار ألا يتأثر صاحب الحق بهجوم صاحب الباطل عليه ومقاطعته، وإنما يكمل كلامه بالحق كما فعل موسى عليه السلام لما ناظر فرعون، موسى عليه السلام لما ناظر فرعون أراد فرعون أن يقطع عليه الحديث، قال فرعون: وما رب العالمين؟ {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] فخاف الطاغية أن تتسرب الكلمة إلى قلوب السامعين، فعارض موسى وحول الحوار إلى السامعين وقال: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] فلم يلبث موسى إلى أن أعطاه الصفة الثانية من صفات رب العالمين: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] طبعاً هذا كلام يمس العقيدة التي عليها فرعون مساً مزعجاً له جداً؛ لأن فرعون يقول: أنا ربكم الأعلى، وهذا يقول: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] فما ملك فرعون إلا أن يقول كلاماً سخيفاً، قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، وهذا استهزاء وتهكم، لكن لم يفت ذلك في عضد موسى فتابع الكلام: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28] فالآن لاحظ أن موسى يتكلم وفرعون يحاول أن يغير مجرى الحديث إلى الناس، يتكلم فيشغب على موسى، فمرة يقول: أنت مجنون، وأن يقول: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34 - 35] هذا الموقف الضعيف من فرعون كان له أثر ولا شك، وعندما صارت المعركة أسقط في أيدي السحرة بسبب التأييد الذي أيده الله سبحانه وتعالى به.

لا بأس من طلب التريث وعدم الاستعجال

لا بأس من طلب التريث وعدم الاستعجال ولا بأس أن الإنسان في الحوار يطلب الإنظار وعدم الاستعجال، فإن بعض الأطراف إذا أراد أن يحاورك قطع عليك، فتقول: انتظر حتى أتم كلامي. ولما اختصم علي والعباس إلى عمر رضي الله عن الجميع جاءا في قضية الميراث فقال عمر: اتئدا! أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث معاشر الأنبياء، ما تركنا صدقة)؟ فأوقفهما. لما جاء رجل إلى ابن عمر قال: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة هل أطيل فيهما القراءة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى يوتر بركعة، قال السائل: إني لست عن هذا أسألك؟ فقال ابن عمر: إنك لضخم -أي: وصفه بوصفٍ فيه إشارة إلى شيءٍ من الغباء- إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث؟ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة ويصلي ركعتين قبل الغداة) فقاطع السائل ابن عمر قبل أن يجيبه، وهذا نلاحظه كثيراً في أسئلة العلماء، إن بعض السائلين يسأل العالم، وقبل أن يتم العالم كلامه يدخل السائل مرةً أخرى في مسألة ثانية، ولذلك تجد العالم من أولي الخبرة في الإفتاء يتكلم، ثم إذا انتهى كلامه قال: نعم. يعني: انتهى كلامي، وإذا عندك شيء آخر فائت به، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أن الكلام انتهى، فمن حسن الأدب مع العالم أنك إذا دخلت معه في حوار أو نقاش أو مساءلات ألا تقطع الكلام عليه، وتنتظر حتى يقول: نعم. فإذا شككت هل هو أنهى كلامه أم لا فاصبر ولا تعجل، والإنسان خلق عجولاً، ولذلك كثيراً ما يقع السائل في مزالق بسبب عجلته، وتفوته بذلك فوائد، وربما أن الشيخ طفش منه ولم يسمح له بمزيد من الأسئلة بسبب مداخلاته ومقاطعته المستمرة.

الالتزام بطرق الإقناع

الالتزام بطرق الإقناع ومن الأمور المهمة في الحوار الالتزام بطرق الإقناع الصحيحة، من تقديم الأدلة المثبتة للدعوة صحةً وطريقة في الاستدلال، لأن بعض الناس يستدلون بأدلة ضعيفة، وبعضهم يستدل بأدلة صحيحة لكن بطريقة خاطئة، فالحديث صحيح لكن يستعمله بطريقة خاطئة، اليوم أحد الناس قال لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- حديث في مسند أحمد -: (ليس منا من حَلَقْ) كيف يقول: ليس منا من حلق وهو قد حلق في الحج والعمرة؟ طيب -يا أخي- هذا الحديث: (ليس منا من حَلَقْ) وفي رواية: (ليس منا من حلق وخرق وسلق) هذا المقصود به الذي يحلق شعره أو التي تحلق شعرها عند المصيبة، وسلق: أي: يصرخ نياحة، وخرق: قطع ثيابه، فهو جاء بحديث صحيح: (ليس منا من حَلَقْ) فنقول: الحديث صحيح، لكن ما وجهه؟ وما معناه؟ وكيف فهمه العلماء؟ وفي أي مناسبة جاء الحديث؟ ثم من أراد أن يبدأ في حوار فلا يبدأ بالأدلة الضعيفة، بل يأتي بالأدلة القوية؛ لأنك إذا أتيت بالأدلة المحتملة يصير النقاش في الاحتمالات، والشخص الآخر يورد عليك إيرادات قد تكون صحيحة، ويضيع الوقت فيها، هات الأدلة الأقوى أولاً، وهذه مسألة يغفل عنها بعض طلبة العلم أثناء النقاشات، يأتي بالدليل الأضعف، مع أن الحكمة تقتضي أن يأتي بالدليل الأقوى أولاً. ثم بعضهم إذا أراد أن يناقش فلا تخرج من نقاشه إلا بتكراره للدعوى التي يقولها دون أدلة، يرجع ويكرر الدعوى بدون دليل، تريد دليلاً فلا تجد دليلاً، ما عنده إلا التكرار وترديد أصل الدعوى، ثم يجب احترام أدلة الطرف الآخر إذا كانت صحيحة ووجيهة، ولا يقول كما يقول بعض المتعصبين للمذاهب: هذا الدليل ساقط لأن إمامي لم يقل به، ولو كان صحيحاً لعرفه وقال به، فكونه ما قال به لا يعني أنه ليس بصحيح وهذا خطأ من الأخطاء.

الحذر من القفز إلى النتائج دون مقدمات صحيحة

الحذر من القفز إلى النتائج دون مقدمات صحيحة ثم أيضاً من الأخطاء في الحوار أن الإنسان يقفز إلى النتائج دون مقدمات صحيحة تؤدي إليها (بما أن إذاً) فيقول: (بما أن) لا علاقة لها بإذاً، فكيف يجوز أن يقفز إلى النتيجة دون مقدمات صحيحة، فعندنا مقدمات ونتائج، مثلاً: الرياضيات بما أن إذاً فلابد أن تكون (بما أن وإذاً) لهما علاقة ببعضهما واضحة، وألا ترتب نتائج على مقدمات لا علاقة لها بها، أو على مقدمات خاطئة، فهذا خطأ كبير في الحوار.

الحذر من إهمال الاستدلال بالقرآن والسنة وتقديم الأدلة العقلية

الحذر من إهمال الاستدلال بالقرآن والسنة وتقديم الأدلة العقلية ثم إن بعض الناس أحياناً يهملون الاستدلال بالآيات والأحاديث ويقدمون الأدلة العقلية، مع أن الحوار قد يكون بين شخصين مسلمين من أهل السنة، لست تناقش الآن كافراً، أنت تناقش الآن شخصاً من أهل السنة فقدم الأدلة من القرآن والسنة، ثم الانتباه إلى القول باللازم، يعني: أحياناً يُستدل على فسادِ القول من لازمه، فيقال: يلزم من هذا الكلام الذي تقوله: كذا وكذا، واللازم هذا صحيح، وعند ذلك يسقط الاحتجاج، ثم لو أخذنا مثالاً على هذا: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:100 - 101] فنسبة الولد لله يلزم منه وجود زوجة، فمن هي الزوجة؟ ولذلك ناقش النصراني وقل له: أنت تقول: لله ولد، من أين جاء الولد؟ خلقه، لو خلقه صار مخلوقاً مثلنا ما كان له ميزة على بقية المخلوقين، فإن قال: هذا ولد له صفات من صفات الله، نقول له: هو ولد، من أين خرج؟ فإذا سلم أنه خرج من امرأة، طبعاً نسبة الزوجة لله مصيبة، ثم نقول له: تعرف -يا أيها النصراني- ماذا يلزم من القول بأنه خرج من زوجة، يلزم أنه صار هناك وطءٌ وشهوةٌ، ولذلك الاستدلال على فساد القول من لوازمه، هذه من الطرق المهمة في الحوارات والنقاشات.

محاصرة الخصم بكلماته الباطلة

محاصرة الخصم بكلماته الباطلة ثم مما يستعان به على إفحام الخصم خصوصاً المبتدعة أن تمسك عليه الكلمات الباطلة التي يقولها وتسجلها، قد لا تعترض الآن اتركه يتكلم مع أنه يقول كلاماً خطأً لتسجل ألفاظاً تُدِينه من خلالها، وتقول: أنت قلت كذا في كلامك، والمناقضة تظهر في أهل البدعة أثناء النقاشات؛ لأنه لا يوجد مبتدع إلا وتتناقض أقواله، فتجده يقول شيئاً، وبعد صفحات أو بعد مسافة زمنية يخالفه ويأتي بشيء آخر؛ لأنه ما دام الأصل فاسداً فلابد أن تضطرب أقواله، فعليك باكتشاف المتناقضات في أقوال المبتدعة أو المخطئين، أو الذين هم على ضلالة وأنت تناقشهم، وهذا ما كان يفعله علماء الإسلام في المناظرات، فمثلاً: من المشهورين بالمناظرات مع النصارى الإمام الباقلاني رحمه الله تعالى، وهو من أذكياء المسلمين وعلمائهم، وكان الخليفة قد أرسله إلى النصارى لمناقشتهم، فجاءوا له بالبطريك فاحتفى الباقلاني به واحتفل، ورحب وسأله أحسن سؤال وقال له: كيف الأهل والولد -طبعاً الراهب عندهم لا يمكن أن يتزوج، ولذلك هذا البابا ما عنده زوجة ولا أولاد، وفي الفاتيكان رهبانهم لا يتزوجون لأنهم يعتقدون حرمة ذلك- فـ الباقلاني لما جاء البطريك احتفى به واحتفل ورحب به ثم قال: كيف أهلك وأولادك؟ فعظم عليه وعلى الحاضرين من النصارى جداً، وتغيروا وقطبت وجوههم وقالوا: كيف تسأل عن أهله وأولاده؟ قال: وما تنكرون؟ قالوا: إنا ننزه هذا عن الصاحبة والولد، قال: يا هؤلاء! تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحب والولد وتربئون به عن ذلك، ولا تستعظمون لربكم عز وجل أن تضيفوا له هذه السوءة وهذا الكلام؟ فسقط في أيديهم، وبهتوا، وانكسروا، ولم يثيروا جواباً، أي: لم يرجعوا بجواب. ويروى أن يهودياً قال لـ علي رضي الله عنه: ما نفضتم أيديكم من تراب نبيكم حتى قلتم: منا أمير ومنكم أمير، فقال علي رضي الله عنه: وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر الذي جمده الله لموسى حتى قلتم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة: من الأسوأ الأعظم؟ وكذلك ما حصل في مناظرة الباقلاني مع النصارى وسؤال أحدهم الباقلاني قال: ما فعلت زوجة نبيكم وما كان من أمر الإفك هذا؟ فيريد أن يطعن في عائشة رضي الله عنها، فقال الباقلاني على البديهة مجيباً: هما امرأتان ذكرتا بسوء - مريم وعائشة - فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوجٍ ولم تأت بولد، ومريم أتت بولد ولم يكن لها زوج، فبهت النصراني. وذكر أن المقوقس قال لـ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما أرسل إليه، كيف الحرب بين محمد وبين المشركين؟ قال: سجال يدال عليهم ويدالون عليه، فقال المقوقس: أنبي الله يغلب؟ فقال حاطب: وابن الله يصلب؟ فسكت. ولما استعمل عمر رضي الله عنه المغيرة بن شعبة على أهل البحرين فكرهه بعضهم، فعزله عمر رضي الله عنه، فخافوا أن يرده إليهم فجاءوا إلى الدهقان يقولون: نخشى أن عمر يرد المغيرة أميراً علينا، ونحن لا نريده، فانظر ماذا تعمل في أمره؟ قال: اجمعوا مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر وأقول: إن المغيرة اختلس هذه الأموال ووضعها عندي أمانة، فجمعوا له مائة ألف درهم وأعطوها للدهقان فذهب إلى عمر في المدينة، وقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة الأمير الذي جعلته علينا اختلس مائة ألف وسرقها من الأموال العامة، وجئتك الآن أردها لك، فدعا عمر للمغيرة قال: ما يقول هذا؟ قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ قال: لا والله لأصدقنك، والله ما دفع إليَّ لا قليلاً ولا كثيراً، ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ما صنعت من الكلام؟ قال: إن الخبيث كذب عليَّ فأحببت أن أخزيه. ولما قال ملك النصارى للباقلاني: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قال: صحيح، انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحاضرون ومن اتفق معهم في النظر إلى القمر في ذلك الوقت، فقال الملك: وكيف ولم يره جميع الناس؟ -يعني: كل الناس في العالم ما رأوا انشقاق القمر- قال: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعدٍ من انشقاقه وحضوره -أي ليس كل الناس في العالم كانوا يتطلعون إلى القمر في ذلك الوقت- فقال الملك: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة أو قرابة؟ لأي شيءٍ يظهر لكم ولا يظهر لهم، ورأيتموه أنتم خاصة ولم يره بقية الناس؟ فقال الباقلاني: وهذه المائدة التي نزلت عليكم؛ هل بينك وبينها نسبة قرابة؟ فلماذا رأيتموها دون اليهود والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد واليونان جيرانكم، وهم ينكرون المائدة؟ فتحير الملك وقال: سبحان الله! ثم قال القاضي الباقلاني لقسيس عندهم: ألست تزعم أن الأرض كروية؟ قال: بلى. قال: أفتنكر أن يرى في هذا الإقليم ما لم يُرَ في إقليمٍ آخر؟ كالكسوف يرى في موضعٍ دون موضع، وكواكب السماء ترى في موضعٍ دون موضع، أم تقول: أن الكسوف يحدث لأهل الأرض كلهم؟ فقال القسيس: بل لا يراه إلا من كان في محاذاته، قال الباقلاني: كما أنكرت من انشقاق القمر إذا كان في ناحيةٍ لا يراه إلا أهل تلك الناحية ومن تأهب للنظر إليه، فأما من أعرض عنه وكان في مكانٍ آخر من الأرض لا يرى القمر منها كان عندهم نهار، أو بعد أن طلع القمر عندهم في ذلك الوقت فلا يرى، فقال: هو كما قلت، وسلم له. على أية حال المناظرات بين أهل الإسلام والنصارى، واليهود والمبتدعة، والمناظرات بين أهل السنة والمبتدعة كثيرة جداً وكلها دالة على اعتنائهم بتبليغ الدعوة وإقامة الحجة. والغرض من الحوار هو إقامة الحجة على الناس، وأما الحوار بين الإخوان فلابد أن يكون فيه اعتناء زائد بالأدب؛ لأن الله قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] فلا يصلح أننا إذا ناقشنا كافراً ونصرانياً تأدبنا وجلسنا نحاول في هداية الرجل، وإذا تناقشنا مع إخواننا المقربين ارتفعت الأصوات وهاجت العبارات وصار الكلام بلا حساب ولا ضبط. على أية حال فن المناظرات هذا يحتاج إلى درسٍ خاص لكي يتم معرفة محاصرة الخصم، وكيف يصل الإنسان إلى الإقناع ونحو ذلك، المسألة فيها مزيد من الكلام، لكن الكلام في الحوار وليس في المناظرة، واعلموا أيها الإخوة أن مسألة الحوار قد اتخذت في عصرنا ذريعة لإزالة الفوارق العقدية وتلميع الإسلام في الأرض، تارةً باسم الحوار بين الأديان، أو الصداقة الدينية، أو الملة الإبراهيمية ونحو ذلك، وأعداء الإسلام يعرفون جيداً أهمية إزالة الفوارق العقدية من نفوس المسلمين، حتى نقبلهم ونقبل ما يأتون به، وأنه لابد من أن تتحطم الحواجز العقدية في نفوسنا مثل بغضهم وكرههم، وإذا حطموا هذه الحواجز، دخل علينا منهم كل شيء، إخوة وأبناء عم ونحو ذلك من الكلام، فيهتمون بقضية حوار الحضارات، أو الحوار بين الأديان، فما هو مقصودهم من قضية الحوار بين الأديان؟ المقصود من قضية الحوار بين الأديان هو: السعي لإزالة الفوارق والحواجز بيننا وبينهم، وإذا زال الولاء والبراء، وزال كره الكافر والكفر، وكره اليهود والنصارى مع نفوسنا؛ إذا زال هذا الحاجز وصار بيننا محبة وأخوة وعلاقات حميمة وود؛ قبلنا ما يأتي منهم من الباطل بعد ذلك، ولذلك لابد أن نحذر من هذه المسألة حذراً شديداً. ثانياً: تحدث الآن حوارات في القنوات الفضائية يستضاف فيها أناس من المنافقين الذين يمثلون اتجاه فصل الدين عن الحياة، ويستضاف فيها أناس من المبتدعة، ويستضاف فيها أناس من أرباب الشهوات وهذا أمر خطير جداً لابد أن نحذر منه، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

آداب السواك

آداب السواك إن السواك من السنن التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من سنن الفطرة التي ينبغي المحافظة عليها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه ولا يتركه أبداً؛ لهذا كان لا بد من معرفة أحكامه وآدابه وما يستحب فيه، والمواضع التي يستحب فيها.

السواك معناه وحكمته وما ورد في فضله

السواك معناه وحكمته وما ورد في فضله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: ففي هذه المجموعة الثانية من الآداب الشرعية نتحدث -إن شاء الله- عن أدب السواك. قال أهل اللغة: السِّواك بكسر السين، وهو يطلق على الفعل -فعل التسوك- وعلى العود -الآلة- الذي يتسوك به. وهو مذكر وتؤنثه العرب أيضاً. قاله الأزهري. والسواك فعلك بالسواك، يقال: ساك فمه يسوكه سوكاً، وجمع سواك ليس مساويك جمعه سوك، مثل: كتاب كُتُب، سواك سُوك، وقيل: السواك مأخوذ من ساك إذا دلك، وقيل: من جاءت الإبل تساوك أي تمايل. وأما في اصطلاح العلماء فإن السواك هو: استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب الصفرة وغيرها عنها -عن الأسنان-. ويقال: ساك فمه بالعود يسوكه إذا دلكه. وهناك تخليل الأسنان، والفرق بين هذا وبين السواك أن تخليل الأسنان هو إخراج ما بينها من فضلات بالخلال، مثل العود ونحوه، فالفرق بين الاستياك والتخليل أن التخليل خاص بإخراج ما بين الأسنان، أما السواك فهو لتنظيف الفم والأسنان واللسان بنوعٍ من الدلك، فهو مطهر للفم عموماً، وأما التخليل بالعود وغيره فهو لإخراج البقايا المنحشرة بين الأسنان. وأما حكمته: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عنه: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) أي: سبب لتطهير الفم، وسبب لمرضاة الرب عز وجل، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي علقه البخاري ووصله أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب). وأما بالنسبة للأحاديث الواردة للحث عليه فهي كثيرة، منها هذا الذي تقدم في الحكمة منه، ومنها: حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي -أو على الناس- لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) لأمرتهم بالسواك، أي: باستعمال السواك. وقوله: (مع كل صلاة) جاء في رواية: (عند كل صلاة) وجاء في رواية: (مع كل وضوء).

حكم السواك

حكم السواك وقوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم) فانتفى الأمر لثبوت المشقة؛ لأن (لولا) في اللغة حرف امتناع لوجود، فامتنع الوجوب، لوجود المشقة، فهذه (لولا) في اللغة حرف امتناع لوجود، أي: يمتنع شيء لوجود شيء آخر لولا كذا لحصل كذا. وهذا فيه دليل على أن السواك في الأصل ليس بواجب؛ لأن المشقة في إيجابه نفت وجوبه، إذ الندب في هذه الحالة هو المفهوم. وقوله في حديث آخر: (لفرضت عليهم) بدل (لأمرتهم) يبين هذا، قال الشافعي رحمه الله تعالى: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمرهم، شق عليهم به أو لم يشق. إذاً: القول بعدم وجوبه صار قول أكثر أهل العلم، بل ادعى بعضهم فيه الإجماع، لكن حكي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: هو واجب لكل صلاة. عند الصلاة يكون واجباً، وعن داود الظاهري أنه واجب للصلاة ولكنه ليس شرطاً، وأما إسحاق فإنه قال: هو شرط، واحتج من قال بوجوبه بالأمر به، كما جاء في حديث ابن ماجة: (تسوكوا) وفي الموطأ: (عليكم بالسواك) لكن قال ابن حجر رحمه الله: ولا يثبت منها شيء. أي: هذه الأوامر لم تثبت في أحاديث صحيحة. إذاً: القول بالندب هو قول المذاهب الأربعة، وأما من قال بالوجوب كـ إسحاق وداود، واحتج بظاهر الحديث فليس قوله بقوي. ومن العلماء من قال بكراهته للصائم بعد الزوال، أي: إذا استاك الصائم بعد الزوال، كما هو عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، ولكن هذا القول ليس بقوي، وأكثر العلماء -وهو التحقيق- أنه لا يكره في الصيام لا قبل الزوال ولا بعد الزوال، وعمدة الذين يقولون بالكراهة بعد الزوال قالوا: لأنه يزيل الخلوف الذي هو من مميزات الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. فأجيب عن هذا: بأن هذا الخلوف من خلو المعدة، والسواك لا يزيل ما يخرج من المعدة ولا يدخل المعدة، فمصدر الخلوف من المعدة، وهذا السواك للأسنان، فهو يزيل وسخ الأسنان ولا يزيل الخلوف الذي بسبب خلو المعدة من الطعام. ثم استدل بعضهم بقوله: (عند كل صلاة) على استحبابه للفرائض والنوافل؛ لأن قوله: (عند كل صلاة) يشمل كل الصلوات، الفريضة والنافلة، ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعاً لغيرها، بمعنى: أنه إذا كان قبل الظهر أربع وبعدها اثنتان، فيصليها مباشرة، فالسواك لهذه كلها واحد، فيتسوك سواكاً واحداً للصلاة في السنة الراتبة والفريضة والسنة التي بعدها، وكذلك سنة المغرب لا تحتاج إلى سواك منفصل، وسنة العشاء، لكن هب أن هناك سنة منفصلة عن الفرض لا علاقة لها به، مثل صلاة العيد، فعند ذلك يكون السواك لها وجيهاً؛ لأنها صلاة نافلة ليست تبعاً لغيرها. وجاء في رواية عند أحمد: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون) وفي رواية: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك) فسوى بينهما. وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة إلا إذا طال الفصل كما قال بعضهم، أو قالوا: لا يندب الوضوء إلا إذا دخل وقت الصلاة الجديدة؛ فلذلك لا يندب أن تتوضأ إذا لم ينتقض وضوءك بعد الظهر مثلاً إلا إذا دخل وقت صلاة العصر، فعند ذلك يكون تجديد الوضوء سنة ومستحباً، ولا يشرع لك ولا يندب أن تجدد الوضوء من غير ناقض داخل وقت الصلاة الواحدة. فإذا ربطنا السواك بالوضوء سنخرج بنتيجة أيضاً: أن السواك للصلاة الفريضة وما يتبعها من تحية المسجد والسنن النوافل -مثلاً- لا يندب كالوضوء، ويمكن أن يقال: إن الوضوء أشق من السواك. وقد جاء عند ابن ماجة من حديث ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ثم ينصرف فيستاك) وإسناده صحيح، لكن هذا بالبحث -كما ذكر ابن حجر رحمه الله- يتضح أنه مختصر من حديث طويلٍ رواه أبو داود، بين فيه أنه تخلل بين الانصراف والسواك نومٌ، أي: أن حديث ابن ماجة المذكور هنا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ثم ينصرف فيستاك) فيه اختصار من حديثٍ آخر يبين أنه تخلل الانصراف من الركعتين والسواك نوم، فلما قام من النوم صار هناك وجاهة للسواك، كما أنه إذا قام من النوم سيتوضأ.

الحكمة من استحباب السواك عند كل صلاة

الحكمة من استحباب السواك عند كل صلاة والحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة: كون الصلاة مناجاة للرب عز وجل، فاقتضى أن تكون على حال كمال ونظافة إظهاراً لشرف العبادة وهي الصلاة. ومن الفوائد أيضاً: أن الأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي؛ فإنه قد جاء في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم: (أن الإنسان إذا قام فتسوك وتطهر وصلى وقرأ القرآن، لا يزال الملك يدنو منه حتى يضع فاه على فيه -حتى يضع الملك فاه على فم المصلي- فلا يخرج منه قرآن إلا دخل في جوف الملك). إذاً: حتى يكون الملك غير متأذٍ، فإن السواك يفيد بالإضافة للأدب مع الرب الأدب مع الملائكة. وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه قد أكثر علينا في السواك فقال: (أكثرت عليكم في السواك) أي: بالغت في تكرير طلبه منكم وإيراد الأخبار المرغبة فيه؛ فحقيق أن تفعلوا ما دام أني قد أكثرت عليكم ورغبتكم فالمتوقع منكم أن تفعلوا، وحديث: (أكثرت عليكم في السواك) رواه البخاري رحمه الله تعالى. إذاً: السواك عند كل صلاةٍ مندوبٌ إليه.

السواك من سنن الفطرة

السواك من سنن الفطرة ولا ننس أن السواك من سنن الفطرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (عشرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم -وهي العقد التي في الأصابع ويمكن أن تحتشي فيها الأوساخ- ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -أي: الاستنجاء- قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) الحديث رواه مسلم. إذاً: السواك من سنن الفطرة.

وقت استعمال السواك عند الوضوء

وقت استعمال السواك عند الوضوء أما بالنسبة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي رواية: (عند كل وضوء) فنحتاج أن نعرف متى يستعمل السواك. اتفق أهل المذاهب الأربعة على أن السواك سنة عند الوضوء، لكن اختلفوا هل هو من سنن الوضوء، أم سنة منفصلة عن الوضوء؟ وهذا التفريق ليس من ورائه طائل كبير فذهب الحنفية والمالكية وهو رأي عند الشافعية: أن الاستياك سنة من سنن الوضوء؛ لأنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) وفي رواية: (لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء). وقال الحنابلة -وهو الرأي الأوجه عند الشافعية-: أن السواك سنة خارجة عن الوضوء، متقدمة عليه وليست منه، إذاً: متى تفعل؟ تفعل قبل الوضوء، والمذاهب الأربعة متفقة على أن السواك قبل الوضوء. ماذا يترتب على هذا الخلاف؟ ذكرنا أن هناك خلافاً هل هو من سنن الوضوء، أم هو منفصل عن الوضوء، فماذا يترتب على الخلاف من الناحية العملية؟ العلماء متفقون على أنه قبل الوضوء، لكن لو كان من سنن الوضوء فمعنى ذلك أن نقول: باسم الله، ونتسوك ثم نغسل الكفين، ولو أنه ليس من سنن الوضوء فنتسوك ثم نقول: باسم الله، ثم نغسل الكفين. فهل هو قبل التسمية أو بعدها؟ هذا هو فائدة الخلاف أو ثمرة الخلاف من الناحية العملية، والمسألة سهلة إن شاء الله. فإذا قلنا: إنه خارج عن الوضوء -سنة منفصلة- فإنك إذا أردت أن تطبق السنة وتأخذ أجر تطبيق السنة فتستاك أولاً، ثم تسمي الله، ثم تشرع في غسل الكفين. وماذا لو تيمم أو اغتسل؟ إذا كان التيمم بديلاً عن الوضوء فأن الاستياك يشرع حتى ولو تيمم، وتبعاً لهذا فإنه يستاك قبل التيمم؛ قبل أن يبدأ بضرب الكفين على الأرض، وكذلك في الغسل قبل أن يفيض الماء عليه. وماذا بالنسبة للصلاة؟ ذكرنا قبل قليل أن الاستياك للصلاة فرضها ونفلها، وذكرنا التفصيل في قضية الوقت، ولو نسي قبل الفريضة وتذكر قبل الراتبة التي بعد الفريضة فماذا يفعل؟ أي: واحد نسي التسوك قبل الفريضة، ولما انتهى من الفريضة وأراد أن يصلي السنة الراتبة التي بعد الفريضة -بعد المغرب أو العشاء أو الظهر- فإنه يستاك بعد الفريضة وقبل الراتبة.

مواضع يستحب فيها السواك

مواضع يستحب فيها السواك وهناك أمورٌ أخرى يستحب لها السواك، مثل: قراءة القرآن ولو كان خارج الصلاة، وألحق العلماء بهذا الأمر قراءة الحديث أو حضور مجالس العلم، حتى قال بعضهم: يستحب في سجدة التلاوة؛ لأنها من جنس الصلاة، وقد اشترطوا لها الوضوء واستقبال القبلة وستر العورة -وهم الجمهور- قياساً على الصلاة، فقالوا: حتى إذا أراد أن يسجد للتلاوة يستاك، لكنهم قالوا: محلها بعد فراغ الآية وقبل سجدة التلاوة، لذا كان خارج الصلاة، فالسواك قبل الصلاة. ويستحب عند ذكر الله عموماً، قال بعضهم: يندب أن يزيل وسخ الفم وقلح الأسنان بالسواك لذكر الله تعالى، والملائكة تحضر مجالس العلم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كانوا يحضرون مجالس العلم فإن السواك من آداب مجالس العلم، ولأن الملائكة يحضرون الميت قالوا: لو تسنى للمحتضر أن يستاك فليستك، وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام تسوك قبيل موته، فقالوا: إذا تمكن المحتضر من الاستياك أو أشار أن يعطوه سواكاً فليعطوه قبل الموت، فالملائكة تحضر، حتى قالوا: إنه يسهل خروج الروح ونحو ذلك، وهذا الله أعلم به وهو من أمور الغيب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه استاك وهو يحتضر. ويستحب كذلك الاستياك عند قيام الليل، وسيأتي الحديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب -أيضاً- الاستياك لمجامع الناس؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى الناس، خصوصاً إذا كان قادماً من سفر وهناك معانقة كأن يسلم على عالم مثلاً، ويقترب منه، ويضع وجهه قبل وجهه، أو سائل يسر إلى عالمٍ بشيء أو نحو ذلك. وكذلك عند الذهاب إلى المسجد، فإنه من تمام الزينة، والمسجد فيه اجتماع الملائكة واجتماع الناس، وتطييب الرائحة فيه مؤكد. وقالوا أيضاً: إن السواك مستحب للالتقاء بالأهل، ودليله قوي وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك) الحديث رواه مسلم فيتزين للقاء زوجته وأهله كما يحب أن تتزين له، ولذلك قالوا: حتى عند الجماع؛ لأن فيه ملامسة الرجل المرأة والاقتراب منها، وكذلك عند القيام من النوم لتغير رائحة الفم، وإذا تغير بعطشٍ أو جوعٍ أو اصفرار أو غير ذلك، ويستعمل السواك عند الفراغ من الطعام أيضاً. وعموماً حديث: (السواك مطهرةٌ للفم مرضاة للرب) معناه: في أي وقتٍ من ليل أو نهار يمكن أن يستعمله.

مسائل متفرقة في السواك

مسائل متفرقة في السواك وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية التسوك أشياء فمن ذلك:

إمرار السواك على اللسان

إمرار السواك على اللسان وهي سنة مجهولة عند كثيرين، عن أبي بردة عن أبيه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يستن بسواكٍ بيده يقول: أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع) رواه البخاري. ومعنى يستن: من السِّن أو من السَّن، بكسر السين من السِّن؛ لأن السواك يمر على الأسنان، وبالفتح يقال: السَّن؛ لأنه يسن الأسنان أي يحدها، فيكون مأخوذاً من سن السكين وسن المقص، وهذا السواك يسن الأسنان. وقوله: (أع) يسمى في اللغة: حكاية فعل، الراوي يريد أن يحكي ما هو الصوت الذي صدر من النبي عليه الصلاة والسلام. فجعل السواك على طرف لسانه، والمراد الطرف الداخل وليس الطرف الخارج، كما جاء في رواية أحمد: (يستن إلى فوق) ولهذا قال هنا: كأنه يتهوع، أي: يتقيأ، له صوتٌ كصوت المتقيئ، كما ذكر في الحديث، فيستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولاً، وهذه سنة مجهولة، فلا يقتصر على الأسنان، بل يسوك اللسان طولاً حتى يدخل إلى الداخل حتى كأنه يتهوع. ففيه أن السواك لا يختص بالأسنان، وإنما يشمل اللسان أيضاً، وأن التنظيف والتطييب فيه إزالة الأذى عن كل ما هو داخل الفم.

التسوك عند الاستيقاظ من النوم

التسوك عند الاستيقاظ من النوم وقد كان عليه الصلاة والسلام يستاك ليلاً، ويحضر له سواكه، وقد جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً سأل عائشة رضي الله عنها فقال: (أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألست تقرأ (يا أيها المزمل)؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء -إذاً: سورة المزمل نزلت على دفعتين بينهما سنة- حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة، قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كنا نعد له سواكه -فالمرأة من برها بزوجها وإعانتها له على العبادة وعلى تطبيق السنة أن تعد السواك لزوجها- قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه -وهذه إحدى الكيفيات لقيام الليل- فيقرأ ويقوم الليل). وأيضاً جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فاستيقظ وتسوك وتوضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ) الحديث رواه مسلم. وهذا فيه سنة مهجورة أو مجهولة، وهي قراءة آيات آل عمران عند القيام من النوم، فبعد القيام من النوم يتسوك ويتوضأ ويقرأ الآيات ثم يفتتح صلاة الليل فمتى تكون قراءة آيات آل عمران؟ بعد السواك والوضوء يقرأ آيات آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190] إلى آخر السورة، ثم ويكبر ويصلي قيام الليل، والحديث في صحيح مسلم. وإذا تكرر نومه واستيقاظه فيكرر قراءته لها، ولو نام يكرر أيضاً السواك، فلو أن رجلاً قام وقرأ الآيات وصلى، ثم نام، ثم قام قبل الفجر وأراد أن يصلي فإنه يقرأ، كما جاء في روايةٍ أخرى عند مسلم: عن ابن عباس: (أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء ثم تلا هؤلاء الآيات من آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران:190]، حتى بلغ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية) فإذاً: لو تكرر القيام يكرر هؤلاء الآيات. وفيه سنة أخرى وهي: النظر إلى السماء عند تلاوة الآيات، كما ذكر النووي رحمه الله: يستحب السواك عند الاستيقاظ في الليل مع النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190] وهو ينظر إلى السماء. وقد جاء في كيفية السواك في الليل حديث حذيفة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) رواه البخاري. (يشوص) هو الغسل والتنظيف والتنقية، وقيل: هو الإمرار على الأسنان من أسفل إلى فوق، وهو مأخوذ من الشوصة، وهي ريح ترفع القلب عن موضعه، وقيل: هو دلك الأسنان بالسواك أو الأصابع عرضاً، وهذا عكس الأول فهذه من الأقوال في الشوص، فإذا أراد أن يفعله طولاً أو يفعله عرضاً فله ذلك كله؛ لأن المقصود أن يحصل التطييب والتنقية. وهذا فيه فضل السواك عند القيام من النوم؛ لأن الفم يكون متغير الرائحة لتصاعد الأبخرة من المعدة، والسواك آلة للتنظيف. وقوله: (من الليل) عام في كل حالة، فلو نام شخص في النهار حتى في القيلولة، وقام وقد تغيرت رائحة الفم فإنه يستاك، ولكن يتأكد إذا قام من الليل للصلاة فإن الملك يأتي، وفيها مناجاة الرب، فيتأكد أكثر، ويكون به كمال الهيئة والتأهب للصلاة، وهو يدل على طول القيام. وقوله: (إذا قام للتهجد) أي: لعادته، وقد سبق التنبيه إلى أن التهجد لا يسمى تهجداً إلى إذا كان بعد نوم، أما قيام الليل فيسمى قياماً ولو لم يسبقه نوم، فلو قام بعد صلاة العشاء بعدما صلى الراتبة يصلي الوتر أو قيام الليل، فإنه يسمى قيام ليل، لكن لا يسمى تهجداً إلا إذا سبقه نوم، وقام من النوم إلى الصلاة.

دفع السواك إلى الأكبر

دفع السواك إلى الأكبر ومن السنن المتعلقة بالسواك: ما عنون له البخاري رحمه الله في صحيحه: باب دفع السواك إلى الأكبر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما) رواه البخاري. قوله: (أراني) من الرؤية، وفي رواية: (رأيت في المنام) وعلى هذا فيكون من الرؤيا بالألف، (فقيل لي) القائل هو جبريل عليه السلام، (كبر) أي: قدم الأكبر في السن، وجاء هذا الحديث عند أحمد والبيهقي بلفظ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن فأعطاه أكبر القوم ثم قال: إن جبريل أمرني أن أكبر) وهذه الرواية تقتضي أن القصة هذه وقعت يقظةً، والذي قبلها يفهم منها أنها وقعت في المنام، فكيف نجمع بينهما؟ نقول: إن ذلك لما وقع في اليقظة أخبرهم عليه الصلاة والسلام بما رآه في المنام تنبيهاً على أن أمره بذلك بوحي متقدم. وجاء بإسنادٍ حسنٍ عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأوحي إليه أن أعط السواك الأكبر) وفي هذا احترام كبير السن وتقديم ذي السن في السواك. وهنا في كلام ابن بطال رحمه الله في شرح صحيح البخاري جوابٌ على سؤالٍ يرد كثيراً: بمن نبدأ؟ قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، فإذا كان عندك جماعة يريدون أن يتحدثوا فإنه يبدأ الأكبر فيهم، وإذا أردت أن تدخل مع أحد من الباب وهو الأكبر قدِّم الأكبر، وإذا أردت أن توزع أشياء على أشخاص كأن تريد أن تعطي شراباً في المجلس فابدأ بالأكبر ثم من عن يمينه، لتجمع بين هذا وهذا، لكن إذا لم يكونوا مترتبين في الجلوس، كأن يكونوا واقفين وجئت ومعك إناء لبن فإنك تعطي الأكبر، فإذا ترتبوا في المجلس فالسنة تتعين إعطاء الأيمن، قال بعضهم: أيمن الأكبر، أي: يبدأ بالأكبر، ثم من عن يمينه، كما قدم للنبي عليه الصلاة والسلام الإناء فأعطى الأعرابي ولم يعط أبا بكر؛ لأن الأعرابي كان عن يمين النبي عليه الصلاة والسلام، هذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذٍ تقديم الأيمن، وقد أقر ابن حجر هذا الكلام بقوله: وهو صحيح.

جواز التسوك بسواك الغير بإذنه

جواز التسوك بسواك الغير بإذنه والحديث السابق فيه إشارة إلى مسألة، وهي التسوك بسواك الغير (أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان فناولت الأصغر فقيل: كبر، فدفعته للأكبر) لذلك أخذوا منه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، إلا أن المستحب أن يغسله ثم يستعمله، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك ثم أغسله ثم أدفعه إليه) ترجو بركة ريقه. إذاً: من السنن غسل السواك، فكان يعطيها السواك لتغسله فتستاك به ثم تغسله ثم تناوله إياه، وهذا يدل على عظيم أدبها وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداءً حتى لا يفوتها الاستشفاء أو التبرك المشروع بريقه صلى الله عليه وسلم، ثم غسلته تأدباً وامتثالاً لما أمرها به صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد غسل السواك: تليينه بعد جفافه؛ لأن السواك يتعرض للجفاف، فالغسل يفيد في تنظيفه وتليينه، وهذه سنة الغسل؛ لأن التسوك بالسواك الجاف يسبب جرح اللثة وخروج الدم. وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه: باب من تسوك بسواك غيره وساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم -وكان في حجر عائشة في آخر العمر عند وفاته- فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: -تقول عائشة لأخيها-: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن! فأعطانيه فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مستند إلى صدري) رواه البخاري. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام استعمل سواك غيره بإذنه، فدل على أن استعمال سواك الغير بإذنه لا حرج فيه، لكن يغسل أولاً ثم يستعمله، أو يقص مكان الاستعمال ثم يستعمله بعد ذلك، كما بينت ذلك بقولها: (فقصمته) أي: كسرته، قال بعضهم: (قضمته) بالضاد، وهو الأكل بأطراف الأسنان، فيحمل الكسر على كسر موضع الاستياك، ولا ينافي حصول الثاني وهو القضم، فتعيين عائشة موضع الاستياك بالقطع والمضغ حتى يلين، وريق الزوجة لزوجها والزوج لزوجته حاصل، فقد كان عليه الصلاة والسلام يمص لسان عائشة رضي الله عنها. والنبي عليه الصلاة والسلام مع كونه في هذه الحالة، في فراش الموت، والمرض الذي شغله، لكنه ما نسي السواك، وهو لم يستطع أن يتكلم فأشار، أو أنه لم يرد أن يتكلم فأشار وفهمت عائشة الإشارة؛ ودلَّ ذلك على التمسك بالسواك حتى في المرض، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً عليه حتى في مرضه، وقد جاء عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عبد الرحمن على النبي عليه الصلاة والسلام وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره -أي: مد نظره إلى السواك- فأبدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك -هذه عائشة عندها فطنة وانتباه وذكاء- فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استناناً قط أحسن منه -استعداداً للقاء الملأ الأعلى- فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إصبعه ثم قال: في الرفيق الأعلى ثلاثاً، ثم قبض، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي) وقالت: [مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري] والسحر هو: الرئة، يقال: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته، ويكون ذلك من الخوف وغيره. فإذاً: حصل ذلك الاستياك على مشارف خروج روحه عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك تهيئاً للقاء ملك الموت وملائكة الرحمة.

الوضوء بالماء المنقوع فيه السواك

الوضوء بالماء المنقوع فيه السواك ومما يتعلق بالسواك: ما جاء عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه أمر أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه، والمقصود به التطهر، والمقصود بفضل السواك الماء الذي يبقى. قال بعضهم: إن الوضوء بفضل الماء المنقوع فيه السواك هو المقصود بحديث جرير، أي: إن وضع السواك في الماء لا يغير الماء بل يبقى على الطهارة، فإذا استعمله فلا بأس بذلك: [توضئوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي] كما جاء في رواية، فلو توضأ إنسان من ماءٍ وضع فيه سواك شخصٍ آخر فلا حرج في ذلك، وكان جرير يقوله لزوجته.

السواك ليوم الجمعة والتسوك للمرأة

السواك ليوم الجمعة والتسوك للمرأة السواك ليوم الجمعة من الأمور المؤكدة؛ لما خصت به الجمعة من طلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب، ويناسب ذلك تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يؤذي الملائكة وبني آدم. وأما بالنسبة للمرأة فإن السواك لها أيضاً، وليس هو من خصائص الرجل، ومما يدل على ذلك حديث مسلم عن عروة بن الزبير قال: [كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن] أي: تتسوك؛ لأن السواك له صوت.

آلة السواك

آلة السواك يتسوك بكل عودٍ لا يضر وقسمه بعض الفقهاء إلى أربعة أقسام بحسب أفضليته، فاتفقوا على أن أفضلها هو الأراك -عود الأراك المعروف المشهور- لما فيه من طيبٍ وريحٍ وتشعيرٍ، فهذا النوع فيه تشعير، فشعرات السواك هي التي تخرج ما احتشى في الأسنان وتنقي، وقد جاء في حديث وفد عبد القيس أنه أمر لهم بأراك وقال: (استاكوا بهذا) وفي إسناده من تفرد به. ويليه بعد ذلك جريد النخل، وقيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد تسوك به، وهذا يحتاج إلى إثبات الحديث. ثم يليه ما أخذ من شجر الزيتون لأنها شجرة مباركة. ثم بعد ذلك بكل ما له رائحة طيبة ولا يضر، من قضبان الأشجار الناعمة التي لا تضر ولها رائحة طيبة، فالمقصود: أي شيء يحصل به التطييب والتنظيف. فإن قيل: فرشاة الأسنان؟ ف A فرشاة الأسنان يحصل بها المقصود من جهة التنظيف والتطييب؛ لأن الشعيرات هذه هي شعيرات بلاستيكية أو مصنوعة من نايلون أو غيره من المواد الصناعية، فيحصل بها المقصود، لكن إذا قال قائل: ما هو الأفضل السواك أم فرشاة الأسنان؟ الجواب: السواك أفضل، فإن قال: أجمع بينهما؟ نقول: خيرٌ على خير اجمع بينهما، خصوصاً أن بعض المعاجين قد يكون فيها علاج أو تقوية، لكن هؤلاء الكفار اكتشفوا أن السواك فيه مواد مقوية للثة، حتى جعلوا معاجين أسنان مستخلصة من السواك. ويكره الاستياك بكل عودٍ يدمي، مثل: الآس والطرفاء، أو يحدث ضرراً مثل الرمان أو الريحان كما قال بعضهم، وهذا يعرف بالاستعمال والتجربة. ويحرم الاستياك بكل عودٍ سام، ويستحب أن يكون السواك عوداً متوسطاً في غلظ الخنصر وهو أنحف أصابع اليد، خالٍ من العقد، لا رطباً يلتوي، ولا يابساً يجرح، وألا يتفتت في الفم، أن ويكون ليناً، ليس في غاية النعومة ولا غاية الخشونة، وهذه مسألة تعرف بالتجربة، فالواحد يختار السواك الذي فيه الفائدة. وأما بالنسبة للعلك؛ فإن بعض العلك يمكن أن يؤدي شيئاً من الدور في التنظيف أو التقوية، ولكنه لا يؤدي كل الوظيفة، خصوصاً أنه لا يزيل ما احتشى بين الأسنان، أما الاستياك بالإصبع فقد تكلموا أنه لا بأس به، فإذا ما وجد الإنسان سواكاً بعد الأكل فإنه يغسل إصبعه ويدلك بها أسنانه فهم تكلموا عن مسألة الاستياك بالإصبع عند عدم وجود غيره.

هل يمسك السواك باليمنى أو اليسرى؟

هل يمسك السواك باليمنى أو اليسرى؟ بعضهم يستحب إمساك السواك باليمنى؛ لأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) جاء في رواية: (وسواكه) لكن بعض العلماء فصل في هذا فقال: إذا كان عند الصلاة وعند الوضوء استعمل اليمنى، وإذا كان لمجرد التنظيف، تريد أن تنظف أسنانك فقط لا عند وضوء ولا عند صلاة ولا عند قيام الليل فاجعله باليسرى. وإذا كان المقصود به العبادة وكان على مشارف العبادة فباليمنى، وإذا كان لمجرد التنظيف، فالتنظيف مثل: الاستنجاء والاستنثار من الأنف، فيكون باليسرى، والمسألة واسعة.

كيف يكون الاستياك؟

كيف يكون الاستياك؟ يكون الاستياك طولاً أو عرضاً، ولا بأس بذلك، لكن استعماله طولاً ثبت في السنة في اللسان، واستعماله طولاً في الأسنان وارد لكنه يجرح اللثة، وقد ورد حديث أنه كان يستاك عرضاً ولا يستاك طولاً، لكنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيتبع ما يريح الإنسان ويؤدي القصد، فإذا كان الاستياك عرضاً على الأسنان أنفع وطولاً على اللسان كما ثبت في السنة فليكن ذلك. ومن لا أسنان له فله أن يستاك على اللثة واللسان وسقف الحلق؛ لأن تغيير الرائحة حاصل حتى في هذا. ويستحب ألا يستاك بحضرة الجماعة؛ لأنه ينافي المروءة، ولعل من الأحسن ألا يكون في حال التنظيف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام استاك أمام الآخرين، وجاءه مرة ناس يكلمونه، وطلب واحد منهم عمل، فقلصت شفته على السواك عليه الصلاة والسلام، وامتعظ من الطلب، فقد كان يتسوك وقلصت شفته على السواك. أما الاستياك في المسجد فينبغي أن يحذر منه الذين يفتتون بقايا السواك في المسجد، فإن هذا ليس من الأدب؛ لا بحضرة الناس ولا في بيت الله، بل هو من قلة الأدب، والإخلال بالمروءة، والإسلام دين يراعي كل هذه الأشياء. ويحفظ السواك بعيداً عما يستقذر؛ لأن بعض الناس يضعونه في الأماكن المكشوفة، ويلقيه بأي مكان ثم يأخذه ويستاك به، وربما يكون علق به من الأوساخ ما علق، ولذلك يغسله في هذه الحالة ويكرر التسوك حتى تزول الرائحة ويطمئن إلى النظافة، ولا حد لأكثره، وأقله بحسب ما يحصل به المقصود. ومن السنة أن يبدأ باليمين -يمين الفم- قبل الشمال للعموم في التيامن، وإذا عرف من عادته إدماء السواك فمه استاك بلطف. فإذا كان أحد يعرف أنه مجرد ما يستعمل السواك على اللثة ينزل دم لضعفها، فليستك بلطف، وإذا لم يتمضمض فلا يستك قبل الصلاة إذا كان يعلم أنه يخرج دم، فلا يستك على اللثة، بل يجعله على اللسان والأسنان. هذه بعض الأمور المتعلقة بالسواك. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

آداب الصحبة

آداب الصحبة إن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن يكون له أصدقاء وإخوان؛ لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، وقد جاءت أحاديث في السنة النبوية تدل على فضل الأخوة وعِظَم منزلتها إذا كانت خالصة لله تعالى ليس فيها أي غرض من أغراض الدنيا، وإن أفضل طريقة لدوام الصحبة والمحافظة عليها هي الالتزام بآداب الصحبة، والتي ذكر الشيخ منها في هذا الدرس آداباً كثيرة.

أهمية الالتزام بآداب الصحبة

أهمية الالتزام بآداب الصحبة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة أيها الإخوة عن أدب آخر من الآداب الشرعية ألا وهو "آداب الصحبة". وآداب الصحبة كثيرة, والصحبة ولا شك من الأمور المهمة للغاية, فإن الإنسان اجتماعي بطبعه ولا بد أن يكون له إخوان وأصحاب و (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى قد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه خيراً فقال الله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] وقال سبحانه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] وإذا كان الإنسان على دين خليله فلا بد أن يكون لهذا الخليل صفات تجعل مصاحبته في مرضاة الله سبحانه وتعالى, والصاحب يؤثر في صاحبه ولا شك، وقد أوصى أهل العلم بوصايا فقال أحدهم: لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه وللقلب من القلب دليل حين يلقاه ولا شك أن الاعتناء بآداب الصحبة يربط الإخوان ببعضهم البعض, ويجعل المسلمين جسداً واحداً كما يريد الله سبحانه وتعالى، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وإذا اعتنى الإنسان بإخوانه فصفت العشرة ودامت المودة، وأصبح المؤمنون كالجسد الواحد؛ كان ذلك بناء عظيماً للمجتمع الإسلامي، وسداً منيعاً في وجه الشرّ وأهل الكفر.

آداب الأخوة

آداب الأخوة فتعالوا بنا نستعرض بعض آداب الأخوة التي ذكرها بعض أهل العلم, فمن آداب الأخوة: أولاً: حسن الخلق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير ما يُعطَى الإنسان خلق حسن, كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالطة الناس بالخلق الحسن, فقال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن) وهو اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن حسن الخلق يولد الأخوة ويؤلف الطباع. ومن آداب الصحبة أيضاً أن تعطي كل أحد من الذين تصاحبهم حقه على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم, قال بعض أهل العلم: للمعاشرة أوجه، فللمشايخ والأكابر بالاحترام والخدمة والقيام بأشغالهم, وللأقران والأوصاف بالنصيحة وبذل الموجود، وللتلاميذ بالإرشاد والتأديب، والحمل على ما يوجبه العلم وآداب السنة. ومن آداب الأخوة كذلك: الإغضاء عن العثرات, فعثرات الإخوان لا بد من حصولها, والصفح عنها من قيم الصاحب المؤمن, قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان" وكما يحب الإنسان أن يعامل إذا أخطأ بالصفح والتغافر فينبغي كذلك أن يعامل إخوانه, قال ابن الأعرابي: "تناسَ مساوئ الإخوان يدم لك ودهم ". ولا شك أن الذين لا يتناسون عثرات إخوانهم يقعون في مأزق عندما يفقدونهم الواحد تلو الآخر, والله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] ما هو الصفح الجميل؟ الذي ليس فيه تقريع ولا تأنيب وإنما هو معاتبة للرفيق, والمؤمن يألف ويؤلف, ومن الأشياء التي تجعل الإنسان يؤلف أن يتغاضى عن عثرات إخوانه. وكذلك من الآداب: ستر عيوب الإخوان وتحسين عيوبهم, فبعض الناس قد يجد في أخيه عيباً؛ فالموقف أن يحاول إصلاح عيبه، وأن يرشده إلى الطريقة التي به يقوم عيبه, ويستر عيوبهم؛ بمعنى أنه لا يشيعها ولا يتطلبها, ولذلك قال بعض السلف: المؤمن يطلب معاذير إخوانه, والمنافق يطلب عثرات إخوانه, وينبغي على الإنسان إذا أخطأ أخاه أن يلتمس له الأعذار الكثيرة، وإذا لم يقبل عذره فليتهم نفسه، كيف تطلب كل هذه الأعذار ثم لا تقبلها؟ ومن آداب الأخوة: أن يعاشر من يوثق بدينه وأمانته في الظاهر والباطن؛ لأن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ولذلك لا خير في مصاحبة أهل الدنيا؛ لأن أهل الدنيا يدلون على طلبها وجمعها ومنعها, ولا شك أن هذا يبعد الإنسان عن سبيل النجاة، وإنما يعاشر أهل الخير ومن يدله على طلب الآخرة، ولذلك أوصى بعضهم صاحباً له يريد مفارقته بقوله: "عليك بصحبة من تسلم منه بظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته أي: رؤيته تذكرك بالله، هذا الذي تحرص على صحبته. وكذلك من آداب الصحبة: ألا يحسد إخوانه على ما يراه من النعم عندهم, لأن الله سبحانه وتعالى قد فاوت بين العباد في الأرزاق والعطيات، والمواهب والأموال، ونحو ذلك, فينبغي على الأخ إذا آخى أخاً له ألا يحسده على نعمة عنده, وأن يحمد الله سبحانه وتعالى أن وهبها الله لأخيه, والله عز وجل قال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا). وكذلك من آداب الصحبة: ألا يواجه أخاً من إخوانه بما يكرهه, فإذا كان يكره أمراً معيناً فلا يواجهه به، ما لم يكن في ذات تلك المواجهة مصلحة له أو نصيحة في الدين. ومن آداب الصحبة: ملازمة الحياء مع الأخ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان) وقال عليه الصلاة والسلام: (استحي من الله كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك) بل استحي من الله أعظم مما تستحي من رجل صالح من قومك, لكن ضربه مثلاً للتقريب. وكذلك من آداب الأخوة: بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وإسقاط الكبر. ومن آداب الأخوة: ألا يصحب إلا عاقلاً وعالماً، وحليماً تقياً فإن صاحب العقل مهم, بالإضافة إلى كونه صاحب دين. وكذلك من آداب الأخوة: سلامة الصدر للإخوان والأصحاب، والنصيحة لهم، وقبول النصيحة منهم, وأن يكون كما قال الله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] وأن يكون صاحب صدر سليم؛ خال من الأحقاد والضغائن على إخوانه. وكذلك من آداب الأخوة: ألا يخلف الإنسان وعده, إذا وعد أخاه لا يخلفه؛ لأن إخلاف الوعد من علامات النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث وذكر منها إذا وعد أخلف) وقال الثوري رحمه الله: "لا تعد أخاك موعداً فتخلفه فتستبدل المودة بغضه " يحل محل المودة البغض, وقال نصر المروزي رحمه الله: يا واعد الوعد الذي أخلفا ما الخلف من سيرة أهل الوفا ما كان ما أظهرت من ودنا إلا سراجاً لاح ثم انطفا ومن آداب الأخوة: أن يصحب من يستحي منه ويحتشمه وقال بعضهم: أحب الطاعات بمجالسة من يستحيا منه, وقالوا كذلك: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشم, وما المقصود بصحبة من لا تحتشم أي: الذي لا تستحي أن تفعل أمامه من المنكرات ما شئت, هذا لا تصحبه, لأنك مهما فعلت من الأخطاء والمنكرات فإنك لا تشعر بالحشمة. لا تحتشم أي: لا تقيم له وزناً, احرص على مصاحبة الشخص الذي تستحي من فعل أو قول المنكر أمامه، احرص على مصاحبة الشخص الذي تحتشم وتحرص على ألا يظهر منك عيب ولا خلل أمامه, لأن كثرة مصاحبة هؤلاء توجب للإنسان الابتعاد عن هذه السيئات, أما إذا صاحب أشخاصاً من السفلة الذين لا يستحي أن يسمع أمامهم منكراً أو يقول أمامهم منكراً؛ فلا شك أن هذا سيجرؤه على المنكرات, بل ربما أعانوه عليها. وكذلك من آداب الأخوة: أن يحفظ إخوانه فيما يصلحهم لا ما يريدونه, فإن الصاحب قد يريد منكراً أو يريد شراً فأنت لا تحرص على تلبية رغبته لأنه يريد منكراً, والمؤمن يعاشرك بالمعروف، ويدلك على صلاح دينك ودنياك, والمنافق يعاشرك بالممادحة ويدلك على ما تشتهيه, فهذا الفرق بين مصاحبة المؤمن ومصاحبة المنافق. وكذلك من آداب الصحبة: ترك ما يؤذيه عموماً بالمواجهة أو بغيرها, لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ومن آداب الصحبة: أن تحب له ما تحب لنفسك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ومن آداب الصحبة: أن تحرص على ما يجلب المودة بينك وبينه كما قال عمر رضي الله عنه: [ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته, وتوسع له في المجلس, وتدعوه بأحب الأسماء إليه]. ولا شك أن السلام من أسباب المحبة وإذا وسعت له في المجلس إذا دخل دل ذلك على قيمته عندك, وعلى حرصك على راحته, وعلى إكرامك له, والنفوس ترتاح لمن يكرمها، وإذا دعوته بأحب الأسماء إليه فإن ذلك أيضاً من أسباب محبته لك, فإن النفوس لا ترد من يناديها باسم فيه عيب أو فيه نوع من السخرية. وكذلك من آداب الأخوة: أن تحمل كلامه على أحسن الوجوه: فإذا وجدت لكلامه وجهاً حسناً فاحمله عليه, وضع أمر أخيك على أحسنه. ومن آداب الأخوة: السؤال عن اسمه واسم أبيه وعن منزله، لئلا تقصر في حقه, فإنك إذا عرفت أسماء أقاربه كان ذلك سبباً في مودته, لأنك إذا عرفتهم في مناسبة أو مكان فأكرمتهم من أجله؛ فإن هذا من الأسباب التي تقوي العلاقة بينك وبينه, فإذا عرفت أن أباه فلان وأخاه فلان وابن عمه فلان وغير ذلك, وأن صديقه فلان، كان برك لهم من برك له. وكذلك من آداب الأخوة: أن تلازم الأخوة ولا تقطعها ولا تمل منها, فإن بعض الناس يصاحبون الأشخاص لفترات قصيرة ثم يتركونهم, ويكون همه هو التعارف والمداخلة ثم الخروج وهكذا, والأخوة الحقيقة هي التي تدوم ويحرص الإنسان على الالتزام بها, لا تركها ومفارقتها, ولا شك أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل, وقد قال بعضهم: ليس لملول صديق, والملول: الذي يمل من كل أحد فيعاشر معاشرة بسيطة ثم يترك ويستبدل بالإخوان آخرين، وهكذا، ثم يستغني عنهم, ويمل من مصاحبتهم, فلا شك أن الملول لا يدوم له أخ. وكذلك من آداب الأخوة: ألا تقطع صديقاً بعد إذ صادقته، ولا ترده بعد أن قبلته, قال الخليل بن أحمد: لا تواصلنّ صديقاً إلا بعد تجربة, يعني: لا تصادق وتواصل إلا بعد تجربة, فإذا خبرته وسألت عنه وعرفت حاله فصاحبه وآخه, وإذا صادقته فلا تقاطعه, فمؤمن بلا صديق خير من مؤمن كثير الأعداء. ولا شك أن الإخوان إذا قاطعهم الإنسان ربما انقلب بعضهم عدواً, ولذلك لا تصاحب صديقاً إلا بعد تجربة, وإذا صاحبته فلا تقطعه؛ لأن من آداب الأخوة أن المؤمن إذا ظفر بأخ أو صديق لا يضيعه؛ لأن الأخوة والصداقة عزيزة, أي: أن الإخوان الذين عندهم الوفاء والصدق والبر قلة, فإذا ظفرت به فلا تتخل عنه ولا تقطعه, وكتب بعض الحكماء لصاحب له: استوحش ممن لا إخوان له, وأشد الناس تفريطاً من وجد أخاً ثم ضيعه بعد أن وجده, وإن وجدان الكبريت الأحمر أيسر من وجدان أخ, والكبريت الأحمر نوع خالص منه معروف يضرب به المثل لندرة وجوده, وإني لفي طلب الإخوان منذ خمسين سنة واعلم أن الناس ثلاث: معارف وأصدقاء وإخوان, فالمعارف بين الناس كثير, أي: من جهة المعارف قد يتعرف الإنسان على أشخاص كثيرين ويعرف أشخاصاً كثيرين, لكن الأصدقاء من المعارف أقل, والصديق عزيز، والأخ قلما يوجد, فقد تتعرف على شخص، وقد تصادق أشخاصاً في مكان العمل أو في فصل دراسي, والإخوان من هؤلاء الذين تصطفيهم بصفاتهم التي يؤمن جانبهم، وتأمن على نفسك إذا صادقتهم ندرة قلة

الأسئلة

الأسئلة

لا يشترط وجود جميع الآداب في الصاحب

لا يشترط وجود جميع الآداب في الصاحب Q يقول: قد يجد بعضنا بعض الأخطاء وبعض الزلات من قبل بعض الأخوة! وكذلك نجد بعض التقصير فيما ذكرته من الصفات، ومع هذا كله تجد فيهم الخير الكثير, هل تركهم وعدم مخالطتهم في الكثير من نشاطاتهم المفيدة والنافعة أمر ممكن بما سبق من الأخطاء؟ A طبعاً عندما نقول الآن: آداب الأخوة وآداب الصحبة وهي هذه التي تقدم ذكرها، فإن اجتماعها في شخص واحد لا أظنها توجد, وإن وجدت فنادر جداً جداًَ, لكن احرص على أن تصاحب من اجتمع فيه أكبر قدر من هذه الخصال, ثم إننا الآن نتكلم فيما يجب علينا ولا ننظر للمسألة من قبل الآخرين؛ نقول: مَنْ تتوفر فيه هذه الصفات حتى أصاحبه؟ لا. أنت وفر هذه الصفات فيك فيمن تصاحبه, ولو أن كل واحد منا نظر هذه النظرة لتقاربت النفوس, أما كل واحد يقول: هذه غير موجودة في فلان, وهذه غير موجودة في فلان, لا يصفى لك شيء.

ذم كثرة السؤال

ذم كثرة السؤال Q أحد الإخوان كثير الأسئلة، في الجلوس معه مشكلة تحقيق, وكثير ما يقع في الغيبة أو يوقع غيره فيها بكثرة أسئلته؟ A أولاً: انصحه, وقل له: إن الجلسة معك أشبه بالتحقيق. ثانياً: فإنه إذا سأل سؤالاً يترتب على الجواب غيبة, فلست ملزماً بالجواب, بل لا يجوز لك أن تجيب.

حقيقة الاحتجاب عن الإخوان

حقيقة الاحتجاب عن الإخوان Q يقول: إننا في السكن الجامعي نضع أحياناً لافتات على الباب مثلاً: الرجاء عدم الإزعاج ونحو ذلك, حين يكون لدينا اختبارات أو نكون مشغولين, فهل هذا من باب الاحتجاب عن الإخوان؟ A نعم. هذا من الاحتجاب عن الإخوان, لكن إذا كان لعذر مثل أن تخشى أن يضيع الوقت من مجيء واحد تلو الآخر؛ خصوصاً في هذه الأماكن التي فيها سكن متقارب، والغرف متجاورة, والطارقون كثر، والمارون متعددون, فليس من المصلحة أن يجعل الإنسان غرفته كالمجلس العام, مفتوحاً، ثم بعد ذلك يصاب بما يصاب به من الرسوب وتدني المستوى ونحو ذلك, فلا شك أن هناك أوقاتاً للزيارة، وأوقاتاً للمدارسة؛ لكن الذي يكون دائماً مكتوب على غرفته: الرجاء عدم الإزعاج فلا شك أن هذا ممن يحتجب على إخوانه. وكذلك يمكن للإنسان أن يرد رداً جميلاً، ويعتذر اعتذاراً مؤدباً، أما أن يكون إذا طرق عليه الباب فتح النافذة وقال: ماذا تريد؟ "هات من الشباك, خذ من الشباك، ومع السلامة" فلا شك أن هذا نوع من التعامل يؤدي إلى جفوة ووحشة, وكذلك يظهر النرفزة يقول: ضيعتم أوقاتي ضيعتم مستقبلي ضيعتم دراستي أنتم السبب لولا فلا شك أن هذا لا ينبغي، وأن على الإنسان أن يعالج الأمر من بدايته, وينبغي على الجميع أن يعذر بعضهم بعضاً في مثل هذه الأشياء، ثم إن الزيارات في أوقات الامتحانات ليست مناسبة, هل من الضروري أن تزوره في أوقات الامتحانات؟ يمكن أن تكون في غير أوقات الامتحانات، ثم الامتحانات النهائية الكبيرة التي فيها النسبة الكبرى والتي يتوقف عليها النجاح والرسوب أكثر من غيرها, يتشدد فيها الإنسان بشيء من العزلة من أجل المذاكرة، بينما الأشياء الصغيرة والأشياء التي تأتي على مدار السنة هذه الظروف اسمح فيها, فالمسألة إذاً مسألة تقدير ظروف من الجميع.

كثرة الاختلاط بشخص معين

كثرة الاختلاط بشخص معين Q يقول: إن مما نجد في وسط الشباب والملتزمين صحبة شخصين فيما بينهما، فيزعمون أنها لله, ولكن في حقيقتها ليست كذلك, إنما هي لتشاكل أو استحسان أحدهما للآخر، وقد تؤدي لأمور لا يحمد عقباها؟! A نعم. هذه مسألة تكاد تكون كالظاهرة في كثير من الأوساط, فصحيح أن الطيور على أشكالها تقع, لكن بعضهم يقع على أم رأسه في مثل هذه المسألة، فيتورط في علاقة تعلق تؤدي إلى إتلاف قلبه, وتؤدي إلى استحكام المحبة بحيث تصل إلى درجة من العشق، ولا شك أن هذا أمر مذموم؛ ولهذا علامات، وفرقان يفرق بين الحق والباطل فيه, فأرى في مثل هذه الحالة أن يوعظ هذان ويذكرا بالله تعالى وبالأخوة الحقيقية, ويقال لهما: لو كنتما صادقين في أخوتكما لصاحبتما فلاناً وفلاناً ممن هو أتقى لله منكما, فلماذا عكفت عليه وهناك من هو أتقى لله منه, وأعلم بالعلم الشرعي، وأنشط في الدعوة إلى الله، وأكثر تخلقاً بالأخلاق الحسنة, فإن كنت صادقاً في جعلك الأخوة المعيار فيها أنها لله فأين صحبتك للآخرين؟

سؤال الله الوجه الحسن

سؤال الله الوجه الحسن Q هل يجوز دعاء الله بأن يرزقه وجهاً حسناً؟ A نعم. لا بأس, وورد في حديث المرآة وهو ضعيف: اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي؛ لكن لا بأس أن يدعو الإنسان أن يحسن خَلْقه وخُلُقه.

حكم قول القائل: في ذمتك

حكم قول القائل: في ذمتك Q ما حكم قول: في ذمتك, على سبيل التأكيد؟ A إذا كان يميناً لا يحلفه بالذمة؛ لأنه لا يحوز الحلف إلا بالله.

المسح على رأس اليتيم

المسح على رأس اليتيم Q هل يؤجر من مسح على رأس أخيه؟ A هذا ورد في اليتيم, إذا كان أخوك يتيماً أو صاحبك يتيماً, وكان يؤتى بالصبيان فيمسح صلى الله عليه وسلم رء وسهم ويدعو لهم بالبركة.

زيارة الأصدقاء المقصرين مع سبق نصحهم

زيارة الأصدقاء المقصرين مع سَبْق نصحهم Q ما حكم زيارة الأصدقاء والزملاء المقصرين، مع العلم بأنه سبق نصحهم ودعوتهم؟ A لا بأس، لكن مع الاستمرار بالنصح والدعوة.

حكم التبول واقفا

حكم التبول واقفاً Q ما حكم التبول واقفاً؟ A جائز إذا كان يأمن من ارتداد الرشاش عليه.

الإنفاق على الإخوان صدقة

الإنفاق على الإخوان صدقة Q هل الإنفاق على الإخوان من الصدقة؟ A نعم. من أنواع الصدقة. هذا ختام المطاف. ونسأل الله أن يجعلنا إخوناً في سبيله متحابين، ويجعلنا في الجنة على سرر متقابلين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب الضيافة [1، 2]

آداب الضيافة [1، 2] قد جاءت الكثير من الأحاديث الحاثة على إكرام الضيف والمبينة أنه من الإيمان، فالضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهي من سنن المرسلين عليهم السلام، ومن أخلاق السلف رضوان الله عليهم. وللضيافة أحكام وآداب موجودة في قصة إبراهيم عليه السلام ذكرها الشيخ في هذا الدرس.

الحث على إكرام الضيف

الحث على إكرام الضيف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فالحديث في هذه الليلة في هذه المجموعة من سلسلة الآداب الشرعية الثانية سيكون عن: (إكرام الضيف) وهو من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجودا ًعند العرب من المعروف في هذا الأمر. أما ضاف القوم وتضيفهم أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه أي: أنزلوه، والضيف معروف وجمعه أضياف وضِيفان، والاسم هو الضيافة ويقال: أضفته إضافة إذا نجى إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى، فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير. والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه وهو من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف إبراهيم عليه السلام، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] فوصفهم بأنهم أكرموا. وقصته عليه السلام لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً معروفة. وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة: كان إبراهيم عليه السلام لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله!! قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله عز وجل: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر فقال: هذا رب كريم آمنت، ثم دخل عند إبراهيم وسمى الله وأكل بعدما آمن، وستأتي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام والعبر التي فيها والآداب المنطوية عليها بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة. وأما لوطٌ عليه السلام فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليه السلام، ولما جاءه ضيوفه وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه وهو يخاطبهم {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] وأخبر عز وجل أنهم راودوه عن ضيفه فطمس أعينهم ولم يرجمهم فقط ولكن طمس أعينهم ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية وخطورة إيذاء الضيف. وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه قال الله تعالى فيها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83]، وقال: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81] لماذا؟ لأنها كانت تدل قومها على الضيفان وهذه خيانة لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء القوادة -كما قال العلماء- بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث. وقد جاء في معرض الذم ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام فأبوا أن يضيفوهما. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول سورة اقرأ وقال: (زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة: (أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي؟ -فأخبرها الخبر- فقالت خديجة: كلا. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف) والحديث في صحيح البخاري.

منزلة الضيف عند أهل الجاهلية

منزلة الضيف عند أهل الجاهلية كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه. وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم. وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه. تزوج قيس امرأة فأحضرت له طعاماً فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها! فأنشأ يقول: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني أخاف ملامات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف من غير ذلة وما في إلا ذاك من شيمة العبد فسمعه جارٌ له وكان بخيلاً فقال: لبيني وبين المرء قيس بن عاصم بما قال بون في الفعال بعيد وإنا لنجفو الضيف من غير قلة مخافة أن يغرى بنا فيعود وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح يقول له فيها: أجبيل إن أباك كارم يومه فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ ظن بغيه الدهر غير معقل الله تتقه وأوف بنذره وإذا حلفت ممارياً فتحلل والضيف تكرمه فإن مبيته حقٌ ولا تك لعنة للنزل واعلم بأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يسأل

أحاديث في إكرام الضيف

أحاديث في إكرام الضيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه) رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (جائزته يومٌ وليلة) أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه: أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه) معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج. وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب. وعن عقبة بن عامر قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له) خذوا منهم، رواه مسلم في صحيحه.

أحكام الضيافة في الشرع

أحكام الضيافة في الشرع وحكم الضيافة أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً استحب له ضيافته ولا تجب وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور. وقال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل: هي واجبةٌ يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن؛ لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة، أما أهل المدن فلا، قال الإمام أحمد: هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه عليه جائزته) قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟ يعني: إذا طلب الضيافة هل يضيفه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق واجبٌ على كل مسلم) وهذا الحديث بين، ولما أضاف المشرك النبي عليه الصلاة والسلام دل على أن المسلم والمشرك يضاف وأنا أراه كذلك. والضيافة معناها: صدقة التطوع على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب. فإذاً الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة. وقال الجمهور: الضيافة مستحبة إلا إذا صار اضطراراً. وقول: الواجب يوم وليلة والكمال ثلاثة أيام كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، واليوم هذا داخل في الثلاثة، ومن امتنع من إضافته فللضيف بقدر إضافته، قال الإمام أحمد رحمه الله: له أن يطالبه بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا حقي الليلة، فيجوز أن يأخذ منه ثمن الضيافة التي منعوها إياه، قال أحمد رحمه الله: ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله، وفي رواية: أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم، لو جاء الضيف فلم يضيفوه الليلة الواجبة في البادية أو في القرى يأخذ بغير إذنهم كما في رواية أخرى، واستدل بحديث: (فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له). وكذلك سئل أبو عبد الله أحمد رحمه الله عن الضيافة أي شيء تذهب فيها؟ قال: هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك، هذه عبارة مهمة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني نقلاً عن الإمام أحمد رحمه الله، قال: وكأنها الوجوب على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد -المارين في طرق السفر- وهذا قد ينطبق على أصحاب المحطات قال: فأما مثلنا الآن في بغداد -في البلد التي كان فيها الإمام أحمد رحمه الله- فكأنه ليس مثل أولئك. وذكرنا أن الليث بن سعد ذهب إلى أن الضيافة واجبة واستدل بحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ولا شك أنها من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق، واحتج الجمهور بقوله: (فليكرم) بأن الكرامة من خصائص الندب دون الوجوب كما ذكر ذلك ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن. فهذا بالنسبة لأهل البدو ولأهل القرى والحضر. إذاً: فهي واجبة على أهل القرى والبادية بخلاف أهل الحضر، وقد ذكر بعض الفقهاء في تعليل هذا -وهو سحنول المالكي رحمه الله-: الضيافة على أهل القرى وأما أهل الحضر فإن المسافر إذا قدم الحضر وجد منزلاً -وهو الفندق- وإنما أراد بذلك أنه يتأكد الندب إليه، ولا يتعين على أهل الحضر بعينه على أهل القرى لمعانٍ: أحدها: أن ذلك يتكرر على أهل الحضر فلو التزم أهل الحضر؛ الضيافة لما خلوا منها، وأهل القرى يندر ذلك عندهم ويقل فلا تلحقهم بذلك مشقة. والوجه الآخر: أن المسافر يجد في الحضر من المسكن والطعام وغير ذلك ما يحتاج إليه فلا تلحقه المشقة لعدم الضيافة، عنده فنادق وعنده مطاعم، أما في القرى الصغار فلا يجد ما يحتاج إليه من مطاعم أو مكان يبيت فيه لأنه غريب فهو كالمضطر إلى أن يضيفوه، وحكم القرى الكبار التي توجد فيها الفنادق والمطاعم للشراء ويكثر ترداد الناس عليها حكم الحضر والله أعلم وأحكم. وهذا فيمن لا يعرفه الإنسان، وأما من يعرفه معرفة مودةٍ أو بينه وبينه قرابة، أو بينه وبينه معنى يقتضي المواصلة والمكارمة فحكمه في الحضر وغيره سواء، والله أعلم. فأما بالنسبة لثبوت الحق فهل يأخذه بإذنه وبغير إذنه؟ تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه كما في سنن أبي داود قال: (فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) وفي رواية: (نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) يعني: لو أتى بفاتورة فقال لهم: سددوا لأنكم لم تضيفوني وهو حق واجب. قال: وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) هكذا في أعلام الموقعين. فإذاً لو أن شخصاً نزل عليهم فقالوا: ليس لك شيء، اتركه واجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه بالإكراه فحقه واضح يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس. كذلك المرأة التي زوجها بخيل فإن نفقتها واجبة عليه، فإذا لم ينفق عليها فلها أن تأخذ منه -وهذا حق- ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً -مثلاً- أحد الأشخاص اختلس منك مالاً ثم استأمنك على ماله فلا يجوز أن تختلس منه خفيةً مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً فلا يجوز الاختلاس، وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلٌ: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي وأنا محاسب ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد، فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً يعلم فلا يجوز له أن يأخذ خلسة، وهذا معنى حديث: (ولا تخن من خانك) رواه الترمذي وهو حديث حسن. ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون كـ مجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قال: [إنما نزلت في الضيافة] إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً فلم يقم به جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني ولا أعطاني ولا أكرمني {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً فلا يعطى ولا يقرى ولا يكرم، فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه جاز له ذلك؛ لأنه ظلم. وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب قالوا: إنها تروع الضيف وابن السبيل كما ذكره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك فصارت لا تنبح على الضيفان. فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف. وكذلك قيل: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي رحمه الله من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته ومصلحة نفسه حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين، لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق، لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح فيرهقون أنفسهم ثم يطوفون على الناس ويقولون: أعطونا نحن نذبح ذبائح. ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف ولم يعد هذا ترفاً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (فراشٌ للرجل وفراشٌ لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان) حديث صحيح. وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام رهن شيئاً عند يهوديٍ من أجل طعام ضيفٍ، ولكن ضعف الخبر بعض أهل العلم كـ ابن حزم رحمه الله في المحلى. ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف جعل عمر من مصارف الوقف إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بـ خيبر قال عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) حبس الأصل: هو الوقف وتسبيل الثمرة وأي منفعة تنفق في الخير والأصل محبوس قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث فتصدق بها في الفقراء -نص عمر على ذلك وكتبه وجعله عند حفصة وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) وقد روى ذلك البخاري رحمه الله وعبد الرزاق وغيره من أهل العلم وهو حديث مشهور.

إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه

إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه ومن إكرام الضيف نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب. قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:24 - 27] ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول: أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون. ثانياً: قال تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق وبابه مفتوح ولا يحتاج إلى استئذان أحد فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان مادام فتح الباب الخارجي وفتح المجلس معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً وعنده مكان خاص للضيوف يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الحجر:52]. ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ)) [الذاريات:25] والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟ لأن قولهم (سلاماً) هي جملة فعلية أسلم سلاماً. و (سلامٌ) جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت. رابعاً: أنه حدث المبتدأ من قوله: (قومٌ منكرون) فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم عن مواجهتهم بذلك ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] وهذا الحذف ألطف في الكلام. خامساً: أنه بني الفعل من مفعول فقال: (منكرون) ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟ ومنكر صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم أنا لا أعرفكم فقال: أنتم غير معروفين. فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة. سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه. سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام ولم يذهب إلى السوق ليشتري أو يذهب إلى الجيران ليستعير أو يذهب ويقترض وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ} [الذاريات:26] ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ} [الذاريات:26] وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد والمسألة ليست في باله وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها تفوت الفرصة عليه. أهل الجهاد في بدر خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟ على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً. فإذاً: الاستعداد لعمل الخير يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة ثم يبحث فلا يجد ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] من الذي جاء؟ هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف. ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً. تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية ولكن آثر به ضيفانه وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم. عاشراً: أنه قربه بنفسه ولم يقل للخدم قربوه أنتم أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو ولم يأمر خادمه بذلك. الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة أن تجلس الضيف ثم تأتي له بالطعام إليه وتحمله إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك وهو من الإكرام على أية حال وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به وسيق به إليهم أفضل وأحسن افرض أن عندك ما لا يشق نقله فجئت به على عربة إليهم أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك. الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟! فاستخدم أسلوب العرض وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟ مالكم لا تمدوا أيديكم؟ نحن أتينا به لمن؟ قال: ألا تأكلون؟ الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟ يتفرجوا عليه؟ فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل فإذاً لو قلت: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) فيقول قائل: لم يأذن فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل فحلال عليهم، طيب فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟ لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟ ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها. الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، قال ابن القيم رحمه الله: وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم. ومن الآداب فتح الباب للضيف قبل وصوله قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] فأبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدمٌ فتحها بدليل قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص:50] مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة حتى يؤخذوا بأشد الأخذ وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.

صور من إكرام الضيف

صور من إكرام الضيف من إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عز وجل عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه عليه الصلاة والسلام، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين الرجل وزوجته. والقصة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه عليه الصلاة والسلام فقلن: ما معنا إلا الماء -وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك وأصلحي سراجكِ ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاء -إذا طلبوا الأكل نوميهم- فهيئت طعامها وأصلحت سراجها يعني: -أشعلت الفتيلة- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها -كأنها حركة تمثيلية- فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان). وليس من الأدب أنك تغلق النور على الضيف وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، فبعضهم يغلق النور على الضيف يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، وبعضهم وبعضهم لذلك ابن القيم قال: تخلف وتكلف في أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. فبطبيعة الحال لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير لكن في الوقت نفسه ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل يريانه أنهما يأكلان وهما لا يأكلان حتى لا يشعر هو بالحرج أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بالصوت ووضع اليد في الإناء ورفعها وهي ما فيها شيء -كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام فأطفئ السراج وجعلوا يأكلون فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله. كل واحد يريد أن يؤثر- قال: فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]) رواه البخاري. فهذا الموقف العظيم إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال هذا موقف ذكر في السماء فضحك الرب فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي: جوع وحاجة. قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم جاز تقديم الضيف كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا قال: (ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟) هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء ونزل إلى الأرض وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَكِر أو حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم فالله يكشفها ليكونوا قدوة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف، فعن أبي أمامة قال: قلت: (يا رسول الله! مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال عليك بالصوم فإنه لا مثل له) يعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: [فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً] رواه عبد الرزاق في المصنف، بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر من أجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث. وقال عطاء: سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم. وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه، قال: إنه رحمه الله إذا دخل في صوم تطوع استحب له الإتمام لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لزورك عليك حقاً) يعني: لزوارك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) أما حديث: (من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) فرواه الترمذي وقال: حديث منكر، أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاءه على الصيام، فإذاً هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟ نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً ولا يشعر بالحرج أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا الشيء عادي لو ما أكلت وهم أكلوا لا بأس، فإذاً البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً. بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة مرض قال: لو مات ما صليت عليه لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى يتفجر فيموت، فما حكم الأكل فوق الحاجة؟ قالوا: مكروه أما إذا وصل لدرجة الهلكة فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس بذلك ذكروا مثالين: أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار. والمثال الثاني: لأجل الضيف قال: بأن يأتيه ضيفٌ فيأكل الضيف ويستمر الضيف في الأكل وصاحب البيت شبع فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت فربما توقف الضيف وقد يكون الضيف بحاجة الطعام أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم أو أكبر وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل. وكذلك من الآداب إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصليٍ أو مسافر أو مع ضيفه يسامره، ليس سمراً على البلوت والأفلام والكلام القذر والغيبة لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر والإكرام والمباسطة المباسطة جزء كبير من الإكرام سيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك والتفصيل فيها.

آداب المضيف

آداب المضيف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد تقدم الكلام في المرة الماضية عن هذا الأدب الإسلامي الكبير وهو: (إكرام الضيف)، وذكرنا مقدمة عن الضيافة وإكرام الضيف، وبعض الآداب المتعلقة بالمضيف تجاه ضيفه، ونتابع إن شاء الله في هذه الليلة الحديث عن هذا الموضوع وهو: (آداب المضيف) ثم نتبعها بآداب الضيف. تحدثنا عن سمر المضيف مع ضيفه بعد العشاء مع أن الشريعة قد كرهت الحديث بعد العشاء، لكن حيث إن ذلك من الحاجة فإنه لا بأس بأن يسمر المضيف مع ضيفه لأجله ولا بأس كذلك بتنويع الطعام للضيف كما دل عليه حديث أبو الهيثم بن التيهان وسوف يأتي وفيه: فأمر لهم بشعيرٍ يعمل وقام فذبح شاةً، واستعذب لهم ماءً، وهذا كله يدل على المبالغة في تطييب المضيف الطعام وإتحاف الضيف به بأفضل ما يجب، ولا بأس بجمع الإدام في النادر لضيفٍ أو وليمة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكره التنويع الكثير في الأطعمة من باب الورع حتى لا يخرج إلى حد السرف، وكذلك لا يؤدي إلى إنفاق الأثمان الكثيرة في هذا، وأقبح ما يكون عند نزول الحاجة بالناس وضيق معاشهم والضرورة الحاجة للمواساة، ثم يأتي بعض الناس وينوعون الطعام تنويعاً عجيباً؛ لكن إذا حضر ضيف فلا بأس من تنويع الطعام لأجل الضيف، وينبغي إذا حضر من دعي وأحضر الطعام ألا ينتظر من غاب، وينبغي له أن يحضر من الطعام ما أمكنه من غير إجحاف بأهله. والضيف له حكم آخر غير حكم أهل البيت، إذ أن أهل البيت يمكنهم أن يأكلوا الألوان في عدة أيام، بخلاف الضيوف فقد لا يقيمون، ولأنه قد تكون شهوة بعض الضيوف في لون آخر؛ فإذا كان التنوع في الألوان لأجل الإكرام حتى إذا لم يعجبه نوعٌ أعجبه نوعٌ آخر فلا بأس بذلك، ولما فيه من إدخال السرور على الضيوف والأجر عظيم في إدخال السرور على المسلمين. وقد كان بعض السلف إذا جاءه الأضياف يقدم لهم في وقتٍ واحد ما يقوم بنفقته شهرٌ ونحوه، فيقال له في ذلك: فيقول: قد ورد أن بقية الضيف لا حساب على المرء فيها، فكان لا يأكل إلا فضلة الضيوف؛ لأجل ذلك: يكثر الطعام للضيوف ثم يأتي هو بعده ويقول: هذا حسابه أقل من أن أطبخ أنا لنفسي؛ لأن فضلة الضيف طيبة فآكله بعده. وينبغي أن يروح عليه بالخدمة ولا يفعل ذلك قائماً لأنه زي الأعاجم، وقد تقدم النهي عن القيام على رأس الشخص، ولا بأس أن يأكل مع ضيوفه خلافاً لمن لا يفعل ذلك من بعض الناس العامة الذين عندهم عادات تمنع من الأكل مع الضيوف؛ لأن الأكل مع الضيف في الحقيقة فيه مؤانسة له، أي: يستأنس إذا أكلت معه، وأكرمته، وقدمت له أطايب الطعام ونحو ذلك، فإن أكل معه فيستحب له أن يخدمه بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى أمر أصحاب النجاشي بنفسه الكريمة، فقيل له: ألا نكفيك؟ فقال: (خدموا أصحابي فأريد أن أكافئهم) هذا إذا صح الحديث، ذكره ابن الحاج رحمه الله في المدخل، ومن ذلك أن يتولى بنفسه صب الماء على يد الضيف حين غسل يديه. ويجوز للإنسان إذا حضر معه جماعة كثر أن يدخلهم فوجاً فوجاً إذا كان مجلس الطعام لا يتسع، وقد ورد إدخال الناس عشرة عشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان يأكل مع إنسان ضرير أعلمه بما بين يديه حتى لا يفوته الطعام الطيب. وكذلك فإنه لا يحرج الضيوف بإبقائهم دون أن يأذن لهم بالطعام، بل يسارع إلى دعوتهم إلى الطعام بأسلوبٍ لطيف. وكذلك فإن الإنسان يقدم للضيف ما يعلم أن الضيف يحبه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدباء. ويستحب للمضيف إيناس الضيف بالحديث الطيب والقصص التي تليق بالحال؛ لأن من تمام الإكرام طلاقة الوجه وطيب الحديث عند الخروج والدخول؛ ليحصل له الانبساط، ولا يكثر السكوت عند الضيف، ولا يغيب عنه، ولا ينهر خادمه بحضرته، ولا يجلسه مع من يتأذى بجلوسه أو لا يليق به أن يجلس معه، وأن يأذن له بالخروج إذا استأذنه، وأن يخرج معه إلى باب الدار تتميماً لإكرامه، وأن يأخذ بركاب ضيفه إذا أراد الركوب، فقد ورد حديث عند ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من السنة أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدار) لكن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج] ذكره ابن عبد البر، وهذا الذي يعرف بتشييع الضيف، قال في المصباح المنير في فصل الشين مع الياء: شيعت الضيف: خرجت معه عند رحيله إكراماً له وهو التوديع، فيندب للإنسان أن يشيع ضيوفه ويخرج معهم إلى باب الدار وإلى السيارة ويفتح له الباب ليركب، أو يأخذ بزمام الراحلة إذا كان عنده راحلة ويودعه هذا من تمام الضيافة. وروى أبو بكر بن أبي الدنيا قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: صاحب البيت والمجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد -مادام هو صاحب البيت يقعد في صدر المجلس من يريد وهو أحق بها، لكن إذا رغب في جلوس ضيفه فيه فلا حرج- قلت في نفسي: خذ أبا عبيد هذه واحدة -إليك فائدة- ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد يعني: يحدث نفسه بالفوائد التي جناها من زيارته لـ أحمد رحمهما الله فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! لا داعي للقيام وتمشي، قال: قال الشعبي من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه، قال: قلت يا أبا عبد الله! من عن الشعبي قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت يا أبا عبيد! هذه ثالثة فإذا ً تشييعه والخروج مع من تمام الضيافة. وقد أمسك عبد الله بن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما فقال: [أتمسك بي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنا هكذا نصنع بالعلماء] وينبغي الاهتمام بإكرام أضياف الإسلام أكثر من الضيوف الشخصيين الضيوف الذين جاءوا من أجل الدين مثل أهل الصفة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما حضره لبن قال لـ أبي هريرة: (اذهب إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحدٍ إذا أتته صدقةٌ بعثها إليهم ولم يتناول منها شيء). رواه البخاري، فهؤلاء أضياف الإسلام فإذاً: من جاء لحق الدين فهذا أكرم من يستحق الإكرام. وقد جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم إكرام طلبة العلم من الضيوف إذا جاءوهم فقال مالك بن خزين: [كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيل فأتاه قومٌ من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده، قال أبو هريرة -يقول للشخص عنده- اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً قال: فوضعت له ثلاثة أقراص في صحفة وشيئاً من زيتٍ وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم، فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة لما رأى الطعام وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين -الماء والتمر- فلم يصب القوم من الطعام شيئاً فلما انصرفوا قال: يا بن أخي! أحسن إلى غنمك وامسح الرغام عنها] الحديث. وهذا يحتمل أنهم قصدوه للتعلم والأخذ عنه وإحضار أبو هريرة للطعام المتيسر عنده من باب إكرام الزائر والضيف وتقديم ما حضر إليه، ولذلك قدم إليهم ثلاثة أقراص وزيتاً وملحاً، وكبر أي: على معنى الذكر لله والشكر له على ما نقله من حال المجاعة التي كان يخر فيها بين البيت والمنبر ما به شيءٌ إلا الجوع إلى هذه الحال من الخصب والكثرة حتى وجد عنده خبزٌ وإدام دون استعداد ولا تأهب، عنده خبز في البيت عد ذلك نعمةً عظيمة كبر الله عليها.

هل يستضاف الكافر؟

هل يستضاف الكافر؟ هل يستضيف الإنسان الضيف الكافر؟ جاء في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضافه ضيفٌ كافر -يعني: نزل عليه- فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها -ما استطاع أن يتم الثانية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء) معناها: لا بركة في طعام الكافر وأما إذا أسلم أو آمن يبارك الله في طعامه فيكفيه من الطعام ما لا يكفي الكافر ببركة الإسلام. فإذاً: الحديث هذا يؤخذ منه جواز تضييف الكافر، قيل إنه: جمامة بن أساد، وقيل: جحاد الغفاري، وقيل غير ذلك، لكن نلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكافر قيل: رجاء إسلامه، أو إذا كان يخشى عليه الضياع إذا كان ممن له حق مثل الكفار المعاهدين يعني: الكفار الذين لهم حقوق غير الكفار الذين قد يكونون أقارب. إذاً: هناك اعتبارات، فالنبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكفار إكراماً لهم لعلهم يتأثرون من باب الدعوة أو كفار معاهدين لهم حقوق، كفار أقارب أما أن يدعو الإنسان كافراً إلى بيته فيأتيه بنساءٍ عاريات أو يأتيه بنجسٍ أو بشركٍ وكفرٍ، وقد سأل بعضهم عن حكم تمكين الضيف الكافر من تأديت شعائر دينه في بيت المسلم الذي أضافه فسألت عن هذا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فقال: لا يمكنه من ذلك يعني: لا يجوز له بأن يرضى أن يعمل شعائر الكفر في بيته. وإذا أضاف المسلم كافراً هل يآكله، أم يقدم له الطعام فقط ولا يجلس معه للأكل؟ يقول الإمام مالك رحمه الله: ترك مآكلة النصراني في إناء واحد أحب إلي ولا أراه حراماً ولا نصادق نصرانياً. لا أراه حراماً لكن الأحب إلي أني لا آكل معه في صحن واحد، فنهى عن مآكلته لما في ذلك من معنى المصادقة وأما تضييفه فيمكن أن يكون للاستئلاف ورجاء الإسلام يكون فيه أجر ووجود الطعام ببعض الأشكال العصرية أو مثلاً هذه البوفيهات وهذا الطعام الذي يوضع ثم يسكب منه الناس يحل مشكلة الأكل معه في صحنٍ واحد. فالخلاصة إذاً: إذا رجي إسلامه بتأليف قلبه فلا مانع من إضافته، أما إذا كان يخشى منه بأن يأتي معه بمنكرات أو يعمل أشياء محرمة في بيتك فلا تضيفه. ومما ذكر في صحيح مسلم عنوان: باب استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام، وطلب الدعاء من الضيف الصالح وإجابته لذلك.

وقفة مع بعض قصص الصحابة وضيوفهم

وقفة مع بعض قصص الصحابة وضيوفهم لقد ضيف الصحابة رضوان الله عليهم ضيوفاً ولهم في ذلك قصص، فلنعرج على بعض القصص التي ذكرها أهل العلم بالحديث أو المحدثون في كتبهم.

