سراج الملوك

أبو بكر الطرطوشي

بسم الله الرحمن الرحيم سراج الملوك الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال. وهو الكبير المتعال. خالق الأعيان والآثار. ومكور النهار على الليل والليل على النهار. العالم بالخفيات. وما تنطوي عليه الأرضون والسماوات. سواء عنده الجهر والأسرار. ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير خلق الخلق بقدرته. وأحكمهم بعلمه وخصهم بمشيئته. ودبرهم بحكمته. لم يكن له في خلقهم معين. ولا في تدبيرهم مشير ولا ظهير. وكيف يستعين من لم يزل بمن لم يكن. ويستظهر من تقدس عن الذل بمن دخل تحت ذيل التكوين. ثم كلفهم معرفته. وجعل علم العالمين بعجزهم عن إدراكه إدراكاً لهم. كما جعل إقرار المقرين بوقوف عقولهم عن الإحاطة بحقيقته إيماناً لهم. لا تلزمه لم. ولا يجاوره أين. ولا تلاصقه حيث. ولا تحله ما. ولا تعده كم. ولا تحصره متى. ولا تحيط به كيف. ولا يناله أين. ولا تظله فوق. ولا تقله تحت. ولا يقابله جزء. ولا تزاحمه عند. ولا يأخذه خلف. ولا يحده أمام. ولا تظهره قبل. ولم تفته بعد. ولم تجمعه كل. ولم توجده كان. ولم تفقده ليس. وصفه لا صفة له. وكونه لا أمد له. ولا تخالطه الأشكال والصور. ولا تغيره الآثار والغير. ولا تجوز عليه الحماسة والمقارنة. وتستحيل عليه المحاذاة والمقابلة. إن قلت لم كان فقد سبق العلل ذاته. ومن كان معلولاً كان له غيره علة تساويه في الوجود. وهو قبل جميع الأعيان. بل لا علة لأفعاله. فقدرة الله في الأشياء بلا مزاج. وصنعه للأشياء بلا علاج. وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه. وإن قلت، أين هو؟ فقد سبق المكان وجوده. فمن أين الأين. لم يفتقر وجوده إلى أين. هو بعد خلق المكان. غني بنفسه كما كان قبل خلق المكان. وكيف يحل في ما منه بدا. أو يعود إليه ما أنشأ. وإن قلت ما هو؟ فلا ماهية له. ما موضوعة للسؤال عن الجنس، والقديم تعالى لا جنس له. لأن

الجنس مخصوص بمعنى داخل تحت الماهية. وإن قلت كم هو؟ فهو واحد في ذاته. متفرد بصفاته. وإن قلت متى كان؟ فقد سبق الوقت كونه. وإن قلت كيف هو؟ فمن كيف الكيفية لا يقال له كيف. ومن جازت عليه الكيفية جاز عليه التغيير. وإن قلت هو. فالهاء والواو خلقه. بل ألزم الكل الحدث كما قال بعض الأشياخ لأن القدم له. فالذي بالجسم ظهوره. فالعرض يلزمه. والذي بالأداة اجتماعه. فقواها تمسكه. والذي يؤلفه وقت. يفرقه وقت. والذي يقيمه غيره. فالضرورة تمسه. والذي الوهم يظفر به. فالتصوير يرتقي إليه. ومن آواه محل. أدركه أين. ومن كان له جنس طالبته كيف. وجوده إثباته. ومعرفته توحيده. وتوحيده تمييزه من خلقه. فما تصور في الأوهام فهو بخلافه. ولا تمثله العيون. ولا تخالطه الظنون. ولا تتصوره الأوهام. ولا تحيط به الأفهام. ولا تقدر قدره الأيام. ولا يحويه مكان. ولا يقارنه زمان. ولا يحصره أمد. ولا يشفعه ولد. ولا يجمعه عدد. قربه كرامته. وبعده إهانته علوه من غير توقل. ومجيئه من غير تنقل. وهو الأول والآخر. والظاهر والباطن. القريب البعيد. الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأشهد له بالربوبية والوحدانية. وبما شهد به لنفسه من الأسماء الحسنى. والصفات العلى. والنعت الأوفى. ألا له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين. وأومن به وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى. وأمينه المرتضى. أرسله إلى كافة الورى بشيراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. وأصحابه المنتخبين. وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين. وسلم تسليماً. أما بعد. فإنني لما نظرت في سير الأمم الماضية. والملوك الخالية وما وضعوه من السياسات في تدبير الدول. والتزموه من القوانين في حفظ النحل. وجدت ذلك نوعين: أحكاماً وسياسات. فأما الأحكام المشتملة على ما اعتقدوه من الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والطلاق والأجارات ونحوها والرسوم الموضوعة لها والحدود القائمة على من خالف شيئاً منها. فأمر اصطلحوا عليه بعقولهم ليس على شيء منه برهان ولا أنزل الله به من سلطان. ولا أخذوه عن تدبير. ولا اتبعوا فيه رسولاً. وإنما هي صادرة عن خدمة النيران. وسدنة بيوت الأصنام. وعبدة الأنداد والأوثان. وليس يعجز أحد من خلق الله عز وجل أن يصنع من تلقاء نفسه أشباهها ومثالها. وأما السياسات التي وضعوا في التزام تلك الأحكام والذب عنها. والحماية لها. وتعظيم من عظمها. وإهانة من استهان بها وخالفها. فقد ساروا في ذلك بسيرة العدل. وحسن السياسة. وجمع القلوب عليها. والتزام النصفة فيما بينهم على ما توجبه تلك الأحكام. فكذلك في تدبير الحروب وأمن السبيل، وحفظ الأموال، وصون الأعراض والحرم، كل ذلك قد ساروا فيه بسيرة جميلة لا تنافي العقول شيئاً منها لو كانت الأصول صحيحة والقواعد واجبة، فكانوا في حسن سيرتهم لحفظ تلك الأصول الفلسفية كمن زخرف كنيفاً أو بنى على ميت قصراً منيفاً: ولو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس يا لك من حمار فجمعت محاسن ما انطوت عليه سيرتهم خاصة من ملوك الطوائف وحكماء الدول، فوجدت ذلك في ست من الأمم وهم: العرب، والفرس، والروم، والهند، والسند، والسند هند. فأما ملوك الصين وحكماؤها فلم يبلغ إلى أرض العرب من سياساتهم كبير شيء لبعد الشقة وطول المسافة. وأما من عدا هؤلاء من الأمم فلم يكونوا أهل حكم بارعة، وقرائح نافذة، وأذهان

ثاقبة. وإنما صدر عنهم الشيء اليسير من الحكمة. فنظمت ما ألفيت في كتبهم من الحكمة البالغة، والسير المستحسنة، والكلمة اللطيفة، والطريقة المألوفة، والتوقيع الجميل، والأثر النبيل، إلى ما رويته وجمعته من سير الأنبياء عليهم السلام، وآثار الأولياء، وبراعة العلماء، وحكمة الحكماء، ونوادر الخلفاء، وما انطوى عليه القرآن العزيز الذي هو بحر العلوم، وينبوع الحكم، ومعدن السياسات، ومغاص الجواهر المكنونات. وقد رأيت أن أختصر لمحة دالة، وإشارة خفيفة. فإن طال فألفاظ بارعة، وآيات معجزة، وهو الهادي من الضلالة والحاوي لمحاسن الدنيا وفضائل الآخرة. ورتبته ترتيباً أنيقاً، وترجمته تراجم بارعة، وحاوية لمقاطع ناطقة بحكمها أو مضمونها، تلج الأذن من غير إذن، وتتولج التامور من غير استثمار. ألفاظها قوالب لمعانيها، ليس ألفاظها إلى السمع بأسرع من معانيها إلى القلب. فانتظم الكتاب بحمد الله وعونه وأحكمته غاية في بابه، غريباً في فنونه وأسبابه، خفيف المحمل، كثير الفائدة لم تسبق إلى مثله أقلام العلماء، ولا جالت في نظمه أفكار الفضلاء، ولا حوته خزائن الملوك والرؤساء. فلا يسمع به ملك إلا استكتبه ولا وزيراً إلا استصحبه، ولا رئيس إلا استحسنه واستوسده عصمة لمن عمل به من الملوك وأهل الرياسة، وجنة لمن تحصن به من أولى الأمرة والسياسة، وجمال لمن تحلى به من أهل الآداب والمحاضرة، وعنوان لمن فاوض به من أهل المجالسة والمذاكرة. وسميته سراج الملوك، يستغني الحكيم بدراسته عن مصاحبة الحكماء، والملك عن مشاورة الوزراء. واعلموا، وفقكم الله إن أحق من أهديت إليه الحكم، وأوصلت إليه النصائح، وحملت إليه العلوم، من آتاه الله سلطاناً فنفذ في الخلق حكمه وجاز عليهم قوله. ولما رأيت الأجل المأمون تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأيام، نظام الدين، خالصة أمير المؤمنين، أبا عبد الله محمد الآمري أدام الله لإعزاز الدين نصره، وأنفذ في العالمين بالحق أمره، وأوزع كافة الخلق شكره، وكفاهم محذوره وضره. قد تفضل الله تعالى به على المسلمين فبسط فيهم يده، ونشر في مصالح أحوالهم كلمته، وعرف الخاص والعام يمنه وبركته. وتقلد أمور الرعية، وسار فيهم على أحسن قضية، متحرياً للصواب، راغباً في الثواب، طالباً سبل العدل، ومناهج الإنصاف والفضل. رغبت أن أخصه بهذا الكتاب رجاء لطف الله تعالى في يوم تجد كل نفس ما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ولتذكر فضائله ومحاسنه ما بقي الدهر: الناس يهدون على قدرهم لكنني أهدي على قدري يهدون ما يفنى فأهدي الذي يبقى على الأيام والدهر فإن العلم عصمة الملوك والأمراء، ومعقل السلاطين والوزراء لأنه يمنعهم من الظلم، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية. فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويكرموا حملته، ويستنبطوا أهله، وما توفيقنا إلا بالله.

الباب الأول: في مواعظ الملوك

الباب الأول: في مواعظ الملوك لقد خاب وخسر من كان حظه من الله الدنيا. اعلم أيها الرجل، وكلنا ذلك الرجل، أن عقول الملوك وإن كانت كباراً إلا أنها مستغرقة بكثرة الأشغال فتستدعي من الموعظة ما يتولج على تلك الأفكار، ويتغلغل في مكامن الأسرار، فيرفع تلك الأستار ويفك تلك الأكنة والأقفال، ويصقل ذلك الصدأ والران؛ قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} (النساء: 77) . فوصف الله تعالى جميع متاع الدنيا بأنها متاع قليل. وأنت تعلم أنك ما أوتيت من ذلك القليل إلا قليلاً، ثم ذلك القليل إن تمتعت به ولم تعص الله فيه فهو لهو ولعب وزينة. قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} (الحديد: 20) . ثم قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) . فلا تبتع أيها العاقل لهواً قليلاً يفنى بحياة الأبد حياة لا تفنى وشباب لا يبلى، كما قال الفضيل رحمه الله تعالى: لو كانت الدنيا ذهب يفنى، وكانت الآخرة خزفاً يبقى، لوجب أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى، فكيف وقد اخترنا خزفاً يفنى على ذهب يبقى؟ تأمل بعقلك هل آتاك الله تعالى من الدنيا ما آتى سليمان بن داود عليهما السلام، حيث آتاه ملك جميع الدنيا والإنس والجن والطير والوحش والريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم زاده الله تعالى ما هو خير منها فقال له تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (صّ: 39) فوالله ما عدها نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل قال عند ذلك: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. وهذا فصل الخطاب لمن تدبره أن يقول له ربه في معرض المنة: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . ثم خاف سليمان عليه السلام أن يكون استدراجاً من حيث لا يعلم. هذا وقد قال لك ولسائر أهل الدنيا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر93: 92) . وقال: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء: 47) . تأمل بعقلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء! وألق سمعك إلى ما نزل به جبريل على محمد عليه السلام، فقال: يا محمد، إن الله تعالى يقول لك عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الكلمات من صرعة الموت وفراق الأحبة والجزاء على الأعمال، فلو لم ينزل من السماء غيرها لكانت كافية. انظر بفهمك إلى ما رواه الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر

بمنزل قوم قد ارتحلوا عنه، وإذا طلى مطروح فقال: أترون هذا هان على أهله؟ فقالوا: من هوانه عليهم ألقوه. قال: فو الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا على أهله. فجعل الدنيا أهون على الله من الجيفة المطروحة. وقال أبو هريرة: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أريك الدنيا جمعاً بما فيها؟ قلت: بلى. قال، فأخذ بيدي وأتى بي إلى واد من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم، ثم قال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم، ثم هي اليوم تساقط جلداً بلا عظم ثم هي صائرة رماداً رمدداً، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها وقذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم ولباسهم ثم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكياً على الدنيا فليبك! فما برحنا حتى أشتد بكاؤنا. وقال ابن عمر: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى. أيها الرجل، إن كنت لا تدري متى يفاجئك الأجل فلا تغتر بطول الأمل، فإنه يقسي القلب ويفسد العمل، وقد غير الله أقواماً مد لهم في الأجل فقست منهم القلوب، وطال منهم الأمل، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر يا أيها الرجل ألق سمعك وأعرني لبك. فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر أين آدم أبو الأولين والآخرين؟ أين نوح شيخ المرسلين؟ أين إدريس رفيع رب العالمين؟ أين إبراهيم خليل الرحمن الرحيم؟ أين موسى الكليم من بين سائر النبيين والمرسلين؟ أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين وإمام السائحين؟ أين محمد خاتم النبيين؟ أين أصحابه الأبرار المنتخبون؟ أين الأمم الماضية؟ أين الملوك السالفة؟ أين القرون الخالية؟ أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان؟ أين الذين اعتزوا بالأجناد والسلطان؟ أين أصحاب السطوة والولايات؟ أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات؟ أين الذين قادوا الجيوش والعساكر؟ أين الذين عمروا القصور والدساكر؟ أين الذين أعطوا النصر في مواطن الحروب والمواقف؟ أين الذين اقتحموا المخاطر والمخاوف؟ أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب؟ أين الذين تمتعوا في اللذات والمآرب؟ أين الذين تاهوا على الخلائق كبراً وعتياً؟ أين الذين استلانوا الملابس أثاثاً ورئياً؟ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} (مريم: 74) أين الذين ملأوا ما بين الخافقين عزاً؟ أين الذين فرشوا القصور خزاً وقزاً؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وهزاً؟ أين الذين استذلوا العباد قهراً ولزاً؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (مريم: 98) . أفناهم والله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة القصور وأسكنهم ضنك القبور، تحت الجنادل والصخور، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم فعاث الدود في أجسامهم، واتخذ مقيلاً في أبدانهم، فسالت

العيون على الخدود وامتلأت تلك الأفواه بالدود، وتساقطت الأعضاء وتمزقت الجلود، وتناثرت اللحوم وتقطعت البطون، فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا، أسلمك الأحبة والأولياء وهجرك الأخوان والأصفياء ونسيك القرباء والبعداء. فأنسيت ولو نطقت لأنشدت قولنا عن سكان الثرى ورهائن الترب والبلى: شعر مقيم بالحجون رهين رمس وأهلي رائحون بكل واد كأني لم أكن لهم حبيباً ولا كانوا الأحبة في السواد فعوجوا بالسلام فإن أبيتم فأوموا بالسلام على بعاد فإن طال المدى وصفا خليل سوانا فاذكروا صفو الوداد وذاك أقل ما لك من حبيب وآخره إلى يوم التناد فلو أنا بموقفكم وقفنا سقينا الترب من مهج الفؤاد وقال مكرم بن يوسف العابد: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قف على المدائن والحصون وأبلغهم عني حرفين: لا يأكلوا إلا طيباً ولا يتكلموا إلا بالحق. ولما دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز قال: عظني يا يزيد! فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم ما أنت أول خليفة يموت! فبكى عمر وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين آدم إلا أب ميت! فبكى وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين الموت موعد. فبكى وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بين الجنة والنار منزل! فسقط مغشياً عليه. يا أيها الرجل لا تغفل عن ذكر ما تتيقنه من وجوب الفناء وتقضي المسار وذهاب اللذات، وانقضاء الشهوات وبقاء التبعات وانقلابها حسرات، وإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له؛ من صح فيها سقم ومن سلم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن؛ حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب، من ساعاها فاتته ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته ومن تبصر بها بصرته، لا خيرها يدوم ولا سرورها يبقى ولا فيها المخلوق بقا. يا أيها الرجل لا تخدعن كما خدع من قبلك، فإن الذي أصبحت فيه من النعم إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج من يدك مثل ما صار إليك، فلو بقيت الدنيا للعالم لم تصر للجاهل، ولو بقيت للأول لم تنتقل للآخر. يا أيها الرجل لو كانت الدنيا كلها ذهباً وفضة، ثم سلمت عليك بالخلافة وألقت إليك مقاليدها وأفلاذ كبدها، ثم كنت طريدة للموت ما كان ينبغي لك أن تهنأ بعيش، ولا فخر فيما يزول ولا غنى فيما يفنى، وهل الدنيا إلا كما قال الأول: قدر يغلي وكنيف يملأ؟ وكما قال الشاعر: ولقد سألت الدار عن أخبارهم فتمايلت عجباً ولم تبدي حتى مررت على الكنيف فقال لي أموالهم ونوالهم عندي! ولقد أصاب ابن السماك لما قال له الرشيد: يا ابن السماك عظني، وبيده شربة من ماء، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: فلا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة! يا أيها الشاب لا تغتر بشبابك فإن أكثر من يموت الشباب. والدليل عليه أن أقل الناس الشيوخ. يا أيها الشاب كم من جمل في التنور وأبوه يرعى؟ وكم من طفل في التراب وجده يحيا؟

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأسقف قد أسلم: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الله عليك فمن ترجو؟ قال: أحسنت فزدني. قال: إن كان الله معك فمن تخاف؟ قال: أحسنت فزدني. قال: أحسب أن الله قد غفر للمذنبين، أليس قد فاتهم ثواب المحسنين؟ قال: حسبي حسبي وبكى علي أربعين صباحاً. وقال الحسن: قدم صعصعة يعني عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة8: 7) فقال: حسبي حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها. وقال سليمان بن عبد الملك الحميد الطويل: عظني. فقال: إن كنت قد عصيت الله وظننت أنه يراك فلقد اجترأت على رب عظيم، وإن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت برب كريم. وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى سليمان: إنما مثل الدنيا كمثل الحية لين لمسها ويقتل سمها، فأعرض عنها وعن ما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكره منها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه. وقال أبو العتاهية: هي الدار دار الأذى والقذى ودار الغرور ودار الغير فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر أيا من يؤمل طول الحياة وطول الحياة عليه خطر إذا ما كبرت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر ولما بلغ مردك من الدنيا أفضل ما سمت إليه نفسه ورقت إليه همته، رفضها ونبذها وقال: هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وغنى لولا أنه فناء، وجسيم لولا أنه ذميم، ومحمود لولا أنه مفقود، وغناء لولا أنه مناً، وارتفاع لولا أنه اتضاع، وعلا لولا أنه بلا، وحسن لولا أنه حزن، وهو يوم لو وثق له بغد. يا أيها الرجل لا تكن كالمنخل يرسل أطيب ما فيه ويمسك الحثالة. واعلم أن من قسا قلبه لا يقبل الحق وإن كثرت دلائله، قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ*ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة74: 73) . وذلك أن كثرة الذنوب مانعة من قبول الحق للقلوب وولوج المواعظ فيها. قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14) ، أي غطاها وغشيها فلا تقبل خيراً ولا تصلح لموعظة. جاء في التفسير: إذا أذنب العبد ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم كلما أذنب نكتت نكتة سوداء حتى يسود القلب. وقال حذيفة: القلب كالكف فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعاً، ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعاً أخرى، ثم كذلك في الثالث والرابع حتى ينقبض الكف كله ثم يطبع الله عليه، وذلك هو الران. وقال بكر بن عبد الله: إذا أذنب العبد صار في قلبه كوخز الإبرة، ثم كلما أذنب صار فيه كوخز الإبرة، ثم كلما أذنب صار فيه كوخز الإبرة حتى يعود القلب كالمنخل. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب. وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيماً لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرماً بحب الدنيا لم تنفعه الموعظة. وقد قيل: إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن سبحت لم ينفع المطر

ويروي أن أبا العتاهية مر بدكان وراق، فإذا كتاب فيه بيت من الشعر: لن ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر فقال: لمن هذا؟ فقيل: لأبي نواس. فقال: وددت أنه لي بنصف شعري! وقال الأصمعي: إن النعمان بن امرئ القيس الأكبر الذي بنى الخورنق أشرف على الخورنق يوماً، فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ الأمر وإقبال الوجوه عليه، فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟ فقال له حكيم من حكماء أصحابه: أهذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزول، أم شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك؟ قال: بل شيء كان لمن قبلي زال عنه وصار إلي وسيزول عني! قال فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته! قال: فأين المهرب؟ قال: إما إن تقيم وتعمل بطاعة الله، أو تلبس أمساحاً وتلحق بجبل تعبد ربك فيه وتفر من الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال: حياة لا تموت وشباب لا يهرم، وصحة لا تسقم وملك جديد لا يبلى. قال: فأي خير فيما يفنى؟ والله لأطلبن عيشاً لا يزول أبداً! فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وساح في الأرض، وتبعه الحكيم وجعلا يسيحان ويعبدان الله تعالى حتى ماتا؛ وفيه يقول عدي بن زيد: سر رب الخورنق إذ أصـ بح يوماً وللهدى تذكير غره ماله وكثرة ما يمـ لك والبحر معرضاً والسدير فارعوى قبله وقال فما غبـ طة حي إلى الممات يصير؟ أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وان أم أين قبله سابور؟ وبنو الأصفر ملوك الـ روم لم يبق منهم مذكور لم يهبه ريب المنون فباد الـ ملك عنه فبابه مهجور وفيهم أيضا يقول الأسود بن يعفر: ولقد علمت سوى الذي نبأتني أن السبيل سبيل ذي الأعواد ماذا أؤمل أل محرق تركوا منازلهم وبعد إياد؟ أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات مع سنداد نزلوا يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد فأرى النعيم وكل ما يلهى به يوماً يصير إلى بلى ونفاد وقال وهب بن منبه: أصبت على غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن، وكان من الملوك الأجلة مكتوباً بالقلم المسند فترجم العربية، فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل واستنزلوا من أعالي معقلهم فأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا! ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا: أين الأسرة والتيجان والحلل؟ أين الوجوه التي كانت محجبة من دونها تضرب الأستار والكلل؟ فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم: تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا! قال شيخنا رحمه الله: قرئ على القاضي أبي الوليد الباجي وأنا أسمع لبعض الشعراء: ويحك يا أسماء ما شاني أضللني والله ما ساني! الموت حق فاعلمي نازل فبشري لحدي وأكفاني قد كنت ذا مال فلا والذي أعطاني العيش وأغناني ما قرت العين به ساعة إلا تذكرت فأشجاني علمي بأني صائر للبلى وفاقد أهلي وجيراني وتارك مالي على حاله نهباً لشيطان بن شيطان لامرأة ابني أو لزوج ابنتي يا لك من غي وخسران! يسعد في مالي وأشقى به قوم ذوو غل وشنان إن أحسنوا كان لهم أجره وخف من ذلك ميزاني وممن استبصر من أبناء الملوك، فرأى عيب الدنيا وفناءها وتقضيها وزوالها، إبراهيم بن أدهم بن منصور من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، ولما زهد في الدنيا زهد عن ثمانين سريراً. قال إبراهيم بن بشار: سألت إبراهيم بن أدهم كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ قال: غير هذا أولى بك! قلت: يرحمك الله لعل الله ينفعني به يوماً ما. ثم سألته ثانية فقال: ويحك اشتغل بالله سبحانه! ثم سألته ثالثة فقلت: إن رأيت يرحمك الله أن تخبرني به لعل الله أن ينفعني به. فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان من المياسير وكان قد حبب إلي الصيد، فبينما أنا راكب فرساً ومعي كلبي، فأثرت أرنباً أو ثعلباً، فحركت فرسي فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحداً فقلت في نفسي: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي فسمعت نداء أقوى من الأول: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت مقشعراً وجعلت أنظر يمنة ويسرة فلم أر شيئاً فقلت: لعن الله إبليس! ثم حركت فرسي فسمعت نداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت وقلت: هيهات قد جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا! فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي، وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم تزل أرض تقلني وأرض تضعني، حتى صرت إلى العراق وعملت بها أياماً فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت المشايخ عن الحلال، فقال: عليك بالشام. قال: فانصرفت إلى الشام إلى مدينة يقال لها المنصورية وهي المصيصة، فعملت بها أياماً فلم يصف لي منها شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال: إن أردت الحلال فعليك بطرطوس، فإن العمل بها والمباحات كثير. قال: فبينما أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستاناً، فتوجهت معه فمكثت في البستان أياماً كثيرة، فإذا بخادم قد أظلل ومعه أصحاب له، ولو علمت أن البستان لخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا. فأجبته، قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه. فأتيته برمان فأخذ الخادم رمانة فكسرها فوجدها حامضة، فقال: يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا لا تعرف الحلو من الحامض؟ قلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئاً وما أعرف الحلو من الحامض! قال: فغمز الخادم أصحابه

وقال: ألا تعجبون من هذا؟ ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما زاد على هذا! فلما كان من الغد حدث الناس في المسجد بالصفة، فجاء الناس عنقاً إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختبأت والناس داخلون وأنا هارب منهم. وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من عمل يده مثل الحصاد وحفظ البساتين والعمل في الطين. وكان يوماً يحفظ كرماً فمر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني صاحبه. فأخذ يضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأساً طالما عصى الله. فانحجز الرجل ومضى. وقال سهل بن إبراهيم: صحبت إبراهيم بن أدهم فمرضت فأنفق علي نفقته، فاشتهيت شهوة فباع حماره وأنفق علي، فلما تماثلت قلت: يا إبراهيم أين الحمار؟ فقال: بعته. قلت: فعلام أركب؟ قال: يا أخي على عنقي! قال: فحملني ثلاث منازل رحمه الله. وأنشدوا: أيها المرء إن دنياك بحر طافح موجه فلا تأمننها وسبيل النجاة فيها منير وهو أخذ الكفاف والقوت منها وبلغني أن بالهند يوماً يخرج الناس فيه إلى البرية فلا يبقى في البلد بشر من طين: لا شيخ كبير ولا مولود صغير، وهذا اليوم يكون بعد انقراض مائة سنة من يوم مثله، فإذا اجتمع الخلائق في صعيد واحد نادى منادي الملك، لا تصعدون هذا الحجر الحجر هناك منصوب إلا من حضر في المجمع الأول الذي قد خلا من مائة سنة، فربما جاء الشيخ الهرم الذي قد ذهبت قوته وعمي بصره وفني شبابه، وتجيء العجوز تزحف لم يبق منها إلا رسمها وقد أخنى الدهر عليها، فيصعدان على الحجر الذي هناك، وربما لم يجئ أحد وقد يكون قد فنى القرن بأسره. ويقول الشيخ: قد حضرت المجمع الأول منذ مائة سنة وأنا طفل صغير، وكان الملك فلاناً، ويصف الجيوش الماضية والأمم الخالية وكيف طحنهم البلى، وصاروا تحت أطباق الثرى، ويقوم خطيبهم فيعظ الناس ويذكرهم صرعة الموت وحسرة الفوت، فيبكي الناس ويتوبون من المظالم، ويكثرون الصدقات ويخرجون عن التبعات ويصلحون على ذلك مدة. وقال وهب بن منبه: صحب رجل بعض الرهبان سبعة أيام ليستفيد منه شيئاً، فوجده مشغولاً بذكر الله تعالى والفكر لا يفتر، فالتفت إليه في اليوم السابع فقال: يا هذا قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة والزهد رأس كل خير والتوفيق تاج كل خير، فاحذر رأس كل خطيئة وارغب في رأس كل خير، وتضرع إلى ربك أن يهب لك تاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلاً من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء: فشبهها بالماء الملح يغر ولا يروي ويضر ولا ينفع، وبالبرق الخلب يغر ولا ينفع، وبسحاب الصيف يمر ولا ينفع، وبظل الغمام يغر ولا يخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيماً، وبأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر ويقتل. فتدبرت هذه الأحرف السبعة سبعين سنة، ثم زدت حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها، فرأيت جدي في المنام فقال لي: يا بني أشهد أنك مني وأنا منك، وهي والله كالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها! قلت: فبأي شيء يكون الزهد في الدنيا؟ قال: باليقين، واليقين بالبصر، والبصر بالعين، والعين بالفكر. ثم وقف الراهب فقال: خذها منا فلا أراك خلفي إلا متجرداً بفعل دون قول، فكان ذلك آخر العهد به. قلت: قد وصف الله الدنيا وأهلها بصفة أعم من هذه الصفة، فقال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ

غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20) والكفار هاهنا: الزراع، فكما أن الزرع يكون في أول نباته خضراً ناعماً اهتزت به الأرض بعد يبسها، فجاءت في العيون كأملح ما يكون، ثم يهيج فتراه مصفراً أي يكبر ويستوي فيجف ويحترق وينتكس أعلاه ويستغل سنبله، ثم يدرس فيكون حطاماً أي تبناً فيكون متكسراً متقطعاً. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبني آدم إذ كانوا أطفالاً أول الولادة وفي حال الشبوبية كأحسن مرئي، يعجبون الآباء ويفتنون ذوي الأحلام والنهى، ثم يكبرون فيصيرون شيوخاً منكسة رؤوسهم مقوسة ظهورهم، قد ذهب حسنهم ونعومتهم وفني شبابهم وجمالهم، وذوت غضارتهم ونضارتهم، واستولى عليهم الهرم واليبس، ثم يموتون فيصيرون حطاماً في القبور كالتبن في الجرين. هذا بعدما وصفها بخمس صفات مذمومة: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر. وكان الصدر الأول يسمي الدنيا خنزيراً، ولو وجدوا لها اسماً أقبح منه لسموها به. وكانوا يسمونها أم دفر، والدفر: النتن. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: بلغني أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل ركب يوماً في زي عظيم، فتشرف له الناس ينظرون إليه أفواجاً، حتى مر برجل يعمل شيئاً مكباً عليه لا يلتفت إليه ولا يرفع رأسه، فوقف الملك عليه وقال: كل الناس ينظرون إلي إلا أنت! فقال الرجل: إني رأيت ملكاً مثلك وكان على هذه القرية، فمات هو ومسكين فدفن إلى جانبه في يوم واحد، وكنا نعرفهما في الدنيا بأجسادهما ثم كنا نعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت عنهما، فاختلطت عظامهما فلم أعرف الملك من المسكين، فلذلك أقبلت على عملي وتركت النظر إليك. وقد قيل في المعنى: وحقك لو كشفت الترب عنهم لما عرف الغني من الفقير ولا من كان يلبس ثوب شعر ولا البدن المنعم بالحرير وروى أن داود عليه السلام، بينما هو يسيح في الجبال إذ أوفى على غار، فنظر إليه فإذا فيه رجل عظيم من بني آدم، وإذا عند رأسه حجر مكتوب بكتاب محفور فيه: أنا دوسوم الملك ملكت ألف عام، وفتحت ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، وافترعت ألف بكر من بنات الملوك، ثم صرت إلى ما ترى فصار التراب فراشي والحجارة وسادي، فمن رآني فلا تغرنه الدنيا كما غرتني. وقال وهب بن منبه رضي الله عنه: خرج عيسى عليه السلام يوماً مع جماعة من أصحابه، فلما ارتفع النهار، مروا بزرع قد أمكن من الفرك فقالوا: يا رسول الله إنا جياع. فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم، فأذن لهم فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع وهو يقول: زرعي وأرضي ورثته عن آبائي، بإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ربه فبعث الله تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم إلى ساعته، فإذا عند كل سنبلة أو ما شاء الله رجل أو امرأة كل ينادي زرعي وأرضي ورثته عن آبائي! ففزع الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى وهو لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا رسول الله! إني لم أعرفك، زرعي ومالي لك حلال! فبكى عيسى عليه السلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم قد ورثوا الأرض وعمروها، ثم ارتحلوا عنها وأنت مرتحل عنها وبهم لاحق، ليس لك أرض ولا مال! وقال أبو العتاهية: وعظتك أجداث صمت ونعتك أزمنة خفت وتكلمت عن أوجه تبلى وعن صور سكت وأرتك قبرك في القبو ر وأنت حي لم تمت يا شامتاً بمنيتي إن المنية لم تمت ولربما انقلب الزما ن فحل بالقوم الشمت

وروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رأى فاطمة رضي الله عنها مسجاة بثوبها، بكى حتى رثي له، ثم قال: لكل اجتماع من خليلين فرقة وإن الذي دون الفراق قليل أرى علل الدنيا علي كثيرة وصاحبها حتى الممات عليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على أن لا يدوم خليل وقال رضي الله عنه: ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل! أراك بصيراً بالذين أحبهم كأنك تنحو نحوهم بدليل! قيل: ولما نفض يديه من ترابها تمثل بقول بعض بني ضبة: أقول وقد فاضت دموعي حسرة: أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب أخلاي لو غير الحمام أصابكم عتبت ولكن ما على الموت معتب وقال العتابي: قلت للفرقدين والليل ملق سوداء كنافه على الآفاق: أبقيا ما بقيتما فسيرمى بين شخصيكما بسهم الفراق غر من الظن أن يفوت المنايا وعراها قلائد الأعناق كم صفيين متعا باجتماع ثم صارا لغربة وافتراق لا يدوم البقا للخلق طراً دام طول البقاء للخلاق! وأنشدني بعض الأدباء: أسعداني يا نخلتي حلوان وارثيا لي من ريب هذا الزمان واعلما إن بقيتما أن شخصاً سوف يأتيكما فتفترقان فلعمري لو ذقتما ألم الفر قة أبكاكما الذي أبكاني ولما سافر الرشيد إلى طوس وعك في طريقه من حر أصابه فقال له الطبيب: ما يبريك إلا جمار النخل. وكان نزوله قريباً من هاتين النخلتين فأمر بقطع جمار إحدى النخلتين، فلما مثل بين يديه أنشده بعض الجلساء هذه الأبيات لبعض الشعراء في هاتين النخلتين، فقال الرشيد: لو سمعتها ما أمرت بقطعها. ولما مات الإسكندر قال أرسطوطاليس: أيها الملك لقد حركتنا بسكونك. وقال بعض الحكماء من أصحابه: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس؛ نظمه أبو العتاهية فقال: كفى حزناً بدفنك ثم إني نفضت تراب قبرك من يديا وكانت في حياتك لي عظات فأنت اليوم أوعظ منك حيا ووجد مكتوباً على قبر: قهرنا من قهرنا فصرنا للناظرين عبرة. وقال عبد الله بن المعتز: نسير إلى الآجال في كل ساعة وأيامنا تطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقاً فإنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا! فكيف به والشيب في الرأس شاعل؟ ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام تعد قلائل

ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخ لكم ناصح. فاجتمعوا عليه، فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتقولون ما لا تدركون؟ إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً وأملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً فأصبح أملهم غروراً وجمعهم بوراً ومساكنهم قبوراً. وروى الجاحظ قال: وجد مكتوباً على حجر: ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت عن حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غداً ندمك، وقد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرأ منك القريب وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد ولا إلى أهلك عائد. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: بلغني أن امرأتين أتتا عيسى بن مريم عليه السلام فقالتا: يا روح الله ادع الله أن يخرج أبانا فإنه هلك ونحن غائبتان عنه. قال: هل تعرفان قبره؟ فقالتا: نعم. فذهب معهما فأتتا قبراً فقالتا: هذا هو. فدعا الله فأخرج لهما الذي به فإذا هو ليس به، فدعا فرد، ثم دلتاه على قبر آخر فدعا أن يخرج فخرج فإذا هو به، فلزمتاه وسلمتا عليه ثم قالتا: يا نبي الله يا معلم الخير ادع الله أن يبقيه لنا. فقال: وكيف أدعو له ولم يبق له رزق يعيش به؟ ثم رده وانصرف. وأنشد بعض الأدباء: واأسفي من فراق قومٍ هم المصابيح والحصون! والمزن والمدن والرواسي والخير والأمن والسكون! لم تتغير بنا الليالي حتى توفتهم المنون! فكل جمرٍ لنا قلوب وكل ماءٍ لنا عيون وروي أن النعمان بن المنذر خرج متصيداً ومعه عدي بن زيد، فمرا بشجرة، فقال عدي بن زيد: أيها الملك أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا. قال: فإنها تقول: من رآنا فليحدث نفسه أنه موفٍ على قرب زوال فصروف الدهر لا تبقى لها ولما تأتي به صم الجبال رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال والأباريق عليها فدم وجياد الخيل تجري بالجلال عمروا الدهر بعيشٍ حسن آمني دهرهم غير عجال عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذاك الدهر حالاً بعد حال! قال: ثم جاوزوا الشجرة فمروا بمقبرة فقال له عدي: أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا. قال: فإنها تقول: أيها الركب المخبونا على الأرض المجدونا كما أنتم كذا كنا كما نحن تكونونا فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا يتكلمان، وقد علمت أنك إنما أردت عظتي فجزاك الله عني خيراً! فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده. قال: وفي هذا النجاة؟ قال: نعم. قال: فترك عبادة الأوثان وتبصر حينئذ وأخذ في العبادة والاجتهاد. وقال عبد الله المعلم: خرجنا من المدينة حجاجاً، فلما كنا بالروثية نزلنا فوقف بنا رجل عليه ثياب رثة له منظر وهيئة، فقال: من يبغ حارساً من يبغ ساقياً؟ فقلت: دونك وهذه القربة. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيراً حتى أقبل وقد امتلأت أثوابه طيناً، فوضعها كالمسرور الضاحك ثم قال: ألكم غير هذا؟ قلنا: لا. فأطعمناه قرصاً بارداً فأخذه وحمد الله تعالى وشكره، ثم اعتزل وقعد فأكله أكل جائع، فأدركتني عليه الرأفة فقمت إليه بطعام كثير طيب فقلت: قد علمت أنه لم يقع منك هذا القرص بموقع،

فدونك وهذا الطعام. فنظر في وجهي وتبسم وقال: يا عبد الله إنما هي ثورة جوع فما أبالي بأي شيء رددتها. فرجعت عنه فقال لي رجل إلى جنبي: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: إنه من بني هاشم من ولد العباس بن عبد المطلب، كان يسكن البصرة فتاب، فخرج منها فتفقد فما عرف له أثر ولا وقف له على خبر. فأعجبني قوله ثم تجمعت معه وآنسته وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلاً من راحلتي؟ فجزاني خيراً وقال: لو أردت هذا المكان لي معداً. ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس بن عبد المطلب كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وبذخ، وإني أمرت خادمة لي أن تحشو لي فراشاً ومخدة من حرير بورد نثير، ففعلت. وإني لنائم وإذا بقمع وردة قد أغفلته الخادمة، فقمت إليها وأوجعتها ضرباً ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في المنام في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك أبصر من حيرتك، ثم أنشأ يقول هذه الأبيات: يا خد إنك إن توسد ليناً وسدت بعد الموت صم الجندل فاعمل لنفسك صالحاً تسعد به فلتندمن غداً إذا لم تفعل! فانتبهت فزعاً وخرجت من ساعتي هارباً إلى ربي. وقال عبد الواحد بن زيد: ذكر لي أن في خرائب الأيلة جارية مجنونة تنطق بالحكمة، فلم أزل أطلبها حتى وجدتها في خربة جالسة على حجر وعليها جبة صوف وهي محلوقة الرأس، فلما نظرت إلي قالت من غير أن أكلمها: مرحباً بك يا عبد الواحد! فقلت لها: رحب الله بك! وعجبت من معرفتها بي ولم ترني قبل ذلك فقالت: ما الذي جاء بك ههنا؟ قلت: جئت لتعظيني. فقالت: واعجباً لواعظ يوعظ! ثم قالت: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية ثم مال إلى الدنيا، سلبه الله حلاوة الطاعة فيظل حيران والهاً، فإن كان له نصيب عند الله عاتبه وحياً في سره، فقال: عبدي أردت أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وأجعلك دليلاً لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني، فأورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس والذل بعد العز والفقر بعد الغنى، عبدي ارجع إلى ما كنت عليه أرجع لك ما كنت تعرفه من نفسك. قال: ثم تركتني وولت عني وانصرفت عنها وفي قلبي حسرة منها. وأنشدوا: إنك في دار لها مدة يقبل فيها عمل العامل أما ترى الموت محيطاً بها يقطع فيها أمل الآمل؟ تعجل الذنب بما تشتهي وتأمل التوبة من قابل والموت يأتي بعد ذا غفلةٍ ماذا يفعل الحازم العاقل؟ ولما نزل سعد بن أبي وقاص الحيرة قيل له: ههنا عجوز من بنات الملوك يقال لها الحرقة بنت النعمان بن المنذر، وكانت من أجل عقائل العرب، وكانت إذا خرجت إلى بيعتها نشرت عليها ألف قطيفة خز وديباج، ومعها ألف وصيف ووصيفة، فأرسل إليها سعد فجاءت كالشن البالي فقالت: يا سعد كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله مدة من المدد، حتى صاح بنا صائح الدهر فشتت ملأنا، والدهر ذو نوائب وصروف، فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا! فقال لها سعد: ما أنعم ما تنعمتم به؟ قالت: سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا، ثم أنشأت تقول:

وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف فتباً لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف! ثم قالت: يا سعد إنه لم يكن أهل بيت بخير إلا والدهر يعقبهم حسرة حتى يأتي أمر الله على الفريقين! فأكرمها سعد وأمر بردها، فلما أرادت القيام قالت: يا سعد لا أزال الله عنك نعمة ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا أزال عن كريم نعمة ولا نزع عن عبد صالح كرامة إلا جعلك سبيلاً إلى ردها عليه! ولبعضهم: من كان يعلم أن الموت مدركه والقبر مسكنه والبعث مخرجه وأنه بين جنات ستبهجه يوم القيامة أو نار ستنضجه فكل شيء سوى التقوى به سمج وما أقام عليه منه أسمجه ترى الذي اتخذ الدنيا له سكناً لم يدر أن المنايا سوف تزعجه وروي أن عيسى عليه السلام كان مع صاحب له يسيحان، فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلى قرية، فقال عيسى لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاماً من هذه القرية. وقام عيسى عليه السلام يصلي، فجاء الرجل بثلاثة أرغفة فأبطأ عليه انصراف عيسى فأكل رغيفاً، فانصرف عيسى فقال: أين الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا رغيفين! قال: فمرا على وجوههما حتى مرا بظباء فدعا عيسى عليه السلام ظبياً منها فذكاه فأكلا منه، ثم قال عيسى عليه السلام للظبي: قم بإذن الله، فإذا هو يشتد. فقال الرجل: سبحان الله! فقال عيسى عليه السلام: بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا رغيفين! قال: فمضيا على وجوههما فمرا بنهر عظيم عجاج، فأخذ عيسى عليه السلام بيده فمشيا على الماء حتى جاوزا الماء فقال الرجل: سبحان الله! فقال عيسى عليه السلام: بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا رغيفين. فخرجا حتى أتيا قرية عظيمة خربة، وإذا قريب منها ثلاث لبنات من ذهب، فقال الرجل: هذا مال! فقال عيسى عليه السلام: أجل هذا مال، واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف. فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف! فقال عيسى: هي لك كلها! ففارقه فأقام عندها ليس معه ما يحملها عليه، فمر به ثلاثة نفر فقتلوه وأخذوا الثلاث لبنات، فقال اثنان منهم لواحد: انطلق إلى القرية فأتنا منها بطعام. فذهب فقال أحد الباقيين للآخر: تعال نقتل هذا إذا جاء ونقتسم هذا بيننا! فقال الآخر: نعم. وقال الذي ذهب: أجعل في الطعام سماً فأقتلهما وآخذ اللبن! ففعل، فلما جاء قتلاه وأكلا من الطعام الذي جاء به، فماتا. فمر بهم عيسى وهم حولها مطروحون، فقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها! وقال عبد الملك بن عمير: رأيت في هذا القصر عجباً رأيت رأس الحسين على ثوبين مصبوغين بين يدي ابن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان! وقال الأصمعي: لما زخرف الرشيد مجالسه وتحزم فيها وزوقها وصنع فيها صنائع كثيرة، أرسل إلى أبي العتاهية وقال: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال: عش ما بدا لك آمناً في ظل شاهقة القصور يسعى إليك بما اشتهي ت لدى الرواح وفي البكور وإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور! فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته! فقال هارون: دعه فإنه رآنا في ضلالة وعمى فكره أن يزيدنا عمى! وروي أن سليمان بن عبد الملك لبس أفخر ثيابه، ومس أطيب طيبه ونظر في مرآة فأعجبته نفسه وقال: أنا الملك الشاب! وخرج إلى الجمعة وقال لجاريته: كيف ترين؟ فقالت: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان! ليس فيما بدا لنا منك عيب عابه الناس غير أنك فان! فأعرض بوجهه ثم خرج وصعد المنبر وصوته يسمع آخر المسجد، ثم ركبته الحمى فلم يزل صوته ينقص حتى ما يسمعه من حوله، فصلى ورجع بين اثنين يسحب رجليه، فلما صار على فراشه قال للجارية: ما الذي قلت لي في صحن الدار وأنا خارج؟ قالت: ما رأيتك ولا قلت لك شيئاً وأنى لي بالخروج إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون نعيت إلى نفسي. ثم عهد عهده وأوصى وصيته، فلم تدر عليه الجمعة الأخرى إلا وهو في قبره رحمه الله تعالى. ووجد مكتوباً على قصر سيف بن ذي يزن: من كان لا يطأ التراب برجله وطئ التراب بصفحة الخد من كان بينك في التراب وبينه شبران كان كفاية البعد لو بعثرت للناس أطباق الثرى لم يعرف المولى من العبد! وقال الهيثم بن عدي: وجدوا غاراً في جبل لبنان في زمن الوليد بن عبد الملك، وفيه رجل مسجى على سرير من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية: أنا سبا بن أنوس بن سبأ، خدمت عيصو بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرب الديان الأكبر، وعشت بعده عمراً طويلاً ورأيت عجباً كثيراً، ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه، ويقف على قبور أحبابه ويعلم أنه صائر إليهم ثم لا يتوب، وقد علمت أن الأجلاف الحفاة سينزلونني عن سريري ويتولونه، وذلك حين يتغير الزمان ويتأمر الصبيان ويكثر الحدثان، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلاً ومات ذليلاً! وروي أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها سبعة ملوك وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الملوك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟ قالوا: رجل يكون في المقابر. فدعا به وقال: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أعزل عظام الملوك عن عظام عبيدهم فوجدت ذلك سواء! قال: فهل لك أن تتبعني فأحيي بك شرف آبائك إن كانت لك همة. قال: إن همتي لعظيمة إن كانت بغيتي عندك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها وشباب لا هرم معه، وغنى لا يتبعه فقر وسرور لا يغيره مكروه. قال: ما أقدر على هذا. قال: فانفذ لشأنك وخلني أطلب بغيتي ممن هي عنده. قال الإسكندر: وهذا أحكم من رأيت. وروي في الإسرائيليات أن عيسى بن مريم عليه السلام، بينا هو في بعض سياحته إذ مر بجمجمة نخرة، فأمرها أن تتكلم فقالت: يا روح الله أنا بلوام بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة، وولد لي ألف ذكر وافتضضت ألف بكر، وهزمت ألف عسكر وقتلت ألف جبار، وافتتحت ألف مدينة، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا فما كانت إلا كحلم نائم! فبكى عيسى عليه السلام. ووجد مكتوباً على قصر بعض الملوك، وقد باد أهله وأقفرت ساحته،

هذه الأبيات: هذي منازل أقوام عهدتهم يوفون بالعهد مذ كانوا بالذمم تبكي عليهم ديار كان يطربها ترنم المجد بين الحلم والكرم وقال عبد الله بن أبي سرح: نزل حي من أحياء العرب شعباً من شعاب اليمن، فتشاحوا فيه واختلفوا واستعدوا للقتال، فإذا صائح يصيح: يا هؤلاء على رسلكم علام القتال في؟ فوالله لقد ملكني سبعون أعور كلهم اسمه عمرو! فصل: يا أيها الرجل، اعتبر بمن مضى من الملوك والأقيال وخلا من الأمم والأجيال، وكيف بسطت لهم الدنيا وأنسئت لهم الآجال وأفسح لهم في المنى والآمال، وأمدوا بالآلات والعدد والأموال، كيف طحنهم بكلكله المنون واختدعهم بزخرفه الدهر الخؤون، وأسكنوا بعد سعة القصور بين الجنادل والصخور، وعاد العين أثراً والملك خبراً؟ فأما اليوم فقد ذهب صفو الزمان وبقي كدره، فالموت تحفة لكل مسلم، كأن الخير أصبح خاملاً والشر أصبح ناضراً، وكأن الغي أصبح ضاحكاً وأدبر الرشد باكياً، وكأن العدل أصبح غائراً وأصبح الجور عالياً، وكأن العلم أصبح مدفوناً والجهل منشوراً، وكأن اللؤم أصبح باسقاً والكرم ذاوياً، وكأن الود أصبح مقطوعاً والبغض موصولاً، وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين ونوجي بها الأشرار، وكأن الخبث أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح مثمراً والصدق قاحلاً، وكأن الأشرار أصبحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يردون بطن الأرض! أما ترى الدنيا تقبل إقبال الطالب وتدبر إدبار الهارب، وتصل وصال الملول وتفارق فراق العجول، فخيرها يسير وعيشها قصير، وإقبالها خديعة وإدبارها فجيعة، ولذاتها فانية وتبعاتها باقية، فاغتنم غفوة الزمان وانتهز فرصة الإمكان، وخذ من نفسك لنفسك وتزود من يومك لغدك، ولا تنافس أهل الدنيا في خفض عيشهم ولين رياشهم، ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم! قال الشاعر: رب مغروس يعاش به عدمته عين مغترسه وكذاك الدهر مأتمه أقرب الأشياء من عرسه وقال التهامي: تنافس في الدنيا غروراً وإنما قصارى غناها أن يؤول إلى الفقر وإنا لفي الدنيا كركب سفينةٍ نظن وقوفاً والزمان بنا يجري ولبعض الشعراء: تروح لك الدنيا بغير الذي غدت ويحدث من بعد الأمور أمور وتجري الليالي باجتماع وفرقةٍ وتطلع فيها أنجم وثغور فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور! عفا الله عمن صير الهم واحداً وأيقن أن الدائرات تدور وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض كتب الأنبياء عليهم السلام أن المسيح عليه السلام اجتاز بجمجمة هائلة عظيمة نخرة، فقال له أصحابه: يا روح الله لو سألت الله تعالى أن ينطق هذه الجمجمة، فعسى أن تخبرنا بما رأته من العجائب، ففعل فأنطقها الله تعالى، فقالت: يا روح الله إني عشت ألف سنة

واستولدت ألف ذكر، وافتتحت ألف مدينة وهزمت ألف جيش، وقتلت ألف جبار وصبحت الدهر واختبرته، وامتحنت تقلبه وانقلابه فلم أر شيئاً أشد من طالح يلي أمر صالح، ولم أجد لهذا الدهر شيئاً أنفع من الصبر ومسالمة أهله إلا في الحرص والطمع، ووجدت العز في الرضا بالقسم، وقال محمد بن أبي العتاهية آخر شعر قاله في مرض موته: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني وكم من زلة لي في الخطايا وأنت علي ذو فضل ومن إذا فكرت في قدمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني أجن لزهرة الدنيا جنوناً وأقطع طول دهري بالتمني وبين يدي ميقات عظيم كأني قد دعيت له كأني ولو أني صدقت الزهد فيها قلبت لأهلها ظهر المجن وقال ابن عباس رضي الله عنهما، لما وفد وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة! قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله. قال: لست أنساه بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يعظ الناس ويقول: أيها الناس اجتمعوا، فإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحر لا يغور. أقسم قس قسماً بالله قسم حق لا كذب فيه ولا إثم، لئن كان في الأرض رضى ليكونن سخطاً. إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا على حالهم فناموا! أيكم يروي شعره! فأنشدوه: في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر سكنوا البيوت فوطنوا إن البيوت هي المقابر أيقنت أني لا محال ة حيث صار القوم صائر ثم قال رجل: لقد رأيت من أمره عجباً، اقتحمت وادياً فإذا أنا بعين خرارة وروضة مدهامة وشجرة عادية، وإذا قس بن ساعدة قاعد في أصل الشجرة وبيده قضيب، وقد ورد على العين سباع كثيرة. فكلما ورد سبع على صاحبه ضربه بالعصا وقال: تنح حتى يشرب الذي ورد قبلك. فلما رأيت ذلك ذعرت ذعراً شديداً، فالتفت إلي وقال: لا تخف. فالتفت فإذا أنا بقبرين بينهما مسجد فقلت: ما هذان القبران؟ فقال: هما قبرا أخوي كانا يعبدان الله تعالى معي في هذا الموضع، وأنا أعبد الله بينهما حتى ألحق بهما، فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون في جيرتهم؟ فقال: ثكلتك أمك! أوما علمت أن ولد إسماعيل تركت دين أبيها واتبعت الأضداد وعظمت الأنداد؟ ثم تركني

وأقبل على القبرين، وقال: خليلي هبا طالما قد رقدتما أجدكما ما تقضيان كراكما أرى النوم بين العظم والجلد منكما كأن الذي يسقي العقار سقاكما ألم تعلما أني بسمعان مفرد وما لي فيه من خليل سواكما مقيم على قبريكما لست بارحاً طوال الليالي أو يجيب صداكما لأبكيكما طول الحياة وما الذي يرد على ذي غصة إن بكاكما كأنكما والموت أقرب غائب بروحي في قبريكما قد أتاكما فلو جعلت نفس لنفس وقايةً لجدت بنفسي أن تكون فداكما سلام وتسليم وروح ورحمة ومغفرة المولى على ساكنيكما وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن قس بن ساعدة يبعث أمة وحده. يعني أن كل أمة آمنت برسولها تبعث أمة وحدها لا يخالطها غيرها، ويبعث قس أيضاً وحده أمة لا يخالطه أحد. وروي أن المهدي نام يوماً فأنشد في منامه هذه الأبيات: كأني بهذا القصر قد باد أهله وأوحش منه ركنه ومنازله فلم يبق إلا ذكره وحديثه تنادي بليل معولات ثواكله فما أتت عليه عاشرة عشرة حتى مات. وأنشدنا القاضي أبو العباس الجرجاني رحمه الله بالبصرة هذه الأبيات: بالله ربك كم قصر مررت به قد كان يعمر باللذات والطرب طارت عقاب المنايا في جوانبه فصاح من بعده بالويل والحرب اعمل وكن طالباً للرزق في دعة فلا وربك ما الأرزاق بالطلب وأنشدني أيضاً: أيها الرافع البناء رويداً لن تذود المنون عنك المباني! إن هذا البناء يبقى وتفنى كل شيء أبقى من الإنسان! وقال الحكيم بن عمرو: قال أبو جعفر المنصور عند موته: اللهم إن كنت تعلم أني ارتكبت الأمور العظام جراءة مني عليك، فإنك تعلم أني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك: " شهادة أن لا إله إلا الله"، منا منك لا منا عليك. وكان سبب إحرامه من الخضراء أنه كان ذات يوم نائماً فأتاه آتٍ في منامه فقال: كأني بهذا القصر قد باد أهله وأوحش منه أهله ومنازله وصار عميد القصر من بعد بهجةٍ إلى تربة تسقي عليه جنادله فاستيقظ مرعوباً من نومه، ثم نام، فأنشد أيضاً هذه الأبيات: أبا جعفرٍ حانت وفاتك وانقضت سنوك وأمر الله لا بد واقع فهل كاهنٌ أعددته أو منجم أبا جعفرٍ عنك المنية دافعٌ فقال: يا ربيع ائتني بطهوري. فقام واغتسل ولبى وتجهز للحج ثم قال: يا ربيع ألقني في حرم الله تعالى. وأنشدني القاضي أبو العباس الجرجاني بالبصرة: إن كنت تسموا إلى الدنيا وزينتها فانظر إلى ملك الأملاك قارون

