سلامة الصدر

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((فضل سلامة الصدر، وخطر الحقد, والحسد, والتباغض، والشحناء, والهجر, والقطيعة)) بيَّنت فيها: مفهوم الهجر، والشحناء، والقطيعة: لغة، وشرعاً، وذكرت الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب سلامة الصدر وطهارة القلب، والأدلة على تحريم الهجر،

والشحناء، والقطيعة، وذكرت الأسباب التي تسبب العداوة، والشحناء، والقطيعة؛ للتحذير منها، ومن الوقوع فيها، ثم ذكرت أسباب سلامة الصدر وطهارة القلب؛ للترغيب فيها، والعمل بها. والله أسأل أن يجعل هذا العمل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كلَّ من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليم العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف: أبو عبد الرحمن حرر بعد عصر يوم الخميس الموافق 2/ 5/1426هـ بمدينة الرياض

أولا: مفهوم الهجر، والشحناء، والقطيعة:

أولاً: مفهوم الهجر، والشحناء، والقطيعة: 1 - مفهوم الهجر لغة: القطع، يقال: هجرته هجراً: قطعته، والاسم الهجران (¬1). واصطلاحاً: هو هجر القريب وترك وصله ومنع الإحسان إليه (¬2). 2 - مفهوم القطيعة: الهجر، يقال: قطع فلان فلاناً، هجره، ولم يتصل به، ومنعه الخير، وقطعه عن حقه (¬3). واصطلاحاً: هو قطع القريب والانفصال عنه وعدم وصله، ومنع الإحسان إليه (¬4). 3 - مفهوم الشحناء: المشاحن: المعادي، ¬

(¬1) المصباح المنير، للفيومي (2/ 634). (¬2) لغة الفقهاء، لمحمد روّاس (ص 335 و463). (¬3) المصباح المنير، للفيومي (2/ 509)، ومعجم لغة الفقهاء (ص 334). (¬4) النهاية في غريب الحديث (4/ 82)، ومعجم لغة الفقهاء (ص 334).

ثانيا: خطر الهجر، والقطيعة، والشحناء والحسد والبغضاء:

والشحناء العداوة، والحقد (¬1). واصطلاحاً: امتلاء الصدر بالعداوة والبغضاء والحقد (¬2). ثانياً: خطر الهجر، والقطيعة، والشحناء والحسد والبغضاء: الحقد, والبغضاء، والحسد، والهجر، والشحناء، والقطيعة، آفاتٌ مهلكةٌ، ومدمرةٌ للمجتمع، ومفرقة بين الأخلاء والأصحاب، وأسباب لنيل غضب الله عز وجل، وعقوبته في الدنيا والآخرة؛ للأدلة من الكتاب والسنة الثابتة الصريحة على النحو الآتي: 1 - تحريم التدابر، والتحاسد، والتباغض؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 449)، ومعجم لغة الفقهاء (ص 334). (¬2) معجم لغة الفقهاء، لمحمد رواس، (ص 230).

ولا تدابروا (¬1)، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه)) (¬2). وهذا الحديث قد دل على أمور عظمية، منها، ما يأتي: الأمر الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسدوا)) يدل على تحريم الحسد، وهو في الحقيقة: بغض نعمة الله تعالى على المحسود, وتمني زوالها، وهو على أنواع: ¬

(¬1) لا تدابروا: لا تتهاجروا، فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل دبره، إذا أعرض عنه حين يراه، وقيل للإعراض: مدابرة؛ لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولَّى دبره. فتح الباري، لابن حجر (10/ 482). (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله، برقم 2564.

النوع الأول: بغض نعمة الله تعالى على المحسود، وتمني زوالها, فتكون له, وهذا فيه اعتراض على الله وقسمته، وما أحسن ما قاله القائل: ألا قل لمن بات لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب؟ أسأت على الله في حكمه ... بأنك لم ترض لي ما وهب النوع الثاني: بغض نعمة الله تعالى على المحسود وتمني زوالها, ولو لم تكن له, وهذا شر من النوع الأول، وما أحسن ما قاله القائل: اصبر على حسد الحسود ... فإن صبرك قاتله النار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله وهذان النوعان من أنواع الحسد المذموم. النوع الثالث: حسد الغبطة: وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة، وقد قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ

فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬1). ومثل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) (¬2). وقد قسم الإمام ابن القيم رحمه الله الحسد إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: تمني زوال النعمة عن المحسود، وتحقيق ذلك بالأذى بالقلب، واللسان، والجوارح، فهذا هو الحسد المذموم. المرتبة الثانية: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله تعالى لعبده نعمة، بل يحب ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية: 26. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب فضائل القرآن، برقم 5025، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 815.

أن يبقى على حاله: من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقصٍ وعيبٍ، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق. المرتبة الثالثة: حسد الغبطة، ففي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬1). فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كِبَرُ نفسه، وحبُّه لخصال الخير. والحسد المذموم من صفات اليهود، ومن عمل إبليس، ومن أمثلته: قصة ابني آدم وحسد أولاد يعقوب لأخيهم يوسف، وأما أضراره فكثيرة منها: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم 73، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن، برقم 816.

1 - الحسد مرض قديم من أمراض القلوب

أن فيه نوع اعتراض على الله في حكمه؛ ولهذا يذكر أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ومن أضراره ما يحصل لقلب الحسود ونفسه من الآلام والغل، والهم، والغم، والأعصاب وجرح الفؤاد، وغير ذلك من الأضرار. أما آثار الحسد في المجتمع فهو يسبب: الغيبة، والنميمة، والبغي، والعدوان، والظلم، والاتهام، والسرقة، والقتل، ويختلف الحاسدون كل على قدر قلة إيمانه وضعف دينه (¬1). والحسد مرضٌ, خطيرٌ, مهلكٌ، للقلوب, والأمم، والجماعات، والأسر، بل للدين والأخلاق، ومما يبيِّن هذه المهلكات الأسباب الآتية: 1 - الحسد مرض قديم من أمراض القلوب في ¬

(¬1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 257 - 263)، والأخلاق الإسلامية للميداني (1/ 789 - 819)، وذم الحسد وأهله، لابن القيم، وأمراض القلوب لشيخ الإسلام ابن تيمية.