قصة أبي بكر مع ضيوفه

قصة أبي بكر مع ضيوفه من أشهر قصص إضافة الضيوف التي حدثت على عهد الصحابة منها: قصة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة) وفي البخاري: (من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ أو بسادس)، وإن أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعدما ذهب من الليل ما شاء الله فقالت امرأته: ما أحبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبو حتى تجيء أنت، قد عرضوا عليهم الطعام فغلبوهم يعني: الضيوف ورفضوا الضيافة إلا إذا جاء الصديق. يقول ولد أبي بكر الصديق: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر! فجدع وسب وقال: كلوا لا هنيئاً وقال: والله لا أطعمه أبداً، قال الضيوف: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا نرى من أسفلها أكثر منها -قال: شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك- فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر ثم قال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا. وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني: اليمين. وفي رواية: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر: نزل علينا أضياف وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: يا عبد الرحمن! افرغ من أضيافك، فلما أمسيت جئنا بقرى فأبوا قالوا: حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا، فقلت: إنه رجلٌ حديد وإنكم إن لم تفعلوا -إذا ما أكلتم الآن- خفت أن يصيبني منه أذى، قال: فأبوا، فلما جاء قال: فرغتم من أضيافكم؟ قالوا: لا والله ما فرغنا قال: أولم آمر عبد الرحمن -أوصيه بالضيوف- قال عبد الرحمن: وتنحيت عنه فاختبأت، فقال أبو بكر: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا أجبت قال: فجئت فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم قد أتيتهم بقراهم -بكرامتهم وضيافتهم- فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، فقال: ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ فقال أبو بكر: والله لا أطعمه الليلة فقالوا: والله لا نطعمه حتى تطعمه، قال: فما رأيت الشر كالليلة قط، ويلكم مالكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال أبو بكر رجع إلى نفسه: إنما الأولى من الشيطان -حلفنا وهذا الحلف من الشيطان ما حلفنا على بر ولا على خير حلفنا ما نأكل ما هو بر ولا خير هذه من الشيطان- ثم قال: هلم قراكم فجيء بالطعام فسمى فأكل وأكلوا فلما أصبح رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بروا وحنثت قال: (بل أنت أبرهم وأخيرهم) رواه مسلم. في هذا الحديث جواز الاشتغال عن الضيف بمصلحة المسلمين مثل ما فعل الصديق، إذا كان هناك من يقوم بإكرامهم مثل ولده. وفيه أن الضيف لا يمتنع مما يريد المضيف مما يتعلق بإكرامه ولا يعترض عليه؛ لأن المضيف قد يكون له غرض في أن يتقدم الضيوف للطعام فلا يشق عليه بالرفض، وفيه السمر مع الضيف والأهل. وفيه قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل، وإنما امتنع أضياف الصديق عن الأكل؛ لأنه قد يفرغ الأكل ويأتي أبو بكر وليس له عشاء فقالوا: ننتظر وإنما اختبأ عبد الرحمن خوف الخصام، وغنثر معناها: الثقيل وقيل: الجاهل وقيل: السفيه وقيل: اللئيم وقيل: ذباب أزرق، والسب هو: الشتم. وفيه الاختباء خوف الأذى، وأنه لا أذى بمثل هذا من الوالد يعني: إذا الوالد قسا على ولده بمثل هذا لا يعتبر جريمة، وفيه عدم المؤاخذة عما يحدث حال الغيظ. وقوله: أبي رجلٌ حديد: يعني: قوي يغضب. وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب السمر مع الضيف والأهل. وكذلك فإن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف ولذلك عنفه وقال عليه كلاماً غليظاً ومن الانفعال قال: لا هنيئاً، ولكن الصديق رغم مكانته وفضله رجَّاع إلى الحق وقال: هذه من الشيطان وأكل وما أخره عن ضيوفه إلا أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه كان في أمر مهم، ولذلك أكرم الصديق بكرامات الأولياء حتى إنه يقول: كلما رفعوا لقمة ربا مكانها أكثر منها، ربا يعني: زاد من أسفلها في الموضع الذي أخذت منه، فلما نظروا إلى الجفنة فإذا هي أكثر مما كانت عليه. قال: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني يعني: مما أقر الله به عينها من هذه الكرامة لزوجها، وهذه البركة عظيمة وما هو بعجيب قول أسيد رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فـ أبو بكر رجلٌ مبارك جعل الله له هذه الكرامة وهي كرامة من كراماته الكثيرة وأكرمه وأزال عنه الحرج فعاد مسروراً وانفك الشيطان مدحوراً، وأكرم أضيافه، وزاد الطعام، وعنده سبيل كفارة اليمين لأجل قسمه. ثم حملت هذه الجفنة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان هناك جيشٌ فأكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتتم البركة ويعظم أجر الصديق، وكفت الجيش كله. وفي رواية عند أحمد والترمذي والنسائي قال: أتي النبي عليه الصلاة والسلام بقصعة فيها ثريد فأكل وأكل القوم فما زالوا يتداولونها إلى قريبٍ من الظهر يأكل قومٌ ثم يقومون ويجيء قومٌ فيتعاقبونه فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ فقال الراوي له: أما من الأرض فلا، إلا إن كانت تمد من السماء. قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع والله أعلم. ففي هذا الحديث تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام إلى غير إذن خاص من الرجل لأنها قدمت لهم الطعام. وفيه جواز الغلظة على الولد على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير. وفيه أيضاً: كرامات أولياء الله الصالحين وما يقع من لطف الله تعالى بهم، وكيف أن خاطر أبي بكر الصديق كان مشوشاً وخاطر ولده وأهله وأضيافه، ثم إن الله أعطاه هذه النعمة العظيمة التي قرت به عينه هو وزوجته وولده وأضيافه، وبقي البقية التي أرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وانقلب الكدر صفاءً والحزن سروراً ولله الحمد والمنة.

قصة أبي الهيثم بن التيهان

قصة أبي الهيثم بن التيهان ومن الصحابة أيضاً الذين حصل لهم مشهد عظيم في الضيافة: أبو الهيثم بن التيهان، وذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فإذا هو بـ أبي بكر وعمر فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما). هؤلاء أعظم ثلاثة في الأمة؛ خرجوا من بيوتهم وما أخرجهم إلا الجوع، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم والخليفة الأول والثاني من بعده أخرجهم الجوع من البيت قال: قوموا، فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأتهم المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بسر وتمر ورطب حتى ينتقي الضيف ما يشاء فقال: كلوا من هذه حتى يسكن الجوع، ريثما تذبح الذبيحة وتطبخ، وهذا من حسن الضيافة أن يسكن جوع الضيف بشيء إذا كان الطعام سيتأخر، وأخذ المدية فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) لا تذبح ذات در ترضع أولادها وتنتفعون من حليبها ولبنها فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) رواه مسلم رحمه الله. ومن القصص العظيمة ضيوف أبي طلحة رضي الله تعالى عنه والتي تقدمت لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا رجلٌ من يضيفه هذه الليلة رحمه الله) فأخذه إلى بيته وقدم له طعام زوجته وقوت الصبية. ويؤخذ من الحديث أن من آداب الضيافة التلطف في إكرام الضيف على أحسن الوجوه وعدم إحراجه.

آداب الضيف

آداب الضيف ذكرنا آداب المضيف فما هي آداب الضيف؟ لأن الضيافة فيها ضيف ومضيف؛ المضيف تقدم الكلام عنه فما هي آداب الضيف؟

إحراج المضيف

إحراج المضيف أولاً: لا يجوز له إحراج المضيف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يحل لضيف أن يثوي عند صاحبه حتى يحرجه الضيافة ثلاثٌ) يعني: ثلاثة أيام وبعدها ينصرف، وكان ابن عمر لا يأكل طعاماً يقدم له بعد ثلاث وإنما ينصرف إلا إذا رغب صاحب البيت في جلوسه فعند ذلك يجلس. ولا يجوز له أن يثقل عليه وأن يعرضه للضيق، وأن يوقعه في الإثم؛ بأن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يأثم به، ولا يجوز له أن يضيق على أهله، ولا يجوز له أن يجعله يتبرم، وبعض الناس ما عندهم أدب في هذه إطلاقاً، فتجده يأتي ويعكر بيت الآخر كأنه بيته وهذا البيت يضيق عليه ولا يتهيأ له أن يطبخ باستمرار، ولا يتهيأ له طعام يكفي الجميع باستمرار، وهذا جالس مقيم، ولو خرج رب البيت من الدار لما خرج هو.

ألا يكلفه ما لا يطيق

ألا يكلفه ما لا يطيق ثانياً: ألا يكلفه ما لا يطيق، قال ابن الحاج: ينبغي ألا يتخير المدعو على الداعي، بعض الناس يشرط ويقول: اصنع لنا كذا واصنع لنا كذا فإذا علم أنه لا يحب ذلك فلا يفعل لأنه ليس من الأدب، إنما يأكل ما حضر وينبغي إن خير المدعو ألا يتشرط لو قال: ماذا تريد؟ يقول: أريد كذا وكذا يتطلب الأشياء التي قد لا توجد، اللهم إلا أن يعلم أنه ليس في ذلك تكلف ويدخل السرور على من خيره، والتكلف هو: أن يأخذ عليه شيئاً بالدين، وليس له جهة يعوض منها، وهذا من إيقاعه في الحرج.

ألا يتعدى في إعطاء الطعام

ألا يتعدى في إعطاء الطعام ثالثاً: ألا يتعدى في إعطاء الطعام ولا يختلس منه شيئاً فينبغي للمدعو أن لا يعطي من الطعام شيئاً إلا بإذن صاحب المنزل، أو إذا كان العرف يسمح بذلك، فمثلاً أحد الضيوف يتصرف في الطعام ويعطي هذا، ويعطي هذا إذا كان العرف يسمح بذلك فعله وإلا فلا يتصرف في الطعام، وإنما صاحب البيت هو الذي يتصرف، وينبغي له أن يحذر مما يفعله بعض من لا خير فيه من أنهم يأخذون بعض ما تيسر لهم أخذه فيختلسونه ويجعلونه تحتهم حتى إذا رجعوا إلى بيوتهم أخرجوه، وهذا من باب السرقة وأكل أموال الناس بالباطل. قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية: وقالت الحنفية: يحرم رفع المائدة إلا بإذن صاحبها؛ لأنه مأذون بالأكل لا بالرفع. ولو ناول الضيف لقمة من طعامٍ ضيفاً آخر؟ روي عن محمد أنه لا يحل للآخذ أن يأكل بل يضعه ثم يأكل من المائدة؛ لأن الضيف مأذون له بالأكل لا بالإعطاء. وقال عامة مشايخهم: يحل له للعادة؛ لأن العادة جرت بأنه لا بأس للضيف أن يعطي ضيفاً آخر لأن العادة جرت بهذا، وكذا لو أعطى بعض الخدم القائمين على رأس المائدة جاز، ولا يجوز أن يعطي سائلاً ولا إنساناً دخل لحاجة؛ لأنه لا إذن فيه عادة، يعني: هو وضع الطعام، والضيف مأذون له بالأكل وليس أن يتصدق من مال المضيف وصاحب البيت على المحتاجين، هذا ما أذن له به فلا يتصرف فيه، وكذا لو ناول شيئاً من الخبز واللحم كلب صاحب البيت أو غيره لا يسعه، ولو ناوله الطعام والخبز المحترق وسعه؛ لأنه مأذون فيه عادةً، ما دام أنه شيء يزهد فيه بل ربما يرمى، إذاً يجوز أن يعطى مثل أن تأتي قطة فيأخذ عظماً أو شيئاً يسيراً جداً مما يرمى فيعطيها لا بأس به.

آداب أخرى تجب على الضيف

آداب أخرى تجب على الضيف وكذلك مما ذكروه في آداب الضيف: أن صاحب الطعام يبدأ بالضيف قبل نفسه، ثم إن الضيف لا يقطع أشياء يشق على صاحب البيت تقطيعها، ولا يتصرف في الطعام تصرفاً يضايق صاحب البيت، ولو أنه دعي إلى طعام وجاء معه من لم يدعى فماذا يفعل؟ ماذا يفعل الضيف إذا جاء معه شخصٌ غير مدعوٍ؟ جاء في صحيح مسلم: باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام، واستحباب إذن صاحب الطعام التابع وأتى بحديث: أن رجلاً من الأنصار يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ثم دعاه خامس خمسة وأتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اتبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع؟ قال: لا. بل آذن له يا رسول الله!) فإذاً ماذا يفعل الضيف؟ إذا جاء معه شخص ليس مدعو؟ الضيف يقول للمضيف: فلان جاء معي أتأذن له؟ فإن أذن دخل وإن لم يأذن رجع. ومشكلة بعض الإخوان أحياناً إذا جاء عالم إلى مكان ودعي إلى بيت فيأتي مع العالم هذا ناس ويستحلون بيت صاحب الوليمة بدون حرج ويحرجونه، فنفرض -مثلاً- أن أحد العلماء الكبار جاء إلى هذا البلد فقام أحد طلبة العلم أو أحد الأشخاص ودعا العالم إلى بيته يعني: حسب حساب واحد اثنين ثلاثة خمسة، فبعض هؤلاء الشباب يأتون مع هذا الشيخ, ويقولون: أين سيذهب الشيخ؟ فيقال: معزوم عند فلان فتذهب خمس سيارات أو عشر سيارات، ثم يدخلون، الرجل استعد لخمسة أشخاص فجاء ثلاثون شخصاً ففيها إحراج ولا شك، ولذلك ينبغي على الإخوان أن ينتبهوا لمثل هذا؛ لأن فيه إثم وإحراج لصاحب البيت، وإذا أكلوا طعاماً لا يسمح به وليس بطيب نفسٍ منه. كان الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يدعى إلى وليمة، وكان الشيخ محمد بن صالح العثيمين تلميذاً عنده، فكان ينتهز الفرصة ويذهب مع الشيخ في الطريق يسأله - ابن عثيمين يسأل السعدي في الطريق إلى الوليمة- إلى الباب ثم يرجع إلا إن أذن له صاحب البيت أو لزم عليه ولم ير الشيخ مانعاً في الدخول أو لا يضيع الوقت عليه دخل، فإذاً لا مانع من مرافقة العالم إلى المكان الذي دعي إليه لكن لا يدخل معه، تريد أن تستفيد من الطريق أم أن تستفيد من البطن؟ فإلصاق النفس في الحقيقة فيه حرج شرعي وإثم. وكان جارٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً ثم جاء يدعوه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وهذه؟ يشير إلى عائشة فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ قال: نعم -في الثالثة- فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله). فينبغي على الضيف أن يستأذن لمن معه أو يأمرهم بالرجوع إذا أحس أن هناك حرج على صاحب البيت، وينبغي على صاحب البيت أن يتلطف في الرد، وكذلك فإن الضيف لا يأتي معه بمن يؤذي صاحب البيت دخوله. ومن آداب الضيف: أنه لا يتقدم على صاحب البيت في الإمامة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ولأن في التقدم عليه إزراء به وليس هذا من حسن الخلق. وينبغي على الضيف إذا نزل أن يحذر من إتلاف شيءٍ من أثاث ومتاع صاحب البيت، فإن بعض الضيوف إذا جاءوا إلى البيت كسروا وأطلقوا لأولادهم العنان فتراهم يكسرون في ممتلكات صاحب البيت، ويوسخون السجاد، وترى (الآيسكريم) على الفراش، والحلاوى على الحيطان وهذا شيء سيئ جداً. روى عبد الرزاق رحمه الله -والحديث في الترمذي - قال: [نزل بـ عائشة ضيفٌ فأمرت له بملحفة صفراء مما يلتحف به فاحتلم فيها، فأصاب اللحاف شيء فاستحيا أن يرسل بها وفيها أثر الاحتلام، فغمسها في الماء ثم أرسل بها، فقالت عائشة: لما أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصبعه ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعي]. ورواية الترمذي: [ضاف عائشة ضيف فأمرت له بملحفة صفراء، فنام فيها فاحتلم فاستحيا أن يرسل بها وبها أثر الاحتلام، فغمسها بالماء ثم أرسل بها فقالت عائشة: لما أفسد علينا ثوبنا إنما كان يكفيه] وذكر الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهو قول واحدٍ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء مثل سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال في المني يصيب الثوب: يجزئه الفرك وإن لم يغسل، فإذاً لينتبه الضيف من إفساد متاع أصحاب البيت، أو ترك الأولاد يعبثون في الأشياء ويكسرونها؛ فهذا ليس متاعاً له وإنما هي حقوق الناس، وفي الحقيقة يغرم إذا تعدى، وإذا ترك أولاده يفسدون يغرم لكن إذا تلف شيءٌ بدون تفريطٍ منه فلا يضمن. وينبغي على الضيف المبادرة إلى الأكل إذا دعي، فإن السنة إذا قدم الطعام أن يبادر بالأكل؛ لأنه كرامة لصاحب المنزل فلما قبضت الملائكة أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخاف أن يكون من ورائهم شر، فقبول الكرامة والأكل منها فيه تطييب لخاطر صاحب البيت، والرفض فيه شيء من الإهانة والإزعاج، كما قال ابن العربي في أحكام القرآن، وقال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار شرح البزدوي: ألا ترى أن ترك الأكل عند الإباحة إساءة ودليل على العداوة، حتى أوجس الخليل صلوات الله عليه خيفة في نفسه من الضيف إذ لم يأكل من ضيافته. وقال في المغني: والعرف يقتضي أن تقديم الطعام للضيف هو إذن له بأكله، ولا خلاف بين العلماء فيما علمناه بأن تقديم الطعام بين يدي الضيفان إذن بالأكل وأنه لا يحتاج إلى قبول بقوله، ووجد ما يدل على التراضي. وإن من الكبائر سرقة الضيف من بيت المضيف الذي أدخله وأكرمه، فإذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئاً نظر فإن سرقه من الموضع الذي أنزله فيه أو موضعٍ لم يحرزه عنه لم يقطع؛ لأنه لم يسرق من حرز، وإن سرق من موضعٍ محرزٍ دونه نظرت فإن كان منعه القرى -يعني: بخل وما ضيفه- فسرق بقدر ما منعه فلا قطع عليه، وإن لم يمنع قراه -يعني: ضيفه وأكرمه- فإن أخذ شيئاً من الحرز يقطع، وهذه ظاهرة موجودة في المجتمع، ويدخلون على أنهم ضيوفهم وهم في الحقيقة حرامية، وقد يقع ذلك عند النساء أيضاً تدخل بيت صاحبتها فتسرق الدروج، المحافظ، والشنط، وغيرها من الأشياء. يقول لي أحدهم: دخلت بيتنا امرأة وقد وضعت مبلغاً في حقيبة فوق الدولاب وكانت زوجتي غائبة ثم رجعت وما انتبهت للحقيقة، ثم خرجت من الغرفة فأخذت الحقيبة أريد المال فما وجدت المال فقلت لها: انظري في شنطة هذه المرأة قال: فوجدنا فيها نفس المبلغ وقد وضعت فيها فئات مختلفة فوجدنا نفس تلك الفئات، فهناك بعض من لا يتقي الله يعملون الكبائر، ثم أين؟ في بيت من أكرمهم. أحضر لي شخص في المسجد قبل أيام فاتورة التلفون بمبلغ أربعين ألف ريال، وقال: حضرني أقرباء في عيد الأضحى وبعد أن غادروا جاءت الفاتورة بهذا المبلغ كله في المدة التي جلسوا فيها عندي في البيت. فإذاً: هناك من يرتكب الكبائر العظيمة التي يزداد قبحها في حق من أكرمه وفتح له بيته وآواه وضيفه، فأين هم من ديان يوم الدين؟ ومن بعض المنكرات التي يفعلها بعض الناس من الضيوف أن يحلف بالطلاق على المضيف ألا يذبح له، ما دخل زوجته الآن؟! وهذا أصل المشكلة التكلف من أصحاب البيوت من المضيفين، والنبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن التكلف للضيف) والحديث في صحيح الجامع. وفي الأوسط للطبراني عن شقيق بن سلمة قال: دخلنا على سلمان الفارسي فدعا بما كان في البيت، وقال: [لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف للضيف لتكلفت لكم]. فلا ينبغي للإنسان أن يتكلف، ولا ينبغي للضيف أن يحلف بالطلاق، يمكن أن يقول: لا تذبح، وإذا علم أن الرجل هذا سيستدين، ويرهق نفسه، ولو نهاه ما يذبح، يمكن يحلف عليه في الله، لو كان يخشى أنه يتكلف كلفة لا يطيقها، ثم إن بعض الناس يحلف وذاك يذبح، ثم لا هو استفاد من الحلف وذبحت الذبيحة ثم يأتي ليضع يده على الرز يقول: هذه تحليل يمينك يا فلان، ما علاقة وضع اليد على الرز بالأيمان. مسألة فقهية: لو حلف عليه ألا يذبح فاكتشف أنه ذبح قبل أن يحلف قال: والله ما تذبح، قال: ذبحنا، ففي كتاب أنوار البروق في أنواع الفروق في قاعدة تعذر المحلوف عليه قال: إذا حلف ضيف على صاحب الدار ألا يذبح فتبين أنه قد ذبح فلا حنث؛ لأن رفع الواقع محال، فإذاً لا تجب كفارة في هذه الحالة، ولا يكون حانثاً، إذا فات محلوفٌ عليه لمانعٍ إذا كان شرعياً فحلفة مطلقة، وإن كان كلٌ قد تقدم منهما فلا حنث.

الكرم ومنزلته عند العرب وذم البخل والبخلاء

الكرم ومنزلته عند العرب وذم البخل والبخلاء وختاماً: فإن الإكرام من الأمور الحسنة الطيبة التي جاء بها الإسلام ودل عليها العقل والفطرة السليمة، وحتى العرب كانوا يعرفون ذلك، وكان ذلك من شئونهم، وقالوا كلاماً كثيراً، وأشعاراً حسنة في هذا الباب، ومن ذلك هذه الأبيات التي جاءت في الكرم والبخل يقول: لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها بأكثر خيراً من خوان عذافر هذا الفرزدق يمدح عذافر المشهور بالكرم: ولو ضافه الدجال يلتمس القرى وحل على خبازه بالعساكر بعدة يأجوج ومأجوج كلهم لأشبعهم يوماً غداء العذافر طبعاً هذا من المبالغات، وقال الخريمي: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب يقول: الإكرام بطلاقة الوجه أهم من الإكرام بالأكل. وكذلك قال عمر بن الأحسن التيمي الذي شعره كأنه حلل منشرة: ذريني فإن الشح يا أم مالكٍ لصالح أخلاق الرجال سروق ذريني وحظي في هواي فإنني على الحسب العالي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء أجبته وقد حان من ساري الشتاء طروق والمستنبح: هو الكلب. فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً فهذا مبيت صالحٌ وصديق أضفت ولم أفحش عليه ولم أقل لأحرمه إن الفناء يضيق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق وأما في البخل فقالوا أيضاً أبياتاً مما يعيب البخيل، فمن ذلك قول حماد عجرد: وجدت أبا الصلت ذا خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف تخمة أضيافه فعلمهم أكلة واحدة وقال حاتم الطائي: إذا ما بخيل الناس هرت كلابه وشق على الضيف الغريب عقورها فإن كلابي قد أقرت وعودت قليلٌ على من يعتريها هريرها إذا حل ضيفي بالفلاة ولم أجد سوى منبت الأطناب شب وقودها وقال بعضهم: يستأنس الضيف في أبياتنا أبداً فليس يعلم خلقٌ أينا الضيف من مستأنس البيت ما تدري من هو الضيف. وقيل للأوزاعي: رجلٌ قدم إلى ضيفه الكامخ والزيتون وعنده اللحم والعسل والسمن؟ قال: هذا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وقال بعضهم: لا در دري إن أطعمت نازلهم خبز الشعير وعندي البر مكنوز وقال أحد البخلاء: أعددت للضيفان كلباً ضارياً عندي وفضل هراوة من أرزن وهذا نوع من الشجر الصلب تتخذ منه العصي. ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً متشكياً عض الزمان الألزن ورأى الحطيئة رجلاً وبيده عصا فقال: ما هذه؟ قال: عجراء بنت سلم، قال: إني ضيف، قال: للضيفان أعددتها. وقال آخر: وأبغض الضيف ما بي جل مأكله إلا تنفخه حولي إذا قعدا مازال ينفخ جنبيه وحبوته حتى أقول لعل الضيف قد ولدا وقال بعضهم: استبق ود أبي المقاتل حين تأكل من طعامه سيان كسر رغيفه أو كسر عظمٍ من عظامه فتراه من خوف النزيل به يروع في منامه وقال بعضهم: يا تارك البيت على الضيف وهارباً منه من الخوف ضيفك قد جاء بخبزٍ له فارجع فكن ضيفاً على الضيف وأخيراً: قال أعرابي يصف أحد هؤلاء: أقاموا الديدبان على يفاعٍ وقالوا: لا تنم للديدبان قال صاحب بيت لحارسه: إذا رأيت ضيفاً يقدم علينا فأخبرنا به. فإن أبصرت شخصاً من بعيدٍ فصفق بالبنان على البنان ثم قال: إنهم من بخلهم جعلوا الصلاة بلا أذان، خافوا إذا أذنوا أن يسمع الناس الصوت ويأتون. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أكرموا ضيوفهم وأن يجعلهم ممن أكرمهم إكراماً في جنات النعيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أكل الضيف الأول مرة أخرى مع الضيف الثاني

أكل الضيف الأول مرة أخرى مع الضيف الثاني Q إذا كان الإنسان ضيفاً أكل، وبعد ذلك أتى ضيفٌ آخر فهل للضيف الأول أن يأكل معهم؟ A لا بأس. وإذا لم يأكل أيضاً فلا حرج.

الحذر من بعض الضيوف غير المعروفين

الحذر من بعض الضيوف غير المعروفين Q في هذه الأيام ومع انتشار الفساد هل هناك حرج من ضبط الضيف غير المعروف؟ A يمكن للإنسان أن يضيفه ويراقبه، وليس معنى ذلك إدخال السرق والمجرمين للبيوت، لا. وسيأتي مزيد لهذا إن شاء الله في الدرس القادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب الطعام [1، 2]

آداب الطعام [1، 2] إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا هذا الدين، فلا يحق لأحد أن يزيد فيه أو ينقص، أو يعدل أو يستدرك، وقد بين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم كل شيء في السنة المطهرة، ومما ذكر لنا آداب الأكل والطعام، وقد أورد الشيخ حفظه الله آداباً جمة وردت فيها الأحاديث عن رسول الله، ثم ذكر بعد ذلك آداباً طيبة دل عليها العرف والعادات الحميدة عند المسلمين.

جملة من الآداب في باب الأكل

جملة من الآداب في باب الأكل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة أيها الإخوة عن أدبٍ آخر من الآداب الشرعية، وهو أدبٌ نحتاج إليه باستمرار، ألا وهو: (أدب الأكل)، أو: (آداب الطعام)، وهذا الأدب من الآداب التي أطال العلماء في شرحها؛ نظراً لكثرة الآثار الواردة فيها والأحاديث والنصوص الشرعية، وقد سبق أن قلنا: إن الشريعة تهتم بجميع نواحي حياة الإنسان، وكلما كانت الناحية أكثر وجوداً في حياة الشخص المسلم، كانت الشريعة أكثر تطرقاً لما يتعلق بهذا الأدب من التفصيلات. أما بالنسبة إلى هذا الأدب فإننا نحتاج أن نلخص بعض فروعه قبل أن نبدأ في تفصيله، فنقول: والله المستعان. إن آداب الطعام، أو آداب الأكل كثيرة؛ فمن آداب الأكل: أولاً: غسل اليدين قبله، لما رواه النسائي بإسنادٍ صحيح ورجاله رجال الشيخين، غير محمد بن عبيدة وهو صدوق، كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه) وهذا حديثٌ عزيزٌ جيد في هذه المسألة. ثانياً: تسمية الله سبحانه وتعالى قبل الطعام، كما دلت عليه أحاديثٌ كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله) وقد جاء صريحاً بلفظ: (يا غلام! إذا أردت أن تأكل فقل: باسم الله). ثالثاً: أن يأكل بيمينه: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وكل بيمينك). رابعاً: أن يدنوا من الطعام: لقوله عليه السلام في حديث الغلام أيضاً: (ادن يا بني). خامساً: أن يأكل مما يليه: لقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وكل مما يليك). سادساً: الاجتماع على الطعام، وعدم الأكل متفرقين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه) وينتج عن ذلك أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة والستة كما رواه ابن ماجة وهو حديثٌ صحيح. سابعاً وثامناً: ألا يمسح يده بالمنديل أو بغيره حتى يَلعِقها، أو يُلعقها كما جاء عند النسائي وهو حديثٌ صحيح: (إذا أكل أحدكم الطعام فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعِقها، ولا يرفع الصفحة حتى يلعقها فإن آخر الطعام فيه البركة) وهذا هو الأدب الثامن، والذي قبله لعق الأصابع، والثامن: لعق الإناء. فإن آخر الطعام فيه البركة. تاسعاً: إذا سقطت اللقمة ألا يتركها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فليمط ما رابه منها وليطعمها، ولا يدعها للشيطان). عاشراً: انتظاره حتى يذهب فوره ودخانه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنه أعظم للبركة) يعني: الطعام الذي ذهب فوره. الحادي عشر: عدم النفخ في الطعام، وقد يكون لهذا أضرار لا نعلمها. الثاني عشر: الأكل من جوانب الطعام كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها -أي وسطها- يبارك لكم فيها) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلوا باسم الله من حواليها واعفوا رأسها، فإن البركة تأتيها من فوقها) وقال أيضاً في الحديث الصحيح: (إن البركة وسط القصعة فكلوا من نواحيها ولا تأكلوا من رأسها). الثالث عشر: أن يجلس على الأرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد؛ فإنما أنا عبد) وقال أيضاً في الحديث الآخر: (آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء). الرابع عشر: إذا أتاه خادمه بالطعام أن يناوله منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه علاجه ودخانه؛ فليجلسه معه -يعني إجلاس الخدم معهم- فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلةً أو أكلتين). إذاً: بما أن الخادم قد شق عليه عمل الطعام، وهو الذي قد جاءه من حره ودخانه فمن المكافأة له وقد اشتهاه أن يجلسه معه، وهذا أيضاً فيه تواضع، بالإضافة إلى المكافأة على ما حصل له. الخامس عشر: أنه إذا لم يعجبه شيءٌ من الطعام فإنه لا يتأفف ولا يتذمر وإنما يتركه فقط، كما جاء في الحديث: (إن اشتهاه أكله وإلا تركه) (ولما قدم الضب للنبي صلى الله عليه وسلم ترك أكله، وقال: إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه). السادس عشر: تفتيش التمر من الدود: فقد جاء في حديثٍ صحيح رواه أبو داود وغيره: (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالتمر فيه دودٌ، فيفتشه يخرج السوس منه). السابع عشر: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في مسألة ما يقال بعد الأكل ولهذا أذكارٌ كثيرة سنأتي عليها إن شاء الله، ومنها: الحمد لله، وما يقال أيضاً: لصاحب الوليمة، إذا دعاك فأجبت دعوته وطعمت عنده فماذا تقول له؟ وهذا سيكون إن شاء الله في موضوع: آداب الوليمة، وإجابة الدعوة، لكن في آداب الأكل سنتطرق إلى الصيغ الواردة في حمد الله تعالى لأنها كثيرة. الثامن عشر: أن الإنسان إذا طبخ لحماً مثلاً فإن عليه أن يكثر المرق ويغرف منه للجيران، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا طبختم اللحم فأكثروا المرقة، فإنه أوسع وأبلغ للجيران) وقال أيضاً: (إذا طبخ أحدكم قدراً فليكثر مرقها ثم يناول جاره منها) يعني من هذا المرق ومن هذا الطعام. التاسع عشر: ماذا يفعل إذا وقع الذباب في الإناء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن أدبٍ يتعلق بذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) وفي رواية: (وإنه يقدم السمّ ويؤخر الشفاء، فإذا غمسه كله ذهب ذلك). العشرون: كف الجشاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كف عنا جشاءك) وفي راوية: (أقصر من جشائك) وهو: الصوت الغليظ الصادر من الفم كما سبق بيانه. الحادي والعشرون: تنظيف اليدين من بقايا الطعام، خصوصاً إذا أراد أن ينام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمرٍ -وهو رائحة اللحم ودسامة اللحم وزهومته ودهنه- فلم يغسل يده فأصابه شيءٌ فلا يلومن إلا نفسه). الثاني والعشرون: أنه إذا وضع العَشاء وحضرت صلاة العِشاء، فإنه يقدم العَشاء ولا يعجل عن طعامه. الثالث والعشرون: في طريقة الجلسة، أن يجلس ناصباً اليمنى جالساً على اليسرى، أو يجلس القرفصاء كما جاء أيضاً في رواية، ولا يجلس متكئاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا آكل متكئاً). الرابع والعشرون: النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه لأنه قد ورد في الحديث الصحيح أيضاً: (النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه). الخامس والعشرون: عدم الشبع: لقوله في الحديث: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، حسب ابن آدم لقيماتٌ يقمنَ صلبه) وذم التوسع في ألوان الطعام والشراب. السادس والعشرون: الأكل بثلاثة أصابع: فإنه قد ورد في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام كأن يأكل بثلاثة أصابع، وكان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث). السابع والعشرون: ألا يقرن بين تمرتين خصوصاً إذا شاركه غيره، لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقران) وهو الجمع بين تمرتين ونحوها من الفواكه أو من الثمار التي تكون مفردة، فإنه لا يجمع بين حبتين منها، إلا أن يأذن له صاحبه، لأن في الحديث قوله: (إلا أن يستأذن الرجل أخاه). الثامن والعشرون: النهي عن الجلوس على المائدة التي فيها محرم، وهذا من الأحكام، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على مائدةٍ يشرب عليها الخمر). التاسع والعشرون: الاعتدال في الطعام، حتى في أنواعه، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول: نكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا) وهذا يدل على اعتداله صلى الله عليه وسلم في أنواع الأطعمة التي كان يتناولها. الثلاثون: عدم أكل الثوم والبصل والكراث، ولا يقربن المسجد إذا أكل الثوم والبصل والكراث، وعدم أكله لمن أراد أن يأتي المسجد. الواحد والثلاثون: الاعتناء بما دلت الشريعة على فضله من الأطعمة كالتمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بيتٌ لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه) وفي حديثٍ آخر: (بيت لا تمر فيه جياعٌ أهله) وكذلك قال: (كلوا الزيت وادَّهنوا به) فالتمر إذاً قد ورد الاعتناء به، وكذلك زيت الزيتون المعروف، وكذلك الخل فقد قال: (نعم الإدام الخل) وما راق للإنسان أكله من الأطعمة بعد ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- يعجبه الذراع والدباء -القرع- وهذا عائد إلى النفس. وفي الاعتناء بالأطعمة التي ورد الشرع بها أيضاً: إكرام الخبز -عدم القائه والاستهانة به- فإنه قد قال: (أكرموا الخبز) ولم يصح النهي عن قطعه بالسكين، وإنما الذي ورد إكرامه، فلذلك لا يلقى، والإنسان لو رآه يعتني به أكثر من غيره، للأمر بالاعتناء بإكرامه، فإذا رآه ملقىً مثلاً أخذه فوضعه أو جعله في مكان مرتفع أو أطعمه للدواب أو نحو ذلك. فهذه طائفة من آداب الطعام وشيء من الأحكام المتعلقة بها، وما يتعلق بالوليمة وآداب الدعوة والضيف، هناك أشياء مرتبطة بها مثل: الأطعمة ومثل: عدم سؤال صاحب الدعوة عن طعامه إذا كان مسلماً، كأن يقول: من أين هذا؟ ومن أين اشتريته؟

التفصيل في مسألة التسمية

التفصيل في مسألة التسمية أما بالنسبة لبعض التفاصيل المتعلقة بالموضوع فلعلنا نبدأ بحديث التسمية على الطعام، حيث إن هذا من أول ما يكون في الطعام، وإن كان غسل اليدين مثلاً يكون قبله بالترتيب المنطقي لكن نبدأ بهذا الحديث، فإنها كانت أول وصية في حديث: (يا غلام سم الله) وقد عقد الأئمة رحمهم الله في كتبهم أبواباً لهذا الأدب العظيم، ولا تخلو الكتب الستة وغيرها من بابٍ أو كتابٍ عن آدب الأكل. وأيضاً: بوبوا في الأطعمة، فإن العلماء يذكرون في مصنفاتهم آداب الأكل وأحكام الأطعمة والصيد والذبائح ماذا يحل منها؟ وماذا يحرم؟ وهناك بعض الاشتراك، لكن الذي يهمنا نحن الآن التركيز عليه هو قضية آداب الأكل. روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد).

صيغة التسمية عند الطعام

صيغة التسمية عند الطعام عنون البخاري عليه: باب التسمية على الطعام والأكل باليمين. والمراد بالتسمية على الطعام قول: باسم الله، والبسملة قول: بسم الله الرحمن الرحيم، وقد ورد هذا صريحاً حيث قال: (سم الله) لكن الكلمة قد جاء مصرحاً بها كما جاء عند أبي داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً: (إذا أكل أحدكم طعاماً فليأكل باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره) وهذا أدب يلحق بالتسمية أصلاً أو تبعاً لها، فهذا الحديث بين صفة التسمية. وهناك حديثٌ آخر أيضاً رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في السلسلة: عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم _حِحر وحَجر كلاهما صحيح- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! إذا أكلت فقل باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). قال الشيخ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، وقد ذكرت طرقه وخرجته في الإرواء، وإنما خرجته هنا من طريق الطبراني بهذا اللفظ؛ لعزته وقلة وجوده في كتب السنة المتداولة. وفي الحديث دليلٌ على أن السنة في التسمية على الطعام، إنما هي: باسم الله فقط، فإذاً: جاء الحديث بلفظ (سم الله) وجاء في حديث: (اذكروا اسم الله تعالى عليه يبارك لكم فيه) وجاء النص على الكلمة التي تقال وهي: باسم الله.

حكم زيادة الرحمن الرحيم التسمية

حكم زيادة الرحمن الرحيم التسمية قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث بعد أن ذكر الرواية التي تنص على قول: باسم الله قال: (أما قول النووي في أدب الأكل من الأذكار: إن صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: باسم الله، كفاه وحصلت السنة، فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً). (وأما ما ذكره الغزالي من آداب الأكل في كتابه الإحياء: أنه لو قال في كل لقمة: باسم الله كان حسناً، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى: باسم الله، ومع الثانية: بسم الله الرحمن، ومع الثالثة: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم أر في استحباب ذلك دليلاً). إذاً السنة: باسم الله، والزيادة عليها غير محمودة؛ لأنها زيادة على السنة، ولذلك ذكر الشيخ الألباني في بعض كلامه العيب على من يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قلت له: باسم الله فقط، فإنه يجيبك وماذا فيها؟ يعني: لو زدنا ماذا في هذه الزيادة؟ وقد سبق بيان أن كلمة العامة: زيادة الخير خيرين، أنها ليست بصحيحة على إطلاقها، وأن الزيادة على السنة توقع في البدعة، وأن مجاوزة ما جاء به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه فتح الباب، والخطير من ذلك: الاستدراك على الشريعة، لأنه كأنه يقول: ما جاءت به الشريعة فهناك ما هو أفضل منه، ويحكم رأيه فيقول: عندي وفي رأيي أن: بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من باسم الله؛ لأن فيها ذكر كلمة: الرحمن والرحيم، وهما اسمان من أسماء الله عظيمان. فنقول: ليست المسألة بالاستحسان العقلي، المسألة بالدليل، ما دام أنه قد ورد النص على باسم الله، فنلتزم به. وواضح من كلام ابن حجر رحمه الله أن التسمية مرة واحدة فقط في بداية الطعام، وأنه لا يكرر ذلك في اللقم المختلفة. لكن لو نسي قال: باسم الله في أوله وآخره. لكنه يقولها مرة واحدة. وهذا الحديث وهو: حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه وهو صحابيٌ صغير، ولكنه حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ونقله، وهو أنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فجلس وكانت يده تطيش في الصحفة ومعنى تطيش: تتحرك في نواحي الصحفة المختلفة ولا تقتصر على موضعٍ واحد يميناً وشمالاً، وكذلك معناها: تسرع فالطيشان في الصحفة إذاً: الإسراع والتجول فيها يميناً وشمالاً، وعدم الالتزام بمكانٍ معين، أو الالتزام بالأكل مما يليه. وأما بالنسبة للصحفة فهي: التي تشبع الخمسة وهي أكبر من القصعة.

حكم الإتيان بالتسمية

حكم الإتيان بالتسمية وأما بالنسبة لحكم التسمية، لما قال: (يا غلام! سم الله) فادعى النووي رحمه الله إجماع العلماء على استحباب التسمية، ولكن ادعاؤه ذلك فيه نظر كما بين الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، والأصل أن الأمر للوجوب، قال يا غلام: (سم الله) وهذا فعل أمر؛ فهو يفيد الوجوب، لكن لابد أن نقول: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك. فمنهم من قال: إنه للاستحباب ومنهم من قال: إنه للوجوب، وقد اقترنت المسألة -مسألة سم الله- بمسألة لا شك بوجوبها وهي: قضية الأكل باليمين، لأنه قال: (سم الله، وكل بيمينك) ولا شك أن من القرائن التي يستدل بها على وجوب أمرٍ من الأمور أن يكون مقترناً بشيءٍ آخر الأمر فيه للوجوب قطعاً، ولا شك أن الأكل باليمين واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من أكل بشماله، فقال: (لا استطعت) وقال لمن رآها تأكل بشمالها: (أخذها طاعون غزة) وفعلاً بعد سنواتٍ مرت بـ غزة وكانت فيها طاعون فماتت منه. إذاً: هذه قرينة تدل على أن التسمية واجبة، وصيغة الأمر واردة في الحديث في جميع الأوامر (سم الله) (كل بيمينك) (كل مما يليك) ونص الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب: الأم على الوجوب، ولكن أكثر الشافعية حملوه على الندب وبذلك جزم النووي رحمه الله تعالى، هذا بالنسبة لقول: باسم الله.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل عموما من كلام ابن تيمية

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً من كلام ابن تيمية وفاتنا شيءٌ أن نذكره في بداية الحديث وهو: هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً ملخصاً فلعلنا نرجع إليه الآن قبل أن يفوتنا ذكره ونحن شرعنا في التفاصيل. لقد ذكر ابن تيمية رحمه الله طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، فلنعد إلى ذلك قبل أن نسترسل في التفاصيل: فقد ذكر الإمام تقي الدين أحمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى في موضوع آداب الطعام ما يلي: قال: وأما الأكل واللباس فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه ولا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فكان إذا حضر خبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر فاكهةٌ وخبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر تمرٌ وحده أو خبزٌ وحده أكله، وإن حضر حلوٌ أو عسلٌ طعمه أيضاً، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القثاء بالرطب، فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين -ربما بعض الصوفيين الذي يدعون الزهد، إذا حضر بين يديه لونان من الطعام قال: لا آكل لونين ارفع واحداً حتى آكل- ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة بحجة أنه يشغل عن العبادة أو أنه منافٍ للزهد، فإنه يأكله ولو كان مشوياً لذيذاً يأكله -مادام حضر، ما دام حلالاً طيباً- وكان أحياناً يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء، وأحياناً يربط على بطنه حجراً من الجوع، وكان لا يعيب طعاماً فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه، وأكل على مائدته لحم ضبٍ فامتنع عن أكله وقال: (إنه ليس بحرام، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). وقال رحمه الله تعالى: كذلك في مسألة أكل الطيبات. بعد ما أتى بحديث الإنكار على الثلاثة الذين حرموا ما أحل الله على أنفسهم، وقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، قال عليه الصلاة والسلام: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) طبعاً هذا فيه رد على النباتيين الذين يأكلون الأشياء النباتية من باب الزهد، يقولون: لا نأكل اللحم؛ لأن أكل اللحم منافٍ للزهد، فإذاً هؤلاء مبتدعة ومن أنواع البدع البدع التركية؛ لأنه يترك أشياء لم تأمر الشريعة بتركها، مثل أكل اللحم تزهداً وتقرباً، فهذه من أنواع البدع، لكن إن تركه؛ لأنه يضر به، أو لوصية الأطباء واقتصر على أكل الفاكهة والخضار، فإنه ليس بمبتدعٍ والسبب في ذلك نيته، فإن نيته في الحالة الأولى: تركه تقرباً إلى الله، وفي الحالة الثانية: تركه لأنه يضر به. فقال رحمه الله: وقد كان اجتمع طائفةٌ من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه وذكر الحديث ثم قال: وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] فأمر بأكل الطيبات والشكر لله، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطاً مضيعاً لحق الله. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) فهذه الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها والانحراف عنها إلى وجهين، ملخص الوجهين: أولاً: قومٌ يسرفون في تناول الشهوات. ثانياً: قومٌ يحرمون الطيبات. فإذاً الانحراف في هذا سيأتي من هذين الطريقين، الطريق الأول: قوم يسرفون في تناول الشهوات، والله يقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]. الطريق الثاني: قومٌ يحرمون الطيبات والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام من كلام ابن القيم

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام من كلام ابن القيم وقال ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب زاد المعاد: وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام لا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قرب إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه، فيتركه من غير تحريمٍ وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر، كما جاء في الحديث فاجتره خالد -الضب اجتره خالد - وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما. وذكر ابن القيم رحمه الله طائفة مما أكل عليه الصلاة والسلام فقال: وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج كما سيأتي في حديث الرجل الذي تنزه عن أكل لحم الدجاج؛ لأنه رآه يأكل شيئاً منتناً فدعاه أبو سعيد وقال: أكله النبي عليه الصلاة والسلام، دعاه إلى أكل الدجاج. وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما، وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج، ولحم الحبارى، ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر الذي أتى به أبو عبيدة، وأكل الشواء والرطب والتمر وشرب اللبن خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر -طبعاً هذا ليس بمسكر- وأكل الخزيرة وهي: حساءٌ يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الإقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد -وهو الخبز باللحم- وأكل الخبز بالإهالة وهي الودك -الشحم المذاب- وأكل من الكبد المشوية، وأكل القديد -اللحم المجفف- وأكل الدباء المطبوخة، وكان يحبها، وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحب التمر بالزبد، ولم يكن يرد طيباً ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر، حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار، وكان طعامه يوضع على الأرض في السفرة، وهي كانت مائدته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ، وهو أشرف ما يكون من الأكلة فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة، والجشع الحريص يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة، وكان لا يأكل متكئاً والاتكاء على ثلاثة أنواع: أحدها: الاتكاء على الجنب. الثاني: التربع. الثالث: الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة -هذا رأيه رحمه الله- وكان يسمي الله تعالى على أول طعامه ويحمده في آخره، فيقول عند انقضائه: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفيٍ ولا مودعٍ ولا مستغنٍ عنه ربنا -غير مكفي: من الكفاية، ولا مودع: أي غير متروك الطلب- فإنه دائماً يطلب وربما قال: الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم إلى آخر الألفاظ التي ذكرها رحمه الله. وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه، ولم يكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، وكان أكثر شربه قاعداً وذكر موضوع الشرب، والشرب ستأتي له آدابٌ خاصةٌ به إن شاء الله تعالى.

التفصيل في مسألة الأكل مما يليه

التفصيل في مسألة الأكل مما يليه ونعود إلى موضوع الآداب لنأخذ أدباً أو جزئية أخرى فقط من الجزئيات فيما تبقى من الوقت. وهي مسألة الأكل مما يليه: والأكل مما يليه قد جاء في الحديث: (كل مما يليك) وفي هذه المسألة عنون البخاري رحمه الله: باب الأكل مما يليه، وقال أنس -جاء بحديث معلق- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذكروا اسم الله وليأكل كل رجلٍ مما يليه) لأن مسألة الأكل مما يليه واضحة وينبغي أن يجمع بين الأشياء، بين الأكل مما يليه وبين إلعاق الإناء، فإن قال: الإنسان كيف يكون ذلك؟ نقول: إنه يأكل مما يليه بحيث يظهر قاع الصحفة فيلعقها، يعني: الناس عندما يأكلون، بعضهم يأكل أفقياً ويتوسع، وبعضهم يأكل عمودياً تقريباً، فأيها الأقرب للسنة في الجمع بين لعق الإناء وبين الأكل مما يليه؟ لا شك أنه إذا أكل مما يليه دون أن ينتشر يميناً وشمالاً بحيث إذا ظهر قاع الصحفة لعق ما يليه، وليس المقصود أنه يلعق كل الإناء أو (التبسي) فهذا قد لا يتيسر بل ربما انبشم ولما يلعقه كله، فإذاً يأكل مما يليه حتى إذا ظهر قاعها لعقه، فإنه ينظفه ويأتي عليه بأصابعه فيكون مكان أكله محفوظاً عن الانتشار. وكذلك فإنه مما يشكل في الموضوع حديث تتبع الدباء من حوالي القصعة، فقد يظهر في بادئ الأمر تعارضاً بين حديث تتبع الدباء في القصعة وبين قضية الأكل مما يليه، وحديث تتبع الدباء رواه البخاري عن أنس: (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه، قال أنس: فذهبتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذٍ) إذا تأملنا في عنوان البخاري عن الحديث لربما تبين لنا شيئاً من الأشياء التي يزول بها التعارض. فإنه قال رحمه الله: بابٌ من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه الكراهية، وهذا القيد في قوله: إذا لم يعرف منه الكراهية مهم؛ لأن تتبع الأشياء كثيراً مما يكرهه الناس، إذا كان يأكل مع جماعة فتتبع مما عن يمينه وشماله فإنه يأكل مما عن يمين غيره وعن شمال غيره من هاهنا ومن هاهنا، لكن إذا كان يعلم أنهم لا يعيبون ذلك ولا يكرهونه، فهل يحق له أن يأخذ منه إذا علم ذلك؟ فظاهر فعل البخاري رحمه الله وصنيعه في هذه الترجمة أنَّ له ذلك. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى، أن الجواب عن هذا التعارض يمكن أن يقال: إن المسألة فيها تفصيلٌ: أنه إذا كان لوناً واحداً فلا يتعدى ما يليه، وإذا كان أكثر من لون فيجوز. وقد حمل بعض الشراح هذا الحديث على ذلك فقال: إن كان الطعام مشتملاً على مرقٍ ودباءٍ وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وبعضهم قال: هذا يحمل على ما إذا كان يأكل لوحده فيجوز له أن يتتبع الشيء الذي يريده، وقد جاء في بعض طرق الحديث أن الخياط تركه يأكل وذهب لعمله، أو أنه محتاج للذهاب فذهب، وإذا كان يأكل لوحده من صحن بناءً على ذلك، فإنه لا يكون هناك محذور في كراهية الآخرين لتتبعه لشيءٍ معين، فيمكن أن يكون الجمع بهذه الطريقة أيضاً، فإذاًً نقول: أولاً: إذا كان يعلم أن غيره لا يكره ذلك. ثانياً: إذا كان الطعام ألواناً وأصنافاً، فأمامه -مثلاً- رز أبيض، وفي الناحية الأخرى رز أحمر وهو يريد الأحمر فإنه إذا أخذ مما هو بعيدٍ عنه مما يلي غيره لا بأس بذلك. وثالثاً: أن نقول: إنه إذا كان يأكل لوحده جاز له أن يتتبع ما يريد، وبهذا يكون الجواب على هذه المسألة. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ ليتقذر صنيعه أو يكره منه فعله، فكون يده جالت في الطعام لأجل ذلك فإنه لا يكون قد آذى غيره مطلقاً، بل هناك أمر أدق من هذا ألا وهو: أنهم كانوا يتبركون بلعابه صلى الله عليه وسلم، وبريقه الذي يمسه يده، ولذلك لو أكل من أمام غيره لربما كان ذلك فيه إكرام له، من هذه الجهة.

الانحراف في الأكل وتحريم ما أحل الله

الانحراف في الأكل وتحريم ما أحل الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سبق أن تكلمنا -أيها الإخوة- عن موضوع آداب الأكل، وعددنا بعض الآداب مع ذكر بعض الأدلة في ما يتعلق بكل أدبٍ من الآداب، وسنكمل إن شاء الله الكلام عن الموضوع في هذه الليلة، وسبق أن ذكرنا أن الناس يقعون في الطعام في محذورين، وأن الانحراف في مسألة الأكل يحدث من جهتين: الجهة الأولى: الإسراف فيه. والثانية: تحريم ما أحل الله منه. وهذا هو الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الناس يقعون في الأكل في انحرافين أو هم على طرفين: الإسراف فيه، وتحريم ما أحل الله منه. وهناك بعض القصص التي ذكرها الذهبي رحمه الله في كتاب: سير أعلام النبلاء التي تبين بعض ما وقع فيه هؤلاء. قال في ترجمة أحد الزهاد: أنه عمل له خلوةً فبقي خمسين يوماً لا يأكل شيئاً، وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما فما الظن؟ -يعني فما الظن بالامتناع عن الطعام هذه الفترة الطويلة- وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع) ثم قلَّ من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطاباً لا وجود له في الخارج -يعني: الذي يجوع هذا الجوع المفرط، فإنه يسمع أشياء لا وجود لها في الحقيقة، لكن من شدة الجوع يتراءى له ويتخيل- فإن كان متمكناً من العلم والإيمان فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلاً بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده وطمع فيه الشيطان، وادعى أنه وصل إلى مرتبة عالية ونحو ذلك، وبقي على مزلة قدم وربما تزندق وقال: أنا هو، كما يقول: هؤلاء الصوفية، يقول: أنا هو، يعني أنا الله سبحانه وتعالى. وقال: نعوذ بالله من النفس الأمارة ومن الهوى، ونسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا. آمين. ثم قال في ترجمة رجلٍ آخر من الزهاد قال: صام طائر أربعين يوماً أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن؛ فليبسه قرع رأسه واختلط في عقله، قلتُ: - الذهبي يقول- فعل هذه الأربعينات حرامٌ قطعاً، فعقباها موتٌ من الخور أو جنونٌ واختلاط، أو جفافٌ يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبداً في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطابٌ من الله سبحانه وتعالى، مع أنه في الحقيقة من الجوع. وفرقٌ بين هذا وبين ما يحصل من زهد بعض الزهاد، أو أنهم كانوا لا يفرطون في الشبعة، فرق بين هذا المغرق في ترك الطعام، وبين من يترك الشبع ولا يترك الطعام. ولذلك لما نقل عن الشافعي رحمه الله، قال أبو عوانة الإسفرائيني: حدثنا ربيع قال: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذُ ستة عشر سنة إلا مرةً فأدخلت يدي فتقيئتها، يعني: مما وجد عليه من الأذى فيها. فقول الشافعي: ما شبعتُ منذُ ستة عشر سنة إلا مرة، لا يدل على أنه تارك للطعام، وإنما يدل على أنه كان يقل منه، ولأن الإكثار منه والنهم فيه ربما يسبب الأضرار، وقد مات أحد من ترجم لهم الذهبي رحمه الله في السير بسبب أنه كان أكولاً. قال: كان فلان أكولاً، فقال أحد رفقته لما قدموا مكاناً معيناً: أهدي إليه فالوذج لم ينضج، يعني: لم يكن مطبوخاً طبخاً جيداً، فقلنا له: يا فلان لا تأكله فإنا نخاف عليك، فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فلما استقر في معدته شكى وجع بطنه وانسهل إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض له، فتفاوضنا في أمره، ولم يكن لنا سبيلٌ إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندر ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج، وبتنا فلم نصبح حتى أوصى ومات فغسلناه ودفناه. فإذاً: النهم قد يكون أحياناً سبباً في الموت، وربما مات بعضهم فعلاً من كثرة الطعم انبشم ومات. وينبغي أن يكون الطعام -كما ذكرنا- من الحلال؛ ولذلك فإن أكل الحلال من أسباب إجابة الدعاء وقد أطعم أبا بكر غلامه طعاماً من كهانة تكهن بها وهو لا يحسن الكهانة، فلما علم أبو بكر قاء ما في بطنه. وأكل معمر من عند أهله فاكهة، ثم سأل فقيل: هدية من فلانة النواحة، هذه امرأة تعمل بالنياحة وتأخذ أجرة على النياحة، وأهدتهم فاكهة، فلما علم أن الفاكهة من فلانة النواحة قام فتقيأ، وذلك لأنه لا يدخل بطنه إلا الحلال. وكذلك فإن صاحب الأكل اليسير الحلال لا يحتاج إلى الأطباء، ولا تعرض له كثير من الأمراض التي تعرض للأكولين، عن ابن سيرين أن رجلاً قال لـ ابن عمر: أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟ قال: شيءٌ إذا كظك الطعام فأصبت منه سهل -إذا صار عندك كظة الطعام وأضر بك وازدحم عليك؛ عملنا لك هذا فسهل- فقال: ما شبعتُ منذُ أربعة أشهر، وما ذاك ألا أكون له واجداً، ليس لأني لا أجد الطعام، ولكن عهدت قوماً يشبعون مرة ويجوعون مرة، فكان يقتدي بهم رضي الله تعالى عنه. فإذاً ينبغي أن يكون الإنسان في مسألة الطعام معتدلاً غير مكثرٍ منه ولا مفرطاً فيه ولا يكون في ذات الوقت تاركاً له بالكلية بحيث يضر بصحته وببدنه، وعليه أن يتحرى الحلال، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع فترةً طويلة؛ لأنه كان لا يجد عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان لزهده في الدنيا لا يطلب ما لا يجد وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن وجده أكله وإلا لم يتطلبه ولم يتكلفه، وعلى الآكل أن ينوي بأكله الاستعانة على طاعة الله تعالى.

أقسام الأكل حسب الأحكام الخمسة

أقسام الأكل حسب الأحكام الخمسة إذا أردنا أن نقسم الأكل حسب الأحكام الخمسة فيمكن أن نقسمه إلى واجبٍ ومندوبٍ ومباحٍ ومكروهٍ ومحرم.

الأكل الواجب

الأكل الواجب فأما بالنسبة لما يبقى على الإنسان بحيث لو أنه ما أكل هلك، فهذا تفريط يعاقب على تركه، وأما إن كان لا يعينه على أداء الواجبات كالصلاة المفروضة وقد يبقى على قيد الحياة، لكن لا يصلي الواجبات مثلاً فهذا أيضاً من قسم الواجب يأثم لو تركه؛ لأنه لابد له من الإتيان بالصلاة الواجبة وأداء الصوم الواجب، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.

الأكل المندوب والمباح والمكروه

الأكل المندوب والمباح والمكروه القسم الثاني: ما هو مندوب: إذا كان يعينه على تحصيل رزقه، وتحصيل النوافل مثل: قيام الليل أو أنه يعينه على الإكثار من صيام النافلة، يكون مستحباً وقد يكون مباحاً إذا لم يصل إلى درجة الشبع والامتلاء فهو يزيد فيأكل مقدار الثلث، ويزيد لكن لا يصل إلى درجة الشبع والامتلاء، أما إذا وصل إلى درجة الشبع فإنه يكون مكروهاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم يأكل في معيٍ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) الكفار يأكلون لا يشبعون ولا يذكرون الله عز وجل، ولو أن الإنسان دقق في أكل بعض الكفار لوجد فعلاً أنهم يأكلون أكلاً أكثر مما يأكله كثيرٌ من المسلمين، وتتعجب أين يذهب هذا الطعام، ليس في طعامهم بركة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].

الأكل الحرام

الأكل الحرام وإذا وصل الأكل إلى درجة ما فوق الشبع، فإنه يكون ضاراً عند ذلك، وربما يهلك به صاحبه، وتصيبه الآلام والأمراض والأوجاع، ولا شك أن هذا حرام، الله تعالى قال: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ولا شك أن الإنسان إذا أكل بقصد الاستعانة على طاعة الله وعبادته يؤجر، أما إذا كان يأكل لمجرد التلذذ والتمتع فإنه لا يكسب هذا الأجر، نعم، إنه لا يكون قد عمل محرماً وهذا شيءٌ أباحه الله، لكن لا يكون وصل إلى المرتبة العالية، أو أنه يؤجر على ذلك. وهناك أطعمة يستحب الأكل منها، كالأضحية والعقيقة بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأكل كل رجلٍ من أضحيته) فأمر بذلك. وهناك مأكولاتٌ لا يجوز أكلها مطلقاً كالخنزير والميتة. وهناك مأكولاتٌ يجوز أكلها لبعض الناس دون بعض، كالكفارات والنذور، فالذي يخرج الكفارة، أو أنه نذر أن يذبح ذبيحةً للفقراء لا يجوز له أن يأكل منها، بينما يجوز للفقير أن يأكل منها. ومن الأطعمة التي يستحب الأكل منها كذلك، الأكل مع الضيف إيناساً له، إجابة الوليمة والأكل من وليمة النكاح. هذا ما يتعلق ببعض الأحكام العامة في الأكل، وسبق أن ذكرنا بعض الآداب، ونتابع الكلام في تفصيل بعض هذه الآداب، من آداب ما قبل الأكل التي ذكرناها تسمية الله سبحانه وتعالى، وذكرنا بعض التفاصيل المتعلقة بذلك، ومما يضاف أيضاً إلى ما سبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره).

مسائل متفرقة في آداب الطعام وبقية الآداب

مسائل متفرقة في آداب الطعام وبقية الآداب

الاجتماع على الطعام سبب للبركة

الاجتماع على الطعام سبب للبركة والتسمية كما قلنا سبب البركة في الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان عنده طعام مع ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله في لقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه لو سمى لكفاكم) ومن الأدلة على أن التسمية أيضاً تجلب البركة، حديث وحشي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: لعلكم تفترقون، قالوا: نعم، قال: اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله؛ يبارك لكم فيه) صححه الألباني. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي) وهو حديثٌ حسن يبين أن الاجتماع على الأكل من آداب الطعام، وأن الإنسان يحاول قدر الإمكان ألا يأكل لوحده ما أمكنه وأن يجلس مع آخرين. وكذلك فإنه قد ورد حديث ضعيف: (أن الإنسان إذا قال: باسم الله أوله وآخره، قاء الشيطان جميع ما أكله) لكن ذلك لا يستبعد، ولكن يحتاج إلى صحة الدليل، لكن الشيطان إذا ما سمى الإنسان ماذا يقول لأصحابه؟ أدركتم العشاء، وإذا دخل وما سمى الله عند دخوله البيت؛ قال الشيطان لمن معه: أدركتم المبيت. فإذاً التسمية عند دخوله البيت مانع للشياطين من المبيت مع أهل البيت، وكذلك التسمية عند بدء الطعام مانعةٌ لهم من أن يطعموا معهم. وكذلك فإنه قد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة أنه قال: (كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده) هذا من الآداب التي تضاف وهو: انتظار الكبير أو العالم حتى يبدأ بالطعام، لكن الحديث في التسمية على أية حال، ولكن هذا الأدب في القصة، قال: (لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعاماً فجاءت جاريةٌ كأنها تدفع -كأن واحداً يدفعها- فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية، ليستحل بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع يدهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل) رواه مسلم. فإذاً هؤلاء جاءوا دفعهم الشيطان، ليأتوا للطعام لكي يستحل الشيطان بواسطتهما الطعام؛ لأنهما لم يذكرا اسم الله تعالى، النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيديهما قبل أن يضع يديهما في الطعام، ثم سمى النبي صلى الله عليه وسلم وأكل.

حكم الأكل بالشمال وما يستثنى منه

حكم الأكل بالشمال وما يستثنى منه وبالنسبة للأكل باليمين، فإن الأكل باليمين واجب، واليمين مفضلة على أية حال (فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى، وأما حكم الأكل بالشمال فقد قال النبي قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) رواه مسلم. فإن أكل بشماله فهو آثم، ويدل على ذلك حديث: (الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام يأكل بشماله فأمره أن يأكل بيمينه، قال: لا أستطيع؟ قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها) يعني هذا الرجل قال: لا أستطيع كبراً وإلا فهو يستطيع فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت دعا عليه فلما دعا عليه شُلت وما استطاع أن يرفعها مطلقاً. لكن هناك بعض الحالات التي يجوز للإنسان أن يأكل فيها بشماله مثل: شلل اليد اليمنى فعجز عن رفعها وحركتها، وأن يكون بها جراحة، ومقطوع اليد، فهذا لا حرج عليه أن يأكل بشماله.

عدم عيب الطعام

عدم عيب الطعام وبالنسبة لقضية عدم عيب الطعام، فسبق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه، من جهة أن الطعام مباح لكن هو لا يشتهيه، إذا كان حراماً هذا لابد أن يعاب، لو قدموا له خنزيراً أو ميتاً أو شيئاً محرماً فإنه يعيبه ولا شك، لكن إذا قدموا له شيئاً لا يشتهيه فإنه لا يعيبه، وقد تكون طريقة طهي الطعام فيها شيء مثلاً فمن السنة أن لا يعيبه، وذلك لأسباب: أن في عيبه لكسر قلب صاحبه؛ لأنه محسن وجاء بالطعام، قد تكون هذه قدرته وهذه استطاعته، وكذلك فإن عيب الطعام من العلل التي فيها لكسر قلب الصانع له، أنه ينمي عن التكبر -الكبر- والترفع والرعونة وسوء الطبع، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن من عيب الطعام، أن يقول: حامض مالح ما في ملح، ونحو ذلك من الألفاظ التي يستعملها بعض الناس. فالعيب قد يكون من جهة الخلقة، وقد يكون من جهة الصنعة، قد يعيب شكل الطعام هذا، أو يعيب صنعته، ولا شك أن الأول أشد إذا عاب شكل الطعام، وإذا كان يعود إلى الصنعة: كأن يقول: حامض، مالح قليل الملح، غليظ، رقيق غير ناضج، ونحو ذلك فهذا تجنبه من حسن الأدب.

السؤال عن الطعام

السؤال عن الطعام أما بالنسبة للسؤال عنه فإنه لا يدخل في قضية العيب: إذا حضر إنسان على طعام، فالسؤال على نوعين: إما أن يسأل هذا مذبوح أو لا؟ فقلنا: إذا كان مسلماً ثقةً لا يسأله، يأكل فقط، أما إذا كان إنساناً متساهلاً مفرطاً غير متحرٍ للحلال لا يتورع عن الشبهات هذا يتأكد منه الآكل. لكن هناك سؤالٌ ليس به عيب، وهو أن يسأل ما هذا الطعام، أي وضعوا بين يديك طعاماً لا تدري ما هو!! قد يكون فيه شيء أنت لا تريده ولا تحبه ففي هذه الحالة لا بأس أن تسأل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن ذلك، فيسأل للاطمئنان، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن خالد بن الوليد، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة: وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضباً محنوذاً -ضباً مشوياً- قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد. معناه: أن الضب لا يعيش في مكة، ولا الحجاز، ويكون في نجد: (فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قل ما يمد يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له -هذا هو الشاهد ما يسأل هذا حلال أو حرام، لا، بل يسأل ما هو هذا؟ - وأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب، فقالت امرأةٌ من النسوة الحضور: أخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما قدم له هو الضب، فقلت: يا رسول الله هو الضب، فرفع رسول صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا. ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته وأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي). فمن أراد بالسؤال أن يعرف هل هذا النوع مما هو يشتهيه أو مما يكرهه فلا بأس أن يعرف ما هو هذا، يسأل عن نوع الطعام أو من أي شيء صنع ونحو ذلك، ولأن بعض الأطعمة من طريقة الطهي لا تعرف وتتغير ملامحها، هذا الضب مشوي بطريقة لم يظهر فيها، ولذلك ما تميز له إلا بعد أن قالوا له هو ضب. بالنسبة لوعظ من يسيء الأكل فقد تقدم حديث عمر بن أبي سلمة الذي يدل على مشروعية وعظ من يسيء الأكل.

حكم الإقران في الطعام

حكم الإقران في الطعام ومن آداب الأكل: مسألة النهي عن الإقران بين التمرتين: وبالنسبة للإقران بين التمرتين ونحوها فقد جاءت فيه أحاديث، ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المظالم، باب إذا أذن إنسان لآخر بشيء جاز عن جبلة قال: كنا في المدينة مع بعض أهل العراق فأصابنا سنة -يعني قحط- فكان ابن الزبير يرزقنا التمر فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بنا فيقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه) أي: لا يقرن تمرة بتمرة عند الأكل لئلا يجحف برفقته، ما داموا مجتمعين على الطعام وهذا جاء من ابن الزبير كان يمدهم به وهو في قحط، فإذاً من الظلم أن الإنسان يتفرد بقران تمرتين دون إخوانه، ولذلك قال في الشرح في فتح الباري: فإن أذنوا له في ذلك جاز؛ لأنه حق لهم، فلهم أن يسقطوه. وكذلك أورده البخاري رحمه لله تعالى في كتاب الشركة: باب القران في التمر بين الشركاء حتى يستأذن صاحبه، وأتى بحديث جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعاً حتى يستأذن صاحبه، قال ابن بطال: النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر. أي أن المسألة فيها خلاف: هل النهي عن القران للتحريم أو أنه من حسن الأدب أن لا يقرن؟ قال: لأن الذي يوضع للأكل سبيله سبيل المكارمة لا التشاح باختلاف الناس في الأكل، الناس قدراتهم وطاقاتهم في الأكل وحاجاتهم مختلفة، هذا يأكل قليلاً وهذا يأكل كثيراً وهكذا لكن إذا استأثر بعضهم بأكثر من بعض لم يحل له ذلك، يعني: واحد يستولي على شيء دون الآخرين لا يحل له ذلك، إذا كانوا شركاء مثل المناهدة، وهي: أن يدفع كل شخصٍ قدراً من المال، فيشترون بهذا المال المجتمع طعاماً لهم جميعاً، ثم يقسمونه بينهم أو يجتمعون عليه، هذه هي المناهدة وقد وردت في السنة، وكانوا يستعملونها في الأسفار، يأخذون اشتراكات من كل واحد من الرفقة ثم يشترون بها طعاماً للجميع، فإذا نزلوا منزلاً للغداء أو العشاء ونحو ذلك أكلوا مجتمعين. فإذا تفرد بعضهم بالطعام دون بعض وقد اشتركوا جميعاً في قيمته فلا شك أنه فيه شيءٌ من الظلم، ثم إن البخاري رحمه الله تعالى: قد أورده أيضاً في كتاب الأطعمة، وقال: ثم يقول (إلا أن يستأذن الرجل أخاه فإذا أذن له جاز) والمراد بالأخ: رفيقه الذي اشترك معه في التمر مثلاً، سوء اشتركا في القيمة، أو أنه كان مهدى إليهما جميعاً، فإذا أكله دون أخيه لا شك أنه من الظلم، وكذلك فإن الإقران هذا يدخل فيه غير التمر ما كان مثل التمر، ولذلك لو كانوا وضعوا بين أيديهم عنباً أو خوخاً أو مشمشاً أي شيء مما له ثمرٌ مما هو منفصل، ولذلك قال ابن حجر: في معنى التمر الرطب وكذا الزبيب والعنب ونحوهما، لوضوح العلة الجامعة. بعضهم قيد النهي عن الإقران بما إذا كان في حال الفقر وأما إذا كان موسع فلو قرن بين الاثنتين فإنه لا يكون ظالماً للآخر؛ لأن الآخر عنده زيادة وموجود الخير كثير، فلو قرن يعني أنه لا بأس به، على أساس أنه في غير وقت الفقر والشدة. وكذلك قالها بعضهم: أنه مقيد بما إذا كانوا مشتركين فيه، أما إذا أعطاهم الطعام واحد غيرهم دون اشتراك فيقرنوا هم دون صاحب الطعام، لكن هذا يصلح إذا قلنا: العلة في القران هي الظلم، فهنا لا ظلم فلا بأس، لكن لو قلنا مثلاً: من العلة الشره، أنه إذا أكل اثنتين مع بعض صار كأن عنده نهم وشره، فهنا حتى لو كان هو مالك الطعام، فإن العلة لا تزال موجودة.

المضمضة بعد الطعام

المضمضة بعد الطعام كذلك مما يؤخذ من قضية النهي عن القران المساواة بين الضيوف، ولعله يأتي من الأحاديث ما يبين هذا. وكذلك من آداب الآكل قضية المضمضة بعد الطعام، ولعل هذه لم نذكرها في الآداب ونضيفها الآن، وقد جاء في حديث سويد بن النعمان (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بـ الصهباء فحضرت الصلاة، فدعا بطعامٍ فلم يجده إلا سويقاً فلاك منه، فلكنا معه ثم دعا بماء فمضمض، ثم صلى وصلينا ولم يتوضأ). قد يقال: هذا محله إذا كان سيصلي بعده لكن على أية حال، فالمضمضة مما يزيل الأوساخ أو مخلفات الطعام وكذلك السواك، ومما يكون فيه محافظة على الأسنان؛ فإن من أسباب تلف الأسنان بقايا الطعام التي تكون موجودة ومحبوسة فيها؛ فإذا تعفنت وأنتنت بين الأسنان سببت التسوس والآلام والأضرار. ولذلك المضمضة بعده والتسوك لا شك أنه مما يحافظ الإنسان به على صحته، ومن الأشياء التي يتأكد المضمضة فيها اللبن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مضمضوا من اللبن فإن فيه دسماً) (أو فإن له دسماً) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. يعني: اللبن فيه دسم فالمضمضة ليست مثل شرب الماء، فهذا الدسم يحتاج إذهاب أثره إلى مضمضة، واستخدام الأدوات في الطعام جائز، مثل الشوكة والسكين والملعقة، ومن الأدلة على ذلك حديث الصحيحين: عن عمرو بن أمية الضمري (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاةٍ في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها، ثم قام فصلى ولم يتوضأ). أما حديث (لا تقطع اللحم بالسكين) فقد بين الإمام أحمد رحمه الله أنه ليس بصحيح، وكذلك النهي عن تقطيع الخبز لم يثبت فيه شيء عن تقطيعه بالسكين، فتقطيع اللحم والخبز بالسكين لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استخدم الأدوات أثناء الأكل كاستخدام السكين، فلو أكل واستخدم الملعقة والشوكة وغير ذلك لا بأس به، لكن ينتبه الذين يستخدمون الشوكة والسكين أن عليهم أن يمسكوا الشوكة باليد اليمنى، وأنهم إذا احتاجوا للقطع باليمنى فإنهم لا يأكلون مباشرة، يقطعوها باليمين أولاً، ثم يأكل بالشوكة باليمين، أما ما يفعله بعضهم المقلدين للكفرة من إمساك الشوكة باليسرى والسكين باليمنى ثم يقطع باليمنى ويأكل مباشرةً باليسرى فهذا من إشراكهم للشيطان معهم في الأكل.

التفصيل في الأكل على الأرض

التفصيل في الأكل على الأرض ومن آداب الطعام: الأكل على الأرض لحديث: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) وقد جاء أيضاً في البخاري عن أنس قال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات) وقال: (ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سكرجة قط، ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوانٍ قط، قيل لـ قتادة على ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر).

حكم الأكل على السكرجة

حكم الأكل على السكرجة أما بالنسبة للأكل على الأرض فقد علمنا أن الأكثر تواضعاً والسنة أن يأكل الإنسان على الأرض، وبالنسبة للأكل على غير الأرض مما ارتفع عنها كالطاولة مثلاً فإن هذا الحديث وهو حديث أنس الذي فيه: (ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سكرجة قط) فما معنى السكرجة؟ وما علاقتها بالموضوع؟ أما السكرجة جاء في تعريفها: أنها فارسية تكلمت بها العرب، وأن معنى هذه الكلمة: قال بعضهم: القصعة المدهونة، وقال بعضهم: أنها قصعة ذات قوائمٍ من عودٍ كمائدةٍ صغيرة، فلماذا لم يأكل على السكرجة؟ قال بعض أهل العلم: ترك أكله على السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم أو استصغاراً لها؛ لأن عادتهم الاجتماع على الأكل وهذه تضيق الدائرة، أو أنها كانت تُعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم، ولم يكونوا غالباً يشبعون فلا يحتاجون إلى شيءٍ يوضع عليه فيساعد على الهضم، الآن الناس يكثرون الطعام ويشربون بيبسي للهضم. طيب لا يحتاج أن تشرب بيبسي إذا كنت لا تكثر من الطعام، لكن صارت الآن الأمراض والأشياء التي تستخدم للإعانة على الهضم نتيجة خطأ أساسي في البداية، فالذي يظهر والله أعلم أن الأكل على الطاولة ليس بمحرم، وإن الأكل على الأرض أحسن، وأكثر تواضعاً وهو السنة، لكن لو أكل على الطاولة لا حرج إن شاء الله، لكن لو سأل واحد ما هو الأفضل نأكل على الأرض أو نأكل على الطاولة؟ نقول: على الأرض؛ فهي جلسة النبي صلى الله عليه وسلم وهي التواضع: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) لكن لو أكل على الطاولة لا حرج، ولعل الأكل على الأرض من مزاياه أن الإنسان يستطيع أن يجلس الجلسة التي وردت في السنة، وهي: نصب الرجل اليمنى والجلوس على القدم اليسرى، لكن لو أكل على الطاولة في الغالب لا يتمكن أن يجلس هذه الجلسة، وأقول: لأجل هذا فإن الأكل على الأرض هو الأفضل والأقرب إلى السنة، ويمكن الإنسان إلى الجلسة المشروعة فيه، لكن الأكل على الطاولة لا يصل إلى أن يكون محرماً ألبتة. ثم إن الإنسان قد يستطيع في بيته أن يكيف على أشياء، لكن في بيوت الناس والمحلات العامة لا يكاد يوجد الأكل على الأرض.

التفصيل في عدم الاتكاء أثناء الأكل

التفصيل في عدم الاتكاء أثناء الأكل وكذلك من آداب الطعام أيضاً: عدم الاتكاء أثناء الأكل، وذكرنا كلام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد حول هذا الموضوع، وقد جاء في حديث عبد الله بن مسلم قال: (أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ، فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟! فقال: إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً) رواه ابن ماجة، وقال البوصيري، في الزوائد: إسنادٌ صحيح، ورجاله ثقات.

كيفية الاتكاء على الأرض وحكمه

كيفية الاتكاء على الأرض وحكمه لكن ما كيفية الاتكاء؟ ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاث كيفيات للاتكاء: الاتكاء على الجنب، الاتكاء على اليد، والتربع، وقد اختلف العلماء في حكمه لأن النهي ليس بصريح، لأنه قال: (إني لا آكل متكئاً) فالآن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أو مما نحن نقتدي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]؟ فلا شك أن الأصل أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نأكل متكئين وهذا هو الأحوط على الأقل، فقيل في صفة الاتكاء: أن يتمكن من الجلوس على أي صفةٍ كانت، يعني: يأخذ راحته ويتمكن، ويجلس جلسة فيها اطمئنان وراحة تامة، طبعاً من المحذور فيها أنه سيكثر من الطعام تبعاً لطريقة جلسته، وقيل: أن يميل على أحد شقيه على الجنب، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض. وقال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته فيجعل تحته فرشاً وشيئاً مريحاً للجلوس، يعني: كأنه يرى رحمه الله أن الاتكاء داخلٌ فيه، يعني: أي وضعية فيها راحة تامة، بحيث إن الإنسان يجلس فترة طويلة، فيتسبب في مزيدٍ من الأكل، قال: ومعنى الحديث (إني لا أقعد متكئاً على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزاً). وجاء في حديث أنس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمراً وهو مقعٍ) -من الإقعاء- وفي رواية (وهو محتفز) والمقصود: أن يجلس على وركيه غير متمكن، وعموماً يدل ذلك على كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئاً لا بصفةٍ بعينه، اتكاء على جنب، اتكاء على اليد، اتكاء على الوطاء، جلسة مستمكنة يستريح فيها تماماً ويأخذ راحته فيها، كل ذلك داخلٌ فيه، ولعل الأكل وهو على جنب مما يضر به، فلا ينحدر الطعام في مجاريه سهلاً هنيئاً فربما يتأذى به لو أكل متكئاً، وقيل: إن ذلك من فعل الملوك الأعاجم الأكل متكئاً، ولذلك صار مكروهاً. والمستحب إذاً للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى، فإذاً هناك كيفيتان للجلوس على الطعام قد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه. الثانية: أن يكون ناصباً للرجل اليمنى جالساً على الرجل اليسرى. ولا يستبعد أن تكون العلة مجتمعة في أشياء كثيرة -مثلاً- طبية وشرعية، قد تكون أقرب للتواضع وأبعد عن مشابهة الأعاجم تؤدي إلى عدم الإكثار من الطعام، وهكذا

التفصيل في الأكل والأطعمة

التفصيل في الأكل والأطعمة

ذم الإسراف في الأكل ورميه

ذم الإسراف في الأكل ورميه وأما بالنسبة لمسألة الأكل فإن الأكل ينبغي أن يصان عما يهينه، فقد درج الناس على أنهم إذا طبخوا طعاماً اليوم لا يأكلون منه غداً، وإذا زاد يرمونه لا شك أن هذا من الإسراف ومن الاستهانة بالنعمة، وهناك من الناس من يبحث عن لقمةٍ صغيرة، وهؤلاء لا يطيقون الطعام الذي يبيت في الثلاجة ولو كان محفوظاً، فترى عندهم استحالة أن يأكل الواحد من الطعام ثاني يوم، ولا شك أن هذا من البطر، لماذا لم يؤكل الطعام اليوم الثاني؟ لماذا لا يسخن؟ ثم ليتهم إذا ما أكلوه اليوم الثاني تصرفوا من اليوم الأول! لا، يرمى كأنه صار غير صالح للأكل، يعني: إذا زاد شيء لابد أن يرمى، أما يوم الثاني لا يمكن أن يبقى عندهم؛ وعلى أية حال، فإن هذا من صنيع المترفين ولعله يخشى على من فعل ذلك أن تزول منه النعمة.

أطعمة دل الشرع على فضلها

أطعمة دل الشرع على فضلها سبق أن ذكرنا أن هناك بعض الأطعمة التي جاءت السنة بما يفيد استحبابها أو فائدتها أو أن لها موقعاً خاصاً ونحو ذلك، فمثلاً التمر قد ورد مدحه وأن البيت الذي لا تمر فيه جياعٌ أهله، ومن أكل سبع تمرات من تمر العالية العجوة لم يضره سمٌ ولا سحر، هذا نوع معين من التمر يكون في المدينة من عجوة العالية منطقة يسمونها: العوالي، وقال بعض أهل العلم: أنه يفيد أكل سبع تمرات على الريق في الصباح من أي نوعٍ كان، لكن إذا كان من تمر العالية يكون أحسن، وأن من فعل ذلك لم يضره سمٌ ولا سحر. كذلك ورد الوصية بالتلبينة للمريض وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (مجمةٌ لفؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن) ما هي التلبينة؟ حساء، يعمل من دقيق أو نخالة، ويجعل فيه عسل سميت تلبينة تشبيهاً لها باللبن في رقتها وبياضها. جاء كذلك أن الخل نعم الإدام، حتى قال جابر: فالخل يعجبني منذُ سعمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول. وجاء كذلك الثريد قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وكذلك اللبن: الإنسان إذا شرب اللبن أكل أي طعام يقول: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه، لكن اللبن يقول: وزدنا منه، لا يقول: وارزقنا خيراً منه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإني لا أعلم طعاماً أفضل منه أو خيراً منه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

الاعتدال في الطعام والثناء على الله بعده

الاعتدال في الطعام والثناء على الله بعده وكان عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا معتدلاً في طعامه، وربما جمع اللونين معاً لأجل الاعتدال، كما كان يجمع بين البطيخ والرطب، والتمر والقثاء، والقثاء بالرطب، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من الطعام ورفعت مائدته عليه الصلاة والسلام قال: (الحمد لله كثيراً مباركاً طيباً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنٍ عنه ربنا) رواه البخاري. المكفي: من انكفأ الإناء إذا انقلب للاستغناء عنه، يعني: أن نشكر نعمة الله ولا نكفرها، وأن هذا الطعام نعمة من الله لا نكفرها، ولا مودع: غير متروك الرغبة إليه والطلب منه، ولسنا بمستغنين عنه، فهو فيه حمدٌ لله سبحانه وتعالى على هذا الطعام، وأنه يتمنى من الله سبحانه وتعالى أن تدوم هذه النعمة، وألا تنقطع. وكذلك قد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين). وكذلك جاء في الحديث الذي صحح إسناده النووي رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً) لأنه أذىً لمن لم يجعل له مخرج، لأن هذه نقمة، ومصيبة، ولذلك بعض الناس يعملون عمليات جراحية لأجل أن يجعل له مكان تخرج منه الفضلات. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر له ما تقدم ما ذنبه) حسنه الترمذي. وكذلك فإنه قد جاء: (اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه -وأما اللبن فيقال- اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن) قال الترمذي حديثٌ حسن. وقد صحح الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديثاً مشابهاً لهذا، فيما يقال عند شرب اللبن.

آداب الطعام العرفية

آداب الطعام العرفية وقد سبق ذكر كثيرٍ من الآداب التي وردت الأدلة من السنة الصحيحة بها، وهناك آدابٌ أخرى ذكرها أهل العلم بلا أدلة لكنها من الأدب ومن العرف الطيب، وقبل أن ندخل فيها هل سبق ذكر عدم إدخال الطعام على الطعام في آداب الأكل؟ لا. لاشك أنه مضر من جهة الصحة، وأنه يعرقل هضم الغذاء الأول، فبعد الفراغ من الطعام وجدت طعاماً آخر، فأضفته إلى الأول وهكذا قبل أن يتم هضم الأول، تدخل وجبة على وجبة فلا شك أن هذا مما يضر في الطب، فما صحة حديث النهي عن إدخال الطعام على الطعام؟

عدم المسح بالمنشفة قبل الأكل

عدم المسح بالمنشفة قبل الأكل وما ذكره أهل العلم في هذا ونلخص ما ذكره الأقفهسي رحمه الله في: آداب الأكل، وكذلك مما ذكره ابن طولون الصالحي في كتابه فص الخواتم فيما قيل في الولائم في موضوع آداب الطعام والأكل، قال: واغسل يديك ولا تمسح بمنشفةٍ قبل الطعام ففيه الأمن من علل ولا تغسل الصبيان أيديهم قبل الشيوخ ولا تمسح من البللِ فمما ذكروه أنه يترك تنشيف اليدين قبل الطعام؛ لأنه ربما كان في المنديل وسخٌ تعلق في اليد؛ فإذا أكل تعلق الوسخ بالطعام، لكن إذا كان المنديل نظيفاً فلا بأس أن يمسح يديه ولا حرج في ذلك، فهم يقولون: لا ينشف إذا غسل قبل الطعام حتى يدخل بيديه نظيفتين للأكل مباشرةً، وإذا غسل بعد الطعام نشف يديه لأنه لن يدخل يديه في الطعام.

غسل الكبار قبل الصبيان

غسل الكبار قبل الصبيان وكذلك مما ذكروه: عدم تقديم الصبيان على الشيوخ في الغسل قبل الأكل؛ لأنه ربما كان الماء قليلاً أو شحيحاً فيقدم الشيوخ قبل الصبيان في الغسل قبل الطعام، لأن الوسخ بأيدي الصبيان أكثر مما يكون في أيدي الكبار، فلو انتهى الماء بعد غسل الصبيان أيديهم فنكون قد أمنا من الأذى الأكثر.

تنقية الطعام قبل أكله

تنقية الطعام قبل أكله وكذلك مما ذكروه في آداب الطعام قوله: ونقي شوك طعامٍ أنت آكله ولا تكن حاطباً يوماً على دغل كحاطب الليل إن يقبض على حطبٍ حوى البلاء ونوع الإثم والأصلِ فهذا يفيد تنقية الطعام الذي فيه شوك أو أذى قبل أكله، والذي يأكله من غير تنقية يسمونه: بحاطب ليل؛ لأنه ربما أخذ مع اللقمة شيئاً يضره.

تقديم الفاكهة قبل الطعام

تقديم الفاكهة قبل الطعام وكذلك قالوا من آدابه: أن تقدم الفاكهة قبل الطعام كما قال: نضيج فاكهةٍ قبل الطعام فكل ما لم يطب أكله فاطرحه في الذبل يعني أن تقديم الفاكهة قبل الطعام أحسن؛ لأنه أسرع لهضمها، وبعضهم يستند بقوله تعالى: في ضيافة أهل الجنة أو طعام أهل الجنة: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] فقدم الفاكهة على الطعام، لكن هذا لا يستلزم أن يكون دليلاً، فمجرد ذكره معطوفاً عليه لا يكون دليلاً على تقديم الفاكهة، ثم إن الوضع في الجنة قد يختلف عن الدنيا على أية حال سواء قدموا الفاكهة قبل الأكل أو بعده فالأمر واسع.

الأكل بثلاث أصابع إذا كان الأكل جامدا

الأكل بثلاث أصابع إذا كان الأكل جامداً وسبق أن ذكرنا الأكل بثلاث أصابع، وقلنا: محلهما إذا كان الأكل بها ممكناً كما إذا كان الطعام جامداً، كما قال هذا: كل بالثلاث إذا جمد الطعام أتى وبالجميع إذا سمح الطعام ولي في الأكل من أصبعٍ مقت الإله ودع دون الثلاث ففيها كبر ذي خيلِ يعني: أن الأكل بثلاث إذا كان الطعام جامداً يمكن أكله بثلاث هو السنة، والأكل بأصبع واحد مقت، وبالاثنين كبر، فلذلك السنة الأكل بثلاث، وإذا كان لا يمكن أكله بثلاث فإنه يؤكل بأكثر من ذلك للحاجة.

استثناء الفواكه في الأكل مما يلي

استثناء الفواكه في الأكل مما يلي وذكروا أيضاً في آداب الطعام: الأكل مما يليه واستثنوا منه الثمار "الفاكهة" فإنه لا يشترط أن يأكل فيها مما يليه لأنه حب وعدد، وقد يحتاج وقد يريد أخذ واحدة دون أخرى من جهة النوع، فهي قد تكون مختلطة الأنواع، فإذا كانت ثمار فلا يشترط فيها ما يشترط في الطعام من الأكل مما يليه، وتقدم أيضاً النهي عن القران في التمر وغيره من الأشياء كالعنب وما يشابه التمر أيضاً من الثمار، واستثنوا منه ما إذا كان هو الذي يملك الطعام، أو إذا كانوا قد سامحوه بذلك الآكلون معه، أو إذا كان الآكلون كلهم يقرنون، وبعضهم قال أيضاً: يستثنى من ذلك إذا ما أكل مع عياله وأهله، وبعضهم قال: الحديث عام فلا يستثنى حتى لو أكل مع أهله.

إذا أكل من طعام غيره لا يزيد على الشبع

إذا أكل من طعام غيره لا يزيد على الشبع وكذلك مما ذكروه في آداب الطعام: أنه إذا أكل من طعام الغير فإنه لا يزيد على الشبع إلا إذا علم رضا صاحب الطعام وصاحب الوليمة، فله أن يأكل ما يشاء مع الالتزام بآداب الطعام الشرعية؛ لأن زيادة الطعام تسبب عدداً من الآفات قيل في الحكمة: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة -القدرة على التفكير تنام- وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال بعض الحكماء: من كثر أكله كثر شربه، ومن كثر شربه كثر نومه، ومن كثر نومه كثر لحمه، ومن كثر لحمه قسا قلبه ومن قسا قلبه، غرق في الآثام، ولا شك أن هذا مما هو معين، ويسبب الخمول والكسل.

عدم إدخال الطعام على الطعام

عدم إدخال الطعام على الطعام وكذلك ذكروا أن البردة مما ينافي آداب الآكل وهي: إدخال الطعام على الطعام الأول قبل هضمه؛ لأن المعدة تبرز عن هضم الطعام عند ذلك وتصبح مرتبكةً بهذا القادم الجديد وكذلك فإن المرضى لا يكرهون على الطعام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يطعمهم ويسقيهم كما ورد في الحديث الصحيح.

أن لا يكون نهما في أكله ولا يديم النظر إلى الآكل

أن لا يكون نهماً في أكله ولا يديم النظر إلى الآكل من الأشياء التي تضاف إلى قضية عدم الإكثار من الطعام أو من آداب الأكل أن لا يكون نهماً في أكله: ولا تكن نهماً في الأكل واقتصد وانفي عن العرض وصف الجوع والبخل إن الرغيب مشئومٌ في الأنام فكن زهيد أكل ترى في الناس ذا نحلِ فالتوسط في كل شيء حسن، والله يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] فالإنسان يتوسط في أكله فلا يقصر فيه حتى ينسب إلى التحشم، ولا يبالغ فيه حتى ينسب إلى الشره. ومما ذكروه أيضاً: أنه إذا قدم له طعامٌ فإنه لا يطعم منه غيره ولو كان قطاً إلا بإذن صاحب الطعام لأنه هو مالكه. ومن آداب الأكل التي ذكروها: أنه ينبغي للآكل حال أكله أن لا يديم النظر إلى جليسه؛ لأن ذلك يخجله فيترك الطعام قبل أن يشبع. وينبغي كذلك: ألا يقضم الخبز في فمه ثم يضعه في الطعام، فبعض الناس إذا أراد أن يغمس شيئاً بالخبز قضم الخبز بأسنانه ثم وضعه في الأكل، وهذا يورث أن تعاف النفوس الأخرى -نفوس الجالسين- الأكل فقد يلتصق بها من بصاقه أو يكون في فمه شيءٌ من البخر، والرائحة الكريهة، فيكره له ذلك، وهذا النوع يسمونه المهندس؛ لأنه يهندس اللقمة ثم يضعها في الطعام، كما سماها صاحب كتاب: عجائب الأكل، أو الآكل المهندس الذي يقضمها بأسنانه قبل أن يدخلها في الإناء وإن هذا مما يسبب التقزز والنفور فلا يفعل ذلك.

إغلاق الشفتين عند الأكل

إغلاق الشفتين عند الأكل من الآداب التي ذكروها أيضاً في الأكل: إغلاق الشفتين عند الأكل وأن لا يتركهما مفتوحتين، وذلك لمعنيين: المعنى الأول: الأمن من تطاير البصاق حال المضغ، وقد يقع ذلك في الطعام فيورث قنافةً يعني: تقززاً وأذىً عند الآخرين. وثانياً: أنه إذا ضم شفتيه لم يبق لطعامه فرقعة وصوت، فإن بعض الناس ربما ينزعج من صوت المضغ الذي يخرج من الآخرين، فإذا أطبق الشفتين أمن من تطاير البصاق، وأمن ثانياً من إصدار الصوت المزعج عند أكله للآخرين.

ألا يكون خردبانا

ألا يكون خردباناً وكذلك من آداب الأكل ألا يكون خردباناً، والخردبان: هو الذي يجر الخبز خوفاً أن يسبقه إليه غيره، فيجعله في شماله ويأكل بيمينه، فهذا لا شك أنه دالٌ على الشره، فالذي تكون اللقمة في يده قبل أن يبتلع التي في شدقه وعينه على الثالثة، فهذا لا شك أنه من الجشعين؛ لأن بعض الناس كأنه لا يصدق أن ما أمامه طعامٌ يمكن أن يأكله، فإذا أخذ لقمةً قبل أن يبتلع التي قبلها فهذا شره منافٍ لآداب الطعام، وتكون عينه على الثالثة أيضاً، أو تكون كلتا يديه فيهما الأكل والطعام فيأخذ من هذه لهذه ونحو ذلك، أو أنه يأخذ رغيف الخبز كله، فيجعله في يده ونحو ذلك، كلها من الأشياء التي تنافي آداب الطعام.

ترك السعال وقت الأكل

ترك السعال وقت الأكل وكذلك من الآداب التي ذكروها في حال الأكل: عدم السعال، فإذا سعل أو اضطر للسعال فإنه يحول وجهه عن الطعام ويبعده عنه، أو يجعل شيئاً على فيه حتى لا يخرج البصاق مع السعال فيقع في الطعام، فيسبب الأذى للآخرين. وكذلك ألا يتنخم، لا يخرج النخامة أو البلغم، ولا يبصق، ولا يتمخط بحضرة الآخرين عند الطعام، ولاشك أن هذا أيضاً مما يسبب القرف لدى البعض أو الأكثرين.

ألا يصف أشياء مستقذرة عند الأكل

ألا يصف أشياء مستقذرة عند الأكل وكذلك لا يذكر شيئاً فيه مستقذر، لا يصف أشياء مستقذرة إذا أكل على الأكل لا يأتي مثلاً بوصف الصراصير والجرذان والفئران، ونحو ذلك ويذكر القصص المقرفة؛ فإنها أيضاً مما يسبب نفسياً النفور من الأكل، وربما عافه بعضهم، وقال: من أجل هذه السيرة التي أتيت بها تركنا الأكل.

ألا يأكل قبل الناس

ألا يأكل قبل الناس كذلك من الآداب ألا يأكل قبل الناس، ولا يمد يده قبل الناس، ويمد يده الأكبر مثلاً ممن كانت الوليمة من أجله، أو الذي قدمه صاحب المنزل للطعام، فقد يقدم شخصاً معيناً ليبدأ أو الأكبر بالسن أو الأفضل صاحب العلم العالم، وكان الصحابة لا يمدون أيديهم إلى الطعام حتى يمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، والذي يمد يده قبل القوم دون أن يكون هناك سبب كأن يكون هو الأكبر أو صاحب العلم والفضل أو الذي قدمه صاحب البيت فلا شك أنه إذا لم تكن هناك هذه الأسباب أو بعضها يكون جشعاً.

ألا يطأطئ رأسه حال الأكل على الإناء

ألا يطأطئ رأسه حال الأكل على الإناء ومن الآداب: ألا يطأطئ رأسه على الإناء حال الأكل، وإنما يجعل شيئاً من المسافة بينه وبين الأكل. ومنها: ألا ينفض يديه على الطعام، بعض الناس وخصوصاً الذين يأكلون الرز من هذه (التباسي) وهذه الأواني فإنه يأكل وينفض يديه بعد كل لقمة على هذا الإناء ثم يأكل وينفض يديه وهكذا، وربما نفضهما على من بجانبه، على أية حال هذا أيضاً من الأشياء التي تسبب النفور، وربما وقع شيءٌ على ثوب الجليس أو على طعامه فيسبب تقذراً.