زم الأمور فأعطته مقاودها وسخر الناس بالتشديد واللين حتى إذا ظن أن لا شيء غالبه ومكنت قدماه أي تمكين راحت عليه المنايا روحة تركت ذا الملك والعز تحت الماء والطين وأنشدني أبو محمد التميمي ببغداد: لمن أبني لمن أسم المطايا لمن استأنف الشيء الجديد؟ إذا ما صار إخواني رفاتاً وصرت لفقدهم فرداً وحيداً أعانق معشراً لهم شكول وأشكالي قد اعتنقوا اللحود! وممن زهد في الدنيا وأبصر عيوبها من أبناء الملوك أبو عقال علوان بن الحسن، من بني الأغلب وهم ملوك المغرب، وكان ذا نعمة وملك وله فتوة ظاهرة، فتاب إلى ربه ورجع عن ذلك رجوعاً فاق نظراءه، فرفض المال والأهل وهجر النساء والوطن، وبلغ من العبادة مبلغاً أربى فيه على المجتهدين، وعرف بإجابة الدعوة، وكان عالماً أديباً قد صحب عدة من أصحاب سحنون وسمع منهم، ثم انقطع إلى بعض السواحل فصحب رجلاً يكنى أبا هارون الأندلسي منقطعاً متبتلاً إلى الله. فلم ير منه كبير اجتهاد في العمل. فبينا أبو عقال يتهجد في بعض الليالي وأبو هارون نائم إذ غالبه النوم فقال لنفسه: يا نفس هذا عابد جليل القدر ينام الليل كله وأنا أسهر الليل كله، فلو أرحت نفسي! فوضع جنبه فرأى في منامه شخصاً فتلا عليه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً} (الجاثية: 21) إلى آخر الآية. فاستيقظ فزعاً وعلم أنه المراد فأيقظ أبا هارون وقال له: سألتك بالله هل أتيت كبيرة قط؟ قال: لا يا ابن أخي ولا صغيرة عن تعمد والحمد لله. فقال أبو عقال: لهذا تنام ولا يصلح لمثلي إلا الكد والاجتهاد. ثم رحل إلى مكة ولزم بيت الله الحرام وحج مراراً وأربى على عباد المشرق. وكان يعمل بالقربة على ظهره لقوته ومات بمكة وهو ساجد في صلاة الفريضة بالمسجد الحرام سنة ست وتسعين ومائتين. وقال له رجل كان يصحبه يوماً: لي إليك حاجة. فقال بعد الجهد به: حاجتك مقضية. قال: إن كانت لك شهوة أخبرني بها. قال: نعم أشتهي أن آكل رأساً. فاشتريت له رأسين ولففتهما في رقاق وجئته بهما، ثم سألته بعد ذلك بأيام: هل طاب لك الرأسان؟ قال: لا، ما هو إلا أن فتحتهما فإذا هما محشوان دوداً ليس فيهما لحم البتة إلا الدود! فأتيت الرواس فأخبرته فأطرق متعجباً ثم قال: ما كنت أظن أن في زماننا أحداً يحتمي من الحرام هذه الحماية، تلك الرؤوس كانت من غنم انتهبها بعض العمال. ثم أعطاني رأسين من غير تلك الغنم فأتيت بهما أبا عقال فأكلهما، وأخبرته بما قاله الرواس فبكى ثم قال: يا رب ما كان يستحق عبدك أبو عقال مثل هذه الحماية، ولكنه يا رب فضلك وكرمك فلك علي يا رب أن لا آكل طعاماً بشهوة أشتهيها حتى ألقاك إن شاء الله! وكانت له أخت متعبدة، فلما مات لحقت قبره بمكة وكتبت عليه هذه الأبيات: ليت شعري ما الذي عاينته بعد دوم الصوم مع نفي الوسن؟ مع عزوب النفس عن أوطارها والتخلي عن حبيب وسكن يا شقيقاً ليس في وجدي به علة تمنعني من أن أجن وكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلى عليهن الحزن

وروي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله لبنة من جدار تلك الأرض فقالت: إني كنت ملكاً من ملوك ملكت الدنيا ألف سنة ثم مت وصرت رميماً ألف سنة، فأخذني خزاف واتخذني خزفاً، ثم أخذني وضربني لبناً وأنا في هذا الجدار منذ كذا وكذا سنة، فلم تتنازعا في هذه الأرض؟ ولبعضهم: ألا حي من أجل الحبيب المغانيا لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا حنتك الليالي بعدما كنت مدة سوي العصا لو كن يبقين باقيا ومن أعجب ما روي في الإسرائيليات أن ابنة من بنات الملوك تزهدت في الدنيا، وتابت وخرجت من ملكها فتفقدت فلم يسمع لها خبر ولا علم لها أثر، وكان هناك دير للمتعبدين فلحق بهم شاب يتعبد، فأبصروا منه الاجتهاد والجد في العمل وملازمة الأوراد ومواصلة الأعمال، مما فاق به جميع من في الدير، وأقام على ذلك ما شاء الله إلى أن انقضت أيامه ووافاه حمامه، وقضى الفتى نحبه فحزن عليه أهل الدير من الزهاد والعباد والمنقطعين وأذروا عليه الدموع، ثم أخذوا في غسله فإذا هو امرأة ففحصوا عن أمره فإذا هي بنت الملك، فزادهم ذلك إعجاباً به وتعظيماً، وتشاوروا في أمره ماذا يحدثون له من الكرامة، ثم أجمع رأيهم على أن لا يدفنوه تحت الثرى، وأن يحملوه فوق أكفهم فغسلوه وكفنوه وجهزوه وصلوا عليه، ثم أقبلوا يحملونه على الأكف والسواعد كلما ضجر واحد جاء واحد يحمل مع من يحمل، وكل من انقطع في الدير لعبادة ربه جعل يحمل معهم إلى أن بلي وتقطعت أوصاله مع طول الزمان، فدفن حينئذ رحمه الله. وكان في بلاد الروم مما يلي أرض الأندلس رجل نصراني قد بلغ من التخلي عن الدنيا مبلغاً عظيماً، واعتزل الخلق ولزم قلل الجبال والسياحة في الأرض إلى الغاية القصوى، فورد على المستعين بن هود في بعض الأمر فأكرمه ابن هود ثم أخذ بيده وجعل يعرض عليه ذخائر ملكه وخزائن أمواله، وما حوته من البيضاء والصفراء وأحجار الياقوت والجواهر وأمثالها، ونفائس الأعلاق والجواري والحشم والأجناد والكراع والسلاح، فأقام على ذلك أياماً، فلما انقضى قال له: كيف رأيت ملكي؟ قال: رأيت ملكك ولكنه تعوزك فيه خصلة إن أنت قدرت عليها تم انتظام ملكك، وإن لم تقدر عليها فهذا الملك شبه لا شيء. قال: وما هي الخصلة؟ قال: تعمد فتصنع غطاءاً عظيماً حصيناً قوياً، وتكون مساحته قدر البلد ثم تركبه على البلد حتى لا يجد ملك الموت مدخلاً إليك. فقال المستعين: سبحان الله، أويقدر البشر على مثل هذا؟ فقال العلج: يا هذا أفتفتخر بأمر تتركه غداً؟ ومثال من يفتخر بما يفنى كمن يفتخر بما يراه في النوم. وروي أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وقال: انظروا من عاب منه شيئاً فأصلحوه وأعطوه درهمين، فأتاه رجل فقال: إن في هذا القصر عيبين. قال: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر! قال: صدقت! ثم أقبل على نفسه وترك الدنيا. ومن عجائب أخبار الخضر عليه السلام، قال: سئل الخضر عليه السلام عن أعجب شيء رأيته في الدنيا في طول سياحتك وكثرة خلواتك وقطعك القفار والفلوات؟ فقال: أعجب ما رأيت أني مررت على مدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعضهم: متى بنيت هذه المدينة؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا وأجدادنا متى بنيت وما زالت كذلك من عهد الطوفان. ثم غبت عنها نحواً من خمسمائة عام وعبرت عليها بعد ذلك فإذا هي خاوية على عروشها، لم أر أحداً أسأله عنها، وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت: أين المدينة التي كانت ههنا؟ فقالوا: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أن ههنا قط كانت مدينة. فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون

يخرجون منه شبه الحلية، فقلت لبعض الغواصين: منذ كم كان هذا البحر ههنا؟ فقالوا: سبحان الله ما يذكر آباؤنا وأجدادنا إلا أن هذا البحر منذ بعث الله الطوفان. ثم غبت عنها نحواً من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا ذلك البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة ملتفة بالقصب والبردى والسباع حولها، وإذا صيادون يصيدون السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم: أين البحر الذي كان ههنا؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا قط بحر. فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام ثم أتيت إلى ذلك الموضع، فإذا هو مدينة على حالته الأولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة. فقلت لبعضهم: أين الغيضة التي كانت ههنا ومتى بنيت هذه المدينة؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها منذ بعث الله الطوفان. فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا عاليها سافلها، وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحداً أسأله، ثم رأيت راعياً فسألته: أين المدينة التي كانت ههنا ومتى حدث هذا الدخان؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا الموضع كان هكذا منذ كان! فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي في الدنيا، فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد، ووارث الأرض ومن عليها إلى يوم التناد! شعر: قف بالديار فهذه آثارهم تبكي الأحبة حسرة وتشوقا كم قد وقفت بها أسائل مخبراً عن أهلها أو ناطقاً أو مشفقا فأجابني داعي الهوى في رسمها: فارقت من تهوى فعز الملتقى! وسمعت بالعراق منشداً ينشد هذه الأبيات: أيها الربع الذي قد دثرا كان عيناً ثم أضحى أثرا أين سكانك ماذا فعلوا خبرن عنهم سقيت المطرا! ولقد نادى مناديهم بنا: رحلوا واستودعوني عبرا ومما استحسن في هذا الباب قول القائل: رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفاً ودهراً صالحاً فبكت حزناً فهاجت حزني فبكائي ربما أرقها وبكاها ربما أرقني فإذا تسعدني أسعدها وإذا أسعدها تسعدني ولقد تشكو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني ونظر رجل من العباد إلى باب ملك الملوك وقد شيده وأتقنه وزوقه، فقال: باب جديد وموت عتيد ونزع شديد وسفر بعيد! ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً فيوماً! فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه ولا نتمنى عنده ما هم فيه. وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع، هل يتوقع أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟ وقال عيسى بن مريم عليه السلام: أوحى الله تعالى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مري على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم. وهذا الحرف يروى بكسر الميم من المرارة. وقال مورق العجلي: ابن آدم، في كل يوم تؤتى رزقك وأنت تحزن وينقضي عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك، فلا بقليل تقنع

ولا بكثير تشبع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه: أيها الناس إن الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى، وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد، وفي ذلك عباد الله ما ألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات. وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح، كلما ازداد صاحبه شرباً ازداد عطشاً، وكالكأس من العسل في أسفله السم، فللذائق منه حلاوة عاجلة، وفي أسفله الموت الزعاف، وكأحلام النائم التي تفرحه في منامه، فإذا استيقظ انقطع الفرح، وكالبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب وشيكاً ويبقى راجيه في الظلام مقيماً، وكدودة الإبريسم التي لا يزداد الإبريسم على نفسها لفاً إلا ازدادت من الخروج بعداً؛ وفيه قيل: كدود كدود القز ينسج دائماً ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه ومثال من يستعجل زهرة الدنيا ويعرض عن الدار الأخرى مثال رجلين لقطا من الأرض حبتي عنب، فأما أحدهما فجعل يمص الحبة التذاذاً بها ثم بلعها، وأما الآخر فزرع الحبة فلما كان بعد زمان التقيا، فإذا الذي زرع الحبة قد صارت له كرما وكثرت ثمرته، وفكر الآخر في صنعه بالحبة فوجدها قد صارت عذرة ليس عنده منها إلا الحسرة على تفريطه والغبطة لصاحبه. وقال وهب بن منبه رضي الله عنه: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: إن أردت أن تسكن معي في حضيرة القدس، فكن في الدنيا وحيداً فريداً مهموماً وحشياً، بمنزلة الطير الوحداني الذي يظل في الأرض الفلاة، ويأكل من رؤوس الشجر ويشرب من ماء العيون، فإذا كان الليل آوى وحده ولم يأو مع الطير استئناساً بربه. ولبعضهم: كم للحوادث من صروف عجائبٍ ونوائب موصولة بنوائب ولقد تقطع من شبابك وانقضى ما لست أحسبه إليك بآيب تبغي من الدنيا الكثير وإنما يكفيك منها مثل زاد الراكب قال مالك بن أنس رضي الله عنه: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام انتهى إلى قرية قد خربت حصونها وجفت أنهارها وتشعث شجرها فنادى: يا خرب أين أهلك؟ فلم يجبه أحد. ثم نادى: يا خرب أين أهلك؟ فنودي: عيسى بن مريم، بادوا وتضمنتهم الأرض وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة، عيسى بن مريم فجد. قال مالك: سئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها هريمة: أي عذاب الله رأيت أشد؟ قالت: كل عذاب الله شديد، وسلام الله أو رحمته على ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير تحملها الرياح بين السماء والأرض. وقال مجاهد: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه لخرقه، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خده. ومر بعض الملوك ببقراط الحكيم وهو نائم فركضه برجله وقال: قم! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه، فقال له الملك: أوما تعرفني؟ فقال: لا، ولكن أرى فيك طبع الدواب فإنها تركض برجلها! فغضب وقال: أتقول لي مثل هذا وأنت عبدي؟ فقال له بقراط: بل أنت عبد عبدي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن شهواتك قد ملكتك وأنا ملكت الشهوات! قال: فأنا الملك بن الأملاك السادة، أملك من البلاد كذا ومن الأموال كذا، ومن الرجال كذا! فقال: أراك تفتخر علي بما ليس من نفسك، وإنما سبيلك أن تفتخر بنفسك،

ولكن تعال نخلع ثيابنا ونلبس جميعاً ثوباً مما في هذا النهر ونتكلم فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول! فانصرف الملك خجلاً. وها أنا أحكي لك أمراً أصابني طيش عقلي وبلبل حزمي وقطع نياط قلبي، فلا يزال مرآة لي حتى يواريني التراب. وذلك أني كنت يوماً بالعراق وأنا أشرب ماء، فقال لي صاحب لي وكان له عقل: يا فلان لعل هذا الكوز الذي تشرب فيه الماء قد كان إنساناً يوماً من الدهر، فمات فصار تراباً فاتفق للفخاري أن أخذ تراب القبر فصيره خزفاً وشواه بالنار، فانتظم كوزاً كما ترى وصار آنية يمتهن ويستخدم بعدما كان بشراً سوياً يأكل ويشرب وينعم ويلذ ويطرب. فإذا الذي قاله من الجائزات، فإن الإنسان إذا مات عاد تراباً كما كان في النشأة الأولى، ثم قد يتفق أن يحفر لحده ويعجن بالماء ترابه فيتخذ منه آنية تمتهن في البيوت أو لبنة تبنى في الجدار، أو يطين به سطح البيت أو يفرش في الدار فيوطأ بالأقدام، أو يجعل طيناً على الجدار. وقد يجوز أن تغرس عند قبره شجرة فيستحيل تراب الإنسان شجرة وورقاً وثمرة، فترعى البهائم أوراقها ويأكل الإنسان ثمرتها، فينبت منها لحمه وينتشر منها عظمه، أو تأكل تلك الثمرات الحشرات والبهائم، فبينما كان يقتات صار قوتاً، وبينما كان يأكل صار مأكولاً ثم يعود في بطن الأرض رجيعاً يقذف به في بيت الرحاضة أو بعراً ينبذ بالعراء، ويجوز إذا حفر قبره أن تسفي الريح ترابه فتفرق أجزاءه في بطون الأودية والتلول والوهاد، أليس في هذا ما أذهب العقول وطيش الحلوم، ومنع اللذات وهان عنده مفارقة الأهلين والأموال واللحوق بقلل الجبال، والأنس بالوحوش حتى يأتي أمر الله على الفريقين؟ أليس في هذا ما صغر الدنيا وما فيها؟ أليس في هذا ما حقر الملك عند من عظمه والمال عند من جمعه؟ أليس في هذا ما زهد في اللذات وسلى عن الشهوات؟ وقال مسعر: كم من مستقبل يوماً لا يستكمله ومنتظر غداً وليس من أجله، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. ولما بنى المأمون بن ذي النون، وكان من ملوك الأندلس، قصره وأنفق فيه بيوت أمواله، فجاء على أكمل بنيان في الأرض، وكان من عجائبه أنه صنع فيه بركة ماء كأنها بحيرة، وبنى في وسطها قبة وسيق الماء من تحت الأرض حتى علا إلى رأس القبة على تدبير قد أحكمه المهندسون، وكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطاً بها متصلاً بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكباً لا يفتر والمأمون قاعد فيها، فروي عنه أنه بينما هو نائم إذ سمع منشداً ينشد هذه الأبيات: أتبني بناء الخالدين وإنما مقامك فيها لو عقلت قليل لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كل يوم يقتضيه رحيل فلم يلبث بعدها إلا يسيراً حتى قضى نحبه. ووجد مكتوباً على قصر قد باد أهله وأقفرت منازله: هذي منازل أقوام عهدتهم في خفض عيش نفيس ما له خطر صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا إلى القبور فلا عين ولا أثر وللشريف الرضي: ولقد مررت على ديارهم وطلولها بيد البلى نهب فوقفت حتى عج من تعب نضوي وضج بعدني الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت عنها الطلول تلفت القلب ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما تعدت هذا البيت وهو: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأصابع وروي أن الحجاج قال في خطبته: أيها الناس إن ما بقي من الدنيا أشبه بما بض من الماء،

ولو أعطيت ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه ما قبلته، فكيف آسى على ما بقي منها! وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للدنيا ولابن آدم عند الموت، كمثل رجل له ثلاثة أخلاء، فلما حضره الموت قال لأحدهم: قد كنت لي خلاً مكرماً مؤثراً وقد حضرني من أمر الله تعالى ما ترى، فماذا عندك؟ فيقول: هذا أمر الله غلبني عليك ولا أستطيع أن أنفس كربك، ولكن ها أنا بين يديك فخذ مني زاداً ينفعك. ثم قال للثاني: قد كنت عندي آثر الثلاثة، وقد نزل بي أمر الله تعالى ما ترى، فماذا عندك؟ فيقول: هذا أمر الله تعالى غلبني عليك ولا أستطيع أن أنفس كربك، ولكن ها سأقوم عليك في مرضك، فإذا مت أنقيت غسلك وجودت كسوتك وسترت جسدك وعورتك. ويقول للثالث: قد نزل بي أمر الله تعالى ما ترى، وأنت أهون الثلاثة علي فماذا عندك؟ فيقول: إني قرينك وحليفك في الدنيا والآخرة، أدخل معك قبرك حين تدخله وأخرج منه حين تخرج ولا أفارقك أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأول ماله والثاني أهله والثالث عمله. ولما لقي ميمون بن مهران الحسن البصري قال له: قد كنت أحب لقاءك فعظني. فقرأ الحسن: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ*مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (الشعراء207: 205) . فقال: عليك السلام أبا سعيد لقد وعظت أحسن موعظة، واعجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى الأولى! واعجباً كل العجب للمكذب بالنشور وهو يموت كل ليلة ويحيا! واعجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور! واعجباً كل العجب للمختال الفخور وإنما هو خلق من نطفة ثم يعود جيفة، وهو بين ذلك لا يدري ما يفعل به! وروي أن الله تعالى أوحى إلى آدم عليه السلام قال: جماع الخير كله في أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس. فأما التي لي فأن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً. وأما التي لك فاعمل ما شئت فإني أجزيك به. وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة. وأما التي بينك وبين الناس فكن لهم كما تحب أن يكونوا لك. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، ولم نجد شيئاً أفضل من خشية الله تعالى في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وكتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي إلي بكتاب توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة: سلام عليك. أما بعد. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام. ولما ضرب ابن ملجم علياً رضي الله عنه أدخل منزله فاعترته غشية ثم أفاق، ودعا الحسن والحسين فقال: أوصيكما بتقوى الله تعالى والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، اعملا الخير وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ثم دعا محمداً وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: بلى. قال: فإني أوصيك به وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما وقال: أوصيكما به خيراً فإنه سيفكما وابن أبيكما، وأنتما تعلمان أن أباه كان يحبه فأحباه. ثم قال له: يا بني أوصيك بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى، والغضب والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدة والرخاء. يا بني ما شر بعده الجنة بشر ولا خير بعده

النار بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية. يا بني من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل السيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن كشف حجاب أخيه انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار. يا بني الأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين. يا بني العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء. يا بني زينة الفقر الصبر وزينة الغنى الشكر. يا بني لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية. الحرص مفتاح التعب ومطية النصب، والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد! طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله وحبه وبغضه. وأخذه وتركه وكلامه وصمته وقوله وفعله! وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما طعن دعا بلبن فشرب منه فخرج من طعنته فقال: الله أكبر. فجعل جلساؤه يثنون عليه فقال: وددت أني أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها، لو أن لي اليوم ما طلعت عليه الشمس وغربت لافتديت به من هول المطلع! قال ابن عمر: ولما احتضر عمر غشي عليه فأخذت رأسه فوضعته في حجري فقال: ضع رأسي بالأرض لعل الله يرحمني. فمسح خديه من التراب وقال: ويل لعمر وويل لأمه إن لم يغفر له! فقلت: وهل حجري والأرض إلا سواء يا أبتاه؟ فقال: ضع رأسي بالأرض لا أم لك كما آمرك! فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي فإنما هو خير تقدمون إليه أو شر تضعونه عن رقابكم! ثم بكى فقيل له: وما يبكيك؟ قال: خبر السماء لا أدري إلى جنة ينطلق بي أو إلى نار. ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت وأنعمت علي فأفضلت، فإن عفوت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت، ألا إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قضى نحبه. ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له! ودخل على المأمون في مرضه الذي مات فيه، فإذا هو قد أمر أن يفرش له جل الدابة ويبسط عليه الرماد، وهو راقد عليه يتضرع ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من يزول ملكه. وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مر على طائر واقع على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تطير وتقع على الشجر وتأكل من الثمر وليس عليك حساب ولا عقاب! يا ليتني كنت مثلك والله لوددت أني شجرة إلى جنب الطريق فمر علي بعير، فأخذني فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعراً ولم أك بشراً! وقال عاصم بن عبيد الله: أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبنة من الأرض فقال: يا ليتني مثل هذه التبنة! يا ليتني لم تلدني أمي! يا ليتني كنت نسياً منسيا! وقال ابن مسعود: وددت أني طائر في منكبي ريش!

الباب الثاني: في مقامات العلماء والصالحين عند الأمراء والوزراء والسلاطين

وسمع رجلاً يقول: يا ليتني كنت من أصحاب اليمن، فقال ابن مسعود: يا ليتني إذا مت لم أبعث. وقال عمران بن الحصين: وددت أني رماد تسفيني الرياح في يوم عاصف. وقال أبو الدرداء: يا ليتني كنت شجرة تعضد ويؤكل ثمري ولم أك بشراً. وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة فإذا هو بقبر قال: قبر من هذا؟ قالوا: قبر خباب بن الأرت. فوقف عليه وقال: رحم الله خباباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه آخراً، ألا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً. ثم مضى فإذا قبور فجاء حتى وقف عليها فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن تبع وبكم عما قليل لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب، وقنع بالكفاف ورضي عن الله تعالى. ثم قال: يا أهل القبور، أما الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى. الباب الثاني: في مقامات العلماء والصالحين عند الأمراء والوزراء والسلاطين دخل الأحنف بن قيس على معاوية وعليه شملة ومدرعة صوف. فلما مثل بين يديه اقتحمته عينه فأقبل عليه فقال: مه! فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الدخول، فالمكثر منها قد أطرق والمقل منها قد أملق. وبلغ به المخنق؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير ويجبر الكسير ويسهل العسير، ويصفح عن الدخول ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء ويزيل اللأواء. ألا وإن السيد من يعم ولا يخص، ويدعو الجفلى ولا يدعو النقرى، إن أحسن إليه شكر وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء الرعية عماداً يدفع عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات. فقال معاوية: ها هنا يا أبا بحر، ثم قرأ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (محمد: 30) . وقال سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان. فوضعوا لي المرصد حول البيت فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه أدناني ثم قال: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمورنا، فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه؟ فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري لي أمناء ووكلاء. قلت: فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حج قال لغلامه: كم أنفقنا في سفرتنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً. فقال: ويحك، أجحفنا بيت مال المسلمين! وقال الزهري: ما سمعت بأحسن من كلام تكلم به رجل عند سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين اسمع مني أربع كلمات، فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك. قال: ما هن؟ قال: لا تعد أحداً عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى سهلاً إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب، وللدهر ثورات فكن على حذر. ولما دخل ابن السماك على هارون قال له: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يرض لخلافته في عباده غيرك، فلا ترض من نفسك إلا ما رضي به عنك، فإنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الناس بذلك. يا أمير المؤمنين من طلب فكاك رقبته في مهلة من أجله كان خليقاً أن يعتق نفسه. يا أمير المؤمنين من أذاقته الدنيا حلاوتها بركون منه إليها، أذاقته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها.

يا أمير المؤمنين ناشدتك الله أن تقدم على جنة عرضها السماوات والأرض، وقد دعيت إليها وليس لك فيها نصيب. يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتحاسب وحدك، وإنك لا تقدم إلا على حالة نادم مشغول، ولا تخلف إلا مفتوناً مغروراً، وإنك وإيانا لفي دار سفر وجيران ظعن. ولما حج سليمان بن عبد الملك استحضر أبا حازم فقال له: تكلم يا أبا حازم. فقال: بم أتكلم؟ فقال: في الخروج من هذا الأمر. قال: يسيران أنت فعلته. قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى على ذاك؟ قال: من قلده الله من الأمر ما قلدك. قال: عظني يا أبا حازم. قال: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من قبلك، وهو خارج عنك بمثل ما صار إليك. ثم قال: يا أمير المؤمنين نزه ربك في عظمته عن أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. يا أمير المؤمنين إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر لنفسك أيهما شئت. قال: فما لك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، وليس عندي ما أخافك عليه ولا عندك ما أرجوك له. قال: فارفع إلي حوائجك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت، يقول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 32) . فمن ذا الذي يستطيع أن ينقص من كثير ما قسم الله، أو يزيد في قليل ما قسم الله؟ قال: فبكى سليمان بكاء شديداً فقال رجل من جلسائه: أسأت إلى أمير المؤمنين! فقال له أبو حازم: اسكت! فإن الله تعالى أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. ثم خرج من عنده فلما وصل إلى منزله بعث إليه بمال فرده وقال للرسول: قل له يا أمير المؤمنين، والله ما أرضاه لك فكيف أرضاه لنفسي؟ وقال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد، فبينما أنا نائم ليلة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أجب أمير المؤمنين! فخرجت مسرعاً فإذا هو أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، انظر لي رجلاً أسأله. فقلت له: ههنا سفيان بن عيينة. قال امض بنا إليه. فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: خذ لما جئنا له. فحادثه ساعة ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. فقال: يا عباس اقض دينه، ثم انصرفنا. فقال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، فانظر لي رجلاً أسأله. ههنا عبد الرزاق بن همام. فقال امض بنا إليه نسأله. فأتيناه فقرعنا عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فخرج يصلي في غرفته يتلو آية من كتاب الله تعالى وهو يرددها، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أوما عليك طاعته؟ أوليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي فقال: أواه من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال: خذ لما جئنا له يرحمك

الله. فقال: وفيم جئت؟ حطبت على نفسك وجميع من معك حطبوا عليك، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يتحملوا عنك شقصاً من ذنب ما فعلوا، ولكان أشدهم حباً لك أشدهم هرباً منك. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة، دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي؛ فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال هل سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فبر أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت. وإني لأقول لك هذا وأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء القوم من يأمرك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين! فقال: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم أفاق فقال: زدني. فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائماً أو يقظاناً، وإياك أن تزل قدمك عن هذه السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك. فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم إليه، فقال عمر: ما أقدمك؟ فقال له: خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى! فبكى هارون بكاء شديداً ثم قال: زدني. فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم جاءه فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة. فقال له صلى الله عليه وسلم: يا عباس يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل. فبكى هارون بكاء شديداً. ثم قال: زدني يرحمك الله! فقال: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة. فبكى هارون بكاء شديداً، ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي! قال: إنما أعني دين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذريات58: 56) . فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادة ربك. فقال: سبحان الله! أنا أدلك على سبيل النجاة، وتكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده، فقال لي هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم! وروي أن امرأة من نسائه دخلت عليه فقالت: يا هذا، أما ترى ما نحن فيه من ضيق الحال؟ فلو قبلت هذا المال لفرجت به عنا. فقال: إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، موتوا يا أهلي جوعاً ولا تذبحوا فضيلاً. فلما سمع الرشيد ذلك قال: أدخل فعسى أن يقبل المال. قال: فدخلنا عليه،

فلما علم بنا الفضيل خرج وجلس على التراب على السطح، فجلس هارون إلى جانبه فجعل يكلمه وهو لا يجيبه، فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أذيت الشيخ هذه الليلة، فانصرف يرحمك الله! فانصرفنا. ووعظ شبيب بن شيبة المنصور فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يجعل فوقك أحداً، فلا تجعل فوق شكرك شكراً. ودخل عمرو بن عبيد على المنصور فقرأ: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر2: 1) حتى بلغ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14) ، لمن فعل مثل فعالهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين فإن بأبوابك ناراً تأجج، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنة رسول الله، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك! أما والله لو علم عمالك أنه لا يرضيك منهم إلا العدل لتقرب به إليك من لا يريده. فقال له سليمان بن مجالد: اسكت! فقد غممت أمير المؤمنين. فقال عمرو: ويحك يا ابن مجالد! أما كفاك أنك خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين حتى أردت أن تحول بينه وبين من ينصحه؟ اتق الله يا أمير المؤمنين فإن هؤلاء قد اتخذوك سلماً إلى شهواتهم، فأنت كالماسك بالقرون وغيرك يحلب، وإن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئاً! وقال الأوزاعي للمنصور في بعض كلامه: يا أمير المؤمنين، أما علمت أنه كان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يابسة يستاك بها ويردع بها المنافقين، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك اقذفها لا تملأ قلوبهم رعباً؟ فكيف من سفك دماء المسلمين وشق أبشارهم ونهب أموالهم؟ إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدشة خدشها أعرابياً عن غير عمد، فقال له جبريل عليه السلام: إن الله لم يبعثك جباراً تكسر قلوب رعيتك! يا أمير المؤمنين لو أن ثوباً من النار صب على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتقمصه؟ ولو أن ذنوباً من النار صب على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف بمن يسلك فيها ويرد فضلها على عاتقه؟ ودخل بعض العقلاء على سلطان فقال له: إن أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسطت يداه بالقدرة، فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما عليك من الحق. وروي أن أعرابياً قام بين يدي هشام بن عبد الملك فقال له: أيها الأمير أتت على الناس سنون ثلاثة: أما الأولى فأكلت اللحم، وأما الثانية فأذابت الشحم، وأما الثالثة فهاضت العظم، وعندك فضول أموال فإن كانت لله فأقسمها بين عباد الله، وإن كانت لهم فلم تحظر عليهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. فأمر هشام بمال فقسم بين الناس وأمر للأعرابي بمال، فقال: أكل المسلمين له مثل هذا المال؟ قال: لا يقوم بذلك بيت المال. قال: لا حاجة لي فيما يبعث لأئمة الناس على أمير المؤمنين. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أذكر بمقامي هذا مقاماً لا يشغل الله عنك كثرة من تخاصم من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل ولا براءة من الذنب. فبكى عمر بكاء شديداً ثم استرده الكلام، فجعل يردده وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجتك؟ فقال: عاملك بأذربيجان أخذ مني اثني عشر ألف درهم. فقال: اكتبوها له حتى ترد عليه. ولما دخل زياد على عمر بن عبد العزيز قال: يا زياد ألا ترى إلى ما ابتليت به من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال زياد: يا أمير المؤمنين والله لو أن كل شعرة منك قطعت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج

مما أنت فيه يا أمير المؤمنين كيف حال رجل له خصم ألد؟ قال: سيئ الحالة. قال: فإن كان له خصمان ألدان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنيه عيش. قال: فو الله ما من أحد من أمة محمد إلا وهو خصمك! فبكى حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك. وقال محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين إنما الدنيا سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ربحوا فيها لآخرتهم وخرجوا بما يضرهم، فكم من قوم غرهم مثل الذي أصبحت فيه حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا مرملين، لم يأخذوا من الدنيا للآخرة، فأخذ مالهم من لا يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم؟ فانظر إلى الذي تحب أن يكون معك فقدمه بين يديك حتى تخرج إليه، وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت فابتغ به البدل حيث يجوز البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك ترجو رواجها عندك، يا أمير المؤمنين افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم. وحضر رجل بين يدي بعض الملوك فأغلظ له السلطان، فقال له الرجل: إنما أنت كالسماء إذا أرعدت وأبرقت فقد قرب خيرها? فسكن غضبه وأحسن إليه. ولما احتاج المنصور بن أبي عامر ملك الأندلس أن يأخذ أرضاً محبسة ويعاوض عنها خيراً منها، استحضر بعض الفقهاء إلى قصره فأفتوا بأنه لا يجوز، فغضب السلطان وأرسل إليهم رجلاً من الوزراء مشهوراً بالحدة والعجلة فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا شهود الزور وآخذي الرشا وملقني الخصوم، وملقحي الشرور وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لدى اتباع الشهوات، تباً لكم ولآرائكم! فهو أعزه الله واقف على فسوقكم قديماً وخونكم لأماناتكم مغضٍ عنه صابرٍ عليه، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجة مرة واحدة في دهره، فلم تشفعوا إرادته، ما كان هذا ظنه بكم، والله ليعارضنكم وليكشفن ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم! وأفحش عليهم بهذا ونحوه فأجابه شيخ منهم ضعيف الهمة فقال: نتوب إلى الله مما قاله أمير المؤمنين ونسأله الإقالة. فرد عليه زعيم القوم محمد بن إبراهيم بن حيويه وكان جلداً صارماً فقال للمتكلم: مم نتوب يا شيخ السوء؟ نحن براء من متابك! ثم أقبل على الوزير فقال: يا وزير بئس المبلغ أنت! وكل ما نسبته إلينا عن أمير المؤمنين فهو صفتكم معاشر خدمته، فأنتم الذين تأكلون أموال اليتامى بالباطل وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتنتجون معايشكم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق، وأما نحن فليست هذه صفاتنا ولا كرامة، ولا يقولها لنا إلا متهم بالديانة، فنحن أعلام الهدى وسرج الظلمة، بنا يتحصن الإسلام ويفرق بين الحلال والحرام وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق وتحقن الدماء وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب علينا أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ ما قاله، تأنيت بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمناه منك وأجبناك عنه بما يصلح الجواب له، وكنت تزين على السلطان ولا تفشي سره، ولا تحيينا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين لا يتمادى على هذا الرأي فينا، ولا يعتقد هذا المعتقد في صفاتنا، وإنه سيراجع بصيرته في إيثارنا وتعزيزنا، ولو كان عنده على هذه الحالة التي وصفتها عنا، والعياذ بالله تعالى من ذلك، لبطل عليه كل ما صنعه وعقده من أول خلافته إلى هذا الوقت، فلا يثبت له كتاب من حرب ولا سلم ولا شراء ولا بيع، ولا صدقة ولا حبس

ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا، هذا ما عندنا والسلام. ثم قاموا منصرفين فلم يكادوا يبلغوا باب القصر إلا والرسل تناديهم، فدخلوا القصر فتلقاهم الوزراء بالإعظام ورفعوا منازلهم واعتذروا إليهم مما كان من صاحبهم، وقالوا لهم: إن أمير المؤمنين يعتذر إليكم من فرط موجدته، ويستجير بالله من الشيطان الرجيم ونزعته التي حملته على الجفاء عليكم، ويعلمكم أنه نادم على ما كان منه إليكم، وهو مستبصر في تعظيمكم وقضاء حقوقكم، وقد أمر لكل واحد منكم بما ترون من صلته وكسوته علامة لرضاه عنكم، فدعوا له وقبضوا ما أمر لهم به وانصرفوا غالبين لم يمسسهم سوء. ولما نظر مالك بن دينار إلى المهلب بن أبي صفرة يجر أذياله ويتبختر في أثواب خيلائه، ناداه أن ارفع من ثيابك. فقال له المهلب: أوما تعرفني؟ قال له مالك: بلى إني أعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. ويروى أن رجلاً قال لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أخلي له المسعى، فقال له: لا جزاك الله عني خيراً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً! ثم جاء إليه فقال: يا هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من خلق الله تعالى؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلس فجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ فيقال إن هارون كان يقول بعد ذلك: إني أحب أن أحج في كل عام، وما يمنعني من ذلك إلا عبيد الله العمري. ويروى أن الحسن بن محمد بن الحسين دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له: يا عمر، ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان. فقال عمر: إيه أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة! وجثى على ركبتيه، فقال الحسن: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له. ولما ولي عمر بن عبد العزيز وفد عليه الوفود من كل بلد، فوفد عليه الحجازيون فتقدم منهم غلام للكلام، وكان حديث السن، فقال عمر: لينطق من هو أسن منك. فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بمجلسك هذا. فقال عمر: صدقت! قل ما بدا لك. غلام: أصلح الله أمير المؤمنين! نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة، وقد أتيناك لمن الله الذي من علينا بك، لم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتتنا منك في بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنا جورك بعدلك. فقال له عمر: عظني يا غلام! فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! إن ناساً غرهم حلم الله عليهم وطول أملهم، وكثرة ثناء الناس عليهم، فزلت بهم أقدامهم فهووا في النار، فلا يغرنك حلم الله عليك وطول أملك، وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل بك قدمك فتلتحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه الأمة! ثم سكت، فسأل الإمام عمر الغلام عن سنه، فإذا هو ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عن نسبه فإذا هو من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتمثل عمر عند ذلك بقول الشاعر: تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل

وفي مثل هذا قيل للعتابي، وكان لا يبالي بما لبس: ما لك لا تجيد الملبوس؟ فقال: إنما يرفع المرء أدبه وعقله لا حليته وحلته، لحى الله أمرأً يرضى أن ترفعه هيئته وجماله! لا والله حتى يشرفه أصغراه: لسانه وقلبه، ويعلو به أكبراه: همته ولبه. ولما دخل ضمرة بن ضمرة على المنذر بن المنذر وهو ملك، وكان ضمرة ذا رأي وعقل، احتقرته عينه لدمامته، فقال: لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! ثم قال ضمرة: أبيت اللعن! إن القوم ليسوا بجزرٍ تجزرن، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا نطق نطق ببيان، وإذا قاتل قاتل بجنان، والرجال لا تكال بالقفزان ولا توزن بالقبان. فأعجب المنذر بكلامه. وروي أن روح بن زنباع كان في طريق مكة في يوم شديد الحر مع أصحابه، فنزلوا وضربت لهم الخيام والظلال، وقدم إليهم الطعام والشراب المبرد. فبينما هم كذلك وإذا هم براع، فدعاه إلى الطعام فأبى وقال: إني صائم! فقال له روح: في مثل هذا اليوم الحار؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟ فقال له روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع. وروي أن أعرابياً قام بين يدي سليمان بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، إني مكلمك كلاماً فاحتمله إن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. فقال: هات يا أعرابي. فقال: إني سأطلق لساني بما خرست به الألسن لحق الله ولحق أمانتك! إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فأعظم الناس غبناً يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره! فقال له سليمان: أما أنت فقد نصحت، وأرجو أن الله يعين على ما قلدنا وقد جردت لسانك وهو سيفك. فقال: أجل يا أمير المؤمنين، وهو لك لا عليك! وقال بن أبي العروبة: حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعى بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل فإذا هو براع بين شملتين نائم فضربه برجله وقال له: ائت الأمير! فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. فقال: من هو؟ قال: الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم هو أشد حراً منه! قال: فافطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: لأنه طعام طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ ولكن طيبته العافية! ولما حج هارون الرشيد بعث إلى مالك بن أنس بكيس فيه خمسمائة دينار، فلما قضى نسكه وانصرف ودخل المدينة بعث إلى مالك بن أنس أن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدينة السلام. فقال للرسول: قل له إن الكيس بخاتمه. وقال الرسول عليه السلام: والمدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون. وقال وهب بن منبه رضي الله عنه: إن ملكاً كان يفتن الناس ويحملهم على أكل لحم الخنزير، فأتى برجل أفضل أهل زمانه فأعظم الناس مكانه وهالهم أمره، فراوده على أكل لحم الخنزير فرق له صاحب شرطة الملك وقال له: أنا آتيك بجدي تذبحه مما يحل لك أكله، وإذا دعا الملك بلحم الخنزير أتيتك به ففعل، ثم أتى به الملك فدعا بلحم الخنزير فأتى صاحب الشرطة بلحم ذلك الجدي، فأمر به الملك أن يأكله، فأبى أن يأكله، فجعل صاحب الشرطة يغمزه أن يأكله فأبى أن يأكله، فأمر صاحب الشرطة أن يقتله. فلما ذهب به قال: ما منعك أن تأكله وهو اللحم الذي أنت ذبحته؟ أظننت أني جئتك بغيره؟ قال: لا قد علمت أنه هو، ولكنني خفت أن يفتتن الناس بي، فإن أكرهوا على أكل لحم الخنزير قالوا قد أكله فلان، فيستن

بي فأكون فتنة لهم. فقتل رحمه الله. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا! قال: أوليس فيكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى يا كعب ولكن خوفنا! قال: يا أمير المؤمنين، اعمل عملاً وجل لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبياً لازدريت عملهم مما ترى. فأطرق عمر ملياً ثم أفاق فقال: يا كعب خوفنا! فقال: يا أمير المؤمنين، لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها! فبكى عمر ثم أفاق فقال: يا كعب زدنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة، فما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر على ركبتيه حتى يخر إبراهيم خليل الرحمن على ركبتيه يقول: يا رب إني لا أسألك اليوم إلا نفسي إلا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب أمتي أمتي لا أسألك غيرها! واستأذن ابن دهمان على بعض الأمراء فحجبه ثم أذن له، فلما دخل قال: إن هذا الأمر الذي صار إليك قد كان في يدي غيرك، فأمسوا والله حديثاً فإن خيراً فخير وإن شراً فشر، فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب وتسهيل الحجاب، فإن حب عباد الله موصول بحب الله وبغضهم موصول ببغضه، لأنهم شهداء الله على خلقه. ولما دخل محمد بن واسع سيد العباد في زمانه على بلال بن أبي بردة أمير البصرة، وكان ثوبه إلى نصف ساقه، قال له بلال: ما هذه الشهرة يا ابن واسع؟ فقال له ابن واسع: أنتم شهرتمونا، هكذا كان لباس من مضى وإنما أنتم طولتم ذيولكم فصارت السنة بينكم بدعة وشهرة. وأما أنا، فلما دخلت على الأفضل بن أمير الجيوش وهو ملك مصر فقلت: سلام عليكم ورحمة الله، فرد السلام على نحو ما سلمت رداً جميلاً، وأكرم إكراماً جزيلاً وأمرني بدخول مجلسه وأمرني بالجلوس فيه. فقلت: أيها الملك، إن الله سبحانه وتعالى قد أحلك محلاً عالياً شامخاً وأنزلك منزلاً شريفاً باذخاً، وملكك طائفة من ملكه وأشركك في حكمه، ولم يرض أن يكون أمر أحد فوق أمرك، فلا ترض أن يكون أحداً أولى بالشكر منك. وإن الله سبحانه قد ألزم الورى طاعتك فلا يكون أحد أطوع لك منك، وليس الشكر باللسان ولكنه بالفعال والإحسان. قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} (سبأ: 13) . واعلم أن هذا الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك بمثل ما صار إليك، فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل. قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر93: 92) . وقال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء: 47) . واعلم أيها الملك أن الله تعالى قد آتى ملك الدنيا بحذافيرها لسليمان بن داود عليهما السلام، فسخر له الإنس والجن والطير والشياطين والوحوش والبهائم، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم رفع عنه حساب ذلك أجمع فقال له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (صّ: 39) . فوالله ما عدها نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجاً من الله تعالى ومكراً به، فقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40) . فافتح الباب وسهل الحجاب وانصر المظلوم، أعانك الله على نصر المظلوم وجعلك كهفاً للملهوف وأماناً للخائف. ثم أتممت المجلس بأن قلت: قد دورت البلاد شرقاً وغرباً، فما اخترت مملكة تزوجت فيها وولد لي فيها غير هذه المملكة، ثم أنشدت: والناس أكيس من أن يحمدوا رجلاً حتى يروا عنده آثار إحسان وكتب حكيم إلى حكيم: إني سائلك عن ثلاثة أشياء إن أجبت عنها صرت لك تلميذاً: أي الناس

أولى بالرحمة، ومتى تضيع أمور الناس، وبم تتلقى النعمة من الله تعالى؟ فكتب إليه: إن أولى الناس بالرحمة ثلاثة: البر يكون في السلطان الفاجر، فهو الدهر حزين لما يرى ويسمع. والعاقل يكون في تدبير الجاهل، فهو الدهر متعوب مهموم. والكريم يحتاج إلى اللئيم فهو الدهر خاضع له. وتضيع أمور الناس إذا كان الرأي عند من لا يصله، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه. وتتلقى النعمة من الله تعالى بكثرة شكره ولزوم طاعته واجتناب معصيته. فصار تلميذاً له إلى أن مات. وقال يحيى بن سعيد: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفا على عقبة عسفان نظر سليمان إلى السرادقات قد ضربت له، فقال له: يا عمر كيف ترى؟ قال: أرى دنيا عريضة يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عنها المأخوذ بها. فبينما هو كذلك إذ طار غراب من سرادق سليمان في منقاره كسرة فصاح، فقال سليمان: ما يقول هذا الغراب؟ فقال عمر: ما أدري ما يقول، ولكن إن شئت أخبرتك بعلم. قال: أخبرني. قال: هذا غراب طار من سرادقك في منقاره كسرة، أنت بها مأخوذ مسؤول عنها من أين دخلت ومن أين خرجت؟ قال: إنك لتجيء بالعجب! قال: أفلا أخبرك بأعجب من هذا؟ قال: بلى. قال: من عرف الله كيف عصاه، ومن عرف الشيطان كيف أطاعه، ومن أيقن بالموت كيف يهنيه العيش؟ قال: لقد غشيت علينا ما نحن فيه. ثم ضرب فرسه وسار. ويروى أن بلال بن أبي بردة خرج في جنازة وهو أمير على البصرة، فنظر إلى جماعة وقوفاً فقال: ما هذا؟ قالوا: مالك بن دينار يذكر الناس. فقال الوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فأدى الرسالة إلى مالك فصاح به مالك: لا، ما لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما دفنوا ميتهم قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منها نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا يحيى ذكرنا. قال: نسيت شيئاً فأذكركه. قال له: فحدثنا. قال: أما هذا فنعم. قدم علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا بزنجي فدفناه إلى جنبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه وتعالى. فقال بلال: يا أبا يحيى أتدري ما الذي جرأك علينا وما الذي سكتني عنك؟ قال: لا. قال: لأنك لم تأخذ من دراهمنا شيئاً، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئاً ما اجترأت علي هذه الجرأة! فأفادني هذا الحديث علماً ألا فاتقوا دراهمهم. ودخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فقال: يا ابن شهاب ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثونا أن الله تبارك وتعالى إذا استرعى عبداً رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات! قال: كذبوا يا أمير المؤمنين! أنبي خليفة أقرب إلى الله أم خليفة ليس بنبي؟ قال: بل نبي خليفة. قال: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بما لا شك فيه، قال الله تعالى لنبيه داود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ: 26) . يا أمير المؤمنين، هذا وعيد الله لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟ فقال الوليد: إن الناس ليفرونا عن ديننا. وروى زياد بن مالك بن أنس، قال: لما بعث أبو جعفر إلى مالك بن أنس وابن طاوس فدخلا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وبين يديه جلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق عنا طويلاً ثم رفع رأسه إلى ابن طاوس

فقال: حدثني عن أبيك. قال: نعم سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في ملكه، فأدخل عليه الجور في حكمه! فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه؛ قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن ينتضح علي من دمه، ثم قال: يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم. وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت رجلاً يحدث عن ابن السماك. قال: بعث إلي هارون، فلما انتهيت إلى باب القصر أخذ حرسيان بضبعي فأعجلا بي في دهليز القصر، فلما انتهيت إلى باب القاعة لقيني خصيان ضخمان فأخذاني من الحرسيين فأعجلا بي في قاعة القصر، فانتهيت إلى البهو الذي هو فيه، فتلقاني خصيان دونهما فأخذاني فأعجلا بي في البهو، فقال لهما هارون: رفقاً بالشيخ. فلما وقفت بين يديه قلت له: يا أمير المؤمنين، ما مر بي يوم منذ ولدتني أمي أتعب من يومي هذا! فاتق الله في خلقه واحفظ محمداً في أمته، وانصح لنفس في رعيتك، فإن لك مقاماً بين يدي الله تعالى أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، فاتق الله واعلم أن من أخذ الله وسطواته على أهل المعصية كيت وكيت. قال: فاضطرب على فراشه حتى نزل إلى مصلى بين يدي فراشه. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذل الصفة فكيف لو رأيت ذل المعاينة؟ قال: فكادت نفسه تخرج فقال يحيى للخصيين: أخرجاه فقد أبكى أمير المؤمنين. ثم دخل مرة أخرى فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي أكرمك بما أكرمك به لحقيق عليك أن تحب ما أحبه وتبغض ما أبغضه، فوالله لقد أحب الله داراً وأبغضتها وأبغض داراً وأحببتها، فكأنما أردت خلاف ربك أو أردت سواه. واعلم يا أمير المؤمنين أن الذي في يديك لو بقي على من كان قبلك لم يصل إليك، فكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك، فاتق الله في خلافته واحفظ وصية محمد صلى الله عليه وسلم في أمته. ودخل هارون على بعض النساك فسلم عليه فقال: وعليك السلام أيها الملك! ثم قال له: أيها الملك تحب الله؟ قال: نعم. قال: فتعصيه؟ قال: نعم. قال: كذبت والله في حبك إياه! إنك لو أحببته إذا ما عصيته، ثم أنشد يقول: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع في كل يوم يبتديك بنعمة منه وأنت لشكر ذاك مضيع وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قلت لجعفر بن سليمان بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، والي المدينة: أحذر أن يأتي رجل غداً ليس له في الإسلام نسب ولا أب ولا جد، فيكون أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم منك، كما كانت امرأة فرعون أولى بنوح ولوط من زوجتيهما، وكما كانت زوجة لوط أولى بفرعون من زوجته، من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يبطئ به نسبه. وقال بشر بن السري: بينما الحجاج جالساً في الحجر إذ دخل رجل من أهل اليمن، فجعل يطوف فوكل به بعض من معه قال: إذا خرج من طوافه فائتني به، فلما فرغ أتاه به فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل اليمن. قال: لقد تركته أبيض بضاً سميناً طويلاً عريضاً! قال: ويلك، ليس عن هذا أسألك! قال:

الباب الثالث: فيما جاء في الولاة والقضاة وما في ذلك من الغرر والخطر

فعمه؟ قال: عن سيرته وطعمته. قال: فأجور السيرة وأخبث الطعم، وأعدى العداة على الله وأحكامه. قال: فغضب الحجاج وقال: ويلك أوما علمت أنه أخي؟ قال: بلى. قال: إذن أفتك بك. قال: أما علمت أن الله ربي والله لهو أمنع لي منك أكثر منك لأخيك. قال: أجل أرسله يا غلام. وقال الأصمعي: حدثني رجل من أهل المدينة قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدث قال: شهدت أبا جعفر بالمدينة وهو ينظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين ليسوا بقريش، فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينهم ابن أبي ذئب. قال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. فقالوا: سله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن يزيد، وكان عامله على المدينة، فقال: ما تقول في الحسن؟ قال: يأخذ بالأحب ويقضي بالهوى. فقال الحسن: والله يا أمير المؤمنين لو سألته عن نفسك لرماك بداهية ونعتك بشر. قال: فما تقول في؟ قال: اعفني! قال: لا بد أن تقول. قال: إن كان لا بد فإنك لا تعدل بين الرعية ولا تقسم بالسوية! قال: فتغير وجه أبي جعفر فقام إبراهيم بن محمد بن علي صاحب الموصل فقال: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين. فقال له ابن أبي ذئب: اقعد يا بني فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال: دعنا يا أمير المؤمنين مما نحن فيه، بلغني أنك رزقت ابناً صالحاً في العراق، يعني المهدي. قال: أما إن قلت ذلك إنه لصوام لليوم البعيد ما بين الطرفين. قال: ثم قام ابن أبي ذئب فخرج. فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل ولقد قال برأي نفسه. ودخل أبو النظر سالم مولى عمر بن عبيد الله على عامل للخليفة فقال له: يا أبا النظر إنه تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها لا نجد بداً من إنفاذها، فماذا ترى؟ قال أبو النظر: لقد أتاك كتاب الله قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله. الباب الثالث: فيما جاء في الولاة والقضاة وما في ذلك من الغرر والخطر قال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (صّ: 26) . جاء في التفسير: من اتباع الهوى أن تحضر الخصمين بين يديك، فتود أن يكون الحق للذي لك منه خاصة، وبهذه الخصلة سلب سليمان بن داود ملكه؛ قال ابن عباس: كان الذي أصاب سليمان بن داود عليهما السلام أن ناساً من أهل جرادة امرأته، وكانت من أعز نسائه عليه، تحاكموا إليه مع غيرهم فأحب أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً. ومن ذلك آية الملوك التي أنزلها الله تعالى في السلاطين لما اقتضته من السياسة العامة التي فيها بقاء الملك وثبوت الدول. قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) . ثم سمى المنصور وأوضح شرائط النصر فقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا} (الحج: 41) . فضمن الله تعالى النصر للمملوك وشرط عليهم أربع شرائط كما ترى، فمتى تضعضعت قواعدهم أو انتقض عليهم شيء من أطراف ممالكهم، أو ظهر عليهم عدو أو باغي فتنة أو حاسد نعمة، أو اضطربت عليهم الأمور أو رأوا أسباب الغير فليلجئوا إلى الله تعالى، ويستجيروا من سوء أقداره بإصلاح ما بينهم وبينه سبحانه وتعالى، بإقامة الميزان بالقسط الذي شرعه الله تعالى لعباده، وركوب سبيل العدل والحق الذي قامت به السماوات والأرض، وإظهار شرائع الدين ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم، وكف يد القوي عن الضعيف ومراعاة الفقراء والمساكين، وملاحظة ذوي الخاصة