2 - الحسد من رذائل الأخلاق القبيحة الفاسدة

الأمم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) (¬1). 2 - الحسد من رَذائل الأخلاق القبيحة الفاسدة. 3 - الحسد من أشد معاصي القلوب، ومعاصي القلوب أشدُّ إثماً من كثير من معاصي الجوارح. 4 - الحسد يدل على ضعف إيمان الحاسد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬2). 5 - الحسد يدل على أن صاحبه فاقد التعاون ¬

(¬1) الترمذي، برقم 2510، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، (3/ 607) , ويأتي تخريجه آخر الكتاب. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، بابٌ من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم 13، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم 45.

6 - الحسد يدل على أن صاحبه فاقد الرحمة

على البر والتقوى؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً)) وشبك - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه (¬1). 6 - الحسد يدل على أن صاحبه فاقد الرحمة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬2). 7 - الحسد معصية لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما دل عليه الحديث ((لا تحاسدوا ... )). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد، برقم 481، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 2585. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب, باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6011، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 2586.

8 - الحسد من صفات المنافقين

8 - الحسد من صفات أقبح المخلوقات الناطقة: أ) فهو من صفات إبليس، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬1) , فقد حسد إبليس آدم فعصى الله تعالى ولم يسجد حينما أمره الله سبحانه. ب) والحسد من صفات اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (¬2). وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3). جـ) والحسد من صفات المنافقين، قال الله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 34. (¬2) سورة البقرة، الآية: 109. (¬3) سورة النساء، الآية: 54.

9 - الحسد لا يقع إلا بين ضعفاء البصائر

الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1). 9 - الحسد لا يقع إلا بين ضعفاء البصائر: أ) فهو يقع بين النساء، فيحسد بعضهن بعضاً، وخاصة المتزوجات بزوج واحد, إلا من عصم الله تعالى. ب) ويقع بين المتشاركين في رئاسة أو مال. جـ) ويقع بين النظراء والزملاء، كحسد ابني آدم, فقد حسد القاتل المقتول فقتله. 10 - أسباب الحسد التي إذا وجدت أو بعضها حصل الحسد من الحاسد للمحسود وهي: أ) العداوة والبغضاء؛ فإن من آذاه إنسان لسبب ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 119، 120.

ب) خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى

من الأسباب أبغضه قلبه، وغضب عليه, ورسخ في قلبه الحقد عليه، والحقد يقتضي التشفِّي والانتقام، فإن عجز عن التشفي منه بنفسه أحب أن ينزل به مصيبة يتشفَّى بها؛ فإن حصلت له المصيبة فرح بها وشمت عليه، وظنها لأجله، وإذا أصابته نعمة أساءه ذلك؛ لأنها ضد مراده ومرغوبه. ب) خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى, فنجد بعض الناس العاطلين إذا ذُكِرَ إنسان عنده بخير أساءه ذلك، وإذا ذُكِر بسوء فرح به، فهو أبداً يكره الخير للناس، ويحب لهم الشر والأذى، كأنهم يأخذون الخير من بيته وخزائنه، وهو من فضل الله وجوده. يقول بعضه العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره على

11 - آثار الحسد:

الناس. وقيل: البخيل الذي يمسك مال نفسه ولا ينفقه في الواجب، والشحيح هو الذي لا ينفقه في الواجب مع الحرص عليه. والحسود بخيل شحيح: بخيل بنعمة الله على عباده، ويعادي فضل الله على خلقه، وهذا ليس له سبب إلا الخبث في النفس، والرذالة في الطبع, ومعالجة هذا شديدة عسرة؛ لأن الحسد بسائر الأسباب أسبابه عارضة يمكن زوالها فيزول, وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض؛ فلذا تعسر إزالته، نسأل الله العفو والعافية! 11 - آثار الحسد التي تحصل بسبب وجود الحسد: أ) المقاطعة، والهجر, والبغضاء, والشحناء. ب) الغيبة, والنميمة. جـ) الظلم، والعدوان.

د) السرقة, والقتل

د) السرقة, والقتل. 12 - علاج الحسد: على النحو الآتي: أ) يجب على الحاسد أن يتوب إلى الله تعالى؛ ويعلم أن الله الذي يعطي ويمنع، ويعز ويذل، وكل ذلك بحكمة بالغة، فلا يُعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة يعلمها سبحانه. ب) يقطع نظره عن الناس, ويعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى، ويسأله من فضله. جـ) إذا رأى من ينافسه في الدنيا فلينافسه في الأعمال الصالحة التي ترتفع بها منزلته عند الله يوم القيامة. د) التربية منذ الطفولة على حب الخير للناس. هـ) أن يدرب نفسه على قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إذا أعجبه شيء. و) إذا وجد في نفسه شيئاً من الحسد المذموم

13 - الحاسد قد يصيب بعينه

بادر بالدعاء للمحسود بالزيادة من فضل الله تعالى؛ لأن الإنسان قد يكون عنده حسد ويخفيه، ولا يترتب على حسده أذىً بأي وجه من الوجوه: لا بفعله، ولا بلسانه، ولا بيده، ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله ورسوله, وهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصم الله؛ ولهذا قيل: ما خلا جسدٌ من حسدٍ، لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه؛ ولهذا الحسد مرض من أمراض القلوب لا يخلص منه إلا القليل. ولكن على المؤمن أن يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويدعو للمحسود بصدقٍ وإخلاصٍ، ويتمنى زيادة الخير له، ولا يُرتِّب على ذلك أذىً للمحسود: لا بالقول، ولا بالفعل، ولا بأي أذىً بوجه من الوجوه, ولا يضره ذلك الذي وقع في نفسه! 13 - الحاسد قد يصيب بعينه؛ فيجب على

14 - الأسباب التي يدفع بها شر الحاسد

الحاسد أن لا يضر إخوانه، ولا شك: أن العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، فكل عائنٍ حاسد ولابد، وليس كل حاسد عائن، فإذا استعاذ المسلم من شر الحاسد دخل فيه العائن، وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته. 14 - الأسباب التي يُدفع بها شر الحاسد عشرة كما ذكرها ابن القيم رحمه الله وهي: * التعوذ بالله من شره. * تقوى الله تعالى، والصبر على الحاسد. * لا يحدث نفسه بأذاه. * التوكل على الله تعالى. * يفرغ قلبه من التفكر فيه والاشتغال به. * الإقبال على الله والإخلاص له. * تجريد التوبة من الذنوب.