إذا أكل بطيخا ألا يخلط القشر باللب

إذا أكل بطيخاً ألا يخلط القشر باللبِّ وكذلك من آداب الطعام ألا يخلط -إذا أكل بطيخاً- يخلط القشر باللب، والأشياء التي تقشر كثيراً لا يخلط القشر ببقية الفاكهة، وكذلك لا يلقي بالقشور بعيداً؛ فربما نالت أحداً أو صدمته أو تقاطر منها شيءٌ من القشرة المرمية على الآخرين، فلا يلقي بها على المائدة. وكذلك ذكرنا عدم خلط النوى بالتمر، وكذلك كل ما كان مثل التمر، كالبرقوق مثلاً لا يخلط النوى بالثمرة، لا يخلط ما أكل بما لم يأكل، طبعاً أنتم ترون الآن -أيها الإخوة- أن هذه الأشياء فيها دقة بالغة، ولا شك أن بعض الناس يقولون: هل في الشريعة ذوق؟ مثل هذه الأشياء ربما كان بعض الناس لا يتصورون أن هذه تكلم عنها العلماء، لكنهم تكلموا عنها وذكروها وفصلوا فيها تفصيلاً عجيباً، كل الأشياء التي تخطر ببال الإنسان من القضايا المتعلقة بالذوق والأدب والنظافة، والبعد عن القرف والتقزز والقنافة وما يكرهه الآخرون كلها مذكورة ومكتوبة، مما يدل على الأدب في هذه الشريعة وأن العلماء فهموا ذلك ودونوه، وكانوا يلاحظون من الواقع الأشياء التي تنافي الأدب أو التي هي من الأدب فينصون عليها، ولو ما وردت فيها الأحاديث لكنهم ذكروها. وقلنا: إنه لا يتصرف بالطعام في غير الأكل إذا كان ليس هو صاحب الطعام، ولذلك قالوا: لا يطعم الهر والقط وغيره إلا إذا أذن صاحب البيت.

أن يختار لنفسه من الطعام الحلو

أن يختار لنفسه من الطعام الحلو وكذلك من الأشياء التي ذكروها: أن يختار لنفسه من الطعام الحلو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، ولاشك أن هذا من الطباع ولا يلزم الإنسان به.

أن الآكل إذا شبع لا يرفع يده قبل القوم

أن الآكل إذا شبع لا يرفع يده قبل القوم ومن الآداب أيضاً: أنه ينبغي للآكل إذا شبع ألا يرفع يده قبل القوم الذين لم يكتفوا منه، كما إذا كان هناك شخصٌ جائع أو شخصٌ جاء متأخراً فلو وقفوا أو توقفوا عن الطعام كلهم لأحرجوا هذا المتأخر، فيضطر لرفع يده معهم ولم يحصل له الاكتفاء من الطعام.

تليين الجانب وخفض الجناح مع الضيف

تليين الجانب وخفض الجناح مع الضيف وكذلك ينبغي للآكلين أن يلينوا جانبهم ويخفضوا جناحهم لمن يأكل معهم، ولا يؤثروا أنفسهم بشيءٍ دون بعضهم البعض، وذكروا حتى من آداب الأكل مسامرة ومآنسة الضيف الآكل، إذا كان الكلام مما يجعله ينبسط ويرتاح في أكله وطعامه، فإذا كان السكوت يجعل هناك جواً من الوحشة يخيم على الآكل فقد لا يكون مرتاحاً أثناء الطعام فقالوا: إنه يأتي بالحكايات على الأكل التي في سماعها إيناسٌ للآكل، وإطالةٌ لجلسته.

تصغير اللقمة وجودة المضغ

تصغير اللقمة وجودة المضغ وكذلك ذكروا من آداب الطعام ألا يمسح يديه بالخبز وقالوا: إنه داخلٌ في حديث (أكرموا الخبز) وتقدم أن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة. وأيضاً من آداب الطعام: تصغير اللقمة، وجودة المضغ قبل البلع، لأن بعض الناس يبلع بدون مضغٍ جيد، فهذا يضره من جهة ويدل على شرهه من جهة، لأنه يريد أن يأكل أكثر كمية في أقل وقت. وقد سئل النووي رحمه الله عن مسألة وهي: هل ورد حديثٌ في تصغير اللقمة؟ فقال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتصغير اللقمة ولا بتدقيق المضغ، ولكن نقل عبادي في الطبقات عن الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: في الأكل أربعة أشياء فرض، وأربعة سنة، وأربعة أدب، أما الفرض: فغسل اليد، والقصعة، والسكين، والمغرف، والسنة: الجلوس على اليسار، وتصغير اللقمة، والمضغ الشديد، ولعق الأصابع، والأدب: أن لا تمد يدك حتى يمد من هو أكبر منك، والأكل مما يليك، وقلة الكلام، هذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى، فإذاً تصغير اللقمة، وجودة المضغ من آداب الطعام.

ألا يقيم الآكل قبل أن يفرغ من الطعام

ألا يقيم الآكل قبل أن يفرغ من الطعام وكذلك ألا يقيم الآكل قبل أن يفرغ من الطعام، واختلفوا في الضيف هل يملك الطعام الموضوع للأكل أم لا يملكه؟ ثم قالوا: إذا امتلكه فمتى يمتلكه؟ هل إذا وضع بين يديه، أو إذا تناوله بيده، أو إذا أدخله فيه؟ وقد ينبني على هذا دقائق وفروع فقهية، لكن بعضها فيه مبالغات، كما قالوا: لو أكل الضيف تمراً وطرح النوى فنبتت شجرة فلمن هي؟ فعش أيها الضيف ويا صاحب المنزل حتى تنبت الشجرة ثم سل عن هذا الحكم.

ألا يحمل شيئا إلا بإذن المضيف

ألا يحمل شيئاً إلا بإذن المضيف من آداب الطعام أيضاً: أنه لا يحمل معه شيئاً من بيت الذي أضافه إلا بإذن صاحب البيت؛ لأنه أذن له أن يأكل ولم يأذن له أن يحمل، والطعام طعامه والمال ماله، وإذا علم رضاه جاز له أن يدعو غيره وأن يأخذ معه ويحمل وأن يأكل على الشبع، فإذا علم رضا صاحب البيت وكان صديقاً له أو أخاً ويعلم أنه لا يمانع في ذلك فعله.

ألا يأكل وحده

ألا يأكل وحده وكذلك من آداب الأكل: ألا يأكل وحده ما أمكن ذلك، بل إنه يدعو من يمكن دعوته خصوصاً من الصالحين (لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي) وقد يصادف صالحاً يدعوه معه؛ فيكون داخلاً في حديث إطعام الطعام الذي هو من أسباب دخول الجنة، ولعله يصيب من هذا الرجل دعوةً صالحةً تنفعه نفعاً عظيماً، وأيضاً الأكل أن يأكل لوحده ليس من دلائل الإيثار، ومشاركة الآخرين، ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله، إذا حضر الطعام وهو لوحده يلتمس من يأكل معه، يبحث وربما مشى مسافة حتى قيل: إن بعضهم إذا كان يريد الأكل يمشي الميل والميلين يلتمس من يتغدى معه، ولاشك أن على رأس هؤلاء إبراهيم الخليل عليه السلام الذي كان مشهوراً بإكرام الضيوف.

أن يأكل صاحب المنزل مع الضيف

أن يأكل صاحب المنزل مع الضيف وكذلك من آداب الطعام: أنه إذا كان الضيف يستحي من الأكل لوحده فإنه ينبغي على صاحب المنزل أن يأكل معه، وجرى في عادات بعض الناس أنهم يضعون الطعام ويمشون، وقد يصيب الحرج الآكلين ويريدون أن يجلس معهم صاحب البيت، ليأنسوا ولا يشعروا بالحرج لكن هو يصر على العادات والتقاليد ويمشي من المكان. وهذا ليس من الدين في شيء، هذا يرجع إلى حال الضيوف فإن كانوا ممن يرون أن تجلس معهم اجلس معهم، وإن كانوا لا مانع عندهم أن تذهب اذهب، لكن أن تقول: أنا سأحكم العادات والتقاليد، ونحن عاداتنا ما نجلس مع الضيف عند الأكل، ولو كان الضيف يريدك أن تجلس، إذاً هذا من قلة الأدب وليس من الأدب في شيء، ضع العادات على جنب وخذ ما جاء في الشريعة التي أمرت أو حثت على الإيناس واللطف وحسن العشرة، فإذا كان من حسن العشرة أن تجلس مع الضيوف فاجلس معهم وكل معهم، وآنسهم.

البدء بالطعام قبل الصلاة

البدء بالطعام قبل الصلاة وكذلك ذكروا من آداب الطعام: أنه إذا حضر الطعام لا يذهب للصلاة ويترك الطعام، وإنما يبدأ بالطعام لأن البدء به فيه إذهاب ما في نفسه من الشوق للطعام الذي قد يشغله عن الخشوع في الصلاة، وفي هذا تفصيل سبق ذكره في شرح كتاب: عمدة الأحكام.

أن يأخذ ما سقط من الأكل

أن يأخذ ما سقط من الأكل وكذلك من آداب الأكل: أن يلقط ما سقط خصوصاً من حبات الرز، الذين يأكلون الرز في هذه الأيام لا يكلفون أنفسهم مطلقاً في لقط حبات الرز الساقطة، فترمى وتجمع مع السماط وترمى، ولا شك أن هذا إهدار للنعمة وإهانة لها، ولم يتقزز الإنسان من شيء هو السبب فيه وهو الذي أسقطه والسبب في تناثره، فلماذا لا يجمعه؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت اللقمة من أحدكم فيأخذها وليمط عنها الأذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان) فلماذا لا يلتقطون حبات الأرز التي وقعت ويأكلونها؟ وهناك في العالم الذين يتمنون حبة رز؛ بل ربما تبع بعضهم نملة حتى يراها تذهب إلى شيء في الأرض من حبة شعير أو قمح صغير فيأخذه قبله، إذا كثرت النعمة عند الناس استهانوا بها ولا يعرفون قيمتها إلا إذا فقدوها. وما يورده بعض العامة لأولادهم (من أن اللقمة تتبع صاحبها يوم القيامة وتجري وراءه إذا لم يلتقطها) ليس له مستند صحيح، ولذلك لا ينبغي أن نخوف الناس بالأحاديث الضعيفة والموضوعة وعندنا من الصحيح ما يغني عنها. وكذلك: (الإناء يستغفر للاعقه) هذا حديث معروف أنه ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هناك ما يغني عنه في لعق الإناء من الأحاديث التي وردت.

أن لا يأكل عند رجل يشتهي الطعام وينظر إليه

أن لا يأكل عند رجل يشتهي الطعام وينظر إليه ومن آداب الأكل: أن لا يأكل بحضرة شخص يشتهي الطعام وينظر إليه، حتى ولو كان خادماً، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان إذا أكل والخادم موجود أن يناوله منه أو يشاركه فيه، إما أن يجلسه معه أو على الأقل يناوله منه فإنه هو الذي ولي حره ودخانه، فالخادم هو الذي طبخ وتعرض للدخان والحر والنار التي طبخ بها، فلا أقل من أن يشرك أو يعطى من الطعام. وبعض الناس يأكلون وغيرهم ينظر إليهم بتشهي الطعام، ولكن لسبب أو لآخر لا يجعلونه يشارك معهم، فذكر أهل العلم كراهية أنه يأكل بحضرة من يشتهي الطعام دون أن يشاركه فيه، حتى قالوا: ولو كان قطاً. حتى قال بعضهم: فإن في نظرة هذا من السموم التي ربما أثرت في الآكل، نظرة المتشهي للطعام ولو كان قطاً قد يكون فيها شيء، ولذلك يرمى له بشيء.

عدم الأكل في السوق

عدم الأكل في السوق ثم من آداب الأكل: قضية الأكل في السوق، وذكروا أن الأكل في السوق من خوارم المروءة وأنه إذا فعل ذلك سقطت شهادته، لكن هذه المسألة تعتمد على الزمن والوقت، يمكن يكون في وقتٍ مضى الأكل في السوق عيب كبير جداً والذي يأكل في السوق هذا إنسان ما عنده مروءة، إنسان دنيء، ولا يبالي أن يأكل أمام الناس وهم يمشون ويذهبون، ولاشك أن فيه شيءٌ من الدناءة فعلاً، خصوصاً الذين يأكلون السندوتشات وهم يمشون في السوق، أو في الأسواق والشوارع، لا شك أن فيه شيء من الدناءة وقلة المروءة. لكن الآن جعلت مطاعم فيها طاولات منفصلة، ولا يمر عليك الناس الغادين والرائحين، السوق في الماضي كان الأكل فيه دناءة وقلة مروءة؛ لأنه يأكل أمام الناس الغادي والرائح، والأكل ينبغي أن يكون فيه شيء من الاحتشام والآداب التي يصعب تطبيقها في السوق، وخصوصاً إذا كان يتمشى ويأكل، فليس من الأدب أن يأكل ويتمشى بين الناس. أما الشرب فإنهم رخصوا فيه، قالوا: لنقص زمنه لأنه لا يأخذ إلا شيئاً يسيراً، ثم قد يحتاج يصيبه العطش ويحتاج وقد جوزوا للمعتكف أن يخرج على بيته للأكل والشرب، ولو كان معتكفاً ما دام لم يحضر معه طعاماًَ وما تيسر إحضار الطعام معه.

تنظيف الأسنان بعد الأكل

تنظيف الأسنان بعد الأكل كذلك من آداب الأكل: أن يتخلل بعد الطعام ويستعمل السواك أو العود لتنظيف الأسنان وإخراج ما بها، وفي عصرنا هذا الفرشاة ومعجون الأسنان. ثم إن بعضهم: فرقوا بين الشيء الذي يخرج من الأسنان هل يبتلع أم لا؟ فقال بعضهم: إذا أخرجه بالخلال استحب طرحه وكره ابتلاعه، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه، ونقلوا ذلك عن الشافعي رحمه الله، ولم يظهر لي الفرق وما هو السبب في هذا؟ ولعل الأكل الذي يكون بين الأسنان نتيجة طول اللبث أو المكث فإنه يحدث له تغير أو رائحة؛ فإذا ابتلعه ربما يكون له ضرراً عليه، فهذا النوع من العالق الذي يطول مكثه يحتاج إلى عود إلى إخراجه، لكن الذي يخرج باللسان قد يكون مما يسهل إخراجه، ولذلك إذا خرج باللسان فلم يكن قد حدثت له فترة مكث في الفم، فما حصل له هذا التغير أو النتن، والله أعلم.

النوم بعد الغداء والمشي بعد العشاء

النوم بعد الغداء والمشي بعد العشاء وكذلك من الأشياء أيضاً فإنهم ذكروا مسألة النوم بعد الأكل، وقال بعض أهل العلم: يستحب من جهة الطب النوم بعد الغداء، والمشي بعد العشاء، وقالت العرب: تعشى وتمشى، وتغدى وتمدى. طبعاً: تعشى وتمشى، واضح التمشية بعد العشاء، ولا ينام حتى ربما يهضم طعامه لأن نومه طويل، والغداء في وسط أو في أول النهار، وبعده قيلولة، تغدى وتمدى، والأصل طبعاً تمدد، لكن اختصر على دالٍ واحدة. وكما في قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33] قالوا: هي أصلها يتمطط، فكان من علم الأولين بالطب أن النوم بعد الغداء مفيد والعشاء لابد من المشي بعده، وهذا موجود في أمثال العامة اليوم، حتى بنفس اللفظ هذا، مثل قديم لكنه ساري المفعول، تعشى وتمشى، وتغدى وتمدى. وأيضاً: مما ذكره الأطباء في الماضي التي دونها أهل العلم أن يعرض نفسه على الخلاء قبل النوم، يعني: إذا أكل قبل أن ينام يدخل الخلاء حتى لا يحتبس فيه البول والغائط فيضره ذلك؛ لأن النوم قد يأخذ وقتاً طويلاً، فيدخل الخلاء قبل أن ينام.

لا يشرع في الأكل حتى يؤذن له

لا يشرع في الأكل حتى يؤذن له هذا بعض ما ذكره الأقفاسي رحمه الله في كتابه: آداب الأكل ابن عماد الأقفاسي المتوفى سنة 880هـ وابن طولون هو: محمد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي الذي توفي بعد بفترة فإنه قد ولد بعد موت الأول، ولد في عام 880هـ وتوفي في عام 953هـ ألف كتابه: فص الخواتم فيما قيل في الولائم، وذكر في أثناء الكتاب فصلاً يتعلق بآداب الأكل، تخلل كلامه عن الولائم، فأخذ من كلام الأقفاسي شيئاً كثيراً جداً، كما هو واضح في الكتاب، والأقفاسي يأخذ من الغزالي أشياء كثيرة جداً من الإحياء، المهم لا زال أهل العلم يأخذ بعضهم من بعض، ويذكر بعضهم من بعض، والعلم ليس ملكاً لأحد، لكن لعل هناك بعض الإضافات التي ذكرها فمما ذكر من آداب الأكل: أنه لا يشرع في الأكل إذا كان عند الآخرين حتى يؤذن له، فمثل أن يقول: سموا الله أو كلوا ونحو ذلك، وقال بعضهم: يكفي أن يضع الطعام بين أيديهم، فإن مجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على إذنه لهم بالأكل وأنه لا يشترط لفظ معين، فإذا كان العرف جارياً أنه بمجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على الإذن لهم بالأكل يمشي على ذلك، أما إذا كان جرى في العرف أنه لا يبدأ إلا إذا قال صاحب البيت: سموا الله أو باسم الله، أو كلوا أو تفضلوا أو اشرعوا أو ابدأو ونحو ذلك، فإنه ينتظر حتى يبدأ ويقدم لهم صاحب الطعام أو يأذن لهم بمثل هذه الألفاظ. وقال النووي رحمه الله: الصحيح في تقديم الطعام أنه لا يجوز الأكل بلا لفظٍ سواء دعاه أم لا، بشرط ألا يكون ينتظر غيره. وقال ابن العماد: يشترط أن يكمل وضع السماط، يعني: ليس من أول طبق يأتي به معناه: اشرعوا في الأكل قال: يشترط أن يكتمل وضع السماط: يكتمل وضع الطعام بأنواعه أو بما يريد إحضاره وبعد ذلك يشرعوا فيه. نحن ذكرنا قضية غسل اليدين، وقضية الحديث الذي ورد في الوضوء للجنب، أو غسل اليدين للجنب قبل الطعام وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وثبت في حديثٍ آخر من طريقٍ عزيز ذكره الشيخ: ناصر في السلسلة غسل اليدين قبل الطعام عموماً للجنب ولغير الجنب، وللمحدث وغير المحدث.

ترك أكل الأشياء غير الناضجة

ترك أكل الأشياء غير الناضجة ومن الأشياء التي ذكرها رحمه الله تعالى في آداب الأكل ألا يأكل الطعام غير نضيج سواء كان فاكهة أو غيرها، وأن أكل الفواكه غير الناضجة من الأشياء التي تضر، وكذلك أكل اللحم النيئ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أكل اللحم المتغير، لحم قد يحصل له تغير في الرائحة بسبب طول مكثه فقال: إن لم يكن يضر فيجوز أكله، وإن كان يضر فلا يجوز أكله، ونقل عن الغزالي قوله: ويأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسره ولا يقطعه بالسكين، وقد تقدم أن قطع الخبز بالسكين ليس به بأس، وأن الحديث الوارد في النهي عن قطع الخبز بالسكين ليس بصحيح.

عدم إهدار النعمة

عدم إهدار النعمة ومن الآداب التي ذكرها أيضاً ألا يوضع الطعام على الخبز إلا ما يؤكل منه، فإن بعض الناس قد يأخذ رغيفاً ويضع عليه قطعةً من الطعام، ثم يأكل جزءاً من الرغيف ويترك الباقي وقد تلوث أو أصابه ما أصابه من الطعام فلا يأكله لا هذا ولا هذا، ويفضي ذلك إلى إهدار النعمة، كما يحدث لكثير من الناس عندما يوزعون الأرغفة على الطعام فإن بعضهم يجعل الأرغفة توزع، بحيث يقسم من هذا ومن هذا ومن هذا ثم تبقى الأشياء المقسومة أو الباقية ترمى، ولا شك أن هذا مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الخبز).

عدم غمس اللقمة الدسمة في الخل

عدم غمس اللقمة الدسمة في الخل وكذلك ورد في كلامهم: عدم غمس اللقمة الدسمة في الخل، ولعل من أسباب ذلك عدم تلويث السائل أو الشراب، أو الخل وإنما يأخذ منه فيضعه على اللقمة، ولا يضعها فيه فيجعله مشوباً بها، فربما أدى ذلك إلى تقزز الآخرين ونفورهم.

عدم الحلف على الآخرين بالأكل

عدم الحلف على الآخرين بالأكل وكذلك من آداب الأكل التي ذكرت عدم الحلف على الآخرين، وأما الحلف عليه بالأكل فممنوع، وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: الطعام أهون من أن يحلف عليه، فينبغي للشخص ألا يقول للآكل: أقسم عليك بالله حلفت عليك بالله أن تأكل والله العظيم أن تأكل، الأكل أهون من أن يحلف عليه، ما يستحق الأكل أن تأتي بلفظ الجلالة وتقسم، والله يقول: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] الحلاف الذي يكثر الحلف بالشيء المهم وغير المهم ويحلف هذه عادته وطبيعته، كثرة الحلف هذا مذموم، خصوصاً إذا كان في أشياء مثل هذه، ويمكن أنه يعزم عليه، وأن يدعوه إلى الطعام بغير الحلف كأن يلح عليه بقوله ائت، تخير، كُلْ، تفضل، وإذا آنس من رفيقه الأكل نشطه بألفاظ ولكنه لا يحلف عليه. ولا شك أن الشخص الغريب أو الشخص الذي يأتيك لأول مرة على طعام ربما يكون في نفسه شيءٌ من الحياء، ويحتاج منك إلى شيء من الإلحاح أو شيء من التشجيع على الأكل، فهذا من الأداب مع الضيف، وهذا داخل في آداب الضيف ربما استبقناه هنا، لكن على أية حال لا يقسم بالحلف على الكل هذا من الأمور السيئة المنتشرة بين الناس.

عدم شرب الماء أثناء الأكل

عدم شرب الماء أثناء الأكل ومما ذكروه أيضاً من الفوائد الطبية في آداب الأكل: أن لا يكثر من شرب الماء أثناء الأكل، قالوا: إلا إذا غص بلقمةٍ ونحوها الحاجة، لأنه وجد أن ذلك مضر بالهضم أو المعدة. وينبغي كذلك الحذر من استعمال الحار بعد البارد، والبارد بعد الحار، في الأكل والشرب وفي الشرب أكثر لأن ذلك ربما أضر به، وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في مسألة اللقمة: ويحرم عليه لو كان الطعام قليلاً أن يأكل لقماً كباراً مسرعاً في مضغها وابتلاعها حتى يحرم أصحابه، فلا شك أن هذا من الجشع، فلو كان الطعام قليلاً فلا يكبر اللقمة إذا كان مشتركاً ومعه أناسٌ آخرون حتى يكون هناك عدلٌ في الطعام.

حمد الله بعد الطعام

حمد الله بعد الطعام وكذلك تقدم: أنه يحمد الله بعد الانتهاء من الطعام، ويسأل الله أن يرزقه خيراً منه إلا اللبن، فإنه يقول: وزدنا منه، ولا يقل، ارزقنا خيراً منه، لأنه ليس هناك طعامٌ يجزئ عن اللبن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من آداب الطعام أيضاً، أنه يتجنب الأكل من الأشياء الضارة أو التي تضره هو مثل الأكل من الثوم والبصل إذا أراد أن يذهب إلى المسجد، أو أن يأكل من لحم البقر إذا ثبت عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لحم البقر داء). لكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن أهله ببقرة.

المحادثة أثناء الأكل

المحادثة أثناء الأكل وكذلك فإن من آداب الطعام ما قاله النووي رحمه الله: وإذا أكلوا جماعةً فمن الأدب أن يتحدث على طعامهم بما لا إثمٍ فيه، وبعض الناس يورد حديثاً: (تحدثوا ولو بثمن أسلحتكم) لكنه ليس بصحيح. فالأكل أثناء المحادثة مما يكون فيه إيناس، ولذلك فإنه لا بأس به وليس بحرام، بعض الناس يظن أن الحديث أثناء الأكل مما يكره أو مما ينهى عنه، وليس ذلك بصحيحٍ على الإطلاق، وللشرب آداب كما للأكل آداب، لكن حيث إن موضعنا هو آداب الأكل فنقتصر عليه.

معرفة قدر هذه النعمة

معرفة قدر هذه النعمة وكذلك فإن من آداب الطعام أنه يعرف قيمة هذه النعمة، ليحمد الله سبحانه وتعالى عليها وينوي بالأكل التقرب إلى الله عز وحل بتقوية البدن لأجل الطاعة، وهذا مما يفوت كثيراً استحضاره من كثيرٍ من الآكلين. ونكتفي بهذا القدر من آداب الأكل، وبذلك يكون قد انتهى هذا الموضوع مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة، ومن كلام أهل العلم، والآداب التي ذكروها واستحسنوها مما يتبع العرف الحسن والذوق الطيب، والأدب الذي تهواه وتميل إليه النفوس ذات الفطر الصحيحة والسليمة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الإسراف في الوجبات المكلفة

الإسراف في الوجبات المكلفة Q هل من الإسراف ما يفعله بعض الناس من ارتياد بعض المطاعم المكلفة، حيث قد تبلغ وجبة الفرد الواحد مائة ريال؟ A نعم. لا شك في أن هذا من الإسراف، ولكن المسألة أحياناً تعتمد على قدرة الشخص المادية أن يشتري طعاماً، لكن في بعض الحالات يكون هذا إسراف حتى في حق أغنى الأغنياء، فيكون الطعام غالي الثمن بغير فائدة، وإنما مجرد لأنه من المطعم الفلاني، ففي هذه الحالة يكون إسرافاً.

معنى الخل

معنى الخل Q ما هو الخل؟ هل هو الخل المعروف في يومنا؟ A نعم. الخل: هو هذا الخل المعروف في يومنا وهو يؤخذ من عدة أشياء، فهناك خل من العنب، وخل من التفاح وغير ذلك، الخل أنواعٌ كثيرة، وبعضه له فوائد طبية، بحسب المأخوذ منه.

حكم الأكل بالملعقة

حكم الأكل بالملعقة Q ماذا تقول إذا قال الشخص أن الأكل بالملعقة سنة لأنك تمسكها بثلاثة أصابع؟ A قد لا نقول: إن الأكل بالملعقة سنة، لأنك إذا قلت إن الأكل بالملعقة سنة معناها أنه كان عليه الصلاة والسلام يأكل بالملعقة، نعم، إن المغارف والملاعق كانت معروفة في عهدهم وقد جاء في بعض الأحاديث ذكرها، لكن يمكن أن يقول الشخص: إنك إذا كنت مخيراً بين الأكل بالملعقة أو الأكل بالخمس الأصابع فإن الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة، يعني: لا تقول: هو سنة، لكن تقول: هو أقرب إلى السنة من عدة جهات: أولا: أنه يمسكها بثلاث أصابع، والذي يأكل بخمس أصابع يأكل بالخمسة معاً؛ فهي أكثر من الثلاث. ثانياً: أنه إذا أكل بالملعقة كانت اللقمة أصغر مما إذا أكل بالخمس أليس كذلك؟ ولا شك أن تصغير اللقمة من السنة، وتكبيرها من الجشع، ولذلك الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة من الأكل بالخمس من جهة تصغير اللقمة. ثالثاً: أنه إذا أكل بالخمس نثر الطعام أمامه وتساقط، وإذا أكل بالملعقة يمكنه أن يتحكم فيه، فكان الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس؛ لأن الأكل بالخمس يؤدي إلى تناثر الطعام، وأكثر هؤلاء الذين يأكلون بالخمس ويتناثر بينهم الطعام لا يكلفون أنفسهم جمعه ولا أكله، وإنما يبقى هكذا. فمن هذه الجهة يكون الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس. كذلك يمكن أن يقال: إن الأكل بالملعقة أكثر تحكماً من الأكل بالخمس؛ لأنه عند أكله بالخمس كما قلنا يتناثر الطعام. لكن لو كان الإنسان يستطيع أن يأكل بثلاث أصابع والطعام يؤكل بثلاث أصابع، لأن من الطعام ما يؤكل بثلاث أصابع ومنه ما لا يؤكل بثلاث أصابع، فمثلاً: ما كان متماسكاً كالثريد، وكالتمر المخلوط بالسمن والزبد (حيس) هذا يمكن أن يأكل بالثلاث أصابع، لا داعي أن يأكل بالخمس أبداً، فلو قيل لك: تأكله بثلاث أصابع أو تأكل بالملعقة أيهما هو السنة؟ بثلاث أصابع أفضل، لكن بين الخمس وبين الملعقة قد تكون الملعقة أقرب إلى السنة من الخمس، ثم إن الذين يستخدمون الخمس ليسوا سواء، فبعضهم يستخدمها استخداماً جيداً، وبعضهم يستخدمها استخداماً في غاية الرداءة. فإذاً هناك طعام لا يمكن أن يؤكل بثلاث، الرز -مثلاً- كيف تأكل الرز بثلاث أصابع؟ ولذلك قد يكون هناك عذر أن يأكل بأكثر من ثلاث أصابع، لكن ليس العتب هنا في استخدام أكثر من ثلاث للحاجة، العتب في طريقة الاستخدام، وإذا كان الأكل بالملعقة سلبياته أقل فيكون هو أحسن، وهناك من الأطعمة ما لا يمكن أكله لا بثلاث أصابع ولا بخمس مثل: الحساء، كيف يحتسي بأصابع؟ لا يمكن، فطريقة الاحتساء إما أنه يشرب من الإناء مباشرة أو أنه يبتلعه بمغرفةٍ أو ملعقةٍ مثلاً فإذاً المأكولات تختلف، ومنه ما يحتاج إلى إمساك بالقبضة كالتفاح مثلاً، فأنواع الأكل تتحكم في الطريقة التي تستخدم في أكلها.

أكل الدباء ليس بسنة

أكل الدباء ليس بسنة Q هل أكل الدباء سنة وعبادة؟ A فيما يتعلق بالدباء ليست هذه سنة تعبدية، فلا يترتب على أكل الدباء أجر من جهة أنه سنة مثل الأكل بثلاث أصابع أو التسمية أو الأكل باليمين، لا. هذه لا تقارن بهذه مطلقاً.

كيفية قول: لا إله إلا الله بعد الفجر والمغرب

كيفية قول: لا إله إلا الله بعد الفجر والمغرب Q قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعد المغرب والفجر؟ A عشراً عشراً كما ثبت في السنة، بعد الصلاة عشراً عشراً، وبقية الصلوات مرة أو ثلاث مرات، كما ورد في السنة.

حكم ذكر دعاء معين قبل الصلاة

حكم ذكر دعاء معين قبل الصلاة Q هل يجوز الدعاء قبل كل صلاة، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً؟ A الدعاء قبل كل صلاة لا بأس به، بل هو من أوقات الإجابة بين الأذان والإقامة، لكن تعيين دعاء معين يقوله فهذه مشكلة إذا ما ورد في السنة، ولذلك لا يواظب على دعاءٍ معين.

حكم قراءة الفاتحة بعد الإمام

حكم قراءة الفاتحة بعد الإمام Q هل تقرأ الفاتحة بعد قراءة الإمام؟ A هذه المسألة طويلة ولكن الخلاصة: اختلف العلماء فيها في الصلاة الجهرية، منهم من قال تجب القراءة، ومنهم من قال: لا تجوز القراءة، ومنهم من قال: إذا كانت الصلاة جهرية لا يقرأ، وإذا كانت سرية يقرأ، وهذا أوسط الأقوال وأعدلها، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

تعليم الطفل قول: باسم الله

تعليم الطفل قول: باسم الله Q بعض الأطفال لا يقولون: باسم الله؟ A يسقط عن الطفل إذا لم يستطع أن يقول، لكن يذكره أمامه أبوه أو أمه من باب التعليم.

كيفية الأكل جماعة

كيفية الأكل جماعة Q إذا أكل جماعة مجتمعين ولكن في صحون صغيرة، كلٌ على حدة على مائدةٍ واحدة؟ A نعم. إنهم ليسوا متفرقين تماماً لكن لو اجتمعوا في صحنٍ واحد يكون أحسن.

عدم جواز رمي الأكل المكشوف

عدم جواز رمي الأكل المكشوف Q الأكل المكشوف من غير تعمد هل يرمى لأنه قد يخاف منه الداء الذي ينزل كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ A سبق أن سألت هذا السؤال الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: لا. يؤكل أو إذا خشي أن يكون نزل عليه الداء، يطعم للبهائم ولا يرمى.

حكم اللحوم تذبح في ديار أهل الكتاب

حكم اللحوم تذبح في ديار أهل الكتاب Q يوجد في الأسواق كثير من اللحوم التي ذبحت في ديار أهل الكتاب؟ A إذا كان هؤلاء لم يعرف عنهم أنهم يقومون بقتلها بطرق غير شرعية فإننا نأكل، هذا الأصل من حل أكل طعام أهل الكتاب، لكن إذا وردت الأخبار، وتكاثرت الأنباء، وتعددت المصادر، وجاءت الروايات والصور وشهادات الناس الذين زاروا تلك المصانع، أنهم يصعقون ويرمون الدجاج في أحواض المياه المغلية، وهي حية، أو يضربون البقر بالمسدس مثلاً فيقتلونها فعند ذلك لا نأكل، لأن الشبهة صارت قوية جداً، الآن جاءت الأخبار وتكاثرت وأصلاً عندهم جمعيات الرفق بالحيوان، تمنع الذبح وتقول: رفقاً بالحيوان لا تذبح، ورفق بالإنسان الذي يأكل هذه الميتة!!

كيفية أكل التمر المسوس

كيفية أكل التمر المسوس Q ما كيفية أكل النبي صلى الله عليه وسلم التمر المسوس؟ A سبق أن ذكرنا الحديث الذي رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل التمر فتشه وأخرج ما فيه من السوس ثم أكله).

عيب الطعام بعد الانتهاء منه

عيب الطعام بعد الانتهاء منه Q ماذا لو عاب شخص الطعام بعد انتهائه بفترة؟ A إذاً دخلنا في عيب الطعام قبله أو بعده أو معه، ما دام أنه حصل العيب فهو عيب، ولكن إذا أراد أن يبين لصاحب المطعم عيوب الطعام لا بأس، فهذا لمصلحة المسلمين لكن الآن ما صار لأجل مصلحة المسلمين كأن يقول: يا أخي اهتم بطعامك أنتَ تفعل فيه كذا وكذا ونحو ذلك، فهذا لا بأس، هذا قصده نصيحة للمسلمين.

الفرق بين التربع والقرفصاء

الفرق بين التربع والقرفصاء Q هل التربع هو القرفصاء؟ A لا. يختلف التربع عن القرفصاء.

تحريم الجمع بين اليد اليمنى واليسرى في الأكل

تحريم الجمع بين اليد اليمنى واليسرى في الأكل Q استعمال الأكل باليد اليسرى مع اليمنى أثناء الأكل كأن يمسك باليد اليمنى طعاماً ويمسك باليد اليسرى شراباً؟ A العبرة بالذي يوصل الطعام إلى الفم، فإذا كانت اليسرى فهو حرام.

سؤال صاحب المطعم عن مصدر طعامه

سؤال صاحب المطعم عن مصدر طعامه Q هل أسأل صاحب المطعم عن الطعام؟ A إذا كثرت الشبه عن هذا اللحم الذي يستخدمه أو الدجاج فإنك تسأله، لكن إذا كان يستخدم طعاماً مستورداً من بلاد المسلمين لا تسأل، أو من بلاد أهل كتاب لا يعرف عنهم شيء غير الذبح فلا تسأل.

حكم استخدام الملاعق والسكاكين من الذهب أو الفضة

حكم استخدام الملاعق والسكاكين من الذهب أو الفضة Q الملاعق والسكاكين مصنوعة من الذهب والفضة؟ A حرام، لا تجوز، الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نيران جهنم، ومثلها الأواني والصحون والملاعق والسكاكين والشوك وكلها داخلة فيها.

اشتراط الأكل من الوليمة في إجابة الدعوة

اشتراط الأكل من الوليمة في إجابة الدعوة Q هل إجابة دعوة الوليمة تقتضي الأكل من الطعام؟ A هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، بعضهم قال: يشترط لكي تكون مجيباً للدعوة أن تأكل من الطعام، الذي هو وليمة الزواج، وقال بعضهم: لا يشترط ولعله هو الأرجح.

أكل الشيطان مع من يأكل بشماله

أكل الشيطان مع من يأكل بشماله Q هل الشيطان يأكل مع الذي يأكل بشماله حتى وإن كان قد ذكر اسم الله عند الأكل؟ A نعم. لأنه قال: الشيطان يأكل بشماله، ولا مانع أن يكون هناك عدة وسائل للشيطان تمكنه من الأكل مع الإنسان، منها: ألا يذكر اسم الله، ومنها: أن يأكل بشماله، وإذا أكل بشماله وما سمى الله شبع الشيطان.

حكم دفع الفوائد من البنك للضرائب

حكم دفع الفوائد من البنك للضرائب Q دفع الفوائد من البنك إلى الضرائب؟ A حرام. لأنه استفاد من الربا لشيءٍ وهو دفع الضرر عن نفسه. هذا بالنسبة لأسئلة هذا الدرس والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب المساجد [1، 2]

آداب المساجد [1، 2] المساجد بيوت الله، التي يسبح له فيها بالغدو والآصال. لهذا كان لابد من صيانتها والمحافظة على نظافتها، والتأدب بآدابها، والاستنان بسننها. وفي هذا الدرس ذكر لكثير من آدابها التي لابد من التأدب بها وتطبيقها.

من آداب المسجد: الخروج على أحسن هيئة

من آداب المسجد: الخروج على أحسن هيئة الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: ففي هذه الحلقة من سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية، سنتحدث إن شاء الله تعالى عن آداب حضور المساجد. لما كانت الصلاة جماعة في بيتٍ من بيوت الله عز وجل من واجبات الدين، وسنن الهدى، كان لا بد للمسلم أن يعرف كيف يأتي المسجد ويتأدب مع بيوت الله عز وجل هذه المساجد التي أذن الله سبحانه وتعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه، لكي {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37]. والأدب الأول من آداب حضور المساجد: هو الخروج على أحسن هيئة، ومن هنا وجبت طهارة البدن والثوب، وكانت الطهارة من الأحداث والأنجاس شرطاً لصحة الصلاة، وكثير من المصلين لا يهتم أو يلقي بالاً لحضور المساجد بالهيئة الحسنة، وأخذ الزينة الظاهرة، والرائحة الطيبة والسواك، والزينة الظاهرة يراد بها جمال الثياب، فينبغي للمصلي أن يلبس عند مناجاة ربه أحسن ثيابه في صلواته من غير تفريق بين صلاة ليلية أو نهارية، صلاة فجر أو غيرها؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. وأهل العلم يستحبون للرجل أن يتجمل في صلاته ما استطاع من ثيابه وطيبه وسواكه، كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: وأما الذين يأتون إلى المسجد في هيئة رثة، ورائحة كريهة، وثياب المهنة، ورداء العمل، وملابس النوم؛ فلا شك أن هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم الاعتناء بأخذ الأدب اللازم في بيوت الله تعالى، وهم قد خالفوا قول الله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. فيتأذى المصلون بالرائحة، وتزكم الأنوف بالنتن والعرق، ولو أن الإنسان أراد مقابلة شخص له جاه دنيوي لم يأتِ بهذه الملابس، بل إنه يرتدي أحسن ثيابه، ويتطيب بأحسن ما يجد، فكيف يهتم للوقوف أمام المخلوق، ولا يهتم بالوقوف أمام الخالق، ثم إن لقاء المصلين، واجتماع إخوانه لا بد أن يكون فيه ما يفتح نفوسهم للقيا أخيهم، فإذا جاء بلباس غير حسن، فكيف تكون الألفة والإقبال؟ ثم أيضاً هناك نفر من عباد الله وهم الملائكة يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم، وبعض الناس لا يكلفون أنفسهم تبديل ثياب النوم عند المجيء إلى صلاة الفجر، ولا يحملون عناء تبديلها، وربما أحياناً يخافون على الثياب أن تتأثر طياتها، ويتبدل صقلها؛ فيتركونها للعمل، وأما بيوت الله فلا يحدث لها ما يجب من الزينة. ومن الزينة ستر العاتق، ومعلوم أن ستر العاتقين ليسا من ستر العورة، وأن العورة ليس منها العاتق، وقد قال عليه الصلاة والسلام (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد وليس على عاتقه شيء)، وفي رواية: (على عاتقيه) وإذا ثبت أن العاتقين ليس من العورة، فمعنى ذلك أن الأمر بسترهما ليس من شروط الصلاة، ولكن من أدب الصلاة، والمذهب عند أصحاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن كشف المنكبين يبطل الصلاة، وذهب الجمهور إلى الاستحباب، ومن الخطأ ما يفعله بعض المصلين عندما يصلي بهذه القمصان (الشيالة) التي لا يستر الكتفين منها إلا شيء يسير، فهذا لا يعتبر مطبقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ستر العاتقين. وأما بالنسبة لستر الرأس؛ فإن الله عز وجل أحق أن يتزين له، كما جاء في الحديث: (الله أحق أن يتزين له) فإذا كان الإنسان في بلد يتزين أهله بتغطية رءوسهم كهذا البلد؛ فإنه يتأكد في حقه تغطية الرأس، لأن عرف الناس في البلد تغطية رءوسهم، ليس هذا واجباً ولا يأثم بكشف الرأس، لكن يجري على فهم أهل بلده أنه من الزينة، وما تعارفوا عليه في هذا القضية؛ لأن قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف:31] يشمل -أيضاً- الزينة العرفية التي تعارف عليها الناس، ولكن لو كنت في بلد لا يهتمون بتغطية رءوسهم أو جلهم لا يغطون رءوسهم، فعند ذلك لا يمكن تحديد حكم شرعي في تغطية الرأس في هذه الحالة في هذا البلد الذي لم يتعارفوا فيه على تغطية رءوسهم، لكن عادة المسلمين من القديم تغطية الرأس، وكانوا يضعون العمائم. وكذلك من الأدب أن الإنسان لا يُغطي فاه في الصلاة، كما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يغطي الرجال فاه في الصلاة) وليس من الزينة تغطية الفم والتلثم، وتخصيص الفم بالنهي عن تغطيته، ولعل من أسباب ذلك: ألا تختنق الحروف في أثناء القراءة في الصلاة، بالإضافة إلى أن ذلك ليس من الزينة، فمن الخطأ أن يحضر الإنسان عند أناس ويغطي فمه في اجتماع حافل، لأنه ليس من الزينة.

من آداب المسجد: أن يكون طيب الرائحة

من آداب المسجد: أن يكون طيب الرائحة وكذلك مما يتعلق بآداب حضور المساجد أن يكون الإنسان طيب الرائحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربن مصلانا ولا يغشانا في مساجدنا)، وفي رواية: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما تتأذى منه بنو آدم). وهذه النصوص الصريحة تدل على أن الرائحة الطيبة لا بد منها لمن أراد حضور المسجد بالمفهوم، وتدل بمنطوقها على أن من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً؛ فهو مأمور باعتزال مساجد المسلمين وجماعتهم، ومأمور بالجلوس في منزله، وهو قد فوَّت على نفسه بأكل الثوم والبصل فضيلة وأجر الجماعة، وإباحة أكل هذه الأشياء لا يدل على عدم وجوب حضور الجماعة، لكن يدل على عدم جواز إتيان الجماعة لمن أكلها. وأيضاً يقال: من أكل الثوم والبصل قاصداً التحيل على إسقاط الجماعة أو عدم حضور الجماعة، فيكون آثماً بهذه الحالة، ولكن لو اشتهته نفسه، فأكل دون قصد التحيل على عدم حضور المسجد فلا بأس بذلك، لكن يكون قد حرم نفسه من أجر صلاة الجماعة، وهذا النهي ليس خاصاً بالجزء الداخل من المسجد، بل إن رحبة المسجد وساحة المسجد يشملها هذا الحكم أيضاً، لأنها من المسجد، فلا يدخل فيها وقد أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً. وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [أيها الناس! إنكم تأكلون من شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع] ليس إلى رحبة المسجد ولا إلى الساحة، ولا إلى الباب، لكن إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً، وإذا كان هذا في البصل والثوم والكراث وهي في الأصل مباحة فكيف بشرب الدخان! لا شك أن ذلك يكون حراماً، وإثمه في إيذاء عباد الله من الملائكة والمصلين معلوم وواضح، وكيف يؤذي إخوانه في مساجدهم، وبرائحة هذا المشروب الخبيث!

من آداب المسجد: التسوك

من آداب المسجد: التسوك ومن آداب حضور المساجد التسوك؛ لأنه تنظيف للفم مما علق به من الروائح الكريهة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) وثبت أنه يفوق فرشات الأسنان والمعجون من ناحية الصحة، ولو استخدم أموراً أخرى غير السواك من الفرشاة فلا بأس؛ فقد أدى جزءاً من المقصود ولا شك.

من آداب المسجد: التبكير والمسارعة

من آداب المسجد: التبكير والمسارعة ومن آداب حضور المساجد: التبكير إليها، وانتظار إقامة الصلاة، والاشتغال بالذكر والنوافل، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال في مدح صفوة عباده الصالحين: {إنْهم كَانوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61]. وهذه المسابقة تكون حسية وتكون معنوية لا حسية، والمسابقة على الأقدام حساً تقتضي الجري والسرعة، ولكن الجري هنا والسرعة ممنوعان لحديث آخر، فلم يبق إلا أن تكون بمعنى الشغل ومراقبة الوقت، والمبادرة والتبكير، وليس معنى: (سارعوا) أي: عليكم بالجري، كلا. وقد كان السلف رحمهم الله يهتمون بذلك جداً، وكانوا يشتاقون إلى الصلاة وقلوبهم متعلقة بالمساجد، قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: [ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها]، وقال: [ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء]، وكذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله: [ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد]، وقال: [[ما سمعت تأذيناً في أهلي منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد] أردد معهم في المسجد، وما فاتته صلاة الجماعة أربعين سنة ولا نظر في أقفائهم، أي: ما نظر في قفا مصلي، ومعنى ذلك: أنه كان دائماً في الصف الأول. وكان الأعمش رحمه الله من المحافظين على ذلك، حتى قال وكيع: اختلفت إليه قرابة سنتين فما رأيته يقضي ركعة، وكان قريباً من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى. وبشر بن الحسن كان يقال له: صفي؛ لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين عاماً. وكان إبراهيم بن ميمون المروزي من الذين يمتهنون صياغة الذهب والفضة، فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء، ألقاها ولم يردها ولم يطرق بها. ولا شك أن المبادرة إلى المساجد والتبكير إليها من الآداب العظيمة التي تسبب للإنسان أن يظله الله في ظله، وأنه في صلاة مادام ينتظر الصلاة، وأن الملائكة تصلي عليه وتستغفر له. وكذلك فإن من آداب الحضور إلى المساجد الترديد مع الإقامة، وهذا يفوت كثيراً من المصلين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المنادي يثوب بالصلاة، فقولوا مثلما يقول) والإقامة لا شك أنها أذان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (بين كل أذانين صلاة) فسمَّى الإقامة أذاناً، وقال: (إذا سمعتم النداء، فقولوا مثلما يقول المؤذن). قال ابن حجر رحمه الله: "اُستدل به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة". وقول بعض الناس عند قول المقيم: "قد قامت الصلاة"، يقولون: أقامها الله وأدامها، وهذا مبني على حديث ضعيف فلا ينبغي أن تقال. وكذلك من ثمار المبادرة والإسراع إلى المسجد: إدراك تكبيرة الإحرام، وقد جاء في الحديث الحسن، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك تكبيرة الإحرام، كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) وما معنى يدرك تكبيرة الإحرام؟ أي: أن يحضر تكبير الإمام ويشتغل عقبها بعقد صلاته. إذاً: تدرك تكبيرة الإحرام بما يلي: 1 - أن يكون قائماً في الصف عندما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام. 2 - أن يحرم بعده مباشرة، فإذا دخل المسجد والإمام قد كبر فلا يعتبر أنه قد أدرك تكبيرة الإحرام، وإذا وصل إلى الصف بعدما شرع الإمام في الفاتحة؛ لا يعتبر مدركاً تكبيرة الإحرام، ولا يدرك تكبيرة الإحرام إذا بقي واقفاً في الصف، بعدما يكبر الإمام وهو منشغل؛ لأن بعض الناس إذا كبر الإمام بقي منشغلاً في تعديل اللباس وعمل أشياء كثيرة، حتى يشرع الإمام في القراءة وهو ما كبر بعد. إذاً: متى تحصل هذه الفضيلة وهذا الأجر؟ إذا كان قائماً في الصف، عندما يكبر الإمام للإحرام، وأحرم بعده مباشرة، عند ذلك نطلق عليه أنه أدرك تكبيرة الإحرام. وبناءً على هذا فإن الذي يتم صلاة نافلة كتحية المسجد وقد كبر الإمام وشرع في القراءة وهو لم يقم بعد الصلاة، فإنه لا يعتبر أنه أدرك تكبيرة الإحرام، لكن إذا كان في آخر صلاته أتمها خفيفة. ومن هنا يظهر وجه قول الذي ذهب إليه بعض أهل العلم أن الإنسان يقطع صلاته -إذا أقيمت الصلاة- فوراً، لكي يدرك تكبيرة الإحرام، لكن لو أخذ بالقول الآخر وأتمها خفيفة فله ذلك، إذا كان في آخر الصلاة، أما إذا كان في أولها أو وسطها، فإنه يقطعها مباشرة بغير سلام، وهذا يدل على أن التبكير يجعل تحية المسجد قبل الإقامة بفترة حتى يدرك تكبيرة الإحرام، لكن لو أنه تأخر ستكون تحية المسجد أو بعضها في وقت الإقامة، فلا يدرك تكبيرة الإحرام.

من آداب المسجد: الصلاة بخشوع

من آداب المسجد: الصلاة بخشوع ومن الآداب أيضاً: الصلاة بخشوع، وهذا موضوع طويل، وهو لب الصلاة، ومن صلَّى صلاة لم يخشع فيها، من أولها إلى آخرها أعادها، إذا دخل في تكبيرة الإحرام وهو لم يحضر قلبه ألبتة، ولم يع شيئاً إطلاقاً، فهذا يعيد الصلاة، أما من كان يحضر ويغيب؛ فإن صلاته صحيحة، ولكن يفوته من الأجر بقدر ما غاب عن صلاته، وليس لك من صلاتك إلا ما عقلت.

من آداب المسجد: الدعاء عند الذهاب إليه

من آداب المسجد: الدعاء عند الذهاب إليه ومن آداب حضور المساجد: الدعاء عند الخروج إلى الصلاة، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (رقدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ فتسوك وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، فأطال فيهن القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات، ستة ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً) رواه مسلم. فهذا يدل على مشروعية هذا الدعاء، وقد كان عليه الصلاة والسلام كما نقله ابن عباس، قاله عند الخروج إلى صلاة الفجر بعد قيام الليل، فينبغي فعله. وأيضاً من الأدعية: الدعاء للخروج من البيت؛ سواء للمسجد أو لغير المسجد، وهو: (اللهم إني أعوذ بك أن أَضِِل أو أُضَل) الحديث المعروف.

من آداب المسجد: المشي إليه بسكينة ووقار

من آداب المسجد: المشي إليه بسكينة ووقار ومن آداب حضور المساجد -أيضاً-: أن يمشي إليها بسكينة ووقار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: (إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أُتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة؛ فهو في صلاة)، وفي رواية: (ولكن يمشي وعليه السكنية والوقار) فهذا يبين الأدب في حضور المساجد فما تعريف السكينة وما تعريف الوقار؟ أما السكينة فهي التأني في الحركات واجتناب العبث؛ فإذا كان الماشي إلى المسجد يتقفز في مشيته أو يعبث بأي شيء من العبث يفرقع الأصابع يعمل حركات بيديه أو رجليه؛ فإن هذا لا يعتبر أنه جاء إلى المسجد وعليه السكينة. وأما الوقار فقد عرفوه بأنه: غض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات، وإذا جاء إلى المسجد بهذه الصفات يكون قد حصل ثلاثة أمور: أولاً: الراحة والطمأنينة؛ لأنه إذا أسرع ودخل الصلاة على هذه الحال من السرعة؛ فإنه يدخل في الصلاة فلا يحصل له تمام الخشوع، بخلاف ما لو إذا دخل الصلاة وهو ساكن مرتاح، فإنه يكون إلى الخضوع والخشوع أقرب. ثانياً: أنه يكون قد امتثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة). أي: في حكم المصلي، فينبغي عليه اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. ثالثاً: يحصل له كثرة الخطا التي يفوت منها شيء من السرعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكم بكل خطوة درجة) رواه مسلم، وفي رواية: (إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنه، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد). فعلى المصلي أن يخرج بسكينة ووقار ويجتنب العبث، ولا يتكلم بالكلام القبيح، وهذه السكينة والوقار مأمور بها عموماً، وكذلك منهي عن الإسراع عموماً، لا فرق بين أن يخاف فوات تكبيرة الإحرام، أو يخاف فوات الركعة، أو يخاف فوات الصلاة بالكلية. إذاً: لا يسرع ولا يهرول ولا يعدو؛ سواء خاف فوات تكبيرة الإحرام، أو خاف فوات الركعة، أو خاف فوات الصلاة بالكلية؛ لأنه وهو يمشي إلى الصلاة فهو في صلاة، فلا يليق به أن يهرول وهو في صلاة، والأصل أن هذا الحكم يعم صلاة الجمعة وغير الجمعة، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اجتهد في أن من خشي أن تفوته الركعة الأخيرة من الجمعة إذا لم يسرع، فلا بأس أن يسرع حتى لا تفوته الركعة الأخيرة من الجمعة؛ لأنه إذا فاتته، فاتته الجمعة وصلَّى ظهراً وليس له جمعة، وهذا اجتهاده رحمه الله في هذه المسألة. وأما بقية الحالات فلا يجوز الإسراع، وأكثر الداخلين إلى المساجد يُخلِّون بهذا الأدب، فيسرعون ويشوشون على أنفسهم بالعجلة وعدم التأني، ويشوشون -أيضاً- على إخوانهم المسلمين والمصلين، بأصوات الأحذية، وحركات الأرجل، وعلى الإمام بالنحنحة وغير ذلك، وربما اجتهد أحدهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وجهر بها ونحو ذلك، أو قعقع بمفاتيحه، وكل هذا مخالف لآداب الصلاة وحضور المساجد. إن قال قائل: ما معنى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]؟ فقد تقدم الكلام بأنه لا يكون معناه الإسراع والعدو مطلقاً، وإنما المعنى: سرعة المبادرة والاجتهاد في الحضور، على أن النبي عليه الصلاة والسلام ربما أسرع لصلاة الكسوف بالذات، قام مسرعاً إليها فزعاً أن تكون الساعة قد قامت.

من آداب المسجد: الذهاب إليه ماشيا

من آداب المسجد: الذهاب إليه ماشياً ومن آداب حضور المسجد: أن يذهب ماشياً، وأبعد الناس منزلاً أعظمهم أجراً، والسنة مقاربة الخطا وعدم المباعدة بين الخطوات، مقاربة الخطا لتكثر حسنات الماشي، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم. وقال: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، ففي هذه الأحاديث دليل على فضل المنزل البعيد عن المسجد لحصول كثرة الخطا، وكثرتها تكون ببعد الدار، وتكون بكثرة التردد إلى المسجد. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه الصلاة، فقيل له: أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله) رواه مسلم. إذاً: الأجر ليس بالمجيء إلى المسجد فقط، بل حتى تعود إلى البيت أيضاً، فبالأولى تمحو خطيئة، والأخرى ترفع حسنة، كما جاء في صحيح مسلم في المشي إلى بيتٍ من بيوت الله، لصلاة الفريضة من فرائض الله (بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) والأجر لهم إن شاء الله حتى بعد اختراع الكهرباء وإنارة الشوارع في الليل؛ لأن الأصل أن هاتين الصلاتين في ظلمة الليل تصليان. والإتيان إلى المسجد فيه فوائد صحية، ولا بد أن يحتسب الإنسان الأجر قبل الفوائد الصحية، ولكن يظهر أثر هذا على من كان يمشي، فهذا شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين، يمشي يومياً كما أخبرني الشيخ عبد الله بن جبرين عنه، يقول: يمشي يومياً ثمانية كيلو متر يعني من بيته إلى المسجد، قال الشيخ عبد الله بن جبرين: ولذلك صحته جيدة، فعدونا مرة معه في المسعى بين العلمين الأخضرين، فسبقنا جميعاً وهو في السبعين من عمره! أي: يتضح فيه بجلاء قضية أثر المشي إلى المسجد.

من آداب المسجد: عدم تشبيك الأصابع

من آداب المسجد: عدم تشبيك الأصابع ومن آداب الحضور إلى المسجد: عدم التشبيك بين الأصابع، والدليل على ذلك: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يفعل هكذا وشبك بين أصابعه) رواه الدارمي والحاكم. وكذلك جاء عن أبي ثمامة الحناط، أن كعب بن عجرة أدركه وهو يريد المسجد، فقال: فوجدني وأنا مشبك بيدي في الطريق إلى المسجد؛ فنهاني عن ذلك، وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة) رواه أبو داود وصححه الألباني. وهذا النهي عن التشبيك علله بأنه في صلاة، فلا يليق وهو في صلاة أن يشبك بين أصابعه، وهذا النهي عن تشبيك الأصابع حال المشي إلى المسجد للصلاة. قال الخطابي رحمه الله: تشبيك اليد: هو إدخال الأصابع بعضها في بعض والاشتباك بهما، وقد يفعله بعض الناس عبثاً، وبعضهم ليفرقع أصابعه عندما يجده من التمدد فيها، وربما قعد الإنسان فشبك يبن أصابعه واحتبا بيده يريد الاستراحة، وربما استجلب به النوم؛ فيكون ذلك سبباً لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهر وخرج متوجهاً إلى الصلاة: لا تشبك بين أصابعك، لأن جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه -على اختلافها- لا يلائم شيء منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي. إذاً عرفنا أن من الآداب أثناء الحضور إلى المسجد: ألا يشبك بين أصابعه، سواء جعلهما أمامه أو خلفه، أو على جنب، أو فوق رأسه. بعض الناس يمشي وهو يشبك أصابعه فوق رأسه، فهذه ليست حال من كان عنده سكينة ووقار (وإذا حضر إلى المسجد للصلاة فلا يشبكن بين أصابعه). أليس قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما صلى صلاة نسي فيها، قام كهيئة المغضب إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها وشبك بين أصابعه؟ A نعم، والحديث متفق عليه، فكيف نجمع بين هذا وبين ما تقدم؟ فالجواب: إن التشبيك هنا قد حصل بعد انقضاء الصلاة، فهو في حكم المنصرف من صلاته، فيكون النهي إذاً خاصاً بمن جاء إلى المسجد وبما كان قبل الصلاة، وأما ما حصل بعد الصلاة، أو إذا جلس للدرس بعد الصلاة، وقال: (مثل المؤمنين كمثل الجسد الواحد) وشبك بين أصابعه، فلا حرج في ذلك، وكذلك فليس من الأدب أن يفرقع الذي يأتي إلى الصلاة أصابعه ولا يفعل ذلك في المسجد ولا في انتظار الصلاة؛ لأنه ليس من السكينة ولا من الوقار ولا من الخشوع، وغمز المفاصل هي فرقعة الأصابع، وقد جاء عن شعبة مولى ابن عباس قال: [صليت إلى جنب ابن عباس ففرقعت أصابعي، فلما قضيت الصلاة قال: لا أم لك! تفرقع أصابعك وأنت في الصلاة؟!] رواه ابن أبي شيبة وحسَّن الألباني إسناده في إرواء الغليل.

من آداب المسجد: صيانته من الأوساخ

من آداب المسجد: صيانته من الأوساخ ومن آداب حضور المساجد: تعاهد النعلين، والمسلم مطالب بنظافة جسده ولباسه، وصيانة المساجد عن الأوساخ، ولا يخلو الطريق إلى المسجد من وجود أوساخ، والصلاة بالنعال قد ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا محله إذا لم يكن المسجد مفروشاً، أو صلى في رحبته على البلاط، أو على الرمل، أو صلى في الصحراء في السفر أو في مصلى العيد غير المفروش، وفي هذه الحالة يتأكد قبل أن يدخل إلى المصلى أو إلى مسجد العيد، أو المسجد المفروش بالحصى، أو مكان الصلاة الذي يصلي في الصحراء أو في السفر، أن ينظر في نعليه، فإذا رأى ما يريبه؛ فليدلكهما بالتراب؛ فإن التراب لهما طهور، فمسح النعل ودلكها بالأرض مطهر لها من القذر والأذى، وأما بالنسبة للمساجد المفروشة فإن من إتلاف الفراش أن يصلي عليها بالنعال، ولذلك لا يجوز أن يفعله؛ لأن هذا السجاد وقف على المسجد فلا يتلف، ولا يعرض لما يتلفه، وإذا أراد أن يضع نعاله داخل المسجد فلا يؤذي بهما من أمامه ولا من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا من خلفه، فأين يجعلهما؟ بين قدميه، هذا المكان الذي لا يؤذي به أحداً إذا احتاج أن يدخل بالنعال المسجد، يجعلهما بين قدميه، فهذا من آداب حضور المساجد: (إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصلي فيهما) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.

من آداب المسجد: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول

من آداب المسجد: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول ومن آداب حضور المسجد: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، لما جاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: [من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى]، أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وهذا كما ترى موقوف وليس بمرفوع. قال ابن حجر رحمه الله: والصحيح أن قول الصحابي: من السنة كذا محمول على الرفع، وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب التيمن في دخول المسجد وغيره، و [كان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، حتى إذا خرج بدأ برجله اليسرى]، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع، في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله). فيستحب البداءة باليمين عند دخول المسجد. وقال ابن علان: وخصت اليمنى بالدخول لشرفه، واليسرى بالخروج للأشياء، لأن الخروج نفسه من المسجد ليس كالدخول، وهذا مما ينبغي الاعتناء به كسائر الآداب.

من آداب المسجد: الدعاء عند دخوله

من آداب المسجد: الدعاء عند دخوله ومن آداب حضور المسجد: الدعاء عند دخول المسجد: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج: اللهم إني أسألك من فضلك)، وورد أيضاً في الحديث الصحيح: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم) رواه أبو داود بإسناد جيد. فإذا قال ذلك عند دخوله، قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم، وأيضاً ورد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقول: (اللهم أجرني من الشيطان الرجيم) رواه ابن خزيمة وغيره، وإسناده حسن لشواهده؛ فلماذا طلبت الرحمة في الدخول وطلب الفضل في الخروج؟ لأن المصلي إذا دخل المسجد اشتغل بما يقربه إلى الله تعالى وإلى رضوانه وجنته من الصلاة والذكر والدعاء فناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل، قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]. فإذا دخل المسجد وانتهى إلى الصف، سن له أن يدعو بما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقال حين انتهى إلى الصف: (اللهم ائتني أفضل ما تأتي عبادك الصالحين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: من المتكلم آنفاً؟ قال الرجل: أنا يا رسول الله! قال: أيضاً يعقر جوادك، وتستشهد في سبيل الله) الحديث رواه النسائي، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. فإذا اقترب من الصف، وقال هذا الدعاء: (اللهم ائتني أفضل ما تأتي عبادك الصالحين) فهو دعاء مستحب قد جاء في السنة.

من آداب المسجد: الدنو من الإمام

من آداب المسجد: الدنو من الإمام من آداب حضور المساجد -أيضاً- التقدم إلى الصف الأول، والقرب من الإمام، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) رواه مسلم. لو تعلمون ما في الصف الأول ما في الصف المقدم؛ لكانت قرعة بينكم، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) رواه مسلم. إذاً: فضيلة الصف الأول عظيمة، والمقصود بالصف الأول هو ما يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، ولكن المتقدم يكون قد جمع أجر التبكير بالإضافة إلى الصف الأول، أي: لو جاء رجل متأخراً ثم حصل له مكاناً فله أجر الصف الأول، لكن ليس له أجر التبكير مثلما حصل للمبكر. وفي الصف الأول مزايا عظيمة، ذكر ابن حجر بعضاً منها، فمن ذلك: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع القراءة، والتعلم منه، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قداماً من المصلين، ربما يشتغلون بأشياء؛ لأن الصف الأول لا ترى أمامك أحداً إلا الإمام، وسلامة موضع السجود من أذيال المصلين. ومن الأخطاء: أن بعض الناس إذا دخل المسجد لا يتجه إلى الصف الأول، إنما يتجه إلى الصف الثاني، أو وسط المسجد، أو مؤخرة المسجد وهذا خلاف ما عليه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا إذا جاءوا قبل الصلاة ابتدروا الصف الأول، مادام في الصف الأول متسع يتسع لأشخاص، ثم يبدءون بالثاني، خلاف ما عليه الناس اليوم من الجهل وعدم اتباع السنة، والرغبة عن الخير والزهد في الثواب، فلماذا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن جاء أول الناس وصف في غير الأول فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة أو فضول الكلام أو مكروهه أو محرمه ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه؛ فقد ترك تعظيم الشرائع، فاستحق العقوبة. وينبغي لطلبة العلم والحفظة أن يتقدموا إلى الصف الأول قبل غيرهم، وأن يلوا الإمام، ويتعمدوا الوقوف خلفه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه مسلم. قال النووي في شرح الحديث: في هذه الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإحرام، ولأنه ربما احتاج إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره من الجهلة أو العامة أو الأطفال ونحو ذلك، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم. فالسنة أن يتقدم في الصف الأول أهل الفضل والسن، وأن يلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال الإمام أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان، فإذا التفت الإمام فرأى وراءه صبياً، فقال له: يا ولدي! تأخر أو اذهب إلى آخر الصف، فليس هذا من التعسف وقلة الأدب أو الذوق كما يسميه بعض الناس، وعدم احترام مشاعر الأطفال، لا، بل هذا من الحفاظ على تطبيق السنة (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) وليس الأطفال والصغار منهم؛ لأنهم أقربهم من العبث، ولا يعون الصلاة وعياً تاماً بحيث يفتح على الإمام أو ينبه الإمام إذا أخطأ، أو عندهم فقه أو علم وأنتم تعرفون كيف يتصرفون. إذاً: الصف الأول والدنو من الإمام خاص بالرجال، أما النساء فيتعين في حقهن التأخير والبعد عن الإمام، كما جاء في الأحاديث. مسألة: أين الصف الأول في المسجد الحرام؟ معلوم أن المسجد الحرام فيه دوائر حول الكعبة، فأين الصف الأول منها؟ الدائرة الأولى مما يلي الإمام مباشرة، هي الصف الأول، فمن أرد أجر الصف الأول في الحرم فعليه أن يكون في الدائرة الأولى بعد الإمام مباشرة؛ لأن الإمام قد يصلي في السقف، فيلتقي به بعض المصلين من الجهة الأخرى. أين الصف الأول في المسجد النبوي؟ هل هو في التوسعة أو هو في المسجد القديم في الروضة وراء المحراب القديم الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ A الصف الأول هو ما كان وراء الإمام في التوسعة إذا صلى هناك، وليس في الروضة، ولا المحراب القديم، ولو فعل ذلك كثير ممن لا علم عنده، يتزاحمون في هذا المكان، ويتركون الصف الأول والصف الثاني والصف الثالث، ويبتدرون في الروضة، فهذا من الجهل بالأجر، الروضة ورد فيها (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فسره الإمام مالك وغيره: بإقامة حلق العلم في هذا المكان، حلق الذكر، فلم يرد نص مرفوع على صلاة ركعتين في الروضة، أو أن الإنسان يبتدر هذا المكان. إذاً: ترك وصل الصفوف وإتمام الأول فالأول خطأ، وتفويت الصلاة في الصف الأول مع إمكان التقدم خطأ، سواء في الحرم المكي أو في الحرم النبوي، ومخالفة للهدي النبوي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده صلى الله عليه وسلم -الإضافات والتوسعات- حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه لو وسعوا المسجد، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا يكون خارجاً عنه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده؛ لكانت تلك صلاة في غير مسجده، ثم قال: وهذا هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وإذا كان كذلك فإنه يمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف قال خلاف هذا، ولكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكروا أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له في ذلك سلفاً من العلماء.

من آداب المسجد: السلام على المصلين

من آداب المسجد: السلام على المصلين ومن آداب حضور المساجد: السلام على المصلين عند دخول المسجد، ولو كان الإنسان يصلي فإنه لا بأس أن تسلم عليه، والسلام على المصلي مشروع، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (كنت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا سلمت عليه فلم يرد علي، وقال: إن في الصلاة شغلاً). فيدل هذا على جواز السلام على المصلي، ولما حرم الكلام في الصلاة ورجع المسلمون من الهجرة الثانية من الحبشة، سلم ابن مسعود على عادته، ففوجئ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه باللفظ، وإنما رد عليه بالإشارة، وأخبره أن سبب امتناعه عن الرد عليه لفظاً وهو انشغاله بأمر عظيم وهو الصلاة؛ وفيها مناجاة لله تعالى فلا يصلح فيها الكلام مع البشر، ولو كان السلام على المصلي غير مشروع لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن مسعود مثلاً: لا تسلم علي وأنا في الصلاة، لكنه لم ينكر عليه تسليمه عليه وهو في الصلاة، وإنما أشار إلى أنه لا يتلفظ بالرد فقط، وقد ثبت الرد بالإشارة، فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، فجاءه الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي -هكذا في الحديث- قال: فقلت لـ بلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول: هكذا وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه -راوي الحديث- وجعل بطنه أسفل وظهره فوق) والحديث الذي قبله رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. إذاً: لو سلم عليك إنسان وأنت في الصلاة فارفع باطن كفك إلى الأسفل وظاهره إلى الأعلى، وقد فسره الشيخ ناصر الدين الألباني عملياً فكنا معه وكان يصلي فدخلت عليه فسلمت فرفع يده هكذا وقد وردت كيفية أخرى أيضاً وهي الرد بالإشارة بالأصبع والأظهر أنها السبابة، لأنها أيسر؛ ولأن العادة جرت برفعها، كما جاء في حديث صهيب، قال: (مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه فرد عليَّ إشارة، وقال: لا أعلم إلا أنه قال إشارة بأصبعه) رواه أبو داود. أما الشوكاني رحمه الله فقد جمع بين الحديثين، فقال: ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار بأصبعه مرة ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الأصبع حملاً للمطلق على المقيد، ولكن تفسير الراوي لمَّا جعل بطن الكف إلى الأسفل ليس هذا، لا يحتمل هذا بالوجه الذي ذكره في آخر كلامه رحمه الله. وقد روى البيهقي رواية في الإيماء بالرأس عن ابن مسعود، وحينئذٍ قال: ويجمع بين الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزاً. الخلاصة: أن المراد برد السلام هو بالإشارة، ولو أخره إلى بعد السلام من الصلاة فرد عليه باللفظ فلا بأس، لكن قد يخشى الإنسان أن ينصرف المُسلِّم، يسلم ويمشي فعند ذلك السنة أن يرد عليه بالإشارة، ولا يتعارض هذا مع النهي عن السلام بالإشارة وأنه من صنع أهل الكتاب الذين أمرنا بمخالفتهم؛ لأن ذاك سلام بدون سبب، مع القدرة على الكلام، أما هذا رد مع وجود الحاجة، لأجل الصلاة.

من آداب المسجد: صلاة تحية المسجد

من آداب المسجد: صلاة تحية المسجد من آداب المسجد أن الإنسان إذا دخل المسجد لا يجلس مباشرة دون أن يفعل شيئاً وإنما أمر بشيء يعظم به بيت الله تعالى، ويكرم موضع العبادة ألا وهو تحية المسجد؛ لأن الداخل يبتدئ بهما كما يبتدئ الداخل على القوم بالتحية، ولذلك سميت تحية المسجد: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وهذا الأدب يتعلق به أحكام فقيه، مثلاً: هل التحية سنة أو واجبة؟ وجمهور العلماء على الاستحباب، واحتجوا بحديث الأعرابي: (هل عليَّ غيرهن قال: لا، إلا أن تطوع) وذهب بعضهم إلى الوجوب. وعلى أي حال، فإن الإنسان لا يفوت هذا الأجر. وكذلك مسألة تحية المسجد وقت النهي فقد ذهب الشافعي رحمه الله وغيره إلى أن تحية المسجد وقت النهي لا بأس بها؛ لأنها صلاة ذات سبب، وأما بالنسبة إلى قطعها إذا أقيمت الصلاة، إذا كان الإنسان في آخر الصلاة أتم خفيفة، وإذا كان في أولها أو وسطها قطعها، وحتى لو كان في خطبة الجمعة والإمام يخطب فإن المأموم يصلي تحية المسجد إذا دخل، والمسجد الحرام إذا دخله للطواف كان طوافه هو التحية، وإذا دخله للصلاة كان تحيته كبقية المساجد صلاة ركعتين، لكن صلاة ركعتين في المسجد الحرام تحية ضعف تحيات بقية المساجد، بمائة ألف ضعف، فكل صلاة مشروعة في المسجد الحرام تضاعف، ولو كانت الركعتين الطواف، أو صلاة ركعتين بعد طلوع الشمس، أو تحية المسجد، أو الجنازة، وغير ذلك.

من آداب المسجد: عدم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر

من آداب المسجد: عدم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر وكذلك فإن من الآداب عند حضور المسجد ألا يخرج بعد الأذان إلا لعذر؛ لأن الخروج إعراض عمَّا يقتضيه الأذان، لأن في الأذان: حيّ على الصلاة، وهذا يريد أن يخرج من المسجد الذي صلَّى فيه، إن في الأذان طلباً للإقبال على الصلاة، وحضور المساجد للصلاة، وهذا الخروج ينافي ذلك، ثم لعله يكون ذريعة إلى الاشتغال عن الصلاة والتأخر عنها، ثم إن فيه تشبه بالشيطان، كيف ذلك؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع صوت التأذين) الحديث رواه البخاري ومسلم. قال ابن بطال رحمه الله: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن لئلا يكون متشبهاً بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وقد قال أبو الشعثاء رحمه الله: (كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث رواه مسلم رحمه الله وهو مرفوع حكماً، ولو كان من كلام أبي هريرة؛ لأن مثل هذا التأثيم أو إثبات المعصية لا يقوله الصحابي بمجرد الرأي، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق) رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الترغيب، وقال الهيثمي: رواته محتج بهم في الصحيح، فإذاًَ لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، مثل أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بد منه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أقيمت الصلاة عدَّل الصفوف، فانتظروا أن يكبر فأشار إليهم أن مكانكم، ثم دخل بيته وانتظروا قياماً حتى خرج من بيته، ورأسه يقطر ماءً وقد اغتسل، تذكر أن عليه غسل، فدخل واغتسل ورجع. إذاً: الإمام إذا أراد أن يكبر فتذكر أنه على غير وضوء والناس ينتظرون والصلاة قد أقيمت، فالسنة أن يقول الإمام لهم: انتظروا كما أنتم مكانكم، ويذهب ويتوضأ ويأتي، فإن كان عليه غسل وبيته بعيد ويخشى أن يتضايق الناس، والناس في هذا الزمان صدورهم ليست كصدور الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان، فيستخلف شخصاً ويذهب هو، ولكنه لو قال: مكانكم وذهب وتوضأ ورجع لا يحق لأحد أن يلومه إذا لم يضر بهم فلا يلومه أحد هكذا وردت السنة. وكذلك لو أذن المؤذن في مسجد ويوجد أئمة مساجد في هذا المسجد نفترض الآن هذا الدرس مثلاً استمر وانتهى، وقام المؤذن للأذان، ويوجد معنا في المسجد أئمة مساجد، لا بد أن يذهبوا، فعند ذلك يكون خروجهم من باب العذر، ولا حرج عليهم في الخروج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة فهو منافق) رواه ابن ماجة وصححه الألباني. إذاً من أفعال المنافقين الخروج من المسجد، والمقصود بالنفاق: النفاق العملي وبعض المؤذنين إذا أذن خرج إلى بيته، وهذا وإن كان يريد الرجوع للإقامة لكن الأولى في حقه ألا يخرج إلا إذا دعت الحاجة، والمؤذن أولى الامتثال من غيره؛ لأنه هو الذي يدعو الناس إلى الصلاة فكيف يخرج. ثم يفوت الأجر ولاشك وهو أجر انتظار الصلاة، لأن من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، ولذلك فإن وظيفة الجالس في المسجد هي ذكر الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] إذاً: قراءة القرآن، والذكر والتسبيح، والدعاء وغيرها من العبادات كلها وظيفة الجالس في المسجد.

من آداب المسجد: تجنب الكلام بالباطل

من آداب المسجد: تجنب الكلام بالباطل ومن الآداب أن يحذر من الكلام الباطل أو الكلام الذي لا فائدة فيه، فلا مكان في المسجد للغيبة والنميمة والكذب، وإذا كانت هذه الأشياء محرمة خارج المسجد؛ فهي في المسجد أشد تحريماً، وكل كلام لا فائدة فيه ينبغي أن ينزه المسجد عنه، وبعض الناس يتكلمون كلاماً كثيراً لا فائدة فيه، وبعضهم قد يفعل ذلك في الاعتكاف الذي هو مظنة الذكر والإقبال على الله، والاجتهاد في العبادة والانقطاع عن الدنيا، ولا شك أن هذا مذموم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه يكون في المسجد أشد كراهية، ويكره فيه فضول المباح، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] قال: [نهى سبحانه عن اللغو فيها] وكذا ورد عن جمع من السلف.

من آداب المسجد: عدم رفع الصوت في المسجد

من آداب المسجد: عدم رفع الصوت في المسجد من الآداب في المسجد ألا يرفع صوته ولا يصيح لا يرفع صوته لا بقراءة القرآن ولا بغيره، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نداء القارئ المسلم لأخيه المسلم (لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) وإذا كان رفع الصوت بالقرآن منهي عنه، فكيف إذا رفع صوته بغير القرآن كحديث الدنيا! وكيف إذا كان يرفع صوته وجاره الذي بجانبه يقرأ القرآن؟ قال ابن عبد البر رحمه الله: "وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن، فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريماً، وإذا كان المسجد النبوي أو المسجد الحرام، يزداد السوء وتعظم القضية، ولذلك جاء عن السائب بن يزيد رحمه الله قال: [كنت قائماً في المسجد -المسجد النبوي- فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر رضي الله عنه، قال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما -أشار إلى رجلين يتحدثان- فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم!] ولذلك نص أهل العلم على كراهية رفع الصوت في المسجد إلا فيما لا بد منه من العلم ونحوه، مثل الشيخ يرفع صوته بالدرس ليسمع الناس، والإمام يرفع صوته بالقراءة ليسمع المأمومين، أو المؤذن يرفع صوته بالتكبير، وكان لأئمة الحديث في المسجد من يبلغ إذا اتسع الجمع وكان كثيراً.

من آداب المسجد: عدم الاشتغال بأمور الدنيا في المسجد

من آداب المسجد: عدم الاشتغال بأمور الدنيا في المسجد من الآداب: عدم الاشتغال في المسجد بأمور الدنيا، وإذا كان في البيع والشراء فهو حرام، وكذلك نشدان الضالة وما كان في معناها، فنشدان الضالة، أي: رفع الصوتبالنداء، فإذا نشد وقال: من رأى مفاتيح سيارتي؟ من رأى محفظة؟ من رأى ولدي؟ كل ذلك من نشدان الضالة، ويدخل في هذا المعنى الإعلان عن الأشياء المفقودة في المسجد، لو قال شخص: هذا لا يسأل لنفسه وإنما لأجل غيره؟ نقول: إنه بمعنى نشدان الضّالة، فيقول: لو أن رجلاً أعلن في المكبر عن ولد ضايع، هذا يفعل من باب الشفقة أو يظن أنه فعل خير، وكذلك لو قيل مثلاً: هنا سلسلة مفاتيح محفظة، فعلى صاحبها أن يتقدم إلى الأمام أو إلى الإمام فالمسألة داخلة في نشدان الضالة، وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن وضع لوحة للمفقودات، هل هو من نشدان الضالة؟ فقال: النشدان هو رفع الصوت، وهذا لعله ليس فيه رفع صوت، لكن تجعل اللوحة في الخارج لها باب وقفل تعلق فيها الأشياء المفقودة. ما حكم أن يقول الشخص لصاحبه في المسجد: أريد أن تقرضني خمسة ريالات، ما رأيك في هذا؟ يفعل أو لا يفعل؟ النهي عن البيع والشراء يشمل أيضاً القرض والرهن ونحو ذلك، والإجارة: أجر لي غرفتك، وأجرني شقتك، عندي شقة للإيجار، كل هذا من أمور الدنيا.

من آداب المسجد: الحذر من النوم

من آداب المسجد: الحذر من النوم ومن الآداب الانتباه لعدم النوم واستدعاء النوم أو الجلوس في هيئة تستجلب النوم، قيل: هو من أسباب النهي عن الإحتباء -لو صح- أنه مجلبة للنوم، أو مظنة لخروج الريح، أو مظنة لاكتشاف العورة، ولكن قد يسيطر النوم على الإنسان، فعند ذلك ماذا يفعل؟ يطبق حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) هناك احتمالان: الأول: أن الحركة تذهب النعاس. الثاني: أن هذا مكان حضرته فيه غفلة، والتحول عن المكان الذي حصلت فيه غفلة طيب، وقد تحول النبي صلى الله عليه وسلم عن الوادي الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر وطلعت الشمس، وحضر الشيطان، فتحولوا من ذلك المكان.

من آداب المسجد: تسوية الصفوف

من آداب المسجد: تسوية الصفوف ومن آداب حضور المسجد: الصلاة فيه وتسوية الصفوف إذا أقيمت الصلاة، والاعتناء بذلك عناية بالغة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)، وفي رواية: (من إقامة الصلاة)، وفي رواية: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم). وقوله: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) إذاً قول الإمام: سووا صفوفكم أو استووا سنة، ولو لم يكن له حاجة فلا داعي أن يتكلم، لو نظر إليهم فرآهم مستوين، فلا حاجة إلى التنبيه، لكن إذا رأى تقدماً وتأخراً وخلخلة وفراغات في الصف، ينادي بالاستواء: استووا! سووا صفوفكم! فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة. وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا أمر للوجوب، أمر ثم تهديد (أو ليخالفن الله بين قلوبكم) وفي تسويتها ثواب عظيم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله) ففيه ثواب لمن طبقه، ووعيد لمن خالف: (ومن سدَّ فرجة رفعه الله بها درجة وبني له بيتاً في الجنة) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الترغيب. ثم بالإضافة إلى الأجر هذا لمن وصل صفاً وسدَّ فرجة، قد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف) أخره الإمام أحمد، وإسناده صحيح. وهذه الخطوة التي يمشيها لسد فرجة من أعظم الخطوات أجراً عند رب العالمين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها) رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن، وهو في صحيح الترغيب، فهذه الأحاديث تبين فضيلة تسوية الصفوف وسد الفرج. وكذلك جاء في الحديث مدح من يأخذ بيد صاحبه إذا أمره بالاستواء، أو أراد الدخول لسد فرجة. وأما تسوية الصفوف، فقد جاء فيها أحاديث (أقيموا صفوفكم) قال أنس: (وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس) رواه البخاري. فلو جئت الآن تأخذ بيد رجل لتسوية الصف وسد الفرجة، لنفر منك كأنه بغل شموس متمرد. ما هي كيفية تسوية الصفوف؟ وما معنى حديث النعمان بن بشير (فرأيت الرجل يلصق بمنكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه). إن النصوص تدل على أن تسوية الصفوف تتحقق بما يلي: أولاً: إتمام الصف الأول فالأول. ثانياً: سد الفرج بالتراص. ثالثاً: استقامة الصف وتعديله بمحاذاة ما بين الأعناق والمناكب، والركب والأكعب، ولا حظ معي محاذاة المناكب بالمناكب، والأعناق بالأعناق، والركب بالركب، والصدور بالصدور، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا منكب على منكب، ولا صدر على صدر. رابعاً: ألا يوسع المصلي بين قدميه أكثر من عرض المنكبين؛ لأن ذلك ينافي التسوية، ويمنع التصاق المنكب بالمنكب، فليس من تسوية الصفوف ما يفعله بعض الشباب من فك أرجلهم زيادة على عرض المنكبين، لأجل أن يلصق رجله برجل جاره، فيطارده يميناً أو شمالاً؛ لأجل أن يلزق قدمه بقدمه. إذاً: التسوية أن تفتح قدميك على عرض منكبيك، وتأخذ بيد من بجانبك بلطف ليلتصق بك من المنكب، فهذه هي التسوية، ولا يتقدم ولا يتأخر، فإذا التزق المنكب بالمنكب وما تقدم ولا تأخر، وفتح كل رجل رجليه بعرض منكبيه، واستقام الصف، أمَّا أنه يباعد بين قدميه لكي يلصق من هنا وهنا لم يسو الصف التسوية المطلوبة شرعاً، ثم بعض الناس يعملون خططاً حربية، ويضم رجليه ضماً مبالغاً فيه، حتى يأتي الرجل ذاك والذي بعده والذي بعده فإذا جاءوا فتحها، وقال: أين المصف؟ فهذه الأشياء لا شك أنها تنفر بعض الناس وخصوصاً بعض كبار السن، وبعض الذين لا يعرفون أهمية السنة في هذا، فينبغي الحكمة في تطبيق السنة، وكل ما علينا أن نفعله أن عرض المنكبين هو فتحة ما بين القدمين، ونلصق المنكب بالمنكب، ولا يشترط أن يلزق القدم بالقدم؛ لأن فيه اشتغالاً وإشغالاً، خصوصاً إذا قام في الركعة الثانية والثالثة، ليس من السنة أنه كل ما قام من الركعة أن يلزق القدم بالقدم، لأن هذا فيه اشغال واشتغال، وتنفير من الناس الذين لا يريدون هذا الإلصاق، ومن الأدلة على أن هذا ليس بمراد: أن الصحابي قال: (فرأيت الرجل يلزق منكبه بمكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه) وابن حجر يقول في الفتح: المسألة تحتاج إلى شرح وفهم لكلام العلماء، أي: المقصود المبالغة في تعديل الصف وسد الخلل، بدليل أن إلزاق الركبة بالركبة حال القيام متعذر، وهذا الإلزاق في استمرار الصلاة ليس من السنة، وفيه إشغال، وأحياناً يقتطع من مكانه ذلك بغير حق، ثم هذه المباعدة ربما أدت إلى مخالفة لسنة أخرى وهي توجيه أصابع القدمين إلى القبلة، فالسنة أن يتوجه المصلي بكليته إلى القبلة، ومن ذلك رءوس القدمين والأصابع؛ لأنه إذا أراد الإلزاق فوَّت ذلك أحياناً.

من آداب المسجد: عدم الصف بين السواري

من آداب المسجد: عدم الصف بين السواري وليس من الأدب الصف بين السواري في المسجد: (كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طرداً)، كما جاء عن معاوية بن قرة عن أبيه، والحديث في صحيح مسلم لماذا؟ لأن السواري تحول بين الناس وبين وصل الصف وتسويته، فيصبح الصف مقطعاً بالأعمدة والسواري، لكن إذا دعت الحاجة إلى هذا، كأن يكون المسجد صغيراً، فيكون في صلاة الفجر والظهر والعصر فيه سعة، فلا نصلي بين الأعمدة، لكن في صلاة العشاء والجمعة نحتاج أن الناس يصفون بين السواري، فنقول: إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس به، وهذا يوجد في الحرم، وقت الزحام، بعض الصفوف تتخللها السواري، مسافات متقاربة، لكن إذا كان الصف مثل هذا الصف الذي في الحرم، الصف بين الساريتين فقط، أي: هنا عمود وهنا عمود والصف بينهما، ولا يوجد بعد العمودين شيء، فهذا لا يعتبر صفاً تتخلله السواري، وإنما هو صف كامل ليس بمقطوع -لم تقطعه السواري- لأن عرض الصف ما بين الساريتين، وليحذر المصلي أن يقف في صف متأخر مع وجود أمكنة في الصفوف الأولى، لأن هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقباً على هذه الظاهرة السيئة التي نجدها خصوصاً في مكة، أناس يصلون خارج الحرم، ويوجد فراغ في الداخل، والبعض يصلون عند الباب والبعض على الرصيف، وبعض أصحاب المحلات يصلي أمام الحانوت، حتى يفتح حانوته بعد السلام مباشرة، يقول شيخ الإسلام: ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه. إذاً لو رأيت جماعة يصلون خارج الحرم، ويوجد فراغ في داخل الحرم، فلو تخطيت رقابهم فلا حرج عليك؛ لأنهم قد أسقطوا حرمتهم بهذا الإهمال والكسل الذي فعلوه، في أن يصلوا في الخارج، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة، فإن هذا لا حرمة له، وقال: بل إذا أمتلأ المسجد بالصفوف، وصفوا خارج المسجد، فإن اتصلت الصفوف حينئذٍ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة؛ فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، لكن لو صلوا خلف جدار المسجد بحيث امتلأ المسجد وصلوا خلف الجدار، ويسمعون الصلاة والتكبير تصح صلاتهم، وقال: فمن صلَّى في مؤخر المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة. إذاً: يجب الاهتمام بتسوية الصفوف، حتى ما جاء في السنة، وكان عمر يُوكِّلُ رجلاً أو رجلين لتسوية الصفوف.

من آداب المسجد: متابعة الإمام وعدم الوقوف

من آداب المسجد: متابعة الإمام وعدم الوقوف وكذلك فإن من الآداب: أن الإنسان إذا دخل المسجد وجماعة تصلي، فلا يقف بدون صلاة، فبعض الناس إذا دخل المسجد والإمام في السجود وقف في الصف بدون صلاة، فيفوت الأجر، بل يدخل مع الإمام ولو لم تعد ركعة، أليس إذا سجدت تؤجر على السجود ووضع الجبهة على الأرض لله رب العالمين؟ ألست تؤجر على تسبيح السجود؟! ألست تؤجر على دعاء السجود؟! إذاً: لماذا تضيع هذه الفرصة؟! وقوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا) يدل على أنك تدخل مع الإمام في أي مكان كان فيه الإمام: (فما أدركتم فصلوا) أدركت سجدة، ركعة، ركوعاً، رفعاً من الركوع، جلسة بين السجدتين: (فما أدركتم فصلوا)، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في شرحه: واستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حال وجد عليها. وعن معاذ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) رواه الترمذي، وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي، وفي السلسلة الصحيحة وبهذا أخذ من رأى أن المأموم إذا جاء في التشهد الأخير يدخل مع الإمام؛ لأن عموم الحديث يقتضي هذا. يا شيخ! إذا كنا داخلين جماعة، وصلينا جماعة ثانية؛ لأننا نعرف أن الإمام في التشهد الأخير؟ A ما أدراك أن أجر الدخول مع الإمام في التشهد الأخير أكثر من الجماعة الثانية؟ لأن أجر الجماعة الثانية ليست مثل الأولى إطلاقاً، فيمكن يكون الامتثال لحديثه عليه الصلاة والسلام بالدخول مع الإمام في أي موضع، أكثر من الجماعة الثانية. وعلى أية حال، هذه مسألة اجتهاد كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، فلو أنه انتظر لا ينكر عليه، لا يقال: ارتكبت حراماً، ولكن حتى الذي انتظر، لا يشرع له أن يحدث جماعة قبل أن يسلم الإمام، لئلا يكون هناك جماعة ثانية في المسجد في الوقت نفسه، وهذا لا شك أن فيه شق للمسلمين وتفريق، وهذا أمر مذموم شرعاً. إذا كان الإمام قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو في الجلسة يبن السجدتين، أو في التشهد، فليدخل معه على الحال التي هو عليها، فإن اجتهد وكان معه أناس كثيرون وفيهم أناس من أهل الفضل، وجاء في التشهد الأخير فانتظروا إلى أن يسلم الإمام فصلوا فلا بأس عليهم.

من آداب المسجد: عدم حجز مكان فيه

من آداب المسجد: عدم حجز مكان فيه ومن آداب المسجد ألا يحتجر فيه مكاناً، فقد اعتاد بعض الناس أن يحجز مكاناً؛ لفرش سجادة أو وضع عصاً ونحوها وهو في منزله أو في عمله، وهذا الظاهرة تكثر في الحرم في رمضان وفي غيره، يفرشون سجاجيد ولا يكتفون بحجز مكان لأنفسهم؛ بل يحجز مكاناً لنفسه وأقاربه وأصدقائه وربما حجز بعضهم أماكن للمال في أماكن معينة في الحرم، فإذا جئت تجلس تدفع خمسين ريالاً لتجلس، يقوم بذلك أناس معروفون تجدهم جالسين، يأتي إلى الحرم مبكراً ويحجز مكاناً ثم يستلم خمسين ريالاً، وهي بحسب المواسم، إذا كان في ليلة سبع وعشرين تبدأ التسعيرة ترتفع، وهذا يفعله بعض من لا خلاق له في الدنيا والآخرة. والمصلي مأمور بالتقدم إلى المسجد والقرب من الإمام بنفسه لا بعصاه وسجادته، مأمور بأن يقترب من الإمام بنفسه، ثم إن العمل هذا لا شك أنه فيه ظلم من عدة جهات: 1 - الناس في بيوت الله سواء، فما هو حق هذا الشخص الذي يتقدم على غيره. 2 - قد يؤدي إلى تعطيل مكان في المسجد لا يصلي فيه إلا مثل البعير، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا. 3 - ربما يكون من أسبابه أن تتحول العبادة إلى عادة، نفس المكان نفس المكان نفس المكان، ربما تتحول إلى عادة، وفيه مشابهة للبعير، وقد نهينا عن مشابهة البهائم والدواب. 4 - يؤدي إلى شيء من الشهرة والرياء والسمعة. 5 - بعض الناس يؤدي حجزه هذا إلى التساهل بالصلاة لأنه يعرف أن مكانه محجوز، ويتراخى عن الاستعداد والحضور. 6 - يؤدي إلى تخطي رقاب الناس بغير حق وهذا إثم آخر. 7 - فيه ترفع على الآخرين، وإحساساً بالفارق. 8 - فيه الاعتداء على حقهم في التقدم، فأخذه منهم وسلبهم حق لهم. 9 - أنه يسبب الشحناء والبغضاء، وكم من أناس حاولوا أن يرفعوا بعض المفارش وصارت خصومات بينهم. 10 - قد يؤدي أيضاً إلى عدم تسوية الصفوف، هذا المكان محجوز وتقام الصلاة وهو محجوز، والمكان يشغل فرجة في الصف، فرق بين هذا المتكاسل الظالم لنفسه ولغيره، وبين من جاء مبكراً فجلس ثم احتاج أن يقوم لحاجة، كأن يتوضأ ويرجع، فجعل مكان جلوسه غطاء رأسه، أو كتاب أو مفرش، فذهب بسرعة ثم رجع، هذا شغل يسير، لا أن يذهب ويطعم وينام، يذهب لحاجة، ومن سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به، ولا يجوز إقامته منه، سواء كان شريفاً أو وضيعاً، غنياً أو فقيراً، صغيراً أو كبيراً، وفي الحديث: (نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر) والناس في المباح سواء، ومن غصب فالغصب حرام، وصلاته في هذا المكان باطلة عند جمعٍ من أهل العلم.