والفقراء المستضعفين، وليعلموا أنهم قد أخلوا بشيء من الشروط الأربع التي شرطت في النصر. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع مكلكم مسؤول عن رعيته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كل ناظر في حق غيره راعياً له. واللفظ مأخوذ من الرعاية والمراعاة، فماذا تقدم لرعاية غيره من يأكله فهو الهلاك كما قال الشاعر: وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الذئاب لها رعاء؟ وروى مسلم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من امرئ يلي أمر المسلمين، ثم لم يجتهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة. وقال معقل بن يسار: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد استرعاه الله تعالى رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة! وقال أبو ذر: قلت أمرني رسول الله. قال: إنها أمانة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تجدون من خير الناس أشد الناس كراهة لهذا الأمر حتى يقع فيه. وفي الحديث: من ولي من أمر المسلمين شيئاً ثم لم يحطهم بنصحه كما يحوط أهل بيته، فليتبؤ مقعده من النار. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى عاصم أن يستعمله على الصدقة، فأبى وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة يؤتى بالوالي فيقذف على جسر جهنم، فيأمر الله سبحانه وتعالى الجسر فينتفض به انتفاضة فيزول كل عظم منه عن مكانه، ثم يأمر الله تعالى العظام فترجع إلى أماكنها ثم يسائله، فإن كان لله تعالى مطيعاً أخذ بيده وأعطاه كفلين من رحمته، وإن كان لله تعالى عاصياً خرق به الجسر فهوى به في جهنم مقدار سبعين خريفاً. فقال عمر: سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ قال: نعم. وكان سلمان وأبو ذر حاضرين، فقال سلمان: إي والله يا عمر! ومع السبعين سبعون خريفاً في واد يلتهب التهاباً. فقال عمر بيده على جبهته: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن يأخذ بما فيها؟ فقال سلمان: من سلب الله أنفه وألصق خده بالأرض. وروي أن العباس قال: أمرني يا رسول الله فأصيب وأستريش. فقال له: يا عباس يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، ألا أحدثكم عن الإمارة؟ أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها حسرة يوم القيامة. وروى أبو داود في السنن قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عريف على الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة من بعده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: العرفاء في النار! وروى الساجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذاباً يوم القيامة الإمام الجائر. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس من وال ولا قاض إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله تعالى على الصراط، ثم تنشر الملائكة سيرته فيقرؤنها على رؤوس الخلائق، فإن كان عدلاً نجاه الله تعالى

بعدله، وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة صار بين كل عضو من أعضائه مسيرة سنة، ثم ينخرق به الصراط فما يلقى قعر جهنم إلا بحر وجهه. وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القاضي لينزل في جهنم في مزلقة أبعد من عدن. وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أنه لم يقض بين اثنين في تمرة. وروى الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عبد الرحمن بن سمرة ليستعمله فقال: يا رسول الله خر لي. قال: اقعد في بيتك! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليودن أقوام يوم القيامة لو وقعوا من الثريا ولم يكونوا أمراء على شيء، فكم من متخوض في مال الله ومال رسوله له النار غداً يوم القيامة. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: إمام ظالم غشوم وغالٍ في الدين مارق منه، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما من أمير يؤمر على عشرة إلا جيء به يوم القيامة مغلولاً نجاه عمله أو أهلكه. وقال طاوس لسليمان بن عبد الملك: هل تدري يا أمير المؤمنين من أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال سليمان: لا أدري. قال طاوس: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من أشركه الله في ملكه، فجار في حكمه. فاستلقى سليمان على سريره وهو يبكي، فما زال يبكي حتى قام عنه جلساؤه. وقال حذيفة بن اليمان: من اقتراب لساعة أن تكون أمراء فجرة وقراء كذبة وأمناء خونة، وعلماء فسقة وعرفاء ظلمة. وقال عبيد بن عمير: ما ازداد رجل من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً، ولا كثرت أتباعه إلا كثرت شياطينه، ولا كثر ماله إلا كثر حسابه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل قضى بغير علم فهو في النار، ورجل قضى بعلم فجار فهو في النار، ورجل قضى بالحق فهو في الجنة؛ رواه يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن سيرين: جاء صبيان إلى عبيدة السليماني يتخايرون إليه في ألواحهم فلم ينظر فيها، وقال: هذا حكم ولا أتولى حكماً أبداً، وتخاير غلمان إلى ابن عمر فجعل ينظر في كتابتهم فقال: هذا حكم ولا بد من النظر فيه. والمصنفون يرسلون كتبهم حديثاً مرفوعاً رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قدم للقضاء فقد ذبح بغير سكين. وفي أخبار القضاة أن قاضياً قدم إلى بلد، فجاء رجل له عقل ودين فقال له: أيها القاضي أبلغك قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قدم للقضاء فقد ذبح بغير سكين؟ قال: نعم. قال: فبلغك أن أمور المسلمين ضائعة في بلدنا فجئت تحيزها؟ قال: لا. قال: أفأكرهك السلطان على ذلك؟ قال: لا. قال: فاشهد أني لا أطأ لك مجلساً ولا أؤدي عندك شهادة أبداً. وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في بعض خطبه: إن الملك إذا ملك زهده الله في ملكه ورغبه فيما في أيدي الناس، وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ويسخط على الكثير، جدل الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظله، حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه. وذكر السلطان أعرابي فقال: والله لئن عزوا في الدنيا بالجور لقد ذلوا في الآخرة بالعدل، وبقليل فإن رضوا من كثير باق، وإنما يكون الندم حيث لا ينفع الندم. وقال أبو بكر بن أبي مريم: حج قوم فمات صاحب لهم بأرض فلاة فلم يجدوا ماء. فأتاهم رجل فقالوا: دلنا على الماء، قال: احلفوا لي ثلاثة وثلاثين يميناً أنه لم يكن صرافاً ولا مكاساً ولا عريفاً ولا بريداً، ويروى ولا عرافاً، وأنا أدلكم على الماء. فحلفوا له ثلاثة وثلاثين يميناً، فدلهم على الماء. ثم قالوا: عاونا على غسله، قال: احلفوا لي ثلاثة وثلاثين يميناً

كما تقدم ذكره، فحلفوا له فأعانهم على غسله، ثم قالوا: تقدم فصل عليه. قال: لا حتى تحلفوا لي أربعاً وثلاثين يميناً كما تقدم، فحلفوا له فصلى عليه. ثم التفتوا فلم يروا أحداً، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام. قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين. وقال أبو ذر: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ستة أيام أعقل يا أبا ذر ما أقول لك. قال: فلما كان في اليوم السابع قال: أوصيك بتقوى الله في أمر سرك وعلانيتك، وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحداً وإن سقط سقوطك، ولا تأوين أمانة ولا تأوين يتيماً ولا تقضين بين اثنين. وقال أبو ذر أيضاً: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أحب لك ما أحب لنفسي وإني أراك ضعيفاً فلا تتأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم. وروى أبو ذر أيضاً قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي وقال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن، فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني إلى قوم شيوخ ذوي أسنان ولا علم لي بالقضاء. فقال: إن الله سبحانه وتعالى هاد قلبك ولسانك، فإذا جلس الخصمان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك إذا سمعت ذلك عرفت كيف تقضي. فإن قال قائل: كيف نهى أبا ذر عن القضاء وأمر علياً به مع ما فيه من التغرير، وما روي أن من قدم للقضاء فقد ذبح بغير سكين، وفيه البعد من حضرته وترك التيمن بمشاهدته وتعلم سننه وشرائع دينه والتخلق بأخلاقه وشيمه، وأيهما أفضل: المثول بين يديه والكون بحضرته ومشاهدته والصلاة خلفه أو القضاء في غيبته والبعد عنه؟ قلنا: إنما نهى أبا ذر عن القضاء لمعنى فيه يقصر به عن رتبة القضاء، مما كان ضده في علي رضي الله عنه من استجماع شرائط القضاء وقوته عليه. ألا تراه قال لأبي ذر: إني أراك ضعيفاً، ثم قال في آخره: إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها، فاستدللنا بهذا على أن من استجمعت فيه شرائط القضاء وكان قوياً على إنفاذه لم يدخل تحت النهي. ومما يعد ضعفاً عن القضاء طلبه إياه إذا لم يدر عواقبه. وقد وصف الله سبحانه المتسرعين إلى الأمانة بالجهل، فقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: 72) . أي ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة أمره، والدليل على صحة هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار. قلت: فهذان الرجلان ضعيفان عن مرتبة القضاء، أحدهما بفسقه وظلمه، والآخر بجهله. وقد عابت جهلى بني إسرائيل طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فعابوه بخصلتين: الفقر وأنه ليس من سبط المملكة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء. فبين شروط الولاية والممالك وأنها تفتقر إلى العلم الذي به يحكم، وإلى القوة التي بها تنفذ الأحكام دون ما ظنه بنو إسرائيل. وأما قولك أيهما أفضل: القضاء في غيبته أو الحضور بين يديه والكون في حضرته؟ فالجواب: إن أوامره فرض لا يعصى بتركه، والكون في حضرته مستحب بعد الهجرة ولا يعصى بتركه، فعلمنا بهذا أنه إنما بعث علياً للقضاء لأنه

الباب الرابع: في بيان معرفة ملك سليمان بن داود عليهما السلام

أفضل من سكناه بحضرته، لأنه مبلغ عنه للخلائق شريعته التي بعثه الله بها، فهو خليفته في ذلك، يدل على هذا أنه أوجب الجنة لمن قضى بالحق. الباب الرابع: في بيان معرفة ملك سليمان بن داود عليهما السلام ووجه طلبه الملك وسؤاله أن لا يؤتاه أحد من بعده ونفي البخل عنه فإن قال لنا قائل: ليس سليمان بن داود عليهما السلام، قال: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (صّ: 35) . ثم زاد على ذلك بأن لا يؤتى مثله أحد بعده وكان ظاهره يؤذن بالبخل. والكلام على هذه الآية من وجوه: أحدهما أنه إنما سأل هذا بعد أن سلبه الله تعالى ملكه ثم أعاده إليه، فحين طلب الملك كان ملكاً، فكأنه قال: هذا الملك الذي جددته هبه لي على صفات لا أعصيك فيه، فتسلبني إياه وتعاقبني؛ يدل عليه أنه بدأ بالمغفرة فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً} (صّ: 35) ، أي ملكاً لا أعصيك فيه فتؤاخذني، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (صّ: 39) . فكأنه أجاب دعاءه فقال: تصرف كيف شئت فلا حساب عليك فيه. وقيل: إن أعطيت أجرت، وإن أمسكت فلا تبعة عليك. وهذا تخصيص لسليمان بن داود عليهما السلام لم يخص به أحد من ولد آدم سواه، لأن الله تعالى قال للخلائق: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*َمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر93: 92) . وأما قوله تعالى: {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (ص: 35) فقال عطاء: معناه لا أسلبه في باقي عمري فيصير لغيري كما سلبته فيما مضى من عمري. وقيل: لا تسلط علي فيه شيطاناً كالذي سلطته علي. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علماً على المغفرة وقبول التوبة، فأجيب إلى ذلك فعلم أنه قد غفر له. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية على نبوته وعلماً على معجزته. وقال مقاتل: كان سليمان بن داود ملكاً ولكنه أراد بقوله: لا ينبغي لأحد من بعدي تسخير الرياح والطير، يدل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (صّ: 36) . وقيل: إن سليمان كان ملكه في خاتمه، ولهذا ذهب ملكه بذهاب خاتمه، فقال لا ينبغي لأحد من بعدي، يعني اجعل ملكي في نفسي لا في خاتمي حتى لا يملكه أحد غيري، فإن إبليس لعنه الله لما أخذ خاتم سليمان تحول ملك سليمان إلى إبليس لعنه الله، وقعد على كرسيه يحكم فيه حتى أنكرت بنو إسرائيل أحكامه، وكان قد ألقى عليه شبهه. وقال عمرو بن عثمان المكي: إنما أراد فيه ملك النفس وقهر الهوى، يدل عليه ما روى سليمان الشعباني قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرأيتم سليمان وما آتاه الله من ملكه، فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعاً لله تعالى حتى قبضه عز وجل؟ وزاد غيره: إنما أراد ملك النفس وقهرها لئلا يفتتن بالمملكة، ولهذا قدم سؤال المغفرة على طلب المملكة. وقال بعض الوعاظ: إنما أراد حتى أنتقم لآدم من إبليس وذريته حيث كان سبباً لإخراجه وذريته من الجنة. وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فرده الله خاسئاً. فإن قيل: فما معنى قول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55) . قلت: يستفاد من الآية أن من حصل بين يدي ملك لا يعرف قدره أو أمة لا يعرفون فضله فخاف على نفسه، لو أراد إبراز فضله جاز له أن ينبه على مكانته وما يحسنه، دفعاً للشر عن نفسه وإظهاراً لفضله فيجعل في مكانه. وفيه فائدة أخرى وهو أنه إذا رأى الأمر في يد الخونة واللصوص ومن لا يؤدي

الباب الخامس: في فضل الولاة والقضاة إذا عدلوا

الأمانة، ويعلم من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية جاز له أن ينبه السلطان على أمانته وكفايته، ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي رضي الله عنه: من كملت فيه آلات الاجتهاد وشروط القضاء، جاز له أن ينبه السلطان على مكانه ويخطب خطبة للقضاء، وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه إذا كان الأمر في يد من لا يقوم به. الباب الخامس: في فضل الولاة والقضاة إذا عدلوا قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251) ، يعني لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف وينصف المظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف وتواثب الخلق بعضهم إلى بعض، فلا ينتظم لهم حال ولا يستقر لهم قرار فتفقد الأرض ومن عليها، ثم امتن الله تعالى على الخلق بإقامة السلطان، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) ، يعني في إقامة السلطان في الأرض فيأمن الناس به، فيكون فضله على الظالم كف يده وفضله على المظلوم أمانة وكف يد الظالم عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وروى كثير بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة. وقال قيس بن سعد: ليوم من إمام عادل خير من عبادة رجل في بيته ستين سنة. وقال مسروق: لأن أقضي بالحق يوماً أحب إلي من أن أغزو سنة في سبيل الله. وروي أن سعد بن إبراهيم وأبا سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن مصعب بن شرحبيل ومحمد بن صفوان، قالوا لسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت: لقضاء يوم بالحق أفضل عند الله من صلواتك عمرك. وسيتضح لك صحة هذه الأقوال إذا وقفت على ما نالته الرعية من الصلاح بصلاح السلطان. واعلم أرشدك الله أن الإنسان أعز جواهر الدنيا وأعلاها قدراً وأشرفها منزلة، وبالسلطان صلاح الدنيا، فهو إذا أعز أعلاق الدنيا وأعمها نفعاً وبركة. ولذلك خلق الله تعالى دارين: دار الدنيا ودار الآخرة، ثم كان السلطان صلاح الدارين، فأخلق بشخص يعم نفعه العباد والبلاد ويصلح بصلاحه الدنيا والآخرة، وأن يكون شرفه عند الله عظيماً كما كان قدره في العقول جسيماً، ومقامه عند الله كريماً كما كان نفعه في البلاد عميماً، وعلى قدر عموم المنفعة تشرف الأعمال، وعلى قدر النعمة تكون المنة. ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام أعم خلق الله تعالى نفعاً، فهم أجل خلق الله قدراً لأنهم تعاطوا إصلاح الخلائق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك سلطان الله في الأرض هو خليفة النبوة في إصلاح الخلائق، ودعائهم إلى فناء الرحمن وإقامة دينهم وتقويم أودهم، وليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملك مقرب. فاتخذ عظم قدر السلطان عندك حجة لله تعالى على نفسك وناصحه على قدر ما نفعك، وليس نفعه مقصوراً على عجالة من حطام الدنيا يحبوك بها، ولكن صيانة جمجمتك

وحفظ حريمك وحراسة مالك عن البغاة أعم نفعاً لك إن عقلت. وليس لله في الأرض سلطان إلا وقد أخذ عليه شرائط العدل، ومواثيق الإنصاف وشرائع الإحسان، وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة كما أن خيره يعم، كذلك ليس دون رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة لشرير لأن شره يعم. وكما أن بالسلطان العادل تصلح البلاد والعباد، وتنال الزلفى إلى الله تعالى والفوز بجنة المأوى. كذلك بالسلطان الجائر تفسد البلاد والعباد وتقترف المعاصي والآثام وتورث دار البوار، وذلك أن السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته وأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطوا الحق فيما بينهم، ولزموا قوانين العدل فمات الباطل وذهبت رسوم الجور، وانتعشت قوانين الحق فأرسلت السماء غياثها، وأخرجت الأرض بركاتها، ونمت تجارتهم وزكت زروعهم وتناسلت أنعامهم، ودرت أرزاقهم ورخصت أسعارهم وامتلأت أوعيتهم، فواسى البخيل وأفضل الكريم، وقضيت الحقوق وأعيرت المواعين، وتهادوا فضول الأطعمة والتحف فهان الحطام لكثرته وذل بعد عزته، وتماسكت على الناس مروآتهم وانحفظت عليهم أديانهم. وبهذا تبين لك أن الوالي مأجور على ما يتعاطاه من إقامة العدل، ومأجور على ما يتعاطاه الناس بسببه. وإذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد وعم العباد، فرقت أديانهم واضمحلت مروآتهم وفشت فيهم المعاصي وذهبت أماناتهم، وتضعضعت النفوس وقنطت القلوب، فمنعوا الحقوق وتعاطوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان وجوزوا البهرج، فرفعت منهم البركة وأمسكت السماء غياثها، ولم تخرج الأرض زرعها أو نباتها، وقل في أيديهم الحطام وقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم وتنازعوا المقدار اللطيف وتجاحدوا القدر الخسيس، ففشت فيهم الأيمان الكاذبة والحيل والبيع والخداع في المعاملة، والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء، ولا يمنعهم من السرقة إلا العار ومن الزنا إلا الحياء، فيظل أحدهم عارياً عن محاسن دينه متجرداً عن جلباب مروءته، وأكثر همته قوت دنياه وأعظم مسراته أكله من هذا الحطام، ومن عاش كذلك فبطن الأرض خير له من ظهرها. قال وهب بن منبه رضي الله عنه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته في الأسواق والزرع والضرع وكل شيء، وإذا هم بالخير والعدل أو عمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك. وقال عمر بن عبد العزيز: تهلك العامة بعمل الخاصة، ولا تهلك الخاصة بعمل العامة، والخاصة هم الولاة. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) . قال الوليد بن هشام: إن الرعية لتفسد بفساد الوالي وتصلح بصلاحه. وقال سفيان الثوري لأبي جعفر المنصور: إني لأعلم رجلاً إن صلح صلحت الأمة وإن فسد فسدت الأمة، قال: ومن هو؟ قال: أنت! وقال ابن عباس: إن ملكاً من الملوك خرج يسير في مملكته مستخفياً بمكانه، فنزل على رجل له بقرة فراحت البقرة فحلبت له قدر حلاب ثلاثين بقرة، فتعجب الملك لذلك وحدثته نفسه بأخذها، فلما راحت عليه من الغد حلبت على النصف مما حلبت بالأمس، فقال له الملك: ما بال حلابها نقص، أرعت في غير مرعاها بالأمس؟ قال: لا، ولكني أظن أن ملكنا هم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بالظلم ذهبت البركة. فعاهد الملك الله سبحانه وتعالى في نفسه أن لا يأخذها، فراحت من الغد فحلبت حلاب ثلاثين بقرة، فتاب الملك وعاهد ربه: لأعدلن

الباب السادس: في أن السلطان مع رعيته مغبون غير غابن وخاسر غير رابح

ما بقيت! ومن المشهور في أرض المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو، وأن قصبة منها تعصر قدحاً، فعزم على أخذها منها، ثم أتاها وسألها عن ذلك فقالت: نعم! ثم إنها عصرت قصبة فلم تبلغ نصف قدح، فقال لها: أين الذي كان يقال؟ فقالت: هو الذي بلغك إلا أن يكون السلطان قد عزم على أخذها مني فارتفعت بركتها. فتاب السلطان وأخلص نيته لله أن لا يأخذها أبداً، ثم أمرها فعصرت ملء القدح. وحدثني بعض الشيوخ ممن كان يروي الأخبار بمصر قال: كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرداب تمراً لم يكن في الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان فلم تحمل في ذلك العام شيئاً ولا ثمرة واحدة. قال شيخنا رحمه الله: قال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الناحية الغربية يجنى منها عشرة أرداب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيعها في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وقال الشيخ رضي الله عنه: وشهدت أنا بالإسكندرية والصيد في الخليج مطلق للرعية والسمك فيه يغلي كثرة يصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب السمك حتى لا يكاد يرى فيه إلا الواحدة إلى يومنا هذا. وهكذا بتعدي سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم في الرعية، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وروى أصحاب التواريخ في كتبهم قالوا: كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجاج وتلاقوا يتساءلون: من قتل البارحة ومن صلب ومن جلد ومن قطع؟ وأمثال ذلك. وكان الوليد صاحب ضياع واتخاذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع وشق الأنهار وغرس الأشجار. ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون ي الأطعمة الرفيعة ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويغمرون مجالسهم بذكر ذلك. ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القرآن وكم وردك في كل ليلة، وكم يحفظ فلان ومتى يختم وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك. الباب السادس: في أن السلطان مع رعيته مغبون غير غابن وخاسر غير رابح اعلموا أرشدكم الله أن السلطان خطره عظيم وبليته عامة، وقد يطرقه من الآفات ويحتوشه من الأمور المهلكات، ما يجب على كل ذي لب أن يستعيذ بالله مما حمله ويشكره على ما عصمه، لا يهدأ فكره ولا تسكن خواطره، ولا يصفو قلبه ولا يستقر لبه، الخلق في شغل عنه وهو مشغول بهم، والرجل يخاف عدواً واحداً وهو يخاف ألف عدو، والرجل يضيق بتدبير أهل بيته وإيالة ضيعته وتدبير معيشته، وهو مدفوع لسياسة جميع أهل مملكته، وكلما رتق فتقاً من حواشي مملكته انفتق آخر، وكلما رم منها شعثاً رث آخر، وكلما قمع عدواً أرصد له أعداء إلى سائر ما يعانيه من أخلاق الناس، ويقاسيه من خصوماتهم، ونصب الولاة والقضاة وبعث الجيوش وسد الثغور، واستجباء الأموال ودفع المظالم؛ ثم من العجب العجاب أن له نفساً واحدة وإنما يرزأ من الدنيا قوته مثل ما يرزأ آحاد الرعايا، ثم يسأل غداة غد عن جميعهم ولا يسألون عنه. فيا، لله ويا للعجب من رجل يرضى أن ينال رغيفاً ويحاسب منها على آلاف آلاف، ويأكل في معاء واحد ويحاسب على آلاف آلاف معاء، ويستمتع بنفس واحدة ويحاسب على آلاف آلاف من الأنفس! وعلى هذا النمط في جميع أحواله يحمل أثقالهم ويريح أسرارهم، ويجاهد عدوهم ويسد ثغورهم، ويدفع مناويهم ومناصيهم، ويعصي ربه فيهم ويخالف

الباب السابع: في بيان الحكمة في كون السلطان في الأرض

أمره ويرتكب نهيه من أجلهم، ويقتحم جراثيم جهنم على بصيرة منهم ثم يجدهم له قالين وعنه غير راضين، ولولا أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه لم يرض عاقل بهذه المنزلة، ولا اختارها لبيب مرتبة، وكل ما ذكرته في هذا الباب أحكمه النبي صلى الله عليه وسلم في كلمة فقال: ما لكم ولأمرائي لكم صفو أمرهم وعليهم كدره. ومثال السلطان مع الرعية كالطباخ مع الأكلة له العنا ولهم الهنا، وله الحار ولهم القار، طلب القوم الراحة فحصلوا على التعب، طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الصراط المستقيم؛ وعن هذا قالوا: سيد القوم أشقاهم. وفي الحديث: ساقي القوم آخرهم شرباً. وكان بعض سلاطين المغرب يسير يوماً وبين يديه الوزراء إذ نظر إلى جماعة من التجار فقال لوزيره: أتريد أن أريك ثلاث طوائف: طائفة لهم الدنيا والآخرة، وطائفة لا دنيا ولا آخرة، وطائفة دنيا بلا آخرة؟ فقال: أما الذين لهم الدنيا والآخرة فهؤلاء التجار، يكسبون أقواتهم ويصلون صلاتهم ولا يؤذون أحداً، وأما الذين لا دنيا ولا آخرة فهؤلاء الشرط والخدمة الذين بين أيدينا، وأما الذين لهم الدنيا بلا آخرة فأنا وأنت وسائر السلاطين. فحق على جميع الورى أن يمدوا السلطان بالمنا والمناصحات، ويخصوه بالدعوات ويعينوه في سائر المحاولات، ويكونوا له أعيناً ناظرة وأيد باطشة وجنناً واقية وألسنة ناطقة، وقوادم تنهضه وقوائم تقله، وهيهات منه السلامة وأنى له بالسلامة؟ وعن هذا قال بعض السلاطين يوماً لأصحابه: اعلموا أن الجنة والسلطان لا يجتمعان. قال شيخنا رحمه الله: حدثني رجل له قدر قال: أرسل إلي السلطان أن طلق زوجتك، وكان قد أرادها لبعض أصحابه، فأبيت ذلك وراجعت الرسل غير مرة، فقال لي ناصح منهم: خذ الأمر مقبلاً فإنه لا حيلة لك، فإن السلطان لا يخشى في الدنيا عاراً ولا في الآخرة ناراً! ففارقتها. وروي عن عبد الملك بن مروان أنه لما ولي الخلافة أخذ المصحف ووضعه في حجره ثم قال: هذا فراق بيني وبينك. ولما حج هارون الرشيد لقيه عبيد الله العمري في طوافه فقال له: يا هارون! قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من الخلق؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عن جميعهم، فانظر كيف تكون. فبكى هارون وجلس، فجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ ويقال: إن هارون كان يقول: والله إني لأحب أن أحج في كل سنة وما يمنعني إلا رجل من ولد عمر يسمعني ما أكره. وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب القديمة يقول الله تعالى: من أحمق من السلطان ومن أجهل ممن عصاني ومن أغر ممن اغتر بي؟ يا راعي السوء دفعت لك غنماً سماماً صحاحاً، فأكلت اللحم وشربت اللبن وائتدمت بالسمن ولبست الصوف، وتركتها عظاماً تقعقع ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم لها منك! الباب السابع: في بيان الحكمة في كون السلطان في الأرض اعلموا أرشدكم الله أن في وجود السلطان في الأرض حكمة لله تعالى عظيمة ونعمة على العباد جزيلة، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلائق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف، ومثلهم بلا سلطان كمثل الحوت في البحر يزدرد الكبير الصغير، فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر لم ينتظم لهم أمر ولم يستقر لهم معاش ولم يتهنوا بالحياة. ولهذا قال بعض القدماء: لو رفع السلطان من الأرض ما كان لله في أهل الأرض من حاجة. ومن الحكم التي في إقامة السلطان: إنه من حجج الله تعالى على وجوده

الباب الثامن: في منافع السلطان ومضاره

سبحانه وتعالى، ومن علاماته على توحيده، لأنه كما لا يمكن استقامة أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وتدبيره وما فيه من الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلقه وعالم أتقنه وحكيم دبره، وكما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسره في سلطان الله تعالى كالبلد الواحد في يد سلطان الأرض. ولهذا قال علي بن أبي طالب: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد، ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة وهما الملك والرأي، فكما لا يستقيم الملك بالشركة لا يستقيم الرأي بالانفراد به. ومثال السلطان القاهر لرعيته ورعية بلا سلطان مثال بيت فيه سراج منير، وحوله قيام من الناس يعالجون صنائعهم، فبينما هم كذلك إذ طفئ السراج فقبضوا أيديهم في الوقت وتعطل جميع ما كانوا فيه، فتحرك الحيوان الشرير وتخشخش الهوام الخسيس، فذبت العقرب من مكمنها وفسقت الفأرة من حجرها وخرجت الحية من معدنها، وجاء اللص بحيلته وهاج البرغوث مع حقارته، فتعطلت المنافع واستطالت فيهم المضار. كذلك السلطان إذا كان قاهراً لرعيته وكانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء به في أهبها محقونة والحرم في خدورهن مصونة، والأسواق عامرة والأموال محروسة، والحيوان الفاضل ظاهر والمرافق حاصلة، والحيوان الشرير من أهل الفسوق والدعارة خامل، فإذا اختل أمر السلطان دخل الفساد على الجميع، ولو جعل ظلم السلطان حولاً في كفة كان هرج الناس ساعة أرجح وأعظم من ظلم السلطان حولاً، وكيف لا وفي زوال السلطان أو ضعف شوكته سوق أهل الشر ومكسب الأجناد، ونفاق أهل العيارة والسوقة واللصوص والمنابهة؟ قال الفضيل: جور ستين سنة خير من هرج ساعة، فلا يتمنى زوال السلطان إلا جاهل مغرور أو فاسق يتمنى كل محذور، فحقيق على كل رعية أن ترغب إلى الله تعالى في إصلاح السلطان، وأن تبذل له نصحها وتخصه بصالح دعائها، فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد. وكان العلماء يقولون: إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثر واحمد الله تعالى واشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة واستئلاف الأعداء ورضاء الأولياء، وقلة الناصح وكثرة المدلس والفاضح. وفي كتاب التاج: هموم الناس صغار وهموم الملوك كبار، وألباب الملوك مشغولة بكل شيء وألباب السوقة مشغولة بما ليس بشيء، والجاهل منهم يعذر نفسه عندما هو عليه من الوشل، ولا يعذر سلطانه مع شدة ما هو عليه من المؤنة، ومن هناك يعز الله سلطانه ويرشده وينصره. وعن هذا قالت الحكماء من العجم: لا توطنن إلا ببلد فيه سلطان قاهر قاض عادل، وسوق قائمة وطبيب عالم ونهر جار. الباب الثامن: في منافع السلطان ومضاره قالت حكماء العرب والعجم: مثل مضار السلطان في جنب منافعه مثل الغيث الذي هو سقياً لله تعالى، وبركات السماء وحياة الأرض ومن عليها، وقد يتأذى به المسافر ويتداعى له البنيان وتكون فيه الصواعق، وتدر سيوله فيهلك الناس والدواب والذخائر، ويموج له البحر فتشتد بليته على أهله، ولا يمنع ذلك الخلق إذا نظروا إلى آثار رحمة الله تعالى في الأرض التي أحيى والنبات الذي أخرج، والرزق الذي بسط والرحمة التي نشر أن يعظموا نعمة ربهم

الباب التاسع: في بيان معرفة السلطان من الرعية

ويشكروها، وبلغوا ذكر خواص الأذية التي دخلت على خواص الخالق. ومثاله أيضاً مثال الرياح التي يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته، فيسوق بها السحاب ويجعلها إلقاحاً للثمرات وأرواحاً للعباد، يتنسمون منها ويتقلبون فيها، فتجري بها مياههم وتقد بها نيرانهم وتسير بها في البحر أفلاكهم، وقد تضر بكثير من الناس في برهم وبحرهم وتخلص إلى أنفسهم فيشكر بها الشاكرون، وقد يتأذى بها كثير من الناس فلا يخرجها ذلك عن منزلتها من أقوام عماده وتمام نعمته. ومثاله أيضاً مثال الشتاء والصيف اللذين جعل الله تعالى حرهما وبردهما صلاحاً للحرث والنسل، ونتاجاً للأنعام والثمر يجمعها البرد بإذن الله تعالى ويخرجها الحر بإذن الله تعالى، فتصبح على اعتدال إلى غير ذلك من منافعهما، وقد يكون الأذى في حرهما وبردهما وشمسهما وزمهريرهما، وهما مع ذلك لا ينسبان إلا إلى الصلاح والخير وقد غمر صلاحهما أذيتهما. ومثاله أيضاً مثل الليل الذي جعله الله تعالى سكناً ولباساً ونوماً وراحة وسباتاً، وقد يستوحش له أخو الفقر ويسارع فيه أهل الدعارة والفساد واللصوص، وتعدو فيه السباع وتنشر فيه المهام والحية وذوات السموم القاتلة، ثم لا ينسى العباد نعمة الله عليهم به ولا يزري صغير ضره بكبير نفعه. ومثاله أيضاً مثال النهار الذي جعله الله ضياءً ونوراً ونشوراً واكتساباً، وقد تكون فيه الحروب والغارات والتعب والنصب والشخوص والخصومات، فيستريح الخلق منه إلى الليل ثم يتبين للعباد نعمة الله عليهم وهكذا كل جسيم من أمور الدنيا يكون ضرره خاصاً ونفعه عاماً فهو نعمة عامة، وكل شيء يكن نفعه خاصاً فهو بلاء عام، ولو كانت نعم الدنيا صفواً من غير كدر وميسورها من غير عسير، لكانت هي الجنة التي لا تعب فيها ولا نصب. قال الشاعر: لا ترج شيئاً خالصاً نفعه فالغيث لا يخلو من العيب الباب التاسع: في بيان معرفة السلطان من الرعية اعلموا أرشدكم الله أن منزلة الشيطان من الرعية بمنزلة الروح من الجسد، فإذا صفت الروح من الكدر سرت إلى الجوارح سليمة، فقرت في جميع أجزاء الجسد فأمن الجسد من التغيير، فاستقامت الجوارح والحواس وانتظم أمر الجسد. وإن تكدرت الروح وفسد مزاجها فيا ويح الجسد! فيسري إلى الحواس والجوارح فتصير الحواس والجوارح كدرة منحرفة عن الاعتدال، فأخذ كل عضو وحاسة بقسطه من الفساد، فمرضت الجوارح وتعطلت فتعطل نظام الجسد وجر إلى الفساد والهلاك. ومثال السلطان أيضاً مثل النار، ومثال الخلق مثل الخشب، فما كان منها معتدلاً لم يحتج إلى النار، وما كان منها متأوداً احتاج إلى النار ليقام أوده ويعدل عوجه، فإن أفرط النار احترق الخشب قبل أن يستقيم أوده، وإن قصر النار لم يكن الخشب قابلاً للاعتدال فيبقى متأوداً، وإذا كانت النار معتدلة اعتدل الخشب، كذلك السلطان في أطواره إن أفرط أهلك الخلق، وإن فرط لم يستقيموا وإن اعتدل اعتدلوا. ومثاله أيضاً مثال عين خرارة في أرض خوارة، فإن حلا مشربه وعذب طعمه وسلمت من الكدر والفساد أوصافه، تخلج في الأرض فابتلعته صافياً صرفاً ثم شربته عروق الأشجار فاغتذت به كذلك، فغلظ سوقها وفرعت أغصانها وامتدت أفنانها، ثم أخرجت أوراقها وأبرزت أزهارها ثم قذفت

الباب العاشر: في معرفة خصال ورد الشرع بها فيها نظام الملك والدول

ثمارها، فجاءت على أتم طباعها كبراً وطعماً ولوناً ورائحة، فتقوت بها العباد وأكلت حطامها البهائم والحشرات، وسقط عليها الطير فأحرز كل منها قوته، واستقام النظام. وإن كان في حواشي الأرض ما يدق عن الإنبات والنفع ويكدي عن الزكاة والريع، أو كان فيه من الشجر ما يندر حمله ويقل ريعه، أعطى كل ذلك الغاية من نفسه وأطلع ما في قواه ولم يغادر ممكناً إلا وافاه، وإن كان في العين كدر أو فساد أو ملح شربتها الأشجار كذلك، ففسد مزاجها وأضر الجزء الفاسد بالطيب، فرقت سوقها وضعفت أغصانها وتغيرت أوراقها، وقلت أزهارها وثمارها ودخل الفساد على جميع ذلك، فجاءت الثمرة وهي نزر قدرها ردىء طعمها كاسف لونها، فدخل بذلك من النقص على جميع الحيوان مثل ما دخل عليهم من المنافع في الأولى، ولهذا قال الرسول عليه السلام: إن الضب ليموت في حجره هزالاً من ظلم بني آدم، يعني إذا كثرت المعاصي في الأرض حبست في السماء غياثها ومنعت الأرض نباتها، فهلك الهوام والدواب والحشرات. الباب العاشر: في معرفة خصال ورد الشرع بها فيها نظام الملك والدول وهي ثلاثة: اللين وترك الفظاظة والمشاورة، وأن لا يستعمل على الأعمال والولايات راغب فيها ولا طالب لها. ولما علم الله تعالى ما فيها من انتظام الملة واستقامة الأمر نص عليها الله سبحانه ورسوله. اعلم أن هذه الخصال من اساس الممالك وقل من يعمل بها من الملوك، اثنتان نزلتا من السماء وواحدة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: أما الإلهية فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159) وفي الآية إشارتان: إحداهما أن الفظاظة تنفر الأصحاب والجلساء وتفرق الجموع والحشم، وإنما الملك ملك بجلسائه وأصحابه وأتباعه وحشمه. وأخلق بخصلة تنفر الأولياء وتطمع الأعداء، فقمن بكل سلطان رفضها والاحتراز من سوء مغبتها، ولتكن كما قال الله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأبيض المتكئ. فقال الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك! دل الأثر على أنه ما استأثر بشرف المجلس ولا باينهم بزي ولا مقعد. وقد يبلغ باللين ما يبلغ بالغلظة. ألا ترى أن الرياح تهول أصواتها فيتداخل لها الشجر وتنعطف الأفنان والأغصان، وفي الفرط تنكسر الأغصان، والماء بلينه في أصول الشجر يقلعها من أصلها. وإذا كانت الحية مع صعوبتها وسمها وتغيبها في حجرها ترقى بالكلام حتى تستعطف فتخرج، فالإنسان أحرى أن يستمال بلين القول وحسن المنطق، فإذا أردت أن تنتقم ممن يسيء إليك فكافئه بكل كلمة سوء قالها كلمة جميلة وحسن ثناء عليه. والإشارة الثانية أنه قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: الآية159) . فإذا قيل لنا: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم، وواجب عليهم مشاورته وأن لا يفصلوا أمراً دونه؟ قلنا: هذا أدب أدب الله به نبيه عليه السلام، وجعله مأدبة لسائر الملوك والأمراء والسلاطين. لما علم الله تعالى ما في المشاورة من حسن الأدب مع الجليس ومساهمته في الأمور، فإن نفوس الجلساء والنصحاء والوزراء تصلح عليه وتميل إليه وتخضع عنوة بين يديه، شرعه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذي الإمرة من أهل ملته.

الباب الحادي عشر: في بيان معرفة الخصال التي هي قواعد السلطان ولا ثبات له دونها

ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأمرهم بالنزول فقال له سعد: يا رسول الله إن كان هذا بأمرك فسمعاً وطاعة، وإن يكن غير ذلك فليس بمنزل. فسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارتحلوا! ومن أقبح ما يوصف به الرجال، ملوكاً كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأي وترك المشاورة، وسنعقد للمشاورة باباً إن شاء الله تعالى. والخصلة الثالثة ما روى البخاري ومسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله استعملني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده. والسر فيه أن الولايات أمانات وتصريف في أرواح الخلائق وأموالهم، والتسرع إلى الأمانة دليل على الخيانة، وإنما يخطبها من يريد أكلها، فإذا أؤتمن خائن على موضع الأمانات كان كمن استرعى الذئب على الغنم. ومن هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا على ملوكها، لأنه إذا اهتضمت حقوقهم وأكلت أموالهم فسدت نياتهم، وأطلقوا ألسنتهم بالدعاء والتشكي، وذكروا سائر الملوك بالعدل والإحسان فكانوا كالبيت السائر الذي أنشدناه أولاً. وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الذئاب لها رعاء؟ وإذا خان أهل الأمانات وفسد أهل الولايات، كان الأمر كما قال الأول: بالملح يصلح ما يخشى تغيره فكيف بالملح أن حلت به الغير؟ ولغيره في مثل ذلك: ذئب تراه مصلياً فإذا مررت به ركع! يدعو وجل دعائه: ما للفريسة لا تقع؟ عجل بها يا ذا العلا إن الفؤاد قد انقطع! ومن أشراط الساعة التصدي للأمانة وخطبة الولاية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أشراط الساعة أن تكون الزكاة مغرماً والأمانة مغنماً، فحينئذ يدعو عليه الضعيف وأهل الصلاح ويقعد له الشرير بالمراصد ويخامر عليه القوي، ويقبح ثناؤه عند الجماعة ويتمنوا الراحة منه، وينتظرون من يصلح لها سواه. الباب الحادي عشر: في بيان معرفة الخصال التي هي قواعد السلطان ولا ثبات له دونها فأول الخصال وأحقها بالرعاية العدل الذي هو قوام الملك، ودوام الدول ورأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو إصطلاحية. اعلم أرشدك الله تعالى أن الله تعالى أمر بالعدل، ثم علم سبحانه وتعالى أن كل الناس ليست تصلح على العدل بل تطلب الإحسان وهو فوق العدل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (النحل: 90) . فلو وسع الخلق العدل ما قرن به الإحسان، فمن لا يصلح حتى يزاد على العدل كيف يصلح إذا لم يبلغ به العدل والعدل ميزان الله في الأرض، الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل؟ وليس موضع ميزان الله الذي وضعه من القيام بالقسط فقد تعرض لسخط الله. واعلم أيها الوالي أن الملك بمنزلة رجل: فرأسه أنت وقلبه وزيرك ويداه أعوانك، ورجلاه رعيتك وروحه عدلك، وما بقي جسد بلا روح. وإذا أردت ذروة العدل فاعلم أن الرعية ثلاثة أنفس: كبير وصغير ووسط، فاجعل كبيرهم أباً ووسطهم أخاً وصغيرهم ولداً. فبر أباك وأكرم أخاك وارحم ولدك، فإنك واصل بذلك إلى بر الله وكرامته ورحمته. واعلم أن عدل الملك

يوجب الاجتماع عليه، وجوره يوجب الافتراق عنه، عدل الملك حياة رعيته. وفي منثور الحكم: سلطان جائر أربعين سنة خير من رعية مهملة ساعة واحدة من النهار، إذا عدل الملك فيما قرب منه صلح له ما بعد عنه. ففضل الملوك في الإعطاء وشرفها في العفو وعزها في العدل. عدة السلطان ثلاثة: مشاورة النصحاء وثبات نبات الأعوان وإقامة سوق العدل. أفضل الأزمنة أزمنة أئمة العدل. ثم: العدل ينقسم قسمين: قسم إلهي جاءت به الأنبياء والرسل عليهم السلام عن الله تعالى، والثاني ما يشبه العدل والسياسة الإصلاحية التي هرم عليها الكبير ونشأ عليها الصغير، وبعيد أن يبقى سلطان أو تستقيم رعيته في حال إيمان أو كفر بلا عدل قائم ولا ترتيب للأمور ثابت، فذلك مما لا يمكن ولا يجوز. وقد ذكرنا في أول الكتاب أن سليمان بن داود سلب ملكه حين جلي الخصمان بين يديه، وكان لأحدهما خاصة بسليمان فقال في نفسه: وددت أن يكون الحق لخاصتي فأقضي له، فسلبه الله تعالى ملكه وقعد الشيطان على كرسيه. فاجعل العدل سياستك تسقط عنك جميع الآفات المفسدة للسياسة، وتقوم لك جميع الشرائط التي تقوم بها للمملكة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم. وقال ابن مسعود: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: الرحمة والعدل يحرزان الملك. واتفق حكماء العرب والعجم على هذه الكلمات فقالوا: الملك بناء والجند أساسه، فإذا قوي الأساس قام البناء، وإن ضعف الأساس انهار البناء، فلا سلطان إلا بجند ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل فصار العدل أساساً لكل الولايات. وأما العدل النبوي فأن يجمع السلطان إلى نفسه حملة العلم الذين هم حفاظه ورعاته وفقهاؤه، وهم الأدلاء على الله والقائمون بأمر الله، والحافظون لحدود الله والناصحون لعباد الله. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فاتخذ أيها الملك العلماء شعاراً والصالحين دثاراً، فتدور المملكة بين نصائح العلماء ودعوات الصلحاء، وأخلق بملك يدور بين هاتين الخصلتين أن يقوم عموده ويطول أمده! وكيف لا وقد قربهم الله في سلطانه واصطفاهم بخالص معرفته، فقال جل من قائل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18) . فبدأ بنفسه وثنى بملائكته، وثلث بأولي العلم وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام والموقفون عن الله تعالى. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا در هماً وإنما ورثوا العلم، ففي تعظيمهم وتقريبهم امتثال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى عليه، ويجب ترفيع مجالسهم وتتمييز مواضعهم عن من سواهم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) . وفيه استمالة قلوب الرعية وخلوص نياتهم لسلطانهم واجتماعهم على محبته وتوقيره، فواجب على السلطان أن لا يقع أمراً دونهم ولا يفضل حكماً إلا بمشاورتهم، لأنه في ملك الله يحكم وفي شريعته يتصرف، وأقل الواجبات على السلطان أن ينزل نفسه مع الله منزلة ولاته معه، أليس إذا خالف واليه أمره وما رسمه له من الأحكام عزله وعاقبه ولم يأمن سطوته؛ وإذا امتثل أوامره

وازدجر عن زواجره حل منه محل الرضى؟ فواعجباً لمن يغضب على واليه إذا خالفه، ثم لا يخاف سطوة ربه عليه إذا خالفه! فهذا طريق إقامة العدل الشرعي، والسياسة الاصطلاحية الجامعة لوجوه المصلحة الآخذة لأزمة التدبير، السالمة من العيوب الممهدة لاستقامة الدنيا والدين. وكما أن الملك الحازم لا يتم حزمه إلا بمشاورة الوزراء الأخيار كذلك لا يتم عدله إلا باستفتاء العلماء الأبرار. وقد وقع المأمون في قضية متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمر، واعمر نعمتك بالعدل فإن الجور يهدمها، وفي إشاعة العدل قوة القلوب وطيب النفس ولزوم اليقين وأمان من العدو. ولما استأذن الهرمزان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يجد عنده حاجباً ولا بواباً فقيل له: هو في المسجد، فأتى المسجد فوجده مستلقياً متوسداً كوماً من الحصى ودرته بين يديه، فقال له الهرمزان: يا عمر عدلت فأمنت فنمت! وقال الحسن بن علي: رأيت عثمان رضي الله عنه وقد جمع الحصى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه، وقد وضع إحدى جانبي ردائه عليه وهو يومئذ أمير المؤمنين، ما عنده أحد من الناس ودرته بين يديه. وكتب عامل حمص إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل ونق طرقها من الجور، والسلام. وقالت الحكماء: من حرم العدل فلا خير له ولا للناس في سلطانه. وقال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستان والشمس على يساري والمأمون في الظل، فلما رجعنا وقعت الشمس أيضاً علي، فقال لي المأمون: تحول مكاني وأنا أتحول مكانك حتى تكون في الظل كما كنت، وأقيك الشمس كما وقيتني، فإن أول العدل أن يعدل الرجل على بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ العدل الطبقة السفلى. فعزم علي فتحولت. وكان يقال: ليس شيء أبعد من بقاء ملك الغاصب. وقيل للإسكندر: لو أكثرت من النساء حتى يكثر نسلك ويحيا ذكرك. فقال: إنما يحيي الذكر الأفعال الجميلة والسيرة الحميدة، ولا يحسن بمن يغلب الرجال أن تغلبه النساء. وقال الحكيم: من اتخذ العدل سنة كان له أحصن جنة، ومن استشعر حلة العدل فقد استكمل رتبة الفضل. وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: إن الإمام العادل ليسكنن الأصوات عن الله تعالى. وقال الحكيم: لا يزال السلطان ممهلاً حتى يتخطى إلى أركان العمارة ومباني الشريعة، فحينئذ يريح الله منه. وقالوا: لا تظلم الضعفاء فتكون من لثام الأقوياء، وقال بعض الحكماء: أمير بلا عدل كغيم بلا مطر، وعالم بلا ورع كأرض بلا نبات، وشاب بلا توبة كشجر بلا ثمر، وغنى بلا سخاء كقفل بلا مفتاح، وفقر بلا صبر كسراج بلا ضوء، وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح. وقال كسرى: اتفقت ملوك العجم على أربع خصال: أن الطعام لا يؤكل إلا شهوة، والمرأة لا تنظر إلا إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل الملوك الذين بعدلهم يعدل من دونهم، والذين إذا قالوا أو فعلوا كان نافذاً غير مردود. وقالت الحكماء: رم ما شئت بالإنصاف وأنا زعيم لك بالظفر به. والظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة أو تعجيل نقمة. وقال الحكيم: شر الزاد إلى المعاد الذنب بعد الذنب، وشر من هذا العدوان على العباد، ومتى أراد السلطان حسن الصيت وجميل الذكر فليقم سوق العدل، وإن أحب الزلفى عند الله وشرف المنزلة عنده فليقم سوق العدل، والذي يخلد به ذكر الملوك على غابر الدهور عدل

فصل:

واضح أو جور فاضح، هذا يوجب له الرحمة وهذا يوجب له اللعنة. فصل: وأما القسم الثاني من العدل وهو السياسة الاصطلاحية، وإن كان أصلها على الجور فيقوم بها أمر الدنيا، وكأنها تشاكل مراتب الإنصاف على نحو ما كانت عليه ملوك الطوائف في أيام الفرس، وكانوا كفاراً بالله تعالى يعبدون النيران ويتبعون هواجس الشيطان، فتواضعوا بينهم سنناً وأسسوا لهم أحكاماً، وأقاموا لهم مراتب في النصفة بين الرعايا واستجباء الخراجات، وتوظيف المكوس على التجار، كل ذلك بعقولهم على وجوه ما أنزل الله بها من سلطان ولا نصب عليها من برهان، بيد أنه لما جاءت الشريعة من عند الله تعالى على لسان نبيه صاحب المعجزة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنها ما أقرته في نصابه ومنها نسخته وأبطلت حكمه، فعادت الحكمة البالغة أمر الله تعالى والحكم بما أنزل الله وبطل ما سواه، وكان ملكهم محفوظاً برعايتهم للقوانين المألوفة بينهم، فانقطع بذلك حبل الهمل فكانوا يقيمون بها واجب الحقوق، ويتعاطون بها ما لهم وعليهم. وعن هذا كان يقال: إن السلطان الكافر الحافظ لشرائط السياسة الاصطلاحية، أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه المضيع للسياسة النبوية العدلية، والجور المرتب أبقى من العدل المهمل، إذ لا شيء أصلح للسلطان من ترتيب الأمور ولا شيء أفسد له من إهمالها. واعلم أن درهماً يؤخذ من الرعية على وجه الإهمال والخرق، وإن كان عدلاً أفسد لقلوبها من عشرة تؤخذ منها بسياسة على زمام معروف ورسم مألوف، وإن كان جوراً، فلا يقوم السلطان لأهل الإيمان ولا لأهل الكفر إلا بإقامة العدل النبوي، أو ما يشبهه من الترتيب الاصطلاحي. وقال ابن المقفع: الملوك ثلاثة: ملك دين وملك حزم وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه إذا أقام لأهل المملكة دينهم كانوا راضين وكان الساخط فيهم بمنزلة الراضي، وأما ملك الحزم فيقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والسخط ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر. ولقد بلغنا أن ملكاً من ملوك الهند نزل به صمم، فأصبح مسترجعاً مهتماً بأمور المظلومين وأنه لا يسمع استغاثتهم، فأمر مناديه أن لا يلبس أحد في مملكته ثوباً أحمر إلا مظلوم، وقال: لئن منعت سمعي لم أمنع بصري، فكان كل من ظلم لبس ثوباً أحمر ووقف تحت قصره، فيكشف عن ظلامته. قال شيخنا: وأخبرني أبو العباس الحجازي، وكان ممن دخل الصين بسيرة عجيبة غريبة لملوكها في سياستهم، وذلك أنللبيت الذي يكون فيه الملك ناقوساً موصولاً بسلسلة وطرف سلسلة في خارج الطريق، وعليها أمناء للسلطان وحفظة، فيأتي المظلوم فيحرك السلسلة فيسمع الملك صوت الناقوس، فيأمر بإدخال المظلوم، فكل من حرك تلك السلسلة تمسكه تلك الحفظة حتى يدخل على السلطان. الباب الثاني عشر: في التنصيص على الخصال التي زعم الملوك أنها هدمت دولتهم وأزالت سلطانهم أيها الملك احرص كل الحرص أن تكون خبيراً بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك به قبل أن تصيبه عقوبتك، والمحسن يستبشر بعلمك به قبل أن يأتيه ثوابك. وقال أبو جعفر المنصور: ما زال أمر بني أمية مستقيماً حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم من عظيم شأن

الملك وجلالة قدره قصداً للشهوات وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله تعالى وأمناً لمكره، فسلبهم الله تعالى العز ونقل عنهم النعمة. قال عبيد الله بن مروان، ومروان هذا هو المعروف بمروان الحمّار، وهو آخر ملوك بني أمية قتل في أرض مصر في كورة بوصير: لما زال ملكنا وهربت إلى أرض النوبة فيمن تبغي من أصحابي، فسمع ملك النوبة بخبري فقعد على الأرض ولم يقعد على فراش افترشته، فقلت له: ألا تقعد على ثيابنا؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: لأني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لله سبحانه إذ رفعه، ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم، ولم تطئون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم، ولم تستعملون الذهب والفضة وتلبسون الديباج والحرير وهو محرم عليكم؟ فقلت: زال عنا الملك فقل أنصارنا وانتصرنا بقوم من الأعاجم دخلوا ديننا، ولنا عبيد وأتباع فعلوا ذلك على كره منا، فأطرق ملياً يقلب كفيه وينكث في الأرض، ثم قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وظلمتم في ما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز بذنوبكم، ولله فيكم نعمة لم تدرك غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي. وسئل بزرجمهر: ما بال ملك بني ساسان صار إلى ما صار إليه، بعدما كان فيه من قوة السلطان وشدة الأركان؟ فقال: ذلك لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال. وعن هذا قالت الحكماء: موت ألف من العلية أقل ضرراً من ارتفاع واحد من السفلة. وفي الأمثال: زوال الدول باصطناع السفل. وقال الشافعي رحمه الله: أظلم الناس لنفسه اللئيم، إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل. وسئل بعض الملوك بعد زوال ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ قال: بإعطائنا من بطر وضعف ورفع عمل اليوم إلى الغد. وسئل بعض الملوك بعد أن سلبوا المملكة: ما الذي سلب عزكم وهدم ملككم؟ فقال: شغلتنا لذاتنا عن التفرغ لمهماتنا ووثقنا بكفاتنا، فآثروا مرافقهم علينا، وظلم عمالنا رعيتنا فانفسدت نياتهم لنا وتمنوا الراحة منا، وحمل على أهل خراجنا فقل دخلنا فقل دخلنا وبطل إعطاؤنا عبيدنا، فزالت الطاعة منهم لنا، وقصدنا عدونا فقل ناصرنا، وكان أعظم ما زال به ملكنا استتار الأخبار عنا. وقالت الحكماء: أسرع الخصال في هدم السلطان وأعظمها في إفساده وتفريق الجمع عنه إظهار المحاباة لقوم دون قوم، والميل إلى قبيلة دون قبيلة، فمتى أعلن بحب قبيلة فقد برئ من قبائل. وقديماً قيل: المحاباة مفسدة. وقال مهبوز الموبذان: من زوال السلطان تقريب من ينبغي أن يباعد، ومباعدة من ينبغي أن يقرب وحينئذ حان أوان الغدر. وقيل لملك بعد زوال ملكه: ما الذي أذهب ملككم؟ قال: ثقتي بدولتي واستبدادي بمعرفتي، وإغفالي استشارتي وإعجابي بشدتي وإضاعتي الحيلة في وقت حاجتي والتأني عند عجلتي. ولما أحيط بمروان الجعدي وهو آخر ملوك بني أمية. قال: والهفاه على دولة ما نصرت وكف ما ظفرت ونعمة ما شكرت! فقال له خادمه بسيل وكان من أشراف أولاد الروم: من أغفل الصغير حتى يكبر والقليل حتى يكثر، والخفي حتى يظهر أصابه مثل هذا. وسئل بعض العلماء: ما الذي ذهب بملك بني مروان؟ قال: تحاسد الأكفاء وانقطاع الأخبار. وذلك أن يزيد بن عمر كان يحب أن يضع من نصر بن سيار وكان لا يمده بالرجال، ولا يرفع إلى السلطان ما يورد عليه من أخيار خراسان، فلما رأى ذلك نصر