الأمر الثاني:

* الصدقة والإحسان. * إطفاء نار الحاسد بالإحسان إليه والدعاء له، وهذا من أصعب الأشياء على النفوس. * السبب الأعظم تجريد التوحيد لله تعالى. الأمر الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تناجشوا)) يدلُّ على تحريم النجش: وهو الزيادة في السلعة وهو لا يريد شراءها، إما لنفع البائع بزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، والناجش آكل رباً خائن. الأمر الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تباغضوا)) يدلُّ على تحريم التباغض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى، بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والأخوة يتحابون بينهم، ولا يتباغضون، أما البغض في الله فهو من أوثق عرى الإيمان وليس داخلاً في النهي.

الأمر الرابع:

الأمر الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تدابروا)) يدلُّ على تحريم التدابر: وهو المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دبره، ويعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع. الأمر الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) يدلُّ على تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا يدل على أن هذا حق للمسلم على أخيه المسلم، فلا يبيع على بيعه، ولا يشتري على شرائه. الأمر السادس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخوة في الله تعالى، وهذا كالتعليل؛ لما تقدم، فإذا تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، وبيع بعضهم على بيع بعض كانوا إخواناً. الأمر السابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم)) بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن المسلم أخو المسلم، وهو مأخوذ

الأمر الثامن:

من قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬1). فإذا كان المؤمنون إخوة أُمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب, واجتماعها، ونهوا عما يوجب تنافر القلوب، واختلافها، وهذا من ذلك. الأمر الثامن: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه)) دلَّ على تحريم الظلم؛ فإنه ظلمات يوم القيامة، وقد حرمه الله تعالى على نفسه وجعله محرماً بين عباده، فقال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) (¬3). ¬

(¬1) سورة الحجرات, الآية: 10. (¬2) رواه مسلم, كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم, برقم 2577. (¬3) البخاري, كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة, برقم 2447، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، برقم 2579.

الأمر التاسع:

الأمر التاسع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يخذله)) يدلُّ على تحريم خذلان المسلم لأخيه المسلم، فهو مأمور بنصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، ونصره إذا كان ظالماً: منعه من الظلم (¬1). الأمر العاشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يحقره)) يدلُّ على تحريم احتقار المسلم لأخيه المسلم، والاحتقار ناشئ عن الكبر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (¬2). والمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحدهم الحق إذا أورده عليه. ¬

(¬1) البخاري، كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، برقم 2443، 6952، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، برقم 2584. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، وبيانه، برقم 91.

الأمر الحادي عشر:

الأمر الحادي عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((التقوى ها هنا)) وأشار إلى صدره. الحديث فيه البيان بأن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، فرب من يحقره الناس؛ لضعفه، وقلة حظه من الدنيا وهو أعظم قدراً عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا؛ فإن الناس إنما يتفاوتون بحسب التقوى. والتقوى: أصلها في القلب، وإذا كانت التقوى كذلك فلا يطلع على حقيقتها إلا الله تعالى، ولكن التقوى يصدقها العمل. الأمر الثاني عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))، الحديث يدل على أن احتقار المسلم من الأمور الخطيرة، وأنه يكفي من الشر؛ لخطره؛ ولأنه لم يحتقر أخاه إلا لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه

الأمر الثالث عشر:

مثقال ذرة من كبر)) (¬1). الأمر الثالث عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)) في هذا الحديث البيان العظيم: أن المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه، وهذا مما كان يخطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجامع العظيمة؛ فإنه خطب به في حجة الوداع يوم عرفة، ويوم النحر، واليوم الثاني من أيام التشريق، وقال: ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم [وأبشاركم] (¬2) عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) (¬3). ¬

(¬1) مسلم، برقم , 91 وتقدم تخريجه. (¬2) من لفظ البخاري، برقم 7078. (¬3) البخاري, كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم 1739، 1741، ومسلم، كتاب القسامة، والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء، والأموال، والأعراض، برقم 1679.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا. [ولا تقاطعوا] وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)) [وفي رواية: ثلاث ليال] (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((التدابر: المعاداة، وقيل المقاطعة؛ لأن كل واحد يولّي صاحبه دبره، والحسد تمنِّي زوال النعمة، وهو حرام، ومعنى كونوا عباد الله إخواناً: أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق، والشفقة، والملاطفة، والتعاون في الخير، ونحو ذلك من صفاء ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عنه من التحاسد والتدابر، برقم 6064، 6067، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض، وما بين المعكوفين رواية لمسلم، برقم 2559 ورقم 24 (2559).

2 - تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام

القلوب والنصيحة بكل حال ... )) (¬1). وقال الإمام مالك رحمه الله: ((ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن المسلم يعرض عنه بوجهه)) (¬2). 2 - تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام بلا عذر شرعي؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) (¬3). قال العلماء في هذا الحديث: ((تحريم الهجر بين ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 351). (¬2) موطأ الإمام مالك (2/ 907). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث+ برقم 6077، ومسلم، كتاب البر والصلة، برقم 2560.

المسلمين أكثر من ثلاث ليال، وإباحته في الثلاث الأول بنص الحديث، والثاني مفهومه، وإنما عفي عن الهجر في الثلاث؛ لأن الإنسان مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك, فَعُفِيَ عن الهجر في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض، وقوله: ((يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا)) وفي رواية: ((فيصدُّ هذا ويصدُّ هذا)) ومعنى يصد: يعرض: أي يوليه عُرضَه - بضم العين - وهو جانبه، والصُدّ - بضم الصاد - وهو أيضاً: الجانب والناحية)). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)): أي هو أفضلهما، وفيه دليل لمذهب الشافعي ومالك ومن وافقهما: أن السلام يقطع الهجر، ويرفع الإثم فيه، ويزيله، وقال أحمد وغيره: إن كان يؤذيه لم يقطع هجرته، ولو كاتبه، أو راسله عند غيبته عنه هل يزول إثم الهجرة

3 - إذا سلم أحدهما على الآخر فرد عليه فقد اشتركا في الأجر

وفيه وجهان: أحدهما لا يزول؛ لأنه لم يكلمه، وأصحهما يزول؛ لزوال الوحشة (¬1). 3 - إذا سلم أحدهما على الآخر فرد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم, وخرج المسلِّمُ من الهجر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُّ لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاثٍ، فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلِّم عليه، فإن ردَّ عليه السلام اشتركا في الأجر، وإن لم يردَّ عليه فقد باء بالإثم وخرج المُسلِّمُ من الهجرة)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثٍ، فإذا لقيه سلَّم عليه ثلاث مرار, كل ذلك لا يردُّ عليه فقد ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 353)، وفتح الباري لابن حجر (10/ 492). (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم 4912، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 50): ((حسن لغيره ((.