من آداب المسجد: عدم هجر المسجد القريب

من آداب المسجد: عدم هجر المسجد القريب ومن آداب المسجد أيضاً: ألا يهجر المسجد الذي يليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليصلي أحدكم في مسجده ولا يتتبع المساجد) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير. هجر المسجد أو الذهاب إلى مسجد أبعد يؤدي إلى سلبيات، منها: هجر المسجد الذي يليه، وإذا كان كل واحد من جماعة المسجد سيذهب إلى مسجد آخر، وهذا وهذا، فإن ذلك يؤدي إلى قلتهم، ثم ربما يؤدي إلى خلو المسجد وعدم عمارته. ومن السلبيات أيضاً: إيحاش صدر الإمام وإساءة الظن به، أو الوقوع في عرضه، أو يقول الناس: لماذا فلان لا يصلي وراء الإمام؟ الإمام هذا فيه مشكلة فيه كذا لماذا يتركونه ويذهبون إلى غيره؟ فيؤدي إلى إلصاق التهم بالإمام ونحو ذلك. ثم إن الشريعة جاءت لتأليف القلوب، فإذا كان هذا الفعل فيه كسر لقلب إمامك أو جماعة مسجدك، فجبر قلوبهم أولى من أن تقول: الأبعد أفضل، وأمشي زيادة، لأن مقصد الشرع تأليف القلوب، وهو أكبر من المقصد في زيادة الخطا إلى المسجد الأبعد، وظاهرة تخطي المساجد تحدث في رمضان، لأن بعض الناس يتتبعون حسن الصوت، وربما أدى ذلك إلى هجر بعض المساجد، فيقع في نفس الإمام ما يقع، أو في نفس من بنى المسجد ما يقع، لما هُجِرَ مسجده. تتبع المساجد من أجل حسن الصوت فيه تفصيل: إذا كان يؤدي إلى مفاسد منع، ونقول له: اجلس في مسجدك ولا تتبع المسجد الآخر من أجل الصوت، وإذا كان لا يؤدي إلى مفاسد، قال: أنا سأذهب إلى مسجد كذا، وجماعة مسجدنا في حينا كثيرة، والشيوخ والعامة كثر، فلو ذهبت وذهب معي عشرة لا يحدث شيء للمسجد، وانتفت السلبيات، ولن يغلق المسجد، ولن يهجر، ولن يحدث بينه وبين الإمام وجماعة المسجد شيء، فلو ذهب لا حرج عليه، ولو كان يؤدي إلى مفاسد فلا يذهب، هذا التفصيل في قضية تتبع المساجد من أجل الصوت. أما إذا وجد غرض صحيح لتخطي الإنسان مسجده إلى مسجد آخر، مثل أن يكون إمام مسجده لا يقيم الفاتحة، أو لا يطمئن في صلاته، أو يرتكب بعض المخالفات الشرعية، أو يجاهر ببدعة، أو يجاهر بمعصية، أو أنه سيذهب إلى مسجد آخر ليحضر درساً، أو محاضرة، أو أن المسجد الآخر يصلي بسرعة وهو مستعجل، أو أن المسجد الآخر يصلي متأخراً وصاحبنا متخلف. إذاً: هناك أسباب فلو ذهب إلى المسجد الأبعد لهذه الأسباب، فلا بأس بذلك. ومن آداب المسجد: ألا يؤذي المصلين، لا بالرائحة، ولا بوضع النعال في مكان غير مناسب، ولا بتخطي الرقاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: (اجلس فقد آذيت) وربما فاته أجر الجماعة كلها بسبب هذا الإيذاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف، إذا لم يكن بين يديه فرجة، لا يوم الجمعة ولا غيرها. إذاً: بعض الناس يأتي ويقول: أدخل والله ييسرها، وهذا خطأ، فإذا وجد فرجة يتقدم إليها، والذين لم يتقدموا أسقطوا حقهم في منع التخطي، لماذا لم يتقدموا لسدها؟ فهو يتقدم لسدها ولا حرج عليه، واشترط بعض العلماء أن يكون ممر لا تلتصق فيه ركبتا المتجاورين، إذا كان يوجد فرجة في الأمام موجودة، وتقدم فسدها، وإذا لم تكن فرجة موجودة فلا يتقدم؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، واختار التحريم، فأما إذا تركت فرج في الصفوف فلا حرج في اختراق الصفوف لسد هذه الفرج والقيام في تلك الصفوف.

من آداب المسجد: عدم مضايقة المصلين بالمزاحمة

من آداب المسجد: عدم مضايقة المصلين بالمزاحمة ومن آداب المساجد ألا يضايق الإنسان المصلي، وهذا يحدث عند عدد من الشباب الحريصين على الخير، يريد أن ينافس على الصف الأول فيتقدم إلى فرجة لا تتسع لعصفور، فيزحم الصف ثم يكون من بجواره أكتافه أمامه، وقد يكون شيخاً فيتأذى، وهذا من إيذاء المسلمين، وإيذاء المسلمين بغير ما اكتسبوا حرام. وقد يسبب خلل في تسوية الصف؛ لأنه لم يستوِ المنكب بالمنكب، وكيف يستوي المنكب بالمنكب وهو قد فرض نفسه في المكان الضيق، وأي أجر سيرجى له ولو كان صادقاً لجاء مبكراً؟ أما أن يأتي متأخراً ويريد أن يقحم نفسه في الصف الأول إقحاماً، وأن يتعسف في ذلك، ويدخل في هذا الضيق ويؤذي المصلين الذين بجانبيه، فهذا لا يجوز، والأصل -كما قلنا- إن الناس إذا جاءوا للمسجد يصفون في الصف الأول، ولو قبل الإقامة بنصف ساعة، أو بساعة، ولو في الجمعة، فعليهم أن يصفوا في الصف الأول فالأول، ثم من الأدب ألا يمر بين يدي المصلي وهذا معروف. وهناك آداب تكون يوم الجمعة، يكون موضعها في آداب الجمعة، وإن كانت تشترك مع غيرها من الصلوات في باب سد الفرج وخصوصاً عند إقامة الصلاة، فإن أناساً يأتون من مكان بعيد من اليمين أو الشمال ويدخلون في الفرجة بحيث لا يدعون مجالاً للشخص الذي في الخلف مباشرة لسده، إذا كان الذي في الخلف لم يتقدم، وكان متكاسلاً والفرجة موجودة وهو جالس ينتظر، يتقدم غيره، وهو الذي فوت على نفسه، لكنه تقدم، فجاء رجل من خلفه يريد أن يسابقه ويدخل عليه، فلا شك أن هذا فيه إثارة للشحناء، ومسألة إثارة الشحناء والبغضاء يجب أن تراعى وألا تكون في المسجد، ولذلك تكلموا في بحث طويل: لو تنافس اثنان على فرجة، فليتركها له أو لا، ومن أجل تلافي الشحناء والبغضاء قد يكون أجره أكثر من أن يسبقه هو، فينبغي مراعاة هذه المفسدة، وفي المقابل ينبغي مراعاة عدم التكاسل في التقدم لسد الفرج. إذا كان يوجد كلام في مكتبة داخل المسجد غير الذكر؟ نقول: إذا كانت المكتبة من المسجد فحكمها حكم المسجد، ليس فيها كلام، أما إذا كانت المكتبة بابها إلى الخارج، وليس لها باب إلى المسجد وقد يكون لها أحكام مختلفة، لكن المكتبة داخل حدود المسجد وبابها مفتوح إلى المسجد، ليس للخارج حكمها حكم المسجد. نكتفي بهذا، ونكون قد أنهينا الدرس، وصلى الله على نبينا محمد.

آداب المقرض والمقترض

آداب المقرض والمقترض ينشأ عن الدَّين مشاكل اجتماعية كثيرة بسبب إهمال الآداب الإسلامية التي شرعت للدائن والمدين، ولو التزم الدائنون والمدينون بآداب الإسلام في هذا الجانب لحلت هذه المشكلة تماماً. فمن آداب الدائن التيسير على المعسر، وحسن الاقتضاء، والتجاوز عن المحتاج، ومن آداب المدين المبادرة إلى تسديد الدين وعدم المماطلة وحسن القضاء.

آداب المقرض الدائن

آداب المقرض الدائن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: لا زال حديثنا معكم عن هذه المشكلة الاجتماعية التي ضلع فيها كثير من الخلق اليوم، وكانت سبب حرج الكثيرين، لأن الآداب الإسلامية في هذا الجانب قد أهملت، وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن خطورة الدَّين والتشديد فيه، ونحن نتكلم في هذه الخطبة عن آداب المقرض وآداب المقترض، وما يجب على عموم المسلمين تجاه الدائن والمدين. أما المقرض صاحب الإحسان الذي أعطى القرض لأخيه المسلم، فإنه إذا جاء موعد حلول الدين، ولم يستطع المقترض أن يوفي الدين، فإن عليه أن يصغي سمعه لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]. فأمر الله سبحانه وتعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، وليس كما كان أهل الجاهلية يفعلون؛ يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، إما أن تعطيني مالي الآن أو أحسب لك الربا ابتداءً من هذا التاريخ، ولقد جاءت هذه الآية مباشرة بعد آية الربا، التي يقول الله عز وجل فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]. ولا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن مشكلة العالم كله اليوم بالنسبة لقضايا الاقتصاد والمال إنما جاءت نتيجة الربا، والتعامل به والاقتضاء به، والاحتكام إلى أهل الربا، فحلت بذلك المشاكل، ونزل الجوع والفقر في بلاد كانت في يوم من الأيام من أغنى البلاد، وكان أقوامها وأهلها من أغنى الأهل والأقوام، وقد تحقق فيهم قول الله عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. والله عز وجل لم يحدد ما هي نوع الحرب، هل هي حرب عسكرية، أم حرب أمراض، أم حرب اقتصادية بالجوع والفقر. فحل حرب الله بالمستعملين للربا، فكان قوم من الأقوام في العلية أغنياء، فأصبحوا اليوم عالة بسبب هذا الربا وتطبيقه والركون إلى أهله. ولعلنا نفرد خطبة خاصة إن شاء الله للكلام عن هذه الكبيرة العظيمة التي دوخت البلاد والعباد، وأقضَّت مضاجع الأمم والأفراد.

إنظار المعسر

إنظار المعسر وأول ما يجب على المقرض ألا يستعمل الربا، فإذا عجز المقترض عن وفاء الدين فعليه أن ينظر أخاه المسلم بالإحسان، وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب حقاً، فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف) وهذا الحديث في سنن ابن ماجة، وعنون عليه المصنف رحمه الله: باب حسن المطالبة وأخذ الحق في عفاف. ويقول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) رواه البخاري، فهو يسامح صاحبه عند المطالبة بالدين. وهذه الأحاديث قد أحدثت فعلها في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم. فعن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة رضي الله عنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده أبو قتادة، فقال الغريم: إني معسر، فقال: آلله؟ يستحلفه على إعساره، فقال: آلله، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه) وفي رواية عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم هو في البيت، يأكل خزيرة -نوع من أنواع الطعام- فناداه يا فلان، اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا، ثم قال له: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي مال، فقال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة رضي الله عنه -تأثراً بحال أخيه المسلم، الذي ألجأه عدم وجود المال للاختباء من صاحب الدين والفرار منه- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة). وليست هذه أحوالاً فردية، بل إن الأمر كان واسعاً في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في إنظار المدين، فروى مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت رحمه الله قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا -خرج هذا الفتى مع أبيه يطلبان العلم، في الأنصار قبل أن يموت الأنصار؛ حرصاً على تحصيل العلم- فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له مع ضمامة من صحف -معه أوراق مضمومة- فقال له أبي: يا عم! إني أرى في وجهك سفعة من غضب -وهذا أدب المتعلم مع العالم، وأدب طالب العلم، في مراعاة حال معلمه قبل أن يسأله، وفي استجلاء ما على وجهه من الآثار- إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل. كان لي على فلان بن فلان الحرامي -نسبة إلى بني حرام- مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت: أثم هو؟ قالوا: لا، فخرج إلي ابن له جفر -أي: غلام صغير- فقلت: أين أبوك؟ فقال لي: سمع صوتك، فدخل أريكة أمي -وهكذا يبلغ الحال بالمدين أن يفر من الدائن إلى مكان النساء من الذل الذي يلقاه- فقلت له: اخرج فقد علمت موضعك، فخرج المدين فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ولا أكذبك، خشيت أن أحدثك فأكذبك، وأعدك فأخلف -يقول: خشيت أن أكذب في الحديث وأن أخلف الوعد، فآثرت الاختباء على الخروج إليك- وكنت قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله معسراً، فقلت: آلله إنك معسر؟ قال: آلله -وفي رواية: رددها ثلاثاً- فاستخرجت صحيفة الدين فأعطيتها لهذا المدين فمحاها بيده وقلت: إن وجدت قضاءً فاقضني وإلا فأنت في حل -لقد أحللتك إن كنت لا تستطيع- ثم قال: فأشهد بصر عيني هاتين، ووضع أصبعه على عينه، وسمع أذني هاتين -كذا ضبطاها في جامع الأصول - ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى نياط قلبه- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله).

تعامل المقرضين من الصحابة مع المقترضين

تعامل المقرضين من الصحابة مع المقترضين أيها الإخوة: لقد عملت هذه الأحاديث عملها في نفوس الصحابة، فاستجاب أصحاب الديون للترغيب الصادر من رسولهم صلى الله عيه وسلم، فبدءوا يضعون الديون عن المعسرين، ويتجاوزون عنهم، وينظرونهم إلى آجال طويلة، حتى يستطيعوا القضاء؛ لأنهم سمعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) وقال عليه السلام: (من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة). بل إنهم قد سمعوا أحاديث فيها ترغيب شديد؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) فلو أقرضت مسلماً قرضاً ثم أخذته، ثم أقرضته ثم أخذته، فكأنك تصدقت بهذا المال، مرة واحدة، ولك أجر صدقة كاملة عن هذا المال وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة). فإذاً إنظار المدين إلى حلول الأجل وإلى ما بعد حلوله فيه أجر عظيم، وكان بعض السلف يسلفون أموالهم للناس انتظار الثواب العظيم من الله عز وجل، فلقد كانت أحاديث الترغيب تفعل فعلها في نفوسهم. إن إسلاف الناس كان له أثر في إنقاذ نفوس من جهنم؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان رجلاً موسراً -غنياً- وكان يخالط الناس، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله عز وجل لملائكته بعد أن مات هذا الرجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه) الله أكرم الأكرمين، أحق من هذا الرجل بالتجوز فتجاوز الله عنه سيئاته. وفي حديث صحيح آخر: (أتي الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال: له ماذا عملت في الدنيا؟ فقال: ما عملت من شيء يا رب إلا أنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي) وفي رواية صحيحة أخرى: (أن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، قال الله: قد تجاوزت عنك). أيها الإخوة: هذه الآيات القرآنية: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وهذه الأحاديث النبوية تبشر بهذه الأجور العظيمة لمن تغاضى عن ديون الناس وأنظرهم وأخر آجال الاقتضاء حتى يستطيعوا الوفاء، وهي رسائل لأصحاب الديون من الأغنياء أو من غيرهم، ممن يطاردون المدينين فيرهقونهم، وقد يزجون بهم في السجن، وخلفهم عيال فقراء، ومع أن سجن المدين من حق الدائن، ولكن {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ومن أنظر فأجره على الله، والأجر الدائم خير لك من هذا المال الفاني في هذه الدنيا.

آداب المقترض (المدين)

آداب المقترض (المدين) وأما بالنسبة للمدين الذي عليه الدين، فإنه عليه آداباً:

المبادرة إلى قضاء الدين ولو مقسطا

المبادرة إلى قضاء الدين ولو مقسطاً أولها: أن يبادر فوراً إلى القضاء إذا ملك، أو يبادر إلى قضاء جزء إذا ملك هذا الجزء حتى يضع عن كاهله هذا الثقل العظيم الذي ستتعلق به نفسه، وتكون محبوسة به في القبر إذا هو لم يوفه إلى صاحبه، وقد ذكرنا طرفاً من هذا في الخطبة الماضية.

حسن القضاء

حسن القضاء الأمر الثاني: أن يحسن القضاء إلى صاحب الدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعرابياً جلفاً غليظاً في خطابه، فأغلظ له، فهم به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً -صاحب الدين له صولة الطلب وقوة الحجة، ولكن مع مراعاة آداب الشرع- فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه -لم يجدوا بعيراً مثل الذي استلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وكان عليه الصلاة والسلام قد استلف من هذا الرجل بعيراً- قال: اشتروه، فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً) رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم!). اليوم أيها الإخوة! لا يقف الكثيرون مع صاحب الحق، وأحياناً يكونون في موقع الحكم والقضاء، لا يقفون مع صاحب الحق، ويأخذون الرشاوى، حتى يحكموا لغير صاحب الحق، ويل لهم من نار جهنم يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (هلا مع صاحب الحق كنتم! ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله) وهذا يدل على جواز أن يقترض المدين قرضاً من دائن غير مستعجل حتى يوفي دائناً مستعجلاً، فقالت: (نعم بأبي أنت يا رسول الله، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي لما رأى حسن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم: أوفيت أوفى الله لك) فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك خيار الناس، لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) أي: لا خير في أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه بدون قلق ولا إزعاج، لأن الضعيف قد يأخذ حقه في بعض الحالات، لكن بعد أن يريق ماء وجهه، وبعد أن يسحب ويماطل، وبعد أن يقلق ويزعج، وعلى صاحب الدين أن يتوكل على الله في وفاء دينه وأن يسارع إليه حالاً، وهذه قصة عظيمة في هذا الأمر. القصة في البخاري وغيره؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً! قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً! قال: صدقت -لما لمس صدق صاحبه قال: صدقت! كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً- فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر ليتاجر بها، فقضى حاجته، وتاجر وربح، ثم ذهب يلتمس مركباً ليعود إلى صاحب الدين حتى يصل في الوقت المحدد، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها -حفرها وجوفها- فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، يذكر فيها حاله وأنه لم يستطع أن يأتي وهذه حيلته، ثم زجج موضعها -أقفل على الخشبة- ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً! فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً! فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أجد، وإني أستودعكها -والله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه- فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، وما اكتفى بإلقائها، وإنما جعل يلتمس مركباً، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لعل مركباً قد جاء بماله، خرج في الوقت المحدد إلى الساحل، ينظر هل قدم مركب بالمال الذي أسلفه في الموعد المحدد، فما وجد مركباً، وإنما وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، قال: آخذها لأهلي حطباً، فلما نشرها -وفي رواية معلقة: فنشرها أهله فتناثرت منها الدنانير والدراهم والصحيفة- فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بألف دينار أخرى، يظن أن تلك قد ضاعت، وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي شيئاً؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً) وهكذا تكون عاقبة التوكل على الله، فإن الله يؤدي، والمهم أن تصدق النية، والمشكلة عند الكثيرين من أصحاب الديون أنهم لا يصدقون النية في الأداء، فلذلك لا يساعدهم الله ولا يعينهم في أداء الديون. هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

تسديد أجور العمال المتأخرة

تسديد أجور العمال المتأخرة الحمد لله وحده، أشهد أن لا إله إلا الله، هو الحي القيوم الغني، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ومن أنواع الديون -أيها الإخوة- الدين الذي يكون للعامل عند صاحب العمل، فإن بعض العمال قد يغادرون البلاد، ولهم عند أصحاب العمل رواتب لم يستلموها، وهذه الرواتب هي ديون ولا شك على صاحب العمل، وهنا تبرز مسئولية صاحب العمل في البحث عن هؤلاء العمال الذين انتقلوا من أماكنهم، حتى يوصل إليهم حقوقهم، ولو اضطر لأن يسافر إلى آخر الدنيا. ويدل على عظم حق العامل حديث الثلاثة الذين كانوا يمشون في مطر، فدخلوا غاراً، فانطبقت عليهم الصخرة، فكادوا أن يموتوا، حتى صار كل واحد منهم يدعو الله بعملٍ صالح لعل الله يفرج عنه، فواحد دعا الله بعمل صالح في بر والديه، وواحد دعا الله بعمل صالح في أنه قد قام عن امرأة كاد أن يزني بها خشية لله، وقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً، فلما قضى عمله، قال لي: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه -أي: أنميه- حتى جمعت منه بقراً ورعاءً -وهذه هي الأمانة، فصاحب العمل ينمي هذا الدين الذي عليه للعامل- فجاءني في يوم من الأيام، وقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها كلها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي -ظن أنه يستهزئ به، لأن المال الأصلي قليل- فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه وذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي، ففرج الله ما بقي من الصخرة وخرجوا، قال العلماء: وهذا أعظم الثلاثة، لأن الله فرج عنهم بسببه التفريج التام، وأزال الصخرة. إن أصحاب العمل اليوم يظلمون عمالهم، ويأكلون من حقوقهم، هؤلاء العمال أجرهم لن يضيع عند الله، وهذا الظلم لن يذهب وإن مات الغني غنياً في الدنيا، ومات العامل فقيراً في الدنيا، فإن لهم يوم القيامة شأنا آخر، فبادر يا صاحب العمل إلى أن توفي ما عليك لأصحابه، قبل أن يكون يوم لا مال فيه ولا دينار ولا درهم، وإنما بالحسنات والسيئات.

عدم المماطلة

عدم المماطلة ومن آداب المدين كذلك أن يعجل بتسديد الدين تاماً، وبعض المستلفين يكون عنده ما يوفي به الدين، ولكنه من دناءة نفسه يقسطه على صاحب الدين المقرض المحسن؛ يقسطه عليه مبالغ صغيرة جداً، يكون عليه خمسون ألفاً مثلاً، فيعطيه يوماً خمسمائة، ويوماً مائتين، ويوماً مائة، ويوماً ألفاً، حتى يجعله ييأس من وفاء الدين، وعنده ما يوفي به المبلغ كاملاً، ولكن دناءة النفس والشح -نعوذ بالله من الشح- ويصبح صاحب الدين كأنه هو الفقير الذي يطارد، يمشي وراء المدين يقول له: أعطني أرجوك، إن عندي أعمالاً وتجارات، وعندي عمالاً ما أخذوا رواتبهم، وذلك الرجل المقترض عنده مال ولكنه لا يقضي، وهذه من المشاكل العويصة الموجودة -أيها الإخوة- اليوم، بسبب عدم خشية الله، وعدم معرفة حق الله عز وجل، وحق عباده الذي لن يضيع عند الله. ومن الآداب كذلك أنه إذا وفى الدين أن يقول للدائن كلمات الشكر والثناء.

آداب الهدية

آداب الهدية الهدية كما عرفها أهل العلم هي عطية بلا اشتراط مقابل، وقد ورد ذكرها والحث عليها في القرآن والسنة، وهي من أعظم الأسباب التي تعين على إزالة ما في النفوس وتحبب المؤمنين بعضهم إلى بعض، وقد ذكر الشيخ مسائل كثيرة تتعلق بآداب الهدية وغيرها من القضايا التي تتعلق بالهدية.

تعريف الهدية

تعريف الهدية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن آداب الهدية، وهي شعيرةٌ إسلامية جميلة جداً، فبها يتم سببٌ عظيمٌ للتآلف بين القلوب والاجتماع، وشيوع المودة بين المسلمين، وهذا من أعظم ما جاء في شريعة الإسلام. أما الهدية: فإنها ما أتحفت به، والتهادي: أن يهدي بعضهم إلى بعض، يقال: أهديت له وإليه، والجمع هدايا، وهداوى، وهداوي، وهداوٍ كما هي في بعض روايات أهل اللغة، والهدية: مفرد هدايا، يقال: أهدى له وأهدى إليه، كلاهما صحيح، فيتعدى الفعل باللام وإلى، ويقال: أهدى الهدية إلى فلان، وأهدى له هدية، أي: بعث بها إكراماً له. ويقال أيضاً: أهديت العروس إلى بعلها، أي: زفت إليه، وهادى فلانٌ فلاناً أي: أرسل كلٌ منهما هدية إلى صاحبه. وبالنسبة للتعريف الشرعي للهدية، فإن العلماء قد ذكروا عدة تعريفات، ويمكن أن نقول عموماً: إن الهدية هي دفع عينٍ -سواءً كانت مالاً أو سلعة- إلى شخصٍ معين -الذي يراد بالهدية هذا الشخص المعين- لأجل الألفة والثواب، من غير طلبٍ ولا شرط. لأجل الألفة والثواب: وهو الأجر من الله سبحانه وتعالى. من غير طلبٍ؛ لأنه لو قال: أهدني أو أعطني ربما صارت رشوة. ولا شرط كما يشترط بعضهم في الإعانة، بشرط الإعانة. فإذاً الهدية: هي عطية بلا اشتراط مقابل، وهناك كلمات مرادفة لكلمة الهدية مثل: الهبة والعطية والصدقة، وقد جاء عن أهل العلم رواياتٌ في التفريق بينها، ولكن يمكن أن نقول: إن الهدية والهبة والصدقة والعطية بمعنىً واحد من جهة أنها تمليكٌ في الحياة بلا عوض، فالهدية والهبة والعطية والصدقة تشترك كلها في أنها تمليك في الحياة بلا عوض؛ لأنك تملكه هذا الشيء بلا مقابل، والعطية: اسمٌ شاملٌ للجميع. والهدية يُتقرب بها محبة لك، والهبة والعطية معناهما متقارب حتى لا يكاد يوجد فرقٌ بينهما، والصدقة: التي تُدفع إلى الشخص لقصد ثواب الآخرة فقط. فإذاً هناك فرقٌ بين الهدية والصدقة، من جهة أن الهدية يقصد بها التحبب وثواب الآخرة، والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة فقط. وتُمتلك الهدية بالقبض، فإذا قبلها وقبضها صارت في ملكه، ولا تنتقل إلى ملكه إلا بقبضها سواء قبضها هو أو وكيله، واحتج جمهور العلماء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو أهدي إلي كراعٌ لقبلت). فالهدية بناءً على ذلك لا تُملك بمجرد الإهداء، حتى تصل إلى الشخص المهدى إليه أو وكيله، فإذا استلمها صارت ملكاً له، وهذا ينبني عليه أحكام، مثلاً: هل يجوز للإنسان أن يرجع فيها؟ متى يجوز له أن يرجع فيها؟ أو متى تنتقل إلى ملكية الشخص الآخر بحيث لا تكون في ملك الأول؟ إذا قبضها المهدى إليه -استلمها- دخلت في ملكه، فمن مجرد استلامه دخلت في ملكه، أما لو قال: سأهديك، أو أهديتك، ولم يسلمه شيئاً، فإنها لا زالت باقية في ملك المهدي ولم تخرج من ملكه.

ذكر الهدية في القرآن

ذكر الهدية في القرآن وقد جاء في القرآن الكريم ذكر الهدية، فقالت ملكة سبأ- بلقيس - لما خافت من سليمان عليه السلام، قالت للملأ من حولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:35 - 36]. فأرادت استمالة قلب سليمان لدفع الضرر عنها، وأرادت مصانعته، وأن تثنيه عن دعوته لها ولقومها وتهديدهم لهم، وسليمان لم يقبل الهدية؛ لأنها لم تكن لوجه الله، ولا كان فيها معروف، وإنما أرادت إيقافه عن جهادها، عن الجهاد وقتال هذه البلدة وهي اليمن، فلما رأى سليمان عليه السلام أن هذه الهدية ليس فيها خير ولم يرد بها وجه الله ردها، وقال: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا)) [النمل:36 - 37] ليعلموا أننا نريد الجهاد وإقامة الدين، وليست القضية مجاملات وهدايا، كما هي العادة بين الملوك: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] حتى لا ينخدعوا بحطام هذه الدنيا أو يظنوا أننا نغتر بالهدايا أو أننا سنترك الجهاد لأجل هديتهم: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل:37]. ومما يدخل -أيضاً- في الهدية مثل العطية والهبة، أو مما يقرب من معناها ما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] فالله عز وجل أمر بإيتاء النساء المهور. {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] ومعنى نحلة: عطية عن طيب نفس. وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} [النساء:4] وهبنه لكم، وتنازلن عنه لكم: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] فإذا تنازلت عن جزء من الصداق لزوجها أو أعطته إياه بعدما استلمته منه دون ضغط منه ولا إكراه، وإنما عن طيب نفسٍ منها ورضا: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4]. فإذاً: من أعظم الحلال الذي يؤكل، المغانم: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] وهو أعظم أنواع المال الحلال، بل هو أشد الأموال حلة، وقد فاتنا هذا النوع من المال بسبب ترك الجهاد. وكذلك من الأموال الحلال الطيبة، ما تتنازل به المرأة من مهرها لزوجها، قال الله عز وجل: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] ولذلك جاء عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تستشفي فاستوهب درهماً من زوجتك عن طيب نفسٍ منها، ثم اشتر به عسلاً، وهاتِ إناءً واجمع فيه من ماء المطر، ثم اقرأ القرآن وأذب العسل فيه واشربه، قال: أما ماء المطر فإنه ماءٌ مبارك، والعسل فيه شفاءٌ للناس، والقرآن -أيضاً- فيه شفاء، ودرهم الزوجة هنيئاً مريئاً، فإنك تبرأ بإذن الله.

ذكر الهدية في السنة

ذكر الهدية في السنة والهدية قد وردت في السنة النبوية، وجاء النص عليها لما لها من الأثر العظيم في النفوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) وقد رواه البخاري في الأدب المفرد وقال ابن حجر: إسناده حسن. ولا شك أن الهدية سببٌ للمحبة وتآلف القلوب، وكان التابعون يرسلون بهداياهم، ويقول الواحد لأخيه الذي يهديه: نحن نعلم غناك عن مثل ذلك، وإنما لتعلم أنك منا على بال، يعني: نحن نعلم أنك مستغن عن هديتنا، ولكن لتعلم أننا نقدرك وأن لك في أنفسنا مكانة، وقال الشاعر: هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هواً ووداً وتكسوهُ إذا حضروا جمالا وقال آخر: إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدبِ يكون لها مكانة في النفس إذا جاءت. وقال آخر: إن الهدية حلوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا تدني البغيض من الهوى حتى تصيره قريبا وتعيد مضتغن العداوة بعد نفرته حبيبا وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقبل الهدية ويثيب عليها) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) وهو في صحيح البخاري.

الأمر بقبول الهدية

الأمر بقبول الهدية وجاء الأمر بقبول الهدية وعدم ردها إذا كانت لا شبهة فيها ولا حرام، فأخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رد الهدية، وهذا الحديث صححه الألباني. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمر شيئاً من العطاء فكان يقول عمر: (أعطه من هو أفقر مني يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مستشرف) أي: غير متطلع (ولا سائلٍ) ما طلبته (فخذه فتموله) أي: تملكه (فإن شئت كله وإن شئت تصدقت به، ومالا -إذا كان خالياً من هذه الشروط- فلا تتبعه نفسك) فإذاً: قوله: (إذا جاءك من هذا المال شيء فخذه) يدخل فيه الهدايا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله شيئاً من هذا المال من غير مسألة فليقبل، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه) مادام أن المال أتى من غير مسألة، وأنت لست مستشرفاً له، ولا متطلعاً له، ولا متعلقة نفسك به تهفو إليه وترجوه، فخذه ولا ترده، فهذا مال مبارك. ومن الأدلة أيضاً -أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية- قصة بريرة رضي الله عنها، وجاء في صحيح البخاري عديدٌ من الروايات في هذه القصة، فمنها ما رواه في كتاب الأطعمة، وربما تكون هذه الرواية هي أوضحها وأتمها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوماً بيت عائشة وعلى النار برمةٌ تفور فدعا بالغداء، فأتي بخبزٍ وأدمٍ من أدم البيت فقال: (ألم أر لحماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ولكنه لحمٌ تُصدق به على بريرة، فأهدته، لنا وأنت لا تأكل الصدق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو صدقة عليها وهديةٌ لنا). إذاً: المال لما انتقل من شخص اختلف حكمه. من المتصدق إلى بريرة صدقة، ومن بريرة إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام هدية، إذاً: يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام أن يأكل منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتي بطعامٍ سأل عنه: أهديته أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل؛ -لأنه لا يليق بمقام النبوة أن يأخذ من صدقات الناس وأوساخهم- وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري في كتاب الهبة. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، والسبب في ذلك كما تقدم، وهذه آيته عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة، أنه كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، والكتب المتقدمة كانت فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك فرقاً بين الهدية والصدقة، فالهدية نوع من الكرامة، ومن باب حسن الخلق، وتتألف بها القلوب، وكان عليه الصلاة والسلام يأكلها؛ لأنها من باب الإكرام ولا يردها؛ لأجل ألا يغضب الذي أهدى، أو يصبح في نفسه عليه شيء، فلا شك أن في أخذ الهدية تألفاً للقلوب وإبلاغاً له بأن إكرامك مقبول. أما الصدقة من اليد العليا إلى اليد السفلى فلا تليق بمقام النبوة، وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ولو كانت قليلة ويسيرة، ولذلك قال: (ولو أهدي إلي ذراعٌ أو كراعٌ لقبلته) والكراع: ما دون الكعب، وما عليه إلا اليسير من اللحم، لكن لو أهدي إليه لقبله عليه الصلاة والسلام ولم يحتقر شيئاً، وبذلك أوصى نساء المؤمنين فقال: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة) والفرسن: هو في الأصل اسمٌ لخف البعير، فاستعير للشاة فهو ظلفها، ولم تجر العادة بإهداء ظلف الشاة، لكن ذكره على سبيل المبالغة، أي: اقبل الشيء اليسير من الهدية ولا ترده، فأحياناً قد يهدي إليك أخ شيئاً يصنعه بيده من الأوراق التي لا قيمة لها في الحقيقة، فاقبله تطييباً لخاطره وقلبه.

من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الهدايا

من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الهدايا وكان من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءته الهدية، أشرك فيها من معه، أو من حوله، كما جاء في كتاب الرقاق في صحيح البخاري، دخل عليه الصلاة والسلام فوجد لبناً في قدح فقال: (من أين هذا اللبن؟ فقالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهلٍ ولا مال ولا على أحدٍ. كان عليه الصلاة والسلام إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هديةٌ أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) الحديث. إذاً: كان هذا من كريم خُلقه عليه الصلاة والسلام، من كرمه أنه كان إذا جاءته الهدية لم ينس من حوله من الفقراء والمحتاجين، وكان من حضره يعطيه، وإذا أهديت إليه باكورة الثمر -أو الثمار- كان يعطيها لأصغر القوم سناً -الطفل-. وكان صلى الله عليه وسلم يتألف بهداياه القوم، وربما كان رجلٌ حديث عهدٍ بالإسلام أو في قلبه شيء على الإسلام وأهله، أو على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزال يعطيه حتى يرضيه. ومن الأحاديث الجميلة التي وردت في صحيح البخاري عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه) ولا يلزم أن يلبسوها؛ لأن لبس الحرير للرجال حرام لكن يمكن أن يعطوها زوجاتهم أو بناتهم، أو كما فعل عمر حين أهداها لأخٍ له مشرك بـ مكة. (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور بن مخرمة فقام على الباب فقال: ادعه لي -وكان صاحب جفاء وغلظة- فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فأخذ قباءً فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور! خبأت هذا لك، يا أبا المسور! خبأت هذا لك، وكان في خلقه شدة) أي: أبو المسور. وقد كان ابنه المسور بن مخرمة من كبار رواة الأحاديث. وكان صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا في أقربائه، وكان عنده من الوفاء لذكرى زوجته خديجة ما يستخدم الهدية فيه لإحيائه، والتدليل على أنه باقٍ في نفسه ذكرى تلك المرأة الطيبة التي ساعدته بمالها ودافعت عنه بنفسها، وكان أولاده منها، وأن ذكراها الطيبة لا زالت موجودة وحية، فكان إذا ذبح الشاة يُهدي لصديقات خديجة. ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على امرأةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) مع أنها ما رأتها، لكن غارت عليها من الذكر والسمعة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكرها دائماً حتى قالت عائشة: (ما تريد من عجوزٍ حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها؟! قال: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد). قالت عائشة: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لكثرة ما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيتٍ من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن) أي: يُعطيهن ما يسعهن.

المكافأة على الهدية

المكافأة على الهدية وكان صلى الله عليه وسلم يكافئ على الهدية، كما جاء في الحديث: (كان يقبل الهدية ويثيب عليها) ولا شك أن هذا من السنن الجميلة -المكافأة على الهدية- وذلك لعدة أسباب، منها: السبب الأول: ألا يبقى له منةٌ عليك، أو أن تبادله محبة بمحبة، أو أن تُظهر له أنك كافأته على جميله بجميل، وأنك لم تنس الجميل، وأنه صنع إليك معروفاً فصنعت إليه معروفاً مقابله، ولا شك كما قلنا أن الهدية الأصل فيها هو التبرع، وأن الذي يهدي لا يشترط المكافأة. وقد تكلم العلماء في حكم المكافأة على الهدية، وقال بعض أهل العلم: إن المكافأة على الهدية لا تجب، إذا أهداك شخص هدية لا يجب أن تكافئه عليها. وقال بعض المالكية: تجب المكافأة على الهدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لكن مجرد فعله عليه الصلاة والسلام لا يدل على الوجوب.

الناس في الهدايا على ثلاث طبقات

الناس في الهدايا على ثلاث طبقات جعل بعض العلماء الناس في الهدايا على ثلاث طبقات: هبة الرجل إلى من هو دونه، فهي إكرامٌ وإلطاف لا تقتضي الثواب والمكافأة بالمثل، فإذا استلمها هذا الأدون لا يستلزم ذلك أن يرد بهديةٍ مقابلها. وثانياً: هبة النظير إلى نظيره. وثالثاً: هبة الأدنى إلى الأعلى، إذا أهدى الأدنى للأعلى فإنه يكون من المؤكد في حق الأعلى أن يثيبه، وذلك بما جرت به العُرف والعادة. فإذاً: حكم الإثابة على الهدية مستحب؛ لأنه ورد في السنة. إذا أهداك إنسان هدية يُسن لك أن تهديه أخرى، وخصوصاً عندما يكون الذي أهداك أقل منك منزلة أو سناً -مثلاً- والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه). وقد أهدى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فعوضه صلى الله عليه وسلم ستة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) فالهدية على الهدية من شكر الناس. إذاً: دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) الهدية على الهدية، وجاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أُعطي عطاء فليجز به إن وجد، وإن لم يجد فليثن به، فإن من أثنى به فقد شكر، ومن كتمه فقد كفره، ومن تشبع بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور). وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وإذا لم يجد شيئاً، فأقل شيء أن يدعو لمن أهدى له الهدية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وحسنه: (من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء، وأجزل له في العطاء). وينبغي كذلك على المدعو له أن يبادل الدعاء بدعاء، كأن يقول له: وجزاك، أو وإياك، ونحو ذلك، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فقال: اقسميها، فكانت عائشة إذا رجع الخادم تقول: ما قالوا؟) عندما ترسل عائشة الهدية أو العطية مع الخادم إلى شخصٍ آخر أو بيت ناس، تسأل الخادم إذا رجع، تقول له: ماذا قال أهل البيت لما أعطيتهم ما أرسلنا به إليهم؟ فيقول الخادم: (قالوا: بارك الله فيكم، فتقول عائشة: وفيهم بارك الله، نرد عليهم مثلما قالوا، ويبقى أجرنا لنا).

من أحكام الهدايا

من أحكام الهدايا أما بالنسبة لمن يُستحب أن يهدي إليهم الإنسان ويبدأ بهم، فقد جاء في صحيح البخاري في كتاب الهبة أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت وليدةً لها -جارية- فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وصلت بعض أخوالك كان أعظم لأجرك) يعني لو أعطيتها بعض أخوالك، كان أعظم لأجرك من العتق؛ لأنهم قد يكون بهم حاجة، فإعطاؤها إياهم أحسن وأكثر أجراً. وكذلك من الضوابط في مسألة الإهداءات أن نبدأ بمن جاء في صحيح البخاري في كتاب الشفعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) فالجار الأقرب يُبدأ به في الهدية؛ لأن الإنسان قد تكون مقدرته محدودة على الإهداء، ليس عنده هدايا كثيرة تسع الجميع، فيبدأ بالأقرب باباً بالنسبة لهدايا الجيران. وكذلك من الأحوال التي يتأكد فيها الإهداء: إذا احتاج الناس، إذا كانت هناك حاجة كما جاء في صحيح البخاري في كتاب المغازي: [أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنه صنع طعاماً فلما أوشك على النضج جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! طعيمٌ لي -طعيم: تصغير طعام، أي: هو قليل- فقم أنت يا رسول الله! ورجلٌ أو رجلان] عندي طعيم لو تأتي أنت ورجل أو رجلان قال: (كم هو؟ فذكرت له كم هو مقدار الطعام، فقال: كثيرٌ طيب). ثم قال: (قل لها -يعني لزوجتك التي تطبخ الطعام- لا تنزعي البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قوموا) ومن حوله كان المهاجرون والأنصار، فقام المهاجرون والأنصار، والرجل يريد واحداً أو اثنين أو ثلاثة بالكثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام نادى المهاجرين والأنصار فلما دخل على امرأته قال: (ويحك -مصيبة- جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار، فقالت المرأة -وكانت فقيهة-: هل سألك عن مقدار الطعام؟! قلت: نعم. فاطمأنت) لأنه ما دام يعلم أن الطعام قليل ومع ذلك دعاهم، فلا بد أن يكون هناك سبب، فلما دخلوا قال: (ادخلوا ولا تباغطوا -النبي صلى الله عليه وسلم- فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقيت بقية، فقال عليه الصلاة والسلام للمرأة: كلي هذا واهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة). فإذاً: تتأكد أن الهدية احتاج الناس إليها وصارت حاجة، فيكون إرسالها فيه أجر عظيم. وبالنسبة لبعض الهدايا التي يتأكد عدم ردها: ما كان غير ذي مئونة ولا فيه كلفة، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عُرض عليه ريحانٌ فلا يرده؛ لأنه خفيف المحمل طيب الرائحة) رواه أحمد وأبو داود، وصحح إسناده في صحيح الجامع الصغير. فإذاً: الأشياء اليسيرة يتأكد عدم ردها.

الأحوال التي ترد فيها الهدية

الأحوال التي ترد فيها الهدية ما هي الأحوال التي ترد فيها الهدية؟ أولاً: هل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رد هدايا؟ نعم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هدايا بعض المشركين، وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من أحدٍ هدية إلا أن يكون مهاجراً قرشياً أو أنصارياً أو دوسياً أو ثقفياً) والسبب أن أعرابياً وهب النبي عليه الصلاة والسلام ناقة فأثابه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فقال: (أرضيت؟ قال: لا. فزاده حتى عوضه ست بكرات) هذا الأعرابي كأنه يريد بالهدية أن يأخذ أكثر منها. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه العبارة الشديدة: أنه هم ألا يقبل هدية إلا من هؤلاء الأحياء من العرب، قال: (إن فلاناً أهدى إلي ناقةً فعوضته عنها ست بكرات، فضل ساخطاً، ولقد هممت ألا أقبل هديةً إلا من قرشي أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) رواه أحمد والترمذي. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه فيظل يتسخط فيه عليّ، وايم الله! لا أقبل بعد مقامي هذا من رجلٍ من العرب هدية إلا من قرشيٍ أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) لأن هؤلاء لا يفعلون هذه الأفاعيل، هؤلاء الأربعة الأحياء من العرب معروفون بجودة الأخلاق، فالواحد منهم لا يلجأ إلى هذه الأساليب الملتوية، ثم يتسخط إذا أُعطي رداً عليها. فالإنسان إذا أحس أن الشخص يُريد بالهدية إحراجه، فإن له أن يردها، وإذا كانت الهدية من حرام، فإنه يجب ردها. وإن كانت فيها شبهة فإنه يستحب له أن يردها، وإذا كانت رشوة، فإنه يجب عليه أن يردها، كأن يكون موظفاً صاحب منصب ولولا وظيفته ما أعطي الهدية، أو يكون موظفاً في الجوازات، أو موظفاً في المصلحة الفلانية، فإذا جاءته هدية من معقب الشركة، قال: هذه الشركة تهدي لك هذه الهدية، فلا يأخذها، لأنه يجوز له ذلك، ولو كان في غير هذه الوظيفة ما أعطوه، لكن لو أن جاره أو قريبه أعطاه، فليقبلها؛ لأنها ما جاءت من أجل أنه موظف في هذه الدائرة التي يراجعها الناس، وإنما جاءت لأنه قريب أو جار. فإذاً: إذا اشتم منها رائحة التهمة أو الرشوة أو الريبة فإنه يردها. فإذاً هناك بعض الحالات التي يجب فيها رد الهدية، أو يستحب فيها رد الهدية. كذلك لو أهداك إياها فاجر فاسق، أو كافر يريد بالهدية أن يبقى له منةٌ عليك، حتى إذا قابلك انكسرت عينك وذلت نفسك له، ففي هذه الحالة لا تقبلها، لكن إذا جاءتك الهدية سليمة نقية ما فيها شائبة ولا ريبة ولا شبهة ولا حرمة فاقبلها ولا تردها، وربما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا وهو لا يحبها، لا يحبها من جهة نفسه؛ لأن نفسه لا تشتهيها لكن يأخذها إكراماً لصحابها، كما جاء في كتاب الهبة في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: [أهدت أم حفيدة خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطاً وسمناً وأضباً -جمع ضب- فأكل النبي من الأقط والسمن وترك الضب تقذراً -نفسه تعافه؛ لأنه لم يكن بأرض قومه، لم يكن من طعام قريش- وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حراماً لما أكل على مائدته]. إذاً: يأخذ الإنسان الطعام ولو كانت هذه الأكلة لا تعجبه، فيأخذها ويعطيها إلى أناس آخرين. بعض الأحيان قد يطبخ جيرانك طعاماً، ويهدوك منه، وأنت لا يعجبك هذا النوع من الطعام مطلقاً، فلا غضاضة عليك لو أخذته وطيبت خاطرهم بأخذه، ثم أعطيته بعض الفقراء أو العمال أو المساكين، أو الناس الآخرين فهم يأكلونه أو يستفيدون منه.

تحري أحسن الأوقات والأماكن عند إهداء الهدية

تحري أحسن الأوقات والأماكن عند إهداء الهدية وإذا أراد الإنسان أن يُهدي أخاه هدية، فإنه يتحرى أحسن الأوقات والأماكن، ليهدي إليه حتى تصبح أعظم، وحتى تصبح أوقع في النفس، والدليل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض. وقالت عائشة: [كان الناس يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]. فإذاً: الهدية إذا كانت في يوم مُفضل أو ساعة أو مكان معين أو ظرف معين عند المهدى إليه تكون أوقع في النفس وأحسن، فهذا من آداب الهدية. وقد حدثت قصة طويلة في هذا الباب رواها البخاري رحمه الله في كتاب الهبة وفي كتاب المناقب، وملخص هذه الهدية أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة فاجتمع صواحبي - تقول عائشة - إلى أم سلمة فقلن: (يا أم سلمة! والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان، أو حيث ما دار -لا يتقصدون عائشة - قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإنه -والله- ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذا من فضلها رضي الله عنها. وجاء في رواية أخرى: (أنهن وسطن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. فرجعت إليهن فاطمة) ثم أنه ليس من المناسب للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: يا أيها الناس! أهدوني في بيت فلان وفلان. فعلى أية حال: النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحب أن يهدى إليه وهو في بيت عائشة؛ لأنه يحب عائشة رضي الله عنها، وأن تأتيه الهدية في هذا البيت يكون موقعها أجمل وأحسن، على أنه ينبغي على الإنسان المتزوج بأكثر من زوجة أن يراعي مسألة الغيرة أشد المراعاة حتى لا تتفاقم المشكلات وتعظم، ويكون هذا من أسباب القطيعة، أو من أسباب تنغيص عيشه في بيته مع زوجاته، وقد جاءت قصة حفصة مع النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يحب العسل والحلوى، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من أحدهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، تقول عائشة: فغرت، لماذا أطال عند حفصة أكثر من المعتاد؟ فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكةً من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت: أما والله لنحتالن له، وجاءت قصة العرفط والمغافير التي حصلت من حيلة عائشة رضي الله عنها، فالإنسان على أية حال يحتاج أن ينتبه إلى مسألة الغيرة بين الزوجات، ولا يكون هو سبب الشر، أو يكون هو مفتاح الشر.

استحباب تبيين سبب رد الهدية

استحباب تبيين سبب رد الهدية ومن آداب الهدية أن الإنسان إذا رد الهدية لسبب يبين للشخص الذي ردها له ما هو السبب، مثال: روى البخاري رحمه الله تعالى عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي: (أنه أهدى لرسول صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بـ الأبواء أو بـ ودان -هذا موضع بين مكة والمدينة - صاده، فرده عليه النبي عليه الصلاة والسلام وكان محرماً صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أننا حرمٌ) وقد يقال: ألم يقبل من أبي قتادة الهدية وهو محرم؟ فقد جمع العلماء بين هذين الحديثين وقالوا: إن الصيد إذا صِيْدَ للمحرم -صيد لأجله- فإن عليه أن يرده؛ لأن المحرم لا يأكل الصيد، لا يصيد ولا يأكل الصيد الذي صيد لأجله، لكن إذا لم يصد لأجله جاز له أن يأكل، فـ أبو قتادة لما صاد حمار الوحش عندما لما تضاحك المحرمون من رفقائه والتفتوا ورأى الصيد وصاده، ما صاده لأجل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان بعيداً عنه، فهو صاده لأجل نفسه، وأهدى للنبي عليه الصلاة والسلام وأكل النبي صلى الله عليه وسلم. فالفرق بين القصتين أن ما صيد لأجل المحرم لا يُؤكل، وإذا كان لم يُصد لأجله جاز للمحرم أن يأكل منه. والشاهد الذي أورد الحديث من أجله هنا فهو تبيان أن الإنسان إذا رد الهدية لسبب، فإنه يُطيب خاطر المهدي بتبيان السبب. وكذلك من الأمور التي تتعلق بالهدية والتي ذكرها أهل العلم: إذا مات المهدى إليه قبل وصول الهدية، فلمن هي؟ هل ترجع للمهدي؟ أو هي لورثة المهدى إليه؟ فالإمام أحمد رحمه الله سُئل عن ذلك، فقال مجيباً عن هذا Q إن كان حاملها - لما حصل الموت- رسول المهدي رجعت إلى المهدي، وإن كان حاملها رسول المهدى إليه فهي لورثته. فإذا حصل الاستلام من المهدى إليه أو من رسوله أو ولده دخلت في ملكه وإلا فلا.

أنواع الهدايا

أنواع الهدايا والهدية أنواع:

هدية المحبة والمودة

هدية المحبة والمودة فمنها هدية المحبة والمودة، التي يقصد بها تثبيت الصحبة وتأكيد الأخوة، وحسن العشرة والمروءة بين الناس، وهذا النوع من الهدية قد يكون من الأعلى للأدنى، أو من الكبير للصغير، أو من المعلم للتلميذ، فإذا كانت من الأعلى إلى الأدنى صار فيها شيء من معنى الصدقة، بخلاف ما إذا كانت من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنها تكون أبعد عن معنى الصدقة. وقد تكون الهدية من باب الصلة والبر إذا كانت بين الأهل والأقارب، أي: تكون الهدية من صلة الرحم، قد تكون من باب التحبب والتقرب إلى الله، كالهدايا التي تقدم للعلماء والصالحين. قد يقصد بالهدية التوسعة كما إذا كانت من الغني للفقير، وقد يُقصد بالهدية تأليف القلب، كأن يعطيها الإنسان لمن بينه وبينه عداوة؛ لإزالة العداوة. قد تكون الهدية لتأكيد الصحبة والمحبة، كما إذا كانت بين الإخوان والأصحاب، وقد تكون الهدية هدية تشجيع كما إذا أعطى المدرس هدية لطالب نجيب عنده، أو يحفظ القرآن، أو يستذكر دروسه، فهي هدية تشجيعية يُقصد بها التشجيع. فإذاً الهدية لها عدة معانٍ جميلة ينبغي الالتفات لكل معنى منها، وقد تكون الهدية في مناسبة كالعيدين، أو مناسبة دينية أو اجتماعية موافقة للشرع مثل هدية زواج، أو هدية ولادة، أو هدية ختان، أو هدية إلى المريض، أو هدية للقيام من المرض، أو هدية للنجاح، أو للترقية، أو للمسافر، أو للعائد من السفر. فإذاً: الهدية كلما كانت مناسبتها أحسن كلما كان نفعها أكبر، وكلما كانت أفضل عند الله سبحانه وتعالى.

هدايا الوالدين

هدايا الوالدين والهدايا للوالدين لا شك أنها من أعظم الهدايا؛ لأن بر الوالدين واجب، ويتقرب الإنسان إلى الله بالهدية للوالدين أكثر من غيرهما، أما هدية الوالدين للأبناء فإنها تتعلق بها أحكام، فلا يجوز للأبوين أن يفضلا أحد الأولاد أو بعض الأولاد على بعض دون مسوغ شرعي، كأن يكون أعطاه هبةً لفقره أو لأنه تزوج، أو لأنه مريض يحتاج إلى علاج، أو لأنه نجح في الدراسة ولم ينجح بقية إخوانه، أو لأنه حفظ سورة لم يحفظها بقية إخوانه، فإذا كانت لسبب شرعي فلا بأس بذلك، ولو لم يعط بقية الإخوة، لكن ينبغي عليه أن ينوي في نفسه أنه لو مر أحدٌ من الأولاد الآخرين بالظرف نفسه الذي مر به هذا الولد الذي أعطاه أن يُعطيهم مثلما أعطاه، أي: لو أن أحد أولاده -مثلاً- تزوج فأعطاه عشرة آلاف ريال، فيجب على الأب من العدل أن ينوي في قلبه أنه لو تزوج الولد الثاني أن يُعطيه مثلما أعطى الولد الأول، إذا كان في ذلك الوقت مستطيعاً. ولا يجوز له أن يميز أحد الأولاد على بعض، كأن يُعطي هدية أو عطية أو هبة لولدٍ دون آخر دون سببٍ شرعي، فالراجح أنه حرام لا يجوز، ويكاد يكون هذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله خلافاً لجمهور العلماء، وقد نصر ذلك ابن القيم نصراً مؤزراً في تهذيب السنن في شرحه على أبي داود وذكر أدلة الفريقين ورجح المذهب القائل بعدم جواز أن يميز الأب ولداً من أولاده بعطية أو هدية أو هبة دون مسوغٍ شرعي، وحديث: (اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) ونحو ذلك من ألفاظ الحديث كلها تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يشهد على عطية النعمان وتمييزه عن بقية إخوانه. ولذلك التمييز بينهم حرامٌ، ولا شك أنه من الأسباب التي تولد الضغائن بين الأولاد، أن يميز الأب واحداً منهم بشيء، والله سبحانه وتعالى قال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء:11]. وبقي في موضوع الهدية بقية، وخصوصاً الكلام على الفرق بين الهدية والرشوة؛ لأنها مهمة في خِضم الحياة التي نعيشها. فأقول أيضاً أيها الإخوة: إن الهدية العلمية الشرعية والنصيحة من أعظم ما يُهدى للإنسان المسلم. ويدل على ذلك ما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عيسى أنه سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: (ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد) فإذا أهديت لإنسان معلومة دينية شرعية فلا شك أن هذه من أعظم ما يُهدى. ومن الأمور والأحكام المتعلقة بالهدية ذكرنا هدية المحبة والمودة، وهدية الوالدين.

هدية المخطوبة

هدية المخطوبة ومن الهدايا أيضاً هدية المخطوبة التي جرت بها العادة، والتي يُراد بها التودد والتحبب أيضاً، فإن الناس قد اعتادوا أنه إذا خطب أحدهم امرأة أو عقد على امرأة أن يُهدي لها هدايا، ومنها هذه الشبكة. فأما بالنسبة لما يُهدى من المطعومات والمشروبات والأمور المستهلكة والملابس وكل ما لم يُقصد به المهر أو جزءاً منه، فإنه ملكٌ لمن أهدي إليها، فإذا فُسخت الخطوبة سيبقى عندها، لكن إذا كان قد أُعطي لها على أنه جزءٌ من المهر مثل الشبكة التي تعارف الناس على أنها جزء من المهر، فهذه إذا حدث ما حدث من الفراق، فإنها تكون من جملة الأشياء التي يسترجعها الرجل. وبالنسبة لمن أهدى هدية طمعاً في المكافأة عليها، فإن هذا الشخص لا يكون له ثوابٌ عليها حيث أنه أراد من وراء الهدية أن يُهدى إليه، وإذا لاحظ المهدى إليه أنه قُصد من وراء الإهداء إليه أن يرد، مثل أن يكون غنياً وأهدي إليه من قبل فقير، فإنه إذا أخذها يأخذها على أن يُهدي ويُثيب ويكافئ؛ لأنها أعطيت إليه بهذا القصد وإلا فلا يأخذها.

حكم الهدية على قضاء الحاجات

حكم الهدية على قضاء الحاجات أما بالنسبة للهدية على قضاء الحاجات، فإن أهل العلم لهم أقوالٌ في مسألة من أهدى لآخر هدية لأنه قضى له حاجةً مباحة، فقال بعضهم بالحل، وقال بعضهم بالكراهة، ورأي الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الهدية على عملٍ مباح مكروهة إلا أن يكافئ بمثلها، قال أبو الحارث: إن أبا عبد الله سُئل عن رجل يسأله الرجل حاجةً، فيسعى فيها يقول: يا فلان! هل يمكن أن تقضي لي الحاجة الفلانية؟ -تنهي لي هذه المشكلة أو هذه المعاملة أو هذه الوظيفة- فإذا فعلها له أهدى له هدية، هل يجوز أن يقبلها أم لا؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان شيئاً من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك؛ لأنه لما قضى له الحاجة ماذا أراد الذي قضاها: هل أراد جعلاً؟ هل أراد مقابلاً مادياً؟ هل قال: أسعى في المعاملة أو أقضيها في مقابل مادي؟ هل قال: أسعى لك في المعاملة أو أقضيها لك -مثلاً- أو أتابعها لك أو أنهي لك هذه القضية بمقابل كذا من المال؟ لا. إنما فعلها لوجه الله. فإذا أهدي له هدية فإنه لا يأخذها؛ لأنه يريد أن يتم له الأجر، لكن إن أخذها فإنه يأخذها بقصد المكافأة عليها، ويثيب عليها وتكون واحدة بواحدة ويبقى له أجر ما عمل.

مسألة الشفاعة والواسطة

مسألة الشفاعة والواسطة بالنسبة لمسألة الشفاعة والواسطة، أنه يطلب من شخص أن يتوسط له في مسألة من المسائل أو أمر من الأمور، بجاهه يقول: يا فلان! أنت تعرف المدير، أنت تعرف فلاناً، أنت تعرف الرئيس الفلاني، توسط لي عنده في إنهاء هذه القضية أو هذه الوظيفة ونحو ذلك، فهذه شفاعة، إذا كانت في أمرٍ مباح فهي جائزة، والشافع مأجور: (اشفعوا تؤجروا). لكن ما حكم أخذ الهدية على الشفاعة؟ A الراجح أنه لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً عليها فقبلها منه، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) ولعل من الحكم من وراء هذا الأمر -وهو عدم جواز أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة الحسنة- أن الجاه نعمة من الله ينبغي أن يُستخدم في خدمة عباد الله مجاناً بدون مقابل، وينبغي أن يتسارع إليه الناس المستطيعون، لنصرة حقٍ أو رفع ظُلم، ولا ينبغي لمن ساهم بجاهه في جلب حقٍ أو دفع ظلم أن يأخذ مالاً على ذلك، حتى لا يتكاسل الناس عن هذه المسألة، ويشترطون الأجر، فيقول أحدهم: لا أتوسط لك إلا بمقابل. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه لا يجوز أخذ الأجرة عليها. وقال بعض الفقهاء: لا يجوز أخذ العوض مقابل الدفع عن المظلوم، وإنه يجب أن تُقضى له الحاجة مجاناً. وقال ابن الجوزي: يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، وقال: والواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغه للسلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة. إذاً: لا يجوز أخذ المقابل على هذه الشفاعة وخصوصاً إذا كانت لجلب حقٍ أو دفع ظُلم. وقد أفتى ابن تيمية رحمه الله -في مسألة أخذ العوض أو الهدية على قضاء الحاجة- بعدم الجواز، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، ولما سئل ابن مسعود عن السحت قال: إنما السحت أن يستعينك على مظلمةٍ فيهدي لك. فلا تقبل. يقول: تعال ادفع عني هذه المظلمة فإذا أهدى لك هدية لا تقبل؛ لأنه سحت، لو قبلتها فهذا سحت. وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفاً فرده ولم يقبله، وقال مسروق: سمعت ابن مسعود يقول: [من رد عن مسلمٍ مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم، قال: ذلك كفرٌ نعوذ بالله من ذلك] أي: أشد وأشنع، أي: الرشوة للقاضي أشد وأشنع ليحكم بغير الحق والصواب. وجاء نصرانيٌ إلى الإمام الأوزاعي وكان يسكن بيروت فقال: إن والي بعلبك ظلمني وأريد أن تكتب فيَّ إليه، وأتاه بقلة عسل -هدية معه- فقال له: إن شئت رددت عليك قلتك وأكتب إليه؟ وإن شئت أخذتها ولا أكتب؟ -أنت بين أمرين إما أن تأخذ هديتك وأكتب لك , وإلا لا أكتب لك ولا أقبل هديتك- فقال النصراني: بل اكتب لي وارددها، فكتب له أن ضع عنه من خراجه، فشفّعه الوالي فيه، وحط له عن جزيته ثلاثين درهماً. أي: كان قد أخذ أكثر من الجزية الشرعية. فإذاً: لا ينبغي الاستعانة بالهدايا على قضاء الحوائج وتيسير المهام؛ حتى لا تتوقف الأمور على ذلك وتضيع المروءات والأخلاق بين الناس، ويكون التعامل بينهم على أساس مادي، فيضيع باب الاحتساب ويضعف الوازع الديني عند الناس. وكذلك من الأشياء التي لا ينبغي قبول الهدية فيها مطلقاً: الهدية مقابل حفظ الأمانة، كأن يستودع أحد عندك أمانة ثم جاء فأخذها كاملة فأعطاك هدية فلا تأخذها منه، إلا بنية أن تكافئه عليها، حتى يبقى أجرك عند الله موفوراً، وحتى لا تصبح قضية حفظ الأمانات بين الناس مقابل هدايا ومكافآت، وينبغي أن يُسعى في قضاء الحوائج للناس ابتغاء الأجر من الله سبحانه تعالى، وينبغي أن يبذل المسلم جاهه بدون مقابل؛ لأن الجاه زكاة مثل المال. ولذلك فإن الذي يُعطي شخصاً مالاً وهو مضطر، أعطاه إياه؛ لأنه ما عنده طريقة أخرى يصل بها إلى حقه أو يدفع الظلم عن نفسه، فيجوز له أن يدفعها؛ لأنه مضطر، لكن لا يجوز للآخر أن يأخذها، وإنما يستخدم جاهه في مساعدته، أما إذا كانت الهدية لإحقاق باطل، أو إبطال حق فلا شك أنها محرمة تحريماً عظيماً.

الغرض من الهدايا

الغرض من الهدايا وقد ذكر بعضهم أن الهدايا لها أغراض أربعة: أولاً: أن يكون الغرض منها حصول الثواب الأخروي، كأن يكون المهدى إليه فقيراً أو عالماً أو صالحاً. ثانياً: أن يُقصد بالهدية جلب المحبة والتودد، مثل أن يُعطي المخطوبة يتودد بالهدية إلى قلبها. فهذان جائزان. ثالثاً: أن يقصد بها غرضاً دنيوياً، كأن يعطي الفقير غنياً هدية على أمل أن يُعطيه أكثر، فيجوز للغني أن يأخذها إذا كان سيعطيه فعلاً. رابعاً: أن يكون المراد بها الاستعانة على فعل أمر معين، كالمحتاج إلى السلطان في مسألة، فيُعطي وكيله هدية، فهذا إذا كان في إحقاق باطل أو إبطال حق فلا شك في تحريمه. وإذا كان العمل في أخذ حقه أو دفع الظلم عن نفسه، فقد يجوز الإعطاء، ولكن لا يجوز الأخذ أبداً. أما الأشياء المباحة كأن يتوسط له في جلب بضاعة -مثلاً- ليس مضطراً إليها ولا محتاجاً إليها، يريد أن يتوسع بها، فهذه الهدية في هذه الحالة الأحوط ألا يأخذها؛ لأن فيها استعمال الجاه بمقابل.

حكم إهداء القضاة

حكم إهداء القضاة وبالنسبة لهدايا القضاة فإن العلماء قد تكلموا على ذلك، وذكر بعضهم أن القاضي لا يجوز له مطلقاً أن يقبل الهدية، وهذا قول بعض أهل العلم، وقال بعضهم: جائز، وقال بعضهم: يجوز إذا كان الذي أهدى للقاضي ليس له قضية عند هذا القاضي، وبعضهم قال: يجوز إذا كان ممن يهديه قبل القضاء، فيجوز له أن يهديه بعد القضاء، وشرط بعضهم أن يكون ممن يهديه قبل القضاء وليس عنده قضية عند القاضي. وعلى أية حال فإن تحريم أخذ القاضي للهدايا هو القول الأحوط، وقد رجحه ابن قدامة رحمه الله تعالى، ولا شك أن القاضي إذا أخذ الهدية فإن ذلك سيكون باب شرٍ عظيم. اللهم إلا إذا كان هدية لا علاقة لها بالقضاء أبداً، كما إذا أهدى له أخوه هدية، أو جاره أهداه هدية للجوار فقط، أو من -مثلاً- قاض آخر يكون زميلاً له، أي: لا علاقة له بالقضاء مطلقاً، فهو يجزم تماماً أنها لا علاقة لها بالقضاء، فهذا يجوز له أخذها. ولذلك قال النووي رحمه الله: إن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية حرم عليه قبول الهدية. وإذا كانت له عادة بالهدية من قبل ولم تكن له قضية عند القاضي أو حكومة -العلماء يسمونها حكومة- جاز قبولها، وإن كان له حكومة أو قضية عند القاضي فلا يجوز للقاضي أن يقبلها حتى لو كان المهدي له سابق عهد بالهدية، قبل أن يتولى القاضي القضاء. كذلك فإن من الأشياء التي يمكن أن تكون بريئة، الإهداء للقاضي بعد التقاعد من القضاء، أو أن يهدي له شخص شيئاً ما، وهذا الشخص لا علاقة له بمجال القضاء ولا يأتي إليه في خصومة مثل أن يكون في بلدٍ آخر فيه قاض آخر، فأهدى له هدية من بلد إلى بلد، فهنا لا يطمع أن يكون له عند القاضي شيء، وإذا أهديت للقاضي هدية؟ قال بعض أهل العلم: يردها إلى بيت المال.

حكم قبول الحاكم للهدايا

حكم قبول الحاكم للهدايا أما بالنسبة للحاكم، فإنه لا يأخذ شيئاً مطلقاً، ولذلك قيل لـ عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين! مالك لا تقبل الهدية وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقبلها؟ فقال عمر رضي الله عنه ورحمه: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، وإنها اليوم رشوة. كانوا يهدونه لنبوته يتقربون بها إلى الله، لكن نحن لماذا يهدوننا؟! لسلطاننا وإمرتنا، ولذلك قال: هي رشوة، فإذاً: لا يجوز له أخذها من الرعية. أما بالنسبة لمسألة قبوله هو لهدايا من ملوك الأرض -مثلاً- كما أهدى النجاشي وأكيدر دومة الجندل وغيرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، فقبلها عليه الصلاة والسلام، فإن كان فيها مصلحة للمسلمين أخذها، وهذا الباب فيه تفصيل، لكن لعلنا لا نحتاج إليه في هذا المقام والزمان.

حكم قبول العمال للهدايا

حكم قبول العمال للهدايا أما بالنسبة للعمال وهم الموظفون العاملون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحكم صريحاً فقال: (هدايا العمال غلول) أي: سرقة وحرام وسحت، من هم العمال؟ موظفو الدولة عموماً، كل من تولى ولاية عامة، أو في مكان له علاقة بالناس يقضي لهم المعاملات، فإن هذا الموظف لا يجوز له أخذ الهدية من الناس أبداً، وحديث ابن اللتبية واضح جداً لما جاء يحاسب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (هذا مالكم وهذا هدية -قال: هذه الزكوات جمعتها لكم وهذه أعطوني إياها هدية- فغضب النبي عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً وخطب الناس وقال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله عز وجل يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر، ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت؟). وفي رواية: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً) أي: يقول: لو لم تكن موظفاً عندنا وكنت في بيت أبيك وأمك هل كانت تأتيك الهدية؟ لو كنت صادقاً اقعد في بيت أبيك وأمك وانتظر الهدية. إذاً: كل هدية تأتي للموظف بسبب وظيفته حرامٌ عليه أخذها؛ لأنها رشوة، وهذه مسألة صريحة لا تحتاج إلى نقاش، ويقع بسبب قبول الموظفين في الأماكن العامة للهدايا من المراجعين والناس فسادٌ عظيم. وعن سليمان بن يسار: (أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر) هذا موظف النبي عليه الصلاة والسلام أرسله إلى يهود خيبر لأجل الخرص؛ لأن بينهم صُلح ولا بد أن يؤدوا أشياء معينة ونسبة معينة، قال: (فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم -اليهود- فقالوا: هذا لك، وخفف عنا وتجاوز القسط) رشوة واضحة من إخوان القردة والخنازير، خذ هدية وخفف عنا (فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود! والله لأنكم من أبغض خلق الله إليّ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم) يقول: أنتم أبغض خلق الله إليّ وربما ما فعلتموه الآن معي يزيدني عليكم حنقاً وبغضاً، لكن مع ذلك لن أجور عليكم في القسمة (فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض). وقال ابن تيمية رحمه الله: وما أخذ ولاة الأمور وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (هدايا العمال غلول) أي: خيانة. الخلاصة: لا يجوز للموظف أخذ الهدية من الناس مطلقاً، إلا إذا كانت هدية لا علاقة لها بالوظيفة أبداً، مثل هدية شخصية، أبوه أهداه هدية، أو أخوه، لا علاقة له بأنه موظف أو غير موظف، فهنا في هذه الحالة يأخذها، لكن أن يأخذ من عامة الناس ومن المراجعين فهذا حرام وسحت ولا يجوز. وقد تكون الهدية بأشكال كثيرة، كأن يقول صاحب ورشة لشخص: هات أصلح لك السيارة، هات نراعك فيها، هات نعطك أثاثاً بنصف السعر، فهذا كله سحت، حرام سواءً كان بشيءٍ مادي، أو خصم، أو خدمة مثل إصلاح سيارة أو تأجيرها، أو أشياء مجانية، لشخصه هو فهي حرام، ولا يجوز للآخر أن يدفعها، وإعطاء الهدية للموظف في الجوازات أو الشرطي أو لشخص في المرور حرام مطلقاً، وذكرنا استثناء في موضوع دفع الظلم عن نفسه وهي قضية أخرى.

حكم قبول الهدايا من الكفار

حكم قبول الهدايا من الكفار أما بالنسبة لقبول الهدايا من الكفار، فإنه قد وردت نصوص أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هدايا من الكفار، مثلما أخذ -مثلاً- من أكيدر دومة الجندل. وكذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدية اليهود لما أهدوه الشاة التي وضعوا فيها السم، ووردت أحاديث بمنع أخذ الهدية منهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نقبل زبد المشركين) وزبد المشركين: هو عطاؤهم وهداياهم، فكيف جمع العلماء بين هذه الأحاديث؟ قال بعضهم: إن أحاديث المنع ناسخة، والأخذ منسوخة. وقال بعضهم: أحاديث الأخذ ناسخة، وأحاديث المنع منسوخة. وقال بعضهم: إنه إذا أُهدي إليه عليه الصلاة والسلام خاصةً لا يقبل، وفيما أهدي للمسلمين يقبل، لكن هذا فيه نظر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أُهدي هدايا خاصة، فقد أهداه المقوقس ملك الإسكندرية بغلة ومارية القبطية له خاصة، فهذا قد لا يكون جواباً صحيحاً أو راجحاً. وقال بعض العلماء: إذا كان الذي أهداه قصد الموالاة فيردها، وإذا كان الذي أهداه يُرجى بقبول هديته تأليفه إلى الإسلام وتأنيسه فيأخذها، وهذا جمعٌ جيد. وقال بعضهم: إن كانت من أهل الكتاب قبلها، وإن كانت من أهل الأوثان لم يقبلها، وقال بعضهم: إن كانت من المحاربين لم يقبلها وإن كانت من غير المحاربين قبلها، فلعل الراجح إن كانت من غير المحاربين ومن غير أهل الأوثان من أهل الكتاب، الذين يراد بقبول هديتهم تأليفهم، فيقبل وإلا فلا.

حكم إهداء المشرك

حكم إهداء المشرك ما حكم أن نهدي المشرك؟ ف A إذا كان المشرك محارباً فلا يجوز إهداؤه؛ لأنه لا يوجد بيننا وبينه إلا السيف، وإذا كان غير محارب فالله يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] كانت أم أسماء مشركة، فلما رغبت في صلتها قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (صلي أمك) والوصل عام يمكن أن يكون بالهدايا أو بغير الهدايا، والصلة عامة لهذه الأم المشركة. فإذاًَ: يجوز أن نهدي المشرك خصوصاً إذا أهديناه لأجل تأليف قلبه، ودعوته إلى الله. ما حكم إهداء الكفار في مناسباتهم الدينية مثل الأعياد؟ الجواب: لا يجوز ذلك مطلقاً؛ لأنه مشاركة وإقرار ولا ينبغي إظهار الفرحة، أو مشاركتهم بفرحتهم مطلقاً مهما كانت، وأصحاب أبي حنيفة يشددون في ذلك جداً، حتى قالوا في بعض كتبهم: من أهدى إليهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم عيدهم فقد كفر.

بعض الأبيات التي جاء فيها ذكر الهدايا

بعض الأبيات التي جاء فيها ذكر الهدايا وهناك أبياتٌ للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله فيها ذكر بعض أحكام الهدية يقول: ثابتةٌ بالسنن القويمة وقد روي إذهابها السخيمة يُشرع للمسلم أن يقبلها وأن يثيب كرماً فاعلها إذ صح مروياً عن النبي وهو دليل الخلق المرضي وبين مسلمٍ وكافرٍ تحل مالم يخف وداً لمنعٍ قد نقل يجوز ردها بدون مانع شرعي إذ قد منع الشارع القاضي والأمير والشافع أن يقبلها نصاً صريحاً في السنن وإن تكن إلى جوارٍ تهدي فقدم الأقرب عن ذي البعدِ وإذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فإنها فكلما لطفت ودقت كانت أبهى، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع، وبعث أبو العتاهية إلى الفضل بن ربيع بنعل وكتب معها: نعلٌ بعثت بها لتلبسها تسعى بها قدمٌ إلى المجدِ لو كان يمكن أن أشركها جلدي جعلت شراكها خدي وقال رجل لـ أبي الدرداء: إن فلاناً يقرئك السلام، فقال: هدية حسنة ومحملٌ خفيف.

بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها

بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها وفي نهاية الكلام عن الهدية نريد أن نستعرض وإياكم بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها، فأشير الآن ما هي الهدايا المناسبة التي يمكن أن تهدى للناس والإخوان والأقارب والجيران وغيرهم: طبعاً الكتاب والشريط الإسلامي لا شك أنه من أعظم ما يُهدى في هذا الزمان. ومن الهدايا الساعة، لكن لا تكون مطلية بالذهب أو فيها صلبان، وكذلك الأقلام لا تكون مطلية بالذهب. ومما يهدى أيضاً الملابس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أهديت له ألبسة، وهي من الأشياء الجيدة التي وردت فيها السنة مثل الثوب وغيره. الأطعمة والأشربة أيضاً كانت تُهدى، كما تُصدق على بريرة، وبريرة أهدته لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، والمصحف وهو داخل في كتب العلم، لأنه هو أعظم كتاب على الإطلاق، ولا شك أنه كلما قرأ فيه، والغالب أن يُقرأ فيه كثيراً -يعني: المصحف- أكثر من أي كتاب آخر، يؤجر عليه الإنسان. والمركوبات، ولكن هذه أشياء مكلفة أي: لا يتيسر لعامة الناس أن يهدوها إلا إذا كان صاحب يسار فأهدى سيارة مثلاً. وكذلك الآلات التي تستخدم في حفظ المعلومات كالحاسب الآلي أو الآلات الحاسبة التي تهدى للطلبة أو الأشياء القرطاسية كالمساطر وعلب الهندسة والدفاتر ونحوها، وكذلك الشاة تهدى للمتزوج من باب المساعدة في الوليمة، وقد ثبت في السنة مساعدة صاحب الوليمة أو الزوج بما ييسر عليه مئونة حفلة الزفاف، وإهداء الزوجة من الحلي. ينظر في حاجته فيعطيه هدية تناسب حاجته، وكذلك إهداء مبلغ من المال. الورد للمرضى من عادات الكفرة ولذلك لا ينبغي إهداء الورود للمرضى، ومن عاداتهم حمل العروس باقة وردٍ بيدها في حفلة الزفاف، لكن لو أهداه ورداً في غيرها كأن يأتي لأمه بوردٍ أو قرنفلٍ أو ياسمينٍ أو فُل -مثلاً- وجده جيداً وطيباً فلا شك أنها هدية جيدة ومحمودة. وإهداء النصيحة، أو إهداء العلم الشرعي، أو تعليم حديث كما مر معنا من الهدايا الطيبة، وكذلك العسل. فعلى أية حال الهدايا كثيرة وهذا طرف منها وأمثلة، وبذلك نختم الكلام عن موضوع الهدية. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم بالسبيل القويم، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه الكريم، والله أعلم.

آداب تلاوة القرآن الكريم [1، 2]

آداب تلاوة القرآن الكريم [1، 2] إن القرآن الكريم هو حبل الله الممدود، فمن تمسك به هُدي ومن اعتصم به فاز، ولقد أوصانا الله بتلاوته وتدبره والعمل بأحكامه والتمسك بآدابه في أكثر من موضع منه. وفي هذا الدرس يذكر الشيخ الكثير من آداب التلاوة التي لابد من التأدب بها والعمل بمقتضاها.

فضل تلاوة القرآن

فضل تلاوة القرآن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: أيها الإخوة: سنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- في موضوع الآداب الشرعية عن آداب تلاوة القرآن الكريم، ولا شك أن هذا الكتاب هو حبل الله الممدود من ربنا إلينا، من تمسك به هُدي، ومن اعتصم به فاز والفوز هو الجنة: (ويجئ القرآن يوم القيامة، فيقول: يا ربِ! حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد له بكل آيةٍ حسنة) رواه الترمذي، وهو حديثٌ حسن. هذا شيءٌ من فضل تلاوة القرآن وما لقارئ القرآن من الأجر، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي أوصانا، كما روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، عن أبي سعيد، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض). والله عز وجل قد أوصانا بكتابه في كتابه بوصايا كثيرة، منها: الأمر بتلاوة القرآن وترتيله، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] فالذي يقرأ كتاب الله عز وجل لاشك أنه هو الفائز يوم القيامة. تلاوة الكتاب العزيز لها آداب، ومن آداب هذه التلاوة:

من آداب التلاوة: الإخلاص

من آداب التلاوة: الإخلاص من آداب التلاوة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا يوم القيامة عمن تسعر بهم النار، وهم ثلاثة، فمنهم: قارئ للقرآن، والسبب -ولا شك- في تسعير النار به يوم القيامة هو أنه لم يكن من الذين أخلصوا لله سبحانه وتعالى في ذلك، ولذلك هؤلاء الثلاثة الذين تسعر بهم النار، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيهم: (إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمةٍ جاثية، فأول من يُدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت بما علمت؟ قال: كنتُ أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلانٌ قارئ! فقد قيل ذلك، أخذت أجرك في الدنيا، ثم يسحب إلى النار) والعياذ بالله، فلابد من الإخلاص لله سبحانه وتعالى في التلاوة.

من آداب التلاوة: الطهارة

من آداب التلاوة: الطهارة من آداب تلاوة كتاب الله العزيز كذلك أن يتلوه على طهارة، ولا شك أن تلاوته على طهارة أفضل، وإن حصل الخلاف بين أهل العلم في حكم الطهارة لتلاوة القرآن ولمس المصحف، أما بالنسبة للتلاوة فلا شك أن مجرد التلاوة بدون مس المصحف لا يشترط لها الطهارة، بمعنى زوال الحدث الأصغر والأكبر معاً، وإنما إذا كان على جنابة لا يقرأ حتى يغتسل وعذره يزول، بخلاف عذر الحائض التي تمكث وقتاً لا تستطيع أن تزيل عذرها بيدها. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كرهتُ أن أذكر الله عز وجل إلا على طهرٍ) لاشك أن أعلى ما يُتطهر له هو كلام الله تعالى. قال الجويني رحمه الله: "لكن تجوز القراءة للمحدث حدثاً أصغر؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ مع الحدث) " لكن هذا الحديث ليس بمعروف، والذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، ومن هنا قال بعض العلماء: ما دام أنه كان يذكر الله على كل أحيانه، فقراءة القرآن من ذكر الله. ولذلك يرى بعضهم جواز قراءة القرآن للجنب، لكن الأحوط أن الجنب لا يقرأ القرآن، والأفضل أن يتطهر الإنسان لقراءة القرآن، والراجح للحائض أنه يجوز لها قراءة القرآن لكن دون مس المصحف، فإن احتاجت إلى مسه بخشبةٍ أو بقلمٍ أو بقفازٍ أو بخرقةٍ ونحو ذلك فلا مانع.

من آداب التلاوة: التسوك

من آداب التلاوة: التسوك من آداب تلاوة القرآن التسوك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إن أفواهكم طرقٌ للقرآن، فطيبوها بالسواك)، وقد جاء عدد من الأحاديث في هذا الموضوع، فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تسوك أحدكم ثم قام يقرأ طاف به الملك يستمع القرآن حتى يجعل فاه على فيه، فلا تخرج آيةٌ من فيه إلا في فيّ الملك) وهذا الحديث صححه الشيخ ناصر الدين الألباني وغيره. فإن من فوائد السواك للقراءة: 1 - أنه لا يخرج من فم قائم الليل المصلي الذي يقرأ القرآن آية إلا دخلت في فم الملك. 2 - أن الملك يضع فاه على فم قارئ القرآن، القائم في الليل.

من آداب التلاوة: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم

من آداب التلاوة: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كذلك من آداب تلاوة القرآن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. ومعنى (إذا قرأت) أي: إذا أردت القراءة، قال بعض أهل العلم: يجب التعوذ عند قراءة القرآن لظاهر الأمر، وجمهور العلماء على استحباب ذلك، ومن أفضل الصيغ: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والاستعاذة ليست آية من القرآن، ولذلك لا ترتل ترتيلاً، وإنما تقال: بصوتٍ عال، فإذا بدأ يقرأ رتل الترتيل المعروف، وميَّز صوته بالتلاوة، ومن فوائد الجهر بالتعوذ: إظهار شعار القراءة، وأن السامع ينصت للقراءة ويعلم ماذا سيقوله القارئ وأن بعده قرآن. قال ابن الجزري رحمه الله: المختار عند أئمة القراءة الجهر بها. وقال بعضهم: يُسر بها. وعلى أية حال، إذا تعوذ يُسمع نفسه. وهنا مسألة: إذا كان جماعة في مقام التعليم يقرءون، فتعوذ الأول وقرأ ثم توقف ليقرأ الثاني، فلا يجب إعادة الاستعاذة، لأن القراءة هنا في حكم المتصلة، فلا يجب إعادة الاستعاذة من القارئ والثاني والثالث وهكذا.

من آداب التلاوة: البسملة

من آداب التلاوة: البسملة من آداب تلاوة القرآن كذلك البسملة؛ أن يحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة غير براءة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف انقضاء السورة وابتداء السورة التي تليها بالبسملة، إلا في موضعٍ واحد وهو ما بين الأنفال وبراءة، فإن الصحابة تركوهما بغير بسملةٍ بينهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين لهم، هل براءة والأنفال سورة واحدة أم لا؟ فلو وضعوا البسملة صارت سورتين منفصلتين، وإذا لم يضعوا البسملة في بداية السورة توهم الناس أنهما سورة واحدة، فتركوهما بهذا الشكل الموجود الآن. وكذلك بما أن البسملة آية فالسنة ألا تُوصل بما بعدها، فيستعيذ بالله ثم يتوقف، ثم يقرأ البسملة ويتوقف، ثم يشرع في قراءة الآيات أو السورة، وبما أن البسملة هي في بداية كل سورة، فإذا بدأ من وسط سورة، فإنه يكتفي بالاستعاذة.

من آداب التلاوة: الترتيل

من آداب التلاوة: الترتيل ومن آداب التلاوة كذلك ترتيل القرآن؛ لأن الله قال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]، ونعتت أم سلمة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً، وفي البخاري عن أنس أنه سأل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: [كانت مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الله -أي: المد الطبيعي حركتين- ويمد الرحمن، ويمد الرحيم]. وفي الصحيح عن ابن مسعود: [أن رجلاً قال له: إني أقرأ المفصل في ركعةٍ واحدة، فقال: أهذاً كهذ الشعر] ينكر عليه، أي: الإسراع بالقراءة: [إن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع]. وفي الأثر عن ابن مسعود كما أخرجه الآجري: [لا تنثروه نثر الدقل -أي: التمر الرديء- ولا تهذوه كهذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون همَّ أحدكم آخر السورة]. والترتيل للتدبر يعين عليه، وهو أشد تأثيراً في القلوب، وعلماء القراءة يذكرون أن مراتب الإسراع والبطء في القراءة أربعة: 1 - التحقيق. 2 - والتدوير. 3 - الترتيل. 4 - الحدر. والترتيل: هو الموافق لنص كتاب الله تعالى، والإنسان قد يكون في موضع يريد فيه أن يسرع شيئاً ما، وفي موضع يريد فيه أن يبطئ شيئاً ما، قد يريد مراجعة حفظ سورة -مثلاً- فيُسرع، وقد يريد أن يتدبر أو يبحث عن شيء فيتمهل، فهذه المسألة تعود للمصلحة الشرعية، وقد يريد أن يلقن تلميذاً أو صغيراً فيتمهل معه في الأداء، وقد يريد أن يقرأ لنفسه فيكون أسرع، أما المبالغة في البطء الموجودة في قراء الإذاعات وغيرهم مما تنفر منه أسماع الناس فلا شك أن هذا تكلفٌ مقيت، وقد نهينا عن التكلف.

من آداب التلاوة: تفخيم التلاوة

من آداب التلاوة: تفخيم التلاوة ومن آداب تلاوة القرآن كذلك تفخيم التلاوة، ومعنى التفخيم: أي: أنه لا يقرأه بصوتٍ كصوت النساء إذا كان رجلاً مثلاً، وإنما يفخمه إذا كان رجلاً يقرأ كل شخصٍ بطبيعته، الرجل بطبيعته، والمرأة بطبيعتها، وإنما المقصود أنه لا يتشبه بالنساء، أو بميوعة في الكلام عند تلاوته، وممن ذكر ذلك الزركشي رحمه الله في كتابه البرهان.

من آداب التلاوة: الاجتماع لمدارسة القرآن

من آداب التلاوة: الاجتماع لمدارسة القرآن ومما يتعلق كذلك بآداب التلاوة الاجتماع لتلاوته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) فالاجتماع لتلاوة القرآن ومدارسته من السنن والمستحبات العظيمة، ولا يعني قوله: (يتلون كتاب الله) أي: يتلونه بصوت واحد، كما لا يعني قوله: (يتلون كتاب الله) أي: كل واحد يقرأ وراء الآخر مقطع مقطع، كما يفعل كثيرٌ من الناس، لأنه قد ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم كانوا إذا جلسوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ ويستمع الباقون. أما طريقة الإدارة في التلاوة، أي: أن يقرأ كل واحد مقطع ثم يقرأ الآخر فهذه طريقةٌ مكروهة، وبعضهم يقول: مبتدعة إلا في مقام التعليم، أي: التعليم عند شيخ يأمر شخصاً أن يقرأ ثم يأمر الآخر وهكذا الثالث والرابع في التحفيظ مثلاً يسمع الأول ثم الثاني ثم الثالث، لكن إذا اجتمعوا مجموعة في المسجد أو في غيره، ما هي السنة؟ أمروا واحداً منهم أن يقرأ، مثل أن يكون أنداهم صوتاً، أو أفضلهم قراءةً، والباقون يستمعون.

من آداب التلاوة: تحسين الصوت بالقراءة

من آداب التلاوة: تحسين الصوت بالقراءة وكذلك من آداب التلاوة تحسين الصوت بالقرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)، وفي رواية: (حُسن الصوت زينة القرآن) وكلاهما حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتحسين الصوت: تجميله، وتزيينه، والاعتناء به، والإبداع فيه، وسيأتي لهذا مزيد من الشرح إن شاء الله. وكذلك من آداب التلاوة: أن يُتغنى بالقرآن، وهذا تابع لما ذكرناه قبل قليل من تحسين الصوت به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، وكذلك حديث: (ما أذن الله لشيءٍ ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يتغنى به) فالتغني بالقرآن من آداب التلاوة ومستحباتها، وهذا معنى التغني: تحسين الصوت.

من آداب التلاوة: عدم الجهر بالقراءة على الآخرين

من آداب التلاوة: عدم الجهر بالقراءة على الآخرين وكذلك من آداب التلاوة ألا يجهر شخصٌ على شخصٍ بالقراءة فيرفع صوته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن؛ لئلا يكون ذلك سبيلاً إلى التشويش).

من آداب التلاوة: قطع القراءة عند النعاس والتثاؤب

من آداب التلاوة: قطع القراءة عند النعاس والتثاؤب ومن آداب التلاوة أنه إذا نعس كف عن القراءة، فقد روى أحمد ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدرِ ما يقول فليضطجع) أي: يذهب وينام حتى لا يخلط القرآن بغيره، أو تلتبس عليه الآيات، فيُقدم ويُؤخر، أو يهذي ويذكر حروفاًَ ليست فيه ونحو ذلك مما يفعله النعسان، فإذا نعس فعليه أن يذهب وينام.

من آداب التلاوة: الاعتناء بالسور التي لها فضل

من آداب التلاوة: الاعتناء بالسور التي لها فضل وكذلك من آداب تلاوة القرآن أنه يعتني بالسور التي لها فضل، فيُكثر من قراءتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة! فإنه من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] في ليلة فقد قرأ في ليلته ثلث القرآن). وفي رواية أنه قال: (احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ثم قرأ عليهم سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}). إذاً: المتابعة والاعتناء بالآيات والسور التي فيها فضل عظيم يكون مما ينبغي لتالي القرآن الكريم.

من آداب التلاوة: عدم القراءة في الركوع أو السجود

من آداب التلاوة: عدم القراءة في الركوع أو السجود من آداب التلاوة ألا يقرأ القرآن في الركوع والسجود، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم). ومن أسباب هذا وعلته: ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الركوع والسجود من مواضع الذل، فلا ينبغي أن يقرأ القرآن في مواضع الذل، وإنما فيه تسبيح الله سبحانه تعالى. وذكر أهل العلم أنه إذا قرأ شيئاً من القرآن في الركوع أو السجود وأتى بدعاء من القرآن بقصد الدعاء، فإنه لا بأس به، كأن يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، أو {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ونحو ذلك مما ورد من الأدعية في القرآن على سبيل الدعاء فلا بأس به.

من آداب التلاوة: الصبر على الصعوبة في القراءة

من آداب التلاوة: الصبر على الصعوبة في القراءة وكذلك من آداب التلاوة أن يصبر الشخص الذي يجد صعوبةً في التلاوة عليها، مثل العامي الذي يتعب في القراءة؛ لأنه لم يدرس ذلك أو لم تتهيأ له الفرصة لذلك، أو الشخص الذي في لسانه شيء، أو في تركيبة أسنانه شيء، قد يكون يشق عليه القراءة فيصبر على ذلك وأجره عظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ وهو عليه شاق له أجران) فلو صبر على هذه المشقة وحاول أن يتعلم ما استطاع فلا شك أنه يؤجر أجراً عظيماً.

من آداب التلاوة: ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام

من آداب التلاوة: ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام ومن آداب تلاوة القرآن ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) كما روى ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجة، عن ابن عمر مرفوعاً. لكن قد يبحث الإنسان عن دليل معين، فيستعرض القرآن في ذهنه استعراضاً، كما فعل الشافعي رحمه الله فقد استعرض القرآن كله في ليلة يبحث عن دليل الإجماع، فهذا لا يسمى تلاوة وبالتالي نطبق عليه أحكام التلاوة، وآداب التلاوة، فنقول: لابد من الترتيل ونحو ذلك. وإنما هذا استعراض يستعرضه في ذهنه يبحث عن شيءٍ معين، فتمر الآيات بسرعة في مخيلته، ولذلك لو أنه لم يحرك لسانه ولم يجرِ النفس لا تعتبر قراءة، ولا يؤجر عليها أجر القراءة، كما يفعل بعض الناس خطأً في الصلاة، فإنهم يطبقون شفاههم، ولا يحركون ألسنتهم، ولا يجري النفس بالقراءة ولا يُسمع نفسه، فهذه الحالة لا تعتبر قراءة، ولا يعتبر أنه قرأ الفاتحة، وهذا استعرض الفاتحة في ذهنه استعراضاً فقط. على آي حال: إذا حصل شيءٌ من أجل استعراض أو من أجل مراجعة حفظ معين لشيءٍ معين، فلا ينطبق عليه النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث.