الباب الثالث عشر: في الصفات الذاتية التي زعم الحكماء أنه لا يدوم معها مملكة

بن سيار قال: أرى خلل الرماد رميض نارٍ فيوشك أن يكون لها ضرام وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام فقلت تجاهلاً: يا ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام؟ وكان العباسيون يؤسسون لدولتهم ولا تصل أخبارهم إلى بني أمية، حتى استفحل أمرهم وضعف أمر بني أمية. وسئل مروان بن محمد الجعدي وهو آخر ملوك بني أمية: ما الذي أضعف ملكك بعد قوة السلطان وثبات الأركان؟ فقال: الاستبداد برأيي، لما كثرت علي كتب نصر بن سيار أن أمده بالأموال والرجال، قلت في نفسي: هذا رجل يريد الاستكثار من الأموال بما يظهر من فساد الدولة قبله، وهيهات أن ينتقض على خراسان فانتفضت دولته من خراسان. الباب الثالث عشر: في الصفات الذاتية التي زعم الحكماء أنه لا يدوم معها مملكة ومن أعجب العجاب دوام الملك مع الكبر والإعجاب! اعلموا أن الكبر والإعجاب يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل، لأن الكبير يكون بالمنزلة والعجب يكون بالفضيلة، والمتكبر يجل نفسه عن رتبة المتعلمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدبين، وحسبك من رذيلة تمنع من استماع النصح وقبول التأديب، فالكبر يكسب المقت ويمنع من التألف، وكل كبر ذكره الله تعالى في القرآن فمقرون بالشرك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أنهاك عن الشرك بالله والكبر كأنه يحتجب في تعصب منهما. وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يذهب به فصرفه إلى الكبر. وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه، ولم تزل الحكماء تتحامى الكبر وتأنف منه. قال الشاعر: فتى كان عذب الروح لا من خصاصة ولكن كبراً أن يقال به كبر! ونظر أفلاطون إلى رجل جاهل معجب بنفسه فقال: وددت أني مثلك في ظنك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. وقالت الحكماء: وقد يدوم الملك مع معظم النقائص، فرب فقير ساد قومه ورب أحمق ساد قبيلته. منهم الأقرع بن حابس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك الأحمق المطاع وقالوا: لا يدوم الملك مع الكبر، وحسبك من رذيلة تسلب السيادة. وأعظم من ذلك أن الله تعالى حرم الجنة على المتكبرين، فقال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} (القصص: 83) ، فقرن الكبر بالفساد فمنعنا من دخول الجنة. وقال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف: 146) . وقال بعض الحكماء: ما رأيت متكبراً إلا تحول داؤه في عيني أني أتكبر عليه. واعلم أن الكبر يوجب المقت، ومن مقته رجاله لم يستقم حاله، ومن أبغضته بطانته كان كمن غص بالماء، ومن كرهته الحماة تطاولت إليه الأعداء. وأما الإعجاب فيحمله على الاستبداد بالرأي وترك مشاورات الرجال. ومن الصفات التي لا تقوم معها المملكة: الكذب والغدر والخبث والجور والسخف. وقال حكماء العرب والعجم: ست خصال لا تغتفر من السلطان: الكذب والخلف والحسد والجراءة والبخل والجبن، فإنه إذا كان كذاباً لم يوثق بوعده ولا بوعيده، فلم يرج خيره ولم يخف شره، ولا بهاء لسلطان لا يرهب. وقالت الحكماء: خراب البلاد وفساد العباد مقرونان بإبطال الوعد والوعيد من الملوك. والكذب أسقط

الأخلاق وأغلب شيء على صاحبه، وأحرى أن لا ينزع عنه لضراوته. وقيل لأعرابي: لم لا تكذب؟ قال: لو تعززت به ما تركته وهو نوع من الفحش وضرب من الدناءة، وأصله استعذاب المنا وهو أضغاث فكر الحمقى. ومن بليته أنه يحمل على صاحبه ذنب غيره، وإذا سمعت كذبة طائحة نسبت إليه. وقال الشاعر: حسب الكذوب من المها نة بعض ما يحكى عليه فإذا سمعت بكذبة من غيره نسبت إليه وقال غيره: لا يكذب المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدب لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد وفي لعب ولآخر: لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة ومما روي أن قيصر ملك الروم كتب إلى كسرى أنوشروان في آخر كتاب: أخبرني بم دام لك الملك؟ فأجابه: دام الملك بست خصال: ما هزلنا في أمر ولا نهي، وما كذبنا في وعد ولا وعيد، وما قابلنا إلا على قدر الذنب لا على قدر غضبنا، واستخدمنا ذوي العقول، وولينا ذوي الأصول، وفضلنا على الشباب الكهول. فلما قرأها قيصر قام وقعد ثلاث مرات وقال: يحق لمن كانت هذه سياسته أن تدوم له رياسته. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} (النحل: 105) . وأما الحسد فإنه إذا كان حسوداً لم يشرف أحداً، وإذا ضاعت الأشراف هلكت الأتباع ولا تصلح الناس إلا على أشرافهم. وقال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وأما البخل فإذا كان بخيلاً لم يناصحه أحد ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة، وليس للملك أن يبخل لأن بيوت الأموال في يديه. وأما الجبن فإنه إذا كان جباناً اجترأ عليه عدوه وضاعت ثغوره، وإذا كان جريئاً غضوباً والقدرة من ورائه هلكت الرعية. وليس للملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته. ولما دخل أسقف نجران على مصعب بن الزبير فكلمه بشيء أغضبه، ضرب وجهه بالقضيب فأدماه، فقال الأسقف: إن شاء الأمير أخبرته بما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام فلا يغضب بعدها. قال: هات! قال: لا ينبغي للإمام أن يكون سفيهاً ومنه يلتمس الحلم، ولا جائراً ومنه يلتمس العدل. وقال الأوزاعي: يهلك السلطان بالإعجاب والاحتجاب. فأما الإعجاب فقد ذكرناه، وأما الاحتجاب فهو أدخل الخلال في هدم السلطان وأسرعها خراباً للدول، فإنه إذا احتجب السلطان فكأنه قد مات، لأن الحجب موت حكمي فتعبث بطانته بأرواح الخلائق وحريمهم وأموالهم، لأن الظالم قد أمن أن لا يصل المظلوم إلى السلطان. ومعظم ما رأينا في أعمارنا وسمعنا من دخول المفاسد على الملوك في حجبهم عن مباشرة الأمور، ولا تزال الرعية ذا سلطان واحد ما وصلوا إلى سلطانهم، فإذا احتجب فهناك سلاطين كثيرة. يا أيها المغرور المحتجب، احتجبت عن الرعية بالحجاب والأبواب، وجعلت دونهم جبالاً مشيدة وحظائر بالحجارة والماء والطين مانعة، وباب الله مفتوح للسائلين ليس هناك حاجب ولا بواب. قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان: 57) . وقال معاوية: ليس بين أن يملك السلطان رعيته أو تملكه إلا الحزم أو التواني، وكماله أمران: شدة في ير إفراط ولين في غير امتهان. وسئل بزرجمهر: أي الملوك أحزم؟ فقال: من ملك جده هزله وقهر لبه هواه، وأعرب عن ضمير فعله، ولم يخدعه رضاه عن سخطه ولا غضبه عن كيده. وقال بعض الحكماء: زوال الدول في اصطناع بعض السفل، ومن طال عدوانه زال سلطانه. وقالوا: من لم يستظهر باليقظة لم تنفعه الحفظة. وقال يحيى بن خالد: أحسن ما وجدت في طراز الحكم من البلاغة: البخل والجهل مع التواضع خير من السخاء والعلم مع الكبر. فيا لها حسنة غطت على سيئتين، ويا لها

الباب الرابع عشر: في الخصال المحمودة في السلطان

سيئة غطت على حسنتين! الباب الرابع عشر: في الخصال المحمودة في السلطان وقد اتفقت العلماء والحكماء عليها فقالوا: أيها الملك إن قصرت قوتك عن عدوك فتخلق بالأخلاق الجميلة التي ليس لعدوك مثلها، فإنها أنكأ فيه من الغارة الشعواء. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر بن الخطاب. فقال: كان عالماً برعيته عادلاً في أقضيته، عارياً من الكبر قبولاً للعذر، سهل الحجاب مصون الباب متحرياً للصواب، رفيقاً بالضعيف غير محاب للقوي ولا بجاف للقريب. قالوا: فالمنفعة توجب المحبة والمضرة توجب البغضة، والمخالفة توجب العداوة والمتابعة توجب الإلفة، والصدق يوجب الثقة والأمانة توجب الطمأنينة، والعدل يوجب اجتماع القلوب والجور يوجب الفرقة، وحسن الخلق يوجب المودة وسوء الخلق يوجب المباعدة، والانبساط يوجب المؤانسة والانقباض يوجب الوحشة، والكبر يوجب المقت والتواضع يوجب الرفعة، والجود يوجب الحمد والبخل يوجب المذمة، والتواني يوجب التضييع والجد يوجب رجاء الأعمال، والهوينا توجب الحسرة والحزم يوجب السرور، والتغرير يوجب الندامة والحذر يوجب العذر، وإصابة التدبير توجب بقاء النعمة. وبالتأني تسهل المطالب وبلين كنف المعاشرة تدوم المودة، وبخفض الجانب تأنس النفوس وبسعة خلق المرء يطيب عيشه، والاستهانة توجب التباعد وبكثرة الصمت تكون الهيبة، وبعدل المنطق يجبر الخلل وبالنصفة تكثر المواصلة، وبالإفضال يعظم القدر وبصالح الأخلاق تزكو الأعمال، وباحتمال المؤن يجب السودد وبالحلم على السفيه تكثر أنصارك عليه، وبالرفق والتؤدة يستحق اسم الكرم، وبترك ما لا يعنيك يتم لك الفضل. واعلم أن السياسة تكسو أهلها المحبة والفظاظة تخلع صاحبها ثوب القبول، ومن صغر الهمة الحسد للصديق على النعمة. والنظر في العواقب نجاة. ومن لم يحلم ندم ومن صبر غنم، ومن سكت سلم ومن خاف حذر، ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم، ومن فهم علم. ومن أطاع هواه ضل، ومع العجلة الندامة ومع التأني السلامة. زارع البر يحصد السرور، وصاحب العاقل مغبوط، وصديق الجاهل تعب. إذا جهلت فاسأل وإذا زللت فارجع، وإذا أسأت فاندم وإذا ندمت فاقلع، وإذا فضلت فاكتم وإذا منعت فاحمد، وإذا أعطيت فأجزل وإذا غضبت فاحلم. من بدأك ببره فقد شغلك بشكره. المروءات كلها تبع للعقل. الرأي تبع للتجربة. والعقل أصله التثبت وثمرته السلامة. والتوفيق أصله العقل وثمرته النجح، والتوفيق والاجتهاد زوجان، فلاجتهاد سبب والتوفيق ينجح بالاجتهاد. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) ، والأعمال كلها تبع للمقدور. واختار العلماء أربع كلمات من أربع كتب، من التوراة: من قنع شبع، ومن الزبور: من سكت سلم، ومن الإنجيل: من اعتزل نجا، ومن القرآن: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ} (آل عمران: 101) . الحلم شرف والصبر ظفر، والمعروف كنز والجهل سفه، والأيام دول والدهر غير، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله. اصطناع المعروف يكسب الحمد. أكرموا الجليس يعمر ناديكم. أنصفوا من أنفسكم يوثق بكم. إياكم والأخلاق الدنئة فإنها تضيع الشرف وتهدم المجد. نهنهة الجاهل أهون من جريرته. رأس العشيرة يحمل أثقالها. وأجمعت

الباب الخامس عشر: في بيان ما يعز به السلطان وهي الطاعة

حكماء العرب والعجم على أربع كلمات قالوا: لا تحمل قلبك ما لا يطيق، ولا تعمل عملاً لا ينفعك، ولا تغتر بامرأة وإن طالت صحبتها، ولا تثق بمال وإن كثر. الباب الخامس عشر: في بيان ما يعز به السلطان وهي الطاعة قال ملك فارس الموبذان: موبذ ما شيء واحد يعز به السلطان؟ قال: الطاعة. قال: فما ملاك الطاعة؟ قال: التودد إلى الخاصة والعدل على العامة. قال: صدقت! الأمانة معقل الطاعة والطاعة زينة الملة. وكان يقال: طاعة السلطان على أربعة أوجه: الرغبة والرهبة والمحبة والديانة. ولما دخل سعد العشيرة على بعض ملوك حمير، قال له: يا سعد ما صلاح الملك؟ قال: معدلة شائعة وهيبة وازعة ورعية طائعة، فإن المعدلة حياة الأنام وفي الهيبة يضيء الظلام، وفي طاعة الرعية التألف والالتئام. طاعة الأئمة فرض على الرعية. طاعة السلطان مقرونة بطاعة الله. اتقوا الله بحقه والسلطان بطاعته. من إجلال الله إجلال السلطان عادلاً كان أو جائراً. الطاعة تؤلف شمل الدين وتنظم أمور المسلمين. عصيان الأئمة يهدم أركان الملة. أولى الناس بطاعة السلطان ومناصحته أهل الدين والنعم والمروءات، إذ لا يقوم الدين إلا بالسلطان ولا تكون النعم والحرم محفوظة إلا به. الطاعة ملاك الدين. الطاعة معاقد السلامة وأرفع منازل السعادة، والطريقة المثلى والعروة الوثقى وقوام الأمة، وقيام السنة بطاعة الأئمة. الطاعة عصمة من كل فتنة ونجاة من كل شبهة. طاعة الأئمة عصمة لمن لجأ إليها وحرز لمن دخل فيها. ليس للرعية أن تعترض على الأئمة في تدبيرها وإن سولت لها أنفسها، بل عليها الانقياد وعلى الأئمة الاجتهاد. بالطاعة تقوم الحدود تقوم الحدود وتؤدى الفرائض، وتحقن الدماء وتأمن السبل. الإمامة عصمة للعباد وحياة للبلاد، أوجبها الله لمن خصه بفضلها وحمله أعباءها فقرنها بطاعته وطاعة رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) . طاعة الأئمة هدى لمن استضاء بنورها وموئل لمن حافظ عليها. الخارج عن الطاعة منقطع العصمة بريء من الذمة، مبدل بالكفر النعمة. طاعة الأئمة حبل الله المتين ودينه القويم، وجنته الواقية وكفايته العالية. إياكم والخروج من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة وعليكم بالإخلاص والنصيحة. ما مشى قوم إلى سلطان ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا. الطاعة مقرونة بالمحبة. طاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة. للرعية على السلطان الاستصلاح لهم، والتعهد لأمورهم وحسن السيرة فيهم والعدل عليهم، والتعديل بينهم. وحق السلطان عليهم الطاعة والاستقامة والشكر والمحبة. بالرعية من الحاجة إلى الراعي ما ليس بالراعي من الحاجة إليهم لولا الرعاة لهلكت الرعية، ولولا المسيم لهلكت السوام. الباب السادس عشر: في ملاك أمور السلطان قال سليمان بن داود عليهما السلام: الرحمة والعدل يحرزان الملك0 وقال زياد: ملاك السلطان ثلاثة أشياء: الشدة على المذنب ومجازاة المحسن وصدق القول. ولما غزا سابور ذو الأكتاف ملك الروم وأخرب بلاده، وقتل جنوده وأفنى بطارقته، قال له ملك الروم: إنك قد قتلت وأخربت فأخبرني ما الأمر الذي تثبت به حتى قويت على ما أرى، وبلغت في السياسة ما لم يبلغه ملك؟ فإن

الباب السابع عشر: في خير السلطان وشر السلطان

كان مما يضبط الأمر بمثله أديت إليك الخراج وصرت كبعض الرعية في الطاعة لك. فقال له سابور: إني لم أزد في السياسة على ثمان خصال: لم أهزل في أمر ولا نهي، ولم أخلف في وعد ولا وعيد، ووليت أهل الكفاية، وأثبت أهل النهي لا أهل الهوى، وضربت للأدب لا للغضب، وأودعت قلوب الرعية المحبة من غير جراءة والهيبة من غير ضغينة، وعمت بالقوت ومنعت الفضول. فأذعن له وأدى إليه الخراج. وكتب الوليد إلى الحجاج أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هوائي، وأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفي لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً يعطيه حظاً من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى البطر والمسيء، فخاف المذنب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. وقال أبو عبيدة: إذا كان الملك محصناً لسره بعيداً من أن يعرف ما في نفسه، متخيراً للوزراء مهيباً في أنفس العامة، متكافئاً بحسن البلاء، لا يخافه البريء ولا يأمنه المجرم، كان خليقاً ببقاء ملكه. الباب السابع عشر: في خير السلطان وشر السلطان أفضل الملوك من كان شركة بين الرعايا، لكل واحد منهم فيه قسطة، ليس أحد أحق به من أحد، لا يطمع القوي في حيفه ولا ييأس الضعيف من عدله. كان النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ بيده من إماء المدينة، فتطوف به على سكك المدينة حتى يقضي حاجتها. وفي حكم الهند: أفضل السلطان من أمنه البريء وخافه المجرم، وشر السلطان من خافه البريء وأمنه المجرم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمغيرة لما ولاه الكوفة: يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفك الفجار. وفي حكم الهند أيضاً: شر المال ما لا ينفق منه وشر الإخوان الخاذل، وشر السلطان ما خافه البريء، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن، وخير السلطان من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيفة حولها النسور؛ وعن هذا المعنى قالوا: سلطان تخافه الرعية خير لهم من سلطان يخافها. وفي الأمثال العامة: رهبوت خير لك من رحموت. وكان يقال: شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء والقسوة على الضعفاء والبخل عند الإعطاء. وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: ثلاثة من المقافر: جار ملازم إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك. وقال رجل لبعض الحكماء: متى أضل وأنا أعلم؟ فقال: إذا ملكتك أمراء، إن أطعتهم أذلوك وإن عصيتهم قتلوك. وقال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك: السلطان سوق ما نفق عنده أتى به. وفي كتاب ابن المقفع: الناس على دين الملك إلا القليل، فإن يكن للبر والمروءة عنده نفاق، فسيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض. وسمع زياد رجلاً يذم الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لعاقبته، إن الزمان هو السلطان. وقال معاوية لابن السكوي: صف لي الزمان. فقال: أنت الزمان إن تصلح يصلح، وإن تفسد يفسد. والمثل السائر في كل زمان وعلى كل لسان: الناس على دين الملك. وقال بعض الحكماء: إن أحق الناس من يحذر العدو الفاجر والصديق الغادر والسلطان الجائر. وقال بزرجمهر: أدوم التعب صحبة السلطان السيئ الخلق. وقال بعض الحكماء: إذا ابتلت بصحبة سلطان لا يريد صلاح رعيته، فقد خيرت بين خيرتين ليس بينهما خياراً: إما الميل مع الوالي على الرعية وهو

الباب الثامن عشر: في منزلة السلطان من القرآن

هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي وهو هلاك الدنيا، فلا حيلة لك إلا الموت أو الهرب منه. وقالوا: الملك العادل كالنهر الصافي، ينتفع به الأخيار والأشرار ولا يضر أحداً، والملك السوء مثل الجيفة، يسرع إليها شرار الحيوان ويتحاماها خيار الناس. الباب الثامن عشر: في منزلة السلطان من القرآن روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى ليزع بالسلطان مالاً يزع بالقرآن؛ معناه يدفع. وقال كعب: مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام والعمود السلطان، والأطناب والأوتاد الناس، لا يصلح بعضها إلا ببعض. قال أزدشير لابنه: يا بني إن الملك والدين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فالدين أس والملك حارس، ومن لم يكن له أس فمهدوم، ومن لم يكن له حارس فضائع. يا بني اجعل حديثك مع أهل المراتب وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين وسرك لمن عناه ما عناك، وليكن من أهل العقل. وكان يقال: الدين والسلطان توءمان. الباب التاسع عشر: في خصال جامعة لأمر السلطان قالوا: ظفر الملك بعدوه على حسب عدله في رعيته، ونكوبه في حروبه على حسب جوره في عساكره، وإصلاح الرعية أنفع من كثرة الجنود. وقالوا: تاج الملك عفافه وحصنه إنصافه، وسلاحه كفاته وملكه رعيته. وقالت حكماء الهند: لا ظفر مع بغي ولا صحة مع نهيهم، ولا ثناء مع كبر ولا شرف مع سوء أدب، ولا بر مع شح ولا اجتناب محرم مع حرص، ولا ولاية حكم مع عدم فقه ولا سؤدد مع انتقام، ولا ثبات ملك مع تهاون وجهالة وزارة. ولما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب فقال: أيها الناس إنه لا أحد أقوى عندي من المظلوم حتى آخذ له بحقه، ولا أضعف من الظالم حتى آخذ الحق منه. وقيل للإسكندر: بم نلت ما نلت؟ قال: باستمالة الأعداء والإحسان إلى الأصدقاء. وقال بزرجمهر: سوسوا أحرار الناس بمحض المودة، والعامة بالرغبة والرهبة، والسفلة بالمخافة. وقال الموبذان: السياسة التي فيها صلاح الملك الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم في غير مشقة، وسد الفروج وأمن السبل، وأن ينصف المظلوم من الظالم ولا يحمل القوي على الضعيف. وقالوا: الوالي من الرعية كالروح من الجسد لا حياة له إلا بها، وكالرأس من الجسد لا بقاء له إلا به، وبعد الوالي من إصلاح الرعية مع إفساد نفسه كبعد الجسد من البقاء بعد ذهاب الرأس. والسلطان خليق أن يعود نفسه الصبر على من خالف رأيه من ذوي النصيحة والتجرع لمرارة قولهم، ولا ينبغي أن يحسد الولاة إلا على حسن التدبير، ولا أن يكذب لأن أحداً لا يقدر على استكراهه، ولا أن يغضب لأن الغضب والقدرة لقاح الشر والندامة، ولا أن يبخل لأنه أقل الناس خوفاً من الفقر، ولا أن يحقد لأن قدره جل عن المجازاة، ولا ينبغي للوالي أن يستعمل سيفه فيما يكتفى فيه بالسوط، ولا سوطه فيما يكتفى فيه بالحبس، ولا حبسه فيما يكتفى فيه بالجفا والوعيد. وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها. ونحو هذا قول الشعبي: كان معاوية كالجمل الطب، والجمل الطب هو الحاذق بالمشي لا يضع يده إلا حيث تبصر عينه. وينبغي له أن يعلم رعيته أنه لا يصاب خيره إلا بالمعونة له على الخير، ولا ينبغي له أن يدع تفقد لطيف أمور الرعية

الباب العشرون: في معرفة الخصال التي هي أركان السلطان

اتكالاً على نظره في جسيمها، فإن للطيف موقعاً ينتفع به. وقد آتى الله ملك الدنيا سليمان بن داود عليهما السلام، ثم تفقد الطير فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ لأن التهاون باليسير أساس الوقوع في الكثير. وقد قال الشاعر: لا تحقرن سبياً كم جر شراً سبيب! وقالوا: أصل الأشياء كلها شيء واحد ولا يدع مباشرة جسيم أمره، فللجسيم موضع إن غفل عنه تفاقم، ولا يلزم نفسه مباشرة الصغير أبداً فيضع الكبير. وقال زياد لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: المؤذن للصلاة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد سخنه فسد، وصارخ الليل لشر دهاه، وصاحب البريد فإن التهاون بالبريد ساعة يخرب عمل سنة. وكان أبو العباس السفاح يقول: لأستعملن اللين حتى لا ينفع إلا الشدة، ولأكثرن من الخاصة ما أمنتهم على العامة،، ولأغمدن سيفي حتى يسله الحق، ولأعطين حتى لا أرى للعطية موضعاً. وقال أزدشير لما كمل ملكه وأباد أعداءه: إنه لم يحكم حاكم على العقول كالصبر، ولم يحكمها محكم كالتجربة، وليس شيء أجمع للعقل من خوف وحاجة يتأمل بها صفحات حاله. وكان عمر يقول: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف والقوة في غير عنف. وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: هل تعرف كلمات جامعات لمكارم الأخلاق، يقل لفظها ويسهل حفظها، وتكون لأغراضها لفقاً ولمقاصدها وفقاً، تشرح المنبهم وتوضح المستعجم؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، دخل أكثم بن صيفي حكيم العرب على بعض الملوك، فقال له: إني سائلك عن أشياء لا تزال في صدري معتلجة، وما تزال الشكوك عليها والجة، فأنبئني بما عندك فيها. فقال: أبيت اللعن؟ سألت خبيراً واستنبأت بصيراً، والجواب يشفعه الصواب فسل عما بدا لك. قال: ما السؤدد؟ قال: اصطناع المعروف عند العشيرة واحتمال الجريرة. قال: فما الشرف؟ قال: كف الأذى وبذل الندا. قال: فما المجد؟ قال: حمل المغارم وابتناء المكارم. قال: فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء في الشدة والرخاء. قال: فما العز؟ قال: شدة العضد وثروة العدد. قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل وحب السائل. قال: فما الغنى؟ قال: الرضا بما يكفي وقلة التمني. قال: فما الرأي؟ قال: لب تعينه تجربة. فقال له الملك: أوريت زناد بصيرتي وأذكيت نار خبرتي، فاحتكم. قال: لكل كلمة هجمة. قال: هي لك؟ قال الأصمعي: قال لي الرشيد: ولك بكل كلمة بدرة. فانصرفت بثمانين ألفاً. وكان قس بن ساعدة يفد على قيصر فيكرمه، فقال له يوماً: ما أفضل العقل؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف الرجل عند علمه. قابل: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحقوق. الباب العشرون: في معرفة الخصال التي هي أركان السلطان قال أبو جعفر المنصور: ما كان أحوجني أن يكون على بابي أربعة لا يكون على بابي أعف منهم. قيل: من هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم أركان الملك لا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، فإن نقص قائمة واحدة عابه: أحدهم قاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والآخر صاحب خراج يستقضي ولا يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه؟ قيل: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقال عمر بن الخطاب

الباب الحادي والعشرون: في حاجة السلطان إلى العلم

رضي الله عنه: لا يصلح الوالي إلا بأربع خصال، إن نقصت واحدة لم يصلح له أمر: قوة على جمع المال من أبواب حلة، ووضعه في حقه، وشدة لا جبروت فيها، ولين لا وهن فيه. الباب الحادي والعشرون: في حاجة السلطان إلى العلم قال ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكن يعجبك إن أكرموك لأدب أو علم أو دين. اعلم أرشدك الله أن أكثر الناس حاجة إلى النفقة أكثرهم عيالاً وأتباعاً وحشماً وأصحاباً، والخلق مستمدون من السلطان الخلائق السنية والطرائق العلية، مفتقرون إليه في الأحكام وقطع التشاجر وفصل الخصام، فهو أحوج خلق الله إلى معرفة العلوم وجمع الحكم، وشخص بلا علم كبلد بلا أهل. وأفضل ما في السلطان خصوصاً في الناس عموماً محبة العلم والتحلي به، والشوق إلى استماعه والتعظيم لحملته، فإن ذلك دليل على قوة الإنسانية فيه وبعده من البهيمية، ومضاهاته للعالم العلوي وهو من أأكد ما يتحبب به إلى الرعية، وإذا كان الملك خالياً من العلوم ركب هواه وأضر برعيته، كالدابة بلا رسن تمر في غير طريق، وقد تتلف ما تمر عليه. واعلم أن زهرة الفضائل وحسن المناقب وبهاء المحاسن، وما ضاد ذلك من قبح المثالب وفحش الرذائل، كل ذلك يظهر عليك ويعظم منك، بقدر ما أوتيته من علو المنزلة وشرف الحظوة، فيكون حسنك أحسن كما يكون قبحك أقبح. وليس أحد من أهل الدرجات السنية والمراتب العلية، أحوج إلى مجالسة العلماء وصحبة الفقهاء، ودراسة كتب العلوم والحكم ومطالعة دواوين العلماء، ومجامع الفقهاء وسير الحكماء من السلطان. وإنما كان كذلك من وجهين: أحدهما أنه قد نصب نفسه لممارسة أخلاق الناس وفصل خصوماتهم وتعاطي حكوماتهم، وكل ذلك يحتاج إلى علم بارع وفكر ثاقب، وبصيرة بالعلم قوية ودراسة طويلة، فكيف يكون حاله لو لم يعد لهذه الأمور عدتها ولم يقدم إليها أهبتها؟ والثاني أن من سواه من الناس لا يقدمون من يكثر عليهم ويعارضهم، ويذكر لهم مساويهم ويخالفهم في مذاهبهم، فيكون ذلك مما يعينهم على رياضة أنفسهم ويعلمهم مراشدهم، ومناظرة الأكفاء ومعاشرة النظراء تلقيح للعقول وتهذيب للنفوس وتدريب لمآخذ الأحكام، بخلاف السلطان فإن ارتفاع درجته يقطع عنه جميع ذلك، إذ لا يلقاه ولا يجالسه إلا معظم لقدره ومبجل لشأنه وساتر لمساويه ومادح له بما ليس فيه، وإنما جوابهم له صدق الأمير وعلى قدر الرتبة يكون علو السقطة، كما أن على قدر علو الحائط يكون صوت الوجبة. فصل: يا أيها الملك ليس أحد فوق أن يأمر بتقوى الله، ولا أحد دون أن يؤمر بتقوى الله، ولا أحد أجل قدراً من أن يقبل أمر الله، ولا أرفع خطراً من أن يتعلم حكم الله، ولا أعلى شأناً من أن يتصف بصفة من صفات الله. ومن صفات الله تعالى: العلم الذي وصف به نفسه وتمدح بسعته، فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة: 255) . والكرسي هو العلم، والكراسي هم العلماء. وإذا كان العلم فضيلة فرغبة الملوك وذوي الأخطار والأقدار والأشراف والشيوخ فيه أولى، لأن الخطأ فيهم أقبح والابتداء بالفضيلة فضيلة. حكي أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه. فقال: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، شغلونا في الصغر

واشتغلنا في الكبر! فقال المأمون: لم لا تتعلم اليوم؟ قال: أويحسن لمثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لأن تموت طالباً للعلم خير من أن تعيش قانعاً بالجهل! قال: ومتى يحسن طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة. وروي أن بعض الحكماء رأى شيخاً يطلب العلم ويحب النظر فيه ويستحي. فقال: يا هذا، أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله؟ ولأن الصغر أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر. وفي منثور الحكم: جهل الشاب معذور وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح ونقصه عليه أفضح، لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلاً ولم يفده علماً، كان الصغير أفضل منه، لأن الأمل فيه أقوى. وحسبك نقيصة في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه. وكل ما ذكرنا من حاجة الشيخ إلى العلم فحاجة السلطان إليه أكثر، ودواعيه إلى اكتسابه أشد، لأن من عداه إنما يخصه نفسه الواحدة فيفوت عليه تحصيل ما يقومها به، والملك منتصب سياسة أهل مملكته وتعليمهم وتقويم أودهم، فهو إلى العلم أحوج، كما قال الشاعر: إذا لم يكن مر السنين مترجماً عن الفضل في الإنسان سميته طفلاً وما تنفع الأعوام حين تعدها ولم تستفد فيهن علماً ولا عقلا؟ أرى الدهر من سوء التصرف مائلاً إلى كل ذي جهل كائن به جهلا! وما يألف الإنسان إلا شبيهه كذاك رأينا العير قد يألف البغلا! وقال بعض الحكماء: كل عز لا يوطده علم مذلة، وكل علم لا يؤيده عقل مضلة. وكيف يستنكف ملك أو ذو منزلة علية عن طلب العلم؟ وهذا موسى عليه السلام ارتحل من الشام إلى مجمع البحرين في أقصى المغرب على بحر الظلمات، إلى لقاء الخضر ليتعلم منه، فلما ظفر به قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف: 66) . هذا وهو نبي الله وكليمه. وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته من جميع خلقه، قد أوصاه ربه سبحانه وتعالى وعلمه كيف يستنزل ما في خزائنه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) . فلو كان في خزائنه أشرف من العلم لنبهه عليه. وهذا آدم عليه السلام لما فخرت الملائكة بتسبيحها وتقديسها لربها وفخر آدم بالعلم: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 31) . فلما عجزوا أمرهم بالسجود له. وأخلق بخصلة تستدعي السجود لحاملها أن يتنافس فيها كل ذي لب! وهذا فصل الخطاب لمن تدبره. ولا ينصبن لك عذراً بما روي في بعض الأخبار مثل الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر، مثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء. وسمع الأحنف رجلاً يقول: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقال الأحنف: الكبير أكبر عقلاً ولكنه أشغل قلباً؛ ففحص عن المعنى ونبه على العلة. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون شيوخاً وكهولاً وأحداثاً، وكانوا يتعلمون العلم والقرآن والسنن وهم بحور العلم وأطواد الحكم والفقه، غير أن العلم في الصغر أرسخ أصولاً وأبسق فروعاً، وليس إذا لم يحوه كله يفته كله. قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه! فقال أبو هريرة: كفى يتركك له تضييعاً. وبعض الخير من كل الشر. وإنما مثل الجاهل تحت عبء الجهل مثل الحمال تحت حمل ثقيل، فإن هو كلما أعيى نقصه قليلاً فيوشك أن ينقصه كله فيستريح منه، وإن هو لم يطرح القليل حتى يطرح الكثير فما أوشك أن يصرعه حمله، فكذلك الجاهل إذا تعلم قليلاً قليلاً يوشك أن يأتي على بقيته، وإن لم يتعلم في الكبر ما فاته في الصغر فأوشك به أن يموت تحت عبء الجهل! الباب الثاني والعشرون: في وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

الباب الثالث والعشرون: في العقل والدهاء والخبث والمكر

رضي الله عنه لكميل بن زياد في العلم وأهله قال كميل بن زياد النخعي: خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الجبانة، فلما أصحرنا تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل بن زياد، إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير. احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا منه إلى ركن وثيق. العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. ومحبة العلم دين يدان الله تعالى به يكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. مات خزنة الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أشخاصهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة. إن ههنا، وأشار بيده إلى صدره، لعلماً جماً لو أصبت له حملة بل قد أصبت له لقناً غير مأمون عليه، يستعمل الدين للدنيا فيستظهر بحجج الله على كتابه، أو كما قال، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أخبائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك! أو مهموماً باللذات سريع الانقياد للشهوات، أو مغرى شأنه جمع المال والادخار ليسا من رعاة الدين أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة. اللهم فكذلك يموت العلم بموت حامليه، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحججه لئلا تبطل حجج الله وبيناته، ومن أولئك، وأين أولئك، أولئك الأقلون عدداً الأكثرون عند الله قدراً، تجول الحكمة في قلوبهم حتى يزرعها في قلوب أشباههم، ويودعوها في صدور نظرائهم. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوحشه المترفون واستأنسوا بما استوحش الجاهلون. صحبوا الدنيا بأجساد أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده وأمناؤه على عباده، ودعاته إلى دينه. آه شوقاً إلى رؤيتهم! الباب الثالث والعشرون: في العقل والدهاء والخبث والمكر قد ذكرت في كتاب الأسرار حقيقة العقل وأقسامه ومحله وأحكامه بما لا مزيد عليه. ونذكرها ها هنا منافعه ومداركه ولباب ما تحرر من القول فيه: إنه الاستشهاد بالشاهد على الغائب، فمن كان في طوقه أن يستدل بما شاهده على ما غاب عنه، كان معه عقل ويسمى عاقلاً عند الموحدين، وبه يتوجه التكليف عليه، وذلك كمن نظر إلى قصر قد كمل بنيانه وحصنت أركانه، وجعل فيه من الآلات ما يكتفي به ساكنوه، فأشرف عليه إنسان فرأى بيوتاً مقطوعة وأبواباً منصوبة، وفرشاً مفروشة وزرابي مبثوثة وموائد موضوعة، وصحافاً مصفوفة وأرائك منضودة وحجالاً مسدلة، وطشوتاً وأباريق وبيوت ماء وميازيب تصب الماء، وتحتها بلاليع لغيض الماء وطيقان للضياء الواقع، ومداخن للدخان الخارج ومنافس للرياح والهواء، إلى سائر ما يستعده العقلاء للإنتفاع. ثم فكر هل هذا القصر بما حواه صنعة قادر صانع عالم حي، أو اتفق لنفسه وتركب على صورته بلا صانع؟ فيستقر في عقله بالضرورة استحالة وجوده من غير صانع، وأنه يفتقر إلى صانع صنعه، وهذا علم يهجم على العقول لا يفتقر إلى نظر واستدلال. وإنما كثرت لك هذه الأمثلة لأن ما في الإنسان من الأعضاء ولطيف الصنعة والعجائب أكثر مما في القصر بأضعاف مضاعفة، فإذا نظر إلى ما في نفسه فرأى ما فيها من العجائب والتركيب، ومنفعة كل عضو وتخصيصه إما بجلب نفع أو دفع ضر، فأمعن نظره في عضو واحد مثلاً وهو فمه، فيرى في

فصل:

أوله أسناناً تشبه القوس تصلح للقطع، وفي آخره طواحين مضرسة تصلح للطحن، وشدقيه كأنهما ثقال الرحى يمنعان أن ينهرق الطعام إلى خارج، ولسان يرد ما انفلت من الطعام إليه على الطواحين، ثم يلي ذلك بلعوم يصلح لازدراد هذا الطحين، علم بأدنى تأمل أن هذه الخلقة ما انفعلت بنفسها اتفاقاً بل هي مفتقرة إلى قصد قاصد وجعل جاعل. وعلى هذا النمط لو ذهبنا نذكر منفعة كل عضو لوقفت على العجب ولكن تركناه كراهية التطويل. وعلى هذا المعنى نبه الكتاب المهيمن، فقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذريات: 21) . وبهذه العبرة تستقل العقول بإثبات الصانع، وتستغني عن النظر في الجواهر والأعراض. فالعلم المفيد لإثبات الصانع في الشاهد مثل البناء والنجار والخياط وأشباههم بعد النظر في صنائعهم على اضطرار، والعلم المثبت للصانع سبحانه عند النظر في حدث العالم على استدلال اعتباراً للغائب بالشاهد، إذ لا فرق في العقول بين صنعة وصنعة في اقتضاء صانع، وإنما كان العلم في الشاهد ضرورياً لأن الإنسان لم يزل يرى البناء يبني والخياط يخيط والنجار ينجر الخشب، ولم تر العقلاء القديم سبحانه وتعالى يخلق ويخترع وإنما استفادوه من النظر في الشاهد. فإن قيل: فأي العلمين أقوى في النفوس وأثبت في العقول عند النظر في السرير واقتضائه النجار أو العلم بالإله عند النظر في السموات والأرضين وما بينهما؟ فالجواب: إن هذا يستدعي تفصيلاً وتدقيقاً وليس هذا الكتاب موضعاً لذلك، فحينئذ يعلم أن معه عقلاً غريزياً ونسميه عاقلاً ونوجه التكليف عليه، وهو العقل التكليفي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن الله تعالى خلق الخلق على أربعة أنحاء: ملائكة وآدميين وشياطين وبهائم. فأما الملائكة فعقول بلا شهوات ولا هوى، وأما البهائم فشهوات بلا عقول، وأما الشياطين والجن فركب الله فيها العقول والشهوات والهوى، وهكذا ركب في بني آدم العقل والهوى والشهوة، فغلبت شهوات الشياطين وهواهم عقولهم، فقطعوا أوقاتهم بالأخلاق المذمومة بالكبر والعجب والمقت والفخر والدعوى، والحسد والأذية وسائر الأخلاق المهلكة، وأما البهائم فقطعت أوقاتها في شهوات البطن والفرج. وأما الآدميون فركب فيهم عقول الملائكة وأخلاق الشياطين وشهوات البهائم، فمن غلب عقله هواه منهم فكأنه من عالم الملائكة كالأنبياء والرسل والأولياء والأصفياء وقليل ما هم. وأما من كان عقله مغلوباً بهواه وشهواته، فإن كان ذلك من المباحات من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب والنساء، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فأكل وتمتع بعد أن كسبه من حله فهذا من عالم البهائم، وإنما ألحقناه بعالم البهائم لأنه لا تكليف على البهائم، وكذلك من هذه المباحات لا حرج في الاستمتاع بها بعد أن يكون كسبها من حله، وإن كان الغالب عليه أخلاق الشياطين من الكبر والعجب والحسد والغش إلى سائر الأخلاق المذمومة، فهذا من عالم الشياطين. وإن اجتمع في الشخص إفراط الشهوات واتباع الهوى والأخلاق المذمومة فيكون آدمياً في صورته، شيطاناً في خلائقه، بهيمة في شهواته، فلا يصلح للصحبة. وإذا ثبت هذا فاعلم أن هذا العقل الغريزي أطول رقدة من العين وأحوج إلى الشحذ من السيف. فصل: وأما العقل المكتسب فهو نتيجة العقل الغريزي، وهو ثقابة المعرفة وإصابة الفكرة وليس له حد ينتهي إليه، لأنه ينمو إذا استعمل وينقص إذا أهمل. ونموه يكون بأحد وجهين: إما أن يقارنه من مبدأ النشو ذكاء وحسن فطنة كالذي قال الأصمعي: قلت لغلام حدث من

أولاد العرب كان يحادثني، وأمتعني والله بفصاحته وملاحته: أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنك أحمق؟ قال: لا والله! قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى علي حمقي؛ استخرج هذا الصبي بفرط ذكائه ما يدق على من هو أكبر منه سناً. وقيل لبعض الصبيان: ألك أب؟ قال: فكأني عيسى بن مريم! وقد قالت الحكماء: آية العقل سرعة الفهم وغايته إصابة الوهم، وليس للذكاء غاية ولا لجودة القريحة نهاية. ألا ترى أن أياس بن معاوية الذي يضرب المثل بذكائه قال لأبيه وهو طفل، وكان أبوه يؤثر أخاه عليه: يا أبت، تعلم ما مثلي ومثل أخي معك إلا أنا كفرخ الحمام، أقبح ما يكون أصغر ما يكون، وكلما كبر ازداد ملاحة وحسناً، فتبنى له العلالي وتتخذ له المربعات وتستحسنه الملوك، ومثل أخي مثل الجحش أملح ما يكون أصغر ما يكون وكلما كبر قبح وصار إلى القهقرى، إنما يصلح لحمل الزبل والتراب. والوجه الثاني ما يصلح لذوي الحنكة وصحة الروية لطول ممارسة والأمور كثيرة التجارب، ومرور العبر على أسماعهم وتقلب الأيام وتصرف الحوادث وتناسخ الدول، قد مرت على عيونهم وجوه الغير وتصدت لأسماعهم أنواع الأخبار وآثار العبر. قال بعض الحكماء: كفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عظة. وقالوا: التجربة مرآة العقل والغرة ثمرة الجهل. ولذلك حمدت آراء الشيوخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار وينابيع الأنوار، لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم وهم، فعليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن عدموا ذكاء الطبع فقد أفادتهم الأيام حنكة وتجربة. وقال الشاعر: ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول التجارب وقال الآخر: إذا طال عمر المرء في غير آفة أفادت له الأيام في كرها عقلا غير أن للعقل آفات، كما قال بعض الحكماء: كيف يرجو العاقل النجاة، والهوى والشهوة قد اكتنفاه، والهوى أبعد من أن تنفذ فيه حيلة الحازم المحتال، وهو أغمض مسلكاً في الجنان من الروح في الجثمان، وأملك في النفس من النفس والمالك للشيء. ولهذا قيل: كم من عاقل أسير عند هوى أمير؟ فمن أحب أن يكون حراً فلا يهوى وإلا صار عبداً كما قال علي بن الجهم: أنفس حرة ونحن عبيد إن رق الهوى لرق شديد واختلف الناس في العقل المكتسب إذا تناهى وزاد في الإنسان، هل يكون فضيلة أم لا؟ فقال معظم العقلاء: إنه فضيلة لأنه أذن كان مجموع آحاد وللآحاد فضائل، ولا شك أن كثرة الفضائل فضيلة. وأما الشيء المحدود فتكون الزيادة فيه نقصاً من المحدود كالتهور في الشجاعة، والتبذير في الكرم. وأما الزيادة في العقل المكتسب فزيادة علم بالأمور وحسن إصابة بالظنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الناس أعقل الناس. وقال عليه السلام: العقل حيث كان إلف مألوف. وقال القاسم بن محمد: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب الخصال عليه. ولما مات بعض الخلفاء تخشخشت الروم واحتشدت واجتمعت ملوكها وقالوا: الآن يستقل المسلمون بعضهم ببعض فتمكننا الغرة فيهم والوثبة عليهم، وضربوا في ذلك مشاورات وتراجعوا فيه بالمناظرات، واجتمعوا على أنه فرصة الدهر وثغرة النحر. وكان رجل منهم من ذوي الرأي والمعرفة غائباً عنهم فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه. فلما أخبروه بما أجمعوا

عليه قال: لا أرى ذلك صواباً. فسألوه عن علة ذلك فقال: غداً أخبركم إن شاء الله. فلما أصبحوا غدوا عليه للوعد وقالوا: لقد وعدتنا. قال: نعم. فأمر بإحضار كلبين عظيمين قد أعدهما، ثم حرش بينهما وألب كل واحد منهما على الآخر فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما، فلما بلغا الغاية فتح باب بيت عنده وأرسل منه على الكلبين ذئباً عنده قد أعده، فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتألفت قلوبهما ووثبا جميعاً على الذئب، فنالا منه ما أرادا. ثم أقبل الرجل على أهل الجمع فقال لهم: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلاب، لا يزال الهرج والقتال بينهم ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم، فإذا ظهر لهم عدو من غيرهم تركوا العداوة بينهم وتألفوا على العدو. فاستحسنوا قوله وتفرقوا عن رأيهم. وأما المذموم في هذا الباب فصرف العقل إلى الدهاء والمكر. قال الشعبي: دهاة العرب ستة: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أمية وقيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن بديل بن ورقا. قال الأصمعي: كان معاوية يقول: أنا للأناة وعمرو للبداهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أعطى الجزيل مال من غير سلطان من طلحة بن عبيد الله، ولا رأيت أثقل حلماً ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سراً بعلانية من زياد، ولو أن المغيرة كان في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها. وقال أبو الدرداء: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ومن لي بالعقل؟ قال: اجتنب محارم الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً، ثم تنفل صالح الأعمال تزدد في الدنيا عقلاً وتزدد من ربك قرباً وعليه عزاً. وتروى هذه الأبيات لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن المكارم أخلاق مطهرة فالعقل أولها والدين ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والعرف سادسها والبر سابعها والصبر ثامنها والشكر تاسعها واللين عاشيها والنفس تعلم أني لا أصدقها ولست أرشد إلا حين أعصيها والعين تعلم من عيني محدثها إن كان من خربها أو من أعاديها وقال بعض الحكماء: العاقل من عقله في إرشاد، ومن رأيه في إمداد، فقوله سديد وفعله حميد، والجاهل من جهله في إغواء، فقوله سقيم وفعله ذميم. فأما من صرف فضل عقله إلى الدهاء والمكر والشر والحيل والخديعة، كالحجاج وزياد وأشباههما، فمذموم. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بالخب والخب لا يخدعني. وقال المغيرة: كان والله عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع. والموصوف بالدهاء والمكر مذموم، وصاحبه محذور تخاف غوائله وتحذر عواقب حبائله. وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري أن يعزل زياداً عن ولايته، فقال زياد: أعن موجده أو جناية يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكن كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. وكتب زياد إلى معاوية رضي الله عنه: إن العراق في شمالي ويميني فارغة، فولني الحجاز أكفك أهله. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الهم كفه. فطعن في إصبعه بعد أيام فمات. فنحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر فإنا

الباب الرابع والعشرون: في الوزراء وصفاتهم

نرغب في الحيلة ونوصي بها. والإتساع في الحيلة مما تواصى به العقلاء قديماً وحديثاً، وليس شيء من أمور الدنيا لطالب الرفعة وباغي الوسيلة، ومرتاد أي أمر كان، دق أو جل، خير من الحيلة. وأضعف الحيلة أنفع من كثرة الشدة. وقالت الحكماء: ملاك العقل الحيلة والتأني للسبب الضعيف والقوي من الأمور. وروي أن رجلاً وقف بكسرى فقال: أنا أصنع ما تعجز الخلائق عنه. قال: ما هو؟ قال: تشد برجلي حبلاً طرفه برقبة فيل وبرجلي الأخرى كذلك، ويشد طرفه برقبة فيل ثم تساق الفيلة بالزجر والضرب فلا أتزحزح. ثم تعاطى أن يفعل ذلك بأربعة من الفيلة فمرت بحدتها فقسمته شطرين، فقال كسرى: من لم يكن أكبر ما فيه عقله هلك بأصغر ما فيه؛ فنظمه بعض الشعراء فقال: من لم يكن أكبره عقله أهلكه أصغر ما فيه وسمعت القاضي أبا الوليد يحكي أن رجلاً استأذن هارون الرشيد فقال: إني أصنع ما تعجز الخلائق عنه. فقال الرشيد: هات. فأخرج أنبوبة فصب فيها عدة إبر ثم وضع واحدة في الأرض وقام على قدميه، وجعل يرمي إبرة إبرة من قامته فتقع كل إبرة في عين الإبرة الموضوعة حتى فرغ دسته. فأمر الرشيد بضربة مائة سوط ثم أمر له بمائة سوط ثم أمر له بمائة دينار، فسئل عن جمعه بين الكرامة والهوان فقال: وصلته لجوده ذكائه وأدبته لكي لا يصرف فرط ذكائه في الفضول. ومن زعم أن العقل المكتسب إذا تناهى لا يكون فضيلة، قال لأن الفضائل هبات متوسطة بين الفضيلتين ناقصتين، فما جاوز التوسط خرج عن حد الفضيلة، كالكرم الذي هو متوسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين التهور والجبن. وقالت الحكماء للإسكندر: أيها الملك عليك بالاعتدال في كل الأمور فإن الزيادة عيب والنقصان عجز. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الأمور أوسطها. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير الأمور الأوسط، إليه يرجع العالي ومنه يلحق التالي. قالوا: ولأن زيادة العقل تفضي بصاحبها إلى الدهاء والمكر، وذلك مذموم. قلنا: هذا كله باطل بما قدمناه لنصرة القول الأول، وهو منقوض بالعقل الغريزي وبالعلوم وسائر الفضائل. وأما قولهم بأنه يقضي بصاحبه إلى الدهاء والمكر. قلنا: الدهاء والمكر كسب معان أخر غير العقل ليست من لوازم العقل، فإن شاء تداهى ومكر وإن شاء كف، كما تقول في كل شر يكتسبه العاقل باختياره: ليس عقله أوقعه فيه بل إنما أوقعه فيه قلة عقله. وكان بزرجمهر لما فرغ من كتاب أمثاله، ونسق كل باب على حياله يقول: ليس العجب ممن حفظ هذه الأمثال فصار عالماً، إنما العجب ممن حفظها ولم يصر عالماً. وأنا أقول: ليس العجب ممن قرأ كتابي هذا وصار مهذباً كاملاً إنما العجب ممن قرأه ولم يصر مهذباً كاملاً. الباب الرابع والعشرون: في الوزراء وصفاتهم قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} (طه: 29) . فلو كان السلطان يستغني عن الوزراء لكان أحق الناس بذلك كليم الله موسى بن عمران. ثم ذكر حكمة الوزراء فقال: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه32: 31) . دلت هذه الآية على أن موضع الوزير أن يشد قواعد المملكة وأن يفضي إليه السلطان بعجز ونحوه إذا استكملت فيه الخصال المحمودة. ثم قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً*وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} (طه34: 33) . دلت هذه الكلمة على أن بصحبة العلماء والصالحين وأهل الخبرة والمعرفة

تنتظم أمور الدنيا والآخرة، وكما أن أشجع الناس يحتاج إلى السلاح وأفره الخيل إلى السوط، وأحد الشفار إلى المسن، كذلك يحتاج أجل الملوك وأعظمهم وأعلمهم إلى الوزير. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبياً ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى. وإنما اشتقت الوزارة من الوزر وهو الثقل. يريد أنه يحمل من أمر المملكة وأعبائها وأثقالها مثل الأوزار. أسعد الملوك من له وزير صدق، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه. قال وهب بن منبه: قال موسى عليه السلام لفرعون: آمن ولك الجنة ولك ملكك. قال: لا حتى أشاور هامان. فشاوره في ذلك فقال: بينما أنت إله تعبد إذ صرت تعبد! فأنف واستكبر وكان من أمره ما كان. وعلى هذا النمط كان وزير الحجاج يزيد بن أبي مسلم لا يألوه خبالاً، ولبئس القرناء شر قرين لشر خدين! وأشرف منازل الآدميين النبوة ثم الخلافة ثم الوزارة الوزير عون على الأمور وشريك في التدبير، وظهير على السياسة ومفزع عند النازلة. والوزير مع الملك بمنزلة سمعه وبصره ولسانه وقلبه. وفي الأمثال: نعم الظهير الوزير. واعلم أن أول ما يستفيد الملك من الوزير أمرين: علم ما كان يجهله، ويقوي عنده علم ما كان يعلمه. وأول ما يظهر نبل السلطان وقوة تمييزه وجودة عقله في استنجاب الوزراء واستنفاد الجلساء ومحادثة العقلاء، فهذه ثلاث خصال تدل على كماله وبهائه، يجمل في الخلق ذكره ويجل في العقول قدره، وترسخ في النفوس عظمته والمرء موسوم بقرينه. وكان يقال: حلية الملوك وزينتهم وزراؤهم. وفي كتاب كليلة ودمنة: لا يصلح السلطان إلا بالوزراء ولا الأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفاف. وأعظم الأشياء ضرراً على الناس عامة، وعلى الولاة خاصة أن يحرموا صالحي الوزراء ولأعوان، فتكون أعوانهم غير ذي جدوى وغنى، ويحذر الملك أن يولي الوزارة غير المتحرين كيلا تضيع الأمور، كما يحذر أن يتطبب بغير طبيب بصير مأمون. قال شريح بن أبي عبيد: لم يكن في بني إسرائيل ملك إلا ومعه رجل حكيم، إذا رآه غضبان كتب له صحائف في كل صحيفة: ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة. فكلما غضب الملك ناوله صحيفة حتى يسكن غضبه. وقال أزدشير: يحق على الملك أن يكون ألطف ما يكون نظراً أعظم ما يكون خطراً، ولا يذهب حسن نظره في الرعية خوفه لها، ولا يستغني بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للمتملقين أكثر من حذره للمتباعدين، وأن يتقي بطانة السوء أشد من اتقائه العامة، ولا يطمعن في إصلاح العامة إلا بالخاصة. وقال أزدشير: لكل ملك بطانة حتى يجمع ذلك جميع المملكة، فإذا أقام الملك بطانة على حال الصواب أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك، حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية. ومثال الملك الخير مع الوزير السوء الذي يمنع الناس خيره ولا يمكنهم من الدنو منه كالماء الصافي، فيه التمساح فلا يستطيع المرء دخوله، وإن كان سابحاً وكان إلى الماء محتاجاً. ومثل السلطان مثل الطبيب ومثل الرعية مثل المرضى، ومثل الوزير مثل السفير بين المرضى والأطباء، فإن كذب السفير بطل التدبير، وكما أن السفير إذا أراد أن يقتل أحداً من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه، فإذا سقاه الطبيب على صفة السفير هلك العليل، كذلك الوزير ينقل إلى الملك ما ليس في الرجل فيقتله الملك. فمن ههنا شرطنا أن يكون الوزير