4 - من هجر فوق ثلاث فمات دخل النار

باء بإثمه)) (¬1). 4 - من هجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام فمات قبل أن يعود دخل النار؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) (¬2). 5 - من هجر أخاه المسلم سنة فهو كسفك دمه؛ لحديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم 4913، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (7/ 94)، وفي صحيح سنن أبي داود (3/ 204)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 50): ((حسن صحيح)). (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم 4914، وصححه الألباني في إرواء الغليل (7/ 94)، في صحيح سنن أبي داود (3/ 204)، وفي صحيح الترغيب (3/ 50). (¬3) أبو داود, كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم 4915، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 205)، وفي صحيح الأدب المفرد (ص 195).

6 - الملائكة ترد السلام إذا لم يرد أحد المتهاجرين على الآخر

والسفك: إراقة الدم، لما جاوز الحد بإصراره عليه سنة كاملة، فكأنه قتله بسيف الفرقة (¬1). 6 - الملائكة تردُّ السلام إذا لم يرد أحد المتهاجرين على الآخر؛ لحديث هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحلُّ لمسلم أن يهجرَ مُسلماً فوق ثلاث ليالٍ، فإن تصارما (¬2) فوق ثلاث؛ فإنهما ناكبان عن الحق (¬3) ماداما على صُرامهما، وأولهما فَيْئاً يكون سبقه بالفئ (¬4) كفارة له، فإن سلَّم عليه فلم يَرُدَّ عليه (¬5) ¬

(¬1) فضل الله الصمد، في توضيح الأدب المفرد (1/ 498). (¬2) تصارما: من الصرم: أي تقاطعا, حاشية المسند (26/ 189). (¬3) ناكبان عن الحق: عادلان, حاشية المسند (26/ 189). (¬4) أولهما فيئاً: أي رجوعاً إلى الملاقاة، والتكلم، وترك الهجر، حاشية المسند (26/ 189). (¬5) فلم يردَّ عليه: لم يجب عن سلامه حينما سلم، حاشية المسند (26/ 189).

7 - تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين

وردَّ عليه سلامه (¬1) ردَّت عليه الملائكة, وردَّ على الآخر الشيطان (¬2) فإن ماتا على صُرامهما لم يجتمعا في الجنة أبداً)) (¬3). 7 - تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله تعالى في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً, إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر ¬

(¬1) ورد عليه سلامه: بعدم القبول ولم يجب برد السلام، حاشية المسند (26/ 189). (¬2) ورد على الآخر الشيطان؛ لرضاه بفعله، حاشية المسند (26/ 189). (¬3) أحمد في المسند (26/ 188)، برقم 16257، ورقم 16258، وأبو يعلى برقم 1557، وابن حبان برقم 5664، والطبراني في الكبير (22/ 454)، والبخاري في الأدب المفرد برقم 402، 407، وصححه محققو المسند (26/ 188، 190، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 50)، وفي صحيح الأدب المفرد (ص 158)، وفي إرواء الغليل (7/ 95).

8 - الهجر المشروع للمصلحة

لكل مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)). وفي رواية: ((تُعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أركوا هذين (¬1) حتى يصطلحا، أركوا هذين حتى يصطلحا)) (¬2). 8 - الهجر المشروع للمصلحة لا يدخل في الهجر المحرم، فالإمام والعالم، والمطاع يجوز له أن يهجر من فعل ما يوجب العتب، ويكون هجرانه ¬

(¬1) أركوا هذين: أي أخروا، يقال: ركاه يركوه، ركواً، إذا أخره. شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 358). (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، برقم 2565.

دواء له، بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية، فيهلكه, إذ المراد تأديبه لا إتلافه (¬1). وقد قال أبو داود: ((النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر بعض نسائه أربعين يوماً، وابن عمر هجر ابناً له إلى أن مات (¬2)، قال أبو داود: إذا كانت الهجرة لله، فليس من هذا في شيء، وإن عمر بن عبد العزيز غطى وجهه عن رجل)) (¬3). ويوضح ذلك ما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من أن الهجر يختلف باختلاف الهاجرين ¬

(¬1) زاد المعاد، لابن القيم (3/ 575). (¬2) سنن أبي داود برقم 4916، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 205). (¬3) سنن أبي داود برقم 4916، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 205).

في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كان هجره يضعف الشر؛ كان مشروعاً، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، ولا يرتدع به غيره، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف، وتكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته, لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، كما كان الهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً ويهجر آخرين (¬1)، وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق النفس، فالهجر لحق الله تعالى مأمور به، والهجر لحق النفس منهي عنه (¬2). ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 204 - 207). (¬2) المرجع السابق (28/ 208)، وفتح الباري لابن حجر (8/ 124).

ثالثا: أسباب العداوة والشحناء

ثالثاً: أسباب العداوة والشحناء كثيرة يجب الابتعاد عنها، ومنها ما يأتي: 1 - تحريش الشيطان بين الناس؛ ليسبب العداوة بينهم؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) (¬1). والمعنى أنه يُغيِّر القلوب فيدخل فيها البغضاء والتقاطع، ويسعى في التحريش بين الناس بالخصومات والشحناء، والحروب، والفتن (¬2). 2 - بعث الشيطان سراياه بين الناس؛ لإفسادهم؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن عرش إبليس على البحر، ¬

(¬1) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً، برقم 2812. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 162).

فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)) وفي لفظ: ((فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه، ويقول: نِعْمَ أنت)) قال الأعمش: أراه قال: ((فيلتزمه)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((العرش هو سرير الملك، ومعناه: أن مركزه البحر، ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض. وقوله: ((فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت)) بكسر النون وإسكان العين، وهي نعم الموضوعة للمدح، فيمدحه؛ لإعجابه بصنعه، وبلوغه الغاية التي أرادها، وقوله: ¬

(¬1) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً، برقم 2812.