من آداب التلاوة: البكاء عند تلاوة القرآن الكريم

من آداب التلاوة: البكاء عند تلاوة القرآن الكريم وكذلك من آداب التلاوة البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، لأن الله قال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109]؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه التفت إليه ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام، والبكاء عند قراءة القرآن لا شك أنه دليل الخشوع إذا كان بكاءً صادقاً. فإن البكاء على أنواع: 1 - منه ما يكون بكاء رحمة ورقة. 2 - ومنه ما يكون بكاء خوف وخشية. 3 - ومنه ما يكون بكاء محبة وشوق. 4 - ومنه ما يكون بكاء فرح وسرور. 5 - ومنه ما يكون بكاء حزن وجزع. فالبكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع وليس بكاء النفاق، وليس البكاء المستعار، أما التباكي فهو تكلف البكاء، وقد جاء في حديثٍ: (إن لم تبكوا فتباكوا) ولكن الحديث ضعفه الشيخ ناصر، وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز في بعض فتاويه أنه لا يعرف صحته، والحديث رواه أحمد وغيره، فالبكاء عرفنا دليله من الكتاب والسنة، وعرفنا أن البكاء عند قراءة القرآن يكون بكاء خشوع وليس بكاء نفاق، مثل التظاهر بالبكاء لأجل أن يقول الناس عنه: إنه خاشع، وإنما هو بكاء خشوع، لو سمعه الشخص ارتاح إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله) رواه ابن ماجة، وهو حديثٌ صحيح. أما بالنسبة للتباكي فإنه ينقسم إلى: تباكي محمود، وتباكي مذموم: - التباكي المحمود: هو الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله، وليس تباكي الرياء والسمعة، مثلما قال عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسرى بدرٍ: (أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما) ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك عبارة وردت في كلام بعض السلف: "ابكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا". - أما التباكي المذموم: هو الذي يجلب ويستجلب به حمد الخلق وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس، فهذا تباكي نفاق. كما أن هناك بكاء نفاق وهناك تباكي نفاق، ولابد من شيء من التفصيل في موضوع البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، أو عند سماعه. لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبكي عند تلاوة القرآن وليس يعني ذلك أنه كان يبكي دائماً، لكن كان يعرض له البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماعه، كما جاء في الحديث الصحيح، وقال الصحابي: (أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل) أي: يبكي؛ لأن الأزيز هو صوت البكاء، ولكنه يخرج من الجوف، فهو صوتٌ مكتوم، والمرجل: الإناء الذي يُغلى فيه الماء، فكيف يكون صوت الإناء الذي يغلى فيه الماء؟! فهكذا كان صوته عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ويقرأ القرآن، فيجيش جوفه عليه الصلاة والسلام ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى. والصحابة رضوان الله عليهم ثبت كذلك عنهم أنهم كانوا يبكون عند قراءة القرآن الكريم، وقصة أبي بكر معلومة في مرض وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: [إنه رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء]، وفي رواية: [إن أبا بكر رجلٌ أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس] وكذلك عندما كان في مكة يُصلي بفناء داره ويجتمع إليه نساء المشركين وأبناؤهم، وكان رجلاً بكاءً لا يملك دمعة رضي الله عنه. وعمر بن الخطاب سمع نشيجه من وراء الصفوف، لما قرأ قوله تعالى في سورة يوسف: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] حتى سالت دموعه على ترقوته، وكذلك فإنه بكى مرةً بدير راهب ناداه: [يا راهب! فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]] أناس يشتغلون ويعملون ويجدون ولكن لهم النار، لأن منهجهم ضلال وكفر، ومجتهدين في شرك أو في بدعة. وكذلك فإن عمر قد كتب إلى رجل سمع أنه يشرب الخمرَ فكتب إليه: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، فسلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، ولما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرأ ويردد، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى ونزع مما كان فيه من شرب الخمر. وعائشة رضي الله عنها مرَّ عليها القاسم وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] ترددها وتبكي وتدعو. وعبد الله بن عباس لما قرأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] جعل يرتل ويكثر النشيج. وهذا عبد الله بن عمر ما يقرأ قول الله: عز وجل A=6000290> وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] إلا كان يبكي، وكذلك قال نافع عنه في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]. المهم أن الصحابة بكى عدد منهم في عدد من المواقف. إذاً: البكاء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذلك عن التابعين، فكان عمر بن عبد العزيز، مرة يقرأ قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5] بكى. وكذلك: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14]، وكذلك في آية: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان:13]. الفضيل بن عياض وابنه علي وغيرهم من علماء السلف وزُهّادهم كانوا يبكون عند قراءة القرآن الكريم، وحتى النساء كما ذكرنا عائشة رضي الله عنها. لكن هل البكاء يصل إلى درجة الصياح والصراخ؟! A أبداً، ولذلك فإن مسألة الصياح والصعق الموجودة عند الصوفية، لا شك أنها من البدع. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة. أما الاضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوباً عليه لم يُلم عليه، مغلوب: أي: حدث غصباً عنه وهو لم يقصد ذلك ولم يتكلف؛ لم يُلم عليه، كما قد يكون في التابعين ومن بعدهم، فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب، والقوة، أي: يكون الوارد عليه في الآية فيها معانٍ عظيمة لم تتحملها نفسه، قلبه أضعف أن يتحملها، أو يمكن أن يموت أو يغشى عليه. والصحابة كان الوارد والمحل عندهم قوياً، ولذلك لم ينقل عنهم أن واحداً منهم مات أو صعق، وإنما التعليل لمن جاء بعدهم من الصالحين الذي كان يغشى على الواحد منهم أو يموت، سببه أن الوارد أقوى من المحل، فيرد وارد قوي على محل فيه ضعف أو أضعف من الوارد، فيحدث ما يحدث من الصعق أو الموت. وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله بعلمه عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء؟ فأجاب: لقد نصحت كثيراً من اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي؛ لأن هذا يؤذي الناس ويشق عليهم، ويشوش على المصلين وعلى القارئ. وبالفعل في بعض المساجد في رمضان يكون الوضع مزعجاً جداً، حيث أن بعض الناس لا يستطيع أن يفهم قراءة القرآن من الإمام، ولا يسمع صوته من زعيق وصياح بعض الناس، وهذا ليس من الخشوع في شيء، وليس من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بكاءً مكتوماً ما كان صياحاً وزعيقاً. قال: فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على ألا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له ألا يشوش على المصلين بصوته، ومعلومٌ أن بعض الناس ليس ذلك باختياره؛ بل يغلب عليه من غير قصد، وهذا معفوٌ عنه إذا كان بغير اختياره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ يكون لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه كان إذا قرأ لا يُسْمِع الناس من البكاء إلى آخره، ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عز وجل. وكذلك سُئل الشيخ عن التباكي؟ فأجاب: ورد في بعض الأحاديث: (إن لم تبكوا فتباكوا) ولكن لا أعلم صحته، وقد رواه أحمد إلا إنه مشهورٌ على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية، والأظهر أنه لا يتكلف، بل إذا حصل بكاءُ فليجاهد نفسه على ألا يزعج الناس، بل يكون بكاءً خفيفاً ليس فيه إزعاجٌ لأحد حسب الطاقة والإمكان، هذا ما يتعلق بموضوع البكاء.

من آداب التلاوة: التلاوة بين الجهر والإسرار

من آداب التلاوة: التلاوة بين الجهر والإسرار ومن آداب التلاوة: التلاوة بين الجهر والإسرار، أما قضية الجهر بالقرآن فقد ورد فيه أحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ومن الجهة الأخرى ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة). فكيف نجمع إذاً بين مدح الجهر الوارد في حديث الصحيحين، وبين مدح الإسرار الوارد في حديث الترمذي وأبي داود والنسائي؟ قال النووي رحمه الله: الجمع بينهما أن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى المصلون؛ كالداخلين إلى المسجد ليصلوا تحية المسجد أو السنة الراتبة ورجل يقرأ القرآن، فإذا جهر هذا الذي يقرأ لبَّس على المصلين بجهره، فيكون الإسرار أفضل. إذاً: حيث خاف الرياء يُسر، أو تأذى غيره بجهره فيسر، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ففيه رفع للصوت، وبذل للطاقة والجهد، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويصرف سمعه إليه، أي: القارئ ذاته يستفيد ويركز أكثر، وإذا رفع صوته يكون أجمع لقلبه على القراءة، وأبعد للشيطان، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. أما إذا وصل إلى درجة الإزعاج والتشويش، فإنه ينطبق عليه ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كلكم مناجٍ لربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة)، وقد يجهر الإنسان فترة ثم يتعب فيخفض صوته ثم يجهر مرةً أخرى إذا تنشط فهذا لا حرج فيه. كما إذا واصل القراءة لساعة أو ساعتين، فقد يجهر ثم يتعب فيخفض صوته، ثم يجهر فهذا لا بأس به أيضاً، وكان أبو بكر يُسر وعمر يجهر، فسئل عمر فقال: (أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان) أي: النعسان، فأمر أبو بكر أن يرفع شيئاً ما، وأمر عمر أن يُخفض شيء ما، فإذا خشي الرياء أسر ولا شك، وإذا كان يعلم أو يريد أن يقتدي به الآخرون -مثلاً - فلا شك أنه إذا جهر ودعا الناس للعمل، أي: بالقدوة إلى القراءة، فإن هذا المقصد الشرعي منه يؤجر عليه.

من آداب التلاوة: القراءة من المصحف إذا لم يشغل عن التدبر

من آداب التلاوة: القراءة من المصحف إذا لم يشغل عن التدبر ومن بعض الآداب التي ذكرها بعض أهل العلم أيضاً مسألة القراءة في المصحف أو القراءة من الحفظ أيهما أفضل للتالي: أن يقرأ من المصحف أو يقرأ من حفظه؟ جاء مدح القراءة من المصحف في حديثٍ صحيحٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (من سرَّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) وصححه الشيخ ناصر، وهذا يدل على فضل القراءة في المصحف. وقال بعضهم في الترجيح: هل القراءة من المصحف أفضل أو على ظهر قلب؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القراءة من المصحف أفضل؛ لأن النظر فيه عبادة، فيجتمع القراءة والنظر، وأن استعمال الحاسة -حاسة العين- زيادة على اللسان وإخراج الصوت هذا الاستعمال لهذه الحاسة فيه أجر زائد عن عدم استخدام هذه الحاسة. ولا شك أنه قد ثبت عن بعض الصحابة كـ عثمان رضي الله عنه أنه كان يقرأ في المصحف، حتى قيل: إنه خرق مصحفين، أي: من كثرة استعماله للمصحف تخرق المصحف، وأخذ مصحفاً أخر وهكذا، وقتل رضي الله عنه ودمه على المصحف. القول الثاني: أن القراءة عن ظهر قلب أفضل، وهو اختيار أبو محمد العز بن عبد السلام رحمه الله، فقال في أماليه: قيل: القراءة في المصحف أفضل، لأنه يجمع فعل الجارحتين، وهي: اللسان والعين، والأجر على قدر المشقة، وهذا باطل -هذا رأيه رحمه الله- لأن المقصود من القراءة التدبر؛ لقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] والعادةُ تشهد أن النظر في المصحف يُخل بهذا المفهوم فكان مرجوحاً. أي: هو يرى رحمه الله أن القراءة في المصحف يُخالف التدبر؛ لأنه يتدبر أكثر إذا كان يقرأ من حفظه، أي: يركز أكثر. القول الثالث: وهو اختيار النووي رحمه الله: إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من القراءة في المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل، قال: وهو مراد السلف. ولا شك أن من فوائد القراءة في المصحف: 1 - اشغال جارحة العين عن النظر إلى غير المصحف، لأنه ربما إذا لم ينظر في المصحف نظر إلى غير المصحف. 2 - وكذلك قالوا: إن لمس المصحف فيه داعي إلى الوضوء بخلاف إذا قرأ من حفظه فإنه لا يحتاج أصلاً إلى المصحف حتى يمسه. 3 - وكذلك قالوا: إنه أأمن من الغلط والتحريف؛ لأنه إذا قرأ من حفظه فيمكن أن يغلط فيه كآيه حفظها خطأً، ولكن إذا قرأ من المصحف بالتأكيد تكون القراءة مضبوطة، لأنه يقرأ من شيءٍ مكتوب، بخلاف الذاكرة التي يعتريها ما يعتريها. 4 - وقالوا: إن فيه تكفير للنظر المحرم التي ارتكبته العين. وعلى أية حال، فالمسألة قد تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فإذا كان يتدبر أكثر، فلو قرأ من حفظه فليقرأ من حفظه، وإذا كان يخشى الله أكثر لو قرأ من المصحف يقرأ من المصحف، وإذا كان في مكان ليس فيه مصحف فيقرأ من حفظه، وإذا كان في مسجدٍ وعنده مصحف قرأ من المصحف. إذاً: فالمسألة في هذا واسعة إن شاء الله، وهذا طرف من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.

من آداب التلاوة: التوقف عن التلاوة إذا خرج منه ريح

من آداب التلاوة: التوقف عن التلاوة إذا خرج منه ريح من آداب التلاوة أيضاً: أنه إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح أمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح، ثم الأفضل له أن يتوضأ لمواصلة القراءة، وإن كان لا يمسك المصحف فقرأ وواصل القراءة بغير وضوء فلا بأس، لكن الأفضل أن يكون على طهارة. وكذلك لو عرض له تثاؤب: فإنه يُمسك عن القراءة؛ لأجل التثاؤب، حتى لا يتغير الصوت وتخرج كلمات غير كلمات القرآن.

من آداب التلاوة: السجود في موضع التلاوة

من آداب التلاوة: السجود في موضع التلاوة كذلك من آداب التلاوة: أنه إذا مرَّ بسجدة للتلاوة سجد، وقال أبو حنيفة بالوجوب، وأن الكفار يندمون على عدم السجود، وأنه لا يُندم إلا على ترك واجب، وقول الجمهور هو القول الراجح إن شاء الله، وهو قول عمر رضي الله عنه أن سجود التلاوة مستحبٌ وليس بواجب. ولذلك ذكر على المنبر أنه من أراد أن يسجد فليسجد، ومن أراد ألا يسجد فلا يسجد، وأنه ليس عليه حرجٌ من ذلك، لكن ماذا يفعل إذا أراد أن يسجد؟ يكبر ويسجد، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الأفضل أن يكون في حال القيام، لأن قول الله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء:107] الخرور يكون من القيام، وإذا سجد ماذا يقول في سجوده؟ يقول: سبحان ربي الأعلى كما يقول في الصلاة، قياساً على الصلاة، وورد أيضاً دعاء صحيح ثابت في الترمذي وابن خزيمة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني رأيت الليلة أصلي خلف شجرة، فقرأتُ السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدةً بعد ذلك ثم سجد، فقال: ابن عباس: فسمعته يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. فإذاً لو قال في سجوده: (اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وارفعني بها درجة -كما جاء في الرواية الآخرى- وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام) كان ذلك حسناً. هل يشترط الطهارة لسجود التلاوة؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، فالذين قالوا: إنها تُقاس على الصلاة، اشترطوا الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، والمرأة طبعاً تتحجب، والذين قالوا: إنه لا يُقاس عليه لم يشترطوا ذلك، فالأحوط أن الإنسان يكون على طهارة، ويستقبل القبلة، ويكون ساتر العورة ونحو ذلك من الشروط، ويسجد. هل إذا رفع يكبر أم لا؟ إذا كان في الصلاة يُكبر، لأن الحديث: (كان يُكبر عند كل خفضٍ ورفع) فعموم الحديث يقتضي أنه إذا سجد في الصلاة -سجود التلاوة- يكبر عند السجود، ويكبر عند الرفع من سجدة التلاوة. وفي خارج الصلاة، هل يكبر عندما يرفع من سجود التلاوة أو لا يكبر؟ وهل يتشهد ويسلم أم لا يتشهد ولا يسلم؟ والعلماء قد أحصوا السجدات.

من آداب التلاوة: استقبال القبلة

من آداب التلاوة: استقبال القبلة ثم من آداب التلاوة ذكر بعض أهل العلم استقبال القبلة، واستدلوا بحديث: (خير المجالس ما استقبل به القبلة) لكن هذا الحديث ضعيف، إنما إذا استقبل القبلة يكون أحسن. وبالنسبة للدليل أو أقوال السلف في مسألة خروج الريح، فإن ابن عيينة روى عن زر قال: قلتُ لـ عطاء: أقرأ القرآن فيخرج مني ريح، قال: تمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح.

من آداب التلاوة: التزام هيئة الأدب والتذلل

من آداب التلاوة: التزام هيئة الأدب والتذلل ومن آداب التلاوة أيضاً: أنه ينبغي عليه أن يكون في حال القراءة على هيئة الأدب ما أمكنه، نعم! يجوز له أن يقرأ القرآن قاعداً وقائماً وماشياً ومضطجعاً كل ذلك جائز، لأن الله قال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191] لكن لو جلس متخشعاً أحسن من أن يجلس مثلاً على جنبه متكئاً، فمن ناحية الجواز لا بأس أن يقرأ القرآن متكئاً، لكن من ناحية الأفضل إذا جلس جلسة المتخشع فإنه أفضل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتربع بعد صلاة الفجر، ويستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تطلع الشمس.

من آداب التلاوة: عدم إطالة العهد بالختمة

من آداب التلاوة: عدم إطالة العهد بالختمة ومن آداب التلاوة كذلك ألا يُطيل العهد بالقرآن سنوات لا يختم مثلاً، وإنما لا يُنقص عن ثلاثة، أي: لا يقرأ في أقل من ثلاث، لكن لا يطول به العهد، وقد جاءت عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لشخص: (اقرأ القرآن في أربعين)، وقال: (اقرأ القرآن في خمس)، وقال: (اقرأ القرآن في ثلاث إن استطعت)، وقال: (اقرأ القرآن في كل شهرٍ، اقرأه في عشرين ليلة، اقرأه في عشرٍ، اقرأه في سبعٍ ولا تزد عن ذلك) هذه الروايات المختلفة تدل على أن الناس طاقات أشغالهم مختلفة، وجودة وسرعة تلاوتهم وتمكنهم يختلف. إذاً كل واحد يقرأ بحسب طاقته وأشغاله، ولعل أفضل ما يكون قراءته في أسبوع، كما ورد عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنهم كانوا يختمونه في الأسبوع يقسمون القرآن سبعة أحزاب. فجاء أنهم كانوا يقرءون أول يوم ثلاث سور، واليوم الثاني خمس سور، واليوم الثالث سبع سور، واليوم الرابع تسع، واليوم الخامس إحدى عشرة، واليوم السادس ثلاثة عشر سورة، واليوم السابع المفصل إلى آخر القرآن. هذا ما ورد عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.

من آداب التلاوة: الوقوف عند رءوس الآيات

من آداب التلاوة: الوقوف عند رءوس الآيات من آداب التلاوة أيضاً: الوقوف عند رءوس الآيات وإن تعلقت في المعنى بما بعدها؛ لأنه قد ورد في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقطع قراءته آيةً آية) يقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ثم يقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ثم يقف. إذاً: لو قرأ مثلاً قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] لا يجب أن يصل، بل إن السنة أن يقف على رأس الآية وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، لكن لا يقطع التلاوة، لا يقل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ثم يركع، وإنما لابد أن يتم الآية التي بعدها، لأن المعنى متعلق بها، إنما من جهة السنة في التلاوة أن يقف عند رءوس الآية.

من آداب التلاوة: التدبر

من آداب التلاوة: التدبر كذلك من آداب التلاوة: أن يتدبر القرآن عند تلاوته، وهذا يكاد يكون أهم آداب التلاوة على الإطلاق، والتدبر هو الثمرة الحقيقية لتلاوة القرآن الكريم، وهذا الموضوع يتضمن عدة أشياء: 1 - أنه يُفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وعلوه وفضله ولطفه بخلقه، عندما أنزل علينا هذا الكتاب، وجعله لنا مفهوماً، فإن القرآن عظيم، لأنه كلام الله، والله عز وجل عظيم، ومع ذلك فقد جعل كلامه مفهوماً لنا نحن البشر، وإلا هو فوق طاقتنا، ولكن جعل كلامه عز وجل مفهوماً: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:40] ولولا أنه جعله مُيسراً ما استطعنا تلاوته ولا حفظه ولا فهمه؛ لأنه فوق عقولنا، لكن الله سبحانه وتعالى سهَّله وقرَّبه لنا، وجعله بلغة العرب وهي أكمل لغات العالم. 2 - وكذلك فإن من التدبر أن يُحضر الإنسان في قلبه عظمة المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى وكان بعض السلف وهو عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: [كلام ربي كلام ربي] فتعظيم الكلام تعظيمٌ للمتكلم، وهو الله سبحانه وتعالى الذي تكلم بالقرآن حقيقةً، وينبغي لتالي القرآن أن يستشعر عند قراءته أنه يقرأ كلام الخالق القادر الرازق الذي جميع الكون في قبضته، وتحت مشيئته وهيمنته، وأن الخلق مترددون بين فضله ورحمته ونقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وهو الذي يقول: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي. 3 - وكذلك مِنْ تدبر القرآن: أن يحضر قلبه ويترك حديث النفس، قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: بجدٍ واجتهاد، وأخذه بالجد أن يكون متجرداً عند قراءته، منصرف الهمة إلى القرآن فقط، مفرغاً لذهنه وقلبه من أي شواغل أخرى غير القرآن، وقيل لبعض السلف: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيءٌ أحب إليّ من القرآن حتى أحدث به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آيةً لم يكن قلبه فيها -أي: سها- أثناء القراءة أعادها ثانيةً، وهذه الصفة هي صفة حضور القلب، وتتولد من استشعار عظمة المتكلم، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يركز ذهنه فيه، ويفرغ قلبه له، كيف لو جاءته رسالة من ملكٍ عظيم أو رئيسٍ كبير لوجدت قلبه منشغلاً بفحو الرسالة والكلام ويُعيد القراءة ويركز فيها، لأن الرسالة من عظيم، لو جاءته رسالة من الملك، لركزَّ فيها وأعاد النظر، وقرأها عدة مرات، واهتم لها أشد الاهتمام، فكيف وهذه الرسالة من ملك الملوك!! ولا خير في تلاوةٍ لا تدبر فيها، كما ورد عن بعض السلف، فليتدبر ولكن لو كان يتابع الإمام في القراءة فإنه يتدبر في الآيات التي يقرأها الإمام وإن تعدى الإمام لآياتٍ أخرى تبعه بالتدبر ولا يبقى في تدبر آيةٍ سابقة، والإمام يواصل القراءة في آيةٍ جديدة، لكنه إذا قرأ لنفسه تدبر، وإذا وجد مجالاً للتدبر في آية لم يجاوزها إلى غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآيةٍ واحدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] هذه الآية جاءت في حديث أبي ذر (أن النبي صلى الله عليه وسلم: قام فينا ليلة بآيةٍ يرددها) أخرجه النسائي وابن ماجة، وقال العراقي سنده صحيح. وقام تميم الداري ليلةً بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقام سعيد بن جبير ليلةً يردد هذه الآية: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]. وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. أي: بعض ما أجد فيها يشغلني عن إتمامها والفراغ منها حتى يطلع الفجر. 4 - ويدخل في التدبر كذلك أن ينظر في أفعال الله عز وجل من خلق السماوات والأرض، وخلق العرش، وأن كل شيء ٍهالكٌ إلا وجهه، وإذا قرأ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] فإنه لا شك يتأمل في ذلك، وبالذات التي فيها {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] أي: الآيات التي فيها دعوة للتأمل والتدبر فلابد أن يكون فيها مزيد من الاعتناء بهذا الموضوع، وكذلك ذكر العجائب التي خلقها الله سبحانه وتعالى، ومبثوثة في آياته، وأحوال الأنبياء، كيف كذبوا وكيف ضربوا وقُتِلَ بعضهم، فيفهم صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرُسل، وأنه لو شاء لأهلك من في الأرض جميعاً، وأهلك المسيح بن مريم وأمه، ولكنه سبحانه وتعالى أرسلهم ونصرهم وهو الغني عن الرسل لكن أرسلهم ونصرهم سبحانه وتعالى. وإذا مرَّ بذكر المكذبين كعادٍ وثمود وما جرى عليهم، وكيف أهلك الله قوم شعيب بعذاب يوم الظلة الذي جاء من فوقهم مثل السحاب، ثم قصفهم بصواعق أحرقتهم. 5 - وكذلك يتأمل ما في هذا القرآن من الختم والطبع على قلوب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويدعو الله ألا يكون منهم؛ لأن الذين طبع الله على قلوبهم غير موفقين ولا مؤهلين لتدبر القرآن، ويندرج تحت التدبر التخلي عن موانع الفهم التي تمنع الفهم، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن بأسباب، وحجب من الشيطان؛ فعميت عليهم عجائب القرآن فصاروا لا يفهمون ولا يفقهون منه شيئاً، كأنه بالنسبة لهم طلاسم. ومن الموانع التي تمنع وتحجب الفهم: أ- أن يكون التأمل مقصوراً على إخراج الحروف من مخارجها دون التدبر في المعاني، فيكون كل همه في تجويد الحرف، نعم هذا يكون -أحياناً- عندما يجلس إلى شيخٍ يقرأ عليه، لكن لا يكون همه دائماً في إقامة الحروف وينسى المعنى. ب- ومن الأشياء أيضاً التي تمنع الفهم: التعصب، فإن بعض الناس يقولون: لسنا بأهل للتدبر في القرآن، ذلك للأئمة وكبار العلماء، أما نحن فنقرأ فقط ولا يجوز لنا أن نفهم أو أن نُعمل فكرنا فيه. جـ- من موانع الفهم للقرآن: الذنوب والإصرار عليها، فإن الإنسان لو كان متصفاً بكبرٍ، أو مبتلىً بهوى، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدأه، والمرآة صدأها يمنع الصورة الجلية، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، فكلما كانت المرآة نظيفة كانت المعاني التي تظهر في الصور أوضح. ولذلك فإن الله قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] فإذا لم يكن منيباً لم يكن القرآن له تبصرةً ولا ذكراً. وقال الله عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] فالذين لا ينيبون وليسوا في مقام الإنابة لا يفهمون القرآن. 6 - ومن شروط التدبر: أن يقرأ تفسيراً للقرآن، كيف يتدبر وهو لا يعرف المعنى من كلام أهل العلم؟ هل يريد أن يفهمه لوحده؟ هل هو سليم السليقة؟ هل عايش التنزيل؟ كلا. هل هو عالم؟ كثيرٌ من الناس ليس عندهم هذه الشروط مطلقاً. إذاً: كيف يتدبر وهو لا يعرف ما قاله أهل العلم في الآية هل يتدبر من تلقاء نفسه؟ كما حصل لبعضهم عندما مرّ بآية {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] قال: فهمت الصراصير الليل، والصِر: هو البرد. قد يفهم الإنسان أشياء كثيرة خطأ؛ بسبب جهله باللغة، وبأسباب النزول ونحو ذلك. إذاً لا يمكن أن يأتي التدبر إلا بعد قراءة التفسير، كقراءة ما جاء عن مجاهد عن ابن عباس، فإن مجاهد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها. 7 - ومما يندرج تحت التدبر أيضاً: التخصيص: أي: أن يظن ويعتقد أنه مقصود بالخطاب، وأنه خاصٌ به موجهٌ إليه، ليس إلى غيره. فإذا سمع قصص الأولين والأنبياء علم أنه ليس المقصود هو التسلي بالأحداث والسمر بها، أو الأخذ بروعة القصة وأحداثها دون أن يكون معنياً بما فيها من العبر، وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد، يظن نفسه مقصوداً، إذا سمع قصص الأنبياء عرف أن المقصود منها هو تثبيت الفؤاد، لأن الله قال: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فيتأمل في أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء، وثباتهم في الدين، وكيف نصرهم الله سبحانه وتعالى. هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل الله عز وجل، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها، وننفذها، وكان مالك بن دينار يقول: "ما زرع القرآن في قلوبكم يأهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض". وقال قتادة: [لم يجالس أحدٌ هذا القرآن إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان]، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]. 8 - ومن التدبر: أنه إذا مرَّ بآية الرحمة سأل، وإذا مر بآية الوعيد استعاذ، فإذا مرَّ بقول الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه:82] أرعى سمعه لها، لأن ما سيأتي بعدها شروط: {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وإذا قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، وإذا سمعت إلا وتفطن لهؤلاء الذين ينجون من الخسار؟ {إِلَّا الَّذِينَ آمَن

من آداب التلاوة: السعي إلى الحفظ والتكرار

من آداب التلاوة: السعي إلى الحفظ والتكرار ومن آداب التلاوة: أن يسعى الإنسان إلى حفظه وتكراره، لأنه أعون له على التدبر؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع القرآن في إهاب لم يحرقه الله في النار) إهاب: أي: جلد الحافظ، والمقصود جسد الحافظ يكون من أسباب تحريمه على النار.

من آداب التلاوة: التلقي عن أهل العلم

من آداب التلاوة: التلقي عن أهل العلم ومن آدابه كذلك: أن يتلقاه عن أهل العلم المجيدين فيه، المجودين له، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عن أشخاصٍ معينين، فلماذا قال في الحديث الصحيح: (خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة)؟ إذاً لا يؤخذ القرآن إلا عن المجيدين المجودين. وكان هناك في الصحابة من حفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث أنس في الصحيحين قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد وأبو زيد، فقلت: ومن أبو زيد؟ فقال: أحد عمومتي) وجاء في الحديث: (استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب) رواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما. ولنعلم أن المسألة ليست بالحفظ فقط، فالذين حفظوا القرآن من الصحابة معروفة أسماؤهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، لأنهم كانوا لا يتجاوزون الآيات إلا بعد العمل بها، يعملون ثم يأخذون أخرى وهكذا. كم سنة مكث ابن عمر في تعلم البقرة؟ ثمان سنوات يتعلم سورة البقرة، لأنهم كانوا يسعون إلى الاستفادة. وأما موضوع تلحين القرآن والتطريب التابع لقضية تحسين الصوت، فلابد لنا من وقفة عند هذه المسألة: جاء في الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى: (لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ، ولقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال p=1000023> أبو موسى: لو أعلم أنك تسمع لحبرته لكَ تحبيراً) فمزامير آل داود؛ آل داود: هو داود نفسه، فإن العرب يقولون: آل فلان. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، والمقصود بـ أبي أوفى نفسه الذي جاء بالصدقة. مزامير آل داود، أي: أن الله أعطى داود صوتاً حسناً، لأن المزمار يطلق في اللغة على الآلة، ويطلق على الصوت الحسن، فمزامير آل داود، أي: صوت داود الحسن، أوتي أبو موسى نصيباً وجزءً من جمال صوت داود عليه السلام؛ لأن داود كان إذا قرأ الزبور: أوبت الجبال معه، والطير تقف في السماء تردد معه، من جمال صوته وحسن تلاوته، فليس المقصود المزامير هذه الآلات الموسيقية أو ما شابه ذلك معاذ الله!! س: ما معنى قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم)؟ ج: قيل: معناه تحسين الصوت. س: ما معنى: (من لم يتغنَ بالقرآن فليس منا)؟ ج: أي: من لم يتحزن به ويتخشع ويتباكى به ويرفع صوته فليس منا. وقيل: يتغنى، أي: يستغني به عن غيره، أما قضية ما يحس به بعض الناس أو يظنه (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن التغني من الغناء الذي هو الإفراط في التمطيط، والعبث بالمدود، فهذا ليس هو المقصود الشرعي بحال. ولذلك فإن القدر من جمال الصوت الذي يكون الإنسان به قارئاً قراءةً مؤثرة مطلوب، وإذا زاد ووصل إلى متابعة ألحان أهل الفسق والأغاني كما يفعل الآن كثير من قراء الإذاعات على هذه النوطة الموسيقية، يقرءون القرآن على ألحان موسيقية، عندهم قواعد وألحان معروفة في الموسيقى، في الطلعات والنزلات يمشون عليها، فهؤلاء إذا استمعت إليهم فلا تشعر بأية خشوع، وإنما تكون مأخوذاً بجمال الصوت، أو أن تكون متقززاً من شدة التكلف. وبعضهم كان يحضر في حفلة أم كلثوم في الصف الأول وعليهم العمائم من أجل أن يلتقطوا اللحن؛ لكي يقرءوا به في الإذاعة، هذا شُغل معروف عند هؤلاء القراء. ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء ذماً عظيماً؛ بل أخبر أنه سيأتي في آخر الزمان قوم يقرءونه بهذه الصفات بغايةٍ من السوء، ذمهم وأخبر أنه يأتي أحدهم يُقدم، كما جاء في الحديث الصحيح: (أخاف عليكم ستةً: إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم- الأخذ والرشوة- وقطيعة الرحم، ونشئاً يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشرط) والشرطة أعوان السلطان. فإن قوله: (نشئاً يتخذون القرآن مزامير) المقصود بهؤلاء الذين يتكلفون ويتابعون الألحان، ويجعلون القرآن مثل الأغاني، هؤلاء الأشخاص توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بوعيدٍ عظيم، وأخبر أنه ربما يأتي بعضهم ويقدم في جمع القوم لا لأنه أفقههم، ولا لأنه أعلمهم، وإنما لأجل أن يغني لهم. إذاً: الغناء والتطريب والعبث بالمدود والزيادة في الحركات، أو التأوهات، لا شك أنه أمرٌ مذموم، وصاحبه آثم، ولما سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن القراءة بالألحان؟ قال: هي بدعة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر في أشراط الساعة (أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرأهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناءه) مثل: الغناء. فيجب أن نفرق بين تحسين القراءة وتجميل الصوت، والخشوع والحزن، وبين أن الإنسان يشابه في قراءته أهل الفسق والأغاني، ويمطط ويتأوه، هذا مذموم ومحرم. أما الترجيع الذي ورد في حديث عبد الله بن المغفل قال: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح، فقرأ ابن المغفل ورجّع في قراءته)، وفي لفظٍ قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيرٍ له سورة الفتح على راحلته، فرجَّع في قراءته). قال معاوية بن قرة: [لولا أني أخاف أن تجتمع عليّ الناس لحكيتُ لكم قراءته] رواه مسلم وفي بعض الألفاظ قال: (آآآ) -ثلاث همزات وألفات متوالية- فهذا الذي حصل، قيل: إنه كان بسبب الراحلة، لأنها إذا مشت تغير صوت القارئ عليها بحسب ما تمشي عليه من الأرض غير الممهدة. ما حكم أن يقصد الترجيع؟ قالوا: إذا قصده بدون أن يخرج بالقرآن إلى مستوى أو إلى هذه الأغاني أو أن يزيد بالمدود، ويمطط، ويجعل الفتحة ألفاً، والضمة واواً، والكسرة ياء، والياء ياءات، والألف ألفات، فهذا هو التمطيط المذموم المحرم. أما إذا لم يخرج بالترجيع عن ذلك فلا بأس به -أي: اختلاف وتيرة الصوت أثناء القراءة- إذا لم يقصد بها ألحان الأغاني وزاد في الحروف والحركات ولم يخرجها عن حقيقتها، ومطط فلا بأس أن يتغير وتيرة الصوت، لم يقصد هذه الأشياء أو موافقة ألحان الأغاني.

من آداب التلاوة: التجويد

من آداب التلاوة: التجويد ومن آداب التلاوة: التجويد: وقد عرَّفه العلماء بأنه: إقامة الحروف، ومعرفة الوقوف. والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصفت قراءته جاء في الحديث عن أم سلمة أنها تنعت قراءته مفسرةً حرفاً حرفاً، فالقراءة ليست فيها أكل للحروف، ولا تغيير حرف بحرف، فتصبح الضاد دال إذا رققتها، أو تصبح السين صاد إذا فخمتها، أو تصبح التاء طاء إذا فخمتها، أو الطاء تاء إذا رققتها، فإذا صار الإنسان يغير صفات الحروف تغيرت الكلمة بالكلية، كلمة فيها طاء، لو تغيرت إلى تاء، اختلفت سين وصارت صاد اختلفت الكلمة. ولذلك لابد من معرفة صفات الحروف والإتيان بها، والتمرين على يد متقن، حتى يقرأ القرآن ويصل إلى قراءة القرآن كما أنزل، والغاية من علم التجويد هي: إتقان قراءة القرآن بالنطق بحروفه، وهذه القراءة سنة متبعة، يأخذها الآخر عن الأول، ولذلك تجد القراء لهم أسانيد يأخذ عن شيخه عن شيخ شيخه إلخ إلى أن يصل إلى صاحب القراءة إلى زر بن حبيش أو عبد الله بن مسعود أو نافع المدني، أو نحو ذلك من أصحاب القراءات السبع مثلاً. وفرقٌ بين التجويد الذي فيه إخراج الحروف بالطريقة الصحيحة ومعرفة الوقوف الإتيان بالإدغام والإظهار والإقلاب والإخفاء والهمس والروم والإشمام ونحو ذلك مما فيه تبيين المعنى، وليس المقصود أن يأتي بقراءةٍ فيها تنفير إذا استمع إليه الشخص وجد التكلف بعينه، كما قال السخاوي في نونيته: لا تحسب التجويد مداً مفرطاً أو مد ما لا مد فيه لوان أو أن تشدد بعد مدٍ همزةً أو أن تلوك الحرف كالسكرانِ أو أن تفوه بكلمةٍ متهوعاً فيفر سامعها من الغثيانِ للحرف ميزانٌ فلا تكُ طاغياً فيه ولا تك مخسر الميزان إذاً: فالذين يتكلفون ويتشددون إذا نظرت إلى أحدهم عندما يتكلم وكيف يفتح فمه: إلخ، ثم يغلقه لرأيت الحركات العجيبة، وهذا ليس من الإتقان والتجويد وإنما هو تكلف وغلو، وقد نهينا عن الغلو. والتجويد ينبغي الاعتناء به، حتى يكون القرآن جميلاً، أو حتى يخرج إلى القرآن منه جميلاً في أدائه إياه، وينبغي أن ينتبه بالذات من قضية اللحن الجلي الذي يغير المعنى، مثل: تغير الحركات، أو تغير الحروف، لو قال: (صراط الذين أنعمتُ عليهم)، بدلاً من {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] صار المنعم هو المتكلم، بينما المنعم هو الله.

من آداب التلاوة: عدم قطع الآية

من آداب التلاوة: عدم قطع الآية وكذلك من آداب التلاوة: ألا يقطع القارئ الآية لكلام الناس، بل إذا أراد أن يكلم أحداً يُنهي الآية أو ينهي السورة ثم يتكلم. نعم، قد يحتاج إلى كلامٍ للحاجة، فعلى الأقل ينهي الآية، فلا يرد على أحد أو يتكلم وهو في وسط الآية، بل ينتظر حتى يكمل الآية، فإذا تكلم بكلام الدنيا رجع فاستعاذ وشرع في القراءة مرةً أخرى. قال الحليمي: "لأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره" وأيده البيهقي بما في الصحيح: [كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه] وكذلك لا يضحك أثناء قراءته ولا يعبث ولا ينظر إلى ما يُلهي. وكذلك مما ينبغي أن يُعلم: أن قراءة القرآن بالأعجمية لا تجوز، وليس بقرآنٍ أصلاً، وإنما هو ترجمة ولا يوجد شيء اسمه ترجمة للقرآن؛ فالقرآن لا يمكن ترجمته أبداً إلى أي لغة غير اللغة العربية، من حدثك أن هذا ترجم للقرآن فكذبه ولا تصدقه، لأنه لا يوجد شيء اسمه ترجمة للقرآن، أما ترجمة معاني القرآن فتترجم المعاني، لكن لا يستطيع أحد أن يترجم ذات القرآن، ولا يستطيع أن يترجم ذات الآيات والسور، وإنما يترجم معانيها، (يترجم التفسير) كأنه فسره بالعربي ثم نقله إلى لغةٍ أخرى، نقل المعنى أما الآيات فلا يمكن نقلها أصلاً إلى لغة أخرى مطلقاً، لا يوجد في لغة تستوعب معاني القرآن كاللغة العربية، فلا يمكن أن يأتي أبداً القرآن بلغةٍ أخرى، فإذاً الترجمة للمعاني وليست لذات القرآن.

من آداب التلاوة: عدم القراءة بالقراءات الشاذة

من آداب التلاوة: عدم القراءة بالقراءات الشاذة ومن آداب التلاوة: ألا يقرأ الإنسان بالقراءات الشاذة، فإن هناك قراءات شاذة فيها زيادة أو نقصان، وشروط القراءة الصحيحة معروفة: أولاً: أن تكون نقلت بطريق التواتر. ثانياً: أن تكون موافقة لرسم المصحف العثماني. ثالثاً: أن تكون مطابقة لوجهٍ من وجوه اللغة الصحيحة. إذاً: القراءات الشاذة لا يُقرأ بها، إنما يقرأ إلا بالقراءة الصحيحة الثابتة. ونأتي الآن إلى مسألة: ذكرنا نحن الحفظ وتعاهد الحفظ؛ لأنه من الأمور المهمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استذكروا القرآن فهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من النعم في عقلها) الإبل إذا ربطت فإنها دائماً تحاول الشرود والهروب والتمرد، ولذلك ينبغي تعاهد القرآن؛ لأنه أشد هرباً من صدور الحفاظ من الإبل.

من آداب التلاوة: عدم الجدال في القرآن بالباطل

من آداب التلاوة: عدم الجدال في القرآن بالباطل من آداب التلاوة: عدم الجدال في القرآن بالباطل، ولذلك قال: (اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا) لأن البقاء يؤدي إلى التنازع والعبث بآيات الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (أما إنه لم تهلك الأمم قبلكم حتى وقع في مثل هذا، يضربون القرآن بعضه ببعض). كما جاء رجل من الخوارج إلى ابن عباس، قال: مرة يقول: لا ينطقون، ومرة يقول: لم يتكلمون كيف؟ فبين له ابن عباس أن يوم القيامة طويل، وهو خمسون ألف سنة في مراحل، مرحلة يتكلمون ومرحلة يُختم على أفواههم فلا ينطقون، فلا يوجد تعارض في القرآن. ما هي مشكلة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب؟ كان يتتبع المشتبهات في القرآن، والأشياء التي ظاهرها في ذهنه هو التعارض ويثير الشبهات، فضربه عمر بعراجين النخل حتى سالت دماؤه على جسده، وقال: كفى يا أمير المؤمنين ذهب الذي في رأسي. لا مكان للبدع في عهد عمر ولم تظهر بدعة في عهد عمر؛ لأنه كان شديداً على أهل البدع، وقد نفاه وأمر الناس بعدم التكلم معه حتى صار في حالٍ مزرية جداً، حتى كتب الوالي استرحاماً لـ عمر بشأن هذا الرجل، لأنه تاب ولم يعد يتكلم بشيء ولا أثر شبهة، والناس نبذوه وحالته النفسية سيئة جداً. وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الجدال بالباطل، فقال في الحديث الصحيح: (الجدال في القرآن كفرٌ)، وقال: (المراء في القرآن كفرٌ)، ونهى عن الجدال في القرآن، وقال: (لا تجادلوا في القرآن فإن الجدال فيه كفرٌ) فلا ينبغي أن تُجعل آيات الله قضية للجدل. وليحذر قارئ القرآن من هجره، والهجر أنواع كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنواع الهجر: أولاً: هجر سماعه. ثانياً: هجر العمل به. ثالثاً: هجر تحكيمه والتحاكم إليه. رابعاً: هجر تدبره وتفهمه. خامساً: هجر الاستشفاء والتداوي به. فهذه أنواع الهجر: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]، الآن نقرأ بحثاً في مسألة سجود التلاوة قبل أن ننسى.

أحكام سجود التلاوة

أحكام سجود التلاوة قال المؤلف: (ويجلس ويسلم ولا يتشهد) يجلس وجوباً لكنه جلوس لا ذكر فيه -بعد الرفع من سجدة التلاوة- إلا شيئاً واحداً هو السلام مرةً عن يمينه ولهذا قال: (يسلم ولا يتشهد) فصار السجود فيه تكبيرٌ قبله وتكبيرٌ بعده، وجلوسٌ وتسليم، وليس فيه تشهد؛ لأن التشهد إنما ورد في الصلاة، ولكن السنة تدل على أنه ليس فيه تكبيرٌ عند الرفع ولا سلام، إلا إذا كان في صلاة -فهذا كلام موجود في كتب الفقه- قضية التكبير عند الرفع وترك السلام، لكن لم يرد في السنة تكبيرٌ عند الرفع ولا السلام، إلا إذا كان في صلاة، فإنه يجب أن يكبر إذا سجد ويكبر إذا رفع، لأنه إذا كان في صلاة ثبت لها أحكام الصلاة قولاً واحداً، وذكرنا حديثاً (كان يكبر عند كل خفضٍ ورفع). وقد اختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا تحريم لسجود التلاوة -أي: لا يوجد لها تكبيرة إحرام- ولا سلام، وهو مذهب الحنفية والمالكية، غير أن ابن تيمية يرى أنه يكبر لسجود التلاوة تكبيرة واحدة فقط. واختار شيخ الإسلام أنه يجوز سجود التلاوة بغير طهارة، لكن يقيد الجواز بوجود العذر الداعي إليه، وهو ظاهر قوله، لكن بشروطٍ أفضل -أي: سجدة التلاوة- ولا ينبغي أن يُخل بها إلا لعذر، وعلى هذا فاختياره عدم الوضوء لسجود التلاوة ليس على إطلاقه، وجاء في حديث عكرمة عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والأنس) والحديث ترجم له البخاري باب: سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء، و [كان ابن عمر رضي الله عنه يسجد وهو على غير وضوء]. وقال ابن حجر: الجمع بين رواية أنه سجد على طهارة وبين ما فعله بأنه أراد بقوله: "طاهر أي: الطهارة الكبرى، والثاني: أنه سجد على غير طهارة في حال الضرورة، أما في حال الاختيار فإنه يتوضأ. إذاً: قول جمهور العلماء أنه يتوضأ لسجود التلاوة، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى عدم وجوب الوضوء عند العذر حيث أنه لما سمعَ السجدة كان غير متوضئ فسجد، ولم يرد في السنة في غير الصلاة، التكبيرة الثانية والتسليم، وإنما ورد أنه يكبر للسجود ويرفع فقط. وداخل الصلاة يكبر عند السجود ويكبر عند الرفع منه.

تنبيهات مهمة تتعلق بتلاوة القرآن

تنبيهات مهمة تتعلق بتلاوة القرآن 1 - هناك أشياء تتعلق بالمصحف لا علاقة لها بالتلاوة، مثل: احترام المصحف، وأن لا يضع فوقه أي شيء، ولا يتوسده، ولا ينام عليه، ولا يُسافر به إلى أرض العدو. ومما يمكن أن يقال أيضاً في موضوع آداب التلاوة: عدم استعمال القرآن في غير ما أنزل فيه، كالذي يقول إذا أراد الطعام: آتنا غدائنا ونحو ذلك. إذا قصد بها هذا فهي بدعة، أو أنه لا يتكلم إلا بالقرآن هذه بدعة، قال في المغني: "لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام"، أي: كلما أراد أن يتكلم بكلمة أتى بشيء من القرآن. 3 - من المسائل أيضاً: جواز تضمينه في الكلام والشعر إذا قصدَ مصلحةً شرعية، فلو قال أحد: ما حكم أن تجعل آية شطر بيت، أو أن يجعلها في خطبة؟ يضمنها ويستشهد، مثلاً أي: لو أن أحداً تكلم عن التبرج والسفور ونحو ذلك، وذكر مفاسده، ثم ذكر كثرة الواقعين فيه، وذكر قلة الغيرة، وذكر الآيات، ثم قال: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78]، هذا اقتباس من القرآن، فإذا لم يأتِ به على سبيل العبث فلا بأس به. كما قال بعضهم: وهناك فتنٌ كثيرة عمت المسلمين، ويحاول كثيرٌ منهم الخروج منها، ولكن {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، وهذا جزء من آية، فإذا كان مقصده شرعياً، والكلام الذي يقوله صحيح، فلا بأس بهذا الاقتباس، وقد أنشدوا في الشعر: ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين ولم يُنكر على ذلك الشاعر. وبالنسبة لقراءة القرآن للماشي والراكب والمضطجع والسائر في الطريق فلا بأس بذلك، والقراءة في الحمّام الذي فيه مكان قضاء الحاجة لا يجوز، ومكان الاغتسال في الحمامات القديمة، وقد قال بعض العلماء: "وتكره القراءة في الحمام، لأنه مكان تكشف فيه العورات" هنا في الحمامات القديمة التي هي معدة للاغتسال. أما القراءة في السوق ففيها تفصيل، فإن كان يقصد تنبيههم برفع صوته بذلك ووعظهم فلا بأس، وقد ذكر ابن عقيل في كتابه الفنون حواراً في الموضوع، قال في آخره: "ولعل أهل السوق يسمعون النهي عن مراباةٍ أو معصية فيتركونها، أما إذا قرأ في السوق للتسول مثلاً أو لغرض آخر غير شرعي فإنه لا يجوز". 6 - وبالنسبة لحديث الحال للمرتحل، الذي أخرجه الترمذي فهو حديثٌ ضعيف، والمقصود به: أن القارئ إذا انتهى من ختمة شرع في الختمة التي بعدها مباشرةً حتى يعطيه حماساً لإكمال الختمة، لو ختم وانتهى وما أكمل، ربما يقول: الحمد لله! أنا ختمت فلا يُشرع في الختمة الجديدة إلا بعد فترة، فتفتر همته. فلذلك قالوا: إذا انتهى من ختمة يشرع في الختمة التي بعدها مباشرة ولو كانت آيات قليلة من سورة البقرة، فما حكم ذلك؟ نقول: حديث الحال للمرتحل حديثٌ غير صحيح لم يثبت، قال الترمذي: حديثٌ غريب، ثم رواه عن زرارة مرسلاً، ثم قال: هذا عندي أصح، فالحديث ضعيف، إذا اعتقد الإنسان أن من السنة أنه إذا ختم أن يشرع في الختمة الثانية ويقرأ الفاتحة وخمس آيات من البقرة على ما عينه بعضهم فهذه تصبح بدعة، وهذا رأي الإمام أحمد رحمه الله، لأنه لا يوجد فيها نص. لكن لو أنه شرع في الختمة الجديدة من باب أن يحفز نفسه على المواصلة في القراءة فلا بأس بذلك، إذا لم يعتقد أنها سنة، ولا يعين آيات معينة، ويدخل في الختمة الجديدة بآيتين بثلاث، بعشر، بعشرين، لا يعين شيئاً معيناً بالدخول في الختمة الجديدة. 7 - وبالنسبة لاجتماع بعض الناس للقراءة في بعض المساجد في بعض البلدان يختمون المصحف، كل واحد يمسك جزء، أو بطريقة الإدارة هذا يقرأ، وهذا يقرأ، وهذا يقرأ، فينهون سورة، واليوم الذي بعده وهكذا إلى أن يختم المصحف؛ فهذه طريقة الإدارة فيها خلاف بين العلماء ذكرناه، وبعضهم أجازها، وبعضهم قال: هي بدعة، وبعضهم قال: مكروهة، وقلنا: إذا كانت للتعليم أو للتحفيظ فلا بأس، لكن الذي ورد عن الصحابة أنهم كانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً أن يقرأ واستمع الباقون. 8 - وبالنسبة إذا كان في الصيف استحب بعض أهل العلم أن يختم في النهار، وإذا كان في الشتاء أن يختم في الليل، لماذا؟ حتى يبتدأ بالختمة الجديدة، لأنه إذا انتهى في الليل، فمثلاً: أنهاه بعد المغرب والليل طويل، فالسحر يقول: أشرع في ختمة جديدة، ويتحمس في الصيف إذا ختمه في النهار والنهار طويل، يقول: من غير المعقول أن أجلس كل النهار لا أقرأ شيئاً، فيشرع في الختمة الجديدة. وهذا مستحب عند أهل العلم بدون دليل، لكن لأجل التشجيع أن يبدأ بختمةٍ جديدة. 9 - أما بالنسبة لموضوع افتتاح الحفلات بقراءة القرآن، وهو أمرٌ مشهورٌ متعارف عليه وشائع، فلا شك أنه ليس من طريقة السلف أنهم إذا اجتمعوا بأمور مهمة كإنفاذ جيش أو اختيار خليفة ونحو ذلك أمروا واحداً أن يقرأ القرآن في بداية الاجتماع، فلا شك أن قضية افتتاح الحفلات في القرآن ليست من طريقة السلف، لكن إن فُعلت أحياناً من باب تذكير الحاضرين مثلاً دون المواظبة عليها، وليس كل حفلة نفتتحها بالقرآن فلا بأس بذلك، وكذلك إذا كان المجتمع ليس من المجتمعات التي فيها خلط اللهو بالجد والحق بالباطل، فيكون القرآن كنوع من التلبيس والتغطية لما يدور بعد ذلك من منكرات. هذا ما تيسر جمعه في موضوع آداب التلاوة، وفي الدرس القادم إن شاء الله نبدأ في آداب المشي.

آداب في زيارة الإخوان

آداب في زيارة الإخوان جعل الله سبحانه وتعالى للأخوة في الله منزلة سامية، ومكانة عالية في الشرع؛ وقد حدثت ظاهرة عظيمة في الزيارات: وهي الخلل في مفهوم الزيارة، فهي إما أن تنقطع أو تكثر، أو تجر إلى سلبيات ملفتة للنظر. هذا ما تجده في ثنايا هذه المادة، مع ذكر آداب الزيارة، وأهميتها ومنزلتها وفضلها في الشرع، والتنبيه على أخطاء الزيارة وسلبياتها، وبعض الملاحظات لزيارة النساء بعضهن لبعض.

تحديد مفهوم الزيارة

تحديد مفهوم الزيارة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أرسله رحمةً للعالمين، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدَّى أمانة الله إلى عباده، ففتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً عن سماع الحق وقبوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه وتمسك بسنته. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أُحييكم في هذه الليلة مع موضوع من الموضوعات المهمة في حياة المسلم، وعنوان هذه المحاضرة: "آداب زيارة الإخوان" وسيشتمل هذا الموضوع في عرضه على: تحديد مفهومها. فضل الزيارة في الله. ما ورد في السفر للزيارة. أهمية الزيارة في الله وفوائدها. حث الشريعة على إعطاء الزوار حقهم. شيءٌ من آداب الزيارة وأحكامها. الإقلال من الزيارة خشية الإملال. أنواع الزائرين والمزورين. حثَّ السلف على الزيارة نموذج. الزيارة لها سلبيات وملاحظات. العوائق في طريق الزيارة. كيف تكون الزيارة ناجحة. ملاحظات على زيارات النساء للنساء. ونبدأ بعون الله تعالى فنقول في مطلع هذا الدرس: إننا سنتحدث عن زيارة الإخوان بعضهم لبعض. فإن الزيارة قد جاءت في الشريعة في مناسبات متعددة، فمنها مثلاً: زيارة القبور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة) وكذلك زيارة بيت الله طواف الزيارة طواف الإفاضة، كما جاء في الحديث: (زرتُ قبل أن أرمي) وكذلك زيارة مسجد قباء كما ورد في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء كل سبت) وكذلك زيارة المريض، وزيارة الأقارب؛ صلة الرحم، وهذه لا تدخل في موضوعنا لهذه الليلة، وإنما المقصود الحديث عن زيارة الإخوان بعضهم لبعض.

فضل زيارة الإخوان

فضل زيارة الإخوان أما بالنسبة لفضل الزيارة، فلا شك أن زيارة الإخوان لبعضهم البعض قد أخذت مكاناً لا بأس به من الأحاديث وشروحها وكلام العلماء في كتبهم، وإذا كان الأموات يتزاورون فما بالك بزيارة الأحياء؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الحسن: (إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه، فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم). وأهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، فنريد أن نعرف -الآن- أهل الدنيا المسلمين منهم إذا زار بعضهم بعضاً، فماذا لو عرفوا أن أول ما يُطالعنا في فضل الزيارة في الله، أحاديث قدسية عظيمة:

أحاديث قدسية في فضل زيارة الإخوان

أحاديث قدسية في فضل زيارة الإخوان فمن ذلك: ما رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وغيره عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ) وجاء أيضاً في حديثٍ آخر: (قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ، المتحابون فيّ على منابرٍ من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء) حديثٌ صحيح. هذه الأحاديث القدسية العظيمة التي تبين وجوب محبة الله لمن زار أخاه في الله محبة الله حقت لمن يزور إخوانه في الله، فما أشد تفريط المفرطين، وما أتعس حالهم وقد فاتهم من الأجر ما فاتهم! فإن الذي يزور أخاه في الله يُحبه الله، وقد جاء في حديث حسن -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً، أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) رواه الترمذي وغيره. ومعنى طبت: هذا دعاءٌ له، بأن يطيب عيشه في الدنيا. وطاب ممشاك: بسبب هذا الممشى لزيارة إخوانك في الله. تبوأت مكاناً في الجنة: أي: أقمت في هذا المكان، ففيه بيان أن من أسباب دخول الجنة زيارة الإخوان في الله. أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك، فهذا حالٌ يغبطه عليه أهل السماء.

أحاديث نبوية في فضل زيارة الإخوان

أحاديث نبوية في فضل زيارة الإخوان أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت بإثبات الزيارة ومشروعيتها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويُسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم) فكانت زيارته عليه الصلاة والسلام لأصحابه قائمة، وكان له عاطفةٌ بليغةٌ بصبيانهم، من السلام عليهم، والمسح على رءوسهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا ينسى الصغار من الملاطفة، حتى لو كانت مهماته كبيرة وأعماله كثيرة، فإن وقته صلى الله عليه وسلم قد اتسع لملاطفة الصبيان عند زيارة أهليهم، والمسح على رءوس أولئك الصبيان.

ما ورد في فضل السفر لزيارة الإخوان

ما ورد في فضل السفر لزيارة الإخوان أما السفر لزيارة الإخوان، فإن زيارة الإخوان في الله لها منزلة عظيمة في الشريعة لدرجة الندب للسفر لزيارة الإخوان في الله، وهذا أمرٌ قد ضيعناه ونسيناه مع الأسف! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والصديق في الجنة، والمولود في الجنة -عندما يموت صغيراً- والرجل يزور أخاه في الله في ناحية المِصر في الجنة. ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود الولود العئود التي إذا ظُلِمت -حتى وهي مظلومة- قالت: هذه يدي في يدك لا أذوق غمضاً حتى ترضه). ولا أدل على فضل السفر لزيارة الإخوان في الله من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (زار رجلٌ أخاً له في الله في قرية، فأرصد الله له ملكاً على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمةٍ تربها؟ قال: لا، إلا أني أُحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك، أن الله أحبك كما أحببته). وفي مسند أحمد بلفظ () خرج رجلٌ يزور أخاً له في الله عز وجل، في قريةٍ أخرى -سافر من أجل الزيارة- فأرصد الله عز وجل بمدرجته ملكاً، فلما مر به، قال: أين تريد؟ قال: أريد فلاناً، قال: لقرابةٍ؟ قال: لا، قال: فلنعمةٍ له عندك تربها؟ قال: لا، قال: فَلِمَ تأتيه؟ قال: إني أُحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أنه يحبك بحبك إياه فيه) بحبك لصاحبك في ذات الله. ومعنى المدرجة: الطريق، وتربها: يعني تملكها وتستوفيها، تريد أن تحصل منه على شيء، أو تسعى إلى حفظ شيءٍ وتنميته، قال: لا، إلا أني أحبه في الله فقط، عندما سافرت ما حملني على السفر ومكابدة مشاق السفر إلا أني أُحبه في الله، فأنا سافرت وسلكت السبيل لزيارته لأني أحبه في الله، لا لأمرٍ دنيوي، أو لمتاعٍ زائل، وإنما لأني أحبه في الله، أرسل الله ملكاً مخصصاً لأجل أن يبلغه رسالةً من الله عز وجل أن الله يحبه، فلأجل هذا الأجر العظيم سافر لزيارة أخ له في الله. واليوم المشاغل كثيرة، والأحوال معقدة، والناس يتملصون من زيارة الإخوان في داخل البلد، فكيف بالسفر لزيارة الإخوان؟!! وقد درج السلف -رحمهم الله- من الصحابة وغيرهم على السفر لزيارة إخوانهم والانتفاع بلقياهم؛ لأجر الزيارة وما يسمعونه من العلم، فكان أحدهم يسير الأيام والليالي من أجل زيارة أخٍ له في الله، وسافر سلمان لزيارة آل أبي الدرداء.

أهمية الزيارة في الله

أهمية الزيارة في الله أما أهمية الزيارة في الله، فلا شك أن الشريعة ما حثت ولا ندبت عليها ولا جعلت الأجر العظيم لمن قام بها إلا لما فيها من مزايا عظيمة، وفوائد متعددة، ولأن خطب هذه العبادة -وهي الزيارة في الله- خطبٌ جسيم. كيف لا؟! والزيارة في الله تدل على المحبة في الله، وعلى الرباط الإيماني بين الإخوان، حيث تدل على الحب في الله، والحب في الله من مقومات وأساسيات الإيمان، فهذا عندما يزور أخاه معناه: تعبيرٌ له عن محبته في الله، وتوثيق أواصر الأخوة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم، ولذلك فالزيارة عبارة عن أمرٍ داخلٍ في العقيدة في صميم الإيمان؛ لأنها مرتبطة بالمحبة في الله، والمحبة في الله من أساسيات الإيمان. الزيارة في الله: تقرب المسلمين من بعضهم البعض. الزيارة في الله: تجعلهم جسداً واحداً. الزيارة في الله: تعرف الواحد بمشكلات الآخر. الزيارة في الله: تكسب العلم. الزيارة في الله: تُعرف بالأخبار والأحوال، وفيها تفقدٌ لمصالح الإخوان في الله. الزيارة في الله: إصلاحٌ للأوضاع وسدٌ للخلل.

فوائد الزيارة في الله

فوائد الزيارة في الله الزيارة في الله: فوائدها متعددة وكثيرةٌ وجمة، فمن فوائد الزيارة في الله: تفقد حال الإخوان وإصلاحه؛ إصلاح الحال وسد الخلل، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء) والحقيقة أن هذين الصحابيين أخوتهما عظيمة، وقد استمرت استمراراً عظيماً (فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلةً فقال لها: ما شأنك؟) جاء في بعض الأحاديث أن الزيارة كانت قبل نزول آية الحجاب، فلا بد له أن يفهم لفهم تلك الأحاديث (فرأى أم الدرداء متبذلةً) ليس عندها زينة ولا تعتني بها (فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجةٌ في الدنيا) أي: أنه مقبل على العبادة وتارك للدنيا، ومن ضمن الدنيا شهوة النساء، فهو تارك كأنه لا يريد النساء (فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل؟) المضيف أبو الدرداء يقول لـ سلمان: كل؟ (قال: فإني صائم) أبو الدرداء يقول: كل أنت؛ أما أنا فصائم (قال: ما آنا بآكلٍ حتى تأكل) ولأن صيامه نافلة (قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنامَ، ثم ذهب يقوم، فقال: نم - سلمان يقول لـ أبي الدرداء: نم- فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليّا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه، فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) وفي الرواية قال: (فزار سلمان أبا الدرداء). فهذه الزيارة من سلمان لـ أبي الدرداء، كم عادت بالنفع على أبي الدرداء وبيته؟ من جهة التوازن وإصلاح ما بينه وبين أهله، وما حصل من المصلحة العظيمة لـ أم الدرداء بعودة زوجها للاهتمام بها، وما حصل لجسد أبي الدرداء من المصلحة، وما حصل من منع الإملال في العبادة، حصلت أشياء كثيرة جداً، تغيرات في بيت أبي الدرداء؛ بسبب زيارة سلمان له، فالزيارة إذاً تتيح للأخ التعرف على حال أخيه على بيته على أحواله، فقد يكون عنده خلل أو نقص، فيسدده ويصلح من حاله وشأنه، وهذه فائدة عظيمة للزيارة. وستأتي أمثلة أخرى فيها تبيان ما في الزيارة من الفوائد من تحصيل العلم ونحو ذلك.

حث الشريعة على إعطاء الزوار حقهم

حث الشريعة على إعطاء الزوار حقهم ولأجل فائدة الزيارة؛ فإن الشريعة حثت على إعطاء الزوار حقهم، بل ربما تعيين وقت من أجلهم، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه قال: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن عمرو! ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلتُ: بلى يا رسول الله! قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإنَّ لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليكَ حقاً، وإن لزورك عليك حقاً) الزور: هم الزوار، يقول: الزوار لهم حق عليك، وأنت لا يصلح أنك تتفرغ للعبادات تفرغاً يمنعك من أداء حق الزوار. قال: ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ وهذا يعطل أشياء منها: عدم القيام بحق الزوار، قال عليه الصلاة والسلام: (فصم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنةٍ عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله، قال: فشددت فشدد عليّ، قلتُ: يا رسول الله! إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: نصف الدهر، فكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم) أي: صوم ثلاثة أيام من كل شهر. فالشاهد في قوله: (وإن لزورك عليك حقاً) الزوار لهم عليك حق فينبغي إعطاء الزوار حقهم؛ من إتاحة الفرصة للزيارة، والقيام بواجب حسن الاستقبال، والبشاشة، والنفع، والمجالسة، وحسن الضيافة ونحو ذلك.

آداب زيارة الإخوان وأحكامها

آداب زيارة الإخوان وأحكامها أما عن شيءٍ من آداب الزيارة وأحكامها، فإن الشريعة لما اعتنت بالزيارة وبينت فضلها وأجرها اعتنت ببيان آدابها وأحكامها، وهذا من التفاصيل الحسنة؛ لأن إيضاح المسألة والتفاصيل وبيان الآداب والأحكام، يدل على عظم منزلة هذا الواجب وهذه الفريضة الإسلامية؛ وهي الزيارة في الله.

عدم الإمامة بأصحاب الدار إلا بإذنهم

عدم الإمامة بأصحاب الدار إلا بإذنهم فمن هذه الآداب والأحكام: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زار أحدكم قوماً فلا يصلِّ بهم، وليصلِّ بهم رجلٌ منهم) فإذا زرت أحداً في بيته، فالأصل وجوب صلاة الجماعة، لكن قد يكون البيت بعيداً عن المسجد بعداً لا تجب فيه صلاة الجماعة، وما هو هذا البعد؟ قال العلماء: فرسخ، وقدَّروه بناءً على أنه إذا كان المؤذن يؤذن في مكانٍ مرتفع، مثل سطح المسجد، والريح ساكنة، والمؤذن صيتاً، والسامع حسن السمع، وليس هناك عوازل ولا حائل يحول دون سماع صوت المؤذن، فتكون المسافة التي يسمع فيها الأذان في هذه الحالة عادةً -كما قدرها بعض العلماء- فرسخاً، فإذا حصل هذا البعد فلا يجب حينئذٍ حضور الجماعة لبعد المسجد، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام أحياناً يزور أصحابه في طرف المدينة، فهم بعيدون عن المسجد لا تجب صلاة الجماعة عليهم، لكنهم كانوا يأتون ويحتسبون إذا زارهم. فإذا حصل أنه حضر وقت الصلاة، فإن الزائر لا يؤم أصحاب الدار، ولو كان أقرأ وأعلم وأحفظ؛ لأجل حق صاحب البيت، ولأنه صاحب سلطان في بيته، فلا يتقدم عليه الزائر ولو في الإمامة، لأن الشريعة راعت حق صاحب البيت -حق المزور المضيف- مراعاةً شديدة، ومن ذلك: أنه لا يؤم في بيته، إلا إذا أذن وتنازل، وقال: صلِّ أنت يا أيها الزائر! أو يا أيها الضيف أذنت لك! فعندئدٍ يجوز له أن يتقدم فيصلي. وقبل هذا هناك بعض الأحكام مثل: الاستئذان، والسلام، والمصافحة؛ وهذه أحكام لها مناسبات خاصة لعرضها، لأن مجال بيان آداب الاستئذان، والسلام ونحو ذلك ليس الآن فهذه أمور تحتاج إلى تفصيل، فالزيارة فيها أدب استئذان، فالناس قد يُخلون بأدب الاستئذان -وربما نمر بعد قليل بشيء من ذلك- ولا يراعون ما ورد فيها من الآيات والأحاديث.

جواز أكل الطعام عند المضيف

جواز أكل الطعام عند المضيف ومن آداب الزيارة كذلك: جواز أكل الطعام عند المضيف، فلو أن شخصاً قال: إذا زرت قوماً فقدموا لي طعاماً ولم تكن الدعوة إلى طعام، فهل لي أن آكل؟ A نعم. فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى: من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيتٍ من الأنصار، فطعم عندهم طعاماً، فلما أراد أن يخرج أمر بمكانٍ من البيت فنضح له بساطٍ، فصلى عليه ودعا لهم) قال ابن حجر رحمه الله: "من فوائد هذا الحديث: استحباب الزيارة، ودعاء الزائر لمن زاره وطعم عنده". فالإنسان لا يقصد زيارة إخوانه في وقت طعامٍ وهم لم يدعوه للطعام، فمن أتى إلى وليمة ولم يُدع إليها فكأنما دخل مغيراً وخرج سارقاً، ولذلك فإنه إذا زارهم فقدم له طعام من عندهم، من غير أن يتعمد أو يكلفهم فإنه يجوز له أن يأكل. وقال البخاري رحمه الله: باب الزيارة ومن زار قوماً فطعم عندهم، وزار سلمان أبا الدرداء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأكل عنده، قال الشراح: "الأكل عند المزور مما يثبت المودة ويزيد المحبة" وقال ابن حجر في فوائد هذا الحديث: "من تمام الزيارة أن يقدم للزائر ما حضر" أي طعام ٍيتيسر، وقد نهى النبي عليه لصلاة والسلام عن التكلف للضيف، قدم له إذا زارك ما تيسر من حلوى أو فاكهة أو نحوها.

القيلولة عند المزور

القيلولة عند المزور كذلك القيلولة أو النوم إذا كان الحال مناسباً يجوز ذلك، قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاستئذان، باب: من زار قوماً فقال عندهم، قال: من القيلولة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

الجلوس في المكان الذي خصص لك

الجلوس في المكان الذي خصص لك ومن آداب الزيارة وأحكامها أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن الرجل الرجل في أهله، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) أما الإمامة فقد بيناها أن الزائر لا يؤم إلا بإذن المزور، فما معنى: لا يجلس على تكرمته إلا بإذنه؟ قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية: "إن أمره صاحب المنزل بالجلوس في مكانٍ لم يجز أن يتعداه؛ لأنه ملكه وسلطانه وتكرمته، لأن صاحب الدار إذا حدد لك مكاناً ما كأن يقول: تفضل اجلس هنا، فإنه يلزمك أن تجلس في هذا المكان ولا تتعداه. ولهذا لو لم يأذن في الدخول لم يجز، فإذا أذن لك وعين المكان لزمك أن تقعد فيه، ولو أمره بالخروج لم يجز له المقام فيه، لو قال: اخرج، أو تحول من هذا المكان إلى هذا المكان لزمه أن يتحول، وإن لم يأمره بالجلوس في مكانٍ من المجلس أو من البيت، فهل يجلس؟ وأين يجلس؟ أحياناً تزور شخصاً، فتدخل البيت فما يعين لك صاحب البيت مكاناً، فلا يقول لك: اجلس هنا! إنما يدخل بك إلى المجلس ويسكت ولا يقول شيئاً، فهل تجلس قبل أن يأذن؟ وأين تجلس؟ قال ابن مفلح رحمه الله: ينبغي أن ينظر إلى عرف صاحب المنزل وعادته في ذلك، فلا يجوز له أن يتعداه، هل عرف صاحب المنزل أنه يجلس الضيوف في أي مكان؟ فإذا كان هناك مكان معين عادة أن صاحب البيت يجلس فيه الضيف جلس فيه الزائر، إذا ما عين ولم يتكلم، فإننا ننظر إلى العرف أين المكان فنجلس فيه، فإن لم يكن له عرفٌ ولا عادة فالعرف والعادة في ذلك الجلوس بلا إذنٍ خاص فيه لحصوله للإذن في الدخول، فما دام أنه أدخلك البيت فمعنى ذلك أن تنتقي مكاناً وتجلس فيه إذا لم يكن لصاحب البيت عُرفاً ولا عادة. فمثلاً من الأماكن التي صاحب البيت لا يريد أن يجلس الضيف فيها، ما كان أمام أو بجانب الباب الذي يدخل من المجلس إلى داخل البيت، فالجلوس في هذا المكان غير مناسب، فلا تجلس فيه، وإنما تجلس في مكان لا يكون فيه إطلالٌ على داخل البيت، أو لا يكون بجانب باب الدار الداخلية -مثلاً- فهذا لا بد أن يُراعى. ثم إن شاء جلس أدنى المجلس لتحقق جوازه مع سلوك الأدب، ولعل هذا أولى من أن يجلس في صدر المجلس، وهذا من باب التواضع ما لم يعد جلوسه هناك مستهجناً عادةً وعرفاً بالنسبة إلى مرتبته، أو يحصل لصاحب المنزل بذلك خجلٌ واستحياء فإنه يُعجبه خلاف ذلك، وربما ظن شيئاً لا يليق. فلو قلنا: يجلس في طرف المجلس إذا كان صاحب المنزل ليس له عرف فهذا تواضع، لكن إن غلب على ظن الزائر أنه لو جلس في طرف المجلس أن هذا يؤدي إلى حرج في نفس صاحب البيت فعند ذلك يقوم ويجلس في صدر المجلس تطييباً لخاطر صاحب البيت، فلابد من مراعاة خاطر صاحب البيت. قال خارجة بن زيد النحوي: دخلت على محمد بن سيرين بيته زائراً فوجدته جالساً بالأرض، فألقى إليّ وسادة، فقلتُ له: إني قد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك -أنت جالس من غير وسادة فأريد أن أجلس من غير وسادة- فقال: إني لا أرضى لك في بيتي ما أرضى به لنفسي، واجلس حيث تؤمر، فلعل الرجل في بيته شيءٌ يكره أن تستقبله، وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن رد الوسائد إذا أعطاك وسادة لتستعملها. وكذلك قد يكون في المجلس في مكان معين شيءٌ لا يُريدك صاحب المجلس أن تنظر إليه، ولا تستقبله أو تواجهه، فيعين لك مكاناً فتجلس حيث تُؤمر، لأنه قد يكون في هذا المكان شيءٌ أو تطل على شيء من خصوصياته، فينبغي التقيد بالمكان الذي حدده صاحب البيت.

ألا يقترح طعاما بعينه

ألا يقترح طعاماً بعينه وأما بالنسبة للطعام، قال ابن الجوزي رحمه الله: ومن آداب الزائر ألاَّ يقترح طعاماً بعينه، وإن خُيِّر بين طعامين اختار الأيسر، إلا أن يعلم أن مضيفه يسر باقتراحه مثلاً، ولا يقصر عن تحصيل ذلك، فإنه يطلب ويعين، وإذا لم يكن عندك شعورٌ بذلك فعرض عليك الخيرة فاختر الأيسر، وإذا لم يخبرك بشيء من الطعام فلا تقل: اصنع لي طعاماً، إلا إذا كان كلامك يسره، ولا يكلف عليه، ويعتبره من الأخوة القوية، فعند ذلك تطلب منه.

عدم الانصراف حتى يستأذن

عدم الانصراف حتى يستأذن ومن آداب الزيارة أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا زار أحدكم أخاه فجلس عنده فلا يقومن حتى يستأذنه) فلا بد من الاستئذان؛ لأن الاستئذان هنا لأجل الانصراف، وهذا حق صاحب البيت، لأنك داخل سلطانه وملكه فينبغي أن تستأذن إذا أردت الانصراف، وهذا أدبٌ مهجور عند الكثيرين، فإنهم يقومون وينصرفون بغير استئذان، وأحياناً يستأذن بعد أن يقوم ويمشي وإذا كان عند الباب، قال: أستأذن، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فلا يقومن حتى يستأذنه) إذاً الاستئذان قبل القيام من الأدب.

الإقلال من زيارة الإخوان خشية الإملال

الإقلال من زيارة الإخوان خشية الإملال أما بالنسبة لموضوع: الإقلال من الزيارة خشية الإملال، فإنه قد ورد في ذلك حديث: (زر غباً تزدد حباً) وهذا الحديث قد أعله بعض العلماء، قال ابن حجر رحمه الله: طرقه لا تخلو من مقال، وقد اختلف في وصله وإرساله، وبعض العلماء صححه بشواهده وطرقه. وقد جاء في الصحيحين قول عائشة لـ عبيد بن عمير: [ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً] عبيد بن عمير ذكر هذا الكلام على أنه من كلام الأولين، أي: من الأمثال السائرة، وهو معروف عندهم في السابق، زر غباً تزدد حباً. قال الشاعر: إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً وإن شئت أن تزدد حباً فزر غباً أن تقلى: أي: تهجر وتكره فزر متواتراً: أي: زيارة خلف زيارة خلف زيارة. وقال آخر: إني رأيتك لي محباً وإلي حين أغيب صباً فهجرت لا لملالةٍ حدثت ولا استحدثت ذنباً إلا لقول نبينا زوروا على الأيام غباً ولقوله من زار غباً منكم يزداد حباً وقال الشاعر أيضاً: عليك بإقلال الزيارة إنها تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكه إذا دامت وصارت كثيرة جداً فإنها مملة وتفضي إلى الهجر فإني رأيت القطر يسأم دائماً ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكَ لو نزل المطر دائماً فإنه يُسأم. وقال بعضهم: أقلل زيارتك الصديق يراك كالثوب استجده إن الصديق يمله ألاَّ يزال يراك عنده هذا بالنسبة لتباعد الزيارات وألا تكون متواصلة، لكن ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الأدب: (باب: هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرةً وعشية؟) واستشهد البخاري رحمه الله على ذلك بحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبواي إلا وهما يدينان الدين) أي: من صغري ما عرفت أبواي إلا وهما على الإسلام: أبو بكر وأم رومان (ولم يمر عليهما يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرةً وعشية) كل يوم في الصباح والعشي (فبينما نحن جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائلٌ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر مهم، قال: إني قد أذن لي بالخروج) فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى المدينة. فماذا يدل عليه هذا الحديث؟ الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأتي إلى أبي بكر كل يوم مرتين. نعم، بعض العلماء قال: لماذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يزور أبا بكر ولم يكن أبو بكر هو الذي يزور النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن في هذا مشقة على النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذي يزور باستمرار؟ وأجابوا عن هذا الاستشكال: قال ابن حجر: "يحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين، بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه". أو يقال: إن بيت أبي بكر على الطريق إلى المسجد الحرام، فكان النبي عليه الصلاة والسلام كلما ذهب إلى المسجد الحرام مر على دار أبي بكر وهو ذاهب ثم يمر وهو راجع". هل هناك تعارض بين هذا الفعل من النبي عليه الصلاة والسلام وحديث: (زر غباً تزدد حباً) على فرض صحته؟ قال ابن حجر رحمه الله في حديث: (زر غباً): "يحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا تنقص كثرة زيارته من منزلته" فالناس يتفاوتون، فبعض الناس لو زرتهم يومياً ما أثقلت عليهم ولكان أمرك طبيعياً جداً، وهناك أناس لو زرتهم أسبوعياً لأثقلت عليهم، فالشخص إذا كان بينك وبينه خصوصيات، وأعمال مشتركة، وهذا يحدث كثيراً فهذا لا حرج عليك أن تقابله باستمرار. كذلك أحيانا ًيكون هناك نوع من الصلة والقرابة أو الأخوة الكبيرة، بحيث يكون هناك تقارب في المساكن، وسهولة في الوصول، وعدم إزعاج أو حصول تكلف، فهذا لو زرته يومياً ما اعتبر عيباً ولا خللاً، وفعل النبي عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر يدل على ذلك، حيث أن أبا بكر كان وزير النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينهما علاقةٌ كبيرةٌ جداً: في أمور الدعوة، وفي الأمور الداخلية للإسلام، وقضية ما يحدث في مكة من الفتن وأشياء كثيرة جداً، فكان النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين أبي بكر مواضيع كثيرة جداً، فلا شك أن الوضع يحتاج إلى زيارة متواصلة ويومية، بل ربما مرتين في اليوم؛ لمتابعة أمور الدعوة، وتبليغ النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر بما استجد من الوحي، فـ أبو بكر سابق الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، والأخوة بينهما كبيرة جداً، حتى همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذه خليلاً فقال: (ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فلذلك ليس بمستغرب أن يمر على أبي بكر في اليوم مرتين. فالشاهد أن القضية تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. قال ابن بطال رحمه الله: "الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره". بعض الناس زيارتهم مكروهة وفيها ثقل دم، وبعض الناس زيارتهم محبوبة، هذا الشيء يلاحظه الزائر من المزور، إذا رآه مستريحاً ومسروراً زاره، وإذا كانت الزيارة مثمرة أقبل عليها.

أنواع الزائرين والمزورين

أنواع الزائرين والمزورين أما أنواع الزائرين والمزورين، فهذا بابٌ طويل، فمن الزائرين من يزورك لمال، أو مصلحة دنيوية، أو يريد أن يأخذ منك أشياء ومزايا. ومن الزوار من يزورك لصلة رحم أو لأخوة في الله. ومن الزوار من يزورك لتعلم علمٍ منك، أو لتعليمك شيئاً. ومن الزوار من يزورك للتعاون على أعمال البر والتقوى، أو للتعاون على الإثم والعدوان. فالشاهد أن من الزوار من يحفظ وقتك وينفعك، ومن الزوار من يضيع وقتك ويُمِلِّكُ، فالزوار أنواع: من الزوار أهل دين وصلاح، ومن الزوار أهل شر ورفقاء سوء. وكذلك فإن المزورين أنواع:

زيارة أهل الخير والفضل

زيارة أهل الخير والفضل فمن هم الناس الذين تقصد زيارتهم؟ قال النووي رحمه الله تعالى: "باب: زيارة أهل الخير، ومجالستهم، وصحبتهم، ومحبتهم، وطلب زيارتهم، والدعاء منهم" ذكر هذا في بابٍ من أبواب كتاب رياض الصالحين. فإذاً المطلوب الآن هو زيارة أهل الخير، أما أهل الشر والسوء فلا يزارون إلا للإنكار عليهم ودعوتهم إلى الله بما لا يترتب عليه مفاسد شرعية، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يشتاق جداً لزيارة جبريل، حتى ورد في صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] الآية) انظر إلى اشتياق النبي عليه الصلاة والسلام إلى زيارة جبريل، حيث يطلب منه زيارة أكثر، لأن جبريل عليه السلام كلما زار النبي صلى الله عليه وسلم وجد النبي عليه الصلاة والسلام منه علماً نافعاً وهكذا. وكذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- كان يزور بعضهم بعضاً، فقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وأبا موسى إلى اليمن كما ورد ذلك في صحيح البخاري فقال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا) فانطلقا، فقال معاذ لـ أبي موسى: [كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً وعلى راحلتي وأتفوقه تفوقاً، قال: أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وضرب فسطاطاً] وفي رواية الإمام أحمد: فكان لكل واحد منهما فسطاط: مكان يأتيه فيه الناس ليتعلموا. أرسل النبي عليه الصلاة والسلام عالمين إلى أهل اليمن لتعليمهم، وجاء في صحيح البخاري: (فجعلا يتزاوران) مع أنهما رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد منهما في مكان، فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى فإذا رجلٌ موثقٌ فقال: ما هذا؟ قال أبو موسى: يهوديٌ أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من بدل دينه فاقتلوه) فلو أن واحداً أسلم اليوم ثم ارتد غداً وجب قتله؛ لأنه بدل دينه، وهو دين الإسلام، ولا يدخل في هذا تبديل دين النصرانية واليهودية، وإنما المقصود تبديل دين الإسلام.

زيارة الأخوة في الله والأصحاب

زيارة الأخوة في الله والأصحاب والسلف كانوا يحرصون على إشاعة روح التزاور بين الإخوان في الله والأصدقاء والأصحاب، وقد قال الدارمي في سننه بإسناده إلى ابن مسعود رضي الله عنه: [أنه سأل أقرانه وأصحابه هل تتزاورون؟ قالوا: نعم، حتى إن أحدنا ليزور أخاه في ناحية الكوفة -أي: نشتاق إلى بعضنا البعض فيزور أحدنا صاحبه- فأخبرهم أنهم على خير ما داموا على ذلك].

أمثلة لزيارة أهل العلم

أمثلة لزيارة أهل العلم أما الزيارة: فأعلى من يزار هم أهل العلم بلا شك، للانتفاع بالزيارة، وهاكم مثالاً على ذلك: جاء في صحيح مسلم: عن أبي وائل قال: -وهذا مثال على زيارة أناس لعالم- قال: [غدونا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً بعدما صلينا الغداة -الصبح- فسلمنا في الباب! فأذن لنا، فمكثنا بالباب هنيةً -كأنهم يريدون التأكد من الأذن- قال: فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا فإذا هو جالسٌ يُسبح - ابن مسعود - فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذن لكم، فقلنا: لا. إلا أننا ظننا أن بعض أهل البيت نائم قال: ظننتم بآل أم عبد غفلة؟] آل أم عبد هو ابن مسعود، ابن أم عبد: ابن مسعود، وآله: هم أهله، زوجته وبناته، قال: تظنوننا غافلين؟ يجتهدون بالعبادة بعد الفجر، ليسوا غافلين نائمين، آل أم عبد لا ينامون بعد الفجر، يجلسون يسبحون ويذكرون الله. قال: [ثم أقبل يسبح -أي: أنه لم يقطع العبادة لأجل الزيارة، كان في عبادة حتى أكمل العبادة- حتى ظن أن الشمس قد طلعت، قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، قال مهدي بن ميمون: أحسبه قال: ولم يهلكنا بذنوبنا، فقال رجلٌ من القوم: قرأت البارحة المفصل كله، فقال عبد الله: هذاً كهذ الشعر؟. ] إلى آخر الأثر. وهذا الأثر فيه فوائد منها: 1/ التلبث عن الدخول بعد الإذن لاحتمال عذرٍ للتأكد، وكذلك نفي التهمة والنقص عن الإنسان وأهله، قال: تظنون أهلي غافلين؟ ليسوا غافلين. 2/ كراهية النوم بعد الفجر، وأن هذا وقت ذكر لله. 3/ أن من استأذن عليه وهو في عمل طاعة يمكنه تركها فلا يتركها؛ لئلا يكون ذلك وسيلة في ترك الطاعات، ويتخذه الشيطان سبباً يصد به عنه، أما إن جاءه خاطر الرياء والإعجاب تعوذ بالله من الشيطان وحاسب نفسه، وإذا لم يمكنه التغلب على جانب الخوف والإعجاب، ترك العمل واشتغل بمن قدم عليه. 4/ فيه زيارة العلماء، وانظر كيف انتفعوا بزيارة ابن مسعود؛ في تعلم أشياء من آداب الاستئذان. 5/ وفيه تعلم حمل الأهل على الطاعة والعبادة. 6/ وفيه التعلم على الاستمرارية على العبادة. 7/ وفيه تعلم فوائد مثل: مسألة الإسراع في تلاوة القرآن والحدر فيه، وما حكم إنهاء القرآن في يومٍ واحد، وهكذا

زيارة الضعفاء والمساكين

زيارة الضعفاء والمساكين وبعض الناس قد يظن أن الزيارة لأهل العلم والفضل، والأصحاب والأصدقاء، فينسون زيارة الضعفاء والمساكين، وزيارة الضعفاء والمساكين عبادة؛ لأن فيها أجراً عظيماً، يجب ألاَّ ينسى الضعفاء والمساكين في المجتمع، والناس قد يزورون الوجهاء والكبراء لما عندهم من الدنيا والجاه والغنى ولا يزورون المساكين والضعفاء، لماذا لا يُزار المساكين والضعفاء؟ روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن أنس قال -وهذا حديثٌ مؤثرٌ فعلاً، يبين الاهتمام بهذه الناحية، مؤثر لأنه صدر من أكبر اثنين في الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم-: [قال أبو بكر لـ عمر -رضي الله عنهما- أبو بكر خليفة يقول للنائب عمر وزيره وصاحبه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها] الذي يتكلم هو أبو بكر قائد الأمة والخليفة والنائب الذي بعده عمر، يقول: [انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها] زيارة العجائز والكبار في السن، هؤلاء ليسوا على الجانب بحيث أنهم لا يراعون، بل لهم حق ويعطون اهتماماً. الغرب الذين تقدموا بالصناعات ماذا فعلوا؟ وضعوا الملاجئ للعجزة، لا يزارون حتى من أقرب الناس إليهم، وهؤلاء أهل الإسلام وأصحاب الإيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزيراه وصاحباه، يزوران أم أيمن العجوز؛ كانت حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يراعيها، حتى إنها المرأة الوحيدة التي تكلمت على النبي صلى الله عليه وسلم لما زارها يوماً وكان صائماً فقدمت له لبناً، فأبى فتكلمت عليه ولامته، ولم يكن أحد يتجرأ أن يلوم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن أم أيمن حاضنته في صغره، ولها نوعٌ من الحق. فزيارة العجائز جائزة وليست زيارة مشبوهة، ما ذهبا لزيارة امرأة شابة أجنبية، إنما زاروا عجوزاً كبيرة في السن، وليس في ذلك فتنة. ولا يظنن ظانٌ أن العجائز وكبار السن ليس لهم دورٌ في المجتمع، سبحان الله والله أكبر! على ذلك المجتمع الأول الذي ما كان فيه فرد إلا وله دور، حتى العجائز، فقد جاء في أثر رواه الإمام البخاري رحمه الله، عن سهل بن سعد قال: [إنا كنا نفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوزٌ تأخذ من أصول سلقٍ -والسلق نبات معروف- لنا كنا نغرسه في أربعائنا -والأربعاء: هو الجدول، أو النهر الصغير، أو الساقية- فتجعله في قدرٍ لها، فتجعل فيه حباتٍ من شعير لا أعلم إلا أنه قال: ليس فيها شحبٌ، ولا ودكٌ -لا لحم ولا دهن ولا شيء، مجرد سلق عليه شيء من الشعير- فإذا صلينا الجمعة زرناها -أي: زرنا العجوز بعد صلاة الجمعة- فقربته إلينا، فكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك]. وفي رواية للبخاري أيضاً: [كانت فينا امرأةٌ تجعل على أربعاء في مزرعةٍ لها سلقاً، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدرٍ ثم تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها فتكون أصول السلق عرقة] أصول السلق مثل عرق اللحم بالنسبة للشعير والأكل، هذا بيان ما كانوا عليه من التواضع والزهد، وقلة ذات اليد، والفقر، وضيق العيش، والصبر، رضوان الله عليهم. [وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه، وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك] سبحان الله! هذه عجوز كبيرة في السن، لكنها أبت إلا أن يكون لها دور في المجتمع، تقدم الطعام للخارجين من صلاة الجمعة، على بساطة الطعام وعلى قلته، ولذلك قالوا في فوائد هذا الأثر: عدم احتقار الأجر في الأشياء ولو كانت قليلة. هذا بالنسبة لأنواع الزائرين والمزورين، فالمقصود أن الزيارة ينبغي أن تكون لله وفي الله. وهناك ملاحظة: وهي أن بعض الناس قد يزورون أشخاصاً من الباب، أو في الطريق، فهل تعتبر هذه زيارة؟ نقول: أما الزيارة من الباب لأجل شيء، كأن يكون مستعجلاً، فهذا شيءٌ طيب، تأتيه إلى باب داره أحسن من أنك لا تأتيه أصلاً. لكن هب أن وقتك ضيق لا تستطيع أن تزوره إلا من باب البيت فماذا تفعل؟! تزوره من باب البيت، وتمر عليه مروراً، تقول: أنا -يا أخي- لا أستطيع أن أدخل أزورك، ولكن من هنا فاعذرني. ولو أنك تستوقفه في الطريق فتتكلم معه هنيهةً فهذا -أيضاً- طيب، كما قال الشاعر ابن المعتز: قف لنا في الطريق إن لم تزرنا وقفةً في الطريق نصف الزيارة لكن بعض الناس قد يأتي إلى باب صاحبه، ويقول: أنا مستعجل ولا أريد أن أدخل، ويقفان عند الباب طويلاً، وتتواصل الأحاديث ويقول له صاحب البيت: ادخل: فيقول: لا أستطيع أنا مستعجل، وتتواصل الأحاديث الطويلة على الباب، فلو دخل لكان أحسن، لكن بعض الناس لا يحسنون تقدير الأشياء، فلو دخل وزاره ربما كان أسرع من وقفة عند الباب، لأن بعض الناس لا يحلو لهم إلا الكلام عند الباب، ولا تهطل عليهم الأفكار إلا عند الأبواب. مسألة: إن الانشغالات الموجودة في هذا العصر جعلت مسألة الزيارة في الله شيئاً نادراً مع الأسف! وبعض الانشغالات قد يكون الناس محقين فيها وقد تكون بعض الانشغالات أهم من بعض الزيارات، لكن قطع الزيارات نهائياً هذا أمرٌ لا يقبل، قد أفهم -أنا مثلاً- أنك في حي من الأحياء ولك نشاطٌ في الدعوة إلى الله وعندك كثيرٌ من الانشغالات والمهمات، فقد أُقلل من الزيارة، أو نتزاور على البعد، وما بيني وبينك من الروابط والعلاقات القلبية لا يمكن قطعها أو زوالها، لكن أن تنقطع الزيارات نهائياً فتمر السنة والسنتين ولم أزره فهذا أمرٌ معيب. لكن حصول الأعذار ينبغي أن يكون فيها تبادل تقدير من الأطراف المختلفة، وقلة الزيارة لا تعني الجفوة بالضرورة، فهناك أناس من أهل الخير والإحسان والصلاح والعلم زياراتهم لبعضهم قليلة، يسمعون عن بعضهم سماعاً ربما، لكن تجد أن بينهم علاقات قلبية قوية جداً ولو كانت زياراتهم قليلة أو معدومة لبعض الظروف. عن أبي الحسن بن قريش قال: حضرت إبراهيم الحربي -وهو من أكابر علماء الحديث- وجاءه يوسف القاضي ومعه ابنه أبو عمر، فقال له: يا أبا إسحاق لو جئناك على مقدار حقك لكانت أوقاتنا كلها عندك، فقال أبو إسحاق رحمه الله: "ليس كل غيبةٍ جفوة، ولا كل لقاءٍ مودة، وإنما هو تقارب القلوب". فقد يلتقي بعض الدعاة إلى الله مع بعضهم من بُعدٍ في الطريق ويكون بينهم السلام والابتسامة وهذه تنبئك عن أمرٍ عظيم، فالانشغالات إذا كانت في الأشياء الشرعية فقد يعذر فيها الإنسان في قلة الزيارة، لكن المشكلة أن الناس الآن أعدمتهم الأمور الدنيوية وأعمتهم عن أن يزوروا إخوانهم في الله، وصارت الزيارات لأجل المصالح، لا يزورهم إلا لمصلحة، فجأةً تفاجأ بشخص، لم يزرك أبداً، والآن يطرق عليك الباب، فقال: والله أحببنا أن نزورك وعندنا قضية نريد منك أن تهتم بها، ولنا خدمة نريد أن تقدمها لنا. إذاً الزيارة أصبحت لأجل الخدمة، فزيارات الناس -الآن- تقطع أمرهم بينهم، ما تجمعهم إلا المصالح، لا يجمعهم الحب في الله ولا التزاور في الله، ولذلك فإن الخطوات غير محسوبة ولا حسنات لهم؛ لأن الزيارات والعلاقات مادية.

الزيارات ملاحظات وسلبيات ومؤاخذات

الزيارات ملاحظات وسلبيات ومؤاخذات

قطع التزاور بين الإخوان

قطع التزاور بين الإخوان من السلبيات الكبيرة: عدم التزاور إهمال الزيارة قطع الزيارة، وهذا قد يكون له انشغالات مادية مذمومة، وقد يكون ذلك سببه التكاسل -أي: استثقال الذهاب- يقول: أذهب لأزوره وقد تكون الشوارع مزدحمة، أو هو في حي بعيد، يجب أن تكون العلاقة في الله أقوى من كل هذه العوائق، وينبغي أن يكون الحب في الله دافعاً للزيارة، ونتذكر دائماً حال الشخص الذي زار أخاً له في الله وسافر سفراً من أجله وتكبد المشاق، فكيف بنا اليوم وعندنا سيارات؟! لقد كان السلف الصالح يزورون إخوانهم مع ما في الزيارة من المشقة، والتعب، وكانت وسائل المواصلات على بهيمة الأنعام وغيرها، لكن الآن مع وجود السيارات، ووجود الهواتف التي سهلت الأمور، فمن الممكن أن تتصل وتحدد وقت الزيارة، لكن الزيارات أصبحت أقل، والقطيعة أكبر، كان مجتمعهم نظيفاً متماسكاً، ومجتمعنا فيه كثيرٌ من الأوساخ والقذارات والتقاطع والتدابر، والعلاقات والزيارات أصبحت زيارات مصالح، ولو تقاعد الرجل أو خسر ماله لما زاره أحد، وكانوا من قبل يزورونه دائماً، ويحضرون مجلسه لكن لما استقال، أو نقل من منصبه، أو فقد ماله ونحو ذلك، فإنه أصبح لا يزار، فالقضية قضية مصالح دنيوية.

الإفراط في كثرة الزيارات

الإفراط في كثرة الزيارات كان ابن الجوزي -رحمه الله- يشتكي من الذين يضيعون الأوقات، وهذا جانب مقابل؛ ونحن بين إفراطٍ وتفريط، ناس لا يزورون، وناس يزورون زيارات مملة مضيعة للوقت، فأما الطرف الأول فعرفنا تفريطهم، أما الطرف الثاني فإن من إفراطهم أنهم يأتون بغير موعد، والإتيان بغير موعد لا بأس به، والسلف لم يكن لديهم تلفونات كان يزور أخاه، فقد يصادفه في مسجد، قد يتواعد معه وقد لا يتواعد معه، لكن الفرق في ذلك: أن الرجل منهم إذا زار أخاً له واستأذن، وقال: السلام عليكم أأدخل مثلاً؟ فقيل له: ارجع، فيرجع بطيب نفس: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] والآن الشخص منا لو ذهب ليزور آخر، فاستأذن فلم يؤذن له، لا تجد أحداً يتجرأ ويقول له: ارجع أو يعتذر له، وإنما يستعمل الكذب بدلاً من أن يقول: يا أخي! ارجع: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] فتجده لا يقول: ارجع، ولكن يكذب، فربما يقول: قولوا له: هو غير موجود، أو أنا عندي موعد، أو أنا الآن خارج من البيت، وهو في البيت! فإذاً هناك إفراط في كثرة الزيارات وتفريط في عدم الزيارات، وهناك أناسٌ يتضايقون إذا لم يُسمح لهم بالزيارة، قال ابن الجوزي: أعرف أُناساً من البطالين -دائماً- يريدون أن يزوروني وأنا عندي تآليف وأشغال، فكنتُ أدافع اللقاء جهدي، أعتذر ما استطعت لأجل ما أنا فيه من العبادة أفضل من قضاء الوقت معهم، فإذا اضطررت وصرت أمام الأمر الواقع وهو أنهم لابد أن يزوروني كنتُ أعد الأشياء التي لا تحتاج إلى تفكير، من قطع الأوراق، وبري الأقلام ونحوها، فإذا زاروه ولابد ودخلوا عليه واقتحموه اقتحاماً فإنه ينشغل بهذه الأشياء التي تأخذ وقتاً ولا تحتاج إلى تفكير في مدافعة ومواجهة هؤلاء القوم. بعض الزوار لا يراعون الإشارات ولا التلميحات، فقد يريد صاحب البيت أن تنصرف من عنده، فيعطيك إشارة تلميح لكن بعض الزوار عقولهم سميكة، فلا يفهمون التلميح ولا التصريح. وبالنسبة للإحراجات التي تحصل بسبب عدم الإذن، فنقول: إن الهاتف وسيلة لتحديد الموعد ومعرفة الظروف والأحوال، أنك تتصل عليه إذا أردت أن تزوره، والمشكلة أن بعض الناس يعتبرون أنفسهم من الخصوصيين، ويظنون أنهم متى جاءوا في أي وقت فالباب مفتوح، والإنسان قد يكون له ظروف وانشغالات لا تسمح له باستقبال أعداد من الناس في أوقاتٍ مختلفة، وكل واحدٍ يظن نفسه أنه صاحب حق ومن المقربين، وفي أي وقت جاء فلا حرج عليه، وهكذا تحصل الإشكالات.