صدوقاً في لسانه عدلاً في دينه، مأموناً في أخلاقه بصيراً بأمور الرعية، ويكون بطانة الوزير من أهل الأمانة والبصيرة، ويحذر الملك أن يولي الوزارة لئيماً فإن اللئيم إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل. ولما أراد سليمان بن عبد الملك أن يستكتب كاتب الحجاج يزيد بن مسلم، قال له عمر بن عبد العزيز: أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تحيي ذكر الحجاج باستكتابك إياه. فقال: يا أبا حفص إني لم أجد عنده خيانة دينار ولا درهم. قال عمر: أنا أوجدك من هو أعف منه في الدينار والدرهم. قال: ومن هو؟ قال: إبليس ما مس ديناراً ولا درهماً وقد أهلك هذا الخلق. ودخل رجل له عقل وأدب على بعض الخلفاء، فوجد عنده رجلاً ذمياً كان الخليفة يميل إليه ويقربه فقال: يا ملكاً طاعته لازمة وحبه مفترض واجب إن الذي شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب وأشار إلى الذمي، فاسأله يا أمير المؤمنين عن ذلك، فسأله فلم يجد بداً من أن يقول: هو صادق، فاعترف بالإسلام. لا يعرف وزير الملك ما له أو ما عليه حتى يراعي من صاحبه الواثق به ما يراعيه العاشق الغيور من المعشوقة المتهمة. وكان بعض الملوك قد كتب ثلاث رقاع وقال لوزيره: إذا رأيتني غضبان فادفع إلي رقعة بعد رقعة، وكان في الأولى: إنك لست بإله وإنك ستموت وتعود إلى التراب فيأكل بعضك بعضاً. وفي الثانية: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وفي الثالثة: اقض بين الناس بحكم الله فإنه لا يصلحهم إلا ذلك. إذا كان الوزير يساوي الملك في الرأي والهيبة والطاعة فليصرعه الملك، فإن لم يفعل فليعلم أنه المصروع. وفي الأمثال: إذا سكنت الدهماء خافت الوزراء. ولما كانت أمور المملكة عائدة إلى الوزارة وأزمة الملوك في أكف الوزراء، سبق فيهم من العقلاء المثل السائر فقالوا: لا تغتر بمودة الأمير إذا غشك الوزير، وإذا أحبك الوزير فلا تخش الأمير. ويقال: الخرق مماراة الأمراء ومعاداة الوزراء، ورب أمر كرهه الأمير فتم بالوزير، وكم من أمر أراده الأمير فنهاه عنه الوزير! وإنما السلطان كالدار والوزير بابها، فمن أتى الدار من بابها ولج، ومن أتاها من غير بابها انزعج. وقال أنوشروان: لا يتم للملك أمره حتى يرفع نفسه عن كل عيب، ويكون له جليس مأمون الغيب وخادم ناصح الجيب. وموقع الوزارة من المملكة كموقع المرآة من النظر، فكما أن من لم ينظر إلى المرآة لم ير محاسن وجهه وعيوبه، كذلك السلطان إذا لم يكن له وزير لا يعرف محاسن دولته وعيوبها. كاتب الملك مستقر أسراره ولسانه الناطق عنه في آفاق مملكته، والمخصوص بقربه ولزومه دون نظرائه. ظهير الأمير وزيره وزينته حاجبه، ولسانه كاتبه ورسوله عينه. الكتابة قوام الخلافة وقرينة الرياسة وعمود المملكة. للكاتب على الملك ثلاثة أشياء: يرفع الحجاب عنه ويتهم الوشاة عليه ويفشي سره إليه. وقد قالت الحكماء: لا يطمعن ذو الكبر في الثناء، ولا الخب في كثرة الصديق، ولا السيئ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البر ولا الحريص في قلة الذنوب، ولا الملك المتهاون الضعيف الوزراء في بقاء الملك، وكما أن المرآة لا تريك وجهك إلا بصفاء جوهرها، وجودة صقلها ونقائها من الصدأ، كذلك الأمير لا يكمل أمره إلا بجودة عقل الوزير وصحة فهمه وصفاء نفسه ونقاء قلبه. ومن شروط الوزير أن يكون مكين الرحمة

الباب الخامس والعشرون: في الجلساء وآدابهم

للخلق رؤوفاً بهم، ليأنسوا برحمته ما يخرجه السلطان بغلظته. ومن شروطه أن يكون نقي الجيب ناصح الغيب، لا يقبل دقيقة ولا يكتم نصيحة. قال بعض الملوك لوزيره: لا تكونن إلى ما تسرني به أسرع مبادرة إلى إنذاري فيما تخاف علي منه. وقال بعض الحكماء: أعط من أتاك بما تكره كما تعطي من أتاك بما تحب، فإن من أنذر كمن بشر. ومن شروطه أن يكون معتدلاً كليل تهامة لا حر ولا قر ولا سآمة، وموقع الوزير من الملك موقع الملك من العامة، وكما أن السلطان إذا صلح صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية، كذلك الوزراء إذا فسدوا فسد الملك وإذا صلحوا صلح الملك. وكان يقال: آفة العقل الهوى، وآفة الأمير سخافة الوزير. وقال المقتدر بالله لوزيره علي بن عيسى: اتق الله يعطفني عليك ولا تعصه يسلطني عليك. وقال المأمون لمحمد بن يزداد: إياك أن تعصي الله فيما تتقرب به إلي فيسلطني عليك. واعلم أنه ليس للوزير أن يكتم السلطان نصيحة وإن استقلها، وموضع الوزير من المملكة كموضع العين من الإنسان وكاليدين، فإنه إذا صح قبضهما وبسطهما صح التدبير، وإذا سقما دخل النقص على الجسد. ولا تصلح الوزارة أن تكون في غير أهلها، كما لا يصلح الملك أن يكون في غير أهله. وشر الوزراء من كان الأشرار أيضاً له وزراء وبطانة ودخلاء. وأوصت امرأة ابنها وكان ملكاً فقالت: يا بني ينبغي للملك أن تكون له ستة أشياء: وزير يثق برأيه ويفضي إليه بأسراره، وحصن يلجأ إليه إذا فزع، وسيف إذا نازل الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة كانت معه، وامرأة إذا دخلت عليه أذهبت همه، وطباخ إذا لم يشته الطعام طبخ له ما يشتهيه. الباب الخامس والعشرون: في الجلساء وآدابهم قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67) . وقال سبحانه: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان29: 28) . وينبغي للملك أن يجالس أهل العقل والأدب وذوي الرأي والحسب، وذوي التجارب والعب، فمجالسة العقلاء لقاح العقل ومادته، ولذلك حمدت آراء الشيوخ، فقال القدماء: المشايخ أشجار الوقار وينابيع الأنوار، لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم وهم. وقالوا: عليكم بآراء الشيوخ، فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرت على عيونهم وجوه العبر، وتصدت لأسماعهم آثار الغير. وقالوا: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. وقال عبد الملك لجلسائه: جنبوني ثلاثاً: لا تطغوني فإني أعرف بنفسي منكم، ولا تكذبوني فإنه لا رأي لكذوب، ولا تغتابوا عندي أحداً فيفسد قلبي عليكم. وقال بعض الحكماء: كفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عظة. وقالوا: التجربة مرآة العقل والغرة ثمرة الجهل. وقد قال هرم بن قطبة وهو أحد حكماء العرب، حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة: عليكم بالحديث السن الحديد النظر. وقال كثير من حكماء العرب: عليكم بمشاورة الشباب فإنهم ينتجون رأياً لم يضره طول القدم، ولا استولت عليه رطوبة الهرم، والمذهب الأول أصدق على العقول. وقال عبد العزيز بن زرارة لمعاوية: عليك بمجالسة الألباء، أعداء كانوا أو أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل. قال ابن عباس: مجالسة العقلاء تزيد في الشرف. وقال سفيان بن عيينة: إن الرجل ممن كان قبلكم ليلقى الرجل العاقل فيكون بعقله عاقلاً أياماً. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه. مر سليمان بن داود عليهما السلام بقصر بأرض مصر فوجد فيه مكتوباً:

غدونا من قرى اصطخر إلى قصر قفلناه فمن يسأل عن القصر فمبنياً وجدناه يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه وللشيء على الشيء علامات وأشباه وللمرء على المرء دليل حين يلقاه فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهل أردى حكيماً حين واخاه قال: ووجد عليه نسراً واقعاً فدعاه، فقال له: من بنى هذا القصر؟ فقال: لا أدري. فقال: كم لك منذ وقعت عليه؟ قال: تسعمائة سنة. وفي الأمثال: يظن بالمرء ما ظن بخليله. ولما حج عبد الله بن جعفر نزل بمكة ليلاً، فلما أصبح قال: يا أهل مكة عرفنا خياركم من شراركم في ليلة واحدة. قالوا: كيف ذلك؟ قال: نزلنا ومعنا أخيار وأشرار، فنزل أخيارنا على أخياركم وأشرارنا على أشراركم فعرفناكم. واعلم أنه ليس الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب. وقال الأوزاعي: الصاحب كالرقعة في الثوب، إن لم تكن من مثله شانته. وقال مالك بن مسمع للأحنف بن قيس: يا أبا بحر ما أشتاق إلى غائب إذا حضرت، ولا أنتفع بحاضر إذا غبت؛ فأخذه إبراهيم الكاتب فنظمه فقال: وأنت الهوى من بينهم وأنت الحبيب وأنت المطاع وما بك إن بعدوا وحدة وما معهم إن بعدت اجتماع وقال عبد الله بن طاهر: المال غاد ورائح والسلطان ظل زائل، والإخوان كنوز وافرة. وقال الأصمعي: تناظر رجلان وأعرابي حاضر فقال لأحدهما: مناظرة مثلك في الدين فرض والاستماع منك أدب، ومجالستك زين ومعرفتك عز، ومذاكرتك تلقيح للعقول وشحذ وإخاؤك شرف وفخر. وقال السمناني: غنى مخارق بين يدي المأمون: وإني لمشتاق إلى ظل صاحب يروق ويصفو إن كدرت عليه عذيري من الإنسان لا إن جفوته صفا لي ولا إن صرت طوع يديه فطرب المأمون وقال: ويحك يا مخارق خذ مني نصف الخلافة وأعطني هذا الإنسان! وقالت الحكماء: النظر في عواقب الأمور تلقيح للعقول. وقالوا: العاقل لا تنقطع صداقته والأحمق لا تدوم مودته، فاتخذ من نصحاء أصحابك مرآة لطبائعك وفعائلك كما تتخذ لوجهك المرآة المجلية، فإنك إلى إصلاح طبائعك أحوج منك إلى تحسين صورتك. وقال المأمون للحسن بن سهل: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة خلا سبعة. قال: وما السبع يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة ولحم الغنم والماء البارد والثوب الناعم، والرائحة الطيبة والفراش الوطيء والنظر إلى الحسن من كل شيء. قال: فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال؟ قال: صدقت وهي أولاهن. وقال هشام بن عبد الملك: قد قضيت الوطر من كل شيء فأكلت الحلو والحامض حتى لا أجد منهما طعماً، وشممت الطيب حتى لا أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً، فما وجدت شيئاً ألذ من جليس سقطت بيني وبينه مؤونة التحفظ. وقال عبد الملك بن مروان: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من مجالسة الأصحاب، ومحادثة الإخوان في الليالي الزهر على

الباب السادس والعشرون: في بيان معرفة الخصال التي هي جمال السلطان

التلال العفر. وقال عبد الملك: من قرب السفلة وأدناهم وباعد ذوي العقل وأقصاهم استحق الخذلان، ومن منع المال من الحمد ورثه من لا يحمده. ومن الكلام الشريف قول الحكماء: ما أحوج ذا القدرة إلى دين يحجزه وحياء يكفه وعقل يعدله، وإلى تجربة طويلة وعبر محفوظة، وإلى أعراق تسري إليه وأخلاق تسهل الأمور عليه، وإلى جليس رفيق ورائد شفيق، وإلى عين تنظر العواقب وعقل يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر، ومن لم يتحفظ من فلتان الزلل لم يتعاظمه ذنب وإن عظم ولا ثناء وإن سمج، وإذا رأيت من جليسك أمرأ تكرهه أو خلة لا تحبها، أو صدرت منه كلمة عوراء أو هفوة غبراء، فلا تقطع حبله ولا تصرم وده، ولكن داو كلمه واستر عورته فأبقه وابرأ من عمله. قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 216) ، فلم يأمره بقطعهم وإنما أمره بالبراءة من عملهم السوء. قال الشاعر: إذا راب مني مفصل فقطعته بقيت وما بي للنهوض مفاصل ولكن أداويه فإن صح سرني وإن هو أعيى كان فيه تحامل وجاء رجل إلى بعض الحكماء فشكى إليه صديقه، وعزم على قطعه والانتقام منه، فقال له الحكيم: أتفهم ما أقول لك فأكلمك، أم بك من ثورة الغضب ما يشغلك عنه؟ فقال: إني لما تقول واعٍ. فقال: أسرورك بمودته كان أطول أم غمك بذنبه؟ فقال: بل سروري. قال: أفحسناته عندك أكثر أم سيئاته؟ قال: بل حسناته. قال: فاصفح يصالح أيامك عن ذنبه وهب لسرورك جرمه، واطرح مؤونة الغضب والانتقام منه، ولعلك لا تنال ما أملت فتطول مصاحبة الغضب وأنت صائر إلى ما تحب. الباب السادس والعشرون: في بيان معرفة الخصال التي هي جمال السلطان قد ذكرنا الخصال التي تجري من المملكة مجرى الأساس من البنيان، ونذكر الآن الخصال التي تجري من المملكة مجرى التاج والطيلسان وحسن الهيئة والكمال، فأصلها وقاعدتها العفو. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) . فلما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب جبريل ثم عاد فقال: يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عن ظلمك. واعلموا أرشدكم الله أن الله تعالى أمر بالعفو وندب إليه، وذكر فضيلته وحث عليه ووصف به نفسه، فقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134) . فأوجب الله تعالى محبته للعافين وأثنى عليهم بالإحسان فقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 43) ، وعزائم الأمور من صفات المصطفين من الرسل عليهم السلام. قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الاحقاف: 35) وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: 37) . وقال سبحانه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22) . فاستعطف الخلق وندبهم إلى أن يعفو عن الجناة والظالمين والخاطئين كما يحبون أن يفعل الله بهم. وقال فيمن انتصر ولم يعف: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 41) . فرفع الحرج عن المنتصر والمنتقم ولم يوجب له فضيلة. ثم كشف الغطاء وأزاح العذر وصرح بتفضيل العافين على المنتصرين، والواهبين حقوقهم على المنتقمين، فقال

سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل: 126) . وهذا نص لا يحتمل التأويل. وتحقيق القول في ذلك أن الانتصار عدل والعفو فضل، وفضل الله أحب إلينا من عدله، لأنه إن عدل علينا فأخذناه بحقه هلكنا، وإن عفا عنا برحمته تخلصنا، ولو كان العدل يسع الخلائق لما قرنه الله تعالى بالإحسان، ولما علم أن في العدل استقصاء ومناقشة، وذلك مما تضيق عنده النفوس وتحرج له الصدور. نيط الإحسان بالعدل فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} (النحل: 90) . وأيضاً فإن الانتصار سيئة والعفو حسنة. قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} (فصلت: 34) . والدليل على أن الانتصار سيئة قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40) . غير أنه إنما سميت سيئة لما كانت منتجة سيئة لا أنه لا يجوز الانتصار، وهو كقول عمرو بن كلثوم الثعلبي: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فسمى الجزاء على الجهل جهلاً وإن لم يكن في الحقيقة جهلاً. وعن هذا روت عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط، غير أنه إذا انتهك شيء من محارم الله تعالى فلا يقوم لغضبه شيء. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. فإن عفوت أيها الطالب كان أجرك على الله، وإن لم تعف كان حقك قبل من ظلمك، ولأن يكون أجرك في ضمان الله تعالى أوثق من أن يكون قبل مخلوق. وأيضاً فإنك إن لم تعف نلت حقك بلا زيادة عليه، وإن عفوت كانت حسنة أسديتها لأخيك، والله تعالى يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) . وشفع الأحنف ابن قيس إلى السلطان في محبوس فقال له: إن كان مجرماً فالعفو يسعه، وإن كان بريئاً فالعدل يسعه. وقيل لبعض الكتاب بين يدي أمير المؤمنين: بلغ أمير المؤمنين عنك أمر. فقال له: لا أبالي! فقيل له: ولم لا تبالي؟ فقال له: إن صدق الناقل وسعني عفوه، وإن كذب وسعني عدله. ولما دخل عيينة بن حصن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل وما تحكم فينا بالعدل! فغضب عمر وهم أن يوقع به، فقال ابن أخيه: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) . وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله تعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وقال: ارحم ترحم. وكان يقال: أولى الناس بالسلطان أحقهم بالرأفة والرحمة. وفي الإنجيل أفلح أهل الرحمة لأنهم سيرحمون. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: لقد أبغض الله المتسرعين إلى هرق الدماء، انتهت إليهم القسوة والغلظة والتباعد من الرحمة. ولما تمكن داود من قتل جالوت أبقى عليه وهو يومئذ عدوه وطالبه وقال: رب أعظم دمي في عين أعدائي كما عظمت في عيني دم عدوي، وكذلك خلصني من جميع الهموم. وقالت حكماء الهند: لا سؤدد مع انتقام، ولا رياسة مع عزازة نفس وعجب. وقالت الحكماء: ليس الإفراط في شيء أجود منه في العفو، ولا هو في شيء أقبح منه في العقوبة. وكذلك التقصير مذموم في العفو محمود في العقوبة. واعلم أنك لأن تخطئ في العفو في ألف قضية خير من أن تخطئ في العدل في قضية واحدة. وقال معاوية رضي الله عنه: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا يواريها ستري. وقال المأمون:

ليس علي في الحلم مؤونة، ولوددت أن أهل الجرائم علموا رأيي في الحلم فيذهب الخوف فتخلص لي قلوبهم وقال رجل للمنصور: يا أمير المؤمنين إن الانتقام انتصاف والتجاوز فضل، والمتجاوز قد جاوز حد المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجتين، فاعف عنا يعف الله عنك. فعفا عنهم. وأنشدوا: وإذا بغى باغ عليك بجهله فاقتله بالمعروف لا بالمنكر وقال بعضهم لمسلم بن قتيبة لما عفا عنه: والله ما أدري أيها الأمير، أي يوميك أشرف: أيوم ظفرت أم يوم عفوت؟ وقال الشاعر: ما زلت في العفو للذنوب وإط لاقك جان يجرمه علق حتى تمنى العصاة أنهم عندك أمسوا في القيد والحلق ورفع إلى أنوشروان: إن العامة تؤنب الملك في معاودة الصفح عن المذنبين مع تتابعهم في الذنوب، فوقع المجرمون مرضى ونحن أطباء، وليس معاودة الداء إياهم بمانعنا من معاودة العلاج لهم. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة. وقال رجل لعبد الملك بن مروان لما ظفر بالمهلب: ما رأيت أحداً يا أمير المؤمنين ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك ولا عفا عفوك. وقال بعض التابعين: المعاقب مستدع لعداوة أولياء المذنب، والعافي مستدع لشكرهم أو مكافأتهم أيام قدرتهم، ولأن يثني عليك باتساع الصدر خير من أن تنسب إلى ضيقه، وإقالة العثرة موجبة إقالة عثرتك من ربك، وعفوك عن الناس موصول يعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله تعالى لك، والله يحب العافين. وقال المنصور: عقوبة الأحرار التعريض وعقوبة الأشرار التصريح. وقال المأمون: لما رأيت الذنوب جلت عن المجازة بالعقاب جعلت فيها العقاب عفواً أمضى من الضرب للرقاب وقال الأحنف: لا تزال العرب بينة الفضل ما لم تعد العفو ضيماً والبذل شرفاً. وفي الحكمة: إذا انتقمت فقد انتصفت، وإذا عفوت فقد تفضلت. وقال بعض الحكماء: اقبل العذر وإن كان مصنوعاً، وإلا أن يكون مما أوجبت المروءة قطيعته، أو يكون في قبولك عذره تشجيعه على المكروه أو عونه على الشر، فإن قبولك العذر فيه اشتراك في المنكر. ولما دخل الفيل دمشق حشد الناس لرؤيته وصعد معاوية في علية له متطلعاً، فبينا هو كذلك إذ نظر في بعض الحجر في قصره رجلاً مع بعض حرمه، فأتى الحجرة ودق الباب فلم يكن من فتحه بد، فوقعت عينه على الرجل فقال له: يا هذا أفي قصري وتحت جناحي تهتك حرمي وأنت في قبضتي؟ ما حملك على ذلك؟ فبهت الرجل وقال: حلمك أوقعني! قال له معاوية: فإن عفوت عنك تسترها علي؟ قال: نعم. فخلى سبيله، وهذا من الدهاء العظيم والحلم الواسع أن يطلب الستر من الجاني، وهو عروض قول الشاعر: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم فنعتذر وأتى موسى الهادي برجل قد جنى، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل: إن اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري بما ذكرت ذنب، ولكني أقول: فإن كنت ترجو في العقوبة راحة فلا تزهدن عند المعافاة في الآجر! فأمر بإطلاقه. وقال المهلب: لا شيء أبقى للملك من العفو، فإن الملك إذا وثقت رعيته منه

بحسن العفو لم يوحشها الذنب وإن عظم، وإن خشيت منه العقوبة أوحشها الذنب وإن صغر، حتى يضطره ذلك إلى المعصية. ومن الحكمة البالغة في هذا قول سابور وقد جمع أولاده فقال: يا بني إذا أعجزكم أن تملؤا قلوب الرعية حياء فاملؤوها خوفاً، وليس ذلك بأن تحمل العقوبة على من لا يستحقها ولكن تعجيلها لمن يستحقها. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} (الأنفال: 57) . وهذا المعنى لا يختل عما أوجبناه، وهذا معنى قول سابور ولا يخالف ما قررنا من حسن العفو، بل هذا المحمول على الواجب المستحق أو على ما في تركه إغراء بركوب أمثاله، فها هنا يكون العفو مفسدة. فيا أيها المعاقب إذا أقمت على مذنب عقوبة فلا تكن كالمستشفى المتلذذ بعذابه، لأنك وإياه أخوان لأب وأم آدم وحواء، لم تفضله بحولك وقوتك بل بما فضلك الله به تطولاً عليك، فاذكر لو كنت في مقامه وكان في مقامك، ولا تأمن من تقلب الدهر فتقوم مقامه بين يدي من لا يرحم ولا ينظر في العواقب، واحذر التفريط والتقصير فأقم نفسك مذنباً أقيم للعقوبة، وليكن عقابك مقدراً كما كان عطاؤك مقدراً، وليكن عقابك للتقويم لا للانتقام وللزجر لا للهوى. وعن هذا قال بزرجمهر: لا ينبغي للملوك أن يكرموا أحداً بهوان من ليس للهوان أهلاً، وأن يهينوا أحداً بكرامة من ليس للكرامة أهلاً. لا تكن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا على البخل أسرع منك إلى البذل. قال الشاعر: صفوح عن الإجرام حتى كأنه من العفو لم يعرف من الناس مجرماً فليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى بالكره لم يغش مسلماً وقال سليمان بن داود عليهما السلام: التنكيل والعقوبة أمنية الملك الشرير وعلى مثله يبعث الله ملكاً غير رحيم. وقال معاوية: لا ينبغي للملك أن يظهر منه غضب أو رضى إلا ثواب أو عقاب. وقال أزدشير: فضل الملك على السوقة إنما هو بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فكلما استكثر منها بانت فضيلته واستحقاقه لموضعه من الولاية عليهم، وكلما نقص منها قرب من السوقة. وقال المأمون: إني لأجد لعفوي لذة من لذة الانتقام. واعلم أنه إذا عاقب الملك وأهان على ظن بغير يقين، أدخل على نفسه من قبح الخطأ في الرأي أعظم مما أدخل على صاحبه من العقوبة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغالب بالشر مغلوب وما ظفر من ظفر إلا بالإثم. وقيل لأفلاطون: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الله تعالى؟ فقال: الإحسان إلى الناس. وقال حكيم: الحلم قوام السفيه والعفو زكاة العقل. وقال حكيم: السيد الذي لا يشين حسن الظفر بقبح الانتقام، وخير مناقب الملوك العفو. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من أذل العبد بالذنب وأذل الذنب بالعفو. إلهي إن عفوت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم. إلهي إن كنت لا ترضى إلا عن أهل طاعتك، فكيف يصنع الخاطئون؟ وإن كان لا يرجوك أهل وفائك فبمن يستغيث المستغيثون؟ وقال الشاعر: وإن الله ذو حلم ولكن بعز الحلم ينتقم الحليم وروي أن الحجاج أخذ قطرى بن الفجاءة فقال: لأقتلنك! قال: ولم؟ قال: لخروج أخيك علي. قال: إن معي كتاب أمير المؤمنين أن لا تأخذني بذنب أخي! قال: هاته. قال: فإن معي أوكد منه، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) . فتعجب من جوابه وخلى سبيله. ولما وفد عقيل بن أبي طالب على

الباب السابع والعشرون: في المشاورة والنصيحة

معاوية أمر له بمائة ألف درهم، فلما أراد الانصراف رأى في الطريق جارية بأربعين ألف درهم، فرجع إلى معاوية فأخبره. قال: وما تصنع بها؟ قال: تلد لي غلاماً فإن أغضبتني يضرب مفرقك بالسيف. فأمر له بها فابتاعها فولدت له مسلم بن عقيل، ثم قدم مسلم إلى الشام فابتاع منه معاوية ضيعة، فبلغ الحسين بن علي الخبر فكتب إلى معاوية: إني لا أجيز بيع مسلم! فأرسل معاوية إلى مسلم فقال: هذا كتاب الحسين يأمر برد المال. فقال مسلم: أما دون أن أضرب مفرقك بالسيف فلا! فضحك معاوية وقال: والله لقد تهددني أبوك بذلك قبل أن يشتري أمك، وسوغه المال. فقال الحسين حين بلغه ذلك: غلبنا معاوية جوداً وحلماً! الباب السابع والعشرون: في المشاورة والنصيحة وهذا الباب مما يعده الحكماء من أساس المملكة وقواعد السلطنة، ويفتقر إليه الرئيس والمرؤوس. وقد ذكرنا في باب الخصال الفرقانية ونذكر ههنا فوائدها ومحاسنها. اعلموا أن المستشير وإن كان أفضل رأياً من المشير فإنه يزداد برأيه رأياً، كما تزداد النار بالسليط ضوءاً، فلا تقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فيمنعك ذلك عن المشاورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر به ولكن للانتفاع به، وإن أردت الذكر كان أفخر لذكرك وأحسن عند ذوي الألباب لسياستك أن يقولوا: لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوته. ولا يمنعك عزمك على إنفاذ رأيك وظهور صوابه لك عن الاستشارة، ألا ترى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها، فحمله حسن الأدب وعلمه بموقعه في النفوس على الاستشارة فيه، فقال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (الصافات: 102) . وهذا من أحسن ما يرسم في هذا الباب. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين والثلاثة الآراء كالثلاثة لا تكاد تنقطع. وروي أن رومياً وفارسياً تفاخرا. فقال الفارسي: نحن لا نملك علينا من يشاور. وقال الرومي: ونحن لا نملك علينا من لا يشاور. وقال بزرجمهر: إذا أشكل الرأي على الحازم كان بمنزلة من أصل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها فالتمسها فوجدها، كذلك الحازم بجمع وجوه الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها ببعض حتى يخلص له الصواب. وكان يقال: من كثرت استشارته حمدت إمارته. وفي حكم الهند قال بعض الملوك: إن الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزامة، وكما يزداد البحر بمواده من الأنهار، وينال بالحزم والرأي ما لا يناله بالقوة والجند، ولم تزل حزمة الرجال يستحلون مرائر قول النصحاء، كما يستحلي الجاهل المساعدة على الهوى. قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي أخلاق المخلوع، يعني أخاه الأمين. فقال: كان واسع الصدر ضيق الأدب، يبيح من نفسه ما تأباه همم الأحرار ولا يصغي إلى نصيحة ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه فيرى سوء عاقبته ولا يردعه ذلك عما يهم به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: يجمع الكتائب بالتبذير ويفرقها بسوء التدبير. فقال المأمون: لذلك ما حل محله. أما والله لو ذاق لذاذة النصائح، واختار مشورات الرجال وملك نفسه عند شهوتها ما ظفر به. وقال بعضهم: إنفاذ الملك الأمور بغير روية كالعبادة بغير نية، ولم تزل العقلاء على اختلاف آرائهم يشهدون العيوب، ويستشيرون صواب الرأي من كل أحد حتى الأمة الوكعاء. هذا وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي. وكان يقال: من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي

الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب. وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره وتقديمه خير من تأخيره. وقال صاحب كتاب التاج: إن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال بعضهم: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً، فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر للسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض. وكان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته فقصروا في الرأي، دعا الموكلين بأرزاقهم فعاقبهم فيقولون: تخطئ مرازبتك وتعاقبنا؟ فيقول: نعم لم يخطئوا إلا لتعلق قلوبهم بأرزاقهم وإذا اهتموا أخطأوا. وكانوا إذا اهتموا بمشاورة رجل بعثوا إليه بقوته وقوت عياله لسنة ليتفرغ لبه. وكان يقال: النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت وإذا شاورت فاصدق الخبر تصدقك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك. وقال بعض ملوك العجم: لا يمنعك شدة بأسك في باطنك، ولا علو مكانك في نفسك من أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك، فإن أصبت حمدت وإن أخطأت عذرت، فإن في ذلك خصالاً منها إن وافق رأيك رأي غيرك ازداد رأيك شدة عندك، وإن خالفه عرضته على نظرك، فإن رأيته معتلياً لما رأيته قبلته، وإن رأيته متضعاً استغنيت عنه. وذلك أنه يجدد لك النصيحة ممن شاورته وإن أخطأ، وتمحض لك مودته وإن قصر، ولو لم يكن من فضيلة المشورة إلا أنك إن أصبت مستبداً سلبت فائدة الإصابة بألسنة الحسدة، وقال قائل: هذا اتفاق ولو فعل كذا لكان أحسن، وإذا شاورت فأصبت حمد الجماعة رأيك لأنهم لنفوسهم يحمدون، وإن أخطأت حمل الجماعة خطأك لأنهم عن أنفسهم يكافحون. واعلم أن القول الغليظ يستمع لفضل عاقبته كما يتكاره شرب الدواء المر لفضل مغبته. وقال أعرابي: ما عثرت قط حتى عثر قومي. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم. وقيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم يا بني عبس! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، ونحن نطيعه فكأنا ألف حازم. وكان ابن أبي هبيرة أمير البصرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من صحبة من غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره. وفي حكم الهند: من التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي وازداد مرضاً وحمل الوزر. وقالت الحكماء: لا تشاور معلماً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء، ولا صاحب حاجة يريد قضاءها ولا خائفاً ولا من يرهقه أحد السبيلين. وقالوا: لا رأي لحاقب ولا لحازق ولا لحاقن، ولا تشاور من لا توفيق عنده. الحازق: هو الذي ضغطه الخف الضيق والحاقب: هو الذي يجد في بطنه درأ. وقالوا من شكا إلى عاجز أعاره عجزه وأمده من جزعه. ومن لطيف ما جرى في الاستشارة أن زياداً بن عبيد الله الحارثي استشاره عبد الله بن عمر في أخيه أبي بكر أن يوليه القضاء، فأشار به فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد الله يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد الله: أنشدك الله أترى لي القضاء؟ قال: اللهم لا. قال زياد: سبحان الله استشرتك فأشرت علي به ثم أسمعك تنهاه. فقال: أيها الأمير استشرتني فاجتهدت لك الرأي ونصحتك ونصحت للمسلمين، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته. وروي أن الحجاج بعث إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب له المهلب: إن من البلاء أن يكون الراعي لمن يملكه دون من يبصره.

فصل في النصيحة: اعلموا أن النصح لمسلمين وللخلائق أجمعين من سنن المرسلين. قال الله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (هود: 34) وقال شعيب عليه السلام: ونصحت لكم فكيف آسي على قوم كافرين. وقال صالح عليه السلام: ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة! الدين النصيحة! الدين النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم. فالنصح في الجملة فعل الشيء الذي به الصلاح والأمانة، مأخوذ من النصاحة وهي السلوك التي يخاط بها وتصغيرها نصيحة، تقول العرب: هذا قميص منصوح أي مخيط. ونصحته نصحاً إذا خطته. ويختلف النصح في الأشياء لاختلاف الأشياء. فالنصح لله: هو وصفه بما هو أهله، وتنزيهه عما ليس بأهل له عقداً وقولاً، والقيام بتعظيمه والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه والتباعد عن مساخطه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، والجهاد في رد العصاة إلى طاعته قولاً وفعلاً، وإرادة بث جميع ما ذكرناه في عباده، والنصيحة لكتابه: إقامته في التلاوة وتحسينه عند القراءة، وتفهم ما فيه واستعماله والذب عنه من تأويل المحرفين وطعن الطاعنين، وتعليم ما فيه للخلائق أجمعين؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (صّ: 29) والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: مؤازرته ونصرته، والحماية من دونه حياً وميتاً، وإحياء سنته بالطلب وإحياء طريقته ببث الدعوى، وتأليف الكلمة والتخلق يالأخلاق الطاهرة. والنصيحة للأئمة: معاونتهم على ما تكلفوا القيام به في تنبيههم عند الغفلة وإرشادهم عند الهفوة، وتعليمهم عندما جهلوا وتحذيرهم ممن يريد السوء بهم، وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية، وسد خلتهم عند الحاجة ونصرتهم في جمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم. والنصح لجماعة المسلمين: الشفقة عليهم وتوقير كبيرهم والرحمة لصغيرهم، وتفريج كربهم ودعوتهم إلى ما يسعدهم، وتوقي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم. ومن النصيحة للمسلمين: رفع مؤنة نفسه وبدنه وحوائجه عنهم. قال الأصمعي: لقط عمر بن الخطاب رضي الله عنه نواة من الطريق فأمسكها بيده حتى مر بدار قومٍ فألقاها في الدار وقال: يأكلها داجنهم. والنصح لجميع الملل أن يحب إسلامهم، ويدعوهم إلى الإيمان بالقول ويحذرهم سوء مغبة الكفر، وبالسيف إن كان ذا سلطان، أو يكفوا عن قتال المسلمين فيكونوا ذمة، وإلا فالقتل نصحاً لله لإقامة أمره فيهم. روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يضل عليهن قلب مسلم: العمل لله ومناصحة ولاة الأمر والاعتصام بجماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم. وروى جابر بن عبد الله: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني وبما استطعت والنصح لكل مسلم. وقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وقال أبو الدرداء: العلم يعلمه البر والفاجر والحكمة ينطق بها البر والفاجر، والنصيحة لله لا تثبت إلا في قلوب المنتخبين الذين صحت عقولهم وصدقت نياتهم. واعلم أن جرعة النصيحة مرة لا يقبلها إلا أولو العزم. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي. وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: قل لي في وجهي

الباب الثامن والعشرون: في الحلم

ما أكرهه، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه. وقال مالك: النصيحة لله في أرضه هي التي بعث الله بها أنبياءه، ومن أمر الإسلام القصد والنصيحة لعباد الله في أمورهم، والنفوس مستثقلة للنصح نافرة عن أهله مائلة إلى ما وافق هواها. وفي منثور الحكم: ودك من نصحك وقلاك من مشى في هواك. وكان يقال: أخوك من احتمل ثقل نصيحتك. وقال بعضهم: عرضت نصيحةً مني لمزيدٍ فقال: غششتني والنصح مر! وما لي أن أكون نصحت زيداً وزيد طاهر الأثواب بر ولكن قد أتاني أن زيداً يقال عليه في نقعاء شر فقلت له: تجنب كل شيء يقال عليك إن الحر حر وقال آخر: وعلى النصوح نصيحتي وعلي عصيان النصوح وقال القطامي: ومعصية الشفيق عليك مما يزيدك مرة منه استماعا وخير الأمر ما استقلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا وقال ورقاء بن نوفل: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم: أنا النذير فلا يغرركم أحد! لا شيء مما ترى تبقى بشاشته إلا الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمز يومأً خزائنه والخلد قد حاولت عاداً فما خلدوا وقال ابن وهب: إنما يحسن الاختيار لغيره من يحسن الاختيار لنفسه، ولا خير لك فيمن لا خير له في نفسه. وقالت العلماء: لن ينصحك امرؤ لا ينصح نفسه. وقال بعضهم: رأيي ورأيك في المعرفة أمثل لنفسك من رأيك لأنه خلو من هواك. وقال أبو الدرداء: إن شئتم لأنصحن لكم: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويعلمون في الأرض نصحاً. وروي أن رجلاً لطم إبراهيم بن أدهم فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي إنك تثيبني وتعاقبه فلا تثبني ولا تعاقبه. ومن الخصال التي تجري مجرى الجمال والكمال: الحلم. الباب الثامن والعشرون: في الحلم قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (هود: 75) وقال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85) . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصفح الجميل هو الرضى بلا عتاب. وقيل: الصفح الجميل هو الرضى بلا توبيخ فيه ولا حقد معه. وفي الأمثال القديمة: كاد الحليم أن يكون نبياً. وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر فأنساهم! قال: لا تغضب! واعلم أن الحلم أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب، لما فيه من راحة السر واجتلاب الحمد، وأحق الناس به السلطان لأنه منصوب لإقامة أود الخلق وممارسة أخلاقهم، فإن لم يكن معه حلم يرد به بوادرهم وإلا وقع تحت عبء ثقيل. وكان أنوشروان ذا حلم وأناة، وكان يقول: في خصلتان لولا أنهما ظاهرتان عند الرعية لضقت بهما ذرعاً: الحلم والأناة. ويروى أن يحيى بن زكرياء لقي عيسى

بن مريم عليهما السلام فقال: يا روح الله أخبرني بأشد الأشياء في الدارين. قال: غضب الله تعالى. قال: يا روح الله وما ينجيني من غضب الله تعالى؟ قال: اترك الغضب. قال: يا روح الله وما بدء الغضب؟ قال: التعزز والتكبر والفخر على الناس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وجبت محبة الله على من أغضب فحلم. والذي يضرب بحلمه المثل في هذا الباب قصة إسحاق عليه السلام؛ قال له إبراهيم عليه السلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (الصافات103: 102) ، وأمر على حلقه السكين فلم يقل إلا خيراً، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101) . وفي الأخبار يقول إبليس لعنه الله: إن الحديد من الرجال لم نيأس منه وإن كان تحيا بدعائه لأنه تأتي عليه ساعة يحتد فيها فنصيب منه ما نريد. وروي أن جعفر بن محمد دخل على الرشيد وقد استخفه الغضب فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إنما تغضب لله تعالى فلا تغضب له بأكثر من غضبه لنفسه. واعلم أرشدك الله تعالى أن هذه الكلمة لا قيمة لها، والله أعلم حيث يضع رسالته، فما أفخمها وأجل قدرها وأعظم شأنها! لأنك إذا كنت أيها السلطان إنما تتصرف في ملك الله بأمر الله، فالله تعالى قد حدد حدوداً وشرع شرائع، وأقام فروضاً وسنناً ونهى عن حدود ورسوم، ثم قدر في كل خصلة عند مخالفته حداً محدوداً، ونهى أن يتجاوز ذلك الحد، فلا تقتل من استحق القطع والحبس والأدب والحد، ولا تحبس غير من استحق الحبس. وكانت الخلفاء يؤدبون الناس على قدر منازلهم، فمن عثر من ذوي المروءات أقيلت عثرته ولم يقابل بشيء، لقوله عليه السلام: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. ومن سواهم كان يقابل على قدر منزلته وهفوته، فكان يقام قائماً في مجلس يقعد فيه نظراؤه فتكون هذه عقوبته، وآخر يشق جيبه وآخر تنزع عمامته من على رأسه، وآخر يكلم بالكلام الذي فيه بعض الغلظة. قال الشعبي: كانت العصاة في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إذ أخذ الرجل منهم نزعت عمامته، وطيف به في المسجد على قومه وقيل: هذا رجل آخر بشعيرة. فلما ولي زياد ضربهم ونزع عمائمهم، فلما ولي مصعب بن الزبير حلق مع الضرب رؤوسهم. فلما ولي بشر بن مروان أقامهم على الكراسي ثم مدت أيديهم وسمرها بمسمار، ثم نزع الكرسي من تحت أرجلهم حتى تحزم أيديهم فمن ميت ومن حي. فلما ولي الرجل المعروف بالحجاج قال: كل هؤلاء يلعب، فمن أخل بشعيرة ضربت عنقه! وقال أرسطاطاليس: النفس الذليلة لا تجد ألم الهوان، والنفس الشريفة يؤثر فيها يسير الكلام؛ وفيه قيل: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام واعلم أن من تجاوز في العقوبة فوق ما حدد الله تعالى فيها، شارك المذنب في الذنب واستوجب ما استوجبه المجرم من العقوبة، وتبين بالآخرة أنه إنما يعاقب للهوى والتشفي إذا فما غضب لله تعالى. وفي كتاب سليمان بن داود عليهما السلام: القاهر لنفسه أشد ممن يفتح المدينة وحده، وصدق نبي الله عليه السلام، فإن السلطان يفتتح المدينة ويقهر أهلها، ويغلب جنودها وحماتها، ويقتل أبطالها ثم تغلبه شهوته ويبقى أسيراً في ذل هواه، قد قهرته قينة بطنبورها أو قدح خمر يلعب بعقله. وقال أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحلم أعظم من جنا ثمر الندم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. سألت كثيراً من كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم؟ قال:

أزدشير فضل السبق غير أن أحمدهم سيرة أنوشروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي رضي الله عنه: هما توأمان أنتجتهما علو الهمة. ومن محمود السيرة أن تعرف الناس من أخلاقك أنك لا تعجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي؛ قال محمود الوراق: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن عظمت منه علي الجرائم فما الناس إلا واحداً من ثلاثة: شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقي فأعرف فضله وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فإن قال، صنت عن إجابته نفسي، وإن لام لائم وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا تفضلت إن الحلم بالفضل حاكم وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: أسرع الناس جواباً من لم يغضب، لا توقدن بين جبينك جمرة الغضب واردد إساءته بالحلم، فإن شجرة النار إذا ألحت عليها الرياح تخللت أغصانها، فتشعل نار فتحترق من أصوله. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ثلاث من أجتمعن فيه فقد سعد: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر عفا وكف. وسئل جعفر بن محمد رضي الله عنه عن حد الحلم فقال: وكيف يعرف فضل شيء لم نر كماله في أحد؟ وقال الأحنف بن قيس لابنه: يا بني، إذا أردت أن تواخي رجلاً، فأغضبه، فإن أنصفك وإلا فاحذره. وكان مسلم بن نوفل سيد بني كنانة قد ضربه رجل من قومه بسيفه فأخذ فأتى به إليه فقال له: ما الذي فعلت أما خشيت انتقامي؟ قال: لا. قال: فلم؟ قال: ما سودناك إلا أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجاني، وتحلم على الجاهل وتحتمل المكروه في النفس والمال، فخلى سبيله. فقال قائلهم: تسود أقوام وليسوا بسادة بل السيد المعروف سلم بن نوفل وقال رجل من كلب للحكم بن عوانة: إنما أنت عبد فقال: والله لأعطينك عطية ما تعطيها العبيد! فأعطاه مائة رأس من السبي. ومن أمثال العرب: احلم تسد. ويروى أن هشاماً غضب على رجل من أشراف الناس، فشتمه فوبخه الرجل وقال له: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في أرضه؟ فأطرق هشام واستحى وقال له: اقتص! فقال: أنا إذاً سفيه مثلك! قال: فخذ عن ذلك عوضاً من المال. قال: ما كنت لأفعل! قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك! فنكس هشام رأسه وقال: والله لا أعود لمثلها. قال الشاعر: لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح إكرام وقال آخر: وجهل رددناه بفضل حلومنا ولو أننا شئنا رددناه بالجهل رجحنا وقد خفت حلوم كثيرة وعدنا على أهل السفاحة بالفضل وقال هشام لخالد بن صفوان: صف لي الأحنف بن قيس. قال: يا أمير المؤمنين، إن شئت عنه بثلاث وإن شئت أخبرتك عنه بثلاث وإن شئت باثنين وإن شئت بواحدة، فقال: أخبرني عنه بثلاث. قال: كان لا يحرص ولا يجهل ولا يدفع الحق إذا نزل به. قال: فأخبرني عنه باثنتين. قال: كان يؤثر الخير ويتوقى

الشر! قال: فأخبرني عنه بواحدة. قال: كان أعظم الناس سلطاناً على نفسه. وقال أكثم بن صيفي: الغلبة والعز للحلم. وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. وصدق الأحنف فإن من حلم كان الناس أنصاره. كما روي أن رجلاً أسرع في شتم بعض الأدباء وهو ساكت، فحمى له بعض المارين في الطريق وقال له: يرحمك الله ألا أنتصر لك؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأني وجدت الحلم أنصر لي من الرجال، وهل حاميت لي إلا لحلمي؟ وقال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك! فقال له: الآن وقعت في الشغل. وقال عبد الله بن عمر: إن رجلاً ممن كان قبلكم استضاف قوماً فأضافوه، ولهم كلبة تنبح، فقالت: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة، فعوى جراؤها في بطنها، فبلغ ذلك نبياً لهم أو قيلاً من أقيالهم، فقال: مثل هذا مثل أمة تكون بعدكم تظهر سفهاؤها على حلمائها. وقال الأحنف: إياكم ورأي الأوغاد. قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عاراً. وسئل الأحنف عن الحلم فقال: هو الذي يصبر عليه، ولست بحليم ولكني صبور. ويروى أن المهلب نازعه رجل من كبراء بني تميم، فأربى على المهلب والمهلب ساكت، فقيل له في ذلك، فقال: كنت إذا سبني استحيت من سخف السباب وتحلية اللئام والسفلة، وكان إذا سبني تهلل وجهه وشمخت نفسه بأن ظفر بفضل الفخر ونبذ المروءة، وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء! ومر المسيح عليه السلام على قوم من اليهود فقالوا شراً فقال لهم خيراً، فقيل له: إنهم يقولون شراً وأنت تقول لهم خيراً! فقال: كل ينفق مما عنده. وقال أكثم بن صيفي: من حلم ساد ومن تفهم ازداد، وكفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل شؤم، ولقاء الإخوان غنم والمباشرة يمن، ومن الفساد إضاعة الزاد. وسب رجل الشعبي بقبائح نسبها إليه، فقال الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي! وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك! فقال أبو بكر: معك يدخل لا معي! وقال رجل للأحنف بن قيس: إن قلت لي كلمة لتسمعن عشرة! فقال له الأحنف: لكنك لو قلت لي عشراً لم تسمع مني واحدة. وروي أن رجلاً سب الأحنف وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال: يا هذا إن كان بقي معك شيء فقله ههنا، فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك. وسب رجل بعض الحكماء، فقال له الحكيم: لست أدخل في حرب الغالب فيه شر من المغلوب. وقال لقيط بن زرارة: فقل لبني سعد فما لي وما لكم ترقون مني ما استطعتم وأعتق أغركم أني بأحسن شيمة بصير وأني بالفواحش أخرق وإن تك قد ساببتني فقهرتني هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحدق! وقال رجل لأبي ذر رضي الله عنه: أنت الذي نفاك معاوية من الشام، ولو كان فيك خير ما نفاك! فقال: يا ابن أخي إن ورائي عقبة كؤوداً، إن نجوت منها لم يضرني ما قلته، وإن لم أنج منها فأنا شر مما قلت! وقال لقمان لابنه: يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا أخوك إلا عند الحاجة إليه. وسب رجل بعض الحكماء فأعرض عنه، فقال له: إياك أعني! فقال له الحكيم: وعنك أعرض! وفي ذلك قيل: قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء

وقيل يوماً للأحنف بن قيس: ما أحلمك! فقال: لست بحليم ولكني أتحالم، والله إني لأسمع الكلمة فأحم لها ثلاثاً، ما يمنعني من جوابها إلا الخوف من أن أسمع ما هو شر منها! وقال الشاعر: وليس يتم الحلم للمرء راضياً إذا كان عند السخط لا يتحلم كما لا يتم الجود للمرء موسراً إذا كان عند العسر لا يتجشم ويروى أن رجلاً سب جعفر بن محمد رضي الله عنهما، فقال: أما ما قلت مما هو فينا فإنا نستغفر الله منه، وما قلت مما ليس فينا فإنا نكلك فيه إلى الله تعالى. وقال بعض الحكماء: احذروا الغضب، فرب غضب استحق الغضبان به غضب الله تعالى. وقال أكثم بن صيفي: لا يكون الرجل حليماً حتى يقول السفيه أنه لضعيف مستذل، ولا يكون مخلصاً حتى يقول الأحمق أنه لمفسد. ومن أشعر بيت قيل في الحلم قول كعب بن زهير: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا أصبت حليماً أو أصابك جاهل ووصف أعرابي رجلاً فقال: أحلم من فرخ طائر. وقال أعرابي: إن الغضب عدو العقل، ولذلك يحول بين صاحبه وبين العقل. وقال صعصعة بن صوحان: الغضب مرقدة العقل، فربما أصلده وربما أربده. وقال أعرابي: إذا جاء الغضب تسلط العطب. وكان ابن عون إذا غضب على أحد قال: سبحان الله بارك الله فيك! وقال الأصمعي: دفع أزدشير إلى رجل كان يقوم على رأسه كتاباً وقال: إذا رأيتني قد اشتد غضبي فادفعه إلي. فكان فيه: اسكن فلست بإله، إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً، وتصير عن قريب للدود والتراب! وهذه السيرة أول من سنها ملك تبع، أمر أن يكتب في كتاب: اسكن فلست بإله! وقال لصاحبه: إذا غضبت فاعرضه علي. فكان إذا غضب عرضه عليه، فإذا قرأه سكن غضبه. وقال معاوية: أفضل ما أعطي الرجل العقل والحلم، فإذا ذكر ذكروا وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلي صبر وإذا غضب كظم، وإذا قدر عفا وإذا أساء استعفى وإذا وعد أنجز. ومن كلام الحكماء: من أطاع الغضب حرم السلامة، ومن عصى الحق غمره الذل. وقال بعض الحكماء: كظم الغيظ حلم والحلم صبر، والتشفي ضرب من الجزع. وقال آخر: أول الغضب جنون وآخره ندم. وقال بعض الحكماء: إذا غلب على الرجل أربع خصال فقد عطب: الرغبة والرهبة والشهوة والغضب. وقيل لبعض الصالحين: إن فلاناً يقع فيك بقول. فقال: لأغيظن من أمره يغفر الله لي وله! قيل له: ومن أمره؟ قال: الشيطان. وقال رجل لأخيه: إني مررت بفلان وهو يقع فيك ويذكرك بأشياء رحمتك منها. قال: فهل سمعتني أذكره بشيء؟ قال: لا. قال: فإياه فارحم، وقال الفضيل: ثلاثة لا يلامون على الغضب: المريض والصائم والمسافر. وقال الأحنف بن قيس: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري. إني لجالس معه في فناء بيته وهو يحدثنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلاً، ومعهم رجل مأسور فقيل له: هذا ابنك قتله أخوك! فوالله ما قطع حديثه ولا حل حبوته حتى فرغ من منطقته، ثم أنشد: أقول لنفسي تصبيراً وتعزية: إحدى يدي أصابتني، ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه هذا أخي حين أدعوه، وذا ولدي ثم التفت إلى بعض ولده وقال: قم أطلق عمك ووار أخاك التراب، وسق إلى أمه مائة من الإبل فإنها

غريبة. ومن أنبل بيت قالته العرب: فصح بالخير خرس بالخنا رجح الأحلام ذيال الأزر وقال آخر: بأحلام عاد لا يخاف جليسهم إذا نطق العوراء عرب لسان إذا حدثوا لم يخش سوء استماعهم وإن حدثوا أدوا بحسن بيان وقال المسيح عليه السلام: ما حلم من لم يصبر عند الجهل، وما قوة من لم يرد الغضب، وما عبادة من لم يتواضع للرب تعالى؟ وقيل للإسكندر: إن فلانا وفلاناً ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهم! فقال: هم بعد العقوبة أعذر في ثلبي وتنقيصي. ويروى عن جرير بن عبد الله: بينما هو راكب قد أردف ابنه إذ لقيه رجل فنال منه وجرير ساكت، فلما ولي قال له ابنه: يا أبت لم سكت عنه؟ قال له: يا بني إذن أوسع جرحي. وقال بعض الحكماء: متى أشفي غيظي، أحين أقدر فيقال لو عفوت، أم حين أعجل فيقال لو صبرت؟ وسئل بعض أصحاب الأحنف: أكان الأحنف يغضب؟ قال: نعم، لو لم يغضب ما بان حلمه، كان يغضبه الشيء فيتبين في وجهه اليومين والثلاثة وهو يصبر ويحلم. ومن لم يغضب من الأشياء التي مثلها فقد فقد من الفضائل الشجاعة، والأنفة والحمية والدفاع والأخذ بالثأر والغيرة، فإن هذه الخصال نتائج الغضب، فمن فقد الغضب فقد فقد أس الفضائل على ما سنذكره في باب الشجاعة، إن شاء الله. وقيل: عند فقد الشجاعة تكون المهانة، ومن المهانة يكون سفساف الأخلاق ورذالة الطباع، فلا يبقى لسائر فضائله موقع. وكان يقال: من لم يغضب فليس بحليم، لأن الحليم يعرف عند الغضب. وقال الشعبي: الجاهل خصم والحليم حاكم. قال الشافعي رضي الله عنه: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ومن استرضي ولم يرض فهو جبار. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب، ولكنه إنما كان يغضب لا لنفسه بل عند انتهاك حرمة ربه. واعلم أن الله تعالى ما مدح من لم يغضب، وإنما مدح من كظم الغيظ فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} (آل عمران: 134) . وقد أنشد النابغة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: فلا خير في علم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فلم ينكر النبي قوله. وكان عمر رضي الله عنه إذا سافر استتبع سفيهاً ويقول: أدفع به شر السفهاء عني! واعلموا أرشدكم الله أن أحسن خصال الملوك وأجلها قدراً، وهي حلية الأنبياء ولبسة الأصفياء والأولياء، وأعملها على الرعايا نفعاً وأخلدها على ممر الأيام ذكراً، وأجلها في المحافل والمجالس نشراً، وهي الفضيلة التي تعم سائر الفضائل وتكمل بها سائر المحاسن، وهي الحلم. وها أنا أتلو عليك من ذلك ما يقضى فيه بالعجب: هذه دولة آل العباس أولهم أبو العباس السفاح إلى يومنا هذا لم يكن يفهم أحلم من المأمون، بلغ من حلمه أنه كان يقول: لو يعلم الناس ما لي في لذة العفو ما تقربوا إلي إلا بالجرائم! فعم حلمه سائر خلفاء بني العباس حتى صار يضرب المثل بحلمه. وبهذه الخصلة تهيأ ملكه وقهر أخاه الأمين. ومنها دولة بني أمية، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان الجعدي، لم يكن فيهم أحلم من معاوية لا جرم أن دانت له الدنيا، وملك بها رقاب العرب