3 - قرين الإنسان من أسباب البلاء والفتنة والشر

((فيلتزمه)) أي يضمه إليه ويعانقه)) (¬1). 3 - قرين الإنسان من أسباب البلاء والفتنة والشر؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن)) قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم, فلا يأمرني إلا بخير)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه, فجاء فرأى ما أصنع, فقال: ((مالكِ يا عائشة أغرت؟)) فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد جاءك شيطانك)) قلت: يا رسول الله: ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 162). (¬2) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس, وأن مع كل إنسان قريناً، برقم 2813.

4 - النميمة من أسباب زرع البغضاء والحقد في قلوب الناس

أومعي شيطان؟! قال: ((نعم)) قلت: ومع كل إنسان؟ قال: ((نعم)) ومعك يا رسول الله؟ قال: ((نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)) (¬1). والظاهر أن شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - صار مؤمناً لا يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بخير، وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين، ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه معنا؛ لنحترز منه بحسب الإمكان (¬2). 4 - النميمة من أسباب زرع البغضاء والحقد في قلوب الناس؛ ولعظم خطرها حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يدخل الجنة نمَّام)). وفي لفظ: ((لا يدخل الجنة قتَّات)) (¬3). النمام هو القتات، ¬

(¬1) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً، برقم 2815. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 164). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، برقم 6056، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم النميمة، برقم 105.

والقتات هو النمام؛ ولكن النمام هو الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يستمع من حيث يعلم به فينقل ما سمعه (¬1). والنميمة هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد؛ ولهذا فالنمام هو شر الناس؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن شر الناس ذو الوجهين, الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)). وفي لفظ: ((تجدُ من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) (¬2). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر (10/ 473). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما قيل في ذي الوجهين، برقم 3494، 6058، 7179، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ذم ذي الوجهين، برقم 2526.

محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أنبئكم ما العَضْهُ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس)) (¬1). والعضه: الفاحش الغليظ التحريم، وهو البهت (¬2) , قال يحيى بن أبي كثير: ((يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة)) (¬3). فمن السحر: السعي بالنميمة، والإفساد بين الناس (¬4). وغير ذلك من أسباب الشر والفساد والإفساد بين الناس، فعلى المسلم أن يبتعد عن الأسباب التي تزرع العداوة والبغضاء، والله المستعان. ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم النميمة، برقم 2606. (¬2) شرح النووي (16/ 396)، وفتح المجيد (ص 329). (¬3) فتح المجيد, وذكر أنه ذكره ابن عبد البر، ونقله ابن مفلح في الفروع، فتح المجيد (ص 330). (¬4) فتح المجيد (ص 330).

رابعا: أسباب سلامة الصدر التي تذيب الأحقاد، وتجلب المودة بين الناس

رابعاً: أسباب سلامة الصدر التي تذيب الأحقاد، وتجلب المودة بين الناس كثيرة، منها ما يأتي: 1 - الابتعاد عن الوقوع في الذنوب والمعاصي؛ لأنها أسباب كل شر، فعن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((ما توادّ اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)) (¬1). فيجب على العبد التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب، والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعُّم بعبادته عز وجل. 2 - دفع السيئة بالحسنة، من أسباب سلامة ¬

(¬1) البخاري في الأدب المفرد، برقم 401، بلفظ: (( ... فيفرق بينهما أول ذنب يحدثه أحدهما)) ولكن الألباني رحمه الله بين أنه في الأصول التي رجع إليها: ((إلا بذنب يحدثه أحدهما)) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص 158)، وفي الأحاديث الصحيحة برقم 637.

القلوب، وقد جعل الله تعالى للمسلم مخرجاً من أعدائه: شياطين الإنس، والجن، فالعدو الذي يُرى بالعين وهو شيطان الإنس، فالمخرج منه: بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬1). أما العدو الثاني فهو شيطان الجن، والمخرج منه الاستعاذة بالله منه، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). وما أحسن ما قاله القائل: فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً ... أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب فهذا دواء الداء من شر ما يُرى ... وذاك دواء الداء من شر محجوب (¬3) ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 34. (¬2) سورة فصلت، الآية: 36. (¬3) زاد المعاد، لابن القيم (2/ 462).

3 - نور الإيمان الصادق

3 - نور الإيمان الصادق الذي يقذفه الله تعالى في قلب العبد مع العمل الصالح من أعظم أسباب سلامة الصدر. 4 - العلم النافع مع العمل الصالح فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع. 5 - دوام ذكر الله تعالى على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في سلامة الصدر وانشراحه، ونعيم القلب، وزوال الهم والغم. 6 - ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم؛ فإن ترك ذلك من أسباب شرح الصدر وسلامته، ونعيم القلب وزوال همه وغمه. 7 - النظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك، في العافية وتوابعها، والرزق وتوابعه، يسبب سلامة الصدر وانشراحه.

8 - اعتماد القلب على الله

8 - اعتماد القلب على الله، والتوكل عليه، وحسن الظن به سبحانه وتعالى؛ فإن ذلك من أعظم أسباب سلامة الصدر. 9 - إفشاء السلام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬1). 10 - الهدية تجلب المحبة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تهادوا تحابوا)) (¬2). 11 - الصدقة والإحسان ما أمكن؛ فإن لذلك تأثيراً عجيباً في سلامة الصدور؛ ولهذا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم 54. (¬2) البخاري في الأدب المفرد، برقم 594، وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام برقم 896، والألباني في صحيح الأدب المفرد برقم 462/ 594، وفي إرواء الغليل برقم 1601.

12 - الهدى والتوحيد

أن أفضل الصدقة: ((على ذي الرحم الكاشح)) (¬1). والمعنى أن أفضل الصدقة على ذي الرحم الذي يضمر عداوته ويطوي عليها باطنه، وهو ذو الرحم القاطع الذي يضمر عداوته في كشحه: وهو باطنه، وخصره (¬2). والإحسان إلى الخلق بأنواع الإحسان؛ فإن الكريم المحسن: أسلم الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً. 12 - الهُدى والتوحيد الخالص من أعظم أسباب سلامة الصدر، كما أن الضلال والشرك من أعظم أسباب الحقد والغل، والبغضاء, والحسد. ¬

(¬1) أحمد برقم 5320، (24/ 36)، والحاكم (1/ 406)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (3/ 404)، برقم 892, وتقدم تخريجه. (¬2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/ 176).