رفض الزيارة من بعض الناس

رفض الزيارة من بعض الناس ومن الأمور أيضاً: أن بعض الناس يرفضون الزيارة رفضاً قاطعاً، ويقولون: إن زيارة الناس لم تأتِ لنا إلا بالمشاكل، وإن البيت ما أصبح فيه المشاكل إلا بسبب الزيارات، لا تزور أحداً ولا يزورك، ولا تدخل بيت أحدٍ ولا تُدخله بيتك، قد يضعون لك سحراً، وقد يصيبونك بالعين أو يحسدونك أو نحوها. ونحن عندما ذكرنا أصناف الزائرين إنما نقصد بذلك: أن الإنسان ينتقي من يزوره بطبيعة الحال ولا يدخل أي أحد إلى بيته، لابد أن ينتقي من أهل الصلاح والعلم والفضل من يدخلهم بيته، ومن يدخل بيتهم هو.

عدم التوازن في استقبال الزائرين

عدم التوازن في استقبال الزائرين وبعض الناس يُبالغون في رد الأشخاص بشكلٍ سيئ من الباب ويطردونهم طرداً، فهذا أسلوب جاف لا يوجد اعتذار ولا كلام حسن، وبعضهم يكتب على باب غرفته كما شاهدناه في غرف بعض الطلاب يقول: خطر ممنوع الاقتراب! ونقول: إن التوازن أمر مهم ومطلوب، فالإنسان في أوقاتٍ يستقبل زيارات، وأوقات لا يستقبل زيارات، فالأوقات التي لا يستقبل فيها الزيارات يعتذر من الباب، أو يكتب على الباب. كذلك بالنسبة للمزورين منهم: من يكونون من العزاب كالطلاب والعمال والعسكريين فهؤلاء لهم مجمعات خاصة فظروف الزيارات لهم تختلف عن ظروف الزيارات لأصحاب العوائل؛ لأن أصحاب العوائل عندهم بيوت، وصاحب البيت عنده ارتباطات وأهل وزوجة، وذلك أعزب يدخل عليه، وذلك أسهل، هذا تزوره كل يوم، وهذا لا تستطيع أن تزوره يومياً مثلاً، فلابد من التفريق بين العزاب وأصحاب العوائل في الزيارات. كذلك بعض المجمعات السكنية مثل: مجمعات الطلاب وغيرهم، ففيه نوع من عدم الكلفة إلى حدٍّ ما، بحيث يمكنك أن تدخل غرفته، أما ذلك فهو في بيت عنده زوجة وأولاد فلا تستطيع أن تقتحم عليهم، فلابد من مراعاة الفوارق في الزيارات، وإذا كُنَّا في بعض الأوضاع لا نشعر بالكلفة للزيارة اليومية، أو أننا ندخل الغرف فإننا في المقابل يجب أن نشعر بتقدير ظروف الناس الذين عندهم عوائل وأولاد، هذا أولاده يذهبون إلى المدارس في الصباح، وزوجته لها حقٌ عليه فقد تكون مريضة وقد تحتاج إلى عناية، وهو يريد أن يشتري أغراضاً للبيت، بخلاف الطالب أو العسكري أو العامل فإنه يُدبر أمره ولو تأخر موعد غدائه أو عشائه، لكن أصحاب العوائل عندهم موعد معين للغداء أو العشاء يحب أنَّ أهله وأولاده ينتظمون، فهذا يُراعى في زيارته ما لا يُراعى الآخر، فلابد من التفريق بين العُزاب كما ذكرنا وأصحاب العوائل. كذلك بعض الناس قد يحتجون في عدم الزيارة بأعذارٍ تافهة، كأن يقول مثلاً: والله ما عندي وقت ويتعذر بزوجته وأولاده. وبعضهم يقول: الدراسة والامتحانات! الشاهد من هذا أن النهاية أنه لا يزور ولا يُزار، وبعضهم يزور ولا يُزار، يبلغ من لؤمه، ودناءة طبعه، وقلة ضيافته وبخله أنه يزور الناس لكن لا يريدهم يزوروه؛ لكيلا يتكلف لهم أو يقدم لهم شيئاً. وكذلك من الأمور الملاحظة في بعض الأوساط: أن منهم من لا يزور مطلقاً، ومنهم من يجعل بيته أو غرفته مثل القهوة، الناس داخلون خارجون، ووقته يذهب سُدى، والمهمات المطلوبة منه غير متحققة وهكذا.

اختصاص بعض بالزيارة دون بعض

اختصاص بعضٍ بالزيارة دون بعض ومن السلبيات في الزيارات: أن يختص بعض الناس بالزيارة دون بعض، مما يُوغر صدور الآخرين، فإنهم كلهم إخوانك في الله، لماذا تقصر الزيارة على فلان ولا تزور الآخر أبداً؟ نعم! إن علاقاتنا مع الأشخاص ليست متساوية، فهذا له في نفسه معزةً أكبر، وذاك علاقته به أعظم، والآخر الأشياء المشتركة بيني وبينه أكبر، لكني أزور أحدهم ولا أزور الآخر أبداً عندما نكون متقاربين، فهذا مما يُوغر الصدور، فأنت يمكن أن تزور الجميع لكن بأوقاتٍ متفاوتة تتناسب مع العلاقات معهم.

ترك التزاور بين الدعاة وطلاب العلم

ترك التزاور بين الدعاة وطلاب العلم ومن المؤسف! وهذا كلامٌ أوجهه إلى الدعاة إلى الله عز وجل أن هناك تقصيراً كبيراً في التزاور بين الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، والزيارة في الله عبادة، وليست مقصورة على قومٍ معينين أو فئةٍ معينة، الزيارة في الله عامة للجميع، وهناك كثيرٌ من الدعاة يقصرون في زيارة بعضهم بعضاً، وقد يكون هناك من الاجتهادات في الدعوة إلى الله ما تجعل أقواماً ينغلقون على بعضهم دون آخرين فلا يزورونهم، والزيارة حق إسلامي وحق شرعي، ونحن أمة واحدة. نعم! أنا قد أزور فلاناً أكثر لأن بيني وبينه روابط مشتركة كثيرة، لكن أترك إخواني في الله والدعاة الآخرين لا أزورهم، يجب أن تكون الزيارة في الله فوق الاختلافات والاجتهادات إذا كانت داخل دائرة الإطار المقبول الصحيح الشرعي المنهجي. يجب أن تكون الزيارة في الله، لا زيارة أهل البدع، والكفار والمنافقين والمشركين، لكن هؤلاء إخوانك في الله، فلا يجوز أن يفرق بينك وبينهم أي نوع من أنواع الاختلاف في الاجتهادات، بل ينبغي أن تزول هذه الحواجز التي تمنع الزيارات. صحيح أنك لا تتدخل في خصوصيات الآخرين، ولا تزور زيارة يُسَاءُ الظن بك فيها، لكن تنتقي الأوقات المناسبة لزيارة إخوانك في الله من الدعاة -جميعاً- مهما كانت مقاصدهم ما دام أنهم يسعون لخدمة الإسلام وهم على السنة وليسوا أصحاب بدع ولا ضلالات.

الزيارة المبنية على التعلق لا على الأخوة في الله

الزيارة المبنية على التعلق لا على الأخوة في الله كذلك من الناس من يزور أشخاصاً معينين تعلقاً بهم، وقد تصل العلاقة إلى درجة العشق والعياذ بالله! فزيارته ليست في الله، ولا ينطبق عليه حديث: (فأخذ يده لله) وإنما يزوره لغير الله، لما يحصل بينهما من التعلق المذموم أو العشق المحرم، فيخسر زيارته، ويكون أمراً معيباً ملاحظاً عليه أمام الآخرين، وقد يجعل حججاً واهية كالدراسة معه، أو تقديم الخدمات، أو أن هناك مشروعاً مشتركاً وهمياً بينهما، والمقصود منه فقط هو زيادة التعلق المذموم.

ضياع الأوقات في الزيارة

ضياع الأوقات في الزيارة وكذلك ما يحصل في الزيارات من ضياع الأوقات، والالتقاء لمجرد المؤانسة والمشاكلة مشاكلة الطباع، فهذا أمرٌ مذموم قد يندم عليه الإنسان يوم القيامة. وبعض الناس قد يزور إخوانه زيارة لا يحسب للوقت قيمة، فيجلس الساعات الطوال وأحياناً إلى ساعة متأخرة من الليل، وكذلك ما يحصل في الزيارات من الغيبة، خاصة فيما يتعلق بعيوب إخوانه غير الموجودين في المجلس، والناس عموماً، وكذلك ما يحصل من ضحك، ومزاح كثير، مما يؤدي إلى وقوع أمرٍ مذموم، وكذلك الزيارات التي يسهرون فيها إلى بعد منتصف الليل، فتضيع صلاة الفجر، وبعضهم له نفسٌ ثقيلة لا يتورع عن المبيت، أو المشاركة في الطعام، أو الحضور في وقت وجبة الغداء أو العشاء بدون موعد أو دعوة.

الزيارة والتدخل فيما لا يعني

الزيارة والتدخل فيما لا يعني وكذلك من السلبيات: ما يحصل من العبث في ممتلكاته الخاصة، كأن يُنكر على صاحبه في بيته أشياء من مسائل الاجتهاد، أو يستأثر بالكلام، أو يتدخل فيما لا يعنيه، أو لا يراعي ظروف المزور، كأن يكون عنده امتحاناتٌ أو أولادٌ أو وظيفة، وهذا عمله يبدأ الساعة الثانية ظهراً، يعمل على مراحل، أو على أوقات مختلفة، فهذا عمله الساعة الثانية ظهراً، وهذا عمله الساعة السادسة صباحاً، فيزور صاحبه ويجلس عنده إلى ساعة متأخرة في الليل، وهو عمله في الساعة الثانية ظهراً وليس عنده دوام في الصباح، فكيف تتأخر عنده إلى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

الزيارة الناجحة

الزيارة الناجحة الزيارة الناجحة لابد لها من أمور: الزيارة الناجحة تحتاج إلى إعداد مسبق تحديد موعد، أو ترك مجال للاعتذار إذا جئت بغير موعد، كأن تقول له: إن كنت منشغلاً فسوف آتيك فيما بعد، بحيث تترك له مجالاً، إذا كان منشغلاً يقول: نعم -يا أخي- أنا منشغل ونحدد وقتاً آخر، أما أن تقول: أنا جئت أزورك وأرجو ألا تعتذر؟ فنقول: هذا لا يعتبر من مكارم الأخلاق. ثم إن من أساسيات الزيارة الناجحة: إعداد جدول للزيارة ولو في الذهن، ماذا نريد أن نناقش في الزيارة؟ وما هي المواضيع التي نريد أن نطلقها؟ بعض الناس يذهبون للزيارة، فيتكلمون عن العمل، فإن كان موظفاً أسهب وأطنب هو وصاحبه في الكلام على الوظيفة ومشكلات الوظيفة والعمل، وصار هم العمل من الشركة والمصنع والمدرسة إلى مجلس التزاور فهذا لا ينبغي؛ لأن هذه زيارة عبادة ينبغي أن تُستغل في أشياء مهمة. وكذلك الزيارة لابد أن تتناقل فيها بعض الأخبار، سؤال عن الأحوال، الاطمئنان، ليس المقصود بالعبادة أننا نفتح القرآن ونقرأ، بل نذكر أخبار البلد، والاطمئنان على صحته وأحواله وأحوال أهله، وماذا حصل له من الحوادث والأشياء؟ ثم هناك أخبارٌ من العلاقات الاجتماعية تتداول، وأخبار عامة وسريعة، لكن لابد أن يكون في الزيارة الناجحة أشياء تستثمر ويستفاد منها مثل: فتح مواضيع إسلامية، أشياء من المشكلات التي تواجه كيف يكون حلها، قراءة في الكتب، وأرشح هنا بعض الكتب للقراءة منها إذا حصلت زيارة بأن تكون موجودة في مكتب المجلس وكما قلنا ليس هناك موضوع معين، يؤخذ الكتاب ويفتح ويقرأ منه أشياء، لابد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الله، فمن الكتب مثلاً: تفسير العلامة ابن سعدي رحمه الله، وحاشية كتاب التوحيد لابن سعدي رياض الصالحين، غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، السيرة النبوية الصحيحة لـ أكرم العمري، نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء، زاد المعاد، كتب ابن القيم وابن تيمية مباركة، الوابل الصيب، تهذيب مدارج السالكين الفوائد، كتب الشيخ: عمر الأشقر في العقيدة، ابن عبد البر ألف كتاباً اسمه بهجة المجالس وأنس المجالس، فيه آدابٌ وأخلاق، مختصر منهاج القاصدين، موعظة المؤمنين، صفة الصلاة وأحكام الجنائز للشيخ الألباني، فتاوى إسلامية للمشايخ عبد العزيز بن باز، ومحمد صالح العثيمين، وعبد الله بن جبرين، المجلات الإسلامية الهادفة. إذاً هناك أشياء ينبغي أن تكون في المجلس تستثمر فيها الزيارة بحيث تكون الزيارة ناجحة، ولا يزاد فيها عن الموعد المحدد، لأن بعض الناس يقول: يا أخي! نجلس فقط نصف ساعة، ثم يجلس ساعتين فيتعدى الموعد بساعة ونصف.

زيارة النساء للنساء

زيارة النساء للنساء أما بالنسبة للزيارة بين النساء، فهذه لها شأنٌ خاص، لكن هناك ملاحظات سريعة: نقول: زيارة النساء للنساء أمرها مطلوب، وليست مطلوبة مثل الرجل؛ لأن المرأة مطالبة بالقرار في بيتها، لكن لو حصلت مناسبة ما فلا مانع من الزيارة، بشرط ألا تكون متطيبة ولا متزينة بحيث يرى زينتها الرجال، وألا تختلي مع أجنبيٍ كالسائق، وألا تذهب إلى الغيبة والنميمة والكذب وضياع الأوقات، وتهمل أطفالها وأولادها وحقوق زوجها بحجة الزيارة، وألا تترك أولادها يعبثون في بيت صاحبتها. والآن نرى إذا كان هناك بعض الأسئلة المهمة.

الأسئلة

الأسئلة

توجيه للاستفادة من الرحلات الترفيهية

توجيه للاستفادة من الرحلات الترفيهية Q نحن مجموعة من الإخوان نشاهد بعضنا كل أسبوع أو أسبوعين في رحلة أو غيرها، لكن لا يتخلل هذا الشيء ذكر الله، وقد تكون منفعتنا معدومة، والرحلات فيها ضحك وكلام مباح ولعب. A يا أخي! اجعلوا في هذه الرحلة أشياء مفيدة، فأنتم عرفتم بأنفسكم الخلل فأصلحوه.

من أحكام صوم النافلة عند وجود ضيف

من أحكام صوم النافلة عند وجود ضيف Q إذا كنت صائماً وأتاني صديق وعلاقتي به قوية، فهل أُفضل الصيام أو تقديم الأكل له مع الأكل معه؟ A إذا كان لا يستوحش من عدم أكلك معه فابق على صيامك، وإذا كان يستوحش أو أنك تسبب مزيداً من المؤانسة له والمحبة فأفطر من أجله ولا بأس بذلك.

أهمية الصلاة عند الزيارة

أهمية الصلاة عند الزيارة Q هل أنتظر الاستئذان على حساب الصلاة؟ A لا، لابد من الصلاة ثم بعد ذلك الاستئذان.

تنظيم زيارات جماعية لغرض الدعوة إلى الله

تنظيم زيارات جماعية لغرض الدعوة إلى الله Q نريد أن نشارك مجموعة من طلبة العلم في زيارات الناس والحي ويكون فيها دعوة إلى الله سبحانه وتعالى. A هذا مهم جداً، فلو كان في الأحياء مثل هذه اللجنة من الشباب المصلين في المسجد يتولون زيارة الجيران، ومن لا يصلي في المسجد يقومون بدعوته إلى الصلاة في المسجد وغيرها، يكون فيه خيرٌ عظيم، وقضية الزيارة ما نبَّه الشرع عليها وأكد إلا لما فيها من منافع عظيمة وجليلة جداً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، والمتزاورين فيه، والمتجالسين فيه. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

آداب قضاء الحاجة [1، 2]

آداب قضاء الحاجة [1، 2] إن من كمال الشريعة الإسلامية وإتمامها أن الله سبحانه وتعالى بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل شيء، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وإن من الآداب السامية التي لا توجد في أي شرعة أو ملة، ما علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام من كيفية قضاء الحاجة وآدابها، وما يجوز لنا فيها وما لا يجوز، وقد ذكر الشيخ آداب قضاء الحاجة في هذه الرسالة الطيبة المباركة، مستدلاً على ذلك بالأحاديث وأقوال أهل العلم.

كمال الشريعة والأدب في الإسلام

كمال الشريعة والأدب في الإسلام الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: نتحدث في هذه الليلة وفي هذه السلسلة؛ سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية عن أدب يدل على كمال هذه الشريعة وحسنها، وأنها لم تترك شيئاً إلا وأوردت فيه آداباً وأحكاماً ليدل ذلك على قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فالكمال والجمال في هذه الشريعة من سماتها، والحمد لله على نعمته. ومن عظمة هذه الشريعة المباركة أنها ما تركت خيراً في قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلت عليه، ولا شراً في قليل ولا كثير إلا حذرت منه ونهت عنه؛ فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك دهشة غير المسلمين وإعجابهم بهذا الدين، حتى قال أحدهم لـ سلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وهو في صحيح مسلم وغيره. وقضاء الحاجة: هذا الاسم من الأدلة على الأدب في الشريعة، فإنه ذكر كنايةً عن خروج البول والبراز، ولا شك أن هذا الاسم -قضاء الحاجة- ألطف وأحسن وأجمل، والأدب في مثل هذا واضح في القرآن والسنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] فلم يسم الخارج باسمه البشع، وإنما كنى عنه بهذه العبارة فقال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] والغائط: هو المطمئن من الأرض المكان النازل من الأرض مستوى هابط من الأرض، فقد كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستر، فكني به عما يخرج من السبيلين. ولذلك فإنه لا فحش ولا بذاءة في هذه الشريعة بخلاف ما يستعمله كثير من الناس في ألفاظهم ومجالسهم من أنواع البذاءات والفحش، فنقول: حتى هذه العملية وهي خروج هذه النجاسات سميت بهذه الأسماء من باب الأدب، وقيل: قضاء الحاجة، مع أن الحاجات كثيرة، لكن صار علماً أو رمزاً على إخراج النجاسة من السبيلين. وقد ورد في هذه الشريعة عدة آداب وأحكام لهذا الأمر، ومن ذاك:

عدم استقبال القبلة

عدم استقبال القبلة أولاً: عدم استقبال قبلة الصلاة عند البول والغائط، والقبلة: هي جهة الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، فإن من احترام المسلمين لقبلتهم، وتعظيمهم شعائر الله ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها ببول أو غائط، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها). أما بالنسبة للخلاء، أو الصحراء، والفضاء، والمكان المفتوح، فإنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، لكن قد حصل خلاف في البنيان، هل يجوز استقبال القبلة أو استدبارها في البنيان؟ فذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: بأن النهي خاص بالأماكن المكشوفة والمفتوحة كالفضاء والصحراء، وأما في البنيان فلا. وقال بعضهم: النهي عام، وفرق بعضهم بين البول والغائط إلى آخر ذلك من الأقوال المشهورة والمعروفة في هذا الموضوع، ولذلك الأحسن للإنسان -وهذه من الأمور المهمة- الذي يريد أن يصمم بيتاً أن ينتبه حتى يكون المكان المعد للجلوس لقضاء الحاجة في بيته ليس إلى جهة القبلة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في المدينة: (شرقوا أو غربوا) ونحن نقول في هذا المكان: اتجهوا شمالاً أو جنوباً، بحسب الموقع: أين أنت من مكة؟ وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من مراعاتهم لهذا لما دخلوا بلاد فارس والشام والفتوحات وجدوا المراحيض إلى جهة مكة فقال بعضهم: [فكنا ننحرف ونستغفر الله]. فلو أنه أراد أن يحتاط حتى في البنيان يمكن أن ينحرف ويستغفر الله.

ألا يمسك ذكره بيمينه حال البول

ألا يمسك ذكره بيمينه حال البول ومن الآداب كذلك: ألا يمس ذكره بيمينه وهو يبول، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه) رواه البخاري، وحيث أن اليد اليمنى تجعل للأمور الحسنة والطيبة فليس من المناسب إذاً أن يكون هذا المس باليمنى، ولو احتاج إليه فإنه يكون عند الحاجة باليسرى.

ألا يستنجي بيمينه

ألا يستنجي بيمينه ثالثاً: ألا يزيل النجاسة بيمينه، ليس فقط ألا يمس الموضع أو العورة باليمنى، ولكن لا يزيل النجاسة باليمنى، بل يستخدم شماله لمباشرة النجاسة في إزالتها لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يستنجي بيمينه) رواه البخاري. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه) رواه البخاري، ولما روت حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه واستياكه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك) رواه الإمام أحمد رحمه الله، وهو حديث صحيح، وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه، ليستنجي بشماله).

الجلوس عند قضاء الحاجة

الجلوس عند قضاء الحاجة رابعاً: والسنة أن يقضي حاجته جالساً وألا يقضيها واقفاً، وأما البول فإن الأصل في فعله عليه الصلاة والسلام والأكثر والأشهر هو أنه كان عليه الصلاة والسلام يقعد عند قضاء حاجته، وأما بالنسبة للوقوف عند البول فإن هناك بعض الأحاديث والآثار التي وردت فيه، أما بالنسبة لنهي صريح مرفوع عن البول قائماً فلا دليل له، وقد جاء عن ابن مسعود: [من الجفاء أن تبول وأنت قائم] وكان سعد بن إبراهيم من السلف لا يجيز شهادة من بال قائماً، وحديث عائشة: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً). قال الترمذي: هذا أصح شيء في الباب. وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي وابن عمر وزيد وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة، وروى حذيفة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري. أتى سباطة قوم، أي: موضع رمي القمامة. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أن يكون في موضع لم يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه؛ والمأبض: باطن الركبة من كل حيوان، فكان هناك جرح أو علة فما استطاع أن ينثني فبال قائماً، ولكن هذا الحديث الذي أشاروا إليه في قضية المأبض حديث ضعيف ليس بصحيح، فقد رواه الخطابي في معالم السنن، والحاكم والبيهقي، ولكن هناك من هو أعلى من الخطابي، لأن كتاب المعالم للخطابي من الشروح، وقد أورد فيه سنده ولكن عند العزو يعزى إلى مثل: الحاكم والبيهقي، وفي هذا الحديث رجل يقال له: حماد؛ وهو ضعيف، والحديث قد ضعفه الدارقطني والبيهقي وأقر ذلك ابن حجر. أما رواية ابن مسعود: [من الجفاء أن تبول قائماً] فإن الترمذي قد رواه في سننه، وعلقه أحمد شاكر فقال: وهذا الأثر معلق بدون إسناد، وقال المباركفوري: لم أقف على من وصفه، وقد تتبع الشيخ: ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل طرقه وجمعها، فقال في رواية ابن مسعود: [أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله] يقول الألباني: هذا صحيح عن ابن مسعود موقوفاً، وقد رواه ابن أبي شيبة، وأما مرفوعاً: [ثلاث من الجفاء] فإن هذا الحديث ضعيف ومنكر، ولا يثبت مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: قال بعضهم: إن العلة في بوله عليه الصلاة والسلام قائماً -ما دام أنه قد ثبت في البخاري أنه بال مرةً قائماً- لعدم التمكن من البول، وقيل: ليبين الجواز. ولا شك أن العلة ما دامت أنها لم تثبت فبقي أنه يريد أن يبين الجواز، أو لم يتمكن من الجلوس في موضع القمامة. الخلاصة: لا بأس عند الحاجة أن يبول الشخص قائماً بشرط: أن يأمن عود رشاش البول عليه، وأن يأمن تلويث ملابسه، فإذا أمن تلويث الملابس والجسم فلا بأس أن يبول قائماً، لكن الأفضل البول قاعداً، لماذا؟ أولاً: لأنه أستر. ثانياً: لأنه آمن من ارتداد رشاش البول عليه وتلويث بدنه وثيابه. فلذلك الأفضل البول قاعداً.

ألا يرفع ثوبه إلا بعد الدنو من الأرض

ألا يرفع ثوبه إلا بعد الدنو من الأرض خامساً: من آداب إرادة قضاء الحاجة: أن لا يرفع ثوبه إلا بعد أن يدنو من الأرض، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض). رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وإذا كان في مرحاض ونحوه فلا يرفع ثوبه إلا بعد إغلاق الباب وتواريه عن أعين الناظرين، فما يفعله بعض الكفرة ومن قلدهم من أبناء المسلمين من التبول وقوفاً في بعض المحلات المكشوفة داخل بعض المراحيض العامة مما هو موجود في المطارات وغيرها هو أمر منافٍ للأدب والحشمة والحياء والأخلاق الفاضلة، وتقشعر منه أبدان أصحاب الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، وهو أمر منكر شرعاً وحرام، إذ كيف يكشف الشخص عن عورته أمام الناس الغادي منهم والرائح التي جعلها الله بين رجليه ستراً لها، وأمر بتغطيتها، واستقر أمر تغطيتها عند جميع عقلاء البشر؟! ثم إنه من الخطأ أصلاً أن تبنى المرافق بهذا الشكل المشين الذي يرى مستعملوها فيها بعضهم بعضاً وهم يبولون متخلفين في ذلك عن البهائم التي من عادتها الاستتار عند التبول والتغوط.

الاستتار عن أعين الناس

الاستتار عن أعين الناس سادساً: أن يستتر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة بالبعد إذا لم يكن ثمة مراحيض تغلق أبوابها. (وقد كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخلٍ). والهدف: هو المرتفع من الأرض، وحائش النخل: هو البستان، وإذا كان الإنسان في الفضاء كأن يخرج الإنسان -مثلاً- إلى الساحل أو الشاطئ فيريد أن يقضي حاجته، وليس هناك لا حائش نخل، ولا مرتفع والأرض مستوية، فماذا يفعل؟ إذا كان عنده شيء يتوارى خلفه كسيارة ونحوها فعل ذلك، وإلا فينبغي له أن يبعد عن أعين الناظرين؛ وذلك بأن يمشي إلى مكان بعيد عن الناس، لما روى المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فأبعد في المذهب). أي: ذهب بعيداً، رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن عبد الرحمن بن أبي قرادن قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة أبعد). رواه النسائي وهو حديث صحيح.

الاهتمام بإزالة النجاسة

الاهتمام بإزالة النجاسة سابعاً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: الاعتناء بإزالة النجاسة بعد الفراغ من قضاء الحاجة، لقوله صلى الله عليه وسلم محذراً من التساهل في التطهر من البول: (أكثر عذاب القبر من البول). رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).

أن يوتر بثلاث مسحات أو أكثر

أن يوتر بثلاث مسحات أو أكثر ثامناً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: أن يكون مسح النجاسة ثلاثاً فما فوق، وأن يكون وتراً، بحسب ما تدعو إليه حاجة التطهير، فإذا لم تكف ثلاث فخمس مسحات أو سبع أو تسع، لما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً، قال ابن عمر: فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً). حديث صحيح، رواه ابن ماجة رحمه الله. ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً). رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني في: صحيح الجامع إذن يقطع على وترٍ.

ألا يستجمر بروث أو عظم

ألا يستجمر بروث أو عظم تاسعاً: من الآداب أيضاً: ألا يستعمل العظم ولا الروث في الاستجمار؛ والاستجمار: هو إزالة النجاسة بالمسح، والاستنجاء: هو إزالة النجاسة بالغسل. ولا يستعمل العظم ولا الروث للاستجمار وإنما يستعمل الحجارة والمناديل ونحو ذلك، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ قال: أنا أبو هريرة، قال: أبغني أحجاراً أستجمر بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى إذا وضعتها بجنبه ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟! قال: هما من طعام الجن). رواه البخاري رحمه الله تعالى.

ألا يتخلى في طريق الناس أو ظلهم

ألا يتخلى في طريق الناس أو ظلهم عاشراً: من آداب قضاء الحاجة كذلك: ألا يبول في طريق الناس، ولا في ظل يستظل به؛ لأن في ذلك إيذاء للمسلمين، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم). رواه أبو داود، وفي رواية: (اتقوا الملاعن). والملاعن مواضع اللعن، جمع ملعنة، مثل: مقبرة، ومجزرة، موضع القبر وموضع الجزر. وأما اللعانان في رواية مسلم: فهما صاحبا اللعن، أي: الذين يلعنهما الناس كثيراً. وفي رواية أبي داود: (اللاعنين). معناه: الأمران الجالبان للعن، لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فإذا جاء واحد يجلس في الظل فرأى نجاسة فإنه يلعن من فعلها، أو مسافر نزل على الطريق فرأى شجرة مثمرة تحتها نجاسة. إذاً الأماكن التي يستريح فيها الناس لو فعل فيها مثل هذا لعنه الناس، فلما صار سبباً في اللعن أضيف الفعل إليهما. وقد يكون اللاعن بمعنى: الملعون على تقدير: اتقوا الملعون فاعلهما. ما المقصود بموارد الماء؟ أي طرق الماء، واحدها مورد، وأما الظل فهو مستظل الناس الذي يدخلونه مقيلاً وملتقى ويقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يستتر بحائط نخل، وللحائط ظل بلا شك، ولكن المقصود: الأماكن التي يجلس فيها الناس في الظل، وهناك ظلال لا يجلسون فيها، فالمقصود: الظلال التي يستظل الناس فيها ويجلسون فيها. وكذلك قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التغوط في قارعة الطريق، فقال: (إياكم والتعريس على قارعة الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن). إذاً: ليس على الطريق وليس في مكان نزول الناس، ولا على الرصيف، ولا في الظل الذي يوجد فيه الناس، ولا تحت الأشجار المثمرة حيث يقعد الناس، ولا في موارد الماء التي يستقي منها الناس. وما هو العامل المشترك في هذه كلها؟ A الأماكن التي للناس فيها فائدة.

ألا يسلم على من يقضي حاجته ولا يرد السلام

ألا يسلم على من يقضي حاجته ولا يرد السلام حادي عشر: من آداب قضاء الحاجة: ألا يسلم على من يقضي حاجته، ولا يرد السلام وهو في مكان قضاء الحاجة، أما بالنسبة لعدم التسليم فقد جاء عن جابر بن عبد الله أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح.

ألا يبول في الماء الدائم ولا يتغوط في الماء الجاري

ألا يبول في الماء الدائم ولا يتغوط في الماء الجاري ثاني عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه لا يجوز البول في الماء الدائم (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد). متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان الماء كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه هذا، بالنسبة للماء الراكد. وأما الماء الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، فإن قال قائل: فالبول فيه؟ إن بال فيه وهو كثير بحيث لا يؤثر فيه البول فلا بأس؛ لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليلٌ على أن الجاري بخلافه، وبناءً على ذلك فلو بال في البحر فلا حرج عليه، فهذا لا ينجسه شيء ولا يؤذي أحداً، لكن لا يتغوط على الساحل، أو في المكان الذي يدخل فيه الناس للبحر يمشون، بل إنه يبعد ويحذر لنفسه ويقضي حاجته. والنهي عن البول في الماء الراكد الأصل فيه أنه للتحريم، وقد ذهب إلى ذلك عدد من أهل العلم وحرموا التغوط في الماء القليل أو الكثير الراكد، أو الجاري؛ لأنه يقذره ويمنع الناس من الانتفاع به؛ وهذا مذهب الحنابلة. وإذا قلنا ذلك: فمن باب أولى أن قضاء الحاجة في المسجد حرام؛ لأنه لا بد من صيانتها وتنزيهها وتكريمها لأنها أماكن للعبادة والدليل حديث الأعرابي المعروف. وقد ذكر ابن الحاج رحمه الله في كتابه: المدخل للبدع، من بدع الاحتفال بالإسراء والمعراج ونحو ذلك، قال: احتشادهم الساعات الطوال في المساجد مع النساء وربما إذا احتاجوا إلى قضاء الحاجة قضاها بعضهم في المسجد في الخلف. طبعاً: هذا من المنكرات الكبيرة. وقد ذكر بعضهم مسألة قضاء الحاجة بالكنيسة وبيع اليهود، فقالوا: إذا كان هذا يؤدي إلى أن يفعلوه في مساجدنا انتقاماً من مسلم فعله عندهم فلا يفعلوا ذلك، كما أننا نهينا أن نسب آلهة الكفار لئلا يسبوا الله عدواً بغير علم، وأيضاً من جهلهم إذا سببنا آلهتهم يسبون الله عز وجل.

أن يرتاد لبوله موضعا رخوا

أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً ثالث عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه يستحب أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً لئلا يصيبه رشاش البول، وقد ورد في ذلك حديث رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتبول فأتى دمثاً في أصل حائط فبال، ثم قال: (إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله). يتخير مكاناً مناسباً، وهذا إن كان ضعيفاً فإن المعنى صحيح؛ وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبول فلا يبل على شيء صلب؛ لئلا يرتد عليه، بل يأتي إلى مكانٍ رخوٍ لئلا يرتد عليه، وبعض الأحيان تجد سطح الأرض خشن صلب لكن إذا ضربته برجلك ظهر التراب الذي تحته فتحول إلى موضع رخوٍ فيمكن أن نعالجه وهكذا.

ألا يبول في مستحمه

ألا يبول في مستحمه رابع عشر: من آداب قضاء الحاجة: أن على الإنسان ألا يبول في مستحمه، وقد ورد في ذلك حديث عند أبي داود وابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه). وفي رواية: (لا يبولن أحدكم في مستحمه). وهذا حديث صحيح، فما معنى المستحم؟ وما المقصود بهذا الحديث؟ أما بالنسبة للمستحم، فقد قال الخطابي رحمه الله: المستحم هو المغتسل، وهو مشقق من الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به. قال النووي رحمه الله: واتفق أصحابنا أن المستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لئلا يترشش عليه وهذا في غير الأخلية المعدة، أو المتخذة لذلك؛ أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه؛ لأنه لا يترشش عليه، ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة. وقال بعض العلماء: ألا يستنجي بالماء في موضعه. إذاً: هم قالوا: إذا تبول في مكان، أو تغوط في مكان يزحف قليلاً حتى إذا صب الماء أثناء الاستنجاء لا يصيبه من النجاسة التي صارت في الأرض مثلاً، وإذا أراد أن يغسل عورته، أو يغسل مكان قضاء الحاجة لا تصيب النجاسة المجتمعة في الأرض يده مثلاً، فالمقصود من كل القضية: ألا يرتد عليه شيء من النجاسة، واتقاء الوسواس؛ لأنه قد ورد عند أبي داود: (ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه). فإذا كان لا يرتد فلا بأس بذلك، وينبغي أن تجعل أماكن قضاء الحاجة في المراحيض بحيث تحقق هذا الغرض؛ وهو عدم ارتداد النجاسة على الذي يقضي الحاجة. وهنا سؤال قد طرحه بعض الإخوان فيما سبق وتوجهنا به إلى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، يقول Q هل التبول في حوض الاستحمام -البانيو- أثناء الاستحمام يدخل في حديث النهي عن البول في المستحم؟ أم لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل؟ A لا. لا يدخل لأنه إذا بال فسوف يصب عليه الماء ثم يزول البول، لكن لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه، ولو قدر أن الإنسان حضره التبول أثناء الاستحمام يتوقف عن الاستحمام حتى يبول ويريق عليه الماء، فإذا كان يوجد أي وسيلة للوسوسة فيجتنب الإنسان ما يؤدي إلى الوسوسة. وقد ذكر بعض الفقهاء الاعتماد في التبول على الرجل اليسرى، وقالوا: ويعتمد في حال جلوسه على الرجل اليسرى كما قال ابن قدامة في المغني لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى). رواه الطبراني في المعجم، يقول ابن قدامة معللاً: ولأنه أسهل لخروج الخارج. لكن هذا الحديث إذا كان ضعيفاً ماذا نفعل؟ ننظر في المعنى، وقد قال النووي رحمه الله في المجموع: هذا الحديث ضعيف رواه البيهقي عن رجل عن أبيه عن سراقة قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى). قال: وهذا الأدب مستحب عند أصحابنا، واحتجوا فيه بما ذكره المصنف، وقد بينا أن الحديث لا يحتج به فيبقى المعنى ويستأنس بالحديث, والله أعلم. المعنى الذي ذكروه قد يكون نتيجة تجربة، والحديث الآن ضعيف قالوا: إنه إذا استند على الرجل اليسرى ومال على الجانب الأيسر صار أسهل لخروج النجاسة، وقد ذكر ابن قدامة -هذا الكلام كما قلنا- أنه أسهل، وكذلك ذكر بعضهم هذه القضية، وعلل ذلك بأن المعدة في الجانب الأيسر فيكون الاتكاء على اليسار أسهل في الخروج وخصوصاً الغائط، لكن على أية حال المسألة كما رأينا ما دام حديثها ضعيفاً فهي على راحة الإنسان، إذا وجد أنه في قضاء الحاجة أكثر راحة له فالحمد لله يفعل ذلك، والمقصود: اتباع ما يسهل عند قضاء الحاجة، أن يكون الخروج سهلاً؛ لأنه أحياناً إذا خرج بتعسف آذى الشخص، وهناك أناس يصابون بآفات عظيمة جراء قضية التعسف عند قضاء الحاجة، وعدم اتباع الوسيلة الميسرة في ذلك، أو الوضع الميسر في ذلك.

أن يذكر الله قبل أن يدخل الخلاء

أن يذكر الله قبل أن يدخل الخلاء خامس عشر: من آداب قضاء الحاجة: ذكر الله عز وجل قبل أن يدخل الخلاء، فماذا يقول قبل أن يدخل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله) (وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الكنيف قال: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وكان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك). فأما بالنسبة للبسملة فقد عرفنا فائدتها، فيأتي بها الإنسان في أي موضع، أو في أي عمل، والسنة أن يأتي بها قبل الشروع في أي عمل، وهنا فائدتها أنها تمنع الجن من النظر إلى عورات الآدميين؛ لأنه لا بد أن يكشف العورة عند قضاء الحاجة. والمراحيض ومواضع النجاسات من الأماكن التي يغشاها الجن، فإذا كانوا يغشون هذه الأماكن والإنسان سوف يدخلها فإنه يحتاج إلى التسمية لكي يستتر منهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وقوله: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) لو قلت: الخبْث فإنه مصدر معروف، أما الخُبُث والخبائث فالمقصود: ذكران الشياطين وإناثهم، جمع خبيث وخبيثة: خُبُث وخبائث. فإذاً: الشياطين لهم ذكور وإناث، وقد يكون في هذا المكان من هذا الجنس أو من هذا الجنس، إذن يستعيذوا من شرهم أيضاً؛ لأنهم قد يكون لهم شر بحيث أنهم يغشون هذه الأماكن يخيفون، أو يصرعون، أو يدخلون ونحو ذلك، فقول هذا الدعاء يفيد في معالجتهم أو كف شرهم وأذاهم. وعند الخروج يقول: (غفرانك) ما علاقة (غفرانك) بالخروج؟ قال بعض العلماء: الوجه في سؤال المغفرة أنه جرى منه عليه الصلاة والسلام على عادته إذ كان من دأبه الاستغفار في حركاته وسكناته وتقلباته حتى إنه ليعد له في المجلس الواحد مائة مرة، وإنه لما كان خروج الأخبثين -هذه ملاحظة ذكرها بعضهم- بسبب خطيئة آدم، يعني: عندما كان آدم عليه السلام في الجنة لم تكن هناك نجاسة تخرج {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22] وصارت هذه المعصية سبب الهبوط إلى الأرض وصار غائط وبول. فيذكر العبد نفسه بهذا الاستغفار ما حدث بسبب الخطيئة، وأن العبد لا يخلو من الخطيئة حينئذٍ، وأن هناك ارتباطاً بين الخطيئة التي حدثت وبين خروج النجاسة من الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمد لله الذي أذهب عني أذاه وأذاقني لذته) وفي رواية: (وأذهب عني مشقته). ما هو الأذى؟ هذا الذي يخرج من الإنسان، والمشقة الحاصلة بسبب مكثك، فخروج الغائط نعمة تستوجب الشكر، والإنسان يهمل ويقصر فيذكر نفسه بالدعاء والمغفرة: (غفرانك) غفرانك على التقصير، غفرانك من كل شيء، فهو يسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة أو يطلب منه المغفرة، وقد تكون هذه الأماكن مدعاة أيضاً للوقوع فيما يحرم من التذكير بأمور السوء ونحو ذلك.

اتقاء اتجاه الريح

اتقاء اتجاه الريح سادس عشر: ذكر بعضهم من آداب قضاء الحاجة اتقاء مهابَّ الريح، الأماكن التي لها منفذ يدخل الهواء من موضع ويخرج من موضع مخافة أن يرتد بوله عليه؛ وهذا يعود إلى المسألة المذكورة في قضية عدم الارتداد والرشاش، فإذا كان يريد أن يقضي حاجته في الفضاء -كالصحراء- وأراد أن يبول، إذا كان الهواء قوياً وهو يبول في اتجاه هبوب الهواء سيرجع عليه وعلى ثيابه، فإذا جعل نفسه في الاتجاه المعاكس عند ذلك تذهب النجاسة أو هذا البول مع الريح ولا يرتد عليه، فمن ذكرها أراد مراعاة هذا المعنى.

أن يلبس حذاءه حتى لا تتنجس رجلاه وألا يطيل في الخلاء

أن يلبس حذاءه حتى لا تتنجس رجلاه وألا يطيل في الخلاء سابع عشر من آداب قضاء الحاجة: أن يلبس حذاءه لئلا تتنجس رجلاه؛ وهذا أيضاً معناه واضح. وذكر ابن قدامة -أيضاً- رحمه الله: ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة؛ لأن ذلك يضره، وقيل: يورث الباسور، وقيل: يدمي الكبد، وعلى أية حال إذا كان التطويل له أضرار طبية مرجعه إلى الأطباء، لكن هناك علة واضحة: قضية الوسوسة، وقضية إيذاء المنتظرين، وقضية منع ما تسول به نفسه من فعل أي معصية، فالتطويل في المراحيض ليس بمحمود، وكثير من الناس يصابون بالوسوسة من جراء هذا التطويل، فإنه يجلس ويغسل ويغسل ويعيد ويتنحنح ويقفز ويفعل أشياء وحركات عجيبة ويحتشي وليس هذا في الشرع على الإطلاق. إذاً هذا التطويل مفتاح لباب الوسوسة، وفيه إيذاء للمنتظرين وخصوصاً في المراحيض العامة بل حتى في بعض البيوت، وكذلك عدم التطويل فيه قطع للنفس عما يمكن أن توسوس به أو تسول من المعاصي.

اجتناب ذكر الله

اجتناب ذكر الله ثامن عشر: من آداب قضاء الحاجة: اجتناب ذكر الله في هذا الموضع، ومما يدل عليه حديث الامتناع عن رد السلام المتقدم؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم رد السلام على الرجل الذي سلم عليه فإنه يكون قد ذكر اسم الله في الخلاء، وهذا يمنع؛ لأن ذكر الله ينزه أن يكون في مواضع النجاسات وأثناء هذه الحال، فلا يذكر الله تعالى إلا بقلبه، وأما أن يذكر بلسانه فلا، وكذلك إذا عطس حمد الله في قلبه، وإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه السلام. إن قال قائل: إذا ذهبت إلى الخلاء في الصحراء، فالمكان الذي سوف أقضي فيه الحاجة هو المكان الذي ستكون فيه النجاسة إلخ، إذاً لن أقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، فذكر ابن دقيق العيد رحمه الله في الإحكام: التفريق بين الموضع المعد لقضاء الحاجة وبين الموضع غير المعد لقضاء الحاجة، فقال: إذا كان الموضع معداً لقضاء الحاجة أصلاً فلا يذكر الله فيه، فهذا نهينا عن ذكر الله فيه، وأما إذا كان الموضع ليس معداً لقضاء الحاجة -كالصحراء- فأنت الآن تريد أن تقضي حاجتك، فهل يسمى المكان قبل أن تقضي فيه حاجتك مرحاضاً؟ لا. إذاً لا بأس أن تذكر الله فيه، ثم تنزل لقضاء الحاجة، وبذلك يزول الإشكال، والله أعلم. أما مسألة الكلام في الخلاء: فقد ذهب جمهور العلماء إلى ترك الكلام في الخلاء وعدوه من الآداب. وأورد بعضهم حديث أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك). الحديث هذا رواه أبو داود، لكنه ضعيف، لكن من جهة المعنى: فإن أمور قضاء الحاجة مبنية على الستر، والكلام ينافي الستر، وكذلك أمور قضاء الحاجة أن الإنسان يقضي حاجته ثم يخرج وليس هذا مكان أحاديث، وكذلك فإن الكلام -أيضاً- ربما أدى إلى مسألة الإطالة، ثم إن هذا مكان قذر ومكان تأنف منه النفوس الطيبة، فكيف يجعل مكان حديث واستئناس ومبادلة بالكلام مع غيره؟ لكن لو احتاج كرجل طرق الباب يريد أن يتأكد هل يوجد أحد أم لا، فتنحنح الشخص الذي في داخل دورة المياه فلا بأس. وكذلك قالوا: لو كان كلامه سينقذ أعمى من الوقوع في بئر ونحو ذلك للحاجة فلا بأس أن يتكلم في الخلاء للحاجة، أو أراد مثلاً أن يناوله شيئاً من منشفة أو غيرها وهو لا يتمكن من الخروج، أو نفذ الماء أو أي شيء من الأشياء التي لها حاجة، فإذا صار الكلام لحاجة فلا بأس أن يتكلم.

وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله الخلاء

وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله الخلاء تاسع عشر: من آداب قضاء الحاجة: وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله ما لم يخش عليه، فإذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر لله تعالى استحب له أن يضعه، وأما بالنسبة لحديث أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه). الذي رواه ابن ماجة وأبو داود، فقد قال أبو داود: هذا حديث منكر، وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه محمداً رسول الله ثلاثة أسطر؛ يعني: محمد في سطر، ورسول في سطر، ولفظ الجلالة (الله) في سطر، وإذا أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس، قال أحمد رحمه الله: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء. وقال عكرمة: اقلبه هكذا في باطن كفك واقبض عليه. ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين، وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو ألا يكون به بأس. لأن اسم من ضرب الدراهم وصك النقود كان لا يخلو من مثل: المستعصم بالله، والمتوكل على الله، وما شابه ذلك، فهو لا يخلو من وجود لفظ الجلالة، فماذا نفعل عند ذلك؟ لو قلنا: ضع المال خارج دورة المياه لسرق، وسرقة النقود أو ضياعها مفسدة كبيرة، فالشرع لا يأمر بأن تضع نقودك إذا كنت تخشى عليها، وكذلك ما مع الإنسان في المحفظة وغيرها مما قد يكون فيه ذكر لله عز وجل من الإثباتات والأوراق فإنه إذا لم يجد مكاناً مأموناً وضعها معه داخل الجيب وهي ليست مفتوحة. وكذلك ورد في أسنى المطالب: ويكره عند قضاء الحاجة حمل المكتوب للقرآن، يقول: قلت: الوجه تحريم اصطحاب المصحف ونحوه من غير الضرورة؛ لأنه يحمله مع الحدث ويعرضه للأذى ولما فيه من عدم توقير القرآن، ويحمل كلامهم على ما لم يحرم على المحدث حمله كالدراهم والخاتم وما تعم به البلوى. إذاً ينتبه الإخوان الذين يحملون المصاحف ألا يدخلوا بها إلى الخلاء، بل يضعوها في خانة. لكن لو أنه نسيه ودخل فتذكر قبل الشروع في قضاء الحاجة فإنه يخرج ويتركه في مكانٍ خارج الخلاء وإذا لم يتذكر إلا بعد شروعه فإنه قطع حاجته فيه أذى وضرر عليه، فلذلك لو أنه أبقاه في جيبه وأسرع بالخروج فليس له مندوحة، أو قد لا يكون له طريقة أخرى فلعله إن شاء الله لا يأثم؛ لأنه لم يكن متعمداً إدخال المصحف، ثم إنه قد يضره أن يقطع حاجته ويخرج.

تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج

تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج عشرون: من آداب قضاء الحاجة: تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج، ويرفق ذلك بالأذكار كما تقدم، قال أحمد رحمه الله: يقول إذا دخل الخلاء: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره. وسبب إرفاق التسمية بالاستعاذة -باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث- أنه يمتنع الجن عن رؤية العورة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: باسم الله وإذا خرج قال: غفرانك) كما تقدم، وفي رواية: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). وهذا الإذهاب للأذى نعمة من الله عز وجل، ولذلك فإن المصاب بالانقباض وحصر البول يتعذب عذاباً شديداً، ولذلك يقول: الحمد لله؛ لأنها نعمة؛ لأن تيسير خروج الخارج نعمة، ولذلك فإن بعض الناس في المستشفيات تعمل لهم إجراءات صعبة لتيسير خروج البول وما شابه ذلك لأجل عدم القدرة، ولو احتبس في بطنه تضرر ضرراً عظيماً. ولذلك ربما يناسب الذكر أمر من الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمريض وغيره عند الحاجة، وهو البول في القدح أو الإناء، فقد جاء عند أبي داود والنسائي وابن ماجة عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة؛ كلها أسماء مصغرة، عن أمها -وهي أميمة بنت رقيقة - قالت: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير-وفي رواية: تحت سريره- يبول فيه بالليل). والعيدان قال في شرح الحديث: النخل الطوال المتجردة من السعة من أعلاه إلى أسفله، وجاء أيضاً عند الشيخين: (أنه دعي بالطست ليبول فيها). ولكن هذا وقع في حال المرض. إذاً في حال المرض إذا لم يمكن المريض من الذهاب إلى دورة المياه فقد ورد في الحديث ما يفيد البول في إناء ونحو ذلك، وكذلك ذكروا أنه لو اشتدت الريح ولم يأمن من ارتداد البول عليه بال في إناء -ونحو ذلك- ضيق الفتحة حتى يرميه بعد ذلك. إذاً فإذا دعت الحاجة لا بأس بالبول في الإناء ونحوه. وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي رضي الله عنه، لقد دعا بالطست يبول فيها فانخنس فمات وما أشعر به). حديث صحيح رواه النسائي رحمه الله والترمذي في الشمائل والبخاري ومسلم بمعناه.

عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر

عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر حادي وعشرون من الآداب والأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة: عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق). رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في: إرواء الغليل، والمقصود بقوله: (أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق). أنهما في القبح سيان، سواء قضى الحاجة وسط السوق والناس ينظرون؛ وهي قبيحة جداً أو قضى الحاجة في المقبرة حتى لو لم يره أحد فهما في القبح سيان، وهذا من حرمة الأموات، وبعض الناس إذا مشى ولم يجد مكاناً يقضي فيه حاجته تسور المقبرة وقضى فيها حاجته. فهذه فعلة شنيعة. وقد نبه ابن الحاج رحمه الله في كتاب المدخل على طائفة من الذين يسكنون القبور في مصر ويقضون الحاجات فيها، وأن ذلك إيذاء للأموات فلا يجوز، وقال أيضاً: إن بعض أهل الأموات يبيتون عند الميت بجانب قبره أياماً، يبيتون ليلة وليلتين وثلاثاً قال: وإذا حضرت أحدهم قضى حاجته في المكان؛ فإن من البدع البيات عند القبور، يزعمون أن ذلك إيناس للميت، وهم ما يفعلون إلا الإيذاء والبدعة، الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت انصرف هو وأصحابه ولم يبت عند قبر حمزة ولا عند غيره، ولا يؤنس الإنسان في قبره إلا عمله الصالح.

أن يقدم قضاء الحاجة على الصلاة

أن يقدم قضاء الحاجة على الصلاة ومن الآداب كذلك المتعلقة بقضاء الحاجة: أنه يقدم قضاء الحاجة على الصلاة إذا حضرته حاجته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان). لماذا؟ لأنها تشغل قلبه، ويعجل عن إكمال صلاته، وقد يفقد الطمأنينة فيجمع بين أمرين: العجلة وعدم الإكمال، والشغل عن الإقبال على ربه وعلى صلاته، ولذلك فإنه عليه الصلاة والسلام أمر المسلم إذا أقيمت الصلاة وحضرته حاجته أن يبدأ بقضاء الحاجة ولو فاتت صلاة الجماعة. وقد طبق ذلك عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه، فإنه قد ورد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عروة: أن عبد الله بن الأرقم كان يؤم أصحابه فحضرت الصلاة يوماً فذهب إلى حاجته ثم رجع، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة). فلأجل أن يتفرغ للصلاة ويخلو بالإقبال عليها أمر بذلك. وينبغي أيضاً: الإشارة إلى أن الحاجة أنواع ومراتب فهناك شيءٌ خفيف لا يشغل عن الصلاة ولا يعجله عنها فإذا حصل ذلك وصلى جازت صلاته، وإن وجد من ذلك ما يشغله ويعجله حتى ولو كان داخل الصلاة فإنه ينصرف سواءً كان إماماً أو مأموماً لكي يتفرغ ولا يصلي بدون خشوع فإن لم ينصرف وتمادى في صلاته وبه من الحقن -محتقن ومحصور- ما يعجله ويشغله فقد قال مالك رحمه الله: أحب إليَّ أن يعيد في الوقت وبعده. وقال أبو حنيفة والشافعي: إن فعل فبئس ما صنع ولا إعادة عليه. إذاًَ: لو صلى وهو حاقن فما حكم صلاته؟ A إذا لم يخل بركن الطمأنينة فصلاته صحيحة مع الكراهة وينقص من أجره لمخالفته للحديث، وأما إذا كانت الحاجة التي حضرته شديدة جداً بحيث صار يستعجل في الصلاة جداً فإنه عند ذلك تبطل صلاته؛ لأنه فقد شرط الطمأنينة، وقد جاء عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال: [لا يصلين وهو ضامٌ بين وركيه]. وهذه الصلاة المقصود بها الصلاة في حال الحقن الذي يبلغ المصلي أن يضم وركيه من شدة حقنه؛ هذا معنى كلام عمر. الخلاصة: أن ما يجده الإنسان على ثلاثة أضرب: أن يكون خفيفاً؛ فهذا يصلي به ولا يقطع. والثاني: أن يكون ضاماً بين وركيه؛ فهذا يقطع فإن تمادى صحت صلاته ويستحب له الإعادة في الوقت على قول بعض العلماء كـ مالك رحمه الله. والثالث: أن يشغله ويعجله عن استيفائها بحيث يفقد الطمأنينة؛ فهذا صلاته باطلة، ويجب عليه أن يقطع وجوباً.

جواز خروج المعتكف لقضاء الحاجة

جواز خروج المعتكف لقضاء الحاجة ومن الأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة أيضاً: أنه يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لأجل الحاجة؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يخرج إليَّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان).

عدم التضييق على الناس في أماكن نزولهم

عدم التضييق على الناس في أماكن نزولهم ومن الآداب لقضاء الحاجة: عدم التضييق على الناس في مواضع نزولهم، جاء في ذلك قصة عن سهل بن معاذ قال: غزوت مع عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولاية عبد الملك الصائفة؛ والصائفة: كانت اسماً للجيش الذي يخرج في الصيف فكان بعض الخلفاء ينظم الصوائف والشواتي، يعني: فرق الجيش التي تخرج في الصيف والشتاء. قال: فنزلنا على حصن سنان فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق. فأكمل القصة في نهيهم عن ذلك، فكل من نزل بموضع فهو أحق به، كما جاء في حديث: (منى مناخ من سبق). ولما نقول: أحق به، يعني: أحق به وبما حوله بحيث يبقى له مربط فرسه، ومكان طبخه، وموضع قضاء حاجته، فلو جاء واحد ونزل مثلاً على البحر هل يجوز للإنسان أن يأتي وينزل بجانبه مباشرة بحيث لا يبقى مكان له لطهيه ولا قضاء حاجته؟ A هذا إيذاء، ولذلك إذا رأيت ناساً نازلين أو عائلة أو نحو ذلك فلا يأت وتنزل بجانبهم مباشرة. ومعنى: تضييق المنزل الوارد في الحديث: أن ينزل بالقرب من نزول أخيه المسلم فيضيق عليه في المرافق أو الأشياء التي يحتاج إليها في ذلك المكان، ويكون هذا المكان كالحريم؛ والحريم هو: المكان الذي له حرمة حول الشخص إذا نزل، ومعنى: قطعوا الطريق: النزول على الممر على وجه يتأذى به المارة، فبعض الناس -حتى في الحج- ينزل على الطريق فيسده حتى يتأذى المارة، فهناك نزول على الطريق لا يؤذي المارة، وهناك نزول على الطريق يؤذي المارة فإذا كان الطريق واسعاً فقد يكون النزول على جانبه لا يؤذي المارة، لكن إذا كان الطريق ضيقاً فإنه لو نزل على الطريق فإنه يؤذي المارة فلا يجوز ذلك.

ترك الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة

ترك الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة ومن آداب قضاء الحاجة: عدم وجوب الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة، وقد تقدم معنا في آداب الاستئذان: أن البيوت منها ما تكون مسكونة -لها ساكن- ومنها ما لا يكون لها ساكن، ومنها الخرابات التي تقضى فيها الحاجات كالبول والغائط، فهذا ليس على الإنسان جناح أن يدخلها دون استئذان، قد يريد الإنسان خارج البلد قضاء حاجة فيأتي إلى مكان مهدم يريد أن يستتر به لقضاء الحاجة، فلا يلزم هناك استئذان حيث أنه لا أحد حتى يستأذنه، وليس هذا مكاناً يجب الاستئذان عند دخوله. وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] معنى: متاع لكم ليس المقصود بالضرورة أن يكون لك عفش فيها، قال: منفعة لكم بدفع الحر أو البرد أو قضاء الحاجة من بول أو غائط كما أورد ذلك صاحب بدائع الصنائع الكاساني الحنفي رحمه الله.

ترك الوسوسة

ترك الوسوسة ومن آداب قضاء الحاجة كذلك كما تقدم: عدم الوسوسة، ويدخل في ذلك إيجاب أشياء لم تجب في الشرع كالاستنجاء من خروج الريح، فإن بعض العامة يعتقد أنه لا بد من الاستنجاء عند خروج الريح، وليس على من نام أو خرجت منه ريح الاستنجاء، وليس في هذا خلاف. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: قال أبو عبد الله: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، إنما عليه الوضوء. وإيجاب ما لا يجب حرام، وكذلك فإن الريح لا جرم لها يعلق، فلماذا يستنجي؟ تنبيه: أورد بعضهم في آداب قضاء الحاجة: عدم استقبال النيرين: الشمس والقمر، واستدلوا على ذلك بحديث، وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما كان فيه أنها تلعنه إذا استقبلها -الشمس أو القمر- وهذا ضعيف بل باطل، ولذلك لا حرج في استقبال الشمس أو القمر، فإذا انضاف إلى ذلك ما قاله بعضهم في الكواكب فأين يذهب الإنسان في قضاء الحاجة؟ إذاً القبلة لا استدبار ولا استقبال، والشمس لا، والقمر لا، والكواكب لا. إذاً هذا يحتاج إلى أن يدخل نفقاً أو يخرج من هذه الأرض، فهذا كله من التكلف، ومن الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة أو الموضوعة.

بل اليد قبل غسل النجاسة

بلُّ اليد قبل غسل النجاسة ومن آداب قضاء الحاجة: بلُّ اليد قبل غسل النجاسة؛ وهذه ذكروها في الآداب بالتجربة؛ لأنها إذا باشرت النجاسة وهي يابسة تعلقت بها النجاسة وصارت الرائحة في اليد قوية، فإذا غسل يده أولاً ثم غسل النجاسة وقعت النجاسة على شيءٍ مبتل فلا تنتقل إليها الرائحة كانتقالها إلى اليد اليابسة.

غسل اليدين بعد الاستنجاء بتراب ونحوه

غسل اليدين بعد الاستنجاء بتراب ونحوه وكذلك من الآداب: غسل اليد بعد الاستنجاء بتراب أو رمل أو نحوه مما يقلع الرائحة كالصابون، وإذا كان في البر واستنجى من خروج الغائط مثلاً غسل يده بعد الماء بترابٍ ونحوه.

تفريج الفخذين عند البول

تفريج الفخذين عند البول من آداب قضاء الحاجة: التفريج بين الفخذين عند البول، حتى لا يصيب البول عند خروجه الرِجْل.

الاسترخاء حتى يخرج ما بقي من النجاسة

الاسترخاء حتى يخرج ما بقي من النجاسة وكذلك من آداب قضاء الحاجة: الاسترخاء قليلاً، والاسترخاء ضد الانكماش والانقباض، قالوا: لأنه أقرب إلى إزالة النجاسة؛ لأن في المحل -يعني: مكان الخروج والمثانة- انقباضات فربما تبقى بقية بعد التبول، فإذا أنهى البول استرخى قليلاً حتى لو بقي شيءٌ فأنه يخرج.

ستر الرأس وتغطيته

ستر الرأس وتغطيته ذكروا من آداب قضاء الحاجة: ستر الرأس وتغطيته، وأوردوا في ذلك حديثاً عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: [استحيوا من الله إذا خلوتم، إني لأذهب إلى حاجتي في الخلاء متقنعاً بردائي حياءً من ربي]. فقالوا: إن هذا لأجل كمال الحياء؛ ولأن قضاء الحاجة يكون في ستر ويكون بمكان لا يراه، فمن كمال الأدب أن يفعله ولكن ليس في ذلك وجوب، حتى هذا إن صح عن أبي بكر رضي الله عنه فإنه يحمل على كمال حيائه رضي الله عنه، وقالوا: لأن قضاء الحاجة مبني على الستر والمبالغة فيه، حتى إنه يغطي رأسه ولكن ليس في هذا وجوب.

عدم البول في الشقوق والجحور

عدم البول في الشقوق والجحور ومن آداب قضاء الحاجة التي ذكرها أهل العلم: عدم البول في الشقوق والجحور؛ أما بالنسبة للبول في الشقوق والجحور فإنهم ذكروا له علتين: إحداهما: حتى لا تخرج عليه الهوام فتؤذيه، فقد يكون فيه عقرب أو حية وما شابه ذلك من هوام الأرض التي تدخل في الجحور؛ فإذا بال في الجحر ربما خرج عليه ما يؤذيه. ما هو الفرق بين الجحر والشق أو السرب؟ السرب والشق يكون بالطول والجحر مستدير. والعلة الثانية: أن الجحور قد تكون من بيوت الجن، وذكروا في ذلك قصة: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام في آخر عمره، ذهب ليقضي حاجته فبال في جحر فوجد مخضراً ملقىً ميتاً، وسمع قائلاً يقول: نحن قتلنا سيد الـ أوس سعد بن عباده ورميناه بسهمين فلم نخطي فؤاده ولكن ليس في هذا جزم أن الجحور بيوت الجن، فقد يكون فيها وقد لا يكون فيها، وهذه القصة الله أعلم بثبوتها، ولذلك الإنسان على أية حال لا يتعمد البول في الجحر؛ لأن هناك احتمالاً أن يكون فيه إيذاء لمن فيها بغض النظر عمن فيها. ثانياً: أنه قد يخرج عليه شيء فيؤذيه هو. فإذاً حتى لا يؤذي ولا يؤذى. وقد قال بعضهم كلاماً لطيفاً علل فيه أن الجن يحبون النجاسات، فلماذا لا نبول في الجحر حيث إنهم أصلاً يحبون النجاسات؟ فقال رداً على ذلك: إذا كان الشياطين يحبون النجاسات ويكونون في المراحيض وبيوت الخلاء والحشوش ونحو ذلك، وإذا دخلنا نستعيذ بالله منهم فإنه ليس معنى ذلك أنهم يحبون التلطخ بها، يقول: ألا ترى أنك تحب العسل ولكن لا تحب أن تتلطخ به.

آداب قضاء الحاجة من كتاب المدخل لابن الحاج

آداب قضاء الحاجة من كتاب المدخل لابن الحاج وختاماً للموضوع: فقد ذكر ابن الحاج رحمه الله وهو: محمد بن محمد العبدلي المالكي آداب قضاء الحاجة مجموعة في كتابه: المدخل، جمع فيه نحواً من تسعة وسبعين أدباً، فنحن نمر عليها إن شاء الله، ولكن بعض هذه الآداب قد لا يكون عليها دليل فنتجاوزه. يقول رحمه الله: فصل: في الاستبراء وكيفية النية فيه، يقول: وقد تقدم على أن الأفعال على قسمين: واجب، ومندوب، وقد ذكر علماؤنا رحمة الله عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تنوف على سبعين خصلة يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وهي كلها ماشية على قانون الاتباع: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]: الأولى: الإبعاد حتى لا يرى له شخص ولا يسمع له صوت، فإن القصد من الإبعاد ليس فقط ألا يرى، ولكن أيضاً حتى لا يسمع منه صوت عند قضاء الحاجة، من باب الأدب أيضاً. الثانية: الاستعداد قبل الدخول بيسير من الماء والأحجار؛ لأن بعض الناس لا يستعد، ربما يدخل دورة المياه ثم يكتشف أن الماء مقطوع فيتورط، فإذا دخل الخلاء يتأكد هل يوجد فيه ماء، وإن لم يوجد أدخل معه ماءً أو أدخل معه مناديل للاستجمار. الثالثة: أن يقدم الشمال وأن يؤخر اليمين. الرابعة: إذا خرج فليقدم اليمين أولاً ويؤخر الشمال. الخامسة: أن يتعوذ التعوذ الوارد في ذلك عند الدخول، وهو أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث النجس الرجس من الشيطان الرجيم. السادسة: ألا يستقبل القبلة إذ ذاك. السابعة: ألا يستدبرها إلا في المنازل المبنية، فلا بأس في الاستقبال والاستدبار ما لم يكن في سطح فأجيز وكره، يعني: بعضهم قال: إذا كان المكان مكشوفاً. وقيل: هل هو إكرام للملائكة؟ لكن ما دام أنه ما ثبت فيه شيء فلا داعي لتكليف الإنسان نفسه، وأي فرق بين السطح المكشوف وبين الخلاء والفضاء والصحراء؟ إذا قلنا: لا بد من سطح مكشوف هذا بالنسبة لاستقبال القبلة، يعني: الفرق يظهر بين الصحراء والسطح في قضية الاستقبال، أما في عدم الاستقبال ليس هناك فرق، إذا لم يستقبل سواءً كان في صحراء أو في سطح نفس الشيء، لكن في قضية الاستقبال والاستدبار في البنيان بعضهم كره، يعني: أجاز استقبال جهة الكعبة واستدبارها داخل البنيان، لكن قالوا: ليس في سطح، ثم قالوا: هل هو لأجل القبلة؟ أو لأجل الملائكة؟ الثامنة: ألا يستقبل الشمس والقمر بعورته؛ وهذا ليس بشيء كما تقدم وليس عليه دليل. التاسعة: أن يستتر عند التبرز. العاشرة: أن يتوقى مسالك الطرق. الحادية عشرة: أن يتوقى مهاب الرياح، ونبه إلى نوع من المراحيض كانت موجودة في ذلك الوقت تدخل فيها تيارات الهواء الشديدة جداً بحيث إنه لا يسلم من الرشاش أن يرجع إليه. الثانية عشرة: أن يتوقى ما علا من الأرض؛ لأنه إذا كان في مكان مرتفع كان عرضة لأن يراه الناس. الثالثة عشرة: أن يبالغ في أكثر ما يجد من الأرض انخفاضاً، ومنه سمي الغائط غائطاً، فالغائط في لغة العرب: هو المكان المنخفض من الأرض، فكان أحدهم إذا ذهب إلى قضاء حاجته ذهب للغائط: أي المكان المنخفض من الأرض، ثم كثر استعماله حتى سمي الخارج بالموضع. فقيل: سمي الخارج غائطاً باسم الموضع الذي كان يغشى لأجل قضاء الحاجة والتغوط. الرابعة عشرة: ألا يقعد حتى يلتفت يميناً وشمالاً، وهذا: لأجل أنه قد يكون حوله شيء من الهوام فلا يفاجئ به، فيلتفت يميناً وشمالاً قبل أن يقضي حاجته، فإنه قد يكون هناك شيء يستدعي البعد عن هذا المكان. الخامسة عشرة: ألا يكشف ثوبه حتى يدنو من الأرض. السادسة عشرة: إذا قعد لا يلتفت يميناً وشمالاً. السابعة عشرة: ألا يمس ذكره بيمينه. الثامنة عشرة: ألا ينظر إلى عورته؛ وهذا من باب الأدب، لكن ليس محرماً. التاسعة عشرة: ألا ينظر إلى ما يخرج منه إلا لضرورة لا بد منها؛ وهذا شيء تستقذره النفس وتكرهه، فلماذا يأتي بما تستقذره النفس ويشينها؟! العشرون: أن يغطي رأسه، وقد تقدم الكلام عنه. الحادية والعشرون: ترك الكلام بالكلية ذكراً كان أو غيره، ولا بأس أن يستعيذ عند الارتياع، ويجب الكلام إذا اضطر إلى ذلك في أمر يقع مثل: حريق، أو أعمى يقع، أو دابة ينبه غيره عليها، ومشى بها ذلك. الثانية والعشرون: ألا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، فإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه.

كيفية قضاء الحاجة

كيفية قضاء الحاجة الثالثة والعشرون وما بعدها: إقامة عرقوب الرجل اليمنى على صدرها وأن يستوطئ اليسرى، وأن يتوكأ على ركبته اليسرى وذكرنا في هذا حديثاً ضعيفاً لكن قالوا: هو أعون على الخروج أن يتكئ على الرجل اليسرى ويرفع اليمنى قليلاً. وذكر بعضهم: من أجل المعدة، وأن المعدة كالإناء، وهو أنك إذا أرقته على جنب صار أسهل، وعلى أية حال: ربما أن بعضكم يرى في بعض البيوت القديمة، أو الحمامات العربية أنهم يجعلون الجزء الأيسر من المقعد أوطأ قليلاً من الأيمن لأجل هذا المعنى، وهذه كما قلنا قضية تجربة وطب، إذا كان ثبت هذا فيفعله الإنسان من باب أنه أيسر له. السادسة والعشرون: يكره البول من موضع عالٍ إلى أسفل خوفاً من الريح أن ترده عليه. السابعة والعشرون: يكره أن يبول في المواضع المنحدرة إذا كان هو من أسفل؛ لأن بوله يرجع عليه. الثامنة والعشرون: البول قائماً المشهور الجواز وتقدم الكلام عليه. التاسعة والعشرون: يبتدئ بغسل قبله قبل دبره، يعني: عند الاستنجاء وإزالة النجاسة يبدأ بالقبل أولاً لئلا يتطاير عليه شيء من النجاسة عند غسل الدبر؛ لأنه قد يحتاج في غسل الدبر إلى تمرير يده فتحتك بمكان خروج البول فتتنجس اليد، فإذا طهر القبل أولاً ثم حرك يده فإنها تمر على مكان نظيف. وعلى أية حال هذا من الآداب. قال: وأما إذا كان البول يتأخر بخروجه، ويخرج على شكل قطرات أخر غسل القبل. الثلاثون: يغسل يده بالتراب مع الماء عند الفراغ فهو أنظف. الحادية والثلاثون: يستجمر وتراً. الثانية والثلاثون: ألا يستنجي في موضع قضاء الحاجة كما قلنا؛ لأنه إذا قضى الحاجة -الغائط مثلاً- ويريد أن يستنجي في مكانه لربما لامس القذر الذي في الأرض، طبعاً هذا في غير المراحيض والكراسي أو مكان قضاء الحاجة، فإن هذا ثابت لا حاجة أصلاً لأن يذهب إلى اليمين أو الشمال، ولكن إذا قضى حاجته في مثل صحراء أو أرض أو فلاة فليذهب عن هذا المكان قليلاً ويغسل.

سد مكان البول برفق

سد مكان البول برفق الثالثة والثلاثون: سد مكان خروج البول برفق؛ لأن استعمال الشدة ربما يؤدي إلى سلسل البول، ولذلك ترى بعض الموسوسين يستخدمون وسائل غير مشروعة، مثل: العصر والدلك بشدة والنتر والنحنحة وربما القفز وغير ذلك، والمسألة لا تحتاج إلى هذا، بل سلت برفق إذا خشي أن يكون فيه شيء، وإلا فإنه لا يمسه أصلاً إلا في الغسل باليسرى. الرابعة والثلاثون: تفريج ما بين الفخذين لئلا يتطاير عليه شيء من البول. الخامسة والثلاثون: ألا يعبث بيده. ثم قال: وقراءة الذكر (الحمد لله الذي سوغنيه طيباً وأخرجه عني خبيثاً) وهذا إذا ثبت. أن يجمع بين الأحجار والماء فهو أحسن وأطيب، ويجوز الاقتصار على المناديل وغيرها في الاستجمار ولو كان يوجد ماء، وإذا لم يوجد ماء يجوز الاقتصار على الاستجمار، ويجوز ثلاث مسحات فأكثر بحسب الحاجة وتراً، وإذا كان بالحجارة اختار ثلاثة أحجار، وإذا كان حجراً له ثلاثة أوجه جاز أن يستعمله. قال: إذا أراد أن يستنجي يغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة لئلا تعلق فيها الرائحة. وذكر من الآداب: إذا استنجى بالماء أن يكون الإناء في يده اليمنى ليسكب به الماء ويده اليسرى على المحل يعقبه ويواصل صب الماء. والآن من طبيعة الحال توجد هذه الآلات في المراحيض ودورات المياه فهي بمثابة الإناء الذي يسكب منه. الثانية والأربعون: ألا يتغوط تحت شجرة مثمرة. الثالثة والأربعون: ألا يتغوط في ماء راكد. الرابعة والأربعون: ألا يفعل ذلك على شاطئ النهر، وكما قلنا: على شاطئ البحر والناس يدخلون ويخرجون. الخامسة والأربعون: ألا يفعله تحت ظل حائط، فإن كل هذه من الملاعن. السادسة والأربعون: أن يتجنب البول في كوةٍ من الأرض إذا لاقاها لأجل الإيذاء. السابعة والأربعون: أن يتجنب بيع اليهود. الثامنة والأربعون: أن يتجنب كنائس النصارى سداً للذريعة؛ لئلا يفعلوا ذلك في مساجدنا كما نهينا عن سب الآلهة المدعوة من دون الله لئلا يسبوا الله عز وجل. ونحن نذكر أن أبرهة قام بغزو الكعبة؛ لأن بعض العرب ذهبوا إلى القليس التي بناها في اليمن ولطخوها بالنجاسات فثارت حفيظته.

كراهية البول في الأواني النفيسة

كراهية البول في الأواني النفيسة التاسعة والأربعون: يكره البول في الأواني النفيسة للسرف، أما أواني الذهب والفضة فإنه يمنع اتخاذها واستعمالها أصلاً، فكان يوجد بعض الأغنياء أو الملوك وغيرهم الذين يستعملون أواني الذهب والفضة في قضاء الحاجة. الخمسون: يكره البول في مخازن الغلة؛ المخازن التي يخزن فيها القمح والطعام وغير ذلك، قالوا: ولو كانت فارغة؛ لأنه لو أتي بطعام بعده ليوضع في المخزن فربما انتقل إليه شيء من النجاسة الموجودة في الأرض.

عدم إدخال الإصبع في الدبر

عدم إدخال الإصبع في الدبر الحذر من إدخال الإصبع في الدبر، قال: فإنه من فعل شرار الناس، وهذه مسألة أيضاً من الأدب، ذكرها في قضية درجة البطء في خروج الخارج، قال: فرب شخص يحصل له التنظيف عند انقطاع البول عنه، فبمجرد أن ينقطع ولا يخرج شيء يغسل، وآخر لا يحصل له ذلك إلا بعد أن يقوم ويقعد، يعني: ربما يحتاج شخص آخر إلى الاسترخاء ليخرج، وآخر يحتاج أن يقوم ثم يقعد، إذا قام حضره بول إضافي غير الذي خرج منه فيقعد ليخرج ما بقي، قال: وذلك راجع إلى اختلاف أحوال الناس في أمزجتهم ومآكلهم واختلاف الأزمنة عليهم، فليس الشيخ كالشاب؛ لأنه معروف أن كبير السن يسترخي معه المكان فتكثر عنده الحاجة لدخول دورة المياه عدة مرات، أما الشاب فيكون الموضع عندهم مستمسك، وليس من أكل البطيخ كمن أكل الجبن؛ لأن البطيخ يسبب شيئاً من الإسهال، والجبن يسبب شيئاً من الانقباض أو القبض، وليس الحر كالبرد. المهم أنه ذكر اختلاف المآكل والأجواء، واختلاف أسنان الناس، فهذه كلها أسباب في قضية التأخر أو البطء في الخارج، وبالتالي على الإنسان أن ينتظر حتى يغسل كل شيء فيصلي وهو طاهر. وليس معنى هذا أن الإنسان يقعد في دورة المياه ساعات، فإن بعض الناس عندهم وسوسة عجيبة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله حيث قال: وربما قفز درجات السلم، ينزل على سلم متتابعاً ثم يعود لأجل أن يفرغ ما في جعبته بظنه، وربما احتشى وآذى نفسه، وأدخل أشياء في الداخل، وأنت لست مطالباً في الشريعة بتنظيف ما في الداخل، بل أنت مطالب بتنظيف المخرج فقط، وأصلاً مهما نظفت في الداخل فإن هذا موجود ومستودع داخل الإنسان، فالمطلوب هو تنظيف المخرج فقط، وليس ما بالداخل، فأنت لست مسئولاً عما في الداخل. وبعض الناس يقول: انتظر ربما يخرج شيء، وآفة الموسوسين كلمة: ربما، إني وجدت بالنظر في أحوال الموسوسين أن آفتهم آفة عظيمة فيقول: ربما يمكن خرج شيء، يمكن يخرج شيء بعد قليل، فهذه القضية الدقيقة عند الموسوسين، أنت مكلف بما صار الآن ولست بمكلف بما يمكن أن يحدث، وتعمل لذلك احتياطات وتضيع الأوقات والجماعات والصلاة، وصرح بعضهم أنه يضيع الصلاة عن وقتها كله من بعد الظهر إلى العصر؛ وهذه من المصائب العظيمة، نسأل الله العافية؛ لأن قضية الوسوسة مرض خطير جداً. فالإنسان مكلف بما يخرج، وليس بما يمكن احتمال شعرت إني أشعر. ثم أيضاً: لو أن الإنسان يخرج منه البول متتابعاً ولا يستطيع التحكم في خروجه، فما هو الحكم؟ أنه يغسل ويتوضأ ويخرج وليس بمكلف بما خرج منه بعد ذلك، يتوضأ بعد دخول الوقت ويصلي، وإن وضع شيئاً كمناديل مثلاً أو شيئاً لئلا تنتشر النجاسة فقط. ولو كان يخرج متتابعاً فإنه يخرج ولا يتحكم به إطلاقاً.

عدم كشف العورة أمام الناس

عدم كشف العورة أمام الناس قال: إذا قام للاستبراء فلا يخرج بين الناس ويمسك عورته بيده فإن ذلك تشويه ومثلة، قال: ويكره له أن يشتغل بغير ما هو فيه لئلا يتأخر خروج الحدث، والمقصود: الإسراع في الخروج من ذلك المحل بذلك وردت السنة. بعض الناس يطيلون في الحمامات، والآن المراحيض تبنى في البيوت واسعة وعلى أنوار يعني: أصبح مجلساً في الحقيقة، ولذلك بعضهم في قضاء الحاجة يقرءون الجرائد، يجلس على كرسي الحمام يقرأ الجرائد، مع أنه مكان حضور الشياطين ومكان النجاسات، وينبغي على الإنسان أن يخرج منه بأسرع وقت وليس أن يجعله متكأً ومقيلاً ومكاناً للكيف والراحة والاسترخاء والاستمتاع. والآن الحضارة المدنية الحديثة حولت الحمامات إلى أماكن متعة، مع أنها أماكن حضور الشياطين، فيجب أن ينفر الإنسان المسلم من المكث فيها، فيقضي حاجته ويخرج. قال الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً يسر له الطهارة. هذه -حقيقة- عبارة بليغة، أما إذا أريد به شراً فإن الطهارة تتعقد عنده وتصبح إجراءات صعبة وطويلة حتى تصبح عذاباً، فإن الموسوس يعذب نفسه.

ألا يستجمر بحائط المسجد ولا في حائط مملوك

ألا يستجمر بحائط المسجد ولا في حائط مملوك السابعة والخمسون: لا يستجمر بحائط المسجد لحرمته، ولا في حائط مملوك لغيره؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وحتى قال: لا يفعل في حائط نفسه، يعني: الحيطان المبنية من اللبن والطين ومن غيره. أولاً: إذا كان في مسجد أو كان في ملك الغير فلا يجوز، ولو كان له هو فربما نزل عليه المطر أو الماء وصار تحته نجاسة، قالوا: ربما كان في الحائط حيوان فيتأذى به وقد رأيت عياناً -هذا يقوله ابن الحاج رحمه الله- بعض الناس استجمر في حائط فلسعته عقرب على رأس ذكره، ورأى من ذلك شدة عظيمة.

ألا يستجمر بفحم ونحوه

ألا يستجمر بفحم ونحوه التاسعة والخمسون: لا يستجمر بفحم لأنه يلوث المحل، ولا بعظم لأنه لا ينقي، ويتعلق به حظ الغير، ما هو حظ الغير في العظم؟ زاد إخواننا المؤمنين الجن. ولا بزجاج لأنه لا ينقي وهو مؤذٍ، ولا بروث لأنه لا يثبت عند الدعك ويتفتت، وهو زاد لدواب مؤمني الجن كما ورد في الحديث، وعظم الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها زاد لمؤمني الجن، ينقلب في أيديهم لحماً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ألا يستجمر بمائع

ألا يستجمر بمائع قال: ولا يستجمر بمائع لأنه يلطخ المحل ويزيده تلويثاً، ولا يستجمر بطعام لحرمته ولا بذهب أو فضة أو زبرجد أو ياقوت لإضاعة المال، ولا بثوب حرير ولا بثوب رفيع يعني: عالي القيمة من غير الحرير؛ لأن ذلك كله سرف، ويستجمر بما عدا ما ذكر، وقد حد علماؤنا رحمة الله عليهم لهذا حداً يجمع كل ما تقدم من آلات الاستجمار ينبغي الاعتناء به، أي: بهذا الضابط، فقالوا: يجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منقٍ خلاعٍ للأثر غير مؤذٍ ليس بذي حرمة ولا سرف ولا يتعلق به حق الغير. وهو ضابط جيد.

الاعتبار بما يخرج منه وكيف كان يأكله طيبا

الاعتبار بما يخرج منه وكيف كان يأكله طيباً وأخيراً: التفكر والاعتبار في قضاء الحاجة بخروج عملية النجاسة، وقد ذكر في ذلك كلاماً نفيساً جداً، قال رحمه الله: وينبغي له إذا خرج منه خارجٌ أن يعتبر إذ ذاك في الخارج وفي نتنه وقذره فإن نفسه تعاف منه، ويعلم ويتحقق أنه لا بد أن يرجع هو نفسه كذلك، سواء بسواء. كيف يرجع ويتحول الإنسان هو نفسه إلى مخلفات وخارج؟ يكون ذلك إذا أكلته الديدان ورمته من جوفها قذراً منتناً، ويعلم أن ثم قوماً لا ينتنون في قبورهم ولا تتعدى عليهم الأرض ولا يتغيرون؛ وهم الأنبياء، وكذلك أولياء الله والعلماء والشهداء قد يكون لهم شيء من هذه الميزة، وقد تحفظ قصة عن شخص لم يتغير مثلما حصل لوالد جابر، حيث إنه دفن وبعد سنين حفروا قبره فضربت المسحاة أذنه فنفر الدم منها. إذاً: بعض العلماء والأولياء والشهداء قد يحصل لهم من الكرامات ألا تتغير أجسادهم بعد الدفن، ولا تأكله الديدان. قال: فيتفكر في هذا وتكون همته سامية لبلوغ هذه المراتب، قال: وذلك تنبيه من الله سبحانه وتعالى لنا حتى يعلم كل واحد منا ما هو صائر إليه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269] فمن كان له لبٌّ نظر إلى أوله فوجده نطفة، ونظر إلى آخره فوجد أنه تأكله الديدان وترميه، وإلى وسطه -يعني: أوله الحياة وآخره الموت- يجد ما يراه في كل يوم مما يحمل ويخرج منه: يعني: هو حامل النجاسة في بطنه، أوله نطفة وآخره الديدان حيث يصير إليها وتتخلص منه قذراً، وبين ذلك يكون حاملاً للنجاسة وتكون في جوفه. قال: أي نفس تشمخ وتتكبر -وهي بهذه الحال- فهذا الاعتبار. وكذلك ينبغي في قضاء الحاجة: أن يتفكر في الطعام الذي أكله حيث كان طيب المذاق، شهياً للنفوس لا يشترى إلا بالمال بعد التعب، فليتفكر ما يصير إليه هذا المال، وقد سلبت طهارته، وذهب عزه، وصار منتناً قذراً يتحامى عنه، لماذا؟ لأنه اختلط بنا، الطعام لما اختلط بنا أنتن وصار نجساً وقذراً، فنقل عن ابن عطية رحمه الله في التفسير حين تكلم عن قول الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] ذهب أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد إلى أن المراد إذا صار رجيعاً، فليتفكر الإنسان ويعتبر أن الطعام يتحول إلى ماذا؟ وهكذا عاقبة الدنيا، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الإنسان يعتبر بالدنيا: (إنما ضرب طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، فلينظر إليه إن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير) وأشهى طعام يكون في النهاية جيفة. هكذا الدنيا. قال: ثم إنه لم نجد هذا الطعام وحده؛ الطعام إذا خالطنا صار بعد ذلك قاذورات، بل كل ما نباشره إن لبسنا ثوباً جديداً فعن قليل يتوسخ وعن قليل يتمزق، وإن مسسنا طيباً فعن قليل تذهب رائحته، وهكذا قال: فالمؤمن يعتبر ويأخذ نفسه بالأدب من وجهين: أولاً: الهرب من خلطة من لا ينفعه في دينه؛ لأنه يخاف على نفسه من آثار هذه الخلطة، يقول: الطعام لما اختلط بنا ولامسنا ودخل فينا ماذا صار؟ وكذلك لو خالط قرين السوء الذي يكذب في دينه فيكون أوسخ من هذا. ثانياً: أن يكون إذا خالطه أحد من إخوانه المسلمين ممن ينتفع به في دينه أو ينفعه فليحذر من أن يغير أحداً منهم بسبب خلطته، يعني: يحذر هو أن يتغير من قرين السوء، ويحذر أن يغير غيره، فهذان وجهان عظيمان. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب والفقه وحسن الخاتمة، وصلى الله على نبينا.

آداب الكلام والمحادثة

آداب الكلام والمحادثة لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالأدب، فأمرت بحفظ اللسان ولزوم الصمت ولين الكلام، ولخطورة اللسان فقد ركزت الشريعة على آداب الكلام والمحادثة، وألف العلماء المصنفات المستقلة في هذا الباب، وبينوا آداب الحديث والمناقشات والمناظرات العلمية؛ فالإسلام يريد أن يميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه ومظهره، ولعلك تجد في هذه المادة ما يغنيك عن قراءة الكتب فإنها عصارتها.

من ضوابط الكلام في الإسلام

من ضوابط الكلام في الإسلام الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وهو سيد البلغاء وإمام الفصحاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً تامين إلى يوم الدين. إخواني: إن موضوع هذه الليلة من الأهمية بمكان، وهو من المواضيع الجميلة التي هي من الأدب، والشريعة جاءت بالأدب، وهذا الدين قد جاء بالأدب، ولا شك أن مواضيع الأدب تزين المسلم، وتحثه على التخلق بالأخلاق الحميدة والفاضلة؛ لأن الإسلام يعتني بالمسلم من جميع الجوانب، ويريد الإسلام أن يميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه ومظهره. وهذا الدين لا شك أنه أحسن الأديان وأفضلها وأعلاها، ولا شك أن هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، وأن ما جاء فيها هو أفضل ما جاء إلى أي أمة من الأمم من قبلنا. وموضوع "أدب الكلام والمحادثة" أهميته في نقاط متعددة. فهو يحتاجه المسلم حتى إذا أراد أن يحادث ربه ويتكلم مع الله، وكذلك فهو يحتاجه في الكلام مع أهل العلم، ومع أصحابه وأصدقائه، ومع زوجته، وهو أدب يحتاج إليه في المجالس؛ لأن الناس اجتماعيون بطبعهم، وهم يختلطون ويتلاقون ويجتمعون ويتزاورون، فإذا عدم هذا الأدب -وهو أدب الكلام والمحادثة- صارت اللقاءات مضيعة للأوقات مجلبة للعداوة والشحناء والبغضاء، ليس فيها كبير فائدة، بل ربما انطوت على ضيق وهم وغم بسبب ترك أدب الكلام والمحادثة.

الأصل حفظ اللسان

الأصل حفظ اللسان وبادئ ذي بدء فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بحفظ اللسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من إطلاق اللسان حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) أي: يطلق الكلام على عواهنه، دون تبصر ولا انتباه، ولا تقويم للكلمة، ولا بحث ولا نظر، فقد يتكلم بالكلمة لا يتبين فيها، وقد يكون فيها اعتداء على ألوهية الله وربوبيته، أو اعتراض على قضائه وقدره ونحو ذلك، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب؛ ولذلك لما نصح النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- قال: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! -وهذا ليس دعاءً عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على أحد من أمته بدعوة لا يستحقها إلا جعلها الله له رحمة وثواباً يوم القيامة- ثكلتك أمك يا معاذ -وهذه من العبارات الدارجة عند العرب والتي لا يقصد النبي عليه الصلاة والسلام معناها الحرفي- وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائد ألسنتهم) فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن من أعظم أسباب دخول النار حصائد الألسنة. ولذلك جاء كلام السلف في حبس اللسان كثيراً، فمن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما رأيت أحوج إلى طول سجن من اللسان] وقال الحسن: [اعقل لسانك إلا عن حق تقيمه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تذكرها] ولذلك السلف -رحمهم الله- ألفوا في فضل الصمت تأليف، مثل ما فعل ابن أبي الدنيا -رحمه الله تعالى- وتكلم العلماء في مساوئ الإكثار من الكلام، والحث على التقليل منه، وأن الإنسان إذا عد كلامه ليوشكن أن يعرف ماذا يسود به من الصحائف -صحائف أعماله.

طيب الكلمة ولين الحديث

طيب الكلمة ولين الحديث ومن الأشياء والضوابط الإسلامية في موضوع الكلام بالإضافة إلى التقليل منه ولزوم الصمت -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت- طيب الكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الناس: يأتي العبد يوم القيامة فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة) فحث على الكلمة الطيبة، وأنها من أسباب دخول الجنة. وكذلك لين الكلام، فإنه من الأخلاق الإسلامية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) فالشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (ألان الكلام).

آداب الكلام والمحادثة

آداب الكلام والمحادثة وأما بالنسبة لآداب الكلام والمحادثة فإنها كثيرة، فقد جاءت بها الشريعة مما يدل على أهمية هذا الموضوع، وعلى خطورته، وأنه معتنىً به في الشريعة غاية الاعتناء، ومكمل غاية التكميل.

خفض الصوت

خفض الصوت فمن أدب الكلام والمحادثة: خفض الصوت، قال الله تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] فلا شك أن رفع الصوت مزعج للسامع، ومثير لأعصابه، وهو ينبئ عن قلة الأدب، إلا إذا دعت الحاجة إلى رفع الصوت كالخطيب الذي يخطب للناس؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خطب علا صوته واحمر وجهه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. كذلك إذا خاف ألا يسمع أحد تحذيراً مهماً أو علماً مهماً؛ فإنه يرفع صوته، كما رفع صوته صلى الله عليه وسلم لما تفرقوا وكانوا يتوضئون، وبعض الناس لم يهتم بغسل عقبيه، رفع صوته صلى الله عليه وسلم فقال: (ويل للأعقاب من النار) فيتبين أن رفع الصوت للحاجة مهم في بعض الأحيان ويكون مطلوباً، لكن غالباً في المحادثة مع الناس في المجالس كالأحاديث الفردية والثنائية والجماعية لا بد أن تكون بصوت منخفض.

البعد عن الثرثرة والتشدق

البعد عن الثرثرة والتشدق وكذلك ينبغي أن يكون المتكلم بعيداً عن الثرثرة والتشدق وتكلف الفصاحة، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن جابر: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -أيضاً-: (سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر من الأرض)، وجاء وصفهم -أيضاً- بهذه الصفة القبيحة في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها) الباقرة: أي: البقرة، ومعنى هذا أنه يتشدق بالكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، وهذا فيه تنبيه على التكلف والتنطع وتكلف الفصاحة، وهو نوع من التقعر، وهو أيضاً من الثرثرة، وكناية عن التباهي والاستطالة، فالألفاظ عند هذا الرجل في المرتبة الأولى والمعاني بعد ذلك، فهو لا يحسب حساب المعنى، وهو -أيضاً- يتكلف لك ويلوي لسانه لياً كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، فإذاً لا بد من ترك التكلف وأخذ الأمور بالطبيعة والسجية مع انتقاء الكلمات وجودة المعنى.

الإنصات للمتكلم

الإنصات للمتكلم ومن آداب الكلام: الإنصات، وخصوصاً عندما يكون الشخص الآخر يقرأ كلام الله، فقد قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ومن الأشياء والمواضع التي يتأكد الإنصات فيها إذا تكلم أهل العلم، وعلى رأسهم -لا شك- النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الصحابة بأدبهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في الإنصات لقوله؛ عظمت مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في نفوس الكفرة؛ نتيجة التطبيق العملي للإنصات.

الإخلاص في الكلام

الإخلاص في الكلام ومن آداب الكلام: أن الإنسان لا يتكلم إلا إذا كانت الكلمة يراد بها وجه الله؛ لأنه قد يتكلم إظهاراً لعلمه، أو معرفته أو فصاحته وبيانه، أو استئثاراً بالمجلس، أو ترفعاً عن الخلق، أو إيذاءً للآخرين، أو حباً للظهور وترأساً للمجلس هذه من بواعث الكلام، فينبغي أن يكون الباعث لله، لا يتكلم إلا بما يرضي الله؛ ولذلك الإنسان المسلم يترك الكلام إذا فكر أن في تركه إرضاءً لله، وأن الإخلاص ألا يتكلم، وإذا دعته نفسه للكلام لهوى فليصمت، وإذا دعته للصمت لهوى فليتكلم. ولا يجوز له مع ذلك أن يسكت عن تعليم جاهل أو تنبيه غافل، أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، فهو لا يزال يمشي بين تلك الضوابط. ومن الأدلة والأمثلة الجميلة على أن الإنسان قد يريد أن يتكلم أحياناً، لكنه إذا فكر وعرف أن مصلحة الكلام أقل وأن مفسدة الكلام أكبر فيترك الكلام، هذا الحديث الذي رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: [لما تولى معاوية -رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين- الأمر خطب فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ -يقصد عبد الله بن عمر الذي كان موجوداً في المكان- قال عبد الله: فحللت حبوتي -وكان ابن عمر محتبياً- وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. -أي: أن ابن عمر يريد أن يقول: أحق بهذا منك من كان من المهاجرين والأنصار الذين قاتلوك أنت وأباك؛ لأن معاوية من متأخري الإسلام رضي الله عنهم أجمعين- فهمَّ ابن عمر أن يتكلم وأن يقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، قال ابن عمر: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك -أي: يفهم مني غير ما أقصد، وربما يفهم أن له مطمعاً في الملك- قال ابن عمر -وهذا الشاهد-: فذكرت ما أعد الله في الجنان من أجر كظم الغيظ والسكوت عندما تقتضي المصلحة السكوت من الكلام، قال حبيب: حُفظت وعُصمت يا بن عمر]. فهذا دليل على أن الإنسان قد يريد أن يتكلم ويستفز لكن يسكت؛ لأن المصلحة في السكوت، أي: المصلحة الشرعية وهي مصلحة الدين واجتماع المسلمين ونحو ذلك.