الباب التاسع والعشرون: فيما يسكن به الغضب

والعجم وصار حلمه يضرب به المثل، ويقتدي به الخلق ويهتدي به العقلاء، حتى حكي عنه أنه كان يقول: لو كان بيني وبين الناس خيط عنكبوت أو شعرة ما انقطعت، إذا جذبوا أرسلت وإذا أرسلوا جذبت! وهذه دولة الفرس وكانت أعظم دول الأرض وأشدها بأساً وأكثرها علوماً وحكماً، لم يكن في أكاسرها أحلم من كسرى أنوشروان، وصار يضرب بحلمه المثل وتطرز بسيرته الكتب والمصنفات. فيروى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لقي كبيراً من كبراء الفرس فقال له: ما أحمد خصال ملوككم؟ فقال: السبق لأزدشير وأحمدهم سيرة أنو شروان. فقال له علي: وما كان أغلب خصاله عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال علي: هما توأمان نتيجتهما علو الهمة. وبلغ من حلمه أنه كان يضيق صدره بحمله فيقول: في خصلتان لولا أنهما ظاهرتان عند الرعية لضقت بهما ذرعاً: الحلم والأناة. فأعظم بخصلة تعم منفعتها ويبقى على الدهر جمالها، وتخلد في العقلاء والعلماء والملوك والسوق بهجتها! وحسن مصادرها ومواردها أن يتخذها الملوك شعاراً ودثاراً، وإنما قصدت الحكماء من الملوك خاصة فأما من سواهم من الرعية فالأحنف بن قيس ونظرائه فلا يحصون عدداً وكثرة. الباب التاسع والعشرون: فيما يسكن به الغضب فأول ذلك أنك إذا نظرت إلى تغيير أشكالك وتبدل صورتك، واحمرار وجهك وانتفاخ أوداجك وذهاب حيائك، وسقط كلامك وفحش ما يخرج من فيك، لأمسكت عن الغضب. وطالما كنت تستحي أن تتكلم بين الجلساء باليسير الجائز فعدت تهدر بالكثير الفاحش، ولو أن من غضب تذكر إذ صحى وسكن غضبه انقلاب صورته وتغيير وجهه، واضطراب شفتيه وارتعاد أطرافه وسقط كلامه وفحوى خطابه، والتفاف لسانه وخفة عقله وطيشه وثوبه من مجلسه كأنه نمر، وسرعة التفاته يميناً وشمالاً كأنه قرد، وعدم فهمه لما يسمع كأنه بهيمة،، وقلة التفاته إلى من يعظه وينصحه كأنه أحمق. ومن شؤم الغضب وعظيم بليته أنه قد يقتل النفوس ويسلب الروح. وكان سبب موت الوليد بن عبد الملك أنه وقع بينه وبين أخيه سليمان كلام، فعجل عليه سليمان بأمر يلحق أمه ففتح فاه ليجيبه، وإذا بجنبه عمر بن عبد العزيز فأمسك على فيه ورد كلمته، وقال: يا ابن عبد الملك، أخوك وابن أمك وله السبق عليك! فقال: يا أبا حفص قتلتني! قال: وما صنعت بك؟ قال: رددت في جوفي أحر من الجمر! ومال لجنبه فمات. ولعمري إنه قد يزيد على الجفاء. ومنها أن ينتقل عن الحالة التي كان عليها إلى غيرها. كانت الفرس تقول: إذا غضب القائم فليجلس، وإذا كان جالساً فليقم، وهذا المذهب كان يؤخذ المأمون به. ويروى أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم القسوة فقال: اطلع في القبور واعتبر بالنشور. وكان بعض ملوك الطوائف إذا غضب ألقى بين يديه مفاتيح ترب الملوك، فيزول غضبه. وكان عكرمة يقول في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف: 24) ، يعني إذا غضبت، فإنه إذا ذكر الله خاف منه فيزول غضبه. وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق. ومنها أن يذكر نفرة القلوب عنه وسقوط منزلته عند أبناء جنسه، ووصفهم لقبائحه وطيشه وسخفه، فيكون ذلك سبباً لزوال غضبه. ومنها أن يتذكر انعطاف القلوب وانطلاق الألسنة بالثناء عليه وميل النفوس إليه، وإن الحلم عز وزين وأن

الباب الثلاثون: في الجود والسخاء

السفه ذل وشين. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ازداد رجل بعفو إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله. وقال بعض الحكماء: من تذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباده. وكتب بعض ملوك الفرس كتاباً ودفعه إلى وزيره وقال له: إذا غضبت فناولنيه. وفيه مكتوب: ما لك والغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء! وكان معاوية كثيراً ينشد: إنا إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل واعتلج الناس بألبابهم نقضي بحكم عادل فاضل نخاف أن تسفه أحلامنا فيحمل الدهر على الحامل وقال بعض الحكماء: إياك وعزة الغضب فإنها تفضي إلى ذلة العذر. وقال الشاعر: وإذا ما اعترتك في الغضب الع زة فاذكر مذلة الاعتذار وقال آخر: زررنا على غير الفواحش قمصنا ولم نستجز إلا الذي هو أجوز وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي إلا عفوت عني! فعفا عنه لما ذكره قدرة الله تعالى عليه. وقال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى بني الأشعث: إن الله أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو. وقال المأمون لعمه إبراهيم بن المهدي، وكان مع أخيه عليه: إني شاورت في أمرك فأشاروا علي بقتلك، إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل لألزم حرمتك! فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشير أشار بما جرت به العادة في السياسة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك نظير وإن عفوت فلا نظير لك! وأنشأ يقول: البر منك وطي العذر عندك لي فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم وقال بعض الحكماء: الغضب على من لا تملك عجز وعلى من تملك لؤم. ومنها أن يتذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم ومذلة الانتقام، وشرع القصاص في بدنه بين يدي من لا يرحمه، فإن ذلك مما يزعه عن الغضب. الباب الثلاثون: في الجود والسخاء وهذه الخصلة الجليل قدرها العظيم موقعها الشريف موردها ومصدرها، وهي إحدى قواعد المملكة وأساسها وتاجها وجمالها، تعنو لها الوجوه وتذل لها الرقاب، وتخضع لها الجبابرة وتسترق بها الأحرار وتستمال بها الأعداء وتستكثر بها الأولياء، ويحسن بها الثناء ويملك بها القرباء والبعداء، ويسود بها في غير عشائرهم الغرباء. وهذه الخصلة بالعزائم والواجبات أشبه منها بالجمال والمتممات، وكم قد رأينا من كافر ترك دينه والتزم دين الإسلام ابتغاء عرض قليل من الدنيا يناله، وكم قد سمعنا من مسلم ارتد في أرض الشرك افتتاناً بيسير من عرض الدنيا! وأخلق بخصلة يترك الإنسان لها دينه الذي يبذل دونه نفسه،

أن تكون جليلة القدر عظيمة الخطر! وأحوج خلق الله تعالى إليها أفقرهم إلى عطف القلوب عليه وصرف الوجوه إليه الملوك والولاة. واعلموا يا معشر من وسع الله عليه دنياه وأسبغ عليه آلاءه ونعماه أنه ليس في الجنة لا، وحسبك بكلمة لا تدخل الجنة سقوطاً وضعة، وإنما أسست الجنة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ولهذا وصف بعض البخلاء رجلاً بخيلاً فقال: هو جملة من حيث جئته وجدت لا! وقالوا في نحو هذا: فلان حسبه لا. وهذه الخصلة أعني الكرم والجود والسخاء والإيثار بمعنى واحد، يوصف البارئ تعالى بالجود ولا يوصف بالسخاء، كما يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل لعدم التوقيف. وحقيقة الجود أن لا يصعب عليه البذل، ويقال السخاء هو الرتبة الأولى ثم الجود ثم الإيثار. فمن أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر وبقي هو في مقاساة الضر فهو صاحب إيثار. قال ذو النون: بداءة السخاء أن تسخو نفسك بما في يديك، ونهايته أن تسخو نفسك بما في أيدي الناس وأن لا تبالي من أكل الدنيا. وتذاكر قوم من الزهاد عند رابعة العدوية، فجعلوا يذمون الدنيا ويكثرون من ذلك، فقالت رابعة: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وأصل السخاء هو السماحة وأن يؤتي ما يأتيه عن طيب نفس، وقد يكون المعطي بخيلاً إذا صعب عليه البذل، والممسك سخياً إذا كان لا يستصعب العطاء وإن منع. ولهذا قال علماؤنا إن الله تعالى لم يزل جواداً، وإن لم يقع منه عطاء في الأزل، لأن العطاء فعل والفعل في الأزل مستحيل. وقالت الحكماء: أيها الجامع لا تجزعن، فالمأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو! قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) . قال أبو هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جائع فأطعمني! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه فقلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عند رسول الله ما يطعمك الليلة. ثم قال: من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله تعالى. فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فحمله إلى منزله وقال لأهله: هذا ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئاً. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية! فقال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ثم اسرجي واقعدي، فإذا أخذ الضيف يأكل، قومي تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت وجعلا يمضغان ألسنتهما والضيف يظن أنهما يأكلان وباتا طاويين. فلما أصبحا ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إليهما تبسم ثم قال: لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة ونزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) . وقال أنس: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوية وكان مجهوداً، فوجه به إلى جار له، فوجه به الجار إلى أهل بيت آخر، فتداولته سبعة أبيات حتى عاد إلى الأول، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي في القتلى، ومعي شيء من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى فقلت له: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فإذا رجل يقول: آه! فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت له: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه! فأشار هشام أن أنطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فوجدته قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات. وروت عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: السخي قريب من الله

قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن آدم، إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت! واعلموا أن السخاء على وجوه: سخاء في الدين وسخاء في الدنيا، فالسخاء في الدنيا البذل والعطاء والإيثار وسماحة النفس. قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ، وعلامته ترك الإدخار وبغض جمع المال، وتعاهد الإخوان مسروراً قلبه بذلك. والسخاء في الدين أن تسخو بنفسك، أن تتلفها لله تعالى وتريق دمك في الله، سماحة من غير كراهة لا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً، وإن كان غير مستغن عن الثواب لأن الغالب على قلبه حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله تعالى، حتى يفعل الله بك ما تحب أن تختاره لنفسك. وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: من السيد؟ قال: الجواد إذا سئل، الحليم إذا استجهل، الكريم المجالسة لمن جالسه، الحسن الخلق لمن جاوره. وقال النعمان بن المنذر يوماً لجلسائه: من أفضل الناس عيشاً وأنعمهم بالاً، وأكرمهم طباعاً وأجلهم في النفوس قدراً؟ فسكت القوم، فقال فتى: أبيت اللعن! أفضل الناس من عاش الناس في فضله! قال: صدقت! وقال الحسن: باع طلحة بن عثمان أرضاً بسبعمائة ألف، فلما جاءه المال قال: إن رجلاً يبيت هذا عنده لا يدري ما يطرقه لغرير بالله، ثم جعلها صرراً وجعل رسوله يختلف إلى الناس حتى قسمها، وما أصبح عنده منها درهم. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة لأنه إن كان كريماً أصون عرضه، وإن كان لئيماً أصون عنه عرضي. وكان مورق العجلي يتلطف في إدخال الرفق على إخوانه، فيضع عندهم ألف درهم ويقول: أمسكوها حتى أعود إليكم. ثم يرسل إليهم: أنتم منها في حل! وقال العتبي: أعطى الحكم بن عبد المطلب جميع ما يملك، فلما نفذ ما عنده ركب فرسه وأخذ رمحه يريد الغزو ومات بمنيح، فأخبرني رجل من أهل منيح قال: قدم علينا الحكم وهو مملق لا شيء معه فأغنانا. فقيل: كيف أغناكم وهو مملق؟ قال: ما أغنانا بمال ولكنه علمنا الكرم، فعاد بعضنا على بعض فاستغنينا! وأكرم العرب في الإسلام طلحة بن عبد الله، جاءه رجل فسأله برحم بينه وبينه فقال: هذا حائطي بمكان كذا وكذا، وقد أعطيت فيه ستمائة ألف درهم يراح إلي بالمال العشية، فإن شئت فالمال وإن شئت فالحائط. ويروى أن رجلاً بعث إلى جبلة بجارية فوافته بين أصحابه فقال: قبيح أن آخذها لنفسي وأنتم حضور، وأكره أن أخص بها واحد منكم وكلكم له حق وحرمة، وهذه لا تحتمل القسمة وكانوا ثمانين رجلاً، فأمر لكل واحد منهم بجارية أو وصيف! وقيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم! فلما جاء الغد جاء بأخرى ونحرها وقال: شأنكم! فقلت: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب! فأقمنا عنده أياماً والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا في بيته مائة دينار وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه. ومضينا، فلما متع النهار إذا رجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام! أعطيتمونا ثمن القرى؟ ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنها وإلا طعنتكم برمحي! فأخذناها وانصرف. قال ميمون بن مهران: من طلب مراضاة الإخوان بلا شيء فليصحب أهل القبور.

وقال ابن عباس: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجله فقد هناه، وإذا صغره فقد عظمه، وإذا ستره فقد تممه. وقال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره لأخيه نصفين. قال المغيرة: في كل شيء سرف إلا في المعروف. وقيل للمحسن بن سهل: لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير! فقلب اللفظ واستوفى المعنى. ونظمه محمد بن حازم فقال: لا الفقر عار ولا كسب الغنى شرف ولا السخا مفرطاً في طاعةٍ سرف ما لك إلا اقتناء شيء تقدمه وكل شيء إذا أخرته تلف وأما طلحة بن عبيد الله الخزاعي المعروف بطلحة الطلحات، وما سمي هذا الاسم إلا أنه كان عظيم البذل في كل وجهة، وكان يبتاع الرقاب فيعتقها، وكان كل معتق يولد له ولد ذكر سماه طلحة، فبلغ عددهم ألف رجل، كل يسمي طلحة فسمي بذلك طلحة الطلحات، ثم ولي سجستان؛ وفيه يقول الشاعر: رحم الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات وبلغه أن معلمه في الكتاب كان في الحجاز قد قعد به الدهر، فأرسل إليه مع غلامه مائة ألف وقال: سلمها إليه، فإن يكن مات وله ولد فادفعها إلى ولده، وإن لم يكن له ولد ففرقها على قومه. فوافاه الرسول فوجده قد مات ولم يعقب ففرقها على قومه. وقال زيد بن أسلم وكان من الخاشعين: يا ابن آدم، أمرك الله أن تكون كريماً ويدخلك الجنة، ونهاك أن تكون بخيلاً ويدخلك النار. وقال حكيم بن حازم: ما أصبحت قط صباحاً لم أر طالب حاجة إلا عددتها مصيبة أرجو ثوابها. وقال أبو علي الثقفي المعروف: كنز لا ينفد من بر ولا فاجر. وكان الزبير من أجود الناس وأشجعهم، ولما مات وجد عليه مائتا ألف دينار. ووجد مكتوباً على حجر: انتهز الفرص عند إمكانها ولا تحمل على نفسك هم ما لم يأتك، واعلم أن تقتيرك على نفسك توفير لخزانة غيرك، فكم من جامع لبعل حليلته. وقال علب بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما جمعت من المال فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك. وروى مالك ي الموطأ أن مسكيناً سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس عندنا ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه! ففعلت، فلما أمست أهدى لها أهل بيت شاة وكفنها يعني ملفوفة برغفان، فقالت لها عائشة: كلي هذا خير من قرصك. وقال عبد الله بن عمر: ما كان أحدنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسب أن له في الفضل شيئاً. وقال الحسين: كنا نعد البخيل من يقرض أخاه الدرهم. ومن عجائب ما روي في الإيثار ما ذكره أبو محمد الأزدي قال: لما احترق المسجد بمصر قال المسلمون: إن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خاناً لهم، فقبض السلطان جماعة من الذين أحرقوا الخان، وكتب رقاعاً فيها القتل وفيها القطع وفيها الجلد، ونثرها عليهم، فمن وقعت عليه رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: ما كنت أبالي لولا أم لي! وكان بجانبه بعض الفتيان فقال له: في رقعتي الجلد وليست لي أم فادفع لي رقعتك وخذ رقعتي! ففعلا فقتل هذا وتخلص هذا. وحكي عن أبي العباس الأنطاكي رضي الله عنه أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية بقرب الري، ولهم أرغفة لا تسع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام إلى أن كفوا، فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثاراً لصاحبه على نفسه! وروي أنه اجتمع بالرملة جماعة من أرباب القلوب فحضر طبق فيه تين أخضر وقد غسق الليل، فكان الواحد يمد يده فإن ظفر بحبة حصرم أكلها وإن ظفر بطيب دفعه إلى صاحبه ولم يأكله، فلما رفع الطبق إذا الطيب كله في الطبق لم يأكلوا

منه شيئاً! وقال بعض الرواة: دخلت على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقلت: يا أبا نصر الناس يزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تنقص؟ فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم، فأردت أن أوافقهم بنفسي في مقاساة البرد! وقال الأستاذ أبو علي: لما سعى غلام خليل بالصوفية إلى الخليفة بالزندقة أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد فإنه تستر بالفقه وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والثوري وجماعة فقبض عليهم وبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم الثوري، فقال له السياف: أتدري لماذا تقدم وتساق؟ قال: نعم. قال: وماذا يعجلك؟ قال: أوثر أصحابي بحياة ساعة! فتحير السياف وأتى الخبر إلى الخليفة فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم. فألقى القاضي على أبي الحسن الثوري مسائل فقهية فأجاب على الكل، ثم أخذ يقول: إن لله عباداً إذا قاموا قاموا بالله، وإذا نطفوا نطفوا بالله. وسرد ألفاظاً حتى أبكى القاضي فأرسل إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم! ولما مرض قيس بن ساعدة استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة! ثم أمر من ينادي: من كان لقيس عنده مال فهو منه في حل! فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد. ويروى أن عبد الله بن جعفر، وكان أحد الجواد، خرج إلى ضيعة له فنزل على نحيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها، فأتى بقوته ثلاثة أقراص، ودخل كلب فدنا من الغلام فرمى له قرصاً فأكله، ثم رمى له الثاني والثالث فأكلهما وعبد الله ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت! قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا! فقال عبد الله بن جعفر: أألام على السخاء وهذا أسخى مني. فاشترى الحائط والغلام وما فيه من آلات وعتق الغلام ووهب ذلك له. وقال الثوري: رأيت محمد بن سوقة بالغد وصاحب مائة ألف، وبالعشي سألنا له من أصحابه خبزة. وقال أبو عبد الرحمن: دخل أبو عبد الله الروذباري إلى دار بعض أصحابه فوجده غائباً، وهناك بيت مقفل، فكسر القفل وأمر بجميع ما وجده فيه، فأنفذوه إلى السوق فباعوه وأصلحوا لهم وقتاً من الثمن، فجاء صاحب البيت فلم يقل شيئاً، فدخلت امرأته بعدهم الدار وعليها كساء فدخلت بيتاً ورمت الكساء وقالت: يا صاحبنا هذا أيضاً من جملة المتاع بيعوه! فقال زوجها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ فقالت: اسكت! مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علينا ونبقي شيئاً ندخره عنه؟ وأما عبد الملك بن بحر فورث خمسة آلاف درهم، فبعث بها إلى إخوانه صرراً وقال: كنت أسأل لإخواني الغنية في صلاتي وأبخل عليهم بحلالي. ويروى أن الأشعث بن قيس أرسل إلى عدي بن حاتم يستعير منه قدوراً كانت لأبيه حاتم، فملأها وبعث بها إليه وقال: إنا لا نعيرها فارغة! وقال بزرجمهر: لا عز أثبت أركاناً ولا أبذخ بنياناً من بيت الكرم واكتساب الشكر. وذلك أن العز المنتظم بالفعل الجميل باقٍ في قلوب الرجال، فمن تحصن بالجود وتحرز بالمعروف فقد ظفر بما نواه وربح الشكر والثواب. ويروى أن عبد الله بن أبي بكر، وكان أحد الأجواد، عطش يوماً في طريقه فاستسقى من منزل امرأة فأخرجت إليه كوزاً وقامت خلف الباب وقالت: تنحوا عن الباب وليأخذه بعض غلمانكم، فإني امرأة من العرب مات زوجي منذ أيام.

فشرب عبد الله وقال: يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم. فقالت: سبحان الله تسخر بي؟ فقال: يا غلام احمل إليها عشرين ألفاً. فقالت: أسأل الله العافية! فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين ألفاً. فقالت: أف لك! فحمل إليها أربعين ألف درهم. فما أمست حتى كثر خطابها. وقال بعض الرواة: قصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فلما خرج قال: ما حاجتك؟ قال: أربعمائة درهم علي دين. فدخل الدار وأخرجها إليه، ثم دخل الدار باكياً، فقالت له امرأته: هلا تعللت حين شقت عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي! وقال أكثم بن صيفي: صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكأً. وقال الفضيل: ما كانوا يعدون القرض معروفاً. ويروى عن امرأة من المتعبدات أنها قالت لحبان بن هلال وهو في جماعة من أصحابه: ما السخاء عندكم؟ قال: البذل والإيثار. قالت: فما السخاء في الدين؟ قال: أن تعبدي الله سبحانه سخية بها نفسك غير مكرهة. قالت: أفتريدون على هذا جزاء؟ قالوا: نعم لأن الله تعالى وعد على الحسنة بعشرة أمثالها. قالت: فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فأي شيء سخيتم به؟ وإنما السخاء أن تعبدوا الله متنعمين وتلذذين بطاعته غير كارهين، لا تريدون بذلك أجراً، ألا تستحيون أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنها تريد شيئاً بشيء؟ وقالت بعض المتعبدات لبعض المتعبدين: أتظن أن السخاء في الدينار والدرهم فقط؟ إنما السخاء في بذل مهج النفوس لله تعالى. وقال أبو بكر الدقاق: ليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم، إنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد. وقال الشيخ أبو عبد الرحمن: كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي من الأجواد، لم يكن يناول أحد شيئاً بيده، وإنما كان يطرحه على الأرض فيتناوله الآخذ بيده من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطراً من أن ترى يدي من أجلها فوق يد أخرى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى. وكان يتوضأ يوماً في صحن داره فدخل عليه إنسان، فسأله شيئاً فلم يحضره شيء، فقال: اصبر حتى أفرغ. فصبر، فلما فرغ قال: خذ القمقمة واخرج. فلما خرج وعلم أنه قد بعد صاح وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة! فمشوا خلفه فلم يدركوه وإنما فعل ذلك لأنهم كانوا يلومونه على البذل، وفي معناه قال الشاعر: ملأت يدي من الدنيا مراراً فما طمع العواذل في اقتصادي ولا وجبت علي زكاة مال وهل تجب الزكاة على جواد؟ وكان أبو مزيد أحد الكرام، فمدحه أحد الشعراء فقال: ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي فادع علي عشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها، ثم احبسني فإن أهلي لا يتركوني محبوساً! ففعل ذلك فلم يمسوا حتى دفعوا له عشرة آلاف درهم. وقال زياد بن جرير: رأيت طلحة بن عبيد الله فرق مائة ألف درهم في مجلس وإنه ليخيط إزاره بيده. ولما دخل ابن المنكدر على عائشة رضي الله عنها قال لها: يا أم المؤمنين أصابتني فاقة. فقالت: ما عندي شيء، فلو كانت عندي عشرة آلاف درهم لبعثت بها إليك. فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد بن أسيد، فأرسلت بها في أثره فاشترى جارية بألف درهم فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عباد المدينة، وهم: محمد وأبو بكر وعمر بنو المنكدر. وقال يحيى بن معين: كان جرير بن يزيد في دار المطلب فجاء إنسان يسأله، فقال للغلام: اذهب لجواري فقل لهن من أرادت منهن أن تصبغ ثيابها فلتبعث بها، فجاء الغلام بثياب كثيرة فقال للسائل: خذها! وقال الأصمعي: كانت حرب بالبادية ثم اتصلت بالبصرة

فتفاقم الأمر فيها حتى مشى بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع بن حازم، فاستأذن لي، فإذا هو في شملة يخبط نوى لعنز له حلوب، فأخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل القصعة وقال: يا جارية غدينا. فأتته بزيت وتمر. قال: فدعاني، فعذرته أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يديه، ثم صاح بالجارية فقال: اسقيني ماء. فأتت بماء فشربه ومسح بفاضله على وجهه وقال: الحمد لله! ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى تؤدي شكر هذه النعم؟ ثم قال: علي بردائي. فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة، قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فدخل المسجد وصلى ركعتين ومشى إلى القوم، فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاماً له، فتحمل ما كان بين الأحياء من الديات في ماله وانصرف! وكان البهلول بن راشد الفقيه لما سجن يعطي السجان في كل يوم ديناراً، فاستكثره أصحابه وكلموه في ذلك فقال لهم حفص بن عمارة: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا كمل صدق الصادق لم يملك ما في يده. فخر بهلول على يديه فقبلهما وجعل يقول: سألتك بالله أنت سمعته يقول هذا؟ فحلف بالله! لقد سمعته يقول. وقال الشاعر: ذريني أكن للمال رباً ولا يكن لي المال رباً تحمدي غبه غدا أريني جواداً مات هزلاً لعلني أرى ما تريني أو بخيلاً مخلدا وكان عبد الله بن أبي بكر ينفق على أربعين داراً من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره وأربعين أمامه وأربعين خلفه، ويبعث لهم الأضاحي والكسوة في الأعياد ويعتق في كل عيد مائة مملوك. واشترى يوماً جارية بعشرة آلاف درهم فطلب دابة يحملها عليها، فقال رجل: هذه دابتي. فقال احملوها على دابته إلى داره. وقال عبد الله بن زهير: تخشى الردى أن يصيبني تروح وتغدو بالملامة والقسم تقول: هلكنا إن هلكت، وإنما على الله أرزاق العباد كما قسم! وإني أحب الخلد لو أستطيعه وكالخلد عندي أن أموت ولا ألم وروي أن عربياً قدم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة، الحياء يمنعني من أن أذكرها! قال: فخطها على الأرض، فخط في الأرض: إني فقير! فقال لغلامه: يا قنبر اكسه حلتي. فكساه الحلة فقال: كسوتني حلة تبلى محاسنها فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا إن نلت حسن ثناء نلت مكرمة لا تبغين بما قد نلته بدلا لا تزهد الدهر في عرف بدأت به كل امرئ سوف يجزى بالذي فعلا فقال علي رضي الله عنه: زده مائة دينار! فأعطاه إياها، فلما ولى الأعرابي قال قنبر: يا أمير المؤمنين، لو فرقتها في المسلمين لأصلحت بها شأنهم؟ فقال: مه يا قنبر! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه. وقال مطرف بن الشخير: إذا أراد أحدكم مني حاجة فليرفعها في رقعة، فإني أكره أن أرى في وجهه ذل الحاجة! وقرئ على القاضي أبي الوليد وأنا أسمع: وآمرة بالبخل قلت لها: اقصري فليس إليه ما حييت سبيل!

الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشح والبخل وما يتعلق بهما

أرى الناس خلان الكرام ولا أرى بخيلاً له في العالمين خليل! وإني رأيت البخل يزري بأهله فأكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الغنى وأتمها إذا نال خيراً أن يكون ينيل عطائي عطاء المكثرين تكرماً ومالي كما قد تعلمين قليل وقال عروة بن ورد العبسي: وإني امرؤ عافٍ إنائي شركة وأنت امرؤ عاف إنائك واحد أتضحك مني إن سمنت وأن ترى بجسمي شحوب الحق والحق جاهدا؟ أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد! وقال بعض الحكماء: أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفوس عن الحرام، وسخاؤها بما ملكت من الخاص والعام، وجميع خصال الخير وفروعه. وروي أنه كان عند البهلول بن راشد طعام، فغلا السعر فأمر به فبيع له، ثم أمر أن يشتري له نصف ربع القفير، فقيل له: تبيع وتشتري؟ فقال: نفرح إذا فرح الناس وتحزن إذا حزنوا. ولام رجل حاتم طيء فقال: لعمري لقد ما عضني الجوع عضة فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا! فقولا لهذا اللائم الآن: اعفني فإن أنت لم تستطع فعض الأصابعا! وهل ترون الآن إلا طبيعة وكيف بتركي يا ابن آدم الطبائعا؟ وقال آخر: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال! أحتال للمال إن أودى فأجمعه ولست للعرض إن أودى بمحتال! ويروى أن رجلاً سأل الحسن بن علي رضي الله عنه شيئاً، فأعطاه خمسة آلاف درهم وخمسمائة دينار وقال: ائت بحمال يحمله لك! فأتى بحمال فأعطاه طيلسانة وقال: يكون كراء الحمال من قبلي! ويروى أن الليث بن سعد سألته امرأة سكرجة عسل، فأمر لها بزق عسل، فقيل له في ذلك، فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر نعمتنا. ويروى أن رجلاً استضاف بعبد الله بن عامر بن كريز، فلما أراد الرجل أن يرتحل لم تعنه غلمانه، فسأل عن ذلك فقال عبد الله: إنهم لا يعينون من يرتحل عنا؛ وفي معناه قال المتنبي: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم، فالراحلون هم! الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشح والبخل وما يتعلق بهما الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووسواسها. وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم. وقد فرق بينهما مفرقون فقالوا: الشح أشد من البخل فإن البخل أكثر ما يكون في النفقة وإمساكها. قال الله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 180) . وقال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (محمد: 38) . وقال في الشح: أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا. وقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: 16) . فالشح ينبني على الكزازة والامتناع، فهو يكون في المال وفي جميع منافع البدن. وقال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله وإنما الشح أن يطمع في ما ليس له. ولهذا قال ابن المبارك: سخاء

الباب الثاني والثلاثون: في الصبر

النفس بما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل. وقال رجل لابن مسعود: إني أخاف أن أكون قد هلكت، سمعت الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: 16) . وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء. فقال: ليس بالشح الذي ذكره الله تعالى ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل! ففرق بينهما كما ترى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يتبع هواه فلم يقبل الإيمان. وقال طاوس: الشح أن يبخل المرء بما في أيدي الناس، والبخل أن يبخل بما في يديه. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة. وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يدعه الشح أن يمنع شيئاً أمره الله به، فقد وقاه شح نفسه. وقال أبو التياح الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يقول: اللهم قني شح نفسي ولا يزيد على ذلك شيئاً. فسألته عن ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أقتل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. واعلم أن البخل يكون من سوء الظن بالله تعالى أن لا يخلف ولا يثيب، وهذا يوهن التصديق بما تكفل الله به ويطرق الخلل والامتناع إلى جميع الأوامر بين العبد وبين الخالق، وبين العبد والخلق في ترك معاونتهم والنصح لهم. وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر لأن الفقير إذا وجد اتسع والشحيح لا يتسع أبداً. ولما قدم الشافعي رضي الله عنه من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقالوا له: تشتري بها ضيعة. فضرب خيمته خارج مكة وصب الدنانير، فكل من دخل عليه كان يعطيه قبضة، فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب ولم يبق معه شيء. ولما قربت وفاته قال: مروا فلاناً يغسلني. وكان الرجل غائباً فلما قدم أخبر بذلك، فدعى بتذكرته فوجد عليه سبعين ألف درهم ديناً فقضاها وقال: هذا غسلي إياه. وروي أن رجلاً أراد أن يؤذي عبد الله بن عباس فأتى وجوه البلد وقال: يقول لكم ابن عباس تغدوا اليوم عندي. فأتوه فملئوا الدار فقال: ما هذا؟ فأخبر الخبر فأمر أن تشتري الفواكه في الوقت وأمر بالخبز والطبيخ فأصلح القرى، فلما فرغ قال لوكلائه: أموجود لنا هذا كل يوم؟ قالوا له: نعم. قال: فليتغد هؤلاء كل يوم عندنا. ومن الخصال الجارية مجرى الكمال والجمال ولعلها من الأصول الصبر، والله الموفق للصواب. الباب الثاني والثلاثون: في الصبر الصبر زمام سائر الخصال وزعيم الغنم والظفر، وملاك كل فضيلة وبه ينال كل خير ومكرمة. قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10) . فمعظم وظائف الدين ذكر الله تعالى ورسوله جزاء معلوماً لمن أقامها إلا الصبر فإنه بغير حساب. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (السجدة: 24) . قيل عن الدنيا. وقال ابن عيينة: لما أخذوا برأس الأمر جعلهم الله رؤساء. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (الحجر: 97) . وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) . وقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} (آل عمران: 186) . ثم ندبهم إلى الصبر مع وجود الأذى فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186) فالصبر حبس النفس عن الأوامر والمكاره وعن النواهي والمعاصي. ألا ترى أن أهل الجنة نودوا فقيل لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 24) . فأخبر الله تعالى أنه آتاهم جنته بصبرهم، يعني صبرتم على

طاعة الله وصبرتم عن معاصي الله. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (الكهف: 28) ، أي احبس نفسك. فمن إمارات حسن التوفيق وعلامات السعادة الصبر في الملمات والرفق عند النوازل. وفيما يروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود من صبر علينا وصل إلينا. وقال سفيان: بلغنا أن لكل شيء ثمرة، وثمرة الصبر الظفر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) . فعلق الفلاح على الصبر والتقوى، يعني اصبروا على ما فرض الله عليكم وصابروا عدوكم. ورابطوا فيه قولان: قيل رابطوا على الجهاد، والثاني رابطوا على انتظار الصلوات، بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط! وقال الحسن في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة: 124) ، ابتلاه بالكواكب فصبر وبالقمر فصبر، وابتلاه بذبح ابنه فصبر. وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) . فبدأ بالصبر قبل الصلاة ثم قال قولاً عظيماً، فجعل نفسه مع الصابرين دون المصلين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر. وقال ابن مسعود: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً فقال رجلمن الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فشق عليه وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة تبكي على قبر فقال لها: اتق الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فلما انصرف قيل لها: هذا رسول الله. فجاءت إليه تعتذر أنها لم تعرفه وقالت: سأصبر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى. ويحتمل هذا الحديث وجهان: أما الطنافسي فقال معناه الصبر المحمود عند أول نزول المصيبة وقد فاتك بالجزع، وأما القابسي فقال: معناه أن الصدمة الأولى وقت أمرها النبي عليه السلام بالصبر، وكان هذا تعليماً لكل من فاته الصبر بذهول أو نسيان أو غلبة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة. وفي منثور الحكم: قالت الصحة أنا لاحقة بأرض المغرب. قال الجوع: وأنا معك. قال الإيمان: أنا لاحق بأرض الحجاز. قال الصبر: وأنا معك. قال الملك: أنا لاحق بأرض العراق. قالت الفتنة: وأنا معك. واعلم أن العجلة في الأمر خرق ومخرجها من قلة العقل، وأخرق من ذلك التفريط في الأمر بعد القدرة عليه. ومثال ذلك كالقدر على النار إن كان ماؤها قليلاً غلت بيسير من النار، وإن كانت مملوءة لم تغل حتى تكثر نارها وتطول مدتها. وفي كتاب جاويدان جرد، وليس للعجم كتاب مثله قال: يحرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث هن غير الحق: صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن عليه، وحماة أحبت كنة. فصل: واعلم أن الصبر على أقسام: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب. فالصبر على المكتسب على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به، وصبر على ما نهى الله تعالى عنه. أما الصبر على ما ليس بكسب صبر العبد على مقاساة ما يتصل به من حكم الله تعالى فيما له فيه مشقة. وينقسم

من وجه آخر على أربعة أقسام: فأول أقسامه وأولاها الصبر على ما أمر الله سبحانه وتعالى به، والانتهاء عما نهى عنه. والثاني الصبر على ما فات إدراكه من مسرة أو تقضت أوقاته بمصيبة. والثالث الصبر فيما ينتظر وروده من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثه من رهبة يخافها. والرابع الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف. وجميع أقسامه محمودة بكل لسان وفي كل ملة، وعند كل أمة مؤمنة أو كافرة. قال أكثم بن صيفي: من صبر ظفر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو. وقال أزدشير: الصبر الدرك. وقال عليه السلام: الصبر ضياء وبالصبر يتوقع الفرج. وقال عليه السلام: الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب. وقال ابن عباس: أفضل العدة الصبر على الشدة. وقال عبد الحميد الكاتب: لم أسمع أعجب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الشكر والصبر مطيتان لما باليت أيهما ركبت. وقال بعض الحكماء: بالصبر على مواقع المكروه تدرك الحظوة. وقال ابن المقفع في كتاب التتمة: الصبر صبران فاللئام أصبر أجساماً والكرام أصبر نفوساً، وليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون قوي الجسد على الكد والعمل فإن هذا من صفات الحمير، ولكن أن يكون للنفس غلوباً وللأمور محتملاً، ولجاشه عند الحفظة مرتبطاً. وفي منثور الحكم: من أحب البقاء فليعد للمصائب قلباً صبوراً، وقال بزرجمهر: لم أر ظهيراً على تنقل الدول كالصبر، ولا مذلاً للحساد كالتجمل ولا مكسباً للإجلال كتوقي المزاح، ولا مجلبة للمقت كالإعجاب ولا متلفة للمروءة كاستعمال الهزل في مواضع الجد. فأما القسم الأول وهو الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى والانتهاء عن محارمه، فيه يصح أداء الفرائض واستكمال السنن ويدخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10) . ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وقال الجنيد: المسير من الدنيا إلى الله سهل هين على المؤمن وهجر الخلق في حب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد. وسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبيس. وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (صّ: 44) . يبكي ويقول: واعجباً أعطي وأثني عليه! وقال الخواص: الصبر الثابت على أحكام الكتاب والسنة. وقال عبد الواحد بن زيد: من نوى الصبر على طاعة الله تعالى صبره الله تعالى عليها وقواه، ومن عزم على الصبر عن معصية الله تعالى أعانه الله تعالى وعصمه منها. وقال عمر بن عبد العزيز للقاسم بن محمد: أوصني! وقال القاسم: عليك بالصبر في مواضع الصبر. وقال الحسن: الصبر صبران: صبر عند المصيبة وصبر عند ما نهى الله عنه، وهو الأفضل. وإنما يختلف الصبر بالخوف والرجاء، من خاف شيئاً صبر على الفرار منه، وصبر عند كراهية ما يحذر من ضرره، ومن رجا شيئاً صبر على طلبه ليظفر به. وأما القسم الثاني وهو الصبر على ما فات إدراكه من مسرة أو نقضت أوقاته من مصيبة، فإنه يتعجل به الراحة مع اكتساب المثوبة، فإن صبر طائعاً استراح وأحرز الثواب، وإن لم يصبر حمل الهم والوزر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: إن تجزع فقد استحق ذلك منك بالرحم، وإن تصبر ففي ثواب الله تعالى خلف من ابنك، إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور؛ ونظمه أبو تمام فقال:

وقال علي في التعازي لأشعثٍ وخاف عليه بعض تلك المآثم: أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً فتؤجر أم تسلو سلو البهائم؟ خلقنا رجالاً للتجلد والأسى وتلك الأيامى للبكا والمآتم! وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل: إن صبرت مضى أمر الله وكنت مأجوراً، وإن جزعت مضى أمر الله وكنت مأزوراً. وقال الحسن: والله لو كلفنا الجزع ما قمنا به، فالحمد لله الذي آجرنا على ما لو نهانا عنه لصرنا إليه. وعن هذا قالت الحكماء: الجزع أتعب من الصبر، ففي الجزع التعب والوزر وفي الصبر الراحة والأجر. ولو صور الصبر والجزع لكان الصبر أحسن صورة وأكرم طبيعة، وكان الجزع أقبح صورة وأحرد طبيعة، ولكان الصبر أولاهما بالغلبة لحسن الخلقة وكرم الطبيعة. وقال بعض الحكماء: لو وكل الناس بالجزع للجئوا إلى الصبر. وقال شبيب بن شيبة المهدي: إن أحق ما صبرت عليه ما لم تجد سبيلاً إلى دفعه. وأنشدوا: إذا تصبك مصيبة فاصبر لها عظمت مصيبة مبتلى لا يصبر وقال آخر: وعوضت أجراً من فقيدك لا يكن فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب وقال بعض الحكماء: ليس بمجموع له الرشد من تتابع التلهف على فائت أو أكثر الفرح عند مستظرف. وقال حكيم: إن كنت جازعاً على ما يفلت من يديك فاجزع على ما لا يصل إليك، ومن أيقن أن كل فائت إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول القضاء. وقال الشاعر: إذا طال بالمحزون أيام صبره كساه ضيا طول المقام على الصبر ولا شك أن الصبر يحمد غبه ولكن إنفاقي عليه من العمر وقال بعض القدماء: الصبر على أربع مراتب: الشوق والإشفاق والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن راقب الموت قصر عن الخطيئات. وأما القسم الثالث فهو الصبر فيما ينتظر وروده من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثه من رهبة يخافها، فبالصبر والتلطف يدفع عادية ما يخاف وينال نفع ما يرجو. قال النبي صلى الله عليه وسلم: انتظار الفرج بالصبر عبادة. وقال محمد بن بشر: إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبه إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ! وقال بعض الرواة دخلت مدينة يقال لها ذمار، فبينما أنا أطوف في خرابها إذ رأيت مكتوباً على قصر خراب: يا من ألح عليه الهم والفكر وغيرت حاله الأيام والغير أما سمعت بما قد قيل في مثل عند الأياس فأين الله والقدر وقال غيره: نم للخطوب إذا أحداثها طرقت واصبر فقد فاز أقوام بما صبروا فكل ضيق سيأتي بعده سعة وكل صبر وشيك بعده ظفر

وتحته مكتوب بخط آخر: لو كان كل من صبر أعقب الظفر صبرنا، ولكنا نجد الصبر في العاجل يفني العمر ويدني من القبر، وما كان أصلح الذي العقل موته وهو طفل والسلام. قلت: لو رأيته لكتبت تحته: في الصبر استعجال الراحة وانتظار الفرج وحسن الظن بالله تعالى وأجر بغير حساب، وفي الجزع استعجال الهم ونهك البدن واستشعار الخيبة وسوء الظن بالله وحمل الإثم مع العقوبة، وما أحسن لذي اجتناب هذا والسلام! وقال بعض العارفين: من صبر نال المنا ومن شكر نال النعماء قال الشاعر: الصبر مفتاح كل خير وكل صعب به يهون اصبروا إن طالت الليالي فربما ساعد الحزون وربما نيل باصطبار ما قيل هيهات لا يكون! وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه صبراً إلا كان ما عوضه أفضل مما انتزعه منه. وقرأ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10) . ويروى أن جارية كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تتصرف في حوائجه فكلما خرجت تصدى لها خياط كان بقرب دار علي رضي الله عنه ويقول لها: إني لأحبك في الله تعالى. فلما كثر منه ذلك شكته إلى علي رضي الله عنه قال لها علي: إذا قال لك مرة أخرى فقولي له: والله إني لأحبك فيه فما الذي تريد؟ فقال لها ذلك، فقالت له: والله إني أحبك فيه. فقال لها: تصبرين وأصبر حتى يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب. فرجعت الجارية وأخبرت مولاها فدعا علي رضي الله عنه الخياط فوجد أمره مستقيماً على الصحة، فوهبها له مع نفقة يستعين بها. وقال رضي الله عنه: الصبر كفيل بالنجاح والمتوكل لا يخيب ظنه، والعاقل لا يذل بأول نكبة ولا يفرح بأول رفعة. وكان يقال: الصبر سلامة والطيش ندامة: وأما القسم الرابع وهو الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف، فيه تنفتح وجوه الآراء وتتوقى مكائد الأعداء. قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) . وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل: 127) . وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان 17) . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن استطعت أن تعمل لله تعالى بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تفعل خيراً كثيراً. واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً. وقد قال علي رضي الله عنه: الصبر مناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان. وقال الحكيم: بمفتاح عزيمة تفتح مغاليق الأمور. وأنشدوا: إنما أجزع مما أتقي فإذا حل فما لي والجزع؟ ولما حبس أبو أيوب خمسة عشرة سنة ضاقت حيلته وقل صبره، فبعث إلى بعض إخوانه يشكو طول حبسه وقلة صبره، فرد عليه جواب رقعته: صبراً أبا أيوب صبر مبرح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها؟ إن الذي عقد الذي انعقدت به عقد المكاره فيك يملك حلها! اصبر فإن الصبر يعقب راحة فلعلها أن تنجلي ولعلها فلما وقف أبو أيوب على ذلك كتب إليه: صبرتني ووعظتني فأنالها وستنجلي بل لا أقول لعلها

ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها فما لبث بعد ذلك إلا أياماً حتى أطلق مكرماً. ولتميم بن المعز: تماسكت صبراً واحتساباً فإنني أرى الصبر سيفاً ليس فيه فلول عذابي أن أشكو إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل وإن الذي يشكو إلى غير راحم ويفشو بما في نفسه لمجهول وقال بعض الشعراء: دع الدهر يجري بمقداره ويقضي عجائب أوطاره ونم نومة عن ولاة الأمور وخل الزمان بتدواره فإنك ترحم من قد غبطت وتعجب من قبح آثاره وأنشد بعضهم: ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل ويمنعني الشكوى إلى الله أنه عليم بما أبديه قبل أقول ولغيره: إذا ابتليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لامرئ حيلة فيما قضى الله اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسن فإن الصانع الله وصرف من هذه اللفظة صابر وصبور وصبار ومتصبر: فالمتصبر من صبر في الله على المكاره فتارة يعجزه وتارة يصبر، والصابر من لا يشكو ولا يعجز والصبار الذي لو جمع عليه جميع البلايا والمحن لم تتغير من وجهه الحقيقة وإن تغير من وجهه الرسم والبشرة والخلقة كما قال الشاعر: صابر الصبر فاستغاث به الصب ر فصاح الصبور: يا صبر صبراً! وهذا أقوى بيت قيل في الصبر وأحسنه؛ وقريب منه قول القائل: صبرت على الأيام صبراً أصارني إلى أن ينادي الصبر: لا صبر لا صبر! والصبور هو الثابت على هذه المقامات وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي وإن من أخلاقي أني أنا الصبور. ويقال: الصبر لله فناء والصبر بالله بقاء، والصبر في الله بلاء والصبر من الله وفاء، والصبر عن الله جفاء؛ وأنشدوا في المعنى: إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال وكيف الصبر عمن حل مني بمنزلة اليمين من الشمال وقال المحاسبي: من الصبر والتصبر حالة هي التنعم، وذلك إذا رفع الله تعالى له علماً من أعلام الآخرة يدله على منازل الصابرين عنده، فيتنعم القلب بسرور النعم وقال أبو محمد بن الحارث: الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والصبر هو السكون مع البلايا ومع وجدان أثقال المحنة. وأنشدوا: صبرت ولم أطلع هواك على صبري وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر مخافة أن يشكو ضميري صبابتي إلى دمعتي سراً فتجري ولا أدري وقيل للمحاسبي: بماذا يقوى الصابر على صبره؟ فقال: إذا علمت أن في صبرك رضى مولاك، أما سمعت قول الحكيم:

رضيت وقد أرضى إذا كان مسخطي من الأمر ما فيه رضى صاحب الأمر وقيل في معناه: سأصبر كي ترضى وأتلف حسرةً وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري! قال شيخنا: وثكلك لمن تحبه أعظم من ثكلك لنفسك، هذا أيوب عليه السلام لما أصيب بنفسه قال مسني الضر، ويعقوب لما أصيب بحبيبه قال يا أسفي على يوسف! قال أحمد: قال لي أبو سليمان الداراني أتدري بماذا أزال العقلاء الملامة عمن أساء إليهم؟ قلت: لا. قال: لعلمهم أن الله تعالى ابتلاهم بذلك فصبروا، ويروى أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: أنزلت بلائي بعبدي فدعاني فماطلته بالإجابة، فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك؟ وقيل في قوله تعالى {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} (المعارج: 5) إنه الصبر الذي لا شكوى فيه ولا بث، قال أنس: ما صبر من بث. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تستغزروا الدموع بالتذكر. قال الشاعر: ولا يبعث الأحزان مثل التذكر ومما يعين على عظم الأسى وشدة الجزع تذكر المسار المنقضية وتصور المضار الذاهبة، وكثرة الشكوى وتردد الأسف. قال الشاعر: لا تكثر الشكوى إلى الصديق وارجع إلى الخالق لا المخلوق لا تخرج الغريق بالغريق وفي منثور الحكم: المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين. واعلم أنه قل من صبر على شدة إلا نال ما يرجوه من فرج، وينبغي لمن نزلت به مصيبة أو كان في شدة أن يبتغي تسهيلها على نفسه، ولا يغفل عن تذكر ما يتيقنه من وجوب الفناء وتقضي المسار، وأن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا ثقة له، ومن صح فيها سقم ومن سقم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن، حلالها حساب وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، لا خير يدوم ولا سرور يبقى، ولا فيها لمخلوق بقاء، فإذا تصور حقيقتها فحينئذ يرى الحوادث سهلة والمصائب هينة. قال الشاعر: يمثل ذو اللب في نفسه يمثل ذو اللب في نفسه فإن نزلت بغتة لم ترع هـ لما كان في نفسه مشغلا رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولا وقال بعض الحكماء من حاذر لم يخدع ومن راقب لم يهلع، ومن كان متوقعاً لم يلق متوجعاً ومن لم يشعر نفسه ما ذكرنا من أحوال الدنيا، وتقضي المسار ثم الثواء في اللحود بين أطباق الثرى والجنادل، قد فارقه الأحباء وأسلمه الأولياء، وهجر القرباء والبعداء ألفته الحوادث واثقاً فسلبته الصبر وضاعفت عليه الأسى. وقال ابن الرومي: إن البلاء يطاق غير مضاعف فإذا تضاعف فهو غير مطاق وقال آخر: تعودت مس الضر حتى ألفته وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر ووسع صدري للأذى كثرة الأذى وإن كنت أحياناً يضيق به صدري وحسن لي يأسي من الناس كلهم لعلمي بصنع الله من حيث لا أدري ولبعض الأعراب: تعز فإن الصبر بالحر أجمل وليس على ريب الزمان معول فلو كان يغني أن يرى المرء جازعاً لنائبة أو كان يغني التذلل

الباب الثالث والثلاثون: في كتمان السر

لكان التعزي عند كل مصيبة ونازلة بالحر أولى وأجمل فكيف وكل ليس يعدو حمامه وما لامرئ عما قضى الله مرحل؟ فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤس ونعمى والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للذي ليس يجمل ولكن رحلناها نفوساً كريمة تحل ما لا يستطاع فتحمل وقينا بحمد الله منا نفوسنا فصحت لنا الأغراض والناس هزل الباب الثالث والثلاثون: في كتمان السر قال الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} (يوسف: 5) فلما أفشى يوسف عليه السلام رؤياه بمشهد امرأة يعقوب، أخبرت إخوته فحل به ما حل. وفي الحديث: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود. واعلم أن كتمان السر من الخصال المحمودة في جميع الخلق ومن اللوازم في حق الملوك، ومن الفرائض الواجبة على الوزراء وجلساء الملوك والأتباع. قال علي رضي الله عنه: سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره. واعلم أن أمناء الأسرار أشد تعذراً وأقل جودا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتم الأسرار، فإن أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ويشيعها كلام سابق، وعبء الأسرار أثقل من عبء الأموال، وإن الرجل ليستقل بالحمل الثقيل يحمله ويمشي به ويثقله، ولا يستطيع كتم السر. وإن الرجل يكون سره في قلبه فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه بحمل الأثقال، فإذا أذاعه استراح قلبه وسكن جأشه، وكأنما ألقى عن نفسه جبلا. قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية والشفاه أقفالها والألسن مفاتحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره. ومن أعجب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزانها كانت أوثق لها إلا السر فإنه كلما كثرت خزانه كان أضيع له، وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه، ولو كتمه أمن من سطوته، وقال أنوشروان، من حصن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته والسلامة من السطوات. وقال بعض الحكماء: سرك من دمك، فلا تجره في غير أوداجك، فإذا تكلمت به فقد أرقته. وكان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كاتب اسمه حمران، وهو مولاه، فاشتكى عثمان فقال: اكتب العهد بعدي لعبد الرحمن بن عوف. فقال حمران لعبد الرحمن البشرى! فقال عبد الرحمن: لك البشرى بماذا؟ فأخبره الخبر فانطلق عبد الرحمن فأخبر عثمان الخبر. فقال عثمان: أعاهد الله أن لا يساكنني حمران أبدا! ونفاه إلى البصرة فلم يزل بها حتى قتل عثمان ابن عفان. واعلم أن كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال، وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها فلا خير في إنسان لا يملك سره. ويروى أن رجلاً أودع سره عند رجل فقال له: أفهمت؟ قال: بل جهلت. فقال: أحفظت؟ قال: بل نسيت. وقيل لبعضهم: كيف كتمك للسر؟ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر. قال الشاعر: ولو قدرت على كتمان ما استملت مني الضلوع على الأسرار والخبر لكنت أول من ينسى سرائره إذ كنت من نشرها يوماً على خطر قال شيخنا: ومن أحسن شيء سمعته في كتمان السر ما أنشده بعض فقهاء البصريين بالبصرة فقال:

ولها سرائر في الضمير طويتها نسي الضمير بأنها في طيه وفي معناه: ومستودعي سراً كتمت مكانه عن الحس خوفاً أن ينم به الحس وخفت عليه من هوى النفس شهرة فأودعته من حيث لا تبلغ النفس وقال العتبي: أسر معاوية إلى عثمان بن عنبسة حديثاً، قال فقلت لأبي: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً أفما حدثك به؟ قال: لا. من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً! قلت: يا أبت أفيدخل هذا بين الرجل وابنه؟ قال: لا يا بني ولكن أكره أن تعود لسانك إفشاء السر. قال: فحدثت به معاوية قال: أعتقك أخي من ورق الخطا. وقيل لبعض الملوك: ما أصعب الأشياء على الإنسان؟ قال: أن يعرف نفسه ويكتم سره. وقال قيس بن الحطيم: أجود بمكنون التلاد وإنني بسرك عمن سالني لضنين إذا جاوز الاثنين سر فإنه يبث وتكثير الوشاة ممين وإن ضيع الأقوام سراً فإنني كتوم لأسرار العشير أمين يكون له عندي إذا ما ضننته مكان سويداء الفؤاد مكين قال شيخنا: قلت الناس يقولون أراد بالاثنين المودع والمودع، ولا يبعد أن يريد به الشفتين. وكان يقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه فيوشك أن يصير عدوا. وقد روى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة. قلت: وإذا كانت أمانة حرمت فيها الخيانة كالأمانة في الأموال. وقال أبو بكر ابن حزم: إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره، وقال هشام بن عروة: ما من رجل ينتقص من أمانته إلا نقص إيمانه وقال جعفر بن عثمان: يا ذا الذي أودعني سره لا ترج أن تسمعه مني لم أجره قط على فكرتي كأنه لم يجر في أذني وكان عمرو بن العاص يقول: ما أفشيت من سري إلى رجل فأفشاه علي فلمته إذ كان صدري به أضيق. وقال الأحنف بن قيس: يضيق صدر أحدهم بسره حتى يحدث به غيره ثم يقول اكتمه علي! ومن أمثال الفرس: إذا أفشيت إلي سرك وأوصيتني أن لا أبوح بالسر فهلا أوصيت بهذا نفسك؟ وفي منثور الحكم: انفرد بسرك ولا تودعه حازماً فيزل ولا جاهلاً فيخون. وأنشدوا: إذا المرء أفشى سره بلسانه ولام عليه غيره فهو أحمق إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق وفي منثور الحكم: من أفشى سره كثر عليه المتآمرون. قال الشاعر: وسرك ما كان عند امرئ وسر الثلاثة غير الخفي وقال آخر: ولا تنطق بسرك كل سر إذا ما جاوز الاثنين فاشي وقال غيره: تبوح بسرك ضيقاً به وتبغي لسرك من يكتم وكتمان سرك فيما تخاف وفيما تحاذره أخرم إذا ذاع سرك من مخبر فأنت إذا لمته ألوم وقال آخر: إذا ما ضاق صدرك عن حديث وأفشته الرجال فمن تلوم؟ وإن عاتبت من أفشى حديثي وسري عنده فأنا الملومنن

الباب الرابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي يصلح عليها الأمير والمأمور

وقال حكيم: ما كتمته عن عدوك فلا تطلعن عليه صديقك، فإن لم يكن لك يد من إذاعته لقرينة تقتضيه من صديق مساهم أو استشارة ناصح مسلم، فمن صفات أمين الأسرار أن يكون ذا عقل ودين ونصح مروءة، فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة وتوجب حفظ الأمانة، ومن كملت فيه فهو عنقاء مغرب، ولا تودع سرك عند من يستدعيه فإن طالب الوديعة خائن. قال صالح بن عبد القدوس: لا تودع سرك لطالبه منك فالطالب للسر مذيع. وفي الجملة: إذا زال سرك عن عذبة لسانك فالإذاعة مستولية عليه إذا أودعته قلب ناصح محب، فاحتمال مرارة الكتمان على قلبك أسهل عليك من التململ بتمليك سرك لغيرك. واعلم أن إشاء سر غيرك أقبح من إظهار سر نفسك لأنه يبوح بإحدى وصمتين: إما الخيانة إن كان مؤتمناً أو النميمة إن كان مستخبراً. وقال بعض الحكماء لابنه يا بني كن جواداً بالمال في مواضع الحق، ضنينا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر والبخل بمكتوم السر. وكان يقال: صدور الأحرار قبور الأسرار. وقال الشاعر: ألم تر أن وشاة الرجا ل لا يتركون أديماً صحيحا فلا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحا وقال غيره: ما كل مكتوم يباح به احذر لسانك من جوالبه فمرارة الكتمان أعذب من بث تحاذر من عواقبه ليس الهوى ما كنت تعرفه أيام تلعب في جوانبه هذا هوى لو فضحت به ضحك الحسام إلى مضاربه الباب الرابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي يصلح عليها الأمير والمأمور وهي رهين من سائر الخصال وزعيم بالمزيد من الآلاء والنعماء من ذي الجلال والإكرام وهي الشكر قال الله تعالى حكاية سليمان بن داود عليهما السلام، وقد آتاه الله تعالى ملك الدنيا والجن والإنس والطير والوحش و {الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (صّ: 36) فلما استمكن ملكه قال صلى الله عليه وسلم: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40) فما عدها نعمة كما عدها ملوك الأرض، ولا حسبها كرامة من الله تعالى عليه كما ظنها ملوك الأرض، بل خاف أن تكون استدراجاً من حيث لا يعلم كما قال الله تعالى في أمة أراد هلاكهم {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف183: 182) جاء في التفسير: أصب عليهم النعم وأنسيهم الاستغفار، وإنما الفرح بما أوتي من الدنيا والغبطة بزهوتها والاغترار بزبرجها من شعار الكفار، ألا ترى إلى قول قارون اللعين: إنما أوتيته على علم عندي فكان جزاؤه ما قال الله تعالى {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (القصص: 81) ولما خاف سليمان عليه السلام أن يكون استدراجاً كان جوابه ما قال الله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (صّ: 39) واعلم أرشدك الله أن الشكر ليس هو حافظ النعم فقط، بل هو مع حفظه لها زعيم بزيادة النعم وأمان من حلول النقم. والشكر على ثلاث مراتب: شكر بالقلب وشكر باللسان وشكر بالجوارح. فأما الشكر الواجب على جميع الخلق فشكر القلب، وهو أن تعلم أن النعمة من الله تعالى وحده، وأن لا نعمة على الخلق من أهل السموات والأرض إلا بداءتها من الله تعالى، حتى يكون الشكر لله تعالى عن نفسك وعن غيرك، بمعرفة إنعام الله تعالى عليك وعلى غيرك. وهذا النوع هو الذي يقال فيه: يجب على العبد أن يشكر الله تعالى على نعم أسديت إلى غيره.