13 - لا يطلب العبد الشكر على المعروف الذي بذله

13 - لا يطلب العبد الشكر على المعروف الذي بذله، وأحسن به إلا من الله، ويعلم أن هذا معاملة منه مع الله، فلا يبالي بشكر من أنعم عليه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (¬1). ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد. 14 - ترك العتاب على ما حصل من الأقرباء وغيرهم في الماضي، ونسيان كل خطأ وقع فيه بعضهم، فلا يعاتب على ما مضى؛ لحظ النفس، إلا إذا كان في هذا العتاب مصلحة راجحة, كما عاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك وصاحبيه، والله تعالى أعلم (¬2). 15 - يعلم أن أذية الناس لا تضره خصوصاً في الأقوال الخبيثة، بل تضرهم، فلا يضع لها بالاً، ولا فكراً؛ حتى يكون صدره سليماً بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآية: 9. (¬2) فقه الدعوة في صحيح البخاري، للمؤلف (1/ 139). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 134. (¬4) البخاري, كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3231، ومسلم، كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين، برقم 1795. (¬5) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، بابٌ: حدثنا أبو اليمان، برقم 3477، 6929، ومسلم، كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين، برقم 1792.

16 - الرغبة في الأجر والثواب الذي يحصل بسبب العفو والصفح

16 - الرغبة في الأجر والثواب الذي يحصل بسبب العفو والصفح، لقول الله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وقد عفى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأهل العلم والإيمان عمن أخطأ كثيراً، فتنقلب العداوة محبة، ومن أمثلة ذلك ما يأتي: المثال الأول: عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة عظيمة، منها عفوه عن قومه حينما بعث الله إليه ملك الجبال (¬4)، وحينما ضربوه في أُحد في المعركة وكسروا رباعيته، ومع ذلك طلب لهم المغفرة: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬5). وعفوه عن

ثمامة بن أثال (¬1)، وعن الأعرابي الذي أراد قتله تحت الشجرة (¬2)، وعفوه عن اليهودي زيد بن سعنة (¬3)، وعفوه عليه الصلاة والسلام عن الرجل الأعرابي الذي بال في المسجد (¬4)، وعن معاوية بن الحكم (¬5)، وعن قبيلة دوس من زهران (¬6)، وله - صلى الله عليه وسلم - مواقف كثيرة في العفو, والرفق، والحلم، ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، برقم 4372، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه، برقم 1764. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر، برقم 2910، 4135، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 843. (¬3) الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (1/ 566). (¬4) مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره، برقم 285. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، برقم 537. (¬6) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين، برقم 2937، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم، وحهينة، وأشجع، ومزينة، وتميم, ودوس، برقم 2524.

المثال الثاني:

لا تحصر (¬1). المثال الثاني: حديث عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده, قال: فقلت: يا رسول الله! ما نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة: احْرُسْ لسانك)). وفي لفظ: ((امْلِك لسانك، ولْيَسَعْكَ بيتك، وابك على خطيئتك)) الحديث وفيه: ثم لقيته، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة: صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك))، وفي لفظ: ((واعفُ عمن ظلمك)) (¬2). المثال الثالث: عفو يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فقد عفى عن إخوته وقد ¬

(¬1) انظر: مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، للمؤلف. (¬2) أحمد في المسند (28/ 571، 654) برقم 17334، ورقم 17452، وحسن إسناده محققو المسند، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 673).

المثال الرابع:

ظلموه ظلماً عظيماً، قال تعالى في ذلك أنهم قالوا: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬1). المثال الرابع: عفو وصفح أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). عندما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم رجَّع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها أبداً، في مقابلة ما كان قال: ((والله لا ¬

(¬1) سورة يوسف, الآيات: 90 - 92. (¬2) سورة النور, الآية: 22.

المثال الخامس:

أنفعه بنافعة أبداً))، وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حينما حلف أن لا ينفع ابن خالته مسطح بنافعة بعدما حصل منه ما حصل بسبب الخوض في قصة الإفك، وقد تاب مسطح رضي الله عنه وأقيم عليه حد القذف، فعفى الصديق عما حصل من قريبه، ووصله بالنفقة، وهذا يدل على الرغبة فيما عند الله تعالى؛ ولهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته (¬1). المثال الخامس: الصفح أبلغ من العفو، وقد أمر الله بالعفو والصفح، والعفو هو التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه (¬2)، أما الصفح فهو أبلغ من العفو؛ لأن الصفح هو ترك التثريب، والإعراض عن الذنب، وتجاوز الصفحة التي كتب ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ص 932). (¬2) النهاية في غريب الحديث (3/ 265).

17 - الرغبة فيما عند الله تعالى

فيها الذنب، ولهذا قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬1). وقد يعفو الإنسان ولا يصفح: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} (¬2). {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (¬3). ويُقال: صفحت عنه: أي أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه (¬4). 17 - الرغبة فيما عند الله تعالى، لمن كظم غيظاً، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬5). وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ¬

(¬1) سورة البقرة, الآية: 109. (¬2) سورة الزخرف, الآية: 89. (¬3) سورة الحجر, الآية: 85. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني (ص 486). (¬5) سورة آل عمران، الآية: 134.

دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء)) (¬1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)). هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ الترمذي: ((المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب من كظم غيظاً، برقم 4777، والترمذي كتاب صفة القيامة، باب حدثنا عبد بن حميد، برقم 3495، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحلم، برقم 4186، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 174) وفي غيره. (¬2) الترمذي، كتاب القيامة، 55 باب، برقم 2507، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4032، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/ 606)، ولفظه عند البخاري في الأدب المفرد برقم 388: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).

18 - الدعاء بإذهاب سخيمة القلب

18 - الدعاء بإذهاب سخيمة القلب، فقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ربِّ أعني ولا تعن عليَّ ... )) الحديث وفيه ((وسدد لساني واسلل سخيمة قلبي)) (¬1). والسخيمة الحقد في النفس والقلب، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يخرج هذا الداء من قلبه فلا يبقى فيه شيء من هذا الدال العضال (¬2). 19 - صوم رمضان مع صوم ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن حقد، وغش، ووسوسة الصدر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب ما يقول الرجل إذا أسلم، برقم 1510، والترمذي، كتاب الدعوات، باب رب أعني ولا تعن عليَّ، برقم 3551، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3830، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 414). (¬2) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 351، 392).