مخاطبة الناس على قدر عقولهم

مخاطبة الناس على قدر عقولهم ومن آداب الكلام: أن الإنسان إذا كلم قوماً فإنه يبتغي درجة من الكلام تبلغها عقولهم ويفهمونها، ولا يخاطبهم بالصعب الذي لا يدركون معناه، ولا بغريب الكلام الذي لا يفهمونه، وحتى إذا انتقى أشياء من العلم ينتقي الأشياء الأساسية الواضحة السهلة التي تتقبل، ويترك الأشياء التي قد ينفر منها الناس لغرابتها عندهم، مع أنها قد تكون من الدين، لكن إذا أدى عرضها إلى تكذيب الله ورسوله، كما يفعل بعض العامة إذا عُرِض عليه شيء غريب جداً قالوا: هذا ليس حديثاً، ولا يمكن أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام كلاماً مثل هذا، فيؤدي به إلى تكذيب الله ورسوله؛ فعليه أن يجتنبها. ولذلك قال علي -كما روى البخاري تعليقاً-: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟] وهذا شيء يهم الخطباء والدعاة إلى الله عز وجل.

الترسل والتؤدة في الكلام

الترسل والتؤدة في الكلام ومن آداب الكلام: أن يترسل فيه ترسلاً، ويكون في أثناء أدائه على تؤدة وعلى تمهل ليفهم ويحفظ، فقد روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه) لو أن أحداً يعد عند النبي عليه الصلاة والسلام لاستطاع أن يعد الكلمات أو المفردات أو الحروف، ويطيق ذلك ويبلغه إلى آخر الحديث، والمراد بقولها رضي الله عنها: المبالغة في الترتيل والتفهيم، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرتل كلامه، وليس المقصود أن يلحنه وإنما يتأنى فيه. قال ابن شهاب: أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت: (ألا يعجبك أبو فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك وكنت أسبح -أتنفل- فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته -أي: هذا الراوي الذي يروي الأحاديث بسرعة بجانب حجرتي ليحدث الناس، لأن حجرة عائشة كانت بجانب المسجد- لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم) هذا في رواية البخاري -رحمه الله. ومعنى قولها: "لرددت عليه" أي: لأنكرت عليه وبينت له أن الترتيل والترديد والتؤدة والتمهل في الحديث أولى من السرد والإسراع، ومعنى قول عائشة: (لم يكن يسرد الحديث كسردكم) أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع، وفي رواية للإسماعيلي (إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً فهماً تفهمه القلوب) أي: شيئاً تفهمه القلوب. وروى أبو داود -رحمه الله تعالى- عن عائشة قالت: (كان كلامه صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً -مفصولاً بين أجزائه وواضحاً- يفهمه كل من سمعه) وعند أبي داود -أيضاً- في الحديث الصحيح: (كان في كلامه صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)، والترتيل: هو التأني والتمهل في تبيين الحروف والكلمات، وهو والترسيل بمعنى واحد. إذاً كان في عرض كلامه عليه الصلاة والسلام ترتيل وترسل وتأني، لكنه ليس بطئاً شديداً ينفر السامع؛ لأن بعض الناس عندهم بطء شديد في الحديث؛ بحيث أن السامع ينفر من سماعه.

إعادة الكلام المهم وتكراره

إعادة الكلام المهم وتكراره ومن آداب الكلام: إعادة الكلام المهم الذي يصعب على بعض الجالسين فهمه من أول وهلة أو لأول مرة، وهذا معنى قول أنس -رضي الله عنه- في حديث البخاري: (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه). فإذاً الإعادة لغرض التفهيم، فإذا فهمت لا يحتاج إلى إعادة، وإنما الإعادة للتفهيم. وكذلك فإن الإعادة أقصاها ثلاث مرات، وقد جاء في الشريعة في أشياء كثيرة أن الغاية ثلاث مرات، فالاستئذان ثلاثاً، والطلاق ثلاثاً، وهنا يعيدها ثلاثاً؛ لكي يبلغ بها الغاية. وأما الإعادة الكثيرة أكثر من ثلاث قد تمل؛ ولذلك قالت جارية لـ ابن السماك: ما أحسن كلامك إلا أنك تردده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه، قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه -أي: إذا كررت كثيراً حتى يفهم الذي لا يفهم يكون الذي فهم قد مل من الترديد- فالمسألة وسط لا إفراط ولا تفريط.

الإقبال على المتحدث بالوجه

الإقبال على المتحدث بالوجه وكذلك الإقبال على المتحدث بالوجه، وعند قيام المصلي في الصلاة فإنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا يرفع رأسه إلى السماء؛ لأن الله قبالة وجه العبد في الصلاة، إذا قام المصلي يصلي ينصب الله وجهه لوجه عبده المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه، وكذلك فإن الناس في حال الخطبة يلتفتون بوجوههم إلى الخطيب كما قال الصحابة في وصف حالهم مع النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب التفتوا بوجوههم إليه). وهذا أمر يغفل عنه كثير من الأئمة، كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا سوى الصفوف أقبل عليهم بوجهه فسوى الصفوف، وأمرهم بتسويتها، فيلتفت إليهم بوجهه، ولا يقول من مكانه: استووا واعتدلوا، وهو لا يعرف هل استووا واعتدلوا أم لا.

الإعراض عن الألفاظ البذيئة

الإعراض عن الألفاظ البذيئة وكذلك من آداب الكلام والحديث: الإعراض عن الفحش والألفاظ البذيئة، وهذا معروف، لكن كون البذاءة لا يتلفظ بها الإنسان هذا شيء مفروغ منه، فإن الله عز وجل يبغض الفاحش البذيء: (ما كان النبي عليه الصلاة والسلام فاحشاً ولا متفحشاً) لكن لو أن الإنسان سمع أثناء الكلام فحشاً؛ فإنه يعرض عنه ويشيح بوجهه؛ دلالة على إنكاره للكلمة السيئة أو الشيء الذي يخالف الحياء، فقد روى الإمام البخاري -رحمه الله- عن عائشة: (أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من المحيض؟ قال: خذي خرصة ممسكة -قطعة من القطن قد وضعت في المسك- فتوضئي ثلاثاً) ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، هل يقول: ضعي هذا في المكان كذا؟ فأعرض بوجهه، قالت عائشة: (فأخذتها فجبذتها فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أن الإنسان إذا وصل في الكلام إلى حد فيه شيء يخالف الحياء، فإنه يعرض بوجهه، فهذه امرأة تسأل، ولا يناسب أن النبي عليه الصلاة والسلام يفصل لها أكثر من هذا، فتركه لـ عائشة؛ لأن المرأة تتفاهم مع المرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، والله عز وجل كنى عن الجماع بالمسيس، قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] انظر إلى الأدب، فالله عز وجل يعلمنا الأدب {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] والملامسة هنا الجماع، وليس مجرد اللمس على الصحيح من أقوال العلماء أن الملامسة هنا غير اللمس، أو لامستم: أي: أتى الرجل أهله.

تقديم الأكبر والأفقه في الكلام

تقديم الأكبر والأفقه في الكلام وكذلك من آداب الكلام: تقديم الأكبر، فإن الناس قد يجتمعون في مجلس أو يأتي وفد يريد الكلام، فالذي يتكلم هو الأكبر إذا كان عارفاً بأصول الكلام فقيهاً، فمن الأدب أن يبدأ الأكبر، وتوقير الكبير من أصول الأدب في الشريعة؛ ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الأدب: باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال. وهذا قد جاء النص عليه والأمر به والإنكار على من خالفه في الحديث الصحيح، وهو حديث عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود (أنهما أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل -أخو القتيل- وحويصة ومحيصة ابنا مسعود، إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتكلموا في أمر صاحبهم القتيل، فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبرى، كبر الكبرى. قال يحيى: أي: ليَلِ الكلام الأكبر) فالأكبر هو الذي يتولى الكلام ويبدأ به، فتكلموا في أمر صاحبهم، وفي رواية: (كبر كبر) قال: (فذهب عبد الرحمن يتكلم وكان هو أصغر القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما). وكذلك مما يتعلق بهذه النقطة -أيضاً- ترك الكلام للأفقه، فإنه قد تحدث مناسبة تدعو للكلام فيود أحد الناس أن يتكلم، كأن تحدث حادثة تحتاج إلى تعليق، أو تحصل حادثة في المجلس أو في المسجد فيترك التعليق عليها للأفقه؛ لأن كل إنسان يريد أن يعلق، مثلاً: حصلت حادثة ولا بد من تعليق، فيترك للأفقه، مع أن كل الموجودين تدعو حاجتهم -أحياناً- إلى الكلام؛ لأن الأفقه والأعلم عنده مما نور الله به بصيرته ما يستطيع أن يقنع به الناس، ويكون تعليقه أولى من تعليق غيره، وكلامه أحسن من كلام غيره، وإليك الدليل: لما مات النبي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة فيمن يتولى الأمر من بعده، فقال الأنصار: نحن أولى، نحن كتيبة الإسلام، ونحن عماد الجيش الذين نصرنا الله ورسوله، فيكون الأمير والخليفة منا، فأوشكوا أن يبايعوا سعد بن عبادة، فهذه حادثة كبيرة؛ ولذلك قال عمر -رضي الله عنه- لما تكلم الأنصار وقام خطيبهم فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: [أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط -أي: أنتم الأقلية ونحن الأنصار الأكثرية- وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يختصوا بالأمر من دوننا -وهذا معناه أن الأنصار يريدون أن تكون الخلافة فيهم- قال عمر: فلما سكت خطيب الأنصار أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي: كنت قد أعددت مقالة في نفسي رصينة في غاية البلاغة والأهمية- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر -أي: أريد أن ابتدئ قبل أبي بكر وأتكلم بها- وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك -تمهل- قال عمر: فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته -على البديهة- مثلها أو أفضل منها حتى سكت. فكان من كلام أبي بكر: ما ذكرته فيكم من خير فأنتم له أهل -انظر إلى الحكمة في كلام أبي بكر! - ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها -أي: ما كرهت من كلام أبي بكر غير هذه الكلمة -ووالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر] فلما ترك الكلام لـ أبي بكر أجاد أحسن من عمر، مع أن عمر يريد أن يتكلم والوضع يدعو للكلام.

تقديم مقدمة للكلام

تقديم مقدمة للكلام ومن الأمور المهمة في أدب الكلام والحديث والمناقشة: التقديم، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم فيقدم بمقدمة تناسب الكلام؛ خصوصاً إذا أراد أن يتكلم بين يدي عالم، أو مفتي يحتاج إلى نوع من التقديم، ليس كالكلام مع الرفيق والصديق، فهذا له أدب آخر ومرتبة أعلى. ومثل هذا ما ورد في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد (أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. قال: تكلم -أي: أن هذا من الأدب حيث قدم مقدمة واستأذن- قال: إن ابني كان عسيفاً) إلى آخر القصة، وفيها رجم المحصنة التي زنت، وجلد الزاني غير المحصن، وإلغاء كل حكم باطل مخالف لما في الكتاب والسنة.

عدم المقاطعة في الحديث

عدم المقاطعة في الحديث وكذلك من أدب الكلام والحديث: عدم مقاطعة حديث الناس، فإذا دخلت على أناس يتكلمون فلا تقطع حديثهم، فإن قطع الحديث مخالف للأدب، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم -أي: لا تأت تعظ القوم وتعلمهم وهم يتحدثون بحديث فتقول لهم: اسكتوا، أنصتوا، أو عندي كلام، وعندهم حديث يتحدثون به، ولكن أنصت- ثم قال ابن عباس -وهو يُعلم الوعاظ والدعاة-: فإذا أمروك فحدثهم] أي: إذا قالوا لك: حدثنا أو ذكرنا أو عظنا يا فلان، فحدثهم؛ لأنك إذا حدثتهم بناءً على طلبهم؛ فإن الحديث يكون أشهى لهم، وأكثر موقعاً في نفوسهم من أن تبادئهم أنت وتطلب الإنصات. لكن الإنسان قد يحتاج إلى الإنصات في موضع يكون فيه أناس لا يذكرون الله؛ بل ربما يقعون في معاصٍ، فعند هذا يقوم أحدهم ويقول: يا أيها الإخوة! أنصتوا، عندنا فلان يريد أن يتكلم، أو نريد أن نسمع كلامه بدلاً من الكلام الفارغ، لكن الناس عندهم حديث مشترك قد اجتمعوا عليه، فلا تدخل عليهم فتقطع حديثهم، لكن انتظر، واجلس إليهم، وأنصت، فإذا طلبوا منك الحديث تحدث، فإن الإسلام آداب. [وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك] أي: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب ولا يتكلفون في الدعاء، ولا يأتون بالسجع المكروه المتكلف، الذي يضيع الخشوع في الدعاء، واستنبط منه ابن حجر -رحمه الله-كراهية التحديث عند من لا يقبل عليك، والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، وأن يحدث من يشتهي سماعه لأنه أجدر أن ينتفع به.

البدء بالسلام قبل الكلام

البدء بالسلام قبل الكلام وكذلك من آداب الكلام: أنك إذا قدمت على أناس ابدأ بالسلام قبل الكلام، وهذا أدب منصوص عليه في الحديث الصحيح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه) تأديباً وتعليماً، فإذا دخل رجل على مجلس وقال: أين فلان؟ من رأى فلاناً؟ فلا تجيبوه، بل علموه أن يسلم أولاً ثم يسأل. وكذلك من الضوابط الشرعية في الحديث: أن الإنسان لا يجوز له أن يكذب، وهذا أمر مفروغ منه، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس: وهو الكذب لإضحاك القوم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) أي: يكذب في الحديث من أجل الإضحاك أو التنكيت كما يقولون.

لا يتناجى اثنان دون الثالث

لا يتناجى اثنان دون الثالث وكذلك من آداب الحديث: ألا يتناجى اثنان دون الثالث، وهذا معلوم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ فإن ذلك يحزنه) فالعلة: حتى لا يحزن؛ لأنه قد يظن أنه دون مستوى الكلام، ومعناها احتقاره بطريقة غير مباشرة، أو أن يظن أنكما تتآمران عليه، فاختص الكلام بينكما وتركتماه، فكأنكما تدبران شيئاً ضده، ولأجل ذلك قال: (فإن ذلك يحزنه) فهذا التناجي -إذاً- من الشيطان {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]. حسناً لو كان في المجلس عشرة فتناجى تسعة دون العاشر أفيكون هذا التناجي محرماً؟ نعم؛ لأنه أشد من تناجي الاثنان دون الثالث. ولو أن هناك ثلاثة في المجلس فتكلم الأول والثاني بلغة لا يتقنها الثالث ولا يعرفها، كأن يكون الثالث لا يحسن الكلام بالإنجليزية، فتكلم الأول والثاني بالإنجليزية بصوت مرتفع فيعتبر هذا تناجياً؛ لأن المفسدة قد حصلت؛ لأنه يجهل اللسان الذي تتحدثان به. ولو صار في المجلس أربعة فتكلم اثنان سراً بينهما، والثالث والرابع صامتين بعيداً عنهما فلا يعتبر هذا تناجياً؛ لأنه يمكن أن يأنس بصاحبه.

حفظ سر المتكلم

حفظ سر المتكلم ومن آداب الحديث والكلام: أن تحفظ سر المتحدث إليك إذا طلب ذلك صراحة، أو صدرت منه إشارة تدل على أنه يريد أن تحفظ سره -طبعاً فيما لا يضر بالمسلمين- كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) ومعنى الالتفات هنا أنه يتأكد من عدم سماع أحد من الناس، فهو يتكلم ويلتفت وهذا معناه أنه سر، ولو لم يقل لك: احفظه ولا تخبر به أحداً، فالتفاته وتأكده من خلو المكان يدل على أنها أمانة، قال العلماء: فإفشاء السر خيانة، وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن فيه إضرار. لكن إذا كان فيه ضرر على المسلمين فلا بد من إفشائه لأهل الحسبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكي يغيروا المنكر، ولا يصلح أن يصير هذا سراً له حرمة؛ لأن فيه ضرراً على المسلمين.

عدم هجر المسلم بالكلام

عدم هجر المسلم بالكلام وكذلك من آداب الحديث والكلام: أنه لا يجوز هجر المسلم بالكلام فوق ثلاثة أيام، فلا يجوز أن تقاطع أخاً مسلماً من أهل السنة فوق ثلاث؛ بحيث لا تكلمه مطلقاً، فحد الخصومة بين المسلمين ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك لا بد أن تجيبه وتكلمه وتتحدث معه.

التكلم بالعربية ما أمكن

التكلم بالعربية ما أمكن ومن آداب الحديث كذلك: أن يكون باللغة العربية للعرب المسلمين، فالعرب يتكلمون باللغة العربية، وفي هذا الزمان -مع الأسف- أمر قد خولف، وطغى الغزو الثقافي الكافر على عقول المسلمين، وأعجب أبناء المسلمين بالكفرة أيما إعجاب؛ حتى صاروا يتحدثون بلغتهم، ويتفاخر المسلم بحديثه بلغة الكفار لكي يعرِّف بأنه يعرف لغتهم وأنه يجيدها، ويخرج حروفهم على حسب المخارج الموجودة عندهم ويتقنها، ويتكلم الإنجليزية بطلاقة، فهذا صار -الآن- عندنا أمراً شائعاً ومنتشراً مع الأسف. لا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر ولهم ألسنة مختلفة، قال الله عز وجل: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، والله عز وجل أرسل كل رسول بلسان قومه، ونحن مسلمون نتكلم اللغة العربية، ونبينا صلى الله عليه وسلم من العرب، والقرآن كلام الله عربي، فلماذا نتكلم بغير اللغة العربية في أحاديثنا وكلامنا ومناقشاتنا؟ وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم كلاماً في هذا الموضوع، وهو الكلام والمحادثة والتحدث بغير العربية، فقال: كره الإمام أحمد أسماء الشهور بالفارسية، قال شيخ الإسلام: ما قاله أحمد له وجهان: أولاً: إذا لم يعرف الاسم، فإنه قد يكون محرماً، كأن يكون الاسم معناه فيه شرك، وأنت تتكلم وتستعمل هذا الاسم، ويمكن أن يكون فيه شرك، وتعبيد لغير الله، مثل بعض أسماء الكفار: عبد المسيح، كأن عبد المسيح مترجمة مثلاً. والسبب الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. فإذاً اللغة العربية من الأشياء التي تميز هذه الأمة عن بقية الأمم، فلماذا نستخدم لغة غيرنا؟! ثم قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وأما الخطاب بالأعجمية من غير حاجة في أسماء الناس والشهور فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، أي: لو أنك لا تعرف المعنى فلا تتكلم؛ لأنه قد يكون شركاً أو كفراً، ولا تتكلم بلغة غير العربية في شيء لا تعرف معناه لأنه قد يكون شركاً أو كفراً؛ خصوصاً أسماء الأشهر، ولا تستعمل أسماء الكفار. وقد أخذ -أي: الإمام أحمد رحمه الله- بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم وعن شهود أعيادهم، وقد نهى عمر عن رطانة الأعاجم، فقد استدل بنهي عمر عن الرِطانة -أو الرَطانه- مطلقاً -هذا كلام ابن تيمية - وقال الشافعي فيما رواه السلفي بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً، ولم تزل العرب تسميهم التجار، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة -السمسار: كلمة أعجمية معناها: تاجر- اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمى رجل يعرف بالعربية تاجراً إلا تاجراً، ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بالأعجمية؛ وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام: فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها. ولذلك -الآن- هناك بعض الناس يسمون بأسماء أعاجم مثل: ميرفت وناريمان وشيرهان وشيرين ونيفين فهذه أسماء أعجمية، وكذلك يسمون بأسماء الكفار: أيسلندا، أوغندا، سوزان، دينا فصاروا يسمون بأسماء الكفار، وقد يكون الاسم معناه قبيحاً وفيه شرك أو كفر ويسمون به! قال شيخ الإسلام: فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالأعجمية. إذاً فـ الشافعي يكره خلط اللغة العربية باللغة الأعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين. ثم ساق ابن تيمية آثاراً عن الصحابة والتابعين في قضية الكلام بالأعجمية، وقال عمر: [ما تكلم رجل بالفارسية إلا خب -أي: صار مخادعاً غشاشاً- ولا خب إلا نقصت مروءته]، وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص: [أنه سمع قوماً يتكلمون بالفارسية فقال: ما بال المجوسية بعد الحنفية؟]. ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية. وبعض الأحاديث فيها كلمات أعجمية (يا أم خالد! هذا سنا)، والسنا في لغة الحبشة: الحسن الجميل، ووردت كلمات حبشية في بعض الأحاديث وهي غير عربية. قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية أمرها قريب -أي: لو أن الواحد استعمل كلمة أعجمية في كلامه نادراً فهذه أمرها سهل- قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية أمرها قريب، وأكثر من يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً -أي: إنما ورد عن بعض السلف أنهم استخدموا ألفاظاً أعجمية مع أن الكلام بالأعجمية مكروه ومنهي عنه، وقد تجد في كلام الإمام أحمد ألفاظاً أعجمية أحياناً وذلك لكون المخاطب أعجمياً، فهو يشرح الدين أو الحكم الفقهي لشخص أعجمي، أو قد اعتاد الأعجمية ويريدون تقريب الأفهام عليه وأن يفهموه بسرعة؛ فلذلك قد يستخدمون ألفاظاً أعجمية-. إذاً تستخدم الألفاظ الأعجمية عند الحاجة، كما إذا كنت تكلم شخصاً أعجمياً، أو أن هذه الكلمة مما لا مقابل لها في العربية؛ لأن الذين اخترعوها سموها هكذا، مثل أسماء الأدوية: اسبرين، بنسلين وقد لا يوجد لها مقابل، وذلك بسببنا نحن؛ لأننا تخاذلنا وتراجعنا، وهذا الذي أدى بنا إلى أن نكون أتباعاً حتى في الأسماء، لكن إذا كان الشيء له اسم مقابل، مثلاً كلمة "باص" هذه كلمة أعجمية، مقابلها: حافلة، والبيجر يمكن يكون مقابلها: المنادي، لكن نحن تأتينا الأشياء والاختراعات بأسمائها، فنأخذها بأسمائها ولا نكلف أنفسنا حتى البحث عن المرادف العربي لهذه الكلمة، ولو عرفناها لصار مهجوراً. لكن أقول: قد يعذر الإنسان باستخدام كلمات أعجمية إما لتفهيم أعجمي، أو لأن الكلمة ليس لها مقابل بالعربية، وإلا فاللغة العربية تستوعب وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات إن اللغة العربية أوسع اللغات، فتجد الشيء الواحد فيها له أكثر من اسم، فالأسد له أكثر من مائة اسم، أما في اللغة الإنجليزية تجد أن الكلمة الواحدة لها عدة معانٍ، وهذا ضعف، فعندما يكون الشيء له أكثر من كلمة فهذا يدل على ثراء اللغة، أما عندما تكون الكلمة الواحدة لها عدة معان، فهذا يدل على الاشتباه ويسبب إرباكاً للسامع. على أية حال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أم خالد هذا سنا) باللغة الحبشية. قال ابن تيمية -لو صار في الاستعمال شيء يسير كان لا بأس به-: أما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله -أن تصبح هذه اللغة الأجنبية الأعجمية شعاراً ولغة لمصر من أمصار المسلمين وتفرض عليه فرضاً فإن هذه مصيبة- أو لأهل الدار -أناس أهل بيت يتكلمون بالأعجمية- أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق -أي: أن أهل السوق كل لغتهم أعجمية- أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه -أي: إذا صار إلى هذا الحد- فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم؛ وهو مكروه كما تقدم، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية عودوا أهل هذه البلاد العربية -وهذا من فضل الصحابة، فلنعرف حق الصحابة، فالآن اللغة العربية هي لغة أهل الشام ومصر والذين علمهم إياها الصحابة، ونحن الآن نقتل اللغة العربية في بلاد المسلمين بإشاعتنا اللغات الأجنبية واعتمادها- عودوا أهل هذه البلاد العربية؛ حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم. ثم قال: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب. كيف تفهم كلام الله؟ فلا يصلح أن تقرأ الفاتحة في الصلاة بالأعجمية -بالإنجليزية- وللعلماء كلام في قضية الإحرام بالأعجمية -أي: التلبية بالأعجمية والتسمية في الذبح بالأعجمية، فيجب حتى على الأعجمي أن يتعلم باسم الله عند الذبح، والتلبية باللغة العربية، وما يقيم به الصلاة باللغة العربية- أما أن يفسر القرآن أو معاني الأحاديث بالكلام العجمي فلا مانع، لكن إذا جاء يذبح لابد أن يقول: باسم الله، ولا يقول إلا هذه الكلمة، والمسألة فيها خلاف وفيها كلام، لكن القضية الآن هي أن العيب الكبير فشو هذه الكلمات بيننا وفي مجالسنا، وألفاظنا الدارجة صار فيها كثير من الكلمات العجمية مثل: هات القلص، وأكلنا جام، وحتى في الشركات وبعض الجامعات ترى شيئاً عجيباً تتقزز منه النفوس، وتصطك منه الأسماع، وهو يعرف المقابل، لكن لا أدري هل هو يريد أن يبين أنه عالم بلغة القوم، أو يرى أن الكلام نصفه بالعربية ونصفه بالإنجليزية يدل على تقدم ورقي وحضارة، مثل: ارجع إلى الكونتركت، انظر كم السلري، والمسألة فيها كونفيوجن لماذا هذا؟ وقد أخبرني أحد الإخوة أنه اتصل إلى غرفة من غرف الطلاب في الجامعة فقلت: أريد فلاناً من الغرفة كذا -هذا طالب عربي وال

من أحكام الكلام وآدابه عند الفقهاء

من أحكام الكلام وآدابه عند الفقهاء

خفض الصوت في المسجد

خفض الصوت في المسجد وكذلك من أدب الحديث والنقاش: عدم رفع الأصوات خصوصاً في المساجد، فإن بعض الناس لا يأبهون لحرمة المساجد، وكذلك عدم تكليم المبتدع والعاصي المصر وهجره، عكس هجر المسلم، فهجر المسلم حرام وهجر المبتدع والعاصي واجب، كما فعل عبد الله بن المغفل رضي الله عنه عندما رأى رجلاً يخذف -أي: يضع الحصى بين أصبعيه ويرمي- فقال له: (لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف -أو كان يكره الخذف- وقال: إنه لا يصاد به صيد ولا ينكا به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف -أو كره الخذف- وأنت تخذف!! لا أكلمك كذا وكذا).

كيفية مخاطبة المصلي أثناء صلاته للحاجة

كيفية مخاطبة المصلي أثناء صلاته للحاجة ومن أحكام الكلام والمحادثة أيضاً: مخاطبة المصلي وهو يصلي، فإذا دعت الحاجة لمخاطبة الإنسان وهو يصلي في الصلاة فإنه يجوز ذلك، لكن أين يقف المتكلم؟ روى الإمام البخاري رحمه الله في حديث أم سلمة لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر وعندها ضيوف، قالت: (سمعت النبي عليه الصلاة والسلام ينهى عنهما -ينهى عن صلاة الركعتين بعد العصر- ثم رأيته يصليهما -فخشيت أم سلمة أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام نسي، فأرادت أن تذكره- قالت: ثم دخل عليَّ، وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه فقولي له -والنبي عليه الصلاة والسلام يصلي-: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين -الركعتين بعد العصر- وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية -ذهبت بجانب النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله! تقول لك أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما- فأشار النبي عليه الصلاة والسلام بيده فاستأخرت عنه الجارية، فلما انصرف، قال: يا بنت أبي أمية! -يخاطب زوجته عليه الصلاة والسلام- سألتيني عن الركعتين بعد صلاة العصر، وإنه أتاني أناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان) أي: هاتان قضاء سنة الظهر البعدية، شغله الوفد عنهما فقضاهما بعد العصر، فهو لم يتقصد أن يصلي بعد العصر وإنما كانت قضاءً لسنة الظهر. إذاً: يجوز مخاطبة المصلي وهو يصلي عند الحاجة، ويقف المتكلم بجانب المصلي حتى لا يشوش عليه، ولو وقف أمامه وتكلم ربما ينظر إليه، ولو وقف وراءه فسوف يتشوش عليه مصدر الكلام، إذاً يقف بجانبه، لأن هذا هو الفقه، وافرض أنك -الآن- تريد أن تغادر بيتك مضطراً، ولا بد أن تخبر إنساناً بكلام فوجدته يصلي وتريد أن تقول له: الحق بي إلى مكان كذا، فبإمكانك أن تترك له ورقة أو مثل هذا، لكن لو خشيت ألا يراها لابد أن تتكلم ثم تمشي، فتقف بجانبه وتقول: الحق بي إلى مكان كذا وتمشي. قال البخاري رحمه الله: باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع.

الكلام مع الأهل ومخاطبة الزوجة

الكلام مع الأهل ومخاطبة الزوجة ومن آداب الكلام والمحادثة: الكلام مع الأهل، ومخاطبة الزوجة وملاطفتها كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل في السفر، وهذا من حسن عشرته.

كراهة الحديث بعد العشاء لغير حاجة

كراهة الحديث بعد العشاء لغير حاجة كذلك من الآداب: كراهية الحديث بعد العشاء إلا لحاجة مثل: السمر مع الضيف أو مجلس العلم، أما السهرات الموجودة الآن بالبلوت وغيره أو مجالس الغيبة والنميمة فهذه حرام، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الحديث بعد صلاة العشاء. ونذكر الآن جملة من الآداب بسرعة نلخص بها ما تقدم ونزيد عليه:- قال الماوردي رحمه الله في أدب الدنيا والدين عن شروط الحديث وآدابه: الشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه؛ لاجتناب نفع أو دفع ضر. الشرط الثاني: أن يكون الحديث في موضعه المناسب. الشرط الثالث: أن يقتصر على قدر الحاجة إليه. الشرط الرابع: تخير الألفاظ والكلمات المناسبة.

حسن الاستماع وعدم المقاطعة

حسن الاستماع وعدم المقاطعة وكذلك من آداب الحديث: إذا حدث الرجل حديثاً تعرفه فلا تشاركه فيه، كأنك تريد أن يعلم الناس أنك تعلم من ذلك مثل الذي يعلم، فإن أتى يسرد القصة فدعه يسرد ولو كنت تعرفها، لا تقاطعه وتضيف وتتكلم وتدخل عليه، فهو الآن يتكلم، وأنت تعرف القصة فاسمع، قد كان بعض السلف يسمعون الحديث من شخص وقد سمعه من شيخ قبله بعشرات السنين لكن من باب التواضع كان يسكت. وإذا كنت في قوم ليسوا ببلغاء ولا بفصحاء فدع التطاول عليهم بالبلاغة والفصاحة، وإذا كنت في جماعة أو قوم فلا تذكر جيلاً من الناس أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك فينسب إليك السفه، فإذا جلست في مجلس فلا تقل مثلاً: كل أهل الهند كذا، وكل أهل الشام كذا، وكل أهل مصر كذا، ولا يوجد مصري إلا كذا، ولا يمني إلا كذا، ولا أحد من الجنوب إلا كذا، ولا من الشمال إلا كذا، فهذا التعميم فيه ظلم. ثانياً: ممكن أن يكون في المجلس -وأنت لست منتبهاً- أحدٌ من تلك البلد التي قد ذممت أهلها، فتكون عنده سفيهاً.

آداب أخرى ونصائح توجيهية في آداب الحديث

آداب أخرى ونصائح توجيهية في آداب الحديث ولا تذم اسماً من أسماء الرجال أو النساء إلا ما ذمه الشرع بأن تقول: هذا قبيح من الأسماء، لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك، ولعله يكون بعض أسماء قومه وأهله، ولا تستصغرن من هذا شيئاً، فكل ذلك يجرح النفس، وجرح اللسان أشد من جرح اليد. ومن الآداب: لا تتحدث عن نفسك إلا لحاجة، ولا عن أولادك ولا أموالك ولا عن الدعوات التي تلقيتها ورفضتها إلخ؛ لأن هذا ليس من التواضع. وكذلك إظهار الاهتمام بمن تحدثه، فأصغ إليه، وأعره انتباهك، وأعطه إحساساً بأن له قيمة ووزناً، وفي موضع الجدال والمناقشة كن واسع الصدر، ولا تستأثر بالكلام وامنح الفرصة للآخرين للكلام؛ لأن بعض الناس لا يتركون فرصة للناس في المجلس بل يستأثرون به، وهذا من الكبر. ووزع النظرات على من تحدثهم، وتخلل الحديث بفترات إصغاء إلى الآخرين تعينك على ترتيب أفكارك؛ لأن الذي يعين على ترتيب الأفكار هو الصمت وليس الكلام، فإن الله خلق لك أذنين اثنتين ولساناً واحداً ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به، وجعل الله لكل شيء بابين وجعل للسان أربعة أبواب، وهي الشفتين والأسنان؛ لكي ينحبس اللسان، ومع ذلك أسرع شيء يخرج من السجن هو هذا وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق وعدم خلط الجد بالهزل، والتفكير في أنسب العبارات وأحسن الألفاظ، ومراعاة مخارج الحروف والألفاظ دون تكلف وتخلل كالبقر، وعدم الإسراف في المدح والذم. وليكن صوتك هادئاً مسموعاً بوضوح دون ارتفاع أو صياح، ويحسن ألاَّ يكون على وتيرة واحدة فيمل السامع، وعدم التعالي والأستاذية، وكثيراً ما يكون الحديث طريفاً في موضوعه ومقبولاً، ولكن الإطالة وكثرة الثرثرة فيه تضعفه. والمحادثة شيء والخطابة شيء آخر، فلا يصلح أن يتحول الحديث إلى خطبة دون داع. والمناقشة الهادئة من أمتع أنواع الحديث طالما تحلى الطرفان بالأدب الإسلامي، ولهذا تفصيل سيأتي. وإياك والحديث في موضوع لا تتقنه. وتجنب الغمزات واللمزات، وإخراج اللسان أثناء الحديث والشهيق والتأفف. وكثير من الناس يتأثرون باللهجة أكثر مما يتأثرون بالمدلول الحرفي للألفاظ، فاحرص على صدق اللهجة. وعدم الإسراع في الحديث فتأكل نصف الألفاظ، وتترك الجمل للسامع دون إكمال، فإن هذا مذموم. وعدم الإبطاء الشديد المسبب للملل كأنك إنما تعطيهم بالقطارة، وبعض الذين يبحثون في هذه المسائل يقولون: إن حدود السرعة الطبيعية في الكلام مائة وعشرين كلمة في الدقيقة، فكم سيئة علينا ونحن نتكلم كذا وكذا كلمة في الساعات؟! وإياك والكلام أثناء الغضب؛ فإن الغضبان تنهال عباراته في سرعة تدمر بعض المقاطع مما يعصف بوضوح الكلام، ويثير المستمع. وسجل صوتك مرة لتعلم خطأك من صوابك؛ فتدرك كم سجل الملك عليك في صحيفتك. وإذا لاحظت أن مستمعيك يستعيدونك بعض العبارات، فمعنى ذلك: أن صوتك أو مخارج الحروف أو درجة الكلام ومستواه غير مناسب. وإذا كانوا يقاطعون حديثك؛ فاعلم أن كلامك ممل. وحاول أن تقرأ بصوت مرتفع لتتدرب على الحديث والكلام، وأنت تقرأ لوحدك. وليس أفسد لأجواء الاجتماعات من انقسام الناس أزواجاً يتحدث كل اثنين مع بعضهما، فيقل الانتفاع بدلاً من توحيد المجلس على مستمع واحد، ويدور الكلام بينهم. ولكل مناسبة حديثها المناسب، فكلام الدرس غير كلام الزيارة أو الطعام أو الزوجين وهكذا. والتمهيد لذكر الموضوعات المحرجة بكلمة مثل كلمة: لا مؤاخذة مثلاً. وإعطاء الحاضرين قدرهم وإشعارهم بقيمتهم عندك، مثل قولك: كما تفضل فلان، أو مثلما ذكر الأخ فلان، أو إضافة إلى ما ذكر أخي فلان، وهذه نقطة جيدة، أو هذه إضافة بسيطة على ما ذكر، ونحو ذلك. وحذار من الإطراء الزائد، فإنك إذا أطريت فقد خالفت السنة في المدح أولاً، وثانياً: تبين أنك منافق وكذاب، فإذا قال أحد كلمة، قلت: هذه فائدة عظيمة وكبيرة وهائلة وجميلة وذات وزن ولا مثيل لها!! أو أن يقال كما يحدث في بعض المجالس من النفاق: أنت رأس المال في هذه البلد، ونحن أيتام من غيرك! التخطئة في الحديث لها آداب: كما يقول إنسان مثلاً: اسمح لي أن أعلق على شيء، أو من منا لا يخطئ لكن هنا حصل خطأ، وإن كان تعليقي خطأ فأرجو أن تصحح لي، وإذا كان فهمي لكلامك غير ما تقصد فأرجو التوضيح منك ونحو ذلك، فالتخطئة للآخرين لها آداب. وكثيرون يبدءون بداية جيدة، ثم يسيئون كثيراً، فيقول: اسمح لي، أو مع تقديري واحترامي لك، أو يا عزيزي، ثم ينزل عليه بكلام شديد جداً. وكذلك نحرص على التلميح بدلاً من المواجهة ما أمكن، ونتجنب الكلمات النابية والألفاظ السوقية. الإصغاء والاستماع للآخرين، وهذا فن بحد ذاته، سئل أحد الأطباء الناجحين عن أهم أسباب نجاحه فقال: الإصغاء والاستماع؛ فإن كثيراً من المرضى يأتون إليَّ لا لكونهم مرضى حقيقة، ولكن لأنهم يريدون مستمعاً يصغي إلى شكواهم وتضايقاتهم النفسية؛ ولذلك تجد بعض الإخوة الجيدين إذا جاء أحدٌ يتكلم في مجلس يأخذ ورقة وينصت، ويسجل الكلمات المهمة التي تستفاد أو تحتاج إلى تعقيب مثلاً. ونحن نسمع ولا ننصت، وهناك فرق بين الاستماع والإنصات، فالإنصات حضور القلب، أما السماع فهو وصول الصوت إلى الأذن؛ ولذلك نحن -أحياناً- نعيد ما قاله الآخرون في المجلس نفسه مرة أخرى ونكرره، وهذا التكرار نتيجةً لعدم الانتباه والإنصات، ولو قلنا الآن: يا أيها الإخوة! أعيدوا لنا هذه النقاط، فتجد بعض الناس يعيدون الجملة التي قالها شخص، لأنه لم يكن منتبهاً ولا منصتاً لما تكلم الآخر، وهو يتذكر ويفكر في شيء، لكنه لا ينصت إلى كلام غيره؛ ولذلك يتذكر الفائدة فيقولها وغيره قد قالها قبل قليل، ولذلك فإن سبب التكرار في المجالس هو عدم الإنصات والانتباه. وأقبل بوجهك على من تحدثه، والمقاطعة تجرح شعور محدثك، فإذا أردت أن يستمع إليك الآخرون، فأحسن الإنصات إليهم. ولا تتكلم وفمك مملوء بالطعام، ولا تسل من فمه مملوء بالطعام؛ لأن فيه إحراجاً له. وفي المناقشات على المسلم أن يهتم بما يلي:- أولاً: قصد وجه الله تعالى، وإظهار الحق. ثانياً: التمهل قبل الإجابة على كلام الطرف الآخر. ثالثاً: عدم الإصرار على الرأي والمعاندة. رابعاً: ترك المبالغة، ولا بد من الواقعية. خامساً: ليس المقصود تبيان صوابك، ولكن -أيضاً- حفظ ماء وجه صاحبك. والمحافظة على كرامته تشجعه بالاعتراف والعدول عن رأيه. سادساً: أن يكون للمجلس رئيس يشجع الجميع على الاشتراك الفعلي، ويعطي الجميع فرصة للكلام، ويلتزم الحياد، ويمنع المقاطعات، ويفتتح الجلسة بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ويمهد لعرض الموضوع المراد طرحه ومناقشته وعناصر ذلك، ويختتم الجلسة بآراء المؤيدين للفكرة والمعارضين لها، والرأي الراجح.

من آداب المناظرات العلمية

من آداب المناظرات العلمية لقد ذكر الشنقيطي -رحمه الله تعالى- آداباً للمناظرات العلمية، فمنها: عدم إطالة الكلام في غير فائدة أو اختصاره اختصاراً يخل بالمقصود. أن يتجنب غرابة الألفاظ والإجمال، فلا بد من التبيين. أن يكون كلامهما في ذات الموضوع لا خارجاً عنه. ألا يستهزئ أحدهما بالآخر ولا يسخر منه. أن يقصد كل منهما ظهور الحق، ولو على يد خصمه. ألا يتعرض أحدهما لكلام الآخر حتى يفهم مراده من الكلام. أن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه، ولا يقطع عليه كلامه قبل أن يتمه. ألا يحتقر خصمه ويقلل من شأنه. والإيجاز مهم، قال الهيثم بن صالح لابنه: إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب، وقال جعفر بن يحيى: إذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار في الكلام عيباً. واللغو هذا اتركه جانباً، واستبدله بالكلام النافع كما قال الشاعر: واغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستنيحاً وإذا ما هممت بمنطق الباطل فاجعل مكانه تسبيحاً إن بعض السكوت خير من النطق وإن كنت بالكلام فصيحاً هذا لـ ابن المبارك -رحمه الله- وشيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كان إذا تكلم أحد بين يديه بكلام فارغ أو كلام خطأ أو جدال، يقول له الشيخ: سبح سبح -أي: بدلاً من هذا الهراء والكلام الفارغ اشتغل بالتسبيح ينفعك فعله- فلعله أخذه من كلام ابن المبارك: وإذا ما هممت بمنطق الباطل فاجعل مكانه تسبيحاً سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب المزاح

آداب المزاح المزاح بضم الميم: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى، والمزاح مباح، ولكن لا يستحب الإكثار منه؛ لأنه قد يؤدي إلى جرح مشاعر الآخرين أو أذيتهم، ولا تجوز أذية المسلمين، والمزاح له آداب وضوابط ذكرت في هذا الدرس. وقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح أهله وأصحابه رضوان الله عليهم.

صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: نشرع في آداب المزاح إن شاء الله تعالى, والمزاح -بضم الميم-: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى, فإذا بلغ إلى الإيذاء، فهو السخرية. والمزاح بكسر الميم مصدر, وقد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه مزح، وكان يمزح عليه الصلاة السلام, فقد روى الترمذي في كتاب الشمائل المحمدية: باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ذا الأذنين). قال أبو أسامة الراوي: أي: يمازحه, وليس المقصود السخرية أو الاستهزاء، وإنما ممازحة منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان له أذنان, وهو حديث صحيح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير -وهو أخوه لأمه-: يا أبا عمير! ما فعل النغير). قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: وفِقه هذا الحديث: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح. 2 - وفيه: أنه كنَّى غلاماً صغيراً فقال له: (يا أبا عمير). 3 - وفيه: أنه لا بأس أن يعطى الصبي الطير ليلعب به, وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير) لأنه كان له نغير -أي: طائر صغير- يلعب به فمات هذا الطائر، فحزن الغلام عليه، فمازحه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا أبا عمير! ما فعل النغير). هذا الحديث فيه عدة فوائد، حتى قال الشافعي رحمه الله: إنه أمضى ليلة فاستخرج من هذا الحديث ألف فائدة بتوابعها ومتعلقاتها، وإلا فيصعب أن يستخرج منه بدونها ألفاً, لكن بما يمكن أن يترتب على ما يستخرج منه يكون فيه هذا العدد الكبير من الفوائد. وهذا الحديث -أيضاً- حديث صحيح, وأبو عمير توفي صغيراً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: (نعم. غير أني لا أقول إلا حقاً). وعن أنس بن مالك أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: سأله دابة ليركبها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني حاملك على ولد ناقة, فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق) أي: أن الناقة مهما كبرت فهي بنت ناقة, قد ولدتها أمها من قبل, وهو حديث صحيح. وعنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً , وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى مسكنه في البادية، وإذا جاء هو من البادية أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديتنا -أي: نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته- ونحن حاضروه) أي: نحن حاضروا المدينة له, نعطيه ما يستفيد من الحاضرة, وهو يعطينا ما نستفيد من البادية, وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً رضي الله عنه، فهو قبيح الصورة، مليح السريرة، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه -كأنه أتى من البادية بشيء يبيعه في المدينة - فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره, فقال: من هذا؟ أرسلني -اتركني- فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه- أي: يحاول ويجتهد طيلة الوقت أن يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم، لبركته عليه الصلاة والسلام وبركة جسده الشريف- فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشتري هذا العبد, فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (أنت عند الله غالٍ). وعن الحسن قال: أتت عجوزٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة, فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز, قال: فولت تبكي, فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:35 - 37]) فجعلناهن عذارى، أعدنا إنشاءهن من جديد حتى تصبح الثيب في الدنيا عذراء يوم القيامة (عرباً) متحببات إلى أزواجهن, (أتراباً) في سن واحدة, وأهل الجنة أعمارهم جميعاً ثلاثة وثلاثين سنة كما جاء في الحديث الصحيح. إذاً: هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح، ولكنه قال: (إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً) للتأكيد, وفي رواية: (إني وإن داعبتكم، فلا أقول إلا حقاً) وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال -أيضاً- مبيناً شيئاً مما لا يجوز في المزاح، قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً). وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد قال في الحديث الصحيح: (أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً). إذاً: هذه الأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح، وهناك ضوابط مذكورة في هذه الأحاديث تدل على مزاحه عليه الصلاة والسلام, ومشروعية مزاحه عليه الصلاة والسلام.

قراءة في كتاب المراح في المزاح للغزي

قراءة في كتاب المراح في المزاح للغزي أما بالنسبة لآداب المزاح، فقد ذكر العلماء فيها أشياء كثيرة منهم: الماوردي رحمه الله في أدب الدنيا والدين , وللغزي رحمه الله كتاب بعنوان: المراح في المزاح , ونقتطف منه أجزاء في هذا الدرس. قال: "الحمد لله على جميل أفضاله وجزيل بره ونواله, والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وصحبه وآله, وبعد: فقد سئلت قديماً عن المزاح وما يكره منه وما يباح، فأجبت؛ لأنه مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلان، لما فيه من ترويح القلوب والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماك فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة". وسنستعرض بعد قليل ما هي الضوابط في المزاح. المسألة ليست مسألة إقناع الناس أن المزاح أمر شرعي, فالناس -على كل حال- متفلتين في هذا الجانب, الآن القضية قضية ضبط المزاح ضبطاً شرعياً, فذكرنا بعض الضوابط في الأحاديث وسنعيدها مع شيء من التعليق, وأيضاً- سيأتي في كلام صاحب هذه الرسالة المراح للغزي رحمه الله وبعض الأشياء الأخرى, قال: "بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماكٌ فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة، ولا فحشٌ يورث الضغينة ويحرك الحقود الكنينة, ثم طلب السائل من بعد مدة بسط الكلام في ذلك وإيضاح الدلائل، فقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ومفوضاً جميع أموري إليه: قد ورد في ذم المزاح ومدحه أخبار, فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، فإنه إزاحةٌ عن الحقوق، ومخرجٌ إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويضيم الممازح". بعض العبارات ربما إذا قارن أحد بعض الكتب يجدها منقولة، فمثلاً يقول الماوردي في كتابه: اعلم أن للمزاح إزاحة عن الحقوق ومخرج إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويؤذي الممازح, والعبارة تقريباً موجودة, فوصمه المازح: أن يذهب عنه الهيبة والبهاء ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء, ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء, وأما إضامة الممازح، فلأنه إذا قوبل بفعل ممضٍ أو قول مستكره وسكت عليه أحزن قلبه، وأشغل فكره -الذي يمزح معه في الغالب أنه تخرج منه المزحة بطريقة استهزاء، فهذا سيسكت على مضر, وربما يجامل ويضحك مع البقية في المجلس لكن في الحقيقة ماذا في قلبه؟ - قال: أو قابل عليه مع صاحبه حشمة وأدباً، وربما كان للعداوة والبغضاء سبباً, فإن الشر إذا فتح لا يستد, وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد, وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك, وربما تكون هذه المقاتلة التي ربما تصل إلى سفك الدماء أصلها مزحة, فحق العاقل يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساويه, وعلى ذلك يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بها هنا بصيغة التضعيف: (لا تماري أخاك ولا تمازحه) لكن بما أنه لم يثبت فلا نتكلف الجواب عليه, لكن لو ثبت فنقول: ما معنى لا تمازحه وقد مازح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: لا بد أن نحمل النهي عن الممازحة هنا على أمرٍ غير الذي ورد في الممازحة, فنقول: إن الممازحة كانت للدعابة والفكاهة والطرفة والملح، وكان فيها تطييب للنفوس، وتأليف للقلوب, وما ورد فيه النهي عنه إلا إذا كان فيه غيبة أو إيذاء للآخرين أو نحو ذلك.

أقوال عابرة في المزاح

أقوال عابرة في المزاح قال عمر بن عبد العزيز: " اتقوا المزاح فإنها حمقة تولد ضغينة ". وقال: " إن المزاح سباب إلا أن صاحبه يضحك ". وقيل: إنما سمي مزاحاً لأنه مُزيح عن الحق. وقال إبراهيم النخعي: المزاح من سخط أو بطر. وقيل في ميسور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب. وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته ومن كثر خلافه طابت غيبته. وقال بعض البلغاء: من قلّ عقله كثر هزله. وذكر خالد بن صفوان المزاح -وهو من الخطباء المشهورين- فقال: يصك أحد صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل, ويفرغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحه بعد كل هذا الإيذاء، يقول: إنما كنت أمزح معك. وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال، فنظمها بعض الشعراء، فقال: شر مزاح المرء لا يقال وخيره يا صاح لا ينال وقد يقال كثرة المزاح من الفتى تدعو إلى التلاح إن المزاح بدؤه حلاوة لكنما آخره عداوة يحقد منه الرجل الشريف ويجترئ بسخفه السخيف لا تمازح الشريف يحقد ولا الدنيء يجترئ ويفسد وقال بعضهم: ربما يستفتح المزح مغاليق الحمم، أي: الموت. وقال بعضهم لولده: اقتصد في مزحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المآنسين، ويوحش منك المصاحبين -يجعل بينك وبينهم وحشة- وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم, أي: إذا كان المقصود بالمزاح نفي السآمة التي طرأت، مثلاً: حصل ملل في مجلس العلم، كأن يطول المجلس، فحصل فيه نوعٌ من السآمة، فأورد أحد الحاضرين طرفة قصد بهذه المزحة إزالة السآمة، فهذا أمرٌ محمود، وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، أو حدث به من همَّ أو غم، فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفس، أي: الذي في صدره شيء لا بد له من تنفيس. وقال بعض الشعراء: أروق القلب ببعض الهزل تجاهل مني بغير جهل أمزح فيه مزح أهل فضل والمزح أحياناً جلاء العقل وقال أبو الفتح البستي رحمه الله وهو صاحب القصيدة المشهورة: زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران أفض طبعك المكدود بالجد راحةً يجم وعلله بشيءٍ من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح إذاً: فليكن المزاح في الكلام مثل الملح في الطعام, وإذا لم يوجد بالمرة كان الكلام فيه شيء من السآمة, وإذا كثر أفسد، مثلما أن الملح إذا كثر في الطعام أفسده وما عاد مستساغاً، إما أن يكون غير مستساغ أو ممجوج.

مزاحه صلى الله عليه وسلم

مزاحه صلى الله عليه وسلم ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث. حديث: (صح جسمك يا خوات) وهذا الحديث رواه الحاكم، وفي سنده موسى بن زكريا التستري , قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: موسى بن زكريا التستري الذي يروي عن شباب العصفري ونحوه تكلم فيه الدارقطني , وحكى الحاكم عن الدارقطني أنه متروك، وقال ابن حجر في لسان الميزان عن موسى بن زكريا التستري الذي هو في إسناد (صح جسمك يا خوات) قال: الذي يروي عن شَبَاب العصفري ونحوه تكلم فيه الدارقطني، وحكى الحاكم عن الدارقطني بأنه متروك, وهذه العبارة في ميزان الاعتدال ولسان الميزان لـ ابن حجر. إذاً: علة هذا السند هو موسى بن زكريا التستري. ولنأت الآن إلى بعض الأحاديث التي وردت مما أورده المصنف رحمه الله وغيره, ونريد معرفة صحة هذه الأحاديث من مزاح النبي عليه الصلاة والسلام, عن أم أيمن أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لزوجها، فقال لها: (من زوجك؟ قالت: فلان, فقال: الذي في عينه بياض؟ فقالت: أي رسول الله! ما بعينه بياض, قال: بلى. إن بعينه بياضاً, فقالت: لا والله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما من أحدٍ إلا في عينه بياض)، وفي رواية: (فانصرفت عجلة إلى زوجها، وجعلت تتأمل عينيه, فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينيك بياضاً, فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها). وكذلك قد جاء أنه مزح صلى الله عليه وسلم مع محمود بن الربيع، والقصة معروفة وهي في الصحيح، ومجّ مجّة من دلوٍ من ماء في وجهه, فداعبه بها أو مازحه بها. وكذلك مما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله: (علمي حفصة رقية النملة) وهي قروح تخرج في الجنب, هذه الرقية يقول فيها بعض العلماء: إن فيها إشارة إلى مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته لزوجته حفصة , قالوا: إنها كانت -أي: الرقية- كلاماً تقوله النساء مما لا يضر ولا ينفع, وهو أنهم كانوا يقولون: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء تفتعل غير ألَّا تعصي الرجل فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أراد مزاحاً ولغزاً في الكلام؛ لأنه كان قد ألقى إلى حفصة سراً، فأفشته، فقال للشفاء: (علميها رقية النملة) لأن في رقية النملة هذه العبارة: "غير ألَّا تعصي الرجل" وأنها قد عصته بإفشاء سره. وقال البعض: ليس الأمر مزاحاً إنما تعليماً، وأنه قال: كما علمتها الكتابة، وأن هذه الرقية رقية جادة وليست مزاحاًَ على الاختلاف في شرح هذا الحديث, لكن هذا قول من الأقوال التي وردت في شرحه. وعن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها -أي: أبو بكر أراد أن يؤدب بنته, كيف ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم؟! - وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسه -أي: يمنع أبا بكر من ضرب عائشة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر لـ عائشة: (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن، فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا) رواه أبو داود. وثبت من ممازحته عليه الصلاة والسلام وتلطيف الجو بين نسائه، والضرائر يكون بينهن ما يكون, عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت عائشة، فبعث إليه بعض نسائه بقصعة - فغارت عائشة: كيف تأتي بصحن طعام في بيتي وفي يومي؟ تتجرأ هذه الجرأة- فأخذت عائشة القصعة وألقتها، فكسرتها، من غيرتها رضي الله عنها, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -في البخاري وغيره- يضم الطعام ويجمعه ويجمع كسر الإناء, ويقول: (غارت أمكم) أي: عائشة، لأنها أم المؤمنين، هذا من مزاحه عليه الصلاة والسلام، ومن ملاطفته أو من تلطيف الجو المتكهم نتيجة الغيرة بين نسائه. يقول العلماء: "إن الغيرة يعذر فيها صاحبها أو صاحبتها ما لا يعذر الشخص الذي لا يكون عنده هذه الغيرة, حتى قيل: الغيرة لا ترى أسفل الوادي من أعلاه" أي: إذا بلغت بها الغيرة شدتها لا تعرف أسفل الوادي من أعلاه, تنقلب الأمور عندها وتنعكس. ولذلك ربما يغتفر منها في الغيرة ما لا يغتفر من المرأة العادية, هذا فيه إشارة إلى أن الشخص -مثلاً- لو تزوج امرأة واحدة، ثم تزوج عليها أخرى فحدثت غيرة شديدة من الأولى أو الثانية ولكن الغيرة من الأولى أكثر، فساء تصرفها، فعليه أن يحتمل ذلك ويعذرها لأجل ما فيها من الغيرة, كما هو مركبٌ في طبع النساء, فعليه أن يعذر في هذه الحالة, فلما جاءت قصعة عائشة بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها، وأعطى عائشة القصعة المكسورة, فعدل عليه الصلاة والسلام, وعوض صاحبة القصعة المكسورة بقصعة المرأة التي كسرتها. وكذلك فإنه قد جاء في حديث رواه أبو يعلى، وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد, أن عائشة قالت: (كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة , فصنعت خزيراً -الخزير: نوع من الطعام يستخدم فيه اللحم والدقيق- فجئت به، فقلت لـ سودة: كلي, فقالت: لا أحبه- فظنت عائشة أنها قالت: لا أحبه؛ لأنها لا تريد أن تأكل من صنعها وأنها نفرت من صنعها، أو أن فيها إذلالاً أو في تصرفها شيء- فقالت: والله لتأكلين أو لألطخنّ وجهك -كل هذه الأشياء لا بد أن تفهم في قضية الغيرة الموجودة بين النساء, والإنسان العادي لا يحتمل ما يحصل- فقالت: ما أنا بباغية, فأخذت شيئاً من الصحفة فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبينها, فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد مني, فتناولت من الصفحة شيئاً، فمسحت به وجهي, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك). وجاء كذلك عند أبي داود عن أسيد بن حضير -رجل من الأنصار- قال: بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح، وبينما هو يضحكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود, فقال: أصبرني، فقال: (اصطبر -أي: أنت طعنتني وأنا أريد أن أقتص- قال الأعرابي: إن عليك قميصاً يا رسول الله! وليس علي قميص -لا بد من العدل، أنت طعنتني وليس علي قميص، في اللحم مباشرة, وأنا أريد أن يكون في اللحم مباشرة- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه- أي: يقبل جلده وبياضه- قال: إنما أردت هذا يا رسول الله) الحديث رواه أبو داود في كتاب الأدب. ومن أمثلة الممازحات التي ليست في موضعها وتصلح أن تكون مثالاً يأتينا في الضوابط، ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علقمة بن مجزر على بعثٍ وأنا فيهم, فلما انتهى إلى رأس غزاته، أو كان ببعض الطريق استأذنته طائفة من الجيش فأذن لهم، وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، فكنت فيمن غزا معهم, فلما كنت ببعض الطريق أوقد القوم ناراً ليصطلوا، أو ليصنعوا عليها صنيعاً- أي: يطبخوا عليها- فقال عبد الله - وكانت فيه دعابة أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: فما أنا بآمركم بشيء إلا صنعتموه, قالوا: نعم. قال: فإني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار - أي: تدخلوا في هذه النار- فقام أناس فتحجزوا، فلما ظن أنهم واثبون- أي: أنهم فعلاً سيثبون بها- قال: أمسكوا على أنفسكم، فإنما كنت أمزح معكم, فلما قدمنا -أي: على النبي صلى الله عليه وسلم- ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه) الأمير إذا أمر بمعصية الله فلا تطيعوه, أنتم تريدون الهرب من النار، فكيف تقعون فيها؟ هذا الحديث موجود في أحد الكتب الأربعة؛ أبو داود، أو النسائي، أو الترمذي، أو ابن ماجة. وهذا حديث آخر رواه ابن ماجة، وفيه ضعف؛ لأن في إسناده زمعة بن صالح وهو متكلمٌ فيه, أن أبا بكر خرج في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام ومعه نعيمان وسويبق بن حرملة , وكانا قد شهدا بدراً , وكان نعيمان على الزاد، وكان سويبق رجلاً مزاحاًَ، فقال لـ نعيمان: أطعمني، قال: حتى يجيء أبو بكر , قال: فلأغيظنك -أي: سأضع لك مقلباً- قال: فمروا بقوم، فقال لهم سويبق: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم. قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حرٌ, فإذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا علي عبدي, قالوا: لا بل نشتريه منك, فاشتروه منه بعشر قرائص -بعشر من الإبل- قال: خذوه, ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال

صور من مزاح السلف الصالح رضوان الله عليهم

صور من مزاح السلف الصالح رضوان الله عليهم ومما ورد في مزاح أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما رواه البخاري عن بكر بن عبد الله المزني قال: [كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ، فإذا حزبهم أمر كانوا هم الرجال] وهذا حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد , وهذا ليس فيه إهدار للنعمة، أو أنه يؤذي، بمعنى: أنه يضربه بشيء ثقيل, فلو أنه حصل في بعض المناسبات أن رماه بقشرته -مثلاً- دون أن يؤذيه فلا بأس, لكن المقصود أنه كان في بعض المواقف يحصل شيء من هذا, قد يكون في الأسفار عندما يكون الجو فيه تعب, فيكون المزاح في السفر مما يقبل لأن في السفر شدة وعناء, والملاطفة والممازحة في السفر أوكد من الحضر, فيكون مقبولاً. وسئل النخعي: هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم. والإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي, والناس الآن قد يغرقون في الضحك، لكن ما عندهم إيمان لا مثل الجبال الرواسي ولا مثل القدور الرواسي. وكذلك فإنه قد جاء في مزاح عدد من السلف آثار، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي المليح، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: [إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا أربد منه حاجة وجد رجلاً] أي: أنه يكون عنده تواضع لأهله، ولين ورفق, ولكن إذا كانت حاجة المرأة إلى رجل كان رجلاً, ونظر ابن الخطاب إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها، قال: اللهم زوجني بحور العين, قال عمر: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة, خطبت الحور العين، وما هو المقابل؟ صلاة سريعة بلا طمأنينة. وكذلك مما جاء عن عيينة بن حصن أنه شكا إلى نعيمان -ونعيمان كان فيه طرافة- صعوبة الصيام, فقال: صم الليل, فروي أن عيينه دخل على عثمان وهو يفطر في شهر رمضان, فقال: العشاء، فقال: أنا صائم, فقال عثمان: الصوم بالليل, فقال: هو أخف عليّ, فيقال: إن عثمان قال: هذه إحدى هنات نعيمان -وكبير السن الذي لا يستطيع أن يصوم يشرع له الإفطار ويطعم: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]. وقال علي بن أبي طالب: [لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس] أحياناً تكون هناك للمازحة مناسبات، وتكون مؤكدة ومقبولة، كأن يكون هناك رجل عابس أو مقطب, فالإنسان يمازحه ليذهب عنه تقطيبه أو عبوسه, وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام مهموم وفيه غم بسبب ما حصل مع زوجاته, قال عمر: [أردت أن أقول شيئاً أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم] فهو تقصد ذلك في هذه المناسبة. وكذلك روي أن علياً رضي الله عنه جاءه رجل يشكو إليه، يقول: إني احتلمت على أمي -أي: إني رأيت أني أزني بأمي- فقال: أقيموه بالشمس واضربوا ظله حد الزنا, كأنه يقول: أنا مهموم، وحصلت لي مصيبة رأيت في المنام أني وقعت على أمي, ماذا أفعل؟ ما هو الحكم الآن؟ وعلي معروف في القضاء رضي الله عنه, قال: أقيموه في الشمس واجلدوا ظله. وروى الأعمش عن أبي وائل أنه قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان، فقدم إلينا خبز شعير وملحاً جريشاً, فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح زعتر كان أطيب, فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد الله الذي قنعنا بما رزقنا, فقال سلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة -أي: من أجل أن آتي لك بالزعتر رهنت مطهرتي، لأنه ليس عندي قيمة الزعتر- وأنت تتمنى الزعتر على صاحب البيت، فتسبب ذلك أن المطهرة مرهونة الآن من أجلك. وكذلك جاء من الطرف عن الشعبي وكان الشعبي من العلماء الكبار، لكن كان مزاحاً- فمما جاء عن الشعبي أنه سئل عن المسح على اللحية؟ فقال: خللها بالأصابع، قال: أخاف ألا تبلها- بعض العلماء المفتين قد يمزح مع السائل مزحة لكن لها معنى ومغزى وليست فقط للضحك- قال: أخاف ألا تبلها -هذا تنطع- قال الشعبي: إن خفت، فانقعها من أول الليل!! وسأله آخر: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم. قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم! وروى الشعبي حديثاً (تسحروا ولو بأن يضع أحدكم أصبعه على التراب ثم يضعها في فيه) فقال رجل: أي الأصابع؟ فتناول الشعبي إبهام رجله، وقال: هذه! وقال رجل: ما اسم امرأة إبليس, قال الشعبي: ذاك نكاح ما شهدناه. وروي أن خياطاً مرَّ بـ الشعبي وهو مع امرأةٍ في المسجد، فقال: أيكما الشعبي؟ هذا مغفل إلى هذه الدرجة لا يعرف الشعبي! فأشار إليه الشعبي: أن هذه! وكذلك من الذين كانوا معروفين بالمزاح الأعمش رحمه الله, قال ابن عياش: رأيت على الأعمش فروة مقلوبة صوفها من الخارج, فأصابنا مطر، فمررنا على كلب، فتنحى الأعمش وقال: لا يحسب أني شاة. وقع بين الأعمش وامرأته وحشة، فسأل بعض أصحابه أن يصلح بينهما, فقال هذا الصاحب لزوجة ذاك محاولاً تلطيف ما بينهما, قال: هذا سيدنا وشيخنا أبو محمد فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، وحموشة ساقيه، وضعف ركبتيه، وقزل رجليه، وجعل يصف!! فقال الأعمش: قم عنا فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه. وجاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له: الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك لئلا تسرق! قال الربيع: دخلت على الشافعي وهو مريض، فقلت: قوِّى الله ضعفك؟ -فقصده واضح أي: أن يبدلك الله بدلاً من الضعف قوة, يعني: بدل المرض صحة- فقال الشافعي رحمه الله: لو قوى ضعفي قتلتني, لأن العبارة قد تفهم قوى الله ضعفك أي زاده وجعله مضاعفاً, قال قلت: والله ما أردت إلا الخير, قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير. فقلت: ما أقول؟ أي: علمني عبارة بدل هذه العبارة، فلاطفه بهذه الملاطفة. قال عثمان الصيدلاني: شهدت إبراهيم الحربي وقد أتاه حائكٌ في يوم عيد، فقال: يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل صلّى صلاة العيد ولم يشترِ ناطفاً ما الذي يجب عليه؟ الناطف: نوع من الحلوى, يجعل من السكر ويدهن به الأشياء التي تصنع من العجين فانظر إلى سذاجة هذا الخياط. فتبسم إبراهيم، ثم قال: يتصدق بدرهمين, فلما مضى قال: ما علينا أن نفرح المساكين من مال هذا الأحمق الذي يسأل مثل هذا السؤال! وهناك كثير من القصص التي وردت عن السلف في مسألة المزاح, وحسبنا منها ما ذكرنا.

ضوابط المزاح

ضوابط المزاح نذكر في ختام هذا الدرس ضوابط المزاح: أولاً: ألاَّ يكون فيه كذب, امزح ولكن لا تقول إلا حقاً, رواية، حادثة صحيحة فيها طرفة تذكرها, أما أن تختلق أشياء لإضحاك الناس فلا. ثانياً: ألا يكون فيه غيبة. ثالثاً: ألا يكون فيه قذف. رابعاً: أن يكون في الوقت المناسب, فلا يكون -مثلاً- في وقت الوعظ، أو التذكير بالموت، أو جلسة علم وجِدٍّ، ويأتي في منتصف هذا الجو العلمي أو الوعظي من يلقي بطرفة، فهذا من أسوأ ما يمكن أن يحدث في مجالس العلم. خامساً: عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة. سادساً: عدم الترويع وعدم الإضرار به, فلا يأتي شخص ويخطف مفتاح سيارة شخص آخر أو يسرق, أو يأخذ منه شيئاً ثميناً، فهذا فيه ترويع وخوف، وربما يبلغ الشرطة، وفي الأخير يأتي هذا ويقول: كنت أمزح, فهذا لا يكون بحال. سابعاً: ألا يكون فيه فحش, بعض النكت التي تُسمى عند العوام نكتاً هي عبارة عن قلة حياء، وقلة أدب وبذاءة, وتكون قبيحة، وهي كثيرة جداً ومنتشرة بين الناس في المجالس, كل الطرف التي يأتون بها متعلقة بالعورات المغلظة, وربما بلغت البذاءة ببعضهم أن يأتيك بطرفة فيما يتعلق بجماع الرجل بزوجته, أو ما يكون بينهما من الأشياء, والله لا يحب الجهر بالسوء من القول, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً أو متفحشاً. ثامناً: ألا يكون فيها استهزاء بشيء من الدين، كالاستهزاء بالكتاب العزيز، أو بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالملائكة, فبعض النكت مذكور فيها استهزاء بالملائكة، أو الجنة والنار، أو عذاب القبر، فهذه كثيرة بين الناس, يقول: عندي نكتة ثم يأتي بشيء فيه ذكر لأشياء من العقيدة أو من اليوم الآخر يجعله في هيئة طرفة ونكتة. تاسعاً: ألا يكون مع السفهاء، لأنه إذا مازح السفهاء ردوا عليه سفاهة, فأضر ذلك بشخصيته. عاشراً: أن يراعي شعور الآخرين, لأنه قد يأتي بمزحة لكن تجرح شعور الذي أمامه, ويجب على الإنسان أن يكون أدبياً يراعي مشاعر الخلق, وإذا أراد أن يمازح لا يزعجه ولا يجعله يغضب منه, وليست القضية إضحاك أكبر عدد في المجلس ولو كان فيها إيذاء للآخرين, وكثير من المزحات يكون فيها ضحايا, يعني: ضحك من في المجلس، لكن صار بينك وبين الذي مزحت به كما يقال في لغة العرب: تطنزت به, هذا موجود في كثير من النكت وطرائف الناس, وربما قام من المجلس وقد خاصمهم وهجرهم أو لم يكلمه من أجل أنه جعل منه أضحوكة في المجلس, وهذا يقع كثيراً, وهذا لا شك أنه إيذاء للمؤمنين, وإيذاء المؤمنين حرام وسخرية، قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] وبعض الناس متخصص في هذه القضية, المسألة أنه كيف يجعل الآخرين أضحوكة كيف يهزأ بهم في المجلس، كيف يجعلهم مضحكة في الناس, وهذا حرام لا يجوز. حادي عشر: ألا يمازح مع الكبير والعالم بما لا يليق بمقامه أن تمازحه في هذا المجال, ممكن أن يمازح شخص صديقه، لكن قد لا يناسبه أن يمزح مع كبير في السن في المجلس، فأنت عندما تمازحه فكأنك لا تحترمه ولا توقره, مزاحك له تنبئ عن عدم توقيرك له. ثانية عشر: ألَّا يكون فيه إغراق في الضحك، أو يؤدي إلى الإغراق في الضحك, كل مزاح النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إغراق في الضحك حتى ينقلب الإنسان على قفاه, أو على عقبيه وهو يضحك, بل مزاح معتدل. ثالثة عشر: ألَّا يضر بشخصه بين الناس, فيكون مضحكة أو مهرج القوم، حتى إذا أراد أحد أن يضحك -كما يقولون- يأتي إلى هذا المهرج، ويقولون: ما هو آخر شيء عندك؟ أعطنا موقفاً، وكثير من المقابلات الجادة مع بعض المشايخ يكون فيها سؤالاً، مثل أن يقول: اذكر لنا موقفاً طريفاً مر بك؟ نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤدبنا بآداب شريعته, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل

آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة أحكاماً وآداباً في المصافحة والمعانقة والتقبيل، فبدأ بإيراد الأدلة الواردة في ذلك، ثم بين ما يستحب منها وما يباح وما يكره، وبيَّن أن منها ما يحرم، وذكر الأدلة المبينة لذلك من فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم.

الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة

الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سنتحدث اليوم -إن شاء الله تعالى- عن أدب آخر من الآداب الشرعية التي حفلت بها هذه الشريعة المطهرة، ألا وهو (أدب المصافحة والمعانقة والتقبيل) ولاشك أن هذا الأدب مما يحتاج إليه خصوصاً عند لقاء الإخوان وعند المقابلة، وكذلك مع أهل العلم ومع الأقارب، وقد جاء في المصافحة والمعانقة والتقبيل عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وعن السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وسنذكر بعض هذه الأحاديث مع التعليق عليها، وذكر بعض ما ذكره أهل العلم في هذه المسألة. فأما بالنسبة لهذه الآداب فقد ذكرها عدد من أهل العلم في كتبهم، ومنهم بعض الأئمة الستة في مصنفاتهم، وذكرها كذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الأدب المفرد، فقال: باب مصافحة الصبيان، عن سلمة بن وردان قال: [رأيت أنس بن مالك يصافح الناس، فسألني من أنت؟ فقلت: مولى لبني ليث، فمسح على رأسي ثلاثاً، وقال: بارك الله فيك]. وعن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أقبل أهل اليمن وهم أرق قلوباً منكم) وهم أول من جاء بالمصافحة. وقد صح موقوفاً ولم يصح مرفوعاً عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: [من تمام التحية أن تصافح أخاك] وقد روي مرفوعاً لكنه ضعيف. وأما بالنسبة للمعانقة فقد ذكر البخاري رحمه الله في باب المعانقة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً حتى قدمت الشام -أي سافر شهراً كاملاً من أجل سماع الحديث- فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني -وهو موضع الشاهد، هذا قادم من سفر فخرج إليه أخوه الصحابي الآخر فاعتنقه- قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت -أي: قبل أن أسمعه منك- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد -أو الناس- عراة غرلاً بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد أحسبه قال: كما يسمعه من قرب) وهذا من عجائب يوم القيامة أن الله ينادي الناس بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، فإن العادة جرت أن البعيد يسمع أضعف من القريب، والقريب يسمع أشد من البعيد وأوضح، لكن الله سبحانه وتعالى عندما ينادي يوم القيامة ينادي بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب. يقول سبحانه وتعالى: (أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهماً -ليس عندنا شيء حتى الثياب- قال: بالحسنات والسيئات) ورواه البخاري أيضاً تعليقاً في الصحيح، ورواه موصولاً هنا في الأدب المفرد بإسناد حسن. وذكر رحمه الله حديثاً في باب الرجل يقبل ابنته، وذكر في باب تقبيل اليد، عن عبد الرحمن بن رزين، قال: [مررنا بـ الربذة، فقيل لنا: هاهنا سلمة بن الأكوع، فأتيته فسلمنا عليه، فأخرج يديه، فقال: بايعت بهاتين نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير -لأن سلمة رضي الله عنه كان رجلاً ضخماً قوي البنية- فقمنا إليها فقبلناها]. حديث حسن الإسناد. هذا ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى في موضوع المعانقة والمصافحة والتقبيل. أما بالنسبة لما رواه غيره من أهل العلم أو رواه هو -أي البخاري - في صحيحه فقد جاءت هناك أحاديث كثيرة، فمن ذلك على سبيل المثال: ما ورد في رواية الصحيحين في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: [فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة]. الشاهد من الحديث قوله: [صافحني] عندما لقيه قام إليه فصافحه. وأما ما ورد أيضاً في سنن أبي داود، ولكنه حديث مرسل فيه ضعف، وفي الرواية: عن رجل من عنزة أنه قال لـ أبي ذر حيث أخرج من الشام: (إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذاً أخبرك به إلا أن يكون سراً، قلت: إنه ليس بسر، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إليَّ ذات يومٍ ولم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل لي، فأتيت وهو على سريره فالتزمني، فكانت تلك أجود وأجود) لكن هذا الحديث في سنده ضعف. ومن الأحاديث التي جاءت عن أهل اليمن -أنهم أول من جاء بالمصافحة- ما رواه أبو داود رحمه الله بالإضافة لما تقدم مما سمعناه في الأدب المفرد للبخاري رحمه الله، قال أبو داود: روي عن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة) المصافحة معروفة قبل أن يأتي أهل اليمن، لكن أول من أفشاها ونشرها هم أهل اليمن، كما ذكر شراح الحديث. وكذلك من الأحاديث التي وردت في هذا، ما رواه الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، قال: فانبجست -أي: فانخنست فاغتسلت، لم يصافح أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه وهو على جنابة، ذهب ورجع إلى البيت واغتسل- ثم جئت، فقال: أين كنت؟ قال: إني كنت جنباً، قال: إن المسلم لا ينجس) تحرج من النبي عليه الصلاة والسلام وهو على جنابة، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام لماذا ذهب وأخبره بما وجد من الحرج، وأنه ذهب ليغتسل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المسلم لا ينجس). وقد وردت عدة أحاديث في هذا الموضوع، وقال الترمذي رحمه الله بعد سياق الحديث: وقد رخص غير واحد من أهل العلم في مصافحة الجنب ولم يروا بعرق الجنب والحائض بأساً، ولذلك عنون بعضهم في كتاب الطهارة: باب في الجنب يصافح، والمقصود بهذه الترجمة أن الجنب ليس عليه بأس أن يصافح غيره. ومما ورد في فضل المصافحة وما فيها من الأجر العظيم، ما رواه أبو داود وغيره عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) وقد رواه الترمذي رحمه الله تعالى كذلك في سننه، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، فالحديث صحيح وله ألفاظ كثيرة، وقد جاء: (أنهما إذا تصافحا فأخذ كل منهما بيد الآخر، لا يأخذ بها إلا لله -وهذا الشرط مهم- تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر في الخريف). إذاً: من فضل أخذ اليد والمصافحة مغفرة الذنوب، وتتحات الخطايا بكثرة. وكذلك مما ذكر الدارمي -رحمه الله- في كتاب الطهارة عن حماد قال: سألت إبراهيم عن مصافحة اليهودي والنصراني والمجوسي والحائض؟ فلم يرَ فيه وضوءاً، أي: لو صافح امرأته أو أخته وهي حائض مثلاً، أو صافح كافراً فإنه لا يلزمه الوضوء، لأن مجرد المصافحة ليس من نواقض الوضوء. أما مسألة أن المصافحة كانت شائعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن قتادة، قال: [قلت لـ أنس بن مالك: هل كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم]. إذاً: كانت المصافحة معروفة وموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لالتقاء المسلم مع أخيه لو حصل، فإن المشروع فيه المصافحة في الأحوال العادية، ولذلك جاء عند ابن ماجة من حديث أنس بن مالك قال: (قلنا: يا رسول الله! أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا. قلنا: أيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: لا. ولكن تصافحوا). وكذلك روى الترمذي رحمه الله عن أنس بن مالك قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. إذاً: هذا الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن السنة إذا التقى الإنسان بأخيه المسلم أنه لا يعانقه ولا يقبله ولا ينحني له، وإنما يصافحه مصافحة.

فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم

فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم جاء كذلك في الأحاديث أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وهذا الحديث قد رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ، لكن إسناده معضل، فقد سقط من إسناده رجلان، وقد جاء الحديث من وجوه، حتى قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى حسان، وقال ابن المبارك: حديث مالك جيد، فعند ابن عبد البر -رحمه الله- أن هذا الحديث قد جاء موصولاً من طرق شتى، فالفائدة منه هي قوله: (تصافحوا يذهب الغل) فالمصافحة تذهب الحقد والعداوة التي تكون فيها بعض النفوس ممتلئة على بعض. ولذلك فالعناية بها لها فوائد، فقد تبين لنا أن من فوائد المصافحة أنها من أسباب مغفرة الذنوب والمحبة، وإذهاب الغل والحقد، وقد جاء كذلك في موضوع المعانقة والتقبيل عدة أحاديث أخرى، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الاستئذان، باب المصافحة، هذا أيضاً يضاف إلى المصافحة حديث ابن مسعود في التشهد، عندما علمه النبي صلى الله عليه وسلم التشهد، قال: (وكفي بين كفيه). وقد جاء -أيضاً- في موضوع المعانقة، ما جاء في كتاب المناقب، في صحيح البخاري، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، قال نافع بن جبير: عن أبي هريرة: (عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن) وقد رواه هنا معلقاً، ورواه أيضاً موصولاً كما سيأتي، وهذا الحديث الموصول هو ما رواه في كتاب البيوع، عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة، فقال: أثم لكع، أثم لكع، فحبسته قليلاً، فظننت أنها تلبسه سخاباً -وهو نوع من الملابس، تجهز الولد للقاء جده وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أو تغسله حتى يخرج إليه طيب الرائحة- فجاء يشتد حتى عانقه وقبله) وهذا فيما يتعلق بموضوعنا في معانقة الصغار وتقبيلهم، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله. وموضوع الصغار يختلف عن موضوع الكبار، مثل الولد والحفيد يعانقه ويقبله ويشمه، كما جاء في الحديث الصحيح، لكن هذا يختلف عما يفعل مع الكبار، فالصغار من السنة أن يشمه ويقبله ويعانقه إذا لقيه كابنه وحفيده عانقه وقبله وقال: (اللهم أحببه وأحب من يحبه). وقد جاء هذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة، فقال: أثم لكع، أثم لكع -أي: حسناً، وفي هذه الرواية تعيين الصبي الذي خرج إليه أنه الحسن بن علي رضي الله عنه -فظننا أنه إنما تحبسه أمه، لأن تغسله وتلبسه سخاباً- فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه) هذا بالنسبة لما فعله عليه الصلاة والسلام بحفيده. أما ما فعله عليه الصلاة والسلام مع ولده إبراهيم، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري، عن أنس بن مالك قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القيني، وكان ظئراً لـ إبراهيم -فهذا الحداد رضي الله عنه كان عنده إبراهيم يرتضع، مكث عنده فترة من الزمن- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه) الحديث. إذاً: في هذا الحديث مشروعية شم الأولاد وتقبيلهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداًً، هذا رجل من الأعراب كان في الأعراب شيء من الجفاء، والخشونة والغلظة، استغرب قال: يا رسول الله! أنتم تقبلون الصبيان، وأنا عندي عشرة أولاد ما قبلت واحداً منهم؟ كأنها عندهم شيء مما يتنافى مع الرجولة، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكراً هذا الكلام ومعاتباً، ثم قال: (من لا يرحم لا يرحم) وقال عليه الصلاة والسلام في عتابه: (أوأملك لك إذ نزع الله الرحمة من قبلك). إذا نزع الله الرحمة من قلبك لا تقبل الصبيان فماذا أملك لك؟ فهذا يدل على مشروعية تقبيل الصبيان. وعنون البخاري رحمه الله: (باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحهها)، هذه الصبية الصغيرة، وعموماً فإن الرحمة بالصغير تكون مقيدة بما لم يكن هناك فتنة. ومما ورد من الأحاديث التي فيها التقبيل: تقبيل الأب لابنته، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب، أن البراء دخل مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها قبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟ إذاً هذا من تقبيل الأب لابنته المريضة، ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها أول ما قدمت المدينة كانت صغيرة، فأصابت عدداً من المهاجرين حمى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يذهب الله ما فيها من الحمى، فيجعلها بـ الجحفة، ولذلك قال: (وصححها لنا) أي: اجعل جوها وهواءها يكون فيه صحة لا يكون فيه مرض، فمن بركة المدينة أن جوها صحي أكثر من غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.

تقبيل الميت والحجر الأسود

تقبيل الميت والحجر الأسود ومما ورد أيضاً في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الميت، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب الجنائز: (أن أبا بكر أقبل على فرسه من مسكنه بـ السنح، حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم -قصده- وهو مسجىً ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد نلتها) الحديث. إذاً: يشرع تقبيل الميت، والكشف عن وجهه، وتقبيله بين عينيه قبل أن يدفن. ومما ورد في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الحجر الأسود، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمر أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: [إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك]. وقد جاء أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبَّل الحجر والتزمه، وقال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً] فإذاً يسجد عليه ويقبله إذا تمكن، فإذا لم يتمكن من تقبيله واستلمه بيده -أي: لمس الحجر بيده- هل يقبل يده؟ روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبيد الله عن نافع، قال: [رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله]. إذاً: تقبيل اليد بعد لمس الحجر إذا لم يستطع أن يقبل الحجر مباشرة لأجل الزحام، فماذا يفعل؟ فإنه إذا استلم الحجر بيده قبَّل يده، وسيأتي بعض التفصيل لذلك.

تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات

تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات جاء في منظومة ابن عبد القوي رحمه الله في موضوع المصافحة، قوله: وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند أي: يا أيها المسلم! صافح كما جاء في المسطور عن النبي الأواب، المبعوث بالسنة والكتاب، صافح أخاك المسلم إذا لقيته. والمصافحة في اللغة: هي على وزن مفاعلة، أي: أنها تحدث من طرفين، وهي مأخوذة من إلصاق صفح الكف بالكف، ومنه علم أنه إذا أمسك بأطراف أصابعه فهي ليست مصافحة كاملة كما يفعل بعض الناس، وهذه ليست مصافحة الرجال، بل ولا حتى مصافحة النساء، لأن هذه المصافحة ناقصة، والمصافحة المشروعة هي وضع صفح الكف بصفح الكف والقبض عليها، فإذاً لا تكون المصافحة إلا بذلك. وأيضاً من تعريف المصافحة: إقبال الوجه على الوجه، فلو أعطاه يده من وراء ظهره ونحو ذلك لا تكون مصافحة شرعية إلا في أحوال قد تكون للحاجة أو أنه لا يستطيع ونحو ذلك. ويقال: صافحته، أفضيت بيدي إلى يده. وفي القاموس: المصافحة: الأخذ باليد كالتصافح. قوله رحمه الله: وصافح لمن تلقاه من كل مسلم قيد الناظم رحمه الله المصافحة بالمسلم، أي: أن الكافر ليس له مصافحة هذا هو الأصل، لكن هل تحرم مصافحته أم لا؟ سيأتي الكلام على ذلك. إذاً: المسلم ولو كان صغيراً أو كبيراً فإنه يصافح بشرط أن تؤمن الفتنة، فقد يكون أمرداً أو يكون له فتنة به، فعند ذلك تحرم مصافحته ولاشك في ذلك. أما بالنسبة لمصافحة المرأة الأجنبية فإنه لا يجوز مصافحتها، سواءً كانت كبيرة أو صغيرة، وكذلك قد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن مصافحة النساء؟ قال: "لا. قال: قلت: فيصافحها بثوبه -لو جعل الثوب حائلاً؟ يمد يده فيكون الثوب بين يده ويدها- قال: لا". وقال ابن تيمية رحمه الله: "إن الملامسة أبلغ من النظر". ملامسة المرأة أبلغ من النظر إليها في الفتنة وثوران الشهوة، ولذلك لا يجوز مطلقاً. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الإنسان لو طعن بمخيط -المخيط الإبرة العظيمة التي يخاط بها- في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، سواء كان في المصافحة أو في غير المصافحة، ويكون هذا مس المرأة التي لا تحل له، وهذا من قواعد الشريعة العظيمة التي تدرأ بها الفتن، وتسد بها الذرائع إلى الشر، ويؤمن بواسطتها من ثوران الشهوات. إذاً: لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية لا بحائل ولا بغير حائل، لا كبيرة ولا صغيرة. فإن قال قائل: الكبيرة ماذا يجوز منها إذاً؟ نقول: الله عز وجل قال: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} [النور:60]. وهذا الشرط أن تكون المرأة من القواعد من النساء -كبيرات السن- لا يرجون نكاحاً، أي: أنها بلغت من الكبر عتيا، وأنه قد ذهب كل جمال فيها، بحيث لم تعد ترجو زواجاً مطلقاً، ولا أحد يطمع فيها أو يتزوجها أبداً، فهذه المرأة {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا دخل عليها أجنبي، ولكن يشترط مع ذلك ألا تكون متزينة. على سبيل المثال: لا يجوز أن تضع مكياجاً مثلاً، أو حمرة أو خضرة، أو أي نوع من أنواع المساحيق الموجودة وغيرها، لا يجوز أن تضع ذلك وتكشف على الأجنبي، ولو كانت كبيرة ولا تشتهى، لا تضع الزينة، كل ذلك من احتياطات الشريعة لعدم الوقوع في الفاحشة، وعدم إشاعة الفتنة وثوران الشهوة، ولأجل صيانة المجتمع المسلم وحماية أفراد المسلمين، ولكل ساقطة لاقطة. إذاً: المرأة الكبيرة يجوز لها أن تضع ثيابها غير متبرجة بزينة إذا كانت لا ترجو نكاحاً، لكن لا يجوز مصافحتها ولا الخلوة بها، ولا أن تتعطر عنده ولا تتزين، ولا يسافر بها إذا لم يكن لها محرماً، لأن بعض الناس قد يتساهلون في الكبيرات، فيصافح ويقبل ويسافر ويخلو بها، فنقول: أقصى ما ورد أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة. أما المرأة الشابة الأجنبية فهذا معروف من باب أولى أنه لا يجوز مصافحتها ولا تقبيل رأسها ولا غيره، ولا السفر بها بدون محرم، ولا أن تكشف عليه، ولا أن يخلو بها إلى آخره.

حكم مصافحة الكفار

حكم مصافحة الكفار أما بالنسبة لمصافحة الكافر، فإن الناظم ابن عبد القوي رحمه الله قال في منظومته: وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند

حكم مصافحة أهل الذمة

حكم مصافحة أهل الذمة بالنسبة لمصافحة غير المسلمين، فقد سئل الإمام أحمد عن مصافحة أهل الذمة؟ فقال: لا يعجبني. وهذا اللفظ من ألفاظ الكراهة عنده. إذاًَ: يكره عند الإمام أحمد رحمه الله للرجل أن يصافح كافراً، لكن لو صافحه جاز ذلك ولا يأثم، خصوصاً إذا كان يرجو تأليف قلبه للدخول في الإسلام. أما ما عمت به البلوى اليوم من كثرة وجود الكفرة بيننا في الأعمال المختلفة والمكاتب والجامعات ونحو ذلك، ونحن ننصح ونقول: أنت لا تمد يدك ابتداءً، لكن لو مد هو يده فإن خشيت من مفسدة، كأن يضر بك مثلاً، فيمكن أن تصافحه، لكن الأحسن ألا تفعل ذلك، لكن إذا صافحته فلا تأثم، وهؤلاء الذين يعملون في المكاتب والشركات ونحو ذلك يجدون حرجاً كبيراً في هذا الموضوع، فنقول: لا تبتدئ الكافر بالمصافحة، لكن لو مد الكافر يده ولم يكن في ذلك ضرراً على الإسلام وأهله، أو لم يكن في يده نجاسة مثلاً، لأن هؤلاء لا تدري عنهم ماذا يمسون بأيديهم، وقد يدخل دورة المياه والحمام والمرحاض وبيت الخلاء ويمس نجاسة ولا يغسل يده، فأنت لا تعلم كيف يفعلون، فهم أناس لم يتعلموا التنزه والطهارة، ولم يطبقوا ذلك، لاشك أن أيديهم يكون فيها ما فيها، فهذا ما يمكن أن يقال في موضوع مصافحة الكافر.

حكم مصافحة الكفار المحاربين

حكم مصافحة الكفار المحاربين أما مصافحة عدو الله المحارب للإسلام، والمجاهر بالعداء للدين، أو يطعن في الدين، أو يثير الشبهات حول الإسلام، أو عن أي شيء في الدين، أو المبتدع، فلا مصافحة، وخصوصاً الذي بدعته كفرية تخرج عن الملة، فلا تجوز مصافحته؛ لأن المصافحة فيها مودة، والله عز وجل حرَّم المودة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا} [الممتحنة:1] ثم هؤلاء الذين أظهروا وأبدوا العداوة، فلا يجوز إظهار المودة لهم، والمصافحة من المودة. وقول الناظم رحمه الله تعالى: "تناثر خطاياكم"، فتناثر الخطايا: تفرقها وتساقطها، والخطايا جمع خطيئة، وهي: الذنب، أو ما يتعمد من الخطايا. وقوله: كما في المسنَّد: الأصل المُسْنَدِ، لكن شدده لضرورة الوزن.

بعض أحكام المصافحة

بعض أحكام المصافحة جاءت أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين إذا التقيا فتصافحا غفر لهما قبل أن يتفرقا، ذكرها الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره، وسبق ذكر بعضها قبل قليل. وبالنسبة لإشهار المصافحة وإعلانها سنة، وقد كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لأول من صافح وعانق، قيل: إنه إبراهيم الخليل عليه السلام، لكن هذا يحتاج إلى دليل.

المصافحة بعد الصلوات المفروضة

المصافحة بعد الصلوات المفروضة مما يتعلق بالمصافحة: المصافحة بعد الصلوات المفروضة، وقد نص أهل العلم على أن المداومة على المصافحة بعد كل صلاة بأن يصافح من عن يمينه وعن شماله بدعة. فنقول: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون وراءه، وما نقل عنه ولا عنهم أنهم بعد الصلاة كان يصافح بعضهم بعضاً، أو من عن يمينه وعن شماله، وإذا ألحقنا بالعبادة شيئاً معيناً وواظبنا عليه بعدها، كالمصافحة يميناً وشمالاً، فلاشك أننا نكون قد وقعنا في البدعة. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المصافحة بعد العصر والفجر، هل هي سنة مستحبة أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله: أما المصافحة عقب الصلاة فبدعة، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستحبها أحدٌ من العلماء. إذاً: إذا التقى المسلمون، وقاموا من المسجد وخرجوا، أو وهم داخلون إلى المسجد وقابل بعضهم بعضاً، هل يتصافحون؟ A نعم، وورد سؤال عن رجل في صلاة الجمعة مد إليه رجل آخر يده أثناء الخطبة، فهل يصافحه أم لا؟ فسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا السؤال، فقال: يصافحه دون كلام. لكن هل يجوز أن تشغل الناس أثناء الخطبة وتشغلهم عن سماعها؟ الجواب: لا، لكن لو أن شخصاً فعل ذلك وفوجئت به فصافحه دون سلام. علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود التشهد وكفه بين كفيه، فيمكن أن يطول التصافح، ليعلمه شيئاً مثلاً، وقد قال الصحابي: (صافحت بكفي هذه كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر خزاً ولا حريراً ألين من كفه عليه الصلاة والسلام). بالنسبة لمسألة المعانقة والتقبيل، فهي من الأشياء التي ترد بعد قضية المصافحة، لكن ينبغي أن نؤكد على مسألة المصافحة تأكيداً آخر قبل أن نغادر هذه النقطة، لأجل أن كثيراً من الناس يقصرون فيها، وربما مر بجانبه ويمكن أن يصافحه فلا يفعل ذلك. نعم! إنها ليست بواجبة، لكن لماذا يفوت هذا الأجر العظيم في قضية المغفرة، وتحات الخطايا والمودة، لماذا يفرط في ذلك؟ إذاً: ينبغي أن نحافظ على هذه الشعيرة الإسلامية، والأصل أن المصافحة تكون باليد اليمنى، لكن قد يكون فيه شيء في يده اليمنى من كسر أو حرق أو جرح فلا يستطيع المصافحة بها، فلو صافح باليد الأخرى فلا بأس بذلك.

مصافحة العلماء والأرحام

مصافحة العلماء والأرحام وكذلك فإن مصافحة العلماء والأرحام كالآباء وغيرهم من الأمور المؤكدة التي ينبغي التأكيد عليها أكثر من غيرها، أي: مصافحة أهل الخير أولى من مصافحة غيرهم، والاعتناء بذلك ينبغي أن يكون مما عليه حال طالب العلم، وقد ورد أن حماد بن زيد صافح ابن المبارك.