والدليل على أن الشكر محله القلب وهو المعرفة قوله تعالى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل: 53) أي أيقنوا أنها من الله تعالى. وإلى هذه الكلمة انتهى جميع ما قاله الخلق في الشكر، والدليل عليه أيضاً قوله تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: 123) أي فاتقوني فإنه شكر لنعمتي وخلق الله الحياة نعمة على العبد فقال تعالى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) والعبارة عنه أن يقال الشكر اعتراف القلب بإنعام الله تعالى على وجه الخضوع. ويقال فيه: الشكر اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة. وقال أبو عثمان: الشكر معرفة العجز عن الشكر. وروي أن داود عليه السلام قال: إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله تعالى إليه: الآن قد شكرتني. وقال وهب بن منبه: قال داود عليه السلام: إلهي ابن آدم ليس فيه شعرة إلا تحتها منك نعمة وفوقها منك نعمة فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود إنني أعطي الكثير وأرضى باليسير، وإن شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني وفي هذا يقال: الشكر على الشكر أتم الشكر؛ وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه ويكون ذلك التوفيق من أجل النعمة فتشكره على الشكر، ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما لا يتناهى، وهذا الشكر أيضاً واجب. ونظم محمود الوراق كلاما في المعنى فقال: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر فما منهما إلا له فيه نعمة تضيق بها الأوهام والسر والجهر ومن أقر بنعمة الله وإحسانه فقد أقر بقدر ما كلف، لأن أحداً لا يمكنه أن يوازي شكر نعمة الله تعالى. وفي مناجاة موسى عليه السلام: إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف يشكرك؟ قال: أن يعلم أن ذلك مني، فكأن معرفته بذلك شكره لي. فصل: وأما شكر اللسان فقال تعالى فيه {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 11) قيل: يعني النبوة. وقيل: يعني القرآن، وحكم الآية عام في جميع النعم روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى، والتحدث بالنعم شكر. وقال الله تعالى حكاية عن أهل الجنة أنهم قالوا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (الزمر: 74) وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. وكتب عدي بن أرطاه إلى عمر بن عبد العزيز، لما حفر نهر البصرة الذي يقال له نهر عمراني: حفرت لأهل البصرة نهرا عذب لهم مشربه وجادت عليه أموالهم ولم أر لهم على ذلك شكر، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقت عليه. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إني لا أحسب أهل البصرة خلوا من رجل قال الحمد لله حيث حفرت هذا النهر وأن الله قد رضيها شكراً من جنته، فارض بها شكرا من نهرك والسلام. وحقيقة الشكر في هذا القسم الثناء على المحسن بذكر إحسانه. وعلى هذا القول يوصف الرب تعالى بأنه شكور حقيقة، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه، وشكر الله للعبد ثناؤه عليه بإحسانه، وإحسان الرب للعبد إنعامه عليه. وهذه اللفظة مأخوذة من قولهم دابة شكور إذا ظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف. ويقال: وجه شكور إذا كان ممتلئ المحاسن ظاهرها. وفي الحديث: يقول الله تعالى: أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد

غيري وأرزق ويشكر غيري. وقال بعضهم: إنما أوتي الناس لأنهم في موضع صبرهم يحسبون أنهم في موضع شكر. فصل: وأما الشكر الذي على الجوارح فقال الله تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) فجعل العمل شكراً. وقال عطاء: دخلت على عائشة رضي الله عنها مع عبيد بن عمير فقال لها عبيد: يا أم المؤمنين حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وقالت: وأي شيء لم يكن عجبا؟ إنه أتاني في ليلة فدخل معي فراشي حتى مس جلده جلدي ثم قال: يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي، فقلت: إني أحب قربك. فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ وأكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت له: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا فلملا أفعل وقد نزل علي: إن في خلق السموات والأرض. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الشكر بالعمل وبين فيه مراد الكتاب، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62) أي كل واحد منهما يخلف الآخر، فمن فاته العمل في أحدهما عمله في الآخر فجعل الأوراد والأعمال بالجوارح شكرا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى انتفخت قدماه فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا؟ وقال أبو هارون: دخلت على أبي حازم فقلت له: رحمك الله ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أذعته، وإذا رأيت بهما شراً سترته. قلت له: ما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيرا حفظته، وإذا سمعت بهما شرا نسيته. قلت: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك ولا تمنع حق الله فيهما. قلت: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله صبرا وأعلاه علما. قلت: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المؤمنون6: 5) فإن أنت فعلت فأنت الشاكر حقا. وفي حكمة إدريس عليه السلام: لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام على خلقه، ليكون صانعا إلى الخلق مثل ما صنع به الخالق تعالى. وإذا ثبت أن فعل الطاعات شكر فإن فيهما ما هو أشد ملازمة من غيره. فالطاعة في مواساة الفقراء أشكل بالشكر على الغنى من غيرها لأنها من جنس النعمة، فإذا أردت أن تحرس دوام نعم الله تعالى عليك فأدم مواساة الفقراء. والطاعة في رفع ذوي الضعة والخمول والمسكنة بغير معصية أشبه بالشكر على رفع قدرك والتنويه باسمك. والطاعة في تمريض الفقراء وتلطيف أغذيتهم أشبه بالشكر على العافية من سائر الطاعات. والطاعة في الشفاعات عند السلطان وقضاء حوائج الغربان والإخوان أشبه بذوي الحاجة من سائر الطاعات. وعلى هذا المثال ينبغي أن تقابل سائر نعم الله تعالى على العبد. ومن العبارات الجامعة للشكر أن يقال معرفة بالجنان وذكر باللسان وعمل بالجوارح. فصل: في الكلام على الزيادة قال الله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (ابراهيم: 7) قال قوم: إنما خاطب الله تعالى بهذا وبقوله {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) قوما دون قوم. والدليل عليه أنا نرى من يشكر على الغنى ثم يبتلى بالفقر، ومن يشكر على العافية ثم يبتلي بالمرض، والله تعالى لا يخلف

وعده. وقال قوم: معناه لأزيدنكم نعم الآخرة. فإن قيل: إنما تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. فأجابوا: بأن النعم الدنيوية والأخروية وإن تفاضلت واختلفت كلها متجانسة من حيث أنها نعمة. وقال قوم: معناه لأزيدنكم خيراً، والخير والصلاح قد يكون في كثير من الأوقات بالمنع والسقم ونحوهما، فإن من سأل الله تعالى أن يعطيه مالاً أو يصح جسمه، وهو يعلم أنه إن وهبه المال أنفقه في المعاصي، أو وهبه الصحة وصرف صحته إلى المشي في الآثام، فالمنع ههنا موهبة من الله جزيلة. ومن ههنا قالت العلماء: منع الله تعالى عطاء. وقال قوم: يمكن تقدير الاستثناء فيها لئن شكرتم لأزيدنكم إلا أن تعصوا فأعاقبكم بالحرمان فأجعل ذلك كفارة لكم، وهو أصلح من أن أعاقبكم في الآخرة، والناس لا يسلمون من الذنوب، ولو تهيأ أن يسلموا من الذنوب لدرت الزيادات. قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (المائدة: 66) وقال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح: 10-12) وقال قوم: الآية خاصة لا محالة إذ لو كانت على عمومها لوجب أن لا يموت من يشكر الله تعالى على الحياة. قال الشيخ: قلت إن الله تعالى وعد الزيادة وقوله الحق، وقد جعل العبادة علامة يعرف بها الشاكر، فمن لم يظهر عليه المزيد علمنا أنه لم يشكر، فإذا رأينا الغنى يشكر الله تعالى بلسانه وماله في نقصان، علمنا أنه لم يشكر بل قد أخل بالشكر الذي أخذ عليه، إما لا يزكيه أو يزكي لغير أهله أو يؤخره عن وقته أو يمنع حقاً واجباً عليه فيه، من كسوة عريان أو طعام جائع وشبهه، فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . إذا غيروا ما بهم من الطاعات غير الله تعالى ما منه من الإحسان، وإذا كان قوم في العافية فإن الله تعالى لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم يترك أدب أو إخلال بحق أو إلمام بذنب، كما قال بعضهم: أدنى الشكر أن لا يعصي الله تعالى بنعمه، وإن جوارحك كلها من نعم الله تعالى عليك فلا تعصه بها. ويحتمل أن يكون معنى الآية لئن شكرتم لأزيدنكم إن شئت ألا ترى أنه قال: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وكثير من الخلق يريدون حرث الدنيا ولا يؤتونه، فيكون التقدير نؤته منها لمن نشاء، بدليل قوله في الآية الأخرى: عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهكذا قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ثم إن كثيراً من الناس يدعون فلا يستجاب لهم ولكن معنى الآية أستجب لكم إن شئت ولمن شئت، بدليل قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (الأنعام: 41) . وهذا من باب حمل المطلق على المفيد. قال الجنيد: كنت بين يدي السري وأنا ابن تسع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت له: أن لا يعصى الله عز وجل بنعمه. قال: يوشك أن يكون حظك من الله لسانك. فلا أزال أبكي على هذه الكلمة. فإن قيل: ما معنى قوله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (النحل: 18) . وما يحصل من الأفعال في الوجود يمكن احصاؤه؟ قلنا نعم الله على وجهين دفع ومنع، فالمنع يمكن إحصاؤه ودفع البلايا نعم لا يمكن إحصاؤها، وما يدفع الله عنهم مما في مقدوره من ذلك وما يدفع الله تعالى عن العبد لا يحصى. فصل: ثم عدنا إلى أقوال العلماء والحكماء في الشكر فقال بعض الحكماء: موضع الشكر من النعمة موضع القرى من الضيف، إن وجده لم يذم وإن عدمه لم يقم. وأجمعت حكماء العرب والعجم على هذه اللفظة فقالوا: الشكر قيد النعم. وقالوا: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود. وقالوا: مصيبة وجب أجرها خير من نعمة لا يؤدى شكرها. وقال بعض الحكماء: من أعطى

أربعة لم يمنع أربعة: من أعطى الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب. وكان يقال: إذا رعيت النعم بالشكر فهي أطواق، وإذا رعيت بالكفر فهي أغلال. قال حبيب: نعم إذا رعيت بشكر لم تزل نعماً فإن لم ترع فهي مصائب وبعث الحجاج إلى الحسن بعشرين ألف درهم فقال: الحمد لله الذي ذكرني. قال علي بن أبي طالب: لا تكن ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي تنهى ولا تنتهي، وتأمر الناس بما لم تأت، تحب الصالحين ولا تعمل بما عملوا وتبغض المسيئين وأنت منهم، تكره الموت لكثرة ذنوبك ولا تدعها طول حياتك. وقال المغيرة بن سعيد: اشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك. فإنه لا بقاء لنعمة إذا كفرت ولا زوال لها إذا شكرت، وإن الشكر زيادة من النعم وأمان من النقم. وكان الحسن يقول: ابن آدم متى تنفك عن شكر النعم وأنت مرتهن بها؟ كلما شكرت نعمة تجدد لك بالشكر أعظم منها عليك، فأنت ما تنفك بالشكر عن نعمة إلا إلى ما هو أعظم منها. وقال سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام قال: على أي دين تركته؟ قال: على السلام. قال: الحمد لله الآن تمت النعمة. وروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه: دعا إلى قوم ليأخذهم على ريبة فافترقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق عثمان رقبة شكر الله تعالى إذا لم يجر على يديه فضيحة رجل مسلم. ويروى أن الحسن بن علي التزم الركن وقال: إلهي نعمتني فلم تجدني شاكراً وأبليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر ولا أنت أدمت الشدة بترك الصبر! إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم ولا من الجافي إلا الجفا! وقال عون بن عبد الله: الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية والصبر عند المصيبة. وروي أن نملة قالت لسليمان بن داود: يا نبي الله أنا على قدري أشكر لله منك، وكان راكباً على فرس ذلول فخر عنه ساجداً ثم قال: لولا أني أبجلك لسألتك أن تنزع عني ما أعطيتني. وقال صدقة بن يسار: بينما داود عليه السلام في محرابه إذ مرت به دودة فتفكر في خلقها وقال: ما يعبأ الله تعالى بهذه؟ فأنطقها الله تعالى وقالت: يا داود تعجبك نفسك، لأنا على قدر ما آتاني الله أذكر لله وأشكر له منك فيما آتاك. ولمحمود الوراق: إلهي لك الحمد الذي أنت أهله على نعم ما كنت قط لها أهلا! متى ازددت تقصيراً تزدني تفضلاً كأني بالتقصير أستوجب الفضلا! وكان لبعضهم صديق فحبسه السلطان، فأرسل إليه فقال له صاحبه: اشكر الله تعالى. فضرب الرجل فكتب إليه اشكر الله فجيء بمحبوس مجوسي مبطون، وقيد وجعل حلقة في رجله وحلقة في رجل المجوسي، وكان المجوسي يقوم بالليل مرات ويحتاج هذا إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يفرغ، فكتب إلى صاحبه فقال: اشكر الله تعالى فقال: إلى متى تقول وأي بلاء فوق هذا؟ فقال له صاحبه: لو وضع الذي في وسطه في وسطك، كما وضع القيد الذي في رجله في رجلك ما كنت تصنع؟ ولبعضهم: ومن الرزية أن شكري صامت عما فعلت وأن برك ناطق أأرى الصنيعة منك ثم أسرها إني إذن ليد الكريم لسارق! وقال رجل لسهل بن عبد الله: إن اللص دخل داري وأخذ متاعي. فقال: اشكر الله تعالى، لو دخل

اللص إلى قلبك وهو الشيطان وأخذ التوحيد منه فما كنت تصنع؟ ولما بشر إدريس عليه السلام بالمغفرة سأل المغفرة فقيل له فيه فقال لأشكره فإني كنت أعمل قبل المغفرة، فبسط الملك جناحه فرفعه إلى السماء ويروى أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام مر بحجر صغير يخرج منه الماء فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال: منذ سمعت الله تعالى يقول {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) وأنا أبكي من خوفه، فدعا النبي عليه السلام أن يجيره الله من النار، فأوحى الله إليه إني أجرته من النار، فمر النبي ثم عاد فوجد الحجر يتفجر منه مثل ما كان، فعجب فأنطق الله تعالى الحجر فقال له: لم تبكي؟ فقال ذلك بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور! وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: ارحم عبادي المبتلى والمعافى. فقال: إلهي ما بال المعافى؟ قال: لقلة شكره على عافيتي إياه. وأولى رجل أعرابياً إيلاء حسناً فقال: لا أبلاك الله بلاء يعجز عنه صبرك، ولا أنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك! وأنشدوا: سأشكر لا إني أجازيك منعماً بشكري ولكن كي يرى ذلك الشكر وأذكر أياماً لدي اصطنعتها وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر ولبعضهم: أوليتني نعماً أبوح بشكرها وكفيتني كل الأمور بأسرها فلأشكرنك ما حييت وإن أمت فلتشكرنك أعظمي في قبرها! ولبعض العرب في المعنى: إلهي قد أحسنت عودا وبدأة إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر فمن كان ذا عذر لديك وحجة فعذري إقراري بأن ليس لي عذر وكان مطرف يقول: إلهي تكون منك النعمة وعليك تمامها، وأنت تعين على شكرها وعليك ثوابها. وهذا باب عظيم من النعم على العباد. قال الله تعالى في الثناء على بعض عباده: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (الاسراء: 3) . وقال شاكراً لأنعمه اجتباه وكذلك سائر ما أثنى الله على عباده ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان: 12) . {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} (الاسراء: 7) . ليس للرب تعالى فيها قليل ولا كثير، فإنه أجل من أن ينال الحظوظ وأجل من أن يلحقه ثناء مثن أو شكر شاكر، فأخبر أن العلو والجلال له دونهم وأنه مقدس عن الناس بثناء مثن أو كفر كافر. قال تعالى: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ} (ابراهيم: 10) فواعجبا أعطى ثم أثنى! وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كفر النعمة داعية للمقت، ومن جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر ما أخذ منك، وحقيق بمن أسديت إليه نعمة أو قضيت له حاجة أن يكافي، فإن لم يقدر فليشكر، فإن شكرها فقد أدى حقها. قال الشاعر: فلو كان يستغني عن الشكر ماجد لرفعة مالٍ أو علو مكان لما أمر الرحمن بالشكر خلقه فقال: اشكروا لي أيها الثقلان وقال بعضهم: لئن عجزت عن شكر برك قوتي وأقوى الورى عن شكر برك عاجز فإن ثنائي واعتقادي وطاعتي لأفلاك ما أوليتنيه مراكز وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وقفت علينا امرأة فقالت: يا قوم تغير علينا الدهر إذ قل منا الشكر

الباب الخامس والثلاثون: في بيان السيرة يصلح عليها الأمير والمأمور

وفارقنا الغنى وحالفنا الفقر، فرحم الله امرأ فهم بعقل وأعطى من فضل وواسى من كفاف وأعان على عفاف. شعر: فلو كان للشكر شخص يبي ن إذا ما تأمله الناظر لمثلته لك حتى ترا هـ فتعلم أني آمر شاكر ولكنه ساكن في الضمي ر يحركه الكلم السائر وقيل للسري: ما الشكر؟ فقال: المكافأة على قدر الطاقة. قيل: فما الكفر؟ قال: ترك الجزاء ولو بالثناء. قيل: وهل يكون أحد أبخل ممن يبخل بالثناء؟ قال: نعم من عادى على الصنيعة. الباب الخامس والثلاثون: في بيان السيرة يصلح عليها الأمير والمأمور ويستريح لها الرئيس والمرؤوس وتسهل صحبة الخلائق أجمعين مستخرجة من القرآن العظيم قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) فأثبت الله تعالى المماثلة بيننا وبين سائر البهائم، ومعلوم أنهم لا يماثلونا في خلقنا ولا أشكالنا ولا عقولنا، ولا سائر ما تدركه العين منهم ومنا فتبقى المماثلة في الأخلاق، فلا أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم، ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة، فإذا رأيت من الإنسان خلقاً خارجاً عن الاعتدال، فانظر ما يماثل ذلك الخلق من خلق سائر الحيوان، فألحقه به وعامله كما كنت تعامله، فحينئذ تستريح من منازعتهم ويستريحون منك وتدوم الصحبة فإذا رأيت الرجل الجاهل في خلائقه الغليظ في طباعه القوي في بدنه الذي لا يؤمن طغيانه وإفراطه، فألحقه بعالم النمور. والعرب تقول: أجهل من نمر وأنت إذا رأيت النمر بعدت عنه ولا تخاصمه ولا تشانئه فاسلك بالرجل كذلك. وإذا رأيت الرجل الغالب على أخلاقه السرقة خفية والنقب ليلاً على وجه الاستتار، فهذا يماثل عالم الجرذ، فدع ملاحاته ومخاصمته كما تدع سباب الجرذ إذا أفسد رحلك بما يصلح له. وإذا رأيت الرجل هجاماً على أعراض الناس وثلبهم فقد ماثل عالم الكلاب، فإن دأب الكلب أن يجفو من لا يجفوه ويبتدي بالأذية من لا يؤذيه، فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبحك! ألست تذهب في شأنك ولا تخاصمه ولا تسبه؟ فافعل بمن يهتضم عرضك مثل ذلك. وإذا رأيت إنساناً قد جبل على الخلاف إن قلت لا قال نعم، وإن قلت نعم قال لا، فألحقه بعالم الحمير، فإن دأب الحمار إن أدنيته بعد وإن أبعدته قرب، وأنت تستمتع بالحمار ولا تسبه ولا تفارقه، فاستمتع أيضاً بهذا الإنسان ولا تسبه ولا تفارقه. وإذا رأيت رجلاً يطلب عثرات الناس وسقطاتهم، فمثله في الآدميين كمثل الذباب في عالم الطير، فإن الذباب يقع على الجسد فيتحامى صحيحه ويطلب المواضع النغلة منه ذوات المدة والدم والنجاسة، فاستر ذلك الموضع ولا تخاصمه، وإذا بليت بسلطان يهجم على الأموال والأرواح فألحقه بعالم الأسود، وخذ حذرك منه كما تأخذ حذرك من الأسد، وليس إلا الهرب منه كما قال النابغة: ولا قرار على زأر من الأسد وإذا بليت بإنسان خبيث كثير الروغان فألحقه بعالم الثعالب. وإذا بليت بمن يمشي بالنمائم ويفرق بين الأحبة فألحقه بعالم الظربان، وهي دابة صغيرة تقول العرب عند تفرق الجماعة: فسا بينهم ظربان فتفرقوا، وخاصة هذه الدويبة إذا جعلت وسط جماعة أن يتفرقوا، وكما أن الجماعة إذا أقبلت نحوهم هذه الدابة طردوها ومنعوها الدخول بينهم، كذلك ينبغي إخراج النمام من بين الجماعة، فإن لم يفعلوا يوشك أن يفرق بينهم ويفسد قلوب بعضهم على بعض. وإذا رأيت إنساناً

الباب السادس والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها غاية كمال السلطان وشفاء الصدور وراحة القلوب وطيب النفوس

لا يسمع العلم والحكمة وينفر من مجالس العلماء والحكماء، ويألف سماع أخبار الدنيا والخرافات وما يجري في مجالس العوام، فألحقه بعالم الخنافس فإنه يعجبه أكل العذرات ويألف روائح النجاسات، ولا تراه إلا ملابساً للأخلية والمرحضات وينفر من روائح المسك والورد، وإذا طرح عليك المسك وماء الورد مات. وإذا رأيت إنساناً إنما دأبه حفظ الدنيا لا يستحي من الوثوب عليها، فألحقه بعالم الحدآن بأن تكن رحلك عنه. وإذا بليت بالرجل عليه الأناة والسكينة وقد نصب أشراكه لاصطياد الدنيا، وأكل أموال الودائع والأمانات والأرامل واليتامى فألحقه بعالم الذئاب، وهو كما قال فيه القائل: ذئب تراه مصلياً فإذا مررت به ركع يدعو وجل دعائه: ما للفريسة لا تقع؟ عجل بها يا ذا العلا إن الفؤاد قد انصدع! فاحترز منه كما تحترز من الذئب. وإذا بليت بصحبة إنسان كذاب فاعلم أن الإنسان الكذاب كالميت في الحكم، لأنه لا يقبل له خبر كما لا خبر للميت، وكما لا تصحب الموتى لا يصحب الكذاب. وقد قيل في المثل: كل شيء شئ إلا صحبة الكذاب لا شيء ويجوز أن يلحق بعالم النعام فإنه يدفن جميع بيضه تحت الرمل، ثم يترك واحدة على وجه الرمل وأخرى تحت طاقة من الرمل، وسائر بيضه في قعر الحفرة، فإذا رآه الغراب أخذ تلك البيضة ويكشف عن وجه الرمل فيجد الأخرى، فيظن أنه ليس ثم شيء آخر. والخبير بحالة النعام إذا رأى البيضة لا يزال بحفر حتى يصل إلى حاجته ولا يغتر بتلك البيضة، فكذلك الكذاب إذا سمعت منه خبراً لا تصدقه حتى تبلغ الغاية في الكشف عنه. وإذا رأيت رجلاً إنما دأبه أن يصنع نفسه كما تصنع العروس لبعلها، يبيض ثيابه ويعدل عمامته ويأنف أن يمسه شيء غيره وينظر في عطفيه ويطرح القذى عن ثوبه، ليس له همة بين الجلساء إلا نظره إلى نفسه وإصلاح ما انثنى من ثيابه، فألحقه بعالم الطواويس التي هذه صفتها فإنه يتبختر في مشيه، وينظر إلى نفسه ويفرش ذنبه فتتخذه الملوك استحساناً له. وإذا رأيت إنساناً حقوداً لا ينسى الهفوات ويجازي بعد المدة على السقطات، فألحقه بعالم الجمال. والعرب تقول: فلان أحقد من جمل. وكما تجتنب قرب الجمل الحقود فاجتنب صحبة الرجل الحقود. وإذا رأيت إنساناً منافقاً يبطن خلاف ما يظهر فألحقه بعالم اليربوع، وهو فأر يكون في البرية يتخذ حجراً تحت الأرض يقال له النافقاء، وله فوهتان يدخل من إحداهما ويخرج من الأخرى، ومنه اشتق اسم المنافق فإذا هم أحد بأخذه دخل حجره وخرج من الباب الآخر، فيحفر الصياد خلفه فلا يظفر بشيء، كذلك حال المنافق لا يصح منه شيء وعلى هذا النمط كن في صحبة الناس تستريح منهم وتريحهم، فلعمر الله ما استقامت لي صحبة الناس وسكنت نفسي واستراحت من مكابدة أخلاقهم، إلا من حيث سرت معهم بهذا السير! وقال الرباحي: يا بني رباح لا تحقروا صغيراً تأخذون عنه، فإني أخذت من الثعلب روغانه ومن القرد مكائده، ومن السنور صرعه ومن الكلب صولته ومن ابن آوى حذره، وقد تعلمت من القمر مشي الليل ومن الشمس الظهور الحين بعد الحين. الباب السادس والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها غاية كمال السلطان وشفاء الصدور وراحة القلوب وطيب النفوس

الباب السابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها ملجأ الملوك عند الشدائد ومعقل السلاطين عند اضطراب الأمور وتغيير الوجوه والأحوال

اعلم أيها الملك أنك إن كملت فيك الخصال المحمودة والأخلاق المشكورة والسيرة المستقيمة، وخالفت نفسك وقهرت هواك ووضعت الأشياء مواضعها، ثم إن الرعية اهتضمت حقك وجهلت قدرك ولم توفك حظك، وبلغك منهم ما يسؤك ورأيت منهم ما لا يعجبك، فاعلم أنك لست بإله فلا تطمع أن يصفو لك منهم ما لا يصفو منهم للإله. وفصل الخطاب في هذا الباب أن تعلم أن الله خلق الخلائق أجمعين وأنعم عليهم بأنواع من النعم، فأكمل حواسهم وخلق فيهم الشهوات ثم أفاض عليهم نعمة فكملت لهم اللذات، وبعد هذا فما قدروا الله حق قدره ولا عظموه حق عظمته، بل قالوا فيه ما لا يليق به ووصفوه بما يستحيل عليه، وأضافوا إليه ما يتقدس عنه وسلبوه ما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، فمنهم من قال هو ثالث ثلاثة، ومنهم من قال له زوجة، ومنهم من قال له ابن، ومنهم من قال له البنات، ومنهم من يجسمه ومنهم من يشبهه، ومنهم من أنكره رأساً وقالوا ما للخلق صانع كما حكاه الخالق عنهم فقال: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وهو مع ذلك يحييهم ويميتهم ويصح أجسامهم وحواسهم ويرزقهم وينعمهم ويقضي مآربهم وأوطارهم، ويمتعهم متاعاً حسناً ويبلغهم آمالهم في معظم ما يحتاجون إليه، فمعاصيهم إليه صاعدة وبركاته عليهم نازلة، كل يعمل على شاكلته وينفق مما عنده، وكل ذي حال أولى بها. وفي مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: إلهي أسألك أن لا يقال في ما ليس في! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ذلك شيء ما فعلته لنفسي فكيف أفعله لك؟ وفي هذه السيرة عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن تذكر، مع أنك إن التمست رضاء جميع الناس التمست ما لا يدرك، وكيف يدرك رضاء جميع المخلوقين؟ فيا أيها الملك الذي كتب الله عليه الفناء والعمر القصير والزمان اليسير والأيام المعدودة والأنفاس المحصورة، كيف أردت أن يصفو لك من الرعية ما لم يصف منهم لخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم؟ هيهات هيهات بعيد ما طلبت ومستحيل ما أملت! فلك في الله أسوة حسنة أن ترضى منهم ما رضي الله تعالى منهم، وتسير فيهم بسيرة ربهم فيهم، ألم تر كيف أحسن إليك ورضي منك باليسير من العمل، وأكثر لك من النعم والأموال والخول؟ وانظر كيف يستر زلاتك ويغفر هفواتك، ولا يفضحك في خلواتك، ففي هذا ما يمهد النفوس ويهذب ذوي العقول ويهدي إلى الصواب، ويوضح طريق الرشاد. ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقد كان راغباً لما تلوته عليك، فإنه روى عنه أنه كتب إلى عمرو بن العاصي: كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك! الباب السابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها ملجأ الملوك عند الشدائد ومعقل السلاطين عند اضطراب الأمور وتغيير الوجوه والأحوال أيها الملك إذا اعتجلت الأمور في صدرك واضطربت عليك القواعد، ومرجت في قلبك وجوه الآراء وتنكرت عليك المعارف، واكفهر لك وجه الزمان ورأيت آثار الغير، فلا تغلبنك خصلتان اترك للناس دينهم ودنياهم ولك الزمان من طوارق الحدثان وما يأتي به الملوان؛ فقد ترى أن المأمون قال في آخر موافقته مع أخيه الأمين: قد نفذت الأموال وألحت الأجناد في طلب الأرزاق فقال المأمون: بقيت لأخي خصلة لو فعلها ملك موضع قدمي هاتين قيل له: وما هي؟ فقال: والله إني لأضن بها على نفسي فكيف على غيري؟ فلما خلص له الأمر سئل عن تلك الخصلة فقال: لو أن الأمين نادى في جميع بلاده أنه قد حط الخراجات والوظائف السلطانية وسائر الجبايات عشر

الباب الثامن والثلاثون: في بيان الخصال الموجبة لذم الرعية للسلطان

سنين، ملك علي ولكن الله غالب على أمره. ولما خشي المأمون انتقاض بيعته مع أهل خراسان في فتنته مع أخيه الأمين، فاستشار الفضل بن سهل وكان وزيره فقال له الفضل: قد قرأت القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي عندي أن تجمع الفقهاء وتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وبسط العدل والقعود على اللبود وتواصل النظر في كشف المظالم، وتكرم القواد والملوك وأبناء الملوك تعدهم بالمواعيد الكريمة والمراتب السنية والولايات المشاكلة، ففعل ذلك وحط عن أهل خراسان ربع الخراج، فمالت وجوه الخلائق إليه وكانوا يقولون: ابن أختنا وابن عم نبينا عليه الصلاة والسلام. وانقاد إليه رافع بن الليث وكان من عظماء الملوك بخراسان. ودخل تحت هذه الترجمة أمر اتفق عليه حكماء العرب والروم والفرس والهند وهو أن يصطنع وجوه كل قبيلة والمقدمين من كل عشيرة، ويحسن إلى حملة القرآن وحفظة الشريعة ويدني مجالسهم، ويقرب الصالحين والمتزهدين وكل مستمسك بعروة الدين. وكذلك يفعل بالأشراف من كل قبيلة والرؤساء المتبوعين من كل نمط، فهؤلاء هم أزمة الخلق وبهم يملك من سواهم. فمن كمال السياسة والرياسة أن يبقى على كل ذي رياسة رياسته وعلى كل ذي عز عزه وعلى كل ذي منزلة منزلته، فحينئذ تكون لك الرؤساء أعواناً، ومن دانت له الفضلاء من كل قبيلة فأخلق به أن يدوم سلطانه، والعامة والأتباع دون مقدميهم وساداتهم أجساد بلا رؤوس، وأشباح بلا أرواح وأرواح بلا قلوب. ولما قامت العامة على السلطان بقرطبة ولبسوا السلاح، كان شيخ جالس على كير يعالج صنعته فقال: ما بال الناس؟ قالوا: قامت العامة على السلطان. قال: ولهم رأس؟ قالوا: لا. قال: سق الكير يا صبي! فسارت مثلاً. الباب الثامن والثلاثون: في بيان الخصال الموجبة لذم الرعية للسلطان قال حكيم الفرس: ذم الرعية للملك على ثلاثة أوجه: إما كريم قصر به على قدره ذلك طعناً، وإما لئيم بلغ به فوق قدره فأورثه ذلك بطراً، وإما رجل منع خصلة من الإنصاف. وفي الأمثال: إحسانك إلى الحر يبعثه على المكافأة، وإحسانك إلى اللئيم الخسيس يبعثه على معاودة المسألة. وقيل للإسكندر: إن فلاناً يبغضك ويسيء الثناء عليك! فقال: أنا أعلم أنه ليس بشرير، فينبغي أن نعلم هل أتاه من ناحيتنا أمر دعاه إلى ذلك؟ فبحث عن حاله فوجدها رثة، فأمر له بصلة سنية، فبلغه بعد ذلك أنه بسط لسانه بالثناء عليه فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيراً أو شراً؟ وينبغي للسلطان أن لا يتخذ الرعية مالاً أو قنية فيكون عليهم بلاء وفتنة، ولكن يتخذهم أهلاً وإخواناً فيكون له جنداً وأعواناً، وقد سبق المثل: إصلاح الرعية خير من كثرة الجنود. الباب التاسع والثلاثون: في مثل السلطان العادل والجائر مثل السلطان العادل مثل الياقوتة النفيسة الرقيعة في وسط العقد، ومثل الرعية مثل سائر الشذر فلا تلحظ العيون إلا الواسطة، وأول ما يبصر المبصرون وينقد الناقدون الواسطة، وإنما يثنى المثنون على الواسطة، وكلما حسنت الواسطة غمرت سائر الشذر فلا يكاد يذكر؛ كما قال ابن صعدة: لقيت بالحجاز بين مكة والمدينة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما، فكشفت عن وجه ابنتها فإذا وجه كأنه فلقة قمر، فقد أثقلتها بالجواهر واليواقيت وأنواع الدرر فالتفتت إلي وقالت: والله ما علقته عليها إلا لتفضحه. وكما أن جمال الملك أن يلي الواسطة الأفضل

الباب الأربعون: فيما يجب على الرعية إذا جار السلطان

من الشذر، وإن كان خلاف ذلك كان سيئ النظم، كذلك السلطان ينبغي أن يكون الأقرب فالأقرب إليه أهل العلم والعقل والأدب، والرأي والأصالة والشرف والحصافة وذوي الكمال من كل قبيلة، وإن كان على خلاف ذلك فهو نقص في التدبير وكما أن جمال العقد بواسطته، كذلك جمال الرعية بكمال سلطانهم وفضله وبراعته وعدله. ومثل السلطان الجائر مثل الشوكة في الرجل، فصاحبها تحت ألم وقلق ويتداعى لها سائر الجسد، ولا يزال صاحبها يروم قلعها ويستعين وبما في ميسوره من الآلات والمناقيش والإبر على إخراجها، لأنها في غير موضعها الطبيعي ويوشك أن يقلع بالأجرة، فأين غرر الياقوت من شوك القتاد: وروى أبو داود أن خاتم دانيال النبي عليه السلام كان عليه منقوش صورة أسدين، وبينهما صورة دانيال وهما يلحسانه لئلا ينسى نعمة الله عليه. الباب الأربعون: فيما يجب على الرعية إذا جار السلطان اعلم أرشدك الله أن الزمان وعاء لأهله، ورأس الوعاء أطيب من أسفله كما أن رأس الجرة أروق وأصفى من أسفلها. فلئن قلت: إن الملوك اليوم ليسوا مثل الملوك الذين مضوا، فالرعية أيضاً ليسوا كمن مضى من الرعية. ولست بأن تذم أميرك إذا نظرت آثار من مضى منهم بأولى من أن يذمك أميرك إذا نظر آثار من مضى من الرعية، فإذا جار عليك السلطان فعليك الصبر وعليه الوزر. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان. ومنه قال ابن عباس: من كره من أمير شيئاً فليصبر عليه، فإنه من خرج عن السلطان شبراً مات ميتة جاهلية وعنه في رواية أخرى: من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية. قال ابن مسعود: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقوقهم واسألوا الله حقكم. وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيأتيكم ركب مبغضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فأعطوهم ولا تسبوهم وليدعوا لكم. وهذا حديث عظيم الموقع في هذا الباب، فندفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا ننازعهم فيه، ونكف ألسنتنا عن سبهم. يا عبد الله لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله فلا محنة فوق محنة إبراهيم عليه السلام لما جعلوه في كفة المنجنيق ليقذف به في النار قال: اللهم إنك تعلم إيماني بك وعداوة قومي فيك فانصرني عليهم واكفني كيدهم. وقال مالك بن دينار: وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إني أنا الله مالك الملك قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم. وفي بعض الكتب: ابن آدم تدعوا على من ظلمك ويعوا عليك من ظلمته، فإن شئت أجبت لك وأجبت عليك، وإن شئت أخرت الأمر إلى يوم القيامة فيسعكم العفو. وقال سليمان بن داود عليه السلام: لا تجعل ملجأك في الأعداء المكافأة ولكن الثقة بالله. وروى أبو داود في السنن قال: سرقت ملحفة لعائشة رضي الله عنها، فجعلت تدعوه على من أخذها فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تستحي؟ يعني ألا تخففي عنه فنهاها عن الدعاء على الظالم كما ترى فإذا قال المظلوم في دعائه: اللهم لا توفقه فقد دعا على نفسه وعلى سائر الرعية، لأنه من قل توفيقه ظلمك ولو كان موفقاً ما ظلمك، فإن استجيب دعاؤك فيه زاد ظلمه لك. ومن الألفاظ المروية عن سلف هذه الأمة قولهم: لو كانت عندنا دعوة مستجابة ما جعلناها إلى في السلطان. وقال الفضيل:

الباب الحادي والأربعون: في كما تكونوا يولى عليكم

لو ظفرت ببيت المال لأخذت من حلاله وصنعت منه طيب الطعام، ثم دعوت الصالحين وأهل الفضل من الأبرار والأخيار، فإذا فرغوا قلت لهم: تعالوا ندعوا ربنا أن يوفق ملوكنا وسائر من يلي علينا وجعل إليه أمرنا. ولما قدم معاوية المدينة دخل دار عثمان فقالت عائشة بنت عثمان: واأبتاه! فقال معاوية: يا ابنة أخي إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحت غضب فأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان انتصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولا ندري تكون علينا أم لنا، ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين. وروي أن رجلاً من العقلاء غصبه بعض الولاة ضيعة له واعتدى عليه، فذهب إلى المنصور فقال له: أصلحك الله! أأذكر لك حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلاً؟ فقال له: بل اضرب لي قبلها مثلاً. فقال: أصلحك الله إن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فإنه يفر إلى أمه لنصرته، إذ لا يعرف غيرها ظناً منه أنه لا ناصر له فوقها، فإذا ترعرع واشتد فأوذي كان فراره وشكواه إلى أبيه، لعلمه أن أباه أقوى من أمه على نصرته، فإذا بلغ وصار رجلاً وحزبه أمر شكا إلى الوالي، لعلمه بأنه أقوى من أبيه فإن زاد عقله واشتدت شكيمته شكى إلى السلطان لعلمه بأنه أقوى ممن سواه، فإن لم ينصفه السلطان شكا إلى الله تعالى لعلمه بأنه أقوى من السلطان. وقد نزلت بي نازلة وليس فوقك أحد أقوى منك إلا الله تعالى، فإن أنصفتني وإلا رفعت أمرها إلى الله تعالى في الموسم، فإني متوجه إلى بيته وحرمه قال: بل ننصفك. وأمر أن يكتب إلى واليه برد ضيعته إليه. الباب الحادي والأربعون: في كما تكونوا يولى عليكم لم أزل أسمع الناس يقولون: أعمالكم عمالكم، كما تكونوا يولى عليكم، إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن؛ قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} (الأنعام: 129) وكان يقال: ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك. وقال عبد الملك بن مروان: ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما، نسأل الله أن يعين كل على كل. وقال قتادة: قالت بنو إسرائيل: إلهنا أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف نعرف رضاك من سخطك؟ فأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائهم: إذا استعملت عليكم خياركم فقد رضيت عنكم، وإذا استعملت عليكم شراركم فقد سخطت عليكم. وقال عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟ فقال: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك! وكتب أخ لمحمد بن يوسف يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه محمد بن يوسف: بلغني كتابك وتذكر ما أنتم فيه، وليس ينبغي لمن يعمل المعصية أن ينكر العقوبة، ولم أر ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام؟ الباب الثاني والأربعون في بيان الخصلة التي تصلح بها الرعية اعلم أن أدعى خصال السلطان إلى إصلاح الرعية وأقواها أثراً في تمسكهم بأديانهم وحفظهم لمرواتهم، إصلاح السلطان نفسه وتنزيهه عن سفساف الأخلاق وبعده عن مواضع الريب، وترفيعه نفسه عن استصحاب أهل البطالة والمجون واللعب واللهو والإعلان بالفسوق؛ وقد كانت صحبة محمد الأمين لذلك الرجل الخليع والماجن الرقيع أبي نؤاس الشاعر وصمة

عظيمة عليه، أوهن بها سلطانه ووضع عند الخاص والعام قدره، وأطلق ألسنة الخلق بالشتم والثناء القبيح على نفسه، فحاربه بذلك أخوه المأمون على الولاية ووجه طاهر بن الحسين لمحاربته ببغداد، وحاربه حتى قتله وأنفذ برأسه إلى المأمون، وكان يعمل كتباً تقرأ على المنابر من خراسان فيقف الرجل فيذم أهل العراق فيقول: أهل فسوق وخمور وماخور! ويعيب الأمين بذلك فيقول: استصحب أبا نؤاس رجلاً شاعراً ماجناً كافراً، يستصحبه معه لشرب الخمور وارتكاب المآثم ونيل المحارم. وهو القائل: ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر! ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر! حتى تغيرت عليه نفوس الخلق وتنكرت له وجوه الورى، فلما بلغ ذلك الأمين حبسه، ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه أن لا يشرب خمراً ولا يقول فيه شعراً. فمتى أراد السلطان إصلاح رعيته وهو متماد على سيئ أخلاقه، كان كمن أراد بقاء الجسد مع فقد رأسه، أو أراد استقامة الجسم مع عدم حياته، وكمن أراد تقويم الضلع مع اعوجاج الشخص، وكيف يحيا النون مع فساد الماء؟ ولقد أصاب الخليل في قوله: أصلح نفسك لنفسك يكون الناس تبعاً لك وقديماً قيل: من أصلح نفسه أرغم أنف أعاديه، ومن أعمل جده بلغ كنه أمانيه. وسئل بعض الحكماء: بم ينتقم الإنسان من عدوه؟ قال: بإصلاح نفسه. ولأبي الفتح البستي: إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً فاحكم على ملكه بالويل والحرب! أما ترى الشمس في الميزان هابطةً لما غدا وهو برج اللهو والطرب؟ وصحبة الأشرار تورث البوار وصحبة الأخيار تقتل النار، وصحبة الأخيار تقتل النار، وصحبة الأشرار كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيبا، فمحال إصلاح رعيتك وأنت فاسد وإرشادهم وأنت غاو وهدايتهم وأن تضال. وقد سبق المثل: من العجائب أعمش كحال. وتقول العرب: يا طبيب طبب نفسك. وكيف يقدر الأعمى على أن يهدي والفقير على أن يغني والذليل على أن يعز، فبعدك عن تطهير غيرك من العيوب قبل تطهير نفسك، كبعد الطبيب عن إبراء غيره من داءٍ به مثله. وقال بعض حكماء الهند: لن يبلغ ألف رجل في إصلاح رجل واحد، بحسن القول دون حسن الفعل، ما يبلغ رجل واحد في إصلاح ألف رجل بحسن الفعل دون القول. وفيه قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم؟ تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا صفة وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم! ولكن أقوى الأسباب في صلاحهم عند قوة صلاحه استعماله عليهم الخاصة منهم، وذوي الأحلام الراجحة والمروآت القائمة والأذيال الطاهرة، فمتى كان رأس العامة سراتهم فهو الطريق إلى حفظ أديانهم ومروآتهم، وتماسكهم عن الانهماك في المحظورات وملابسة المحرمات. قال الشاعر:

الباب الثالث والأربعون: فيما يملك السلطان من الرعية

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقال مردك الفارسي: خلتان في السلطان أقرب إلى صلاح الرعية مما سواهما: ثقة الرأي وشدة الرحمة. وما أحق بالسلطان أن يسلك بالرعية كل سبيل يصلحون عليه ويسودون معه، فحينئذ يكون رئيس الرؤساء وأميراً على السادة والفضلاء، وإن أهملهم في ركوب شهواتهم وتوسط لذاتهم، ذهبت أديانهم وسقطت مروآتهم وبقوا كما جاء في المثل في الجماعة المذمومة تقول العرب في القوم لا رؤساء فيهم ولا سراة بينهم: هم سواسية كأسنان الحمار وتقول سواسية كأسنان المشط؛ وفيهم يقول الشاعر: سواسية كأسنان الحمار أما ترى لذي شيبة منهم على ناشئ فضلا ولئن تكون أميراً على الفضلاء والرؤساء خير من أن تكون أميراً على الأخساء والدمادية والغوغاء والدناة. وقد قال عبد الملك بن مروان يوماً وقد استقام له الأمر: من يعذرني من عبد الله بن عمر، فإنه أبى أن يدخل في سلطاني؟ فقال له بعض جلسائه: تستحضره وتضرب عنقه وتستريح منه! فقال عبد الملك: ويلك! إذا قتلت ابن عمر على من أكون أميراً؟ ولما سار داود إلى الحجاز في الدولة العباسية ليقتل من هناك من بني أمية، قال له عبد الله بن الحسين: يا ابن عم إذا أسرعت في قتل أكفائك فمن تباهي بسلطانك؟ اعف يعف الله عنك! فعفا. وقال أرسطاطاليس للأسكندر: استصلح الرعية وأذهب شرهم تكن رئيس الأخيار الممدوحين، ولا تكن رئيس الأشرار المذمومين فتكون كراعي البقر. ولما استولى تبع على ملك الهند قال له: قد وهبتك لقومك ووهبتهم لك، فأنزلهم منازلهم وبلغهم مراتبهم، فكا أمة لم تبلغ مراتبها وغلت صدورها وغلت قلوبها فاستحقت فتكها، وهان عليها أعمارها وملك أمورها شرارها، وأنت أعلم بهم، فمن أطناب المملكة وقواعدها أن لا يسلب رئيس رياسته ويبقي على كل ذي عز عزه، ويولي كل ذي منزلة منزلته فحينئذ يأمن من نوائب الأعداء التي هي نتائج الضغائن والأحقاد. الباب الثالث والأربعون: فيما يملك السلطان من الرعية كتب أرسطا إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان تظفر منهم بالمحبة، فإن طلب ذلك منهم بالإحسان هو أدوم بقاء منهم بالاعتساف. واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتتخطاها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أنه إذا عدل السلطان ملك قلوب الرعية، وإذا جار لم يملك منهم إلا التصنع والرياء. وفي سير المتقدمين: قلوب الرعية خزائن ملوكها، فما أودعوها من شيء فليعملوا أنه فيها. واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل. وليس هذا خلاف ما روي عن معاوية أن رجلاً أغلظ له، فحلم عليه فقيل له: أتحلم على مثل هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا، وذلك تفسير قوله فاجتهد أن لا تقول يعني إذا عدلت تكلموا بشيء. وهذه السيرة أحسن من سيرة أزدشير، لما رفع إليه جماعة من بطانته قد فسدت نياتهم، فوقع: نحن معاشر الملوك إنما نملك للأجساد لا النيات، ونحكم بالعدل لا بالرضى ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر. قلت: وإنما تحسن هذه السيرة لمن عجز عن الأولى، لأن ملك الأجساد قد يكون بالعدل، وأين هذا من قوله وقد رفع إليه: إنك ركبت أمس في عدة قليلة وتلك حالة لا يؤمن اغتيال الأعداء فيها! فوقع: من عم إحسانه أمن أعداءه وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان: يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرائح على فراخه ينفي عنها القذر، ويباعد عنهم الحجر ويكنهم من المطر، ويحميهم من الضباب ويحرسهم من الذئاب، يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء وأنتم العدة والفداء! وقالت العجم: أسوس الملوك من قاد رعيته إلى طاعته بقلوبها. ولا ينبغي للوالي أن يرغب

الباب الرابع والأربعون: في التحذير من صحبة السلطان

غي الكرامة التي ينالها من العامة كرهاً، ولكن في التي يستحقها بحسن الأثر وصواب التدبير. وقال عمر بن عبد العزيز: إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمراً من العدل، فأخاف أن لا تحمله قلوبهم فاخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا. وقال معاوية لزياد: من أسوس الناس أنا وأنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما جعل الله رجلاً حفظ الناس بسيفه كمن سمع الناس وأطاعوا له باللين. وروى أن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت! فما أدرك صاحبك بسيفه إلا أدركت أكثر منه بلساني! الباب الرابع والأربعون: في التحذير من صحبة السلطان اتفقت حكماء العرب والعجم فيوصاياهم على النعي عن صحبة السلطان. قال في كتاب كليلة ودمنة: ثلاثة لا يسلم عليها إلا القليل: صحبة السلطان وائتمان النساء على الأسرار وشرب السم على التجربة. وكان يقال: قد خاطر بنفسه من ركب البحر، وأعظم منه خطراً صحبة السلطان وقال مردك: أحق الأمور بالتثبت فيها أمر السلطان، فإنه من صحب السلطان بغير عقل فقد لبس شعار الغرور. وفي حكم الهند أيضاً: صحبة السلطان على ما فيها من العز والثروة عظيمة الخطر، وإنما تشبه بالجبل الوعر فيه الثمار الطيبة والسباع العادية والثعابين المهلكة، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه أشد، وليس يكافئ خير السلطان شره، لأن خير السلطان لا يعدو مزيد الحال وشر السلطان قد يزيل الحال ويتلف النفس التي لها طلب المزيد، ولا خير في الشيء الذي في سلامته مال وجاه وفي نكبه الجائحة والتلف. ولهذا لما قيل للعتابي: لم لا تصحب السلطان على ما فيك من الأدب؟ قال: لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويردي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون. وأخبرني أبو العباس الحجازي، وكان ممن درج أرض الهند والصين وانتهى إلى صين الصين إلى جبل الياقوت بالهند، وأن فيه ثعابين عظيمة ليس في معمور الأرض أعظم منها، وأن الواحد منها ليبلغ الثور صحيحاً فلا يصل أحد إلى ذلك الجبل ولا يقربه، فإذا كثرت الأمطار أحدرت السيول منه الحصى وسائر ما فيه من المنافع إلى مستقر المياه على مسيرة أيام من الجبل، فيبحث الناس عن ذلك الحصى فيوجد فيه الواحدة بعد الواحدة من أحجار الياقوت. وقال معاوية لرجل من قريش: إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويبطش بطش الأسد! وقال المأمون: لو كنت رجلاً من العامة ما صحبت السلطان. وقال الأحنف بن قيس: ثلاثة لا أقولهن إلا ليقتدى بهن: لا أتكلف الجليسي إلا بما أحضره به ولا أدخل في أمر لا أدخل فيه، ولا آتي السلطان إلا أن يرسل إلي. وقال ابن المقفع لابنه: إن وجدت من السلطان وصحبته غناء فاغن عنه نفسك واعتز له جهدك، فإنه من يأخذه السلطان بحقه يحل بينه وبين لذات الدنيا، ومن لا يأخذه بحقه يكسبه الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة. وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا ميمون احفظ عني أربعاً ل تصحب سلطاناً وإن أمرته بالمعروف ونهيته عن المنكر، ولا تخلون بامرأة وإن أقرأتها القرآن، ولا تصل من قطع رحمه فإنه لك أقطع، ولا تتكلم بكلام اليوم تعتذر منه غداً. وفي منثور الحكم: كثرة الأشغال مذهلة عن وجود اللذات بكنهها. وكم قد رأينا وبلغنا ممن صحب السلطان من أهل العقل والفضل والعلم والدين ليصلحه ففسد هو به. فكان كما قال الأول:

الباب الخامس والأربعون: في صحبة السلطان

عدوى البليد إلى الذكي سريعة والجمر يودع في الرماد فيخمد ومثل من يصحب السلطان ليصلحه مثل من ذهب ليقيم حائطاً مائلاً، فاعتمد عليه ليقيمه فخر الحائط عليه فأهلكه. وفي كتاب كليلة ودمنة: لا يسعد من ابتلى بصحبة الملوك فإنهم لا عهد لهم ولا وفاء ولا قريب ولا حميم، ولا يكرم عليهم إلا أن يطمعوا فيما عنده فيقربوه عند ذلك، فإذا قضيت حاجتهم تركوه ولا ود ولا إخاء إلا بجر البلاء والذنب لا يغفر. وقال بزرجمهر: لا تصلح صحبة السلطان إلا بالطاعة والبذل، ولا مواخاة الإخوان إلا باللين والمواساة، وقال بعض حكماء الفرس: المال والسلطان مفسدان لكل أحد إلا لرجل له عقل كامل. وقالت الحكماء: صاحب السلطان كراكب الأسد، يخافه الناس وهو لمركبه أخوف. وقالوا: من لزم باب السلطان فصبر صبراً جميلاً وكظم الغيظ وطرح الأذى، وصل إلى حاجته الكرم لا يتعلق بأكرم الشجر لكن بأدناه. وكانت العرب تقول: إن لم تكن من قرباء الملك فكن من بعدائه. وفي حكم الهند: إنما مثل السلطان في قلة وفائه في أصحابه وسخاء نفسه عمن فقده منهم، كمثل صبيان المكتب كلما ذهب واحد جاء آخر. والعرب تقول: السلطان ذو غدوات وذو بدوات وذو نزوات؛ تريد أنه سريع الانصراف كثير البدوات هجام على الأمور. الباب الخامس والأربعون: في صحبة السلطان قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي أبي: يا بني أرى أمير المؤمنين يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بخلال ثلاث: لا تفشين له سراً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة منهن خير من ألف! قال أي والله خير من عشرة آلاف! وقالوا اصحب السلطان بحذر والصديق بالتواضع والعدو بالجهد والعامة بالبشر، ولا تحكم لأحد بحسن رأي الملك إلا بحسن أثره. وقال بعض الحكماء: لا تستطلع السلطان ما كتمك ولا تفش ما أطلعك عليه، ومن دل على السلطان استقله ومن أمتن عليه عادله، ومن أظهر أنه يستشيره أبعده. وقال نعض الحكماء: إذا زادك السلطان تأنيساً فزده إجلالاً، وإذا جعلك أخاً فاجعله أباً وإذا زادك إحساناً فزده فعل العبد مع سيده، وإذا ابتليت بالدخول على السلطان مع الناس فأخذوا في الثناء عليه فعليك بالدعاء له، وإن نزلت منه منزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر من الدعاء له عند كل كلمة فإن ذلك شبيه بالوحشة والغلبة، إلا أن تكلمه على رؤوس الناس فلا تأل بما عظمته وذكرته وقال ابن المقفع: لتكن حاجتك في سلطانك ثلاث: خلال رضاء ربك ورضاء سلطانك ورضاء من تلى عليه. ولا عليك أن تلهو عن المال والذخر فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب. وقال مسلم بن عمر لمن عدم السلطان: لا تغتر بالسلطان إذا حباك ولا تتغير إذا أقصاك. وروي أن بعض الملوك استصحب حكيماً فقال له: أصحبك على ثلاث خصال. قال: وما هن؟ قال: لا تهتك لي سراً ولا تشتم لي عرضاً ولا تقبل في قول قائل حتى تستشيرني. قال: هذا لك فما لي عليك؟ قال: لا أفشي لك سراً ولا أدخر عنك نصيحة ولا أوثر عليك أحداً. قال: نعم الصاحب للمستصحب أنت! وقيل لعبد الله بن جعفر: ما الخرق؟ قال: الدلالة على السلطان والوثبة قبل الإمكان. وقال ابن المقفع: أولى الناس بالهلكة الفاحشة المقدم على السلطان بالدالة. وقال يحيى بن خالد: الدالة تفسد الحرمة القديمة وتضر بالمحبة