20 - طهارة القلب وسلامته من الغل والحسد من أسباب السلامة

شهر، يذهبن وَحَرَ الصدر)) (¬1). ووحر الصدر: هو غشه، ووساوسه, وقيل: الحقد والغيظ, وقيل: العداوة, وقيل: أشد الغضب (¬2). فمن حافظ على صيام ثلاثة أيام من كل شهر مع صيام رمضان، ذهب عنه بإذن الله تعالى: حسد قلبه، وغشه، وحقده، ووساوسه، وغضبه وغيظه. 20 - طهارة القلب وسلامته من الغل والحسد من أسباب السلامة، وهذا أساس في سلامة الصدر، فيجب إخراج دغل (¬3) القلب من الصفات المذمومة ¬

(¬1) أحمد في المسند (38/ 168)، برقم 23070، ورقم 23077، و (34/ 340) برقم 20737، من حديث الأعرابي الصحابي، قال محققو المسند: إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين، غير صحابيه، وأخرجه البزار برقم 1057 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 599). (¬2) النهاية في غريب الحديث (5/ 160). (¬3) دغل القلب: عَيبٌ فيه يفسده، النهاية في غريب الحديث (2/ 123).

المثال الأول: ما أخبر الله به عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -

التي توجب ضيقه وعذابه: كالحسد، والبغضاء، والغل، والعداوة، والشحناء، والبغي؛ ولهذا أمثلة كثيرة منها، ما يأتي: المثال الأول: ما أخبر الله به عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيانه سبحانه سلامة صدورهم من الغل، والحسد، قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الحشر، الآيات: 8 - 10.

المثال الثاني: ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل ومكانة صاحب القلب السالم من الحقد والبغضاء والحسد

وقوله تعالى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي لا يجد الأنصار في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة، والشرف، والتقديم في الذكر، والرتبة (¬1). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. قال ابن كثير رحمه الله: ((هؤلاء القسم الثالث ... وهم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم التابعون {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي بغضاً وحسداً)) (¬2). المثال الثاني: ما بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل ومكانة صاحب القلب السالم من الحقد والبغضاء والحسد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل: ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ص 1327). (¬2) تفسير القرآن العظيم، (ص 1329).

المثال الثالث: ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الرجل الذي شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام

يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: ((كلُّ مخموم القلب صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيُّ، النقيُّ، لا إثم فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حَسَدَ)) (¬1). المثال الثالث: ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الرجل الذي شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام, فتابعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ ليقتدي به، فبقي معه ثلاثة أيام فلم يرَ عملاً زائداً على عمله، ولم يقم من الليل شيئاً, إلا أنه إذا استيقظ من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبره حتى يقوم لصلاة الفجر، ولم يسمعه يقول إلا خيراً، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى (4/ 149) برقم 4216، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 411).

فلما مضت الثلاث ليال كاد أن يحتقر عبد الله عمل الرجل، فسأله وقال: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ((ما هو إلا ما رأيتَ غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه))، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (¬1). وهذا كله يؤكد على كل مسلم أن يسأل الله عز وجل أن يطهر قلبه من الحقد، والحسد، والبغضاء للمسلمين، وأن يطهر لسانه من قول الزور، ومن كل ما يغضب الله عز وجل، والله المستعان. ¬

(¬1) أحمد في المسند (3/ 166) والنسخة المحققة، (20/ 124)، برقم 2697، وقال عنه محققو المسند: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين))، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (ص 1328): ((وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين)) والحديث أيضاً في مصنف عبد الرزاق، برقم 20559، وشرح السنة للبغوي، برقم 3535، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 863، وغيرهم ..

21 - إصلاح ذات البين

21 - إصلاح ذات البين من أعظم الأسباب للسلامة من الضغائن، والأحقاد، والقطيعة والشحناء؛ لما في ذلك من الفضل العظيم؛ ولهذا الفضل قال الله عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وقال عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬2). وقال عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3). وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ سُلامَى (¬5) من الناس عليه صدقة كلَّ يوم تطلع فيه ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 114. (¬2) سورة الأنفال, الآية: 1. (¬3) سورة النساء, الآية: 128. (¬4) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬5) السُّلامي: جمع سُلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات, وهي التي بين كل مفصلين من = = أصابع الإنسان، وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام: والمعنى على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. [النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع اللام (2/ 396)]، ويوضح هذا حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إنه خلق كل إنسان من بنى آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله عز وجل، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)) [مسلم برقم 1007].

الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة (¬1)، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكلُّ خطوَةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط (¬2) الأذى عن الطريق صدقة)) (¬3). ¬

(¬1) تعدل بين اثنين: أي تصلح بينهما بالعدل. شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 99). (¬2) تميط الأذى عن الطريق: أي تنحيه وتبعده عنها. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي (ص 217). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه (4/ 19) برقم 2989، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 699) برقم 1009.

وعن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيراً، وينمي (¬1) خيراً (¬2)). قالت: ((ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)) (¬3). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاح ¬

(¬1) ينمي: يقال: نَميْتُ الخبر أو الحديث إذا بلغته على جهة الإصلاح، ونمَّيت بالتشديد، إذا كان على جهة النميمة وإفساد ذات البين. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي (ص 571). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس (3/ 221)، برقم 2692، ومسلم واللفظ له، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه (4/ 2011)، برقم 2605. (¬3) رواية لمسلم في الحديث السابق رقم 2605.

ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)) (¬1)، وهذا يؤكد أهمية إصلاح ذات البين. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يُثبِّتُ ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب إصلاح ذات البين (4/ 280) برقم 4919، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا أبو يحيى (4/ 663) برقم 2509، وقال: ((هذا حديث صحيح))، وأحمد في المسند (6/ 444)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 929)، والحالقة: أي الماحقة للأجر والحسنات، وجاء في الترمذي، ويروى: ((لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) (4/ 664) برقم 2509، 2510. (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، 56 - باب، برقم 2510، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 607)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (3/ 99).