بيان كيفية المصافحة

بيان كيفية المصافحة أما قضية المصافحة باليدين، فإن بعض الناس إذا صافح فإنه يصافح بكلتا يديه، فيقبض على يمينك ويضع شماله فوقها، فقد جاء في البخاري: باب الأخذ باليد، وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه، ومر معنا حديث ابن مسعود قوله: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) أي: أنه آخذ بكف ابن مسعود بكفيه كلتيهما. إذاً: لو فعل ذلك فلا بأس به، فقد صافح ابن المبارك حماد بن زيد بكلتا يديه، فلا حرج فيها إذاً. بعض الناس يصافح ثم يقبض على إبهام صاحبه مثلاً، فنعلم أن المصافحة هي وضع الصفح بالصفح، أما القبض على الإبهام فلا يكون مصافحة. وضع الساعد على الساعد ليس مصافحة في اللغة، لكن أحياناً تدعو الحاجة إذا مد يده، والآخر يده غير جاهزة للمصافحة فيعطيه ساعده، فهذا لا بأس به ولو أنه أقطع اليدين الكف غير موجودة، فيقبض على الساعد وهذا للحاجة وليس هو الأصل. المصافحة فيها شيء من الهز: إذا قبض على اليدين فهزها فلا بأس بذلك أيضاً، ولكن برفق، فمن أخطاء المصافحة: أنه إذا قبض على يده قبض بقوة يفرقع بها أصابع الآخر، ويشد بها شداً مؤذياً مؤلماً، حتى تجده يقول: ليتني لم أصافحه، أو تراه يحتال لتخليص يده، أو يريد أن ينزع يده بسرعة، فلاشك أن هذا ليس من الأدب. وكذلك إذا هزها بقوة حتى يكاد يخلع يده، فهذا أيضاً ليس من الأدب. فالمصافحة وضع الصفح في الصفح بلين ورفق وهز يسير لو أراد، هذا هو ما ينبغي أن تكون المصافحة، أما أن تكون المصافحة وسيلة لإيذاء الآخر فهذه ليست مصافحة مشروعة، وينبغي على القوي أن يرفق بالضعيف، وعلى الكبير أن يراعي الصغير، فيصافح برفق ولين.

أحكام المعانقة

أحكام المعانقة أما بالنسبة للمعانقة فقد وردت فيها أحاديث تقدم ذكر بعضها، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه باب المعانقة، وقول الرجل: كيف أصبحت؟ ثم ساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، وقول علي رضي الله عنه لما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: (يا أبا حسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً -تفاؤلاً- فأخذ بيده العباس، فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن يكون الأمر) الحديث. المعانقة عند القدوم من السفر سنة، كما جاء ذلك في حديث استقباله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، ونص شيخ الإسلام رحمه الله على تقييدها بالسفر، وفي الأحوال العادية ليس هناك معانقة؛ لأن الحديث قال: (أيلتزمه فيعانقه؟ قال: لا). وأما إذا قدم من سفر فقد ثبتت المعانقة. وكذلك الصبيان فيعتنقهم حتى لو كان بغير سفر، سواء كان ولده أو حفيده كما جاء في الآثار، أما وغيرهم فيجوز ذلك مع أمن الفتنة، وكل هذه الأشياء: (المصافحة والمعانقة والتقبيل) يشترط فيها العلماء الأمن من الفتنة والشهوة؛ لأن المسألة حتى مع غير النساء يوجد فيها فتنة وشهوة، وهذا ما يذكره أهل العلم في مسألة المردان. في قضية المعانقة فإن الإمام أحمد رحمه الله احتج بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم عانقه، وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن رجل يلقى الرجل يعانقه؟ قال: نعم. فعله أبو الدرداء. وقال: في الإرشاد المعانقة عند القدوم من السفر حسنة. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: فقيدها بالقدوم من السفر، وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة: وهو المنصوص عليه في السفر. إذاً: إذا قدم من السفر فعند ذلك يتعانقون، وقد جاء عن الشعبي أنه قال: [كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا تصافحوا، فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضاً]. قال السفاريني: قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية: إسناده جيد. أما بالنسبة لمعانقة الكافر فهي أشد من المصافحة بلاشك، وكذلك المبتدع، فيبتعد عنها أشد من ابتعاده عن المصافحة. أما بالنسبة لحديث أبي ذر المتقدم، فقد جاء عند أبي داود وفيه رجل مجهول، وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه جعفر قام يجر إزاره، وهذا إذا انفلت الإزار بغير قصد، وليس المقصود أنه يتعمد إرسال الإزار، فإن الإسبال معروف حكمه، لكن قد يسقط عن قيام الشخص فجأة، أو لظرف عارض ونحو ذلك، فاعتنقه عليه الصلاة والسلام. قال بعضهم: تكون المعانقة إذا طالت الغيبة، وقد ذكر ذلك بعض أهل العلم قياساً على السفر، أن السفر فيه بعد وطول عهد، لكن ينبغي ألا يكون هذا ذريعة إلى إفشاء المعانقة كالمصافحة، وأن تكون في غير موضعها، وخصوصاً أن المسألة فيها نص، أنه عليه الصلاة والسلام سئل (أيلتزمه ويعانقه؟ فقال: لا). إذاً: تكون المصافحة فقط في الأحوال العادية.

بعض أحكام التقبيل

بعض أحكام التقبيل أما بالنسبة للتقبيل، فإن التقبيل مصدر قبّل، والاسم منه: قبلة، والجمع: قُبَل.

أقسام التقبيل

أقسام التقبيل قسم بعض أهل العلم التقبيل إلى خمسة أقسام: 1 - قبلة المودة للولد على الخد. 2 - قبلة الرحمة للوالدين على الرأس. 3 - قبلة الشفقة لأخيه على الجبهة. 4 - قبلة الشهوة لامرأته أو أمته على الفم. 5 - قبلة التحية للمؤمنين على اليد، أي: للعلماء أو للأبوين. 6 - وزاد بعضهم: قبلة الديانة للحجر الأسود، للحاج والمعتمر، وهذا معروف، وقد تقدمت فيه الأحاديث، فإن عجز عن التقبيل استلمه بيده ثم قبلها، وبالنسبة إذا استلمه بغير يده، كما إذا استلمه بعصا، فقد جاء عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) وجاء هذا الحديث في الصحيحين، أما بالنسبة للركن اليماني فلا تقبيل، وإنما هو مسح فقط واستلام، يستلمه ويمسح عليه، ولاشك أن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً، وقد ثبت أنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، وإلا لأعشى ذلك النور أبصار أهل الأرض. وبالنسبة لتقبيل الأجنبية فهو نوع من الزنا ولاشك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن زنا الجوارح زنا اليد، وزنا العين النظر، وزنا اللسان، وزنا الأذن، وزنا الرجل وغير ذلك، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

حكم تقبيل اليد والفم والأمرد

حكم تقبيل اليد والفم والأمرد وقد نص العلماء أيضاً في أحكام التقبيل، على تحريم تقبيل الأمرد الذي يكون مع تقبيله الشهوة. وكذلك فإنهم قالوا: لا يجوز للرجل أن يقبل فم الرجل، وكذلك المرأة لا تقبل فم المرأة، الفم عموماً متروك للزوجين أو الرجل وأمته. أما تقبيل اليد فقد جاء في الحديث أنهم قبلوا يد النبي عليه الصلاة والسلام، وعند البخاري في الأدب المفرد -كما تقدم- أنهم قبلوا يد سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأخذوا منها أن تقبيل يد العالم والفاضل أو الوالدين لا بأس به ولا حرج؛ بل هو مشروع، أما تقبيل يد الظالم فقالوا: إنها معصية، إلا إذا خشي على نفسه، وتقبيل الأرض بين يدي العظماء من المنكرات.

أثر التقبيل على الاعتكاف والوضوء والصلاة والصيام

أثر التقبيل على الاعتكاف والوضوء والصلاة والصيام التقبيل يتعلق به أحكام في قضية الاعتكاف، هل إذا قبل يبطل الاعتكاف أم لا؟ نقول: إذا أنزل أبطل. وكذلك بالنسبة للصائم: هل يقبل؟ إذا كان يأمن على نفسه يقبل، وإذا كان لا يأمن على نفسه فلا يجوز أن يقبل. وذكروا كذلك في قضية الوضوء، هل ينتقض الوضوء بالقبلة أم لا؟ إذا خرج منه شيء انتقض وضوءه، وإذا لم يخرج منه شيء فوضوءه صحيح. وكذلك فإن التقبيل في الصلاة يفسدها عند من يقول ببطلان الوضوء بالتقبيل. ويحرم على المحرم بالحج والعمرة أن يقبل زوجته، ومن فعل ذلك بشهوة فعليه دم، وكذلك من قبل زوجته المطلقة بنية الرجعة في العدة، فهو رجوع.

حكم تقبيل المصحف والخبز

حكم تقبيل المصحف والخبز وأما بالنسبة لتقبيل المصحف، فإنه لم يرد فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عن عكرمة أنه كان يقبله، ويقول: [كلام ربي، كلام ربي] وهذا ليس مما وافقه عليه الصحابة، ولذلك نص بعض أهل العلم على بدعية هذا. والناس اعتادوا تقبيل المصحف خصوصاً إذا سقط أو وقع على الأرض، وكأنه صار عندهم دين وشرع أن المصحف إذا وقع لابد أن يقبل، وليس هناك دليل على ذلك، والمواظبة على تقبيله مما لم يرد فيه دليل صحيح. وكذلك تقبيل الخبز، فإن بعض الناس يقبلون الخبز، وهذا مما لم يرد فيه دليل أيضاً، لكن الخبز ورد الحديث بإكرامه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الخبز) ومن إكرامه كأن يكون موجوداً فلا يلقى ويرمى ويهان، ولا يجعل مع القاذورات والنجاسات، إذا رأيته مرمياً فأخذته ورفعته، فهذا من إكرام الخبز، لكن تقبيله ليس عليه دليل. وتقبيل يد العالم الورع والوالدين تقدم، كما أنه يقبله في جبهته، وأيضاً يقبل يده، والنبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفراً حين قدم من الحبشة، وقبله بين عينيه، لكن هذا الحديث الذي رواه أبو داود قال المنذري: إنه حديث مرسل؛ لأنه من رواية الشعبي. ومن أنكر من العلماء تقبيل اليد، لعلهم لم يطلعوا على الحديث أو لم يثبت عندهم صحته، وتقبيل الأولاد والأحفاد والصغار تقدم الحديث فيه مع أمن الشهوة عموماً، وتقبيل الأب لابنته، والبنت لأبيها، وينبغي أن يشدد في مسألة تقبيل الأقارب بعضهم لبعض، لأجل فشو الفساد في هذا الزمان، لكن لو قبل جدته مثلاً في رأسها فلا حرج في ذلك، الجدة مثل الوالدة، وكذلك الجد، أو قبلت جدها في رأسه أو يده، فلا حرج في ذلك.

حكم تقبيل المحارم

حكم تقبيل المحارم وموضوع التقبيل يستثنى منه تقبيل الفم -كما تقدم- وأنه خاص بالزوج، ولذلك حتى الأب لا يقبل ابنته في الفم مطلقاً، وبالنسبة لتقبيلها في الخد ورد حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وذكر ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية فصلاً في تقبيل المحارم من النساء في الجبهة والرأس، قال ابن منصور لـ أبي عبد الله: يقبل الرجل ذات محرم منه؟ قال: إذا قدم من سفر ولم يخف على نفسه، وذكر حديث خالد بن الوليد قال إسحاق بن راهويه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوٍ فقبل فاطمة، ولكن لا يفعله على الفم أبداً، الجبهة أو الرأس. وقال بكر بن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسئل عن رجل يقبل أخته؟ قال: قد قبَّل خالد بن الوليد أخته. إذاً بالنسبة لتقبيل الأخت، ولابد من الأمن من ثوران الشهوة أو الفتنة، فنقول: لو صار كمثل عادات الناس اليوم، أن الرجل إذا واجه -مثلاً- أخته، قالوا: سلم عليها، وعند العامة كلمة سلم عليها معناها: تقبيل، لكن إذا نظرت في الحقيقة إلى كيفية التقبيل وجدت أنها معانقة، ولكن القبلة لا تقع على الوجه ولكن تقع في الهواء، هذا لا حرج فيه أصبحت معانقة وليست بتقبيل. إذاً هناك ضوابط في المسألة ذكرها الإمام أحمد رحمه الله في قضية أمن الشهوة والفتنة وعدم التقبيل في الفم مطلقاً، ولو كانت من المحارم وكبيرة فقبل رأسها فلا حرج في ذلك، أي: إذا أراد أن يقبل في الوجه يجعلها في الجبهة والرأس، مثل الخالة والعمة والأخت الكبيرة التي تكون أحياناً بمثابة الأم، والجدة التي هي أم، هذا بعض ما يتعلق بموضوع المصافحة والمعانقة والتقبيل. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه.

الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ

الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ نريد أن نكمل موضوعاً آخر أيضاً وهو ما يتعلق بالتقبيل، فإنه قد كان الكلام في جلسة ماضية عن آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، فتقدم الكلام عن المصافحة، وأظن من الآداب التي فات ذكرها: ألا ينزع يده حتى ينزع الشخص الآخر يده، لكن ذكر شيخ الإسلام كلاماً أنه إذا كان ذلك المقام يطول، بحيث أن هذا لم ينزع يده والآخر مثله، سيبقى الجميع واقفون إلى متى؟ لذلك لو أن البادئ بمد اليد هو الذي يسحب يده أولاً في إنهاء هذه القضية فلا حرج في ذلك. فأما بالنسبة للتقبيل، فهناك كتاب بعنوان: الرخصة في تقبيل اليد، من تصنيف الحافظ أبي بكر محمد بن إبراهيم المقرئ، ذكر فيه أحاديث ونصوصاً في مسألة التقبيل، بالإضافة لما سبق ذكره سابقاً، وقد أورد حديث أسامة بن شريك، قال: (قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده). قال ابن حجر رحمه الله: سنده قوي. وكذلك أورد فيه من الأحاديث -أيضاً- حديث أم ولد أنس بن مالك قالت: كان ثابت إذا أتى أنساً قال: [يا جارية! هاتِ طيباً أمسه بيدي، فإن ثابتاً إذا جاء لم يرض حتى يقبل يدي] وهو حديث صحيح، فإن ثابتاً كان يقبل يد أنس بن مالك؛ لأن يد أنس بن مالك مست يد النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من الأحاديث التي ذكرها، حديث سلمة بن الأكوع، قال: [بايعت بيدي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وقال الراوي عبد الرحمن بن رزين: قبلناها ولم ينكر ذلك. وقال ابن حجر رحمه الله: إسناده جيد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وكذلك أورد حديثاً قد رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو عن ذكوان أن رجلاً قال له صهيب: [رأيت علياً رضي الله عنه يقبل يدي العباس أو رجله، ويقول: أي عم! ارض عني]. وكذلك أورد أثر موسى بن داود قال: [كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء الحسن الجعفي، فقام ابن عيينة فقبل يده] وهذا صحيح إليه. وكذلك أثر ثابت قال: قلت لـ أنس بن مالك: [أحب أن أقبل ما رأيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمكنه من عينيه]. وقال ثابت: [كنت إذا أتيت أنساً أخبر بمكانه، فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما، فأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عينيه، وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم]. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة. وكذلك أتى من حديث ابن جدعان قال: سمعت ثابتاً يقول لـ أنس: [مسست رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديك؟ قال: نعم، قال: فأعطني يدك، فأعطاه فقبلها]، والأثر فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، لكن يشهد له آثار وطرق أخرى في هذا، فيكون حسناً. وكذلك جاء من حديث أم أبان بنت الوازع بن الزارع (أن جدها الزارع انطلق في وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملكنا أنفسنا أن وثبنا عن رواحلنا، وجعلنا نقبل يديه ورجليه) والحديث حسنه ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

أحوال التقبيل

أحوال التقبيل

تقبيل اليد والتفصيل فيه

تقبيل اليد والتفصيل فيه سبق الكلام على أنواع التقبيل: تقبيل اليد، وتقبيل القدم، وتقبيل العينين، وتقدم حديث أنس قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم). إذاً: في الأحوال العادية لا يستحب التقبيل إذا لقي الأخ أخاه، أما تقبيل اليد لسبب عارض، فإن كان للدنيا فإنه مكروه. وقال سفيان الثوري: أكرهها -تقبيل اليد- على دنيا. وقال وكيع شيخ أحمد بن حنبل رحمهما الله: إنها -أي: قبلة اليد- صلحت حين قبلت للآخرة، وأنها فسدت حين قبلت للدنيا. وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- فيما نقله عنه المروذي، لما سأله عن قبلة اليد، فلم يرَ به بأساً عن طريق التدين، وكرهها على طريق الدنيا، وقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس، فقد قبل أبو عبيدة يد عمر، وإن كان على طريق الدنيا فلا، إلا رجلاً يخاف سيفه أو سوطه. وكذلك قال حميد زنجويه: ما كان على وجه التملق والتعظيم -أي: المكروه من المعانقة والتقبيل-. وقال النووي في كتاب الأذكار: إن كانت لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك، فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام، وإذا كان الرجل ظالماً أو مبتدعاً أو كافراً تتأكد هذه الحرمة؛ لأن الواجب هجره أصلاً والإنكار عليه، وليس تقبيل يديه. وقال سفيان الثوري رحمه الله: تقبيل يد الإمام العادل سنة. وقال حميد زنجويه: تقبيل اليد لا يستوجبه كل أحد. وقال بعض أهل العلم: تقبيل يد الظالم معصية، إلا أن يكون عن خوف. وقال ابن الوردي الشاعر: أنا لا أختار تقبيل يد قطعها أجمل من تلك القبل أي: هذه حقها أن تقطع، ربما يكون يد سارق وناهب، فكيف تقبل يده؟! والواجب أن تقطع في الشريعة. وبعض الناس وخصوصاً الصوفية ورؤساؤهم، عندهم عادة تقبيل اليد، ويتخذونها كبراً وطلباً من الناس، وهذا يدل عليه تصرفاتهم، كما إذا مد يده ليقبلها الناس، تجد بعض شيوخ الصوفية الطرقيين إذا جلسوا في مجلس أو كانوا يمشون، وجاءهم الناس مدوا أيديهم، كأنه يقول: خذ قبل وتبرك وامسح! ويتبين كذلك فعل هؤلاء السفهاء بما إذا استحسنوا من تقبيل يده، تجد أنه إذا قبل شخص أيديهم ابتسموا وأكرموه وأثنوا على فعله، وقال: الله يرضى عليك، المقصود هؤلاء الصوفية ولا أقصد الوالد الذي إذا قبل الولد يده فدعا له فهذا شيء آخر، وكذلك يظهر هذا من تشنيعهم على من لم يقبل أيديهم أيضاً. وكان السلف رحمهم الله بخلاف ذلك، إذا جاء شخص يقبل يده ربما سحب يده، وعندما استأذن رجل الإمام أحمد رحمه الله في تقبيل رأسه، قال: لم أبلغ أنا ذاك، لم أصل إلى درجة أن تقبل رأسي أنا دون ذلك، هذا من تواضعه رحمه الله تعالى، وفي رواية عبد الله قال: لم أره يشتهي أن يفعل به ذلك، فكان من ورعهم وتواضعهم رحمهم الله أنهم لا يسمحون للناس بتقبيل أيديهم ورءوسهم، ويقولون: نحن أدنى من هذا، وكره أحمد رحمه الله المسح على اليد للتبرك ونحوها، فقال لمن مسح يده عليه عمن أخذتم هذا؟ وغضب ونفض يده. وقال ابن تيمية رحمه الله: ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها، وقصده لذلك، فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ لذلك، فلا حرج، أما أن يمد يده للناس فهذا مما ينهى عنه. وأيضاً اعتياد التقبيل حتى لو كان للمشايخ أو أهل العلم، فهذا فيه نظر؛ لأن الصحابة لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وما نقل عنهم أنهم كلما رأوه قبلوا رأسه ويده. نعم! قد تأتي العالم في المرة الأولى فتقبل رأسه أو يده، لكنك تأتيه في الدرس الذي يليه ثم الذي يليه ودائماً تواظب على هذه العادة فربما أدى هذا إلى شيء من الغلو. وكذلك قال ابن مفلح رحمه الله: تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلاً، ومن شعار بعض المبتدعة قرن تقبيل اليد بالمصافحة، فما صافح أحدهم صاحبه إلا قبل كل منهم يد صاحبه. وهذه أيضاً مسألة لا أصل لها، تجد بعض الناس في بعض الأماكن كلما صافح الأول الثاني هذا يقبل اليد وهذا يقبل اليد الأخرى، وأحياناً يقبل يد نفسه، كأنه يقبل اليد التي لامست يد الآخر، وهذا أيضاً مما لا دليل عليه.

التقبيل لأجل التبرك أو الشهوة

التقبيل لأجل التبرك أو الشهوة وأما إذا كان التقبيل لأجل التبرك، فهذا يكون أشد وأشد، ولاشك أن تقبيل القبور والأعتاب والأحجار والأشجار من شعار المشركين في كل زمان ومكان، ولذلك أكد عمر رضي الله عنه ورحمه على هذه المسألة، فقال عندما قبل الحجر الأسود: [والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك] رواه البخاري. فكيف بمن يتبرك بحمار الشيخ، يقول: هذا الحمار الذي ركبه الشيخ، فيمسحون حمار الشيخ، وربما قبلوه، وتكلمنا عن مسألة التقبيل لشهوة، وأن ذلك لا يجوز إلا إذا كان لزوجته أو سريته. وبالنسبة للتقبيل للشهوة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقبل أحداً إلا زوجته أو أمته، أما المرأة الأجنبية فلا شك أنه حرام، وكذلك الصبية الصغيرة والأمرد، كله حرام ولا يجوز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني، وهو حديث صحيح. وكلما خشي أن يثير شهوته، مثل: تقبيل يد الأمرد الحسن، أو الصبية الصغيرة الحسنة التي قاربت البلوغ، فحرام لاشك في ذلك، والفتنة بالمردان أمر معروف، وهو عند الصوفية دين يتخذونه ويتقربون إلى الله بذلك، ولو قال: لا تثور شهوتي، فإنه لا يأمن عليه، والله قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ولم يقل: لا تفعلوا الزنا، فحتى اقتراب الشيء الذي يكون سبباً للوقوع في المعصية لا يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها البصر، واليد تزني وزناها اللمس، والفم يزني وزناه التقبيل) إذاً: زنا الفم أن يقبل بالحرام. وبالنسبة لتقبيل الإنسان يده بعد تقبيل الحجر الأسود، فذلك ثابت في السنة، وتقبيل المحجن أو العصا إذا استلم بها الحجر الأسود إذا لم يستطع أن يقبله بنفسه.

تقبيل الخد وما بين العينين والفم

تقبيل الخد وما بين العينين والفم أما بالنسبة لتقبيل الخد، فقد ذكرنا أن أبا بكر الصديق قبل عائشة رضي الله عنها عندما أصابتها الحمى حين هاجروا إلى المدينة، وكانت دون البلوغ، وهذه قبلة شفقة من الوالد لابنته. وأما بالنسبة لتقبيل ما بين العينين، فإنه قد ورد فيه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم بين عيني العباس، ورواه الطبراني وقواه الهيثمي، وقبَّل مسلم بن الحجاج النيسابوري عيني البخاري رحمه الله، وقال: يا أستاذ الأستاذين، أو يا طبيب الحديث في علله. وبالنسبة لتقبيل العين جاء تقبيل التابعي لعين أنس كما تقدم، وبالنسبة لتقبيل الفم فهذا خاص بين الزوجين، وبالنسبة لتقبيل الكشح أو البطن، الكشح هو: ما بين الخاصره إلى الضلع، وقد قبل الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم في كشحه لما كشفه له ليقتص منه، وقلنا في تقبيل الرأس: إنه يكون للكبير في السن أو العالم والوالد. كذلك لو كان له أخت كبيرة أو عمة أو جدة، فلا بأس أن يقبل رأسها، ولا حرج في ذلك.

تقبيل المرأة للرجل الأجنبي وتقبيل الشعر

تقبيل المرأة للرجل الأجنبي وتقبيل الشعر أما تقبيل المرأة للرجل الأجنبي، فهذا حرام ولو كان كبيراً، وتقبيل الرجل للمرأة الأجنبية حرام ولو كانت كبيرة في السن، وتقبيل الشعر كتقبيل الرأس في الحكم، وبعضهم قد يحتج بتقبيل الإمام أحمد رحمه الله لشعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا كان ثابتاً عنده أنها شعرته، أما اليوم فمن أين نثبت أنه قد بقي شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقبله؟ وذكرنا في مسألة تقبيل المصحف أنه لم يرد بذلك حديث صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن تيمية رحمه الله: لا نعلم في تقبيل المصحف شيئاً مأثوراً. وقد سئل أحمد عن تقبيله، فقال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل، واتباع السلف أولى، ولا يعلم له موافق رحمه الله على ذلك، ولم وافقه الصحابة على ذلك، ولم يكن شيئاً مشروعاً منتشراً عندهم.

تقبيل آثار الصالحين وأرض الوطن

تقبيل آثار الصالحين وأرض الوطن وأما بالنسبة لآثار الصالحين التي يفعلها بعض الناس وتقبيلها فهذا أيضاً من البدع، وكذلك تقبيل الشجر والحجر، أما بالنسبة لتقبيل الأرض بين يدي العظماء، فسبق الكلام أنه من المنكرات العظيمة، وقال ابن تيمية رحمه الله: وأما تقبيل الأرض ووضع الرأس أمام الشيخ والملك فلا يجوز، بل الانحناء كالركوع لا يجوز، ومن فعله قربة وتديناً بين له -نبين له أن تقبيل الأرض والانحناء كالركوع بين يدي الشيخ أو الصوفي هذا أو الملك لا يجوز- ومن فعله قربة وتديناً بين له أن هذا حرام ولا يجوز، فإن تاب وإلا قتل، وأما إذا أكره الرجل بأن يخشى أخذ ماله أو ضربه أو قطع رزقه في بيت المال، فإنه يجوز عند أكثر العلماء. وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن ببركة السجود لغيره وتقبيل الأرض عنده ونحو ذلك يحصل له السعادة، فهو من أحوال المشركين وأهل البدع وهو باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده. وقال أيضاً رحمه الله: وأما وضع الرأس عند الكبراء والشيوخ أو غيرهم أو تقبيل الأرض أو نحو ذلك، فهو مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله منهي عنه. هناك نوع من تقبيل الأرض يحدث في هذا الزمان، وهو تقبيل أرض الوطن بزعمهم أن ذلك وطنية، فلاشك أن هذا حرام، وفيه نوع من الشرك، وهذا دين المنتسبين، إذا وطأت قدماه بلده مثلاً قبل أرض بلده أو وطنه، ولاشك أن هذا حرام لا يجوز. ومن الأشياء التي تفعل في هذا الزمان مثلاً: التشبه بالكفار وتقليدهم في تقبيل الكلاب وبعض الحيوانات، ولاشك أن الكلب مما ينبغي التخلص منه، والاحتفاظ به ينقص الأجر. فهذه تكملة لآداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، وبذلك نكون قد أنهينا الكلام عليها والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قيام الليل مع الزوجة

حكم قيام الليل مع الزوجة Q هل الأفضل في قيام الليل أن أصلي بعض الوقت وزوجتي تصلي البعض الآخر أو نصلي جماعة؟ A يصلي كل واحدٍ منهما بمفرده، ولا يتفقان على الجماعة في القيام، لكن إن انضمت إليه -وهو لا يريد أن ينضم إليها- فصلت وراءه فلا بأس.

حكم تقبيل الكتف للعظماء

حكم تقبيل الكتف للعظماء Q ما حكم تقبيل كتف العظماء؟ A إذا كان ظالماً فلا يجوز تقبيله؛ لأن التقبيل نوع من التوقير، فإذا كان ظالماً أو كافراً لم يجز تقبيله، وإذا كان صالحاً راشداً قبل رأسه، كما إذا قبل رأس الخليفة الصالح الإمام العادل لأن هذا قد نص عليه أهل العلم.

حكم تقبيل البنت الصغيرة ومصافحتها

حكم تقبيل البنت الصغيرة ومصافحتها Q ما حكم مصافحة وتقبيل البنت الصغيرة؟ A البنت الصغيرة إذا كانت أجنبية لابد من الحذر الشديد، حيث أن هذا من الأبواب العظيمة التي ينفذ بها الشيطان، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّت به الفتن.

معانقة المسافر لمحارمه

معانقة المسافر لمحارمه Q ما حكم معانقة المسافر العائد لأمه وعماته وخالاته؟ A لا بأس بذلك.

حكم المعانقة في العيد

حكم المعانقة في العيد Q ما حكم المعانقة في العيد؟ A المعانقة في العيد لا أعلم لها أصلاً، وكذلك المعانقة في العزاء.

حكم تقبيل الرجل زوجته أمام أهله

حكم تقبيل الرجل زوجته أمام أهله Q هل يقبل الرجل زوجته أمام أهله؟ A ينبغي أن يكون هذا مما يصان ولا يظهره، من أجل أن الرجل يستمتع بأهله على انفراد، ولا يكون أمام الآخرين. نكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

حال حديث: (من خلط سمكا ولبنا فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه)

حال حديث: (من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه) Q ما صحة حديث (من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفس)؟ A هذا حديث غير صحيح، وقد جرب بعض الناس أكل السمك باللبن فلم يضرهم، وبعض الناس ضرهم، فالمسألة ترجع إلى طبيعة الأجساد.

عدد وجبات السلف

عدد وجبات السلف Q هل تناول ثلاث وجبات في اليوم والليلة مما أثر عن السلف؟ A أثر عنهم الغداء والعشاء، وكان غداءهم في الصباح، والعشاء قبل المغرب كان عندهم وجبتان.

حكم إجابة دعوة من عنده تلفاز

حكم إجابة دعوة من عنده تلفاز Q إذا كان عند الداعي تلفاز هل يسقط وجوب إجابة الدعوة؟ A إذا كان التلفاز مفتوحاً على شيء محرم فيسقط إجابة الدعوة.

حكم وضع اليد على الصدر بعد المصافحة

حكم وضع اليد على الصدر بعد المصافحة Q كثير من الناس يضع يده على صدره بعد أن ينتهي من المصافحة؟ A لا أعلم في هذا دليل.

كيفية الترتيب في إجابة أكثر من دعوة

كيفية الترتيب في إجابة أكثر من دعوة Q إذا دُعيت إلى وليمة، ودعيت بعد يومين إلى وليمة وقد نسيت الأولى وأني قد وافقت على الوليمتين، هل أذهب إلى ما أريد أم لابد من إجابة الأولى؟ A إذا كان فات وقت الأولى فتجيب الثانية، وإذا لم يفت فتجيب الأولى.

حكم وضع الستائر على الجدران

حكم وضع الستائر على الجدران Q هل تُعتبر الستائر من ستر الجدران؟ A نعم. ولذلك توضع الستائر على الشبابيك لأجل الغبار أو الشمس، أما على الجدران كلها بما لا داعي له، فلاشك أن هذا نوع من الإسراف.

حكم تقبيل البنت الصغيرة الأجنبية

حكم تقبيل البنت الصغيرة الأجنبية Q ما حكم تقبيل البنات الصغيرات الأجنبيات؟ A إذا كان بشهوة فهو حرام.

الاستدلال بحديث الغلام على عدم السكوت حال الطعام

الاستدلال بحديث الغلام على عدم السكوت حال الطعام Q بعض الناس يستشهد بحديث: (يا غلام! سم الله) على دلالة الكلام عند الأكل؟ A هذا رأى منكراً فأنكره لا يستلزم أن يكون هذا دليل على هذه المسألة.

عدم وجوب إجابة الدعوة العامة

عدم وجوب إجابة الدعوة العامة Q هذه الأيام تكثر الدعوة لوليمة العرس، وتكون عامة، فهل يكفي معرفة اسم الشخص دون معرفته شخصياً إذا كانت عامة؟ A إذا كانت الدعوة عامة فلا مانع أن تذهب، لكن لا يجب عليك إلا إذا خصصت بالدعوة.

حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله

حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله Q ما حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله؟ A لا بأس أن يذهب لتأليفه ودعوته إلى الله.

متى يأثم المدعو؟

متى يأثم المدعو؟ Q هل يأثم المدعو إذا اعتذر عن الإجابة؟ A إذا قبل العذر الحمد لله لا يأثم.

مشروعية عدم إجابة دعوة العاصي

مشروعية عدم إجابة دعوة العاصي Q ما حكم عدم الإجابة للدعوة تأديباً للداعي على معصيته؟ A مشروع.

تحريم اللعب بالورق

تحريم اللعب بالورق Q ما حكم لعب الورق؟ A جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء أنه حرام، وأن فيه شبه من الميسر، وأنه يلهي عن ذكر الله، أزيد على ذلك أن فيه صوراً لذوات الأرواح.

عدم وجوب إجابة الدعوة إذا وجدت مشقة

عدم وجوب إجابة الدعوة إذا وجدت مشقة Q ما حكم إجابة الدعوة إذا كنت في بلد بعيد وفي السفر مشقة؟ A إذا كان فيه مشقة لا يتحملها الشخص لا يجب عليه الإجابة.

وجوب الكفارة للحانث في يمينه

وجوب الكفارة للحانث في يمينه Q حلف رجل على ألا يدخل منزل أبيه وأخيه حتى يغيروا المنكرات فيها، علماً أنه لا يجلس في مكان في البيت فيه منكر، وبعد ذلك دخل البيت، فهل عليه كفارة؟ A نعم. عليه كفارة إذا كان يمينه يمنياً واحداً.

حكم الاقتراض من البنك

حكم الاقتراض من البنك Q هل يجوز اقتراض مبلغ من البنك ثم رده إلى البنك بأكثر؟ A هذا هو الربا بعينه.

حالات وجوب إجابة الدعوة

حالات وجوب إجابة الدعوة Q إذا كنا في عرس، ودعانا أحد الأشخاص في الليلة الثانية في عرس لولده، وكانت الدعوة لجميع الموجودين فما هو الحكم؟ A إذا كانت الدعوة عامة لا تجب، ويستحب أن تأتي، لكن إذا خصك أنت وأرسل إليك رسولاً، أو بطاقة باسمك، وجبت الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ.

حكم ارتداء الملابس الداخلية أمام الناس

حكم ارتداء الملابس الداخلية أمام الناس Q هل الذهاب إلى دورة المياه في السكن الجامعي بالملابس الداخلية سراويل قصيرة وعليه سراويل طويلة وفنيلية يعتبر من خوارم المروءة؟ A هذا قد يعتمد على الشخص، وعلى شفافية هذا القماش، فقد يكون شفافاً، وقد يمشي مسافة بعيدة ويمر على أشخاص كثيرين، فبعض الأشخاص قد يكون إمام مسجد، لا يجوز في حقه أن يمشي بهذا الشكل بين الناس الذين هم من المأمومين، فعند ذلك يحتاط ويتحفظ ويكون محتشماً في ملابسه.

حكم الأكل في المطعم المزجج

حكم الأكل في المطعم المزجج Q كثير من المطاعم يكون تصميمه بالزجاج، مما يجعل المار ينظر إلى الزبائن وهم يأكلون؟ A هذا ليس هو الأفضل، الأفضل ألا يجعل من زجاج حتى لا ينظرون إلى الزبائن، لأن هذا كأنهم يأكلون في السوق، وهناك المار والغادي والرائح، ويدخل فيه كلام أهل العلم في قضية أنه من خوارم المروءة، ولا يشترط في خوارم المروءة أن تكون محرمة، لكن المقصود أنها مما يعاب.

وصايا تساعد على هضم الطعام

وصايا تساعد على هضم الطعام Q عدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم؟ A هذه أشياء مذكورة، لكن يبدو أن هذا الكاتب له معرفة بالطب، يقول: أكل الفاكهة قبل الأكل مفيد لسببين: أولاً فرصة امتصاص المواد المفيدة في الفاكهة تكون أكبر. ثانيا: السكريات تقلل من الشهية للأكل بكثير. فائدة: شرب الشاي مع الطعام يمنع امتصاص فيتامين الحديد. فائدة: يمنع النوم مباشرة بعد الأكل لدرجة الشبع، فالنوم يشغل الجسم عن الهضم. هذه وصايا، وقضية الشره في الطعام والإكثار منه، وانتفاخ البطن، وعدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم، فهذا آخر ما جاء من الأسئلة. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آداب التثاؤب والتجشؤ

آداب التثاؤب والتجشؤ إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، وإن من الخير العميم الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم آداب الإسلام في احترام وتقديس الأماكن والهيئات، وإعطاء الناس حقوقهم، ومن تلك الآداب آداب العطاس والتثاؤب، وآداب البصاق والبزاق في المسجد وحال الصلاة.

آداب العطاس

آداب العطاس

عقيدة أهل الجاهلية في العطاس

عقيدة أهل الجاهلية في العطاس الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ذكرنا في الدرس الماضي طائفة من أحكام العطاس وآدابه، وسوف نتم الكلام عن موضوع العطاس وندخل في أدب التثاؤب والجشاء، وكذلك البصاق والتفل والنخاعة والنخامة إذا كان الوقت متسعاً. ندخل في تتمة الكلام عن موضوع العطاس، ونذكر النقطة التي أشار إليها أحد الإخوة، ونتكلم عنها في هذه الليلة، ماذا كان يعتقد العرب في العطاس؟ قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح -هذه من أنواع الطيور التي كانوا يتطيرون بها، وأتى ببعض الأبيات تدل على تشاؤم أهل الجاهلية من العطاس- قال: وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمراً وشبابة، وإذا عطس من يكرهونه، قالوا له: وراً وقحابة، والوري: داءٌ يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب: السعال وزناً ومعنى، فكأنهم يدعون عليه بالداء الذي يصيب كبده وبالسعال، فكان الرجل إذا سمع عطاساً فتشاءم به يقول: بك لا بي، أي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك أنت لا بي أنا، وكان تشاؤمهم في العطسة الشديدة أشد، كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامراً له عطس عطسةً شديدة راعته -أي: أخافته- فغضب الملك، فقال سميره: والله ما تعمدت ذلك، ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بما يشهد لك بذلك لأقتلنك، فقال: أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي، فأخرج وقد وكل به الأعوان، فوجد رجلاً، فقال: ناشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوماً فلعلك تشهد لي به عند الملك، فقال: نعم. أنا أشهد لك، فنهض معه فقال: أيها الملك! أنا أشهد أن هذا الرجل يوماً عطس فطار ضرس من أضراسه، فقال له الملك: عد إلى حديثك ومجلسك. يقول ابن القيم رحمه الله فلما جاء الله بالإسلام وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغاة من الضلال والآثام، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة -أي: إذا كان أهل الجاهلية يقولون: بك لا بي، إذا عطس، وأيضاً يدعون عليه بالداء والمرض والسعال، فجاء الله عز وجل بهذا الشرع المطهر الذي فيه الدعاء للعاطس بالرحمة، وحمد العاطس الله عز وجل بعد العطاس. ولما كان الدعاء على العاطس نوعاً من الظلم والبغي جُعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم، وأُمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأما الدعاء بالهداية فلمّا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه الجاهلية فدعا له ليثبته الله عليها ويهديه إليها. لما قال هذا العاطس: الحمد لله، فقال له المشمت: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الخيرات، ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال، أما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معاً، وهو تأسٍ أيضاً بآدم عليه السلام. هذا بالنسبة لما كان عليه أهل الجاهلية، وما جاء الله به في هذا الدين من إبطال ذلك وإبداله بالأمر الحسن. أما بالنسبة لحديث: (من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص) فهو ضعيف، ولذلك لا يسبق العاطس بالحمد؛ لأنه قال: من سبق العاطس بالحمد، فإذاً: العاطس يترك حتى يحمد الله سبحانه وتعالى، وهذا الشوص وجعٌ في البطن والضرس، والعلوص وجعٌ في التخمة ووجعٌ في البطن، واللوص: وجعٌ في الأذن، أنواع من الأوجاع.

إذا عطس أكثر من ثلاث يدعى له بالعافية

إذا عطس أكثر من ثلاث يدعى له بالعافية وكذلك فإنه بالنسبة للعاطس إذا عطس أكثر من ثلاث مرات، فإنه قد سبق القول أنه يُدعى له بالعافية، ولذلك يقول ابن عبد القوي رحمه الله في منظومته: وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمدِ وعوفيت بعد ثلاثة، أي: بعد ثلاث مرات، يدعى له بالعافية، يقال له: عوفيت، ليس في هذا حديث صحيح، لكن بما أنه أخبر أنه مزكوم، فالمناسب أن يُدعى له بالعافية، بعد تشميته ثلاث مرات، فإذا عطس الرابعة يقال له: عوفيت، وقال شيخ الإسلام وهو منصوص الإمام أحمد: إن عطس ثانياً وحمد شمته، وثالثاً شمته، ورابعاً دعا له بالعافية، ولا يشمت للرابعة إلا إذا لم يكن شمته قبلها ثلاثاً، فالاعتبار بفعل التشميت لا بعدد العطسات، هذا كلام صاحب الإقناع وشارح الإقناع، أن العبرة بالتشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس شخص ثلاث مرات متوالية، ثم قال: الحمد لله، فشمته، ثم عطس رابعة فشمته، ثم عطس خامسة فشمته، كم عطسة عطس؟ خمس، كم مرة شمته؟ ثلاثاً. إذاً: في العطسة السادسة تقول له: عوفيت، فقال: إذاً العبرة بفعل التشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس أكثر من ثلاث متواليات شمته بعدها إذا لم يتقدم تشميت، ويقال له: عافاك الله؛ لأنه مزكوم أو به داء. وقال مهنا للإمام أحمد: أي شيء مذهبك في العاطس يشمت إلى ثلاث مرار؟ فقال: إلى قول عمرو بن العاص قال: العاطس بمنزلة الخاطب، يشمت إلى ثلاث، فما زاد فهو داء في الرأس. وتقدمت الأحاديث في هذا الأمر، وهناك مسألة، وهي: إذا دعا للعاطس بالعافية فهل يقول العاطس شيئاً؟ قال السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: "لم أرَ لأحدٍ من الأصحاب ولا غيرهم في أن الداعي للعاطس بالعافية، هل يستحق جواباً أم لا". ولعله يجيب بقوله: عافانا الله وإياك، أي: لو قلت له: عوفيت بعدما عطس وشمته المرة الثالثة، عطس الرابعة، فقلت له: عوفيت، فيقول: عافانا الله وإياك، وهو مأخوذٌ من قول ابن عمر رضي الله عنهما. وهل يكون مستحباً أو واجباً أو مباحاً؟ لم أر من تعرض لشيءٍ من ذلك، والذي يظهر إن قلنا: الدعاء له بالعافية مستحب فالإجابة كذلك، إذا قلنا: عوفيت أو عافاك الله مستحب، فالإجابة بقول: عافانا الله وإياك، أو وإياك مثلاً: ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة أنه مستحب كذلك، وإن قلنا: واجبٌ فكذلك الإجابة والله ولي الإنابة.

الدعاء للغلام بالبركة إذا عطس

الدعاء للغلام بالبركة إذا عطس أما بالنسبة لقول الغلام: بورك فيك كما أشار الناظم فليس فيه حديثٌ صحيحٌ والله أعلم أن الغلام يخص بشيء، ولكن جاء في حديثٍ رواه الحافظ السلفي أن النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده غلام لم يبلغ الحلم، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله فيك يا غلام) لكن يحتاج إلى معرفة صحته، ويكون هذا الحديث مستند الناظم ابن عبد القوي رحمه الله: وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمد يعني: مره أن يحمد الله.

تذكير العاطس الحمد إذا نسي

تذكير العاطس الحمد إذا نسي العاطس إذا نسي أن يحمد الله عز وجل قال بعض العلماء: يُذكَّر، وقال بعضهم: لا يُذكَّر، وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة، أما ابن القيم رحمه الله فقد قال في العاطس: إذا ترك العاطس الحمد هل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟ قال ابن العربي: لا يذكره وهذا جهلٌ من فاعله. وقال النووي: أخطأ من زعم ذلك، بل يذكره؛ لأنه مرويٌ عن النخعي، وهو من التعاون على البر والتقوى، فقال ابن القيم بعد ذلك: وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي لم يحمد الله، ولم يذكره، وهذا تعزيرٌ له وحرمانه لتركه الدعاء، لما حرم نفسه بتركه الحمد، فنسي الله تعالى، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها والإعانة عليها، هذا رأي ابن القيم رحمه الله تعالى في المسألة. وذكر في شرح الإقناع ما يؤيد أنه ينبغي تذكير من نسي حمد الله، قال المروذي: أن رجلاً عطس عند أبي عبد الله -الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه- فلم يحمد الله، فانتظره أبو عبد الله أن يحمد الله فيشمته، فلما أراد أن يقوم، قال له أبو عبد الله: كيف تقول إذا عطست؟ قال: أقول: الحمد لله، فقال له أبو عبد الله: يرحمك الله. قال في الآداب: وهذا يؤيد ما سبق. أي: من كون بعض الأصحاب كان يذكر خبر من سبق العاطس بالحمد أمن الشوص ونحوه ويعلمه الناس، قال: وهو متجه. فالمسألة فيها قولان: هل يذكر أو لا؟ ولكل من ذهب إلى أحد المذهبين له رأي.

من آداب التثاؤب

من آداب التثاؤب وأما بالنسبة للتثاؤب، فإن التثاؤب من الشيطان، كما قال البخاري رحمه الله في كتاب الأدب: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، وذكر حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العطاس)، وفيه: (وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان)، وفي رواية أبي داود: (فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقول: هاها، فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه)، وفي رواية: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه فإن الشيطان يدخل) أي: يدخل مع التثاؤب. إذاً: التثاؤب من الشيطان، والشيطان يدخل مع التثاؤب إلى جوف الشخص، ويضحك من العبد المتثائب، أما بالنسبة للتثاؤب فأصله من ثئب فهو مثئوب، إذاً: مرد التثاؤب إلى الكسل، ومأخوذ منه.

رد التثاؤب أو وضع اليد على الفم

رد التثاؤب أو وضع اليد على الفم أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: (فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع) وجاء في الرواية الأخرى: (فليضع يده على فيه). إذاً: وضع اليد على الفم جاء هذا في حديث مسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه) أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (التثاؤب من الشيطان) أي: أن الشيطان يحب التثاؤب، وهو مبعث التثاؤب، وكل فعلٍ مكروه ينسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، والتثاؤب من امتلاء البطن، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، وأضيف التثاؤب إلى الشيطان -كما يقول النووي رحمه الله- لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه التثاؤب وهو التوسع في الأكل. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع) هل المقصود: إذا تثاءب يرده بعد انتهاء التثاؤب؟ A لا. هذا أسلوب تستعمله العرب، إذا تثاءب أحدكم، أي: إذا شرع فيه، إذا بدأ فيه (فليرده ما استطاع) يأخذ في أسباب رده، وقيل: إن المقصود إذا تثاءب أي: إذا أراد أن يتثاءب، مثل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] أي: إذا أردت قراءة القرآن، إذا أردت أن تشرع فيها، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)، وفي رواية: (فإذا قال: آه)، وفي رواية: (فإذا قال: ها -مرة بتقديم الهاء ومرة بتأخيرها- ضحك منه الشيطان)، وفي رواية: (فإن الشيطان يدخل) يدخل مع التثاؤب، وورد في رواية ضعيفة لـ ابن ماجة: (فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه) أي: شبَّه الصوت بعواء الكلب، ولكن هذه الرواية لم تثبت.

تغطية التثاؤب ورده في الصلاة وخارجها

تغطية التثاؤب ورده في الصلاة وخارجها هل تغطية الفم وكظم التثاؤب خاصٌ بالصلاة أو هو عامٌ يشمل الصلاة وغير الصلاة؟ A أما رواية الصحيحين فأكثرها عامة، ليس فيها تقييد بالصلاة، وورد في بعض الروايات تقييده بحال الصلاة، فهناك احتمال أن يحمل المطلق على المقيد، ونقول: الكظم والتغطية والمجاهدة والحبس هو في الصلاة، أو أن نقول: إنه عامٌ، ولكنه في الصلاة يكون أوكد، ولعل هذا هو الأقوى والله أعلم، فإن الشيطان في الصلاة له غرضٌ قوي في التشويش على المصلي، وهناك قاعدة أصولية يذكرها بعض أهل العلم، وهي: أن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وموضوعنا الآن في حديث التثاؤب أمر، وبناءً على ذلك قاعدة حمل المطلق على المقيد لا تنطبق، لأنه هنا قال: (إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان) وقال هنا: (فليرده منكم ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك منه الشيطان) فاللام هنا لا شك أنها لام الأمر، فقال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وهذا ظاهره أنه يقيد هاهنا، لكن ابن حجر رحمه الله ذكر في الفتح أن هناك ما يؤيد كراهته مطلقاً وهو كونه من الشيطان، أي: إذا كان التثاؤب من الشيطان هل هناك فرقٌ بين الصلاة وخارج الصلاة؟ حديث كون التثاؤب من الشيطان هل يعني: أنك تجاهده في الصلاة وخارج الصلاة لا تجاهده؟ ما هو الفرق إذا كان كلاهما من الشيطان؟ لكن في حال الصلاة هو أشد، قال ابن العربي رحمه الله: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه، ولا شك أن التثاؤب فيه خروج عن اعتدال الهيئة، وفيه اعوجاجٌ للخلقة، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب ربما شابه الكلب، ويرفع رأسه فيه أيضاً، وبذلك يُعلم أن الشيطان إذا دفع العبد إلى التثاؤب فإنه يصيره في وضعٍ كريه، فإن الإنسان لو قدر له أن يرى حاله أمام المرآة وهو يتثاءب لرأى منظراً كريهاً بشعاً، فالشيطان من كيده أنه يدفع للتثاؤب، وهو هيئة كريهة وبشعة، وهو أيضاً يدخل مع التثاؤب، وظاهر الحديث الدخول الحقيقي. فإن قال قائل: إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؟ فنقول: إذا كان ذاكراً لله يتمكن منه، لكنه إذا تثاءب في تلك الحالة ولم يرده، تمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقةً، ولا يمنع أن يدخل فيه وهو يسير منه أو يجري منه مجرى الدم. والقضايا الغيبية، لا تحكم فيها بالعقول، ونقول: هذا داخل فكيف يدخل؟ وهذا خارج هذه قضايا مردها إلى الله تبارك وتعالى، فهو يعلم كيفية ذلك.

تغطية المتثائب فمه بكفه ونحوها

تغطية المتثائب فمه بكفه ونحوها أما تغطية الفم فإنه يغطى بالكف ونحوه إذا انفتح، فإذا كان منطبقاً فهل يغطيه أم لا؟ أي: شخص استطاع أن يجاهد نفسه بألا ينفتح فمه عند التثاؤب، فنقول: يغطيه احتياطاً؛ لأن التثاؤب فيه رغبة قوية في فتح الفم، فاحتياطاً يغطي فمه بيده، أما إذا انفتح فتتأكد التغطية. هل يلزم وضع اليد بالذات، أو يمكن أن يضع ثوبه؟ لو وضع طرف الغترة أو غطاء الرأس، أو الكم، أو منديل مثلاً، فنقول: المقصود هو التغطية، وليس الشرط أن تكون في اليد، لكن إذا كان لا يستطيع أن يغطي إلا باليد تعينت اليد، مثل ألا يكون عنده شيءٌ قريبٌ يغطي به ونحو ذلك، وتتأكد التغطية في حال الصلاة أيضاً، كما تتأكد مجاهدة التثاؤب في حال الصلاة.

إذا تثاءب حال قراءة القرآن أمسك عن القراءة

إذا تثاءب حال قراءة القرآن أمسك عن القراءة ومن الأشياء المفيدة: أن الإنسان المصلي أو قارئ القرآن إذا تثاءب أثناء قراءة القرآن فعليه أن يكف عن القراءة حتى ينتهي من مقاومة التثاؤب؛ لأن التثاؤب يغير نظم القراءة، وربما تتغير الحروف، وجاء عن مجاهد وعكرمة وعدد من التابعين المشهورين هذا، وهو الأمر بالإمساك عن القراءة حال التثاؤب، وحكم التثاؤب في الصلاة مكروه إذا أمكن دفعه، وينبغي عليه مجاهدة نفسه للأمر الوارد في الحديث، خصوصاً أن طريقة كثير من أهل الظاهر أنهم يوجبونه في مثل هذه النصوص. هل إذا تثاءب يستخدم في التغطية باليد اليمنى أو اليسرى؟ A ليس هناك -والله أعلم- نصٌ في هذه المسألة، ولكن قال بعضهم: يغطي فمه بيده اليسرى؛ لأن مبعثه من الشيطان، وذكر السفاريني رحمه الله كلاماً عن أحد شيوخه، لكن ليس فيه دليل، يقول: قال لي شيخنا التغلبي فسح الله له في قبره: إن غطيت فمك في التثاؤب بيدك اليسرى فبظاهرها، وإن كان بيدك اليمنى فبباطنها. وهذا التفريق ربما لا دليل عليه، لكن هذا من مراعاة المعنى وليس من مراعاة الدليل، يقول: "والحكمة من ذلك؛ لأن اليسرى لما خبث ولا أخبث من الشيطان، وإذا وضع اليمنى فبباطنها؛ لأنه أبلغ في الغطاء" تحكم بالتغطية بباطن اليد أكثر من الظاهر إذا قلبها. قال: "واليسرى مُعدَّة لدفع الشيطان، وإذا غطى بظهر اليسرى فببطنها معدٌ للدفع، أي: أن هذا الذي يدفع به، فيجعل الظاهر على الفم والباطن كأنه للدفع، وهذا لم يذكر فيه دليلاً، فالمسألة واسعة إن شاء الله إذا غطى باليمنى أو باليسرى، لكن فيه معنى إذا قلنا: إنه باليسرى لأجل أنه من الشيطان.

كراهية إظهار التثاؤب بين الناس

كراهية إظهار التثاؤب بين الناس بالنسبة للتثاؤب؛ فقد ذكر بعض أهل العلم بحثاً في تتمة كلام ابن مفلح رحمه الله في موضوع التثاؤب، قال: "ويكره إظهاره بين الناس مع القدرة على كفه، وإن احتاجه تأخر عن الناس وفعله"، أي: احتاج وغلبه التثاؤب أخفى ذلك عن الناس. وقال بعضهم: "يكره التثاؤب مطلقاً سواءً كان مع الناس أو لوحده"، أي: يقاوم التثاؤب حتى لو كان منفرداً، "ومما يعين على دفع التثاؤب: الإقلال من الطعام والشراب".

من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عدم التثاؤب

من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عدم التثاؤب ومن الأشياء التي ذكرها بعض أهل العلم في موضوع التثاؤب: هل يتثاءب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا على أساس أن التثاؤب من الشيطان؟ قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم -إذاً هذا مرسل- قال: (ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط)، وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: (ما تثاءب نبيٌ قط) ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق. إذاً: هو تابعي، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان، فإذاً أتى بروايتين مرسلتين، وقالوا: ويؤيد ذلك أن التثاؤب من الشيطان، وجاء في الشفاء لـ ابن سبع: (أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى لأنه من الشيطان) والله أعلم. هذا بالنسبة لما يتعلق بموضوع التثاؤب.

من آداب التجشؤ

من آداب التجشؤ وأما بالنسبة للتجشؤ: فإن التجشؤ الذي هو خروج الصوت نتيجة الشبع، ويخرج معه ريح عادةً من البطن، فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي وابن ماجة، عن ابن عمر وحسنه الشيخ: الألباني بلفظ: (كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة) هذا الحديث ذكر الشيخ: الألباني طرقه في السلسلة الصحيحة، وقال: روي من حديث ابن عمر وأبي جحيفة وابن عمرو وابن عباس وسلمان، ثم ذكر حديث يحيى البكاء، عن ابن عمر، قال: (تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:) فذكره، أخرجه الترمذي، وقال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه، قلت: يعني: ضعيف؛ لأن يحيى البكاء ضعيف. وأما حديث أبي جحيفة وله عنه طرق: الأولى: عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: (أكلت خبز بر بلحم سمينٍ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتجشأت، فقال: احبس أو اكفف جشاءك) الحديث، وزاد قال: (فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا) أخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع، قلت: فيه الوليد وهو ضعيف، لكنه لم يتفرد به، لأن له متابعة. وكذلك من القصص التي وردت، حديث سلمان يرويه عطية بن عامر الجهني قال: سمعت سلمان وأُكِرَه على طعامٍ يأكله، فقال: حسبي، أي: عزموا عليه أن يأكل ويزيد، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة). بعدما ذكر الشيخ طرق الحديث قال في آخره: وجملة القول: أن الحديث قد جاء من طرق عمن ذكرنا من الصحابة، وهي وإن كانت مفرداتها -أي: كل طريق بمفرده- لا تخلو من ضعفٍ، فإن بعضها ليس ضعفها شديداً، ولذلك فإني أرى أنه يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن على أقل الأحوال، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كظم التجشؤ ورده

كظم التجشؤ ورده الحديث على ماذا يدل؟ على كظم التجشؤ ورده، وهذا فيه أيضاً الإقلال من الطعام، وكذلك تغطية الفم، وحبس الصوت، وكف الرائحة التي تخرج؛ لأن التجشؤ بالذات إذا أكل ثوماً أو بصلاً وتجشأ في المسجد بين المصلين، فإن فيه تنفيرٌ وإيذاءٌ لعباد الله المصلين، وكثيرٌ من الناس يتساهلون في هذا، ولا يبالون به، ويفعلونه في مجامع الناس، ويصدر أقوى ما لديه من الأصوات، وكأنه يرى من الصحة إخراج التجشؤ بأعلى صوت ممكن، ولا يبالي بتغطية فمه ولا بغير ذلك، وإنما يتجشأ بحضرة الناس أو وهم جلوس، أو في حلقة علم، أو في الصلاة، أو في اجتماع الناس، بدون مبالاة، وهذا من قلة الأدب أن يفعل ذلك بحضرة الناس، وخصوصاً أن التجشؤ غالباً يكون مصحوباً برائحة كريهة، خصوصاً عند أكل الثوم أو البصل أو الكراث.

التجشؤ في الصلاة

التجشؤ في الصلاة الإنسان قد يغلبه التجشؤ فماذا يفعل؟ يكفه ما استطاع، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب قال: إذا تجشأ وهو في الصلاة، فليرفع رأسه إلى السماء حتى تذهب الريح، وإذا لم يرفع رأسه آذى من حوله من ريحه، وهذا من الأدب، وقال في رواية مهنا، عن الإمام أحمد: إذا تجشأ الرجل ينبغي أن يرفع رأسه إلى فوقه؛ لكي لا يخرج من فيه رائحة يؤذي بها الناس، فإذا تجشأ عن يمينه أو شماله، أو وجهه إلى الأمام كأن الرائحة تكون أشد، فأكثر ما يمكن أن يفعله أن يرفع رأسه إلى فوق وهذا إذا اضطر إلى ذلك.

إذا حمد المتجشئ ماذا يقال له؟

إذا حمد المتجشئ ماذا يقال له؟ ماذا يقول المتجشئ؟ هل يحمد الله؟ هل يقاس على العطاس؟ ليس هناك دليلٌ في الموضوع والله أعلم، وقال ابن مفلح رحمه الله: ولا يجيب المجشئ بشيءٍ، فإن قال: الحمد لله، قيل له: هنيئاً مريئاً، أو هنَّاك الله وأمراك، ذكره في الرعاية الكبرى، وكذا ابن عقيل، وقال: لا نعرف فيه سنة، بل هو عادةٌ موضوعة، وذكر أن بعض الأطباء قالوا في علاج التجشؤ: ينفع فيه الكراويا أو الصعتر، أو النعناع مضغاً أو شرباً، أو الكندر مضغاً أو شرباً.

من آداب البصاق

من آداب البصاق أما بالنسبة للبصاق والتفل، فالبصاق ماء الفم إذا خرج منه، يقال: بصق يبصق بصاقاً، ويقال: البزاق والبساق، والتفل لغةً: البصق، ولكن هناك فرق، والتفل بالفم: نفخٌ معه شيءٌ من الريق، فإذا كان نفخاً بلا ريق فهو النفث، والتفل شبيهٌ بالبزاق وهو أقل منه إذاً: هناك ثلاث مراتب: البزق أو البصق وهو أعلاها الذي يكون فيه اللعاب أكثر شيء، ثم التفل ويكون فيه اللعاب أقل، ثم النفث ويكون فيه اللعاب أقل ما يمكن، ثم النفخ ليس فيه لعاب أبداً؛ لأنه هواء. أما بالنسبة للبصاق فالأصل أن ماء فم الإنسان طاهر ما لم ينجسه نجس، أما ما يتعلق بالبصاق من الأحكام، فإنها كثيرة؛ فمن ذلك: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عددٍ من الأحاديث، ولنذكر بعضها (إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى) قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها ثم قال الحديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، وكذلك جاء عند أبي داود وهو حديث صحيح: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه)، وجاء أيضاً عند أبي داود من حديث أبي سعيد وهو حديث حسن: (أيسر أحدكم أن يُبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة إنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمرٌ فليتفل هكذا) أي: في ثوبه، وروى النسائي والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن: (إذا صليت فلا تبصق بين يديك ولا عن يمينك، ولكن ابصق تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فتحت قدميك وادلكه) وأحاديث البزاق أخرجها الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح، وقال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وجاء في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامةً في المسجد فحكها).

النهي عن البصاق جهة القبلة وعن اليمين

النهي عن البصاق جهة القبلة وعن اليمين وقال في حديث: باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، قال في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأى نخامة في حائط المسجد، فتناول حصاة فحتها، ثم قال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى)، وحديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت رجله) وهذا الحديث (لا يتفلن أحدكم) وحديث: (إذا تنخم أحدكم) ليس فيه تقييد للصلاة، فالآن هل هذا مقيد بالصلاة أم لا؟ هل النهي عن البصاق إلى جهة القبلة خاصٌ بالصلاة أم لا؟ أما النووي رحمه الله فإن رأيه المنع في كل حالة، داخل الصلاة وخارجها، سواءً كان في مسجد أو غيره، وجاء عن مالك أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، وقال ابن حجر: يشهد للمنع عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، عندنا الآن جهتين منهي عن البصق فيها: جهة القبلة والجهة اليمنى، هل هذا خاص بالصلاة؟ وإلا لو أن إنساناً يمشي في الشارع لا يبصق في اتجاه القبلة ولا يبصق عن يمينه. قال ابن حجر رحمه الله: ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره، عن ابن مسعود: [أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة]، وعن معاذ بن جبل قال: [ما بصقت عن يميني منذ أسلمت] وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى أبناءه عنه مطلقاً، فالذين قالوا: إنه مخصوص بحالة الصلاة، قالوا: إنه قال في حديث أبي هريرة: (فإن عن يمينه ملكاً) فإذا قلنا: إن الملك هذا غير الكاتب والحافظ؛ لأن هناك ملكاً يكتب، وملائكة تحفظ، فيظهر عند ذلك اختصاصه بحال الصلاة، أي: هناك ملك غير الحافظ، ملك في الصلاة يكون عن يمين المصلي، فغير الصلاة لا يكون فيها، إذاً: يجوز أن يبصق خارج الصلاة عن يمينه، هؤلاء الذين قالوا: إن العلة وجود ملك -فهموا الحديث- في الصلاة عن يمين المصلي. والقاضي عياض رأيه أن النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله ذلك، أي: إذا لم يتمكن أن يبصق في جهة أخرى غير اليمين، ولذلك قال ابن حجر: لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه، فإنه يمكن مثلاً أن يأخذ طرف الثوب ويبصق فيه عن الجهة اليسرى مثلاً، وإذا كان عن يساره أحد -طبعاً المساجد من قديم كان فيها تراب وحصى- فإذا كان في المسجد تراب وأراد أن يبصق يبصق عن يساره تحت قدمه اليسرى ويدلكها بالتراب وتنتهي، لكن الآن المساجد ليست مفروشة لا بالحصى ولا بالتراب ولا بالرمل، فإذاً: لو بصق ستكون في السجاد فيحصل تلويث وتقذير للمسجد. إذاً: ما هو الحل؟ أن يخرج منديلاً فيبصق فيه أو يبصق في طرف الثوب إذا احتاج لذلك، فقد يكون فيه علة حيث يجتمع البلغم ونحو ذلك ويسد مجرى التنفس ولا يستطيع القراءة ولابد من إخراجه، فإذا احتاج إلى البصاق، فماذا يفعل؟ يبصق عن يساره في ثوبه، أو في منديل، أما البصاق على الأرض تحت القدم اليسرى هذا محله إذا كان في مكانٍ فيه رملٌ أو تراب أو نحوه بصق تحت قدمه اليسرى ودلك ذلك حتى يذهب أثرها، كما إذا كان يصلي في أرضٍ مكشوفة في الرمل.

مشروعية البصاق تحت القدم

مشروعية البصاق تحت القدم وإذا كان عن شماله شخص فعند ذلك يبصق تحت قدمه اليسرى حتى لا يؤذي من بجانبه، وقال ابن حجر: "ولو كان تحت رجله مثلاً شيءٌ مبسوطٌ أو نحوه تعين الثوب"؛ لأنك إذا بصقت سيأتي على البساط فيتعين البصق في الثوب، ولو فقد الثوب مثلاً فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه، إذا كان عن يسارك أناس، وفي المسجد بساط، قال في النهاية: فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي، أنك تقذر البساط، أو تتفل عن يسار صاحبك أو تفعل شيئاً من الأشياء التي نهي عنها. وبالنسبة للنخامة والبصاق، والنخامة والنخاعة: شيءٌ ينزل من الأنف إلى الحلق، والأخرى شيء يصعد من الصدر إلى الحلق، فهذا الفرق بينهما، فحكمها حكم البصاق، لكنها أشد من جهة أنها لعابٌ فيه شيءٌ مخلوط به مما يتقذر به بزيادة البلغم والنخامة والنخاعة أشد من مجرد البصاق، لكن حكمها حكمه، أي: قضية اليمين والشمال ونحو ذلك حكمها حكمه، أي: إذا أراد أن يمتخط في الصلاة فأخرج منديلاً يلتفت إلى اليسار ويمتخط.

كفارة البزاق في المسجد دفنها

كفارة البزاق في المسجد دفنها كذلك قال في باب كفارة البزاق في المسجد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) لأن المساجد من تراب ورمل، فلذلك يمكن أن تدفن، والكفارة تدل على أن من بصق في المسجد آثم؛ لأنه لما قال: (خطيئة) أي: أنه آثم وأن لها كفارة. هنا قال بعضهم: إنما تكون خطيئة إذا لم يدفن، أما إذا دفنت فلا تكون خطيئة، لكن هذا لعله ليس هو الأقوى؛ لأن مجرد فعله في المسجد لوحده فيه ما فيه، لكن قال ابن حجر رحمه الله تعالى يستدل برواية أحمد بإسنادٍ حسن، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: (من تنخم في المسجد فليغير نخامته أن تصيب جلد مؤمنٍ أو ثوبه فتؤذيه) قال: وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة مرفوعاً: (من تنخع -من النخاعة- في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة) فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، وفي حديث مسلم مرفوعاً قال: (ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) فهذا يدل على رأي القائلين بأنها تكون خطيئة إذا لم تدفن، فإذا دفنت لم تعد خطيئة ولا تكتب خطيئة. وذَكَر قصة لطيفة: روى سعيد بن منصور، عن أبي عبيدة بن الجراح، أنه تنخم في مسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: [الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة] فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها؛ لأن هذا تراب لو ألقى عليه ما ألقاه ثم دفنه زال المحذور، والعلة المذكورة في الحديث: إيذاء المؤمن، فإذا دفنها زالت العلة. إذاً: هناك من العلماء من يقول: لا يلقيها في المسجد أصلاً، وهناك من يقول: إذا دفنها فلا حرج في إلقائها، وكذلك لو جعلها في ثوب فهو جائز حتى لو كان في مسجد. وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله) إسناده صحيح، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذرٌ، كأن لم يتمكن من خروج المسجد، أي: لو كنت في المسجد واحتجت إلى إخراجها فاخرج إلى خارج المسجد وألقها، لكن لو كنت في الصلاة ولا تتمكن من الخروج خارج المسجد فماذا تفعل؟ فعند ذلك يجوز إلقاؤها في المسجد، لكن بدون تقذير أو تجعلها في منديل ونحو ذلك. قال ابن حجر رحمه الله: وهو تفصيلٌ حسن، والله أعلم. وينبغي أن يفصل أيضاً بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل كمن حفر أولاً ثم بصق وأورى، وبين من بصق أولاً بنية أن يدفن مثلاً، فأيهما أحسن؟ الذي يهيئ المكان قبل أن يبصق فيه كحفرٍ ثم يدفنه فيه أولى من إبرازها ثم دفنها. وقال الجمهور: يدفنها في تراب المسجد أو رمله أو حصبائه، هذا أيضاً بناءً على أن المساجد مفروشة بالتراب أو الحصباء. وأورد كذلك البخاري رحمه الله في باب دفن النخامة في المسجد حديث أبي هريرة: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها) هذا بالنسبة لاستدلاله بالحديث على كونه في المسجد، وقال في حديث: (إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه) عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده، ورئي منه كراهية، وقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض، قال: أو يفعل هكذا) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أخذ طرف الثوب فبصق فيه ورد بعضه على بعض، كأنه أغلقه عليه ومسحه بحيث أنه لا ينتقل إلى شيءٍ آخر، ثم قال: (أو يفعل هكذا) فإذا عرض البصاق فهذا الإرشاد إلى ما يفعل، هكذا تكون الطريقة. الحديث فيه إزالة هذه الأشياء من المسجد وتفقد الإمام أحوال المسجد، وإزالة الأذى منه، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بالحديث على أن خروج الصوت مثل النحنحة والنفخ في الصلاة لا يبطلها، ولكن بعضهم قال: إذا خرج منه أحرف هجاء أكثر من حرفين تبطل الصلاة؛ لأنه صار كلاماً عندهم، ولكن المسألة في قضية التعبد إذا تعمد أن يتكلم في الصلاة بكلام أجنبي بطلت وإلا فلا؛ لأنه إذا تنخم خرج حرف الخاء على سبيل المثال. هذا ما سنقف عنده في هذا الموضع، وبقي أشياء يسيرة في البصاق والنخامة والنخاعة نتكلم عليها إن شاء الله تعالى. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

السفر وآدابه [2]

السفر وآدابه [2] في هذه الخطبة تطرق الشيخ إلى كثير من الآداب والأحكام الشرعية التي ذكرها أهل العلم في كتبهم بخصوص السفر، ومنها: الصلاة والصيام في السفر الأذكار في السفر العبادة في السفر الإمارة في السفر وغير ذلك. كما ركَّز الشيخ كثيراً على مآسي السفر إلى الخارج، وحال كثير من المسافرين رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً.

زاد السفر الأخروي

زاد السفر الأخروي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الأخوة! نريد أن نُكمل شيئاً مما يتعلق بالسفر الذي كثُر جداً في هذه الأزمان؛ لما حصل من التيسير في وسائل المواصلات، التيسير الذي فتح الله تعالى به على الناس في هذه الأزمان؛ وهي نعمة كبيرة من الله عز وجل، فهل يا تُرى رعوها حق رعايتها أم أنهم ضيعوها إضاعة كبيرة؟ وهل شكروا الله عز وجل على نعمة تيسير السفر، وعلى أن جعل المشاق فيه قليلة بالنسبة لما كانوا عليه في الماضي؟ والمسافر يحتاج في سفره أن يتزود لدنياه وآخرته، فإنه يحتاج للزاد المادي من النفقة وغيرها في السفر، كما أنه يحتاج إلى الزاد الديني في سفره، فهل الذين يسافرون في هذه الأيام قد تزودوا بالزاد الديني؟ إنهم يتزودون بأزواد من الدنيا، وقد يصطحبون معهم مبالغ طائلة من الأموال لكي ينفقوها في أسفارهم في التجوال والمشتريات وغيرها، وكثير من هذا التجوال وتلك المشتريات قد لا تكون فيما يرضي الله عز وجل، ولكن الزاد الديني ربما ضُيع تضييعاً تاماً عند البعض.

معرفة أحكام السفر في الصلاة والصيام وغيرها من الأمور الخاصة بالسفر

معرفة أحكام السفر في الصلاة والصيام وغيرها من الأمور الخاصة بالسفر فهل يعرف الذين يسافرون مثلاً أحكام السفر في الصلاة والصيام، من قصر الصلاة مثلاً وجمعها؟! هل يعلمون الأوقات؟! وكيف يحددون اتجاه القبلة الذي كان متيسراً لهم في الحضر؟ يحتاج المسافر إلى أنواع من العلم قبل أن يسافر، على الأقل أن يسأل أهل العلم عما يتوقع أنه سيتعرض له من الإشكالات. هل يستخير المسافر ربه قبل سفره كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلم الأمة أن تستخير في الأمور كلها؟ هل يسأل ربه إن كان هذا السفر خيراً أن ييسره له، وإن كان شراً أن يصرفه عنه، أم أنه يضع في نيته أنه سيسافر بكل حالٍ؟ وكان رسولكم صلى الله عليه وسلم يستحب أن يُسافر يوم الخميس، وكان يستحب أن يخرج مبكراً ويقول: (بورك لأمتي في بكورها) ولكن قد يضطر المسافر أن يخرج في غير هذا الوقت؛ وهذا لا حرج فيه إن شاء الله.

عدم الوقوع في التشاؤم والطيرة

عدم الوقوع في التشاؤم والطيرة بعض الذين يسافرون يقعون من جهة تحديد الوقت في أنواعٍ من الشرك؛ فقد يتشاءمون بحالة من الحالات، فيرجعون عن السفر بعد أن شرعوا فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن: (لن يلج الدرجات العلى من تكَهَّن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيراً) من ردته الطيرة فقد قارف الشرك، وبعضهم يفزع إلى صفحات المجلات التي تُوجد فيها الأبراج؛ أبراج الحظ لينظر ما هي أيام السعد، وما هي أيام الشؤم، وما هي الأيام التي قال الفلكي: إن السفر فيها مستحسن، فيعمد إلى تطبيق ذلك. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم، فقال: يا أمير المؤمنين لا تسافر؛ فإن القمر في العقرب؛ فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هُزم أصحابك، فقال علي رضي الله عنه: [بل أسافر ثقة في الله وتوكلاً على الله وتكذيباً لك] فسافر فبورك له في ذلك السفر حتى قتل عامة الخوارج؛ وكان ذلك من أعظم ما سُر به علي رضي الله عنه.

انتقاء الأصحاب في السفر

انتقاء الأصحاب في السفر هل يعمد المسافرون اليوم إلى انتقاء الأصحاب الذين يسافرون معهم ممن يعينونهم على أمور الدين؛ فيذكروا إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا، أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يسافر الرجل لوحده؟!

الأذكار الخاصة بالسفر

الأذكار الخاصة بالسفر وتأمل في الأذكار التي كان عليه الصلاة والسلام يقولها في سفره، لتعلم أن في ثنايا هذه الأذكار، وفيما تتضمنه إشارات إلى نوعية السفر، وما الذي ينبغي أن يفعله المسافر أثناء سفره.

ذكر التوديع للآخرين

ذكر التوديع للآخرين كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: (أستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم) ومرة ودع صحابياً فقال: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك). والله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. (استودع الله دينك) الدين أهم شيء، فاجعل دينك وديعة عند الله يحفظه لك من التعرض للنقصان، أو التعرض لمعاصي الله عز وجل. (وأمانتك) من الأهل والأموال الذين خلفهم المسافر وراءه، وتأمل في قوله: (استودع دينك) عند السفر، وذلك لأنه عُهد أن المسافرين في كثير من الأحيان يتعرض دينهم لنقصان عند السفر، ولذلك كان استيداع الدين عند الله تنبيهاً للمسافر، يا فلان! يا أيها المسافر! يا عبد الله! لا تنقص دينك عند السفر. (استودع الله دينك وأمانتك) اجعل أهلك ومالك وديعة عند الله يحفظهم لك؛ حتى إذا رجعت من سفرك وجدتهم بخير حال كما فارقتهم أو أحسن. وقال مجاهد: خرجت إلى العراق أنا ورجل معي، فشيعنا عبد الله بن عمر فلما أراد أن يفارقنا قال: إنه ليس معي ما أعطيكما، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استودع الله شيئاً حفظه، وإني أستودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم عملكما). وورد أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ودّع يقول: (استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) أي: أجعلك عند الله وديعةً، فهو الذي لا تضيع ودائعه سبحانه وتعالى، والبشر إذا استودعوا شيئاً ربما حفظوه وربما ضيعوه، والله عز وجل إذا استودع شيئاً؛ فإنه يحفظه سبحانه وتعالى. وهاتان الصيغتان كلٌ منهما سنة عند توديع المسافر.

دعاء الخروج من البيت للمسافر

دعاء الخروج من البيت للمسافر وإذا أراد أن يسافر؛ يأتيه إخوانه فيسلمون عليه، وإذا رجع من السفر أتاه إخوانه فسلموا عليه وحمدوا الله له على سلامة وصوله. وهذا الدعاء عام للجميع ويدخل فيه المسافر: (باسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أُضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يجهل عليَّ) أليست هذه الأدعية داعيةٌ للمسافر ألا ينقص الدين أثناء سفره؟!!

دعاء الركوب والاستواء على الدابة

دعاء الركوب والاستواء على الدابة عن علي بن ربيعة قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي بدابةٍ ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب، قال: (باسم الله) عندما تضع الرجل على الدابة تقول: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: (الحمد لله ثلاث مرات، الله أكبر ثلاث مرات -هذا الذكر لله عند الاستواء على الطائرة، أو السيارة، أو دابة السفر أياً كانت؛ تذكير لهذا الشخص بربه عزوجل- سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ضحك. فقيل: يا أمير المؤمنين! من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، وهو يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري) توحيد الله بطلب مغفرة الذنوب منه عزوجل، وتأمل في طلب المغفرة من الله عز وجل عما يمكن أن يقع فيه هذا المسافر من الزلل. وتأمل في دعاء الركوب: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] ما كنا مطيقين لهذه الدابة وهذا المركوب لولا أن الله سخره لنا، وهو عز وجل يخلق ما لا تعلمون، فكما أنه خلق الجمل فقد خلق لنا السيارة والطائرة ونحوها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ما كنا لهذه الوسيلة وسيلة السفر مطيقين لها لولا أن الله سخرها لنا: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:14] تذكيرٌ للنفس أنها ستعود إلى الله، أنها ستموت وتعود وترجع إلى ربها، إذن هل سيقدم على المعاصي أثناء سفره إذا كانت تذكرته لنفسه حقيقية.

الدعاء أثناء السفر والرجوع منه

الدعاء أثناء السفر والرجوع منه (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى) عندما يقول هذا الدعاء هل سيقدم ويقارف المعاصي أثناء السفر وإذا وصل إلى المكان الذي يريده، وهو يسأل ربه ويقول: (نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده)؟ إذاً علينا اللجوء إلى الله عزوجل؛ لأن السفر فيه مشاق، حتى لو كان في الطائرة قد تأتي لحظات على الإنسان من الأعطال في الطائرة، أو سوء الأحوال الجوية ما تشعر فعلاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من عذاب). (اللهم أنت الصاحب في السفر) أنت تصاحبني في سفري، أنت معي في سفري. (والخليفة في الأهل) أي: وأنا أسخلفتك على أهلي؛ جعلتهم وديعةً عندك. (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر -شدته ومشقته- وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والول) فيستعيذ بالله أن يرجع إلى أهله فيجدهم بحالٍ سيئة، فهو إذن يدعو الله أن يحفظ أهله وأن يكون الله معهم يشفي سقيمهم، ويلُم شعثهم، ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم. (والخليفة في الأهل) أي: هو المعتمد عليه عز وجل، والمفوض إليه الأمر غيبةً وحضوراً. وإذا رجع عليه السلام من السفر زاد إلى ذلك: (تائبون عابدون لربنا حامدون) أي: تائبون مما وقع منا، عابدون لربنا حامدون على أن أرجعنا، وهكذا.

سبب مشروعية الأذكار في السفر

سبب مشروعية الأذكار في السفر فإذاً مجموعة هذه الأذكار التي تقال في السفر لأي شيء شرعت؟ أليس من الحكم أن تُذكر المسافر بالله عز وجل؟!! أليس تُذكره ألا يعصي ربه سبحانه وتعالى؟!! (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أدعية السفر أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة، أو من الزوال والنكصان بعد الثبات والاستقرار من أدعيته صلى الله عليه وسلم. وكان يقول في سفره إذا أسحر -في وقت السحر-: (سمع سمعاً بحمد لله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذاً بالله من النار) أي: ليسمع السامع ويشهد الشاهد بنعمة الله علينا. ثم يدعو يقول: (ربنا صاحبنا وكن معنا، واحفظنا وأفضل علينا، وأتم علينا النعمة والفضل). فمعنى الكلام: أقول هذا وأنا مستعيذ بالله من النار. فإذاًً كل هذه الأدعية يدعو بها الإنسان ليحفظ نفسه، لو أن الناس اليوم عقلوا هذا؛ فهل سيذهبون إلى الخارج مثلاً ليفسقوا ويجرموا ويذنبوا، ويرتكبوا الكبائر في حق الله عز وجل؟!!

أمور أخرى متعلقة بالسفر

أمور أخرى متعلقة بالسفر

فائدة التأمير في السفر

فائدة التأمير في السفر تأمل ما في فائدة التأمير؛ وهو واجب كما يفيده ظاهر النص ورجحه جماعة من أهل العلم: (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم) ليحفظ عليهم أمرهم، ويلم شعثهم، ولا يتفرقوا ولا يختلفوا، فيجعلوا أميراً منهم عليهم يكون فقيهاً في أمور السفر عالماً بآداب الدين وأحكامه، سديد الرأي، يعلم كيف يتعامل مع النفوس، وإن لم يوجد اختاروا من بينهم أصلحهم لذلك (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم). وكذلك هذا الأمير يرعى أصحابه في السفر ويخدمهم، نُقل عن عبد الله بن الوزير أنه صحبه أبو علي فقال عبد الله: على أن تكون أنت الأمير أم أنا؟ فقال: بل أنت، فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولـ أبي علي على ظهره، فأمطرت السماء ذات ليلة؛ فقام عبد الله طوال الليل على رأس رفيقه وفي يده كساء يمنع عنه المطر فكلما قال له: لا تفعل! يقول: أما تقول إن الإمارة مسلمة لي؟ فلا تتحكم عليَّ ولا ترجع عن قولك، حتى قال أبو علي: وددت أني مت ولم أقل له: أنت الأمير. فهكذا ينبغي أن يكون الأمير.

حد الصحبة في السفر

حد الصحبة في السفر وخير عدد يخرج به المسافرون أربعة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الصحبة أربعة، وما نقص عن ثلاثة فهو مذموم: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) هذا إذا لم يكن هناك ضرورة لسفر الإنسان بمفرده، أو لم يجد رفقة يخرج معهم. (لو يعلم الناس من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل ٍوحده) كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، فنهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده، ولذلك تجد كثيراً من الذين يسافرون للفسق والفجور يذهبون بمفردهم؛ لأن المجموعة عندما تذهب مع بعضها ربما يكون في بعضهم خير، فيكون مانعاً لآخرين من الوقوع في الفجور، وربما يستحي بعضهم من بعض، أليس قد قال لنا القائلون: إنهم إذا نزلوا في الفندق وعرف أن في الفندق أناساً يعرفهم؛ فإنه يستحي من إظهار الفجور وإظهار الفاحشة، أو إظهار أنه يرافق فاجرة من الفاجرات أمام الناس الذين يعرفونه من أهل بلده. فإذاً فالصحبة وإن كانت قليلة ففيها خير، ولذلك لا يُنصح الإنسان أن يسافر وحده أبداً.

ذكر الهبوط والصعود في السفر

ذكر الهبوط والصعود في السفر وتأمل الذكر الذي يُسن أن يقوله المسافر إذا علا شرفاً أو هبط وادياً، فإذا علا قال: الله أكبر، وإذا نزل قال: سبحان الله! عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف؛ هذا ما أوصى به عليه السلام رجلاً لما أراد أن يسافر، وقال لنا شيخنا أبو عبد الله عبد العزيز حفظه الله: يدخل في ذلك الطائرات عند إقلاعها فيقول: الله أكبر، وعند هبوطها فيقول: سبحان الله، وإذا تعرضت للمطبات الهوائية فنزلت فيقول: سبحان الله، فإذا ارتفعت؛ قال: الله أكبر، وهكذا فلسانه مشتغل بذكر الله عز وجل.

دعاء المسافر مستجاب

دعاء المسافر مستجاب ودعاء المسافر من الأدعية المستجابة كما قال عليه الصلاة والسلام، فهو إذن يذكر الله في أغلب أحيانه، ويدعو الله لأن دعاءه مستجاب، فأي وقت وأي مناسبة تكون له لكي يُفكر في الفجور، وبعض الناس لا يذكرون الله في أسفارهم، فبمجرد أن يستقل الطائرة تسمع الضحكات، وتسمع الأحاديث المشينة، وتسمع اللهو وأنواعه من المسافرين، لا يذكرون الله إذا طلعوا، ولا إذا نزلوا، ولا إذا استقرت بهم الطائرة، وهؤلاء المساكين تكون قد فاتتهم الفرصة أن الله يستجيب دعاء المسافر منهم.

العبادة في السفر

العبادة في السفر قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يحبهم الله؛ فذكر منهم: والقوم يسافرون، فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض من التعب، فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الذي أثنى عليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، لأنه يعبد ربه في السفر. وأنتم تعلمون أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان يدع سنناً في سفره؛ فإنه كان يحافظ على سنة الفجر وعلى صلاة الوتر، وصلى في السفر صلاة الضحى ثماني ركعات كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد أن يدخل بلداً قال: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها).

عدم الرجوع فجأة إلى البيت

عدم الرجوع فجأة إلى البيت وكثير من البلدان التي يأتيها الناس اليوم فيها وفي أهلها شر عظيم، فالواجب أن يستعيذ الإنسان من ذلك، فإذا رجع فلا يدخل على أهله ليلاً حتى تتمكن المرأة من إزالة ما يكره الرجل، والآن مواعيد الطائرات قد تكون في الليل، ولذلك يزول الإشكال لو أخبر الإنسان أهله أنه سوف يأتي في الليل؛ لا يأتيهم على فجأة فيتخونهم فيظنون به أنه يظن شراً، أو أنه يجد منها شيئاً لا يحبه، فيخبرها بمقدمه.

ما يستحب لمن رجع إلى البيت

ما يستحب لمن رجع إلى البيت فإذا جاء يستحب له أن يصلي في المسجد ركعتين قبل أن يأتي البيت إن تمكن من ذلك، وكذلك فإنه يُسن له أن يذبح لهم ويدعو الناس إلى ذلك، كما ثبت في البخاري أنه عليه السلام نحر جزوراً أو بقرة لما قدم من سفره وتُسمى النقيعة عند العرب وهي سنة، ويأتي إلى أهله بالهدايا التي تسرهم، وبعض الناس يسافرون فيضيعون الأموال فلا يأتي إلى أهله بشيء، ويستقبله أطفاله فلا يجدون معه شيئاً، فهو خالٍ الوفاض وهم يتوقعون أشياء. من الآداب الإسلامية أن يأتي الإنسان لأهل بيته بشيء إذا قدم من سفره.

النفقة على الإخوان في السفر

النفقة على الإخوان في السفر كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يستأجر لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويُطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيٍ وأكمل مروءة حتى يَصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال يُنفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو البلدة الأصلية، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته وعليها اسمه. أيها الإخوة: وهناك من الناس الأغنياء والأثرياء من يصطحب معه أناساً في السفر؛ يُنفق عليهم ويُغدق عليهم ولكن في أي مجال؟ عليه مهر البغي، وأجرة الزانية، وثمن المشروب (الخمر والمسكرات) وتذاكر الطائرة إلى أمكنة الفجور، وأجرة النزول في الفندق الذي يقارفون فيه المعاصي، وهكذا، فيرجع إلى بلده وأهله وقد ازداد إثماً على إثم بما سهل له من الشر، نسأل الله السلامة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

السفر إلى الخارج مآس وآلام

السفر إلى الخارج مآسٍ وآلام الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عن صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة: لقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن السفر إلى الخارج، ونقول هنا: بأن بعض الناس قد يحتاجون إلى السفر لعلاج لا يجده في بلدان المسلمين، أو طلب علم يحتاج إليه المسلمون ولا يُوجد عندهم، أو تجارة يضطر إليها ونحو ذلك، ولكن هذا الإنسان لا بد له من علمٍ يدفع به الشبهات إذا أوردت عليه، وعقلٍ يدفع به الشهوات إذا ثارت في وجهه واستثيرت في نفسه، وهكذا. وأنتم تعلمون ما يحدث في الخارج من المعاصي؛ ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ ممن أقام بين ظهراني المشركين؛ لأن الإقامة بين ظهور الكفار لا خير فيها، وكثيراً ما يكون فيها نقص في الدين، بل هو الغالب على من سافر إلى تلك البلاد، لذلك لا يُنصح أبداً بالسفر إلى تلك البلاد إلا لحاجة. وإذا سافر لا بد أن يكون متحصناً بحيث لا يحصل له نقص في دينه، ولو لم يكن إلا المنكرات والمناظر المحرمة التي تُشاهد في المطارات لكان كافياً، وأنت عندما تقف في الصف تنتظر دورك في المطار، وعندما تجلس في الاستراحة لو التفت يميناً أو شمالاً ماذا يحصل؟ وهذا الكلام -أيها الإخوة- ليس خاصاً ببلاد الكفار؛ فإن هناك بعضاً من مدن المسلمين فيها من الفجور ما لا يقل عن بلدان الكفار؛ ولذلك لا يجوز الذهاب إليها بالنفس والأهل؛ إذا كان الإنسان سيتعرض إلى نقص في دينه، هذا شيء عام لا يُستثنى فيه مكان دون آخر. وأما إذا كان المكان الذي ستذهب إليه لا يحصل لك فيه أذىً في دينك أو نفسك؛ فإنه لا بأس لك أن تذهب إلى ذلك المكان، وكن مستعيناً بالله حريصاً على أداء الطاعات. لو لم يكن في السفر إلى بلاد الكفار إلا مسألة عدم وجود جماعات ومساجد متيسرة يُصلي فيها الناس؛ لا يسمع فيها أذاناً ولا تكبيراً، ولا يذكر بالله عز وجل لكفى. ذهب إنسان إلى بلد من بلدان الكفار، فسأل عن القبلة أناساً من المسلمين الموجودين هناك، لم يجبه أحد إلى أن قال له قائل في النهاية: لا أدري؛ ولكني أرى بعض الناس يُصلون بهذا الاتجاه، أليس هذا حاصل في تلك البلاد؟!!

أطفالنا في الخارج

أطفالنا في الخارج عندما يُشاهد أطفالنا المناظر العارية في شوارعهم، وأنتم تدرون أحوال بلاد الكفار في فصل الصيف من العري المنتشر في الشوارع. يقول واحد: أنا أسحب طفلي في الشارع وهناك رجل وقف مع امرأة قد التزمها يقبلها أمام الناس، والولد ينظر إليهما، وأنا أجر الولد، وإن تعداهما فلا زال وجهه ملتفتاً إلى تلك المرأة والرجل، أليست هذه جريمة في حق أولادنا نجرهم إليها بأيدينا؟!! قد يكون عندنا شيء من الدين، ولكن ما مصير أطفالنا الذين يذهبون إلى الخارج؛ وتنطبع وتنحفر في أذهانهم تلك المناظر المحرمة، ما مصير بعض أطفال المسلمين الذين يدرسون في مدارس وجامعات بلاد الكفر وتجلس إلى جنبه بنتٌ، فماذا يكون مصيره؟!! وما هو الخير الذي يُرجى له وصور الحرام والمناظر المحرمة أمامه؟!!

الإيدز لا يعرف أحدا

الإيدز لا يعرف أحداً سقطت امرأة مرة في الطريق، فلما أخذوها وفحصوها وجدوا أن سبب السقوط أن بها مرض الإيدز، وهنا قالوا لها: كم مكثت في البلد؟ قالت: ثلاثة أيام، قالوا لها: من الأشخاص الذين أتوك، كم عددهم؟ قالت: أربعين شخصاً، ثم كانت المناسبة المشؤومة التي تقزز الناس والفضيحة أن يجرجر أولاد العوائل من بيوتهم لإجراء الفحوصات الطبية عليهم، وبعضكم يعلم أكثر مني بكثير عن كثير من هذه المصائب التي يؤدي إليها السفر إلى بلاد الكفر والإلحاد، والإباحية والجرائم التي تحدث هنالك، وبماذا يعود الإنسان إذا عاد إلى بلده، وأي حور يقع له بعد الكور الذي كان فيه؟!!! أي نقصان يحدث له بعد العودة، إذا كان الرسول صلى الله عليه السلام قد منع الذهاب بالمصاحف إلى بلاد الكفار حتى لا تتعرض للإهانة، فما بالكم بالسفر بالعوائل إلى بلاد الكفار، لكي تنغرس فيهم تلك الأفكار وتلك المناظر التي تُفسدهم وهم في بلادهم.

غض البصر عند المسافرين

غض البصر عند المسافرين هل المسافرون اليوم على متن الطائرة يغضون أبصارهم إذا قامت المضيفة أمامهم؟ والعجب كل العجب أن تسمع ذلك المنادي يقول: نرجو توجيه النظر إلى ملاحي الكبينة، وهي مضيفة، هو يقول: نرجو توجيه النظر، والله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] والطاعة لمن في هذه الحالة؟ وتجده ينظر بغير حاجة إلى المضيفة.

حال نسائنا المسافرات إلى الخارج

حال نسائنا المسافرات إلى الخارج ويحدث من التكشف من نسائنا في الطائرات المسافرة إلى الخارج ما تعلمون عنه كثيراً. أقلعت طائرة من مطار داخلي إلى الخارج؛ فإذا بالسواد الذي كان يجلل أجساد النساء المسلمات في الطائرة ينقلب إلى ألوان مختلفة، وزينات بأنواعها على الوجوه والأجساد، فترجع الطائرة كأنك لا تعرف أن هؤلاء الناس هم الذين أقلعوا قبل قليل من ذلك المطار، بعد فترة قال قائد الطائرة: لقد تعطلت الطائرة وسوف نضطر إلى الرجوع إلى مطار داخلي فرجعت الطائرة إلى المطار الداخلي فرجعت النساء إلى دورات المياه ليرتدين الزي مرة أخرى، أليست مهزلة؟!! هل هؤلاء يؤمنون أن رب هذا البلد هو رب تلك البلاد؟!! أسألكم بالله ما هو موقفنا نحن من نسائنا؟ وماذا يحدث لنا عند الله؟ ماذا سيكون مصيرنا ونحن ساكتون؟ وبعض النساء يضغطن على أزواجهن، يقلن: نحن نريد السفر، لماذا العائلة الفلانية سافرت؟ هل هم أحسن منا؟! حتى تخرجه إلى السفر، وقد لا يريد الخروج لكن تحت ضغط الزوجة؛ فتعس عبد الزوجة.

الخوف من الله في السفر

الخوف من الله في السفر المشركون في الماضي عندما كانوا يركبون البحر إذا اضطربت بهم الأمواج رجعوا إلى الله، حتى يأتون إلى البر فيشركون مرة أخرى. أقلعت طائرة من الطائرات فجلس إنسان نحسبه ممن يخاف الله يقرأ في المصحف، وبجانبه رجلان من كبار السن مع الأسف يذكرون مفاتن المضيفات اللاتي يمررن أمامهم، وفي الخلف شباب تائهون يصفقون ويزمرون ويغنون ويلهون، والطائرة بين السماء والأرض إذ خسف الله بها في لحظة واحدة، بعد فترة ارتجت الطائرة، قال قائد الطائرة: هناك خلل فني، وبدأت الطائرة تضطرب وتموج، سكت الناس الذين يطبلون ويزمرون كأن على رءوسهم الطير، الجميع في وجوم، الخطر محدق، كف أولئك عن النظر إلى المضيفات، وواحد منهم خطف المصحف من يد صاحبنا وجعل يقرأ فيه، وبعد فترة استقرت الطائرة، وقال القائد: لقد استطعنا إصلاح الخلل، بعد فترة وجيزة أرجع ذلك الرجل المصحف إلى صاحب المصحف، وجلس يتكلم عن مفاتن المضيفات، ورجع الشباب في الخلف يطبلون ويزمرون ويغنون، ولما تصل الطائرة إلى الأرض بعد. أي ضعف في الدين ذلك الذي يعشعش في تلك النفوس الخاوية من ذكر الله، أين أذكار السفر؟! أين التدبر فيها؟!! اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر لكي لا نعلم من بعد علم شيئاً. اللهم متعنا بأسماعنا وقواتنا وأبصارنا أبداً ما أبقيتنا، واجعلها عاملة في طاعتك يا رب العالمين.

§1/1