المتأكدة. وقال بزرجمهر: إذا خدمت ملكاً من الملوك فلا تطعه في معصية خالقك، فإن إحسانه إليك فوق إحسان الملك، وإيقاعه بك أغلظ من إيقاعه. اصحب الملوك بالهيبة لهم والوقار لأنهم إنما احتجبوا عن الناس لقيام الهيبة، فلا تترك الهيبة وإن طال أنسك بهم، فهو حسبهم منك. ولا تعط السلطان مجهودك في أول صحبتك له فلا تجد بعد للمزيد موضعاً. علم السلطان وكأنك تتعلم منه وأشر عليه وكأنك تستشيره. إذا أحلك السلطان من نفسه بحيث يسمع منك ويثق بك، فإياك والدخول بينه وبين بطانته، فإنك لا تدري متى يتغير لك فيكونون عوناً عليك، وإياك أن تعادي من إذا شاء يطرح ثيابه ويدخل مع الملك في ثيابه فعل. وفي الأمثال القديمة: احذر زمارة المخدة. وقد قيل: ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا وفي الأمثال: لا تدل فتمل ولا توجف فتعجف. وقال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: إياك والدالة فإنها تفسد الحرمة. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: لا تغش السلطان ولا تقعد عنه. وقالت الحكماء: شدة الانقباض عن السلطان تورث التهمة، وشدة الانبساط تفتح باب الملالة. واعلم أن من طلب العز بالذل كانت ثمرة سعيه الذل. أحرز منزلتك عند السلطان بمثل ما اكتسبتها من الجد والمناصحة، واحذر أن يحطك التهاون عما رقاك إليه التحفظ. أشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً. من لزم باب السلطان بصبر جميل وكظم الغيظ وأطراح الأذى وصل إلى حاجته. وقال الأحنف بن قيس: لا تقبضوا على السلطان ولا تهالكوا عليه، فإن من أسرف على السلطان أوده ومن تضرع له تخطاه. وقال ابن عباس: ثلاثة من عاداهم عادت عزته ذلة: السلطان والولد والغريم. واعلم أنه إنما يستطيع صحبة السلطان أحد رجلين: إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته، وإما مغفل مهين لا يحسده أحد. فأما من أراد أن يصحب السلطان بالصدق والنصيحة والعفاف فقلما تستقيم له صحبة، لأنه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. فأما الصديق فينافسه في منزلته فيطعن عليه في نصيحته له، فأما إذا اجتمع عليه هذان الصنفان كان معرضاً للهلاك. وقال بعض الحكماء: من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة. وقيل: لا يوحشك من السلطان إكرام الأشرار، فإن ذلك للضرورة إليهم كما يضطر الملك إلى الحجام فيشرط قفاه ويخرج دمه ويقلع ضرسه. وفي الأمثال: لا حلم لمن لا سفيه له. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سافر إلى مكة استصحب رجلاً فيه ما فيه، يستدفع به شر السفهاء وأهل الوغادة والدعارة. وقال المعتصم: إن للسلطان لسكرات، فمنها الرضى عمن استوجب السخط، والسخط عمن استوجب الرضى. ومنه قول الحكماء: خاطر من لج البحر، وأعظم منه خطراً من صحب السلطان. وقال ابن المقفع لابنه: لا تعدن شتم السلطان شتماً ولا إغلاظه إغلاظاً، فإن ريح العزة تبسطه في غير بأس ولا سخط. وقال ساميد أحد حكماء الفرس: أربعة أشياء ينبغي أن تفسر للفهم كما تفسر للبليد ولا يتكل فيها على ذكاء أحد: تأويل الدين وأخلاط الأدوية، وصفة الطريق المخوف والرأي والسلطان. واعلم أن السلطان إذا انقطع منك الآخر نسي الأول، فأرحامهم مقطوعة وحبالهم مصرومة، إلا من رضوا عنه في وقتهم وساعتهم. وإذا رأيت من الوالي خلالاً لا تنبغي

الباب السادس والأربعون: في سيرة السلطان مع الجند

فلا تكابره على ردها، فإنها رياضة صعبة لكن أحسن مساعدته على أحسن رأيه، فإذا استحكمت منه ناحية الصواب كان ذلك الصواب هو الذي يبصر الخطايا اللطيفة أكثر من تبصرك والعدل من حكمتك، فإن العدل يدعو بعضه إلى بعض، فإذا تمكن اقتلع الخطأ. ولا تطلب ما قبل الوالي بالمسئلة ولا تستبطئه إن أبطأ، ولكن اطلب ما قبله من الاستحقاق والاستناء فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإذا لم تستبطئه كان أعجل له. وقال يحيى بن خالد: إذا صبحت السلطان فداره مداراة المرأة العاقلة القبيحة للزوج الأحمق المبغض. وقال ابن خالد لبعض إخوانه: تنكر لي هارون الرشيد. فقال: ارض بقليله من كثيره، وإياك أن تسخط فيكون السخط منك. الباب السادس والأربعون: في سيرة السلطان مع الجند اعلم أن الجند عدد الملك وحصونه ومعاقله وأوتاده، وهم حماة البيضة والذابون عن الحرمة، والدافعون عن العورة وهم جفن الثغور وحراس الأبواب، والعدة للحوادث وإمداد المسلمين، والجند الذي يلقى العدو والسهم الذي يرمى به، والسلاح المدفوع في نحره، فبهم يذب عن الحريم ويؤمن السبيل وتسد الثغور، وهم عز الأرض وحماة الثغور والرادة عن الحريم والشوكة على العدو، وعلى الجند الحد عند اللقاء والصبر عند البلاء، فإن كانت لهم الغلبة فليمضوا في الطلب، وإن كانت عليهم فلينكسوا الأعنة وليجمعوا الأسنة وليذكروا أخبار غد. وينبغي للملك أن يتفقد جنوده كما يتفقد صاحب البستان بستانه، فيقلع العشب الذي لا ينفعه، فمن العشب ما لا ينفع ومع ذلك يضر بالنبات النافع وهو بالقلع أجدر. ولا يصلح الجند إلا بإدرار أرزاقهم وسد حاجاتهم، والمكافأة لهم على قدر عنائهم وبلائهم. وجنود الملك وعددها وقف على سعود الأئمة ونحوسها. وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك ولا تضيق عليهم فيضجوا منك، وأعطهم عطاء قصداً وامنعهم منعاً جميلاً، ووسع عليهم في الرجاء ولا توسع عليهم في العطاء. ولما أفضى الأمر إلى أبي جعفر المنصور أنفذ جيشاً وقال لقواده سيروا بمثل هذه السيرة. ثم قال: صدق الأعرابي أجع كلبك يتبعك! فقام أبو العباس الطوسي فقال: يا أمير لمؤمنين أخشى أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك. ويروى أن كسرى وضع طعاماً في سماط، فلما فرغوا ورفعت الآلات وقعت عينه على رجل من أصحابه وقد أخذ جاماً له قيمة كثيرة، فسكت عنه وجعل الخدم يرفعون الآلات فلم يجدوا الجام، فسمعهم كسرى يتكلمون فقال: ما لكم؟ قالوا: فقدنا جاماً من الجامات. فقال: لا عليكم أخذه من لا يرده ورآه من لا يفضحه. فلما كان بعد أيام دخل الرجل على كسرى وعليه حلة جميلة وحال مستجدة فقال له كسرى: هذا من ذاك! قال: نعم! ولم يقل له شيئاً. وسئل عمرو بن معاذ وكان على الطوائف: بم قدرت على جيوش الطوائف؟ وكان يغزو في كل سنة ويجهز الجيوش إلى بلاد الروم فقال: بسمانة الطيور والقديد والكعك. وروى أن بعض الملوك كان ظالماً لرعيته شديد الأذى لهم في أموالهم، فعوتب في ذلك فقال: أجع كلبك يتبعك! فوثبوا عليه فقتلوه فمر به بعض الحكماء فقال: ربما أكل الكلب صاحبه إذا لم يشبعه. وفي نقيض هذا المعنى قالوا: سمن كلبك يأكلك. وذلك أن رجلاً كان له كلب يسقيه اللبن ويطعمه اللحم، ويرجو أن يصيب به خيراً ويحرسه ويصيد به، فأتاه ذات يوم وهو جائع فوثب عليه الكلب فأكله فقيل: سمن كلبك يأكلك. وأنشدوا: وقد سمنوا كلباً ليأكل بعضهم ولو أخذوا بالحزم ما سمن الكلب! الباب السابع والأربعون: في سيرة السلطان في استجباء الخراج أيها الملك من طال عدوانه زال سلطانه. واعلم أن المال قوة السلطان وعمارة المملكة ولقاحة

الأمن ونتاجه العدل، وهو حسن السلطان ومادة الملك، والمال أقوى العدد على العدو وهو ذخيرة الملك وحياة الأرض، فمن حقه أن يؤخذ من حقه ويوضع في حقه ويمنع من السرف، ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها ومصالحها ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود نفعها عليها. فيا أيها الملك احرص كل الحرص على عمارة الأرضين والسلام. ويا أيها الملك مر جباة الأموال بالرفق ومجانبة الخرق، فإن العلقة تنال من الدم بغير أذى ولا سماع صوت ما لا تناله البعوضة بلسعتها وهول صوتها. ولما عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن مصر استعمل عليها ابن أبي السرح، فحمل من المال أكثر ما كان يحمل عمرو بن العاص، فقال عثمان: يا عمرو أشعرت أن اللقاح درت بعدك؟ فقال عمرو: ذلك لأنكم أعجفتم أولادها. نن وقال زياد: أحسنوا إلى المزارعين فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا، وفي منثور الحكم من جاوز في الحلب حلب الدم. وفي الأمثال: إذا استقصى العجل مص أمه رفسته. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك وما استعزز بمثل العدل وما استذلل بمثل الظلم، وأسرع الأمور في خراب البلاد وتعطيل الأرضين وهلاك الرعية وانكسار الخراج الجور والتحامل. ومثل السلطان إذا حمل على أهل الخراج حتى ضعفوا عن عمارة الأرضين مثل من يقطع لحمه ويأكله من الجوع، فهو وإن قوي من ناحية فقد ضعف من ناحية، وما أدخل على نفسه من الوجع والضعف أعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع. ومثل من كلف الرعية من الخراج فوق طاقتها كالذي يطين سطحه بتراب أساس بيته، ومن يدمن هز العمود يوشك أن يضعف وتقع الخيمة، وإذا ضعف المزارعون عجزوا عن عمارة الأرض فيتركونها فتخرب الأرض ويهرب الزارع، فتضعف العمارة ويضعف الخراج وينتج ذلك ضعف الأجناد، وإذا ضعف الجند طمعت الأعداء في السلطان. أيها الملك، كن بما يبقى في يد رعيتك أفرح منك بما تأخذ منها. لا يقل مع الصلاح شيء ولا يبقى مع الفساد شيء. وصيانة القليل تربية للجليل، ولا مال لأخرق ولا عيلة لمصلح. وروي أن المأمون أرق ذات ليلة، فاستدعى سميراً فحدثه بحديث فقال: يا أمير المؤمنين كان بالبصرة بومة وبالموصل بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها فقالت بومة البصرة: لا أنكحك ابنتي إلا أن تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراباً. فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك! قال: فاستيقظ لها المأمون وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور الولاة. وسمعت بعض شيوخ بلاد الأندلس من الجند وغيرهم يقولون: ما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم وأمر العدو في ضعف وانتقاص، لما كانت الأرض مقتطعة في أيدي الأجناد فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين، ويربونهم كما يربي التاجر تجارته، فكانت الأرض عامرة والأموال وافرة والأجناد متوفرين، والكراع والسلاح فوق ما يحتاجون إليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة وأخذ الأموال على النطع وقدم على الأرض جباة يجبونها، فأكلوا الرعايا واحتجبوا أموالهم واستضعفوهم، فهربت الرعايا وضعفوا عن العمارة، فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطان وضعفت الأجناد، وقوي العدو على بلاد المسلمين حتى أخذ الكثير منها، ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلى أن دخلها المأمون، فرد الإقطاعات كما كانت في الزمان القديم، ولا

الباب الثامن والأربعون: في سيرة السلطان في بيت المال

أدري ما يكون وراء ذلك. الباب الثامن والأربعون: في سيرة السلطان في بيت المال وهذا باب سلكت فيه ملوك الطوائف والهند والصين والسند، وبعض ملوك الروم خلاف سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والخلفاء الراشدين، فكانت الملوك تدخر الأموال وتحجبها عن الرعية وتعدها اليوم كريهة، على ما بينا في الباب قبله. وكانت الرسل والخلفاء من بعدهم تبذل الأموال ولا تدخرها وتصطنع الرعية وتوسع عليها، فكانت الرعية هم الأجناد والحماة. وهذه سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمتم أن جوعه كان أكثر من شبعه، وأنه مات ودرعه مرهون في صاع من شعير عند يهودي، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابنه الحسن وعمر بن عبد العزيز. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه بلاد اليمن، كانت تجبى إليه الأموال فيفرقها ليومها، وقد توضع في المسجد وتفرش الأنطاع عليها ويفرقها من الغد ولم يكن له بيت مال. وروى أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء الآخر، ثم دخل حجرته وخرج مسرعاً وبيده خريقة فيها ذهب فقسمه، ثم قال: ما ظن آل محمد لو أدركه الموت وهذا عنده؟ ولم يكن للنبي بيت مال ولا للخلفاء الراشدين بعده، وإنما كانت الخلفاء تقسم الأموال التي جبيت من حلها بين المسلمين، وربما كان يفضل منها فضلات فتجعل في بيت، أو يكون بالناس عنها غنى في ذلك الوقت فتجعل في بيت، فمن حضر من غائب أو احتاج من حاضر قسم له حظه، ثم يفرق حتى لا يبقى في البيت منه درهم، كما روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشرف على بيت فيه مال فقال: يا بيضاء يا حمراء ابيضي واحمري وغري غيري! ثم أمر فقسم ما فيه بين المسلمين، وأمر قنبراً أن يكنسه ويرشه، ثم دخل فصلى فيه. ثم إن كثيراً من الملوك ساروا في الأموال على هذه السيرة من ملوك الإسلام وملوك الروم، ومعظم ما أهلك بلاد الأندلس وسلط عليها الروم أن الروم التي كانت تجاورها لم يكن لهم بيوت أموال، وكانوا يأخذون الجزية من سلاطين الأندلس ثم يدخلون الكنيسة، فيقسمها سلطانهم على رجاله بالطاس ويأخذ مثل ما يأخذون، وقد لا يأخذ منها شيئاً، وإنما كانوا يصطنعون بها الرجال، وكانت سلاطيننا تحجب الأموال وتضيع الرجال، فكان للروم بيوت رجال وللمسلمين بيوت أموال، فبهذه الخلة قهرونا وظهروا علينا. وكان من يذهب هذا المذهب ولا يدخر الأموال تضرب فيه الأمثال. ويقال: عدو الملك بيت المال وصديقه جنده، فإذا ضعف أحدهما قوي الآخر، فإذا ضعف بيت المال ببذله للحماة قوي الناصر واشتد بأس الجند فيقوى الملك، وإذا قوي بيت المال وامتلأ بالأموال قل الناصر وضعفت الحماة، فضعف الملك فوثب عليه الأعداء. وقد شاهدنا ذلك في بلاد الأندلس مشاهدة، وإذن كان الدفاع في الرجال لا في الأموال، وإنما يدافع بالأموال بواسطة الرجال فلا شك أن بيت رجال خير من بيت مال. وقد قال بعض الملوك لابنه: يا بني لا تجمع الأموال لتقوى بها على الأعداء، فإن في جمعها تقوية للأعداء. يعني إذا جمعت المال أضعفت الرجال، فيطمع فيك الصديق ويثب عليك العدو وإنما مثل الملك في مملكته مثل رجل له بستان فيه عين معينة، فإن هو قام على البستان فأحسن تدبيره وهندس أرضه وغرس أشجاره وحظر على جوانبه، ثم أرسل الماء فاخضر عوده وقويت أشجاره

وأينعت ثماره وزكت بركاته، فكانوا جميعاً في أمان من الضيعة لا يخافون فقراً ولا شتاتاً، وإن هو رغب في غلته وجبايته ولم ينفق فيه ما يكفيه ولا ساق إليه من الماء ما يرويه رغبة في الغلة وضناً بالمال، ضعفت عمارته ورقت أشجاره وقلت ثماره وذهبت غلته، ومحق الدهر ما جنى من غلته فافتقر القوم وهلكوا وتشتتوا. ومثال الملك في جمع المال ليتقوى به على الأعداء مثال طائر ينتف ريشه ويمص أصوله، ويأكل ما نعم منها فلذ له طيبها وأعجبه خصب جسمه على ذلك، فلم يزل كذلك حتى خف ريشه فسقط إلى الأرض فأكلته الهوام والحشرات. ورأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال واقتناء الكنوز وقال: إن الرجال وإن تفرقوا عنك اليوم فمتى احتجتهم عرضت عليهم فتهافتوا عليك، فقال الملك: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم هل بحضرتنا الساعة ذباب؟ قال: لا. فأمر بإحضار جفنة فيها عسل فحضرت، فتساقط عليها الذباب لوقتها فاستشار السلطان بعض أصحابه في ذلك فنهاه عن ذلك وقال: لا تغير قلوب الرجال فليس في كل وقت أردتهم حضروا قال: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم إذا أمسينا سأخبرك. فلما أظلم الليل قال للملك: هات الجفنة بالعسل. فحضرت ولم تحضر ذبابة واحدة. وقد روينا عن سيرة بعض السلاطين في أرض مصر، وكان قد ملكها وكان اسمه بلد قوزانه، كان يجمع الأموال ولا يحفل بالرجال، فقيل له: إن أمير الجيوش بالشام يتواعدك وكائنه قادم عليك، فاستعد الرجال وأنفق فيهم الأموال، فأوما إلى صناديق موضوعة عنده وقال: الرجال في الصناديق، فغزا أمير الجيوش ذلك الملك في مصر وقتله وتسلم الصناديق والملك، فكان رأيه رأياً فاسداً لأن رجالاً يقيمهم لوقته ويصطنعهم لحاجته، إنما يكونون أجناداً مجمعين وشرذمة ملفقين، ليس فيهم غنى ولا عندهم دفاع ولا ممارسة للحروب. ومن السير المروية في هذا الباب أنه لما فتحت العراق جيء بالمال إلى عمر. فقال صاحب بيت المال: أأدخله بيت المال؟ قال: لا ورب الكعبة لا يؤوى تحت سقف بيت حتى نقسمه! فغطى في المسجد بالأنطاع وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار. فلما أصبح نظر إلى الفضة والذهب والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ فبكى، فقال له العباس أبو عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين والله ما هذا يوم بكاء ولكنه يوم شكر وسرور! فقال: إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكنه والله ما كثر هذا في قوم إلا وقع بأسهم بينهم. ثم أقبل على القبلة ورفع يديه وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً، فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 182) ثم قال: أين سراقة بن مالك بن جعشم؟ فأتي به وكان أشعر الذراعين دقيقهما فأعطاه سواري كسرى وقال: البسهما. ففعل ذلك فقال: قل الله أكبر. قال: الله أكبر. ثم قال: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة رجلاً أعرابياً من بني مدلج، ثم قلبهما وقال: إن الذي أدى هذا الأمين! فقال له رجل: أنا أخبرك أنت أمين الله تعالى وهو يؤدون إليك ما أديت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا قال: صدقت وإنما ألبسهما سراقة لأن النبي صلى الله عليه وسلمقال لسراقة ونظر إلى ذراعيه: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ولم يجعل له إلا السوارين. ولما ولي أبو بكر الصديق جاءه مال من العمال، فصب في المسجد وأمر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين فليحضر. قال أبو أيوب الأنصاري: فقلت حينئذ:

يا خليفة رسول الله إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: لو جاءني مال أعطيتك هكذا وهكذا، وأشار بكفيه فسكت أبو بكر فانصرفت ثم عاودته فقلت: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني. فقال: ما أبخل عنك اذهب فخذ! فذهبت فحفنت حفنة قال: عدها فعددتها فوجدتها خمسمائة دينار. قال: عد مثليها فعددت مثليها فانصرفت بألف وخمسمائة دينار. وأبو أيوب من أغنياء الأنصار وهو نزيل النبي صلى الله عليه وسلم. دل الحديث على أن بيت المال للغني والفقير. ودل أيضاً على أنه لا يجب أن يساوى فيه بين جميع المسلمين بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس: أعطني من هذا المال الذي عندك. قال: اذهب فخذ. فبسط ثوبه وحثى فيه فلما جاء ليحمله عجز عنه فقال: يا رسول الله احمله علي. قال: لا! قال: مر من يحمله علي. قال: لا! فنثر منه ثم جاء ليحمله فعجز عنه فقال: يا رسول الله احمله علي. قال: لا! قال: مر من يحمله علي. قال: لا! فنثر منه ثم حمله على عاتقه فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم بصره حتى غاب عنه. فصل قال الحسن بن علي الأسدي: أخبرني أبي قال: وجدت في كتاب قبطي باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون يوسف عليه السلام من أموال مصر بحق الخراج، مما يؤخذ من وجوه الجبايات لسنة واحدة على العدل والإنصاف والرسوم الجارية من غير اضطهاد ولا مناقشة، وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان نظراً للمعاملين وتقوية لحالهم من الذهب العين، أربعة وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف دينار. من ذلك ما ينصرف في عمارة البلاد كحفر الخلجان والإنفاق على الجسور وسد الترع وإصلاح السبل، وفي تقوية من يحتاج إلى التقوية من غير رجوع عليه بها لإقامة العوامل والتوسعة في البدار، وغير ذلك من الآلات وأجرة من يستعان به لحمل البذر، وسائر نفقات تطريق الأرض ثمانمائة ألف دينار. ولما ينصرف في أرزاق الأولياء المرسومين بالسلاح وحملته من الشاكرية والغلمان وأشياعهم، وعدة جميعهم مع ألف كاتب مرسومين بالدواوين سوى أتباعهم من الخزان، ومن يجري مجراهم وعدتهم مائة ألف وإحدى عشر ألف رجل من العين، ثمانية آلاف دينار. ولما يصرف للأرامل والأيتام فرضاً لهم من بيت المال، وإن كانوا غير محتاجين حتى لا يخلو أمثالهم من بر فرعون، أربعمائة ألف دينار. ولما يصرف في كهنة برايهم وسائر بيوت صلواتهم مائتا ألف دينار. ولما يصرف في الصدقات وينادي منادي برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة إلا حضر، فيحضر لذلك من يحضر فلا يرد واحداً والأمناء جلوس، فإذا رأوا إنساناً لم يجر رسمه أفرد بعد قبض ما يقبضه حتى إذا فرق المال واجتمع من هذه الطائفة عدد، دخل أمناء فرعون إليه وهنوه بتفرقة المال ودعوا له بطول البقاء ودوام العز والسلامة، وأنهوا إليه حال تلك الطائفة فيأمر بتغيير شعثها بالحمام واللباس، ثم يمد السماط فيأكلون بين يديه ويشربون ويستعلم من كل واحد سبب فاقته، فإن كان ذلك من آفة الزمان رد عليه مثل ما كان له وأكثر، وإن كان عن دعوة سوء رأي وتدبير غير مستقيم ضمه إلى من يصرف عليه ويأخذه بالأدب والمعرفة، إلى أن يصلح من العين مائتي ألف دينار. ولما يصرف في نفقات فرعون الراتبة لسنته مائتا ألف دينار، تكون النفقات على ما تقدم تفصيلها تسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف دينار، ويحصل بعد ذلك ما يتسلمه يوسف الصديق عليه السلام ويحصله لفرعون في بيت المال لنوائب الزمان أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. وقال أبو رهم: كانت أرض مصر أرض مدبرة حتى إن الماء ليجري من تحت منازلها وأفنيتها فيحبسوه كيف شاءوا ويرسلوه كيف شاءوا، وذلك قول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (الزخرف: 51) وكان ملك مصر عظيماً لم يكن في الأرض ملك أعظم منه وكانت الجنات بحافتي النيل لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع كذلك من أسوان إلى رشيد. وكانت أرض مصر كلها

تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروا في جسورها وحافاتها، والزرع من بين الجبلين من أولها إلى آخرها وذلك قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} (الدخان27: 25) والمقام الكريم المنابر، وكان بها ألف منبر. وقال عبد الله بن عمر: استعمل فرعون هامان على حفر خليج سردوس، فأخذ في حفره وتدبيره فجعل أهل القرى يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم ويعطوه مالاً، وكان يذهب به من قرية إلى قرية من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى القبلة، ويسوقه كيف أراد وإلى حيث قصد، فليس بمصر خليج أكثر عطوفاً منه، فاجتمع له من ذلك أموال عظيمة جزيلة، فحملها إلى فرعون وأخبره الخبر فقال له فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ويفيض عليهم من خزائنه وذخائره ولا يرغب فيما في أيديهم، رد على أهل القرى ما أخذت منهم، فرد عليهم أموالهم. فهذه سيرة من لا يعرف الله ولا يرجو لقاءه ولا يخاف عذابه ولا يؤمن بيوم الحساب، فكيف تكون سيرة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويوقن بالحساب والثواب والعقاب؟ وقال ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55) قال: هي خزائن مصر، وكانت أربعين فرسخا في مثلها، ولم يطع يوسف فرعون ويخلفه وينوب عنه إلا بعد أن دعاه إلى الإسلام فأسلم، فحينئذ قال: اجعلني على خزائن الأرض. ولما استوثق أمر مصر ليوسف الصديق عليه السلام وكمل، وصارت الأشياء إليه وأراد ربك أن يغوضه على صبره لما لم يرتكب محارمه، وجاءت سنو الغلاء والجوع مات العزيز وذهبت الذخائر، وافتقرت زليخا وعمي بصرها وجعلت تتكفف الناس فقيل لها: لو تعرضت للملك لعله يرحمك ويغنيك، فطالما حفظتيه وأكرمتيه! ثم قيل لها: لا تفعلي لأنه ربما يتذكر منك ما كان منك إليه من المراودة والحبس، فيسيئ إليك ويكافئك على ما كان منك إليه. فقالت: أنا أعلم بحمله وكرمه وجلست له على رابية في طريقه يوم خروجه، وكان يركب في زهاء مائة ألف من عظماء قومه وأهل مملكته. فلما أحست به قامت ونادت: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم! فقال يوسف: ومن أنت؟ قالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي وأرجل جمتك بيدي واكرم مثواك بجهدي، وكان مني ما كان وذقت وبال أمري وذهبت قوتي وتلف مالي، وفني عمري وعمي بصري وصرت أسأل وأتكفف، فمنهم من يرحمني ومنهم من لا يرحمني، بعد أن كنت مغبوطة أهل مصر كلها صرت مرحومتهم بل محرومتهم، هذا جزاء المفسدين! فبكى يوسف عليه السلام بكاء شديداً وقال لها: هل بقي في قلبك من حب شيء؟ فقالت: والذي اتخذ إبراهيم خليلاً لنظرة إليك أحب إلي من ملء الأرض ذهبا وفضة! فمضى يوسف وأرسل إليها رسولاً وقال لها: إن كنت أيما تزوجناك وإن كنت ذات بعل أغنيناك فقالت لرسول الملك: أنا أعرف أنه يستهزئ بي، هو لم يردني أيام شبابي وجمالي فكيف يقبلني وأنا عجوز عمياء فقيرة؟ فأمر بها يوسف عليه السلام فجهزت فتزوجها، وأدخلت عليه فصف يوسف قدميه وقام يصلي ودعا الله باسمه الأعظم، فرد الله تعالى عليها شبابها وجمالها وبصرها كهيئتها يوم راودته، فواقعها فإذا هي بكر فولدت له إفراثيم بن يوسف وميشا بن يوسف، وطاب في الإسلام عيشهما حتى فرق الدهر بينهما. فيجب للقوي أن ينسى الضعيف وللغني أن لا ينسى الفقير، فرب مطلوب يصير طالباً ومرغوب يصير راغباً، ومسؤول يصير

سائلاً وراحم يصير مرحوماً فهذا يوسف الصديق عليه السلام انظر إلى ضعفه في يدي أخوته يوم الجب ثم ضعفهم بين يديه يوم الصواع. وهذه زليخا ملكة مصر وسيدة أهلها عادت تتكفف في الطرقات. قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} (الأعراف: من 137) وكان يوسف بعد هذا يجوع ويأكل خبز الشعير ولا يشبع فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائعين. وقد رأيت أن أتحفك بمنقبة في مثلها يتنافس العقلاء ويرغب فيها الملوك والوزراء، وذلك أني لما كنت بالعراق وكان الوزير نظام الملك الغالب على ألقابه خوجه بزرك رحمه الله، قد وزر لأبي الفتح ملك الترك ملك شاه بن البارسلان، وكان قد وزر لأبيه من قبله فقام بدولتهما أحسن قيام، فشد أركانهما وشيد بنيانهما واستمال الأعداء ووالى الأولياء، واستعمل الكفاة وعم إحسانه العدو والصديق والمبغض والحبيب والبعيد والقريب، حتى ألقى الملك بجرانه وذل الخلق لسلطانه. وكان الذي مهد له ذلك بإذن الله تعالى وتوفيقه أنه أقبل بكليته على مراعاة حملة الدين، فبنى دور العلم للفقهاء وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ثم أجرى لهم الجرايات والكسى والنفقات، وأجرى الخبز والورق لمن كان من أهل العلم مضافا إلى أرزاقهم، وعم بذلك سائر أقطار مملكته، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس إلى سائر الشام الأعلى وديار بكر والعراقين، وخراسان بأقطارها إلى سمرقند من وراء نهر جيحون مسيرة زهاء مائة يوم، حامل علم أو طالبه أو زاهد أو متعبد في زاويته إلا وكرامته شاملة له سابغة عليه. فكان الذي يخرج من بيوت أموله في هذه الأبواب ستمائة ألف دينار في كل سنة، فوشى به الوشاة إلى أبي الفتح الملك وأوغلوا صدره عليه وقالوا: إن هذا المال المخرج من بيوت الأموال يقام به جيش يركز رايته في سور قسطنطينية. فخامر ذلك قلب أبي الفتح الملك فلما دخل عليه قال: يا أبت بلغني أنك تخرج من بيوت الأموال كل سنة ستمائة ألف دينار إلى من لا ينفعنا ولا يغني عنا. فبكى نظام الملك وقال: يا بني أنا شيخ أعجمي لو نودي علي فيمن يزيد لم أحفظ خمسة دنانير، وأنت غلام تركي لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين ديناراً وأنت مشتغل بلذاتك ومنهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله معاصيك دون طاعتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيوف طولها ذراعان وقوس لا ينتهي مدى مرماه ثلثمائة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور. وأنا أقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل إذا نامت جيوشك ليلاً قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بالدعاء ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركتهم تمطرون وترزقون، تخرق سهامهم إلى السماء السابعة بالدعاء والتضرع. فبكى أبو الفتح الملك بكاء شديداً ثم قال يا أبت شاباش يا أبت شاباش أكثر لي من هذا الجيش! ومن مناقب هذا الرجل وفضائله أن رجلاً قصده يقال له أبو سعيد الصوفي فقال له: يا خوجه أنا أبني لك مدرسة ببغداد مدينة الإسلام لا يكون في معمور الأرض مثلها، يخلد بها ذكرك إلى أن تقوم الساعة،.

الباب التاسع والأربعون: في سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وفي سيرة العمال

قال: فافعل. فكتب إلى وكلائه ببغداد أن يمكنوه من الأموال، فابتاع بقعة على شاطئ دجلة وخط المدرسة النظامية وبناها أحسن بنيان، وكتب عليها اسم نظام الملك وبني حولها أسواقاً تكون محبسة عليها، وابتاع ضياعاً وخانات وحمامات ووقفت عليها، فكملت لنظام الملك بذلك رياسة وسؤدد وذكر جميل طبق الأرض خبره، وعم المشارق والمغارب أثره، وكان ذلك في سني عشر الخمسين وأربعمائة من الهجرة. ثم رفع حساب النفقات إلى نظام الملك فبلغ ما يقارب ستين ألف دينار، ثم نمى الخبر إلى نظام الملك من الكتاب وأهل الحساب أن جميع ما أنفق نحو تسعة آلاف دينار، وأن سائر الأموال احتجها إلى نفسه وخانك فيها فدعاه نظام الملك إلى إصبهان للحساب. فلما أحس أبو سعيد بذلك أرسل إلى الخليفة أبي العباس يقول له: هل لك في أن أطبق الأرض بذكرك وأنشر لك فخراً لا تمحوه الأيام؟ قال: وما هو؟ قال: أن تمحو اسم نظام الملك عن هذه المدرسة وتكتب اسمك عليها وتزن له ستين ألف دينار فأرسل إليه الخليفة يقول: أنفذ من يقبض المال. فلما استوثق منه مضى إلى إصبهان فقال له نظام الملك إنك رفعت لنا نحواً من ستين ألف دينار وأحب أن تخرج الحساب. فقال له أبو سعيد: لا تطل الخطاب، إن رضيت فبها وإلا محوت اسمك المكتوب عليها وكتبت عليها اسم غيرك فأرسل معي من يقبض المال. فلما أحس نظام الملك بذلك قال: يا شيخ قد سوغنا لك جميع ذلك ولا تمح اسمنا. ثم إن أبا سعيد بنى بتلك الأموال الرباطات للصوفية واشترى الضياع والخانات والبساتين والدور، ووقف جميع ذلك على الصوفية فالصوفية إلى يومنا هذا في رباط أبي سعيد الصوفي وأوقافه يتقلبون ببغداد. ففي مثل هذه المناقب فليتنافس المتنافسون ولمثلها فليعمل العاملون، فإن فيها عز الدنيا وشرف الآخرة وحسن الصيت وخلود جميل الذكر، فإنا لم نجد شيئاً يبقى على الدهر إلا الذكر حسناً كان أو قبيحاً. وقد قال الشاعر: ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث فانتهز فرصة العمر ومساعدة الدنيا ونفوذ الأمر، وقدم لنفسك كما قدموا وتذكر بالصالحات كما ذكروا وادخر لنفسك كما ادخروا. واعلم أن المأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو، فاختر أي الثلاثة شئت والسلام. وفي مثله يقول أبو القاسم الحريري صاحب المقامات: مالك من مالك إلا الذي قدمت فابذل طائعاً مالكاً تقول أعمال ولو فتشوا رأيت أعمالك أعمى لكا وكان ابن أبي داود الوزير واسع النفس مبسوط اليدين، يعطي الجزيل ويستقل الكثير ولا يرد سؤالاً ويبتدي بالنوال، فقال له الواثق أمير المؤمنين يوماً: قد بلغني بسط يدك بالعطاء وهذا يتلف بيوت الأموال. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: يا أمير المؤمنين ذخائر أجرها واصل إليك ومفاتيح شكرها موصول بك، وإنما لي من ذلك محبتي في إيصال الثناء إليك! فقال الواثق بالله: أنت جد بالعطاء وأكثر الشكر والثناء والله أعلم. الباب التاسع والأربعون: في سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وفي سيرة العمال أعلم أن يوسف الصديق عليه السلام لما ملك خزائن الأرض كان يجوع ويأكل الشعير فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض! فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجائعين. وروى البهيقي قال: لما استخلف أبو بكر الصديق غدا إلى السوق فقال له عمر بن الخطاب: أين تريد؟ قال: السوق. قال: قد جاءك ما شغلك عن السوق. قال: سبحان الله يشغلني

عن عيالي؟ قال: يفرض لك بالمعروف. قال: فأنفق في سنتين وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم ووصى أن ترد من ماله في بيت المال. وروى هذه القصة الحسن البصرى قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة قال: انظروا كم أنفقت من مال الله فوجدوه قد أنفق في سنتين ونصف ثمانية آلاف درهم. قال: أقضوها عني. فقضوها عنه ثم قال: يا معشر المسلمين، إنه قد حضر من قضاء الله ما ترون ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم، فإن شئتم اجتمعتم وائتمرتم وإن شئتم اجتهدت لكم، فوالله الذي لا إله إلا هو ما آلوكم ونفسي خيراً! فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا. فقال: إني قد اخترت لكم عمر. ويروي مالك هذه القصة على غير هذا الوجه قال: بلغني أن أبا بكر لما ولي لم ينفق من مال الله تعالى شيئاً قال: وغدا يوماً إلى بني عمرو بن عوف، وكانت له هناك امرأة من الأنصار في جمال يريد بيعها، فلقيه بعض المسلمين فقال له: ما تصنع هذا يشغلك عن المسلمين وعن النظر في أمورهم؟ قال: فكيف أصنع؟ قال: تتفرغ للنظر في أمورهم وتنفق من هذا المال. قال: فباع تلك الإبل وغيرها من ماله إلا الأرض، ثم طرحه في بيت المال وكان ينفق من المال على نفسه وعلى عياله، ثم كان عمر على مثل ذلك ثم ولي عمر بن عبد العزيز فلم ينفق منه، فقيل له: قد صنع أبو بكر وعمر ما قد علمت. قال: أجل ولكني أخذت من هذا المال فإن يكن لي فيه حق فقد استوفيت وزدت، ولولا ذلك لفعلت. قال ابن القاسم: قلت لما لك: فأين قولهم عن عمر أنه رد ثمانين ألفاً؟ قال: كذبوا! إنما يقول ذلك أعداء الله، هم لم يجز لولده سلف أبي موسى الأشعري إياه حتى أخذ منه نصفه، فكيف يأخذ من مال الله ثمانين ألفاً؟ ولما توفي أبو بكر استرجع علي بن أبي طالب، وجاء مسرعاً باكياً وقال: رحمك الله يا أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلاماً وأكملهم إماناً، وأشدهم يقينا وأخوفهم لله تعالى، وأحفظهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشبههم به هدياً وخلقاً وسمتا وفضلاً، وأكرمهم عليه وأرفعهم عنده فجزاك الله عن الإسلام خيراً! صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، فسماك الله في كتابه صديقاً فقال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33) وآنسته حين تخلفوا وقمت معه حين قعدوا، وصحبته في الشدة حين تفرقوا أكرم الصحبة ثاني اثنين وصاحبه في الغار، ورفيقه في الهجرة والمنزل عليه السكينة وخليفته في أمته بأحسن الخلافة، فقويت حين ضعف أصحابك وبرزت حين استكانوا، وقمت بالأمر حين فشلوا ومضيت بقوة إذ وقفوا، كنت أطولهم صمتاً وأبلغهم قولاً وأشجعهم قلباً، وأشدهم يقيناً وأحسنهم عملاً، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر دينك، متواضعاً في نفسك عظيماً عند ربك، محبوباً إلى أهل السماوات والأرض، فجزاك الله عنا وعن الإسلام خيراً. وقال عمر بن الخطاب: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً! وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله سبحانه بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت إستعففت وإن افترقت أكلت بالمعروف. وفي رواية أخرى: إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته. وفي رواية أخرى: أخبركم بما أستحل من مال الله، وما قال يحل لي، أستحل منه حلتين حلة الشتاء وحلة للقيظ، وما أحج عليه واعتمر وقوتي وقوت عيالي كقوت رجل من قريش لا من أغنيائهم ولا من فقرائهم، ثم أنا بعد ذلك رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم. وقال أنس بن مالك: غلا الطعام على عهد عمر

رضي الله عنه الخطاب فأكل عمر خبز الشعير، وكان قبل ذلك لا يأكله فاستنكره بطنه فصوت فضربه بيده وقال: هو والله كما ترى يوسع الله على المسلمين! وقال أبو عثمان النهدي: رأيت عمر بن الخطاب يطوف بالبيت وعليه جبة صوف فيها اثنتا عشرة رقعة إحداها أديم أحمر. وقال عطاء بن السائب: استعمل عمر بن الخطاب السائب بن الأقرع على المدائن، فدخل إيواناً من إيوان كسرى، فإذا صنم يشير بإصبعه إلى الأرض وقد عقد أربعين فقال: والله ما يشير هذا إلى الأرض إلا وثم شيء، فاحتفروا فاستخرجوا سفطاً فيه جوهر، فكتب إلى عمر: أما بعد فإني دخلت إيواناً من إيوان كسرى فرأيت كذا وكذا، فاحتفرت فوجدت سفطاً فيه جوهر فلم أجد أحق به منك يا أمير المؤمنين، لم يكن من فيء المسلمين فأقسمه بينهم إنما أصبنا شيئاً تحت الأرض. فلما قدم السفط على عمر وعليه خاتم السائب، فرأى عمر فيما يرى النائم كأن ناراً أججت وهو يراد أن يلقى فيها، فكتب إلى السائب أن أقدم علي. قال: فقدمت عليه وهو يطوف في إبل الصدقة، فطفت معه نصف النهار ثم دعا بماء فاغتسل ودعا لي بماء فاغتسلت، ثم ذهب إلى منزله فأتى بلحم غليظ وخبز متحمش ثم قال: انظر من على الباب فإذا أسودان من أهل الصفة، فأذن لهم فجعل يأكل معهم، فإذا لحم غليظ لا أستطيع أن أسيغه، وقد كنت تعودت درمك أصبهان إذا وضعته في فمي نزل بطني، ثم دعا بالسفط فقال: أتعرف خاتمك؟ قلت: نعم. قال: كتبت ترفق بي تزعم أني أحق به، من أين أصبته؟ فأخبرته قال: اذهب فاجعله في بيت مال المسلمين حتى أقسمه بينهم. وقال قتادة: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، فصنع له طعام لم ير قبله مثله فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهو لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظنا في هذا الطعام وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً. وقال عبد الله بن عمر العمري: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك. قال: ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي! قال: فدخل منزله فلم ير شيئاً. فقال عمر: أين متاعك لا أرى إلا لبداً وشناً وصحفة وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جرابه فأخرج منه كسيرات، فبكى عمر فقال أبو عبيدة: قد قلت إنك تعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين يكفيك من الدنيا ما بلغك المقيل! فقال عمر: غرتنا الدنيا بعدك يا أبا عبيدة! وقال النخعي: بعث عمر بن الخطاب مصدقين فأبطئوا عليه وبالناس حاجة شديدة، فجاءوا بالصدقات فقام فيها متزراً بعباء يختلف في أولها وآخرها يقول: هذه لآل فلان حتى انتصف النهار وجاع، فدخل بيته حتى إذا أمكن أكله أكل ثم قال: من أدخله بطنه النار أبعده الله! وقال طاوس: أجدب الناس على عهد عمر بن الخطاب، فما أكل سمناً ولا سميناً حتى أكل الناس. وقال سعيد ابن جبير: إن علياً رضي الله عنه قدم الكوفة وهو خليفة، وعليه إزاران قطريان قد رقع إزاره بخرقة ليست بقطرية من وراءه، فجاء أعرابي فنظر إلى تلك الخرقة فقال: أمير المؤمنين، كل من هذا الطعام والبس واركب فإنك ميت أو مقتول! قال: إن هذا خير لي في صلاتي وأصلح لقلبي، وأشبه بسنة الصالحين قبلي وأجدر أن يقتدى بي من أتى بعدي. وقال الحسن: إن عمر بن الخطاب بينما هو يعس في المدينة بالليل، إذ أتى امرأة من الأنصار تحمل قربة، فسألها فذكرت أن لها عيالاً وأن ليس لها خادم، وأنها تخرج بالليل فتسقيهم

الماء وتكره أن تخرج بالنهار، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها وقال: اغدي على عمر غدوة يخدمك خادماً. قالت: لا أصل إليه. قال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى. فغدت عليه فإذا هي به فعرفت أنه الذي حمل قربتها، فذهبت تولي فأرسل في إثرها وأمر لها بخادم ونفقة. ولما حج عمر قال: كم بلغت نفقتنا يا برقا؟ قال: ثمانية عشر ديناراً يا أمير المؤمنين. قال: ويحك أجحفنا ببيت مال المسلمين! وقال شهر بن حوشب: لما قدم عمر بن الخطاب الشام طاف بكورها حتى نزل حمصاً فقال: اكتبوا لي فقراءكم. فرفعوا إليه الرقعة فإذا فيها سعيد بن عامر فقال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا! فعجب عمر وقال: كيف يكون أميركم فقيراً؟ قالوا: إنه لا يمسك شيئاً. فبكى عمر وبعث إليه ألف دينار يستعين بها في حاجته، فجعل يسترجع، فجعل يسترجع فقالت له امرأته: مالك أصابك أمير المؤمنين بشيء؟ قال: أعظم من ذلك أتتني الدنيا دخلت علي الدنيا، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين عاماُ، فوالله ما يسرني أني حبست عن الرعيل الأول وأن لي ما طلعت عليه الشمس! قالت: فاصنع به ما شئت. قال: هل عندك معونة؟ قالت: نعم. فأتته بخمارها فصر الدنانير فيه صررا ثم جعلها في مخلاة وبات يصلي ويبكي حتى أصبح، فاعترض جيشاً من جيوش المسلمين فأمضاها كلها. فقالت له امرأته: رحمك الله لو حبست منها شيئاً نستعين به! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت الأرض من ريح المسك، وإني والله ما أختارك عليهن! فسكتت. وروي أن عمر بن الخطاب استعمل على حمص رجلا يقال له عمير بن سعد، فلما مضت السنة كتب إليه أن يقدم، عليه فلم يشعر به عمر أن قدم ماشياً حافياً معه عكازته بيده وأداوته ومزوده وقصعته على ظهره، فلما نظر إليه عمر قال: يا عمير أجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟ فقال: يا أمير المؤمنين أما نهاك الله أن تجهر بالسوء من القول وعن سوء الظن؟ وما ترى من سوء الحال وقد جئتك بالدنيا أجرها بقرابها؟ قال: وما معك من الدنيا؟ قال: عكازتي أتوكأ عليها وأدفع بها عدوا إن لقيت، ومزودي أحمل فيه طعامي، وأداوتي هذه أحمل فيها ماء لشربي وصلاتي، وقصعتي هذه أتوضأ فيها وأغسل فيها رأسي وآكل فيها طعامي، فوالله يا أمير المؤمنين ما الدنيا بعد إلا تبع لما معي! قال: فقام عمر من مجلسه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبكى ثم قال: اللهم ألحقني بصاحبي غير مفتضح ولا مبدل. ثم عاد إلى مجلسه فقال: ما صنعت في عملك يا عمير؟ قال: أخذت الرقة من أهل الرقة، والإبل من أهل الإبل، وأخذت الجزية من أهل الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به! فقال عمر: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تردني إلى عملي ولم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله! فهذا ما عرضني له. ولقد خشيت أن يخاصمني له محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول: أنا حجيج المظلوم ومن حاججته حججته، ولكن أتأذن لي آتي أهلي؟ فأذن له فأتى أهله فبعث إليه عمر رجلاً يقال له حبيب بمائة دينار فقال له: إذا أتيت عميراً فانزل عليه ثلاثاً، فإن يكن خائناً لم يخف عليك في عيشه وحال أهل بيته، وإن لم يكن خائناً لم يخف عليك فادفع إليه المائة دينار. فأتاه حبيب فنزل عليه ثلاثاً فلم ير له عيشاً إلا الشعير والزيت، فلما مضت الثلاث قال: يا حبيب إن رأيت أن تتحول عنا إلى جيراننا، فلعلهم أن يكونوا أوسع عيشاً منا، فأما نحن والله لو كان

الباب الخمسون: في سيرة السلطان في تدوين الدواوين وفرض الأرزاق وسيرة العمال

عندنا غير هذا لآثرناك به! قال: فدفع إليه المائة دينار وقال: قد بعث بها إليك أمير المؤمنين. فدعا بفر وخلق لامرأته فصرها الخمسة والستة والسبعة فقسمها، فقدم حبيب على عمر فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من عند أزهد الناس، وما عنده من الدنيا لا قليل ولا كثير. فبعث إليه عمر وقال: ما صنعت بالمائة يا عمير؟ فقال: لا تسألني عنها. قال: لتخبرني. قال: قسمتها بيني وبين إخواني من المهاجرين والأنصار. قال: فأمر له بوسقين من طعام وثوبين. قال: يا أمير المؤمنين أما الثوبان فأقبل، وأما الوسقان فلا حاجة لي بهما عند أهلي صاع من بر، هو كافيهم حتى أرجع إليهم! وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صر أربعمائة دينار وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح. ثم تلكأ ساعة في البيت حتى ترى ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك. قال: وصله الله ورحمه. ثم قال: يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتلكأ بالبيت حتى تنظر ما يصنع فيها. فذهب بها إليه وقال: إن أمير المؤمنين يقول لك اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. ثم قال: يا جارية اذهبي إلى فلان بكذا وإلى فلان بكذا. فقالت امرأة معاذ: ونحن والله مساكين فأعطنا ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها، فرجع الغلام فأخبر عمر فقال عمر: إنهم إخوة بعضهم من بعض. الباب الخمسون: في سيرة السلطان في تدوين الدواوين وفرض الأرزاق وسيرة العمال اعلموا أرشدكم الله أن أول من اتخذ الدواوين وأجرى الأعطية على ما روي عمر بن الخطاب، فكان يفضل أهل السابقة ثم الذين يلونهم حتى أجرى على العامة شيئاً واحداً ثلاثمائة وأربعمائة، وفرض للعيال مائة درهم في كل سنة. وكان أبو بكر يسوي بين الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة ويقول: إنما عملوا لله فأجورهم على الله، وإنما هذا المال عرض حاضر يأكله البر والفاجر، وليس ثمناً لأعمالهم. وكان عمر يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه. ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار، فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنه ومن كان يلي معه في كل شهر لما بعثه، وبعث معه عثمان بن حنيف وابن مسعود إلى العراق. وأجرى عليه في كل يوم نصف شاة ورأسها وجلدها وأكارعها ونصف جريب كل يوم. وأجرى على عثمان بن حنيف ربع شاة وخمسة دراهم كل يوم، مع عطائه وكان عطاؤه خمسة آلاف درهم. وأجرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة في كل يوم وأجرى على شريح القاضي مائة درهم في كل شهر وعشرة أجربة. وإنما فضل عماراً عليهم لأنه كان على الصلاة. قال مالك: وكان عمر لايفرض لصغير ورضيع وإذا فطم فرض له، فمر من الليل وصي يبكي يبغي الرضاع وأمه لا ترضعه، فقال لها عمر: أرضعيه! قالت: إذاً لا يفرض له عمر. قال: بلى هو يفرض له! ثم فرض عمر بعد ذلك للمولود مائة درهم في كل سنة؛ قال ابن حبيب: وفرض عمر للعيال كل عيل من ذكر وأنثى جريبين من بر في كل شهر، وقسطين من زيت وقسطاً من خل ومائة درهم في كل

سنة. قال: والجريب قفيز بالقرطبي، والقسط قدر ثمن ربع الزيت بالقرطبي. قال الحسن: وكان عطاء سليمان خمسة آلاف، وكان على زهاء ثلاثين ألفاً من الناس، وكان يخطب الناس في عباءة يلبس نصفها ويفرش نصفها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه وكان يسف الخوص ويأكل من عمل يديه. وقال الحسن: قدم على عمر بن الخطاب وفد من أهل البصرة مع أبي موسى الأشعري، قال: فكنا ندخل عليه وله في كل يوم خبز يلث، فربما وافقناها مأدومة بسمن وأحياناً بزيت وأحياناً باللبن، وربما وافقنا القديد اليابس قد دق ثم أغلي عليه بماء، وربما وافقنا اللحم العريض وهو قليل. فقال لهم يوماً: إني والله أرى تقذيركم وكراهيتكم لطعامي، وإني لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأرفهكم عيشاً، وأما والله ما أجهل كراكر وأسمنة وصناباً وصلائق، قال: والصلاء الشواء والصناب الخردل والصلائق الخبز الرقائق، ولكني سمعت الله عير قوماً بأمر فعلوه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (الاحقاف: 20) . فكلمنا أبو موسى فقال: لو كلمتم أمير المؤمنين لفرض لكم من بيت المال طعاماً تأكلونه. فكلمناه فقال: يا معشر الأمراء، هل ترضون لأنفسكم ما أرضاه لنفسي؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين، إن المدينة أرض العيش بها شديد، ولا نرى طعامك يغنينا ولا يؤكل طعامك، وأنا بأرض ذات ريف وإن أميرنا يغنينا وإن طعامه يؤكل! قال: فنظر ساعة ثم رفع رأسه فقال: قد فرضت لكم من بيت المال شاتين وجريبين. فإذا كان بالغداة فضع إحدى الشاتين على أحد الجريبين، فكل أنت وأصحابك ثم ادع بشراب واسق الذي عن يمينك ثم اسق الذي عن شمالك ثم قم لحاجتك، فإذا كان العشاء فضع الشاة الغابرة على الجريب الآخر فكل أنت وأصحابك، ألا وأشبعوا الناس في بيوتهم وأطعموا عيالهم، والله ما أرى رستاقاً يؤخذ منه كل يوم شاتان وجريبان إلا يسرعان في خرابه! وكان عمر قد أطعم جريبين بالخل والزيت لثلاثين رجلاً فكفاهم، فأجراه على كل رجل في كل شهر ممن كان في الدواوين، مكان ما كانت فارس تجريه على خيولهم وأساورتهم. وقال سعيد بن المسيب وأبو سلمة: كان عمر بن الخطاب أبا العيال يسلم على أبوابهن ويقول: ألكن حاجة وأيتكن تريد أن تشتري شيئاً؟ فيرسلن معه بحوائجهن، ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده. وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعهن بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن ويقول: أزواجكن في سبيل الله وأنتن في بلدة رسول الله، إن كان عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن. ثم يقول: الرسول يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن. ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة ويقول: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لكن. ويمر بالمغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن. وقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً. فلما قدمت المدينة أتيت برقا فقلت: يا برقا مسترشد وابن سبيل! أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة، فعمدت إلى خفين مطارفين ولبست جبة صوف ولبست عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر بن الخطاب فصففنا بين يديه فصعد فينا وصوب فلم تأخذ عينه غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: وما ترتزق؟ قلت: ألفاً. قال: كثير فما

الباب الحادي والخمسون: في أحكام أهل الذمة

تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها بشيء وأعود على أقارب لي، فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين. قال: فلا بأس عليك ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال لي: كم سنك؟ قلت: خمسة وأربعون سنة. قال: الآن استحكمت. ثم دعا بالطعام وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوعنا له، فأتى بخبز وأعضاء بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك، فجعلت آكل وجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم، ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سحت في الأرض ولم أقلها