22 - إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم

22 - إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم: هذه الخصال تنفي الغل، وغش القلب، وسخائمه، وفساده، وحقده؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نضَّر الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها، وحفظها، وبلَّغها، فرُبَّ حامل فِقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغلُّ (¬1) عليهن قلب مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم)) (¬2). ¬

(¬1) يَغِلُّ: من الغل: وهو الحقد, والشحناء: أي لا يدخله حقدٌ يزيله عن الحق. والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تصلح بها القلوب, فمن تمسَّك بها طَهُرَ قلبُه، من: الخيانة، والدَّغَل، والشرِّ. [النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (3/ 381)]. (¬2) الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 61) وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 404.

وقد شرح الإمام ابن القيم رحمه الله هذا الحديث, شرحاً مفيداً, نافعاً، هذا نصُّه: قال رحمه الله: ((النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمع كلامه ووعاه, وبلغه بالنضرة - وهي: البهجة, ونضارة الوجه, وتحسينه - ففي الترمذي (¬1) وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي, فوعاها، وحفظها, وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). ورَوَى هذا الأصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود, ¬

(¬1) برقم 2658. ورواه أحمد (1/ 437)، والحميدي (88)، وابن ماجه (222)، وابن حبان (74)، والبغوي (1/ 236)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص (260)، وابن عبد البر (1/ 40)، وسنده صحيح, وتقدم تخريجه.

ومعاذ بن جبل, وأبو الدرداء, وجُبير بن مُطْعِم, وأنس بن مالك, وزيد بن ثابت, والنُّعمان بن بشير. قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن، وحديث زيد بن ثابت حديث حسن. وأخرج الحاكم في صحيحه (¬1) حديث جبير بن مطعم والنعمان بن بشير. وقال في حديث جبير: على شرط البخاري ومسلم. ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وَحْدَهُ لكفى به شرفاً؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمع كلامه ووعاه، وحفظه وبلَّغَهُ. وهذه هي مراتب العلم: أولها وثانيها: سماعهُ, وعَقْلُهُ؛ فإذا سمعهُ وعاهُ ¬

(¬1) (1/ 86، 87، 88). وهذا الحديث متواتر؛ فهو مروي عن بضعة وعشرين صحابيًّا، كما في ((نظم المتناثر)) (ص 24 - 25) للكتاني.

بقَلْبِهِ؛ أي: عَقَلَهُ واستقرَّ في قلبه كما يستقرُّ الشيءُ الذي يُوعى في وعائه ولا يخرُجُ منه، وكذلك عَقْلُهُ هو بمنزلة عَقْل البَعيرِ والدابة ونحوها حتى لا تَشْرُدَ وتذهب؛ ولهذا كان الوعيُ والعَقْلُ قدراً زائداً على مُجرَّدِ إدراك المعلوم. المرتبة الثانية: تَعَاهُدُه وحِفْظُهُ حتى لا ينساه فيذهب. المرتبة الرابعة: تبليغه وبثه في الأمة؛ ليحصل به ثمرته ومقصوده؛ وهو بَثُّهُ في الأمة، فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا يُنْفَقُ منه وهو مُعَرَّضٌ لذهابه؛ فإنَّ العلم ما لم يُنْفَقْ منه ويُعَلَّم فإنه يوشك أن يذهب، فإذا أنفق منه نما وزكا على الإنفاق. فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن؛ فإن

النَّضْرَةُ هي: البَهْجَةُ, والحسن الذي يُكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلبِ وسروره والتذاذه به، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه، ولهذا يجمع له سبحانه بين السرور والنَّضرة، كما في قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (¬1). فالنَّضْرَةُ في وُجوههم، والسرور في قلوبهم، فالنَّعيمُ وطيبُ القلبِ يُظهِرُ نضارةً في الوجهِ، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (¬2). والمقصود أن هذه النَّضرة في وجه من سمع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ووعاها, وحفظها, وبلَّغها: هي أثر تلك الحلاوة, والبهجة, والسرور الذي في قلبه وباطنه. ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآية: 11. (¬2) سورة المطففين، الآية: 24.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) تنبيه على فائدة التبليغ, وإن المبلَّغ قد يكون أفهم من المبلِّغ، فيحصل له في تلك المقالة ما يحصل للمبلِّغ. أو يكون المعنى: أن المبلَّغ قد يكون أفقه من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالة حملها على أحسن وجوهها واستنبط فقهها وعَلِمَ المراد منها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يُغلُّ عليهنَّ قلب مسلم ... )) إلى آخره، أي: لا يحمل الغِلَّ, ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي: الغل, والغش, وفساد القلب, وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغلِّ والغش، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ

وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬1). فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء. ولهذا لما عَلِمَ إبليسُ أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم من شِرْطتِه التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬2). قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬3). فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركبُ السلامة، والإيمان خاتم الأمان. وقوله: ((ومناصحة أئمة المسلمين))؛ هذا أيضاً منافٍ للغلِّ والغشِّ؛ فإن النصيحة لا تُجامع الغل، إذ هي ضده، فمن نصح الأئِمةَ والأمةَ فقد برئ من الغلِّ. ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 24. (¬2) سورة ص، الآيتان: 82، 83. (¬3) سورة الحجر, الآية: 42.

وقوله: ((ولزوم جماعتهم))؛ هذا أيضاً مما يُطَهِّرُ القلبَ من الغلِّ والغش؛ فإن صاحبه - للزومه جماعة المسلمين - يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم, ويسره ما يسرهم. وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم؛ كفعل الرافضة والخوارج, والمعتزلة, وغيرهم؛ فإن قلوبهم ممتلئةً غِلاًّ, وغشًّا؛ ولهذا تجدُ الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، وأشدهم بُعداً عن جماعة المسلمين. فهؤلاء أشدُّ الناس غِلاًّ وغشًّا بشهادة الرسول والأمة عليهم، وشهادتهم على أنفسهم بذلك؛ فإنهم لا يكونون قطُّ إلا أعواناً وظَهراً على أهل الإسلام، فأيُّ عدوٍّ قام للمسلمين كانوا أعوان ذلك العدو وبطانته!

وهذا أمرٌ قد شاهدتْهُ الأمةُ منهم، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يُصِمُّ الآذان ويُشجْي القلوب. وقوله: ((فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))؛ هذا من أحسن الكلام, وأوجزه, وأفخمه معنىً؛ شبَّه دعوة المسلمين بالسُّورِ والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوةُ التي هي دعوة الإسلام - وهم داخلوها - لما كانت سُوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة, وتلم شعثها، وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته (¬1). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 274 - 278).

§1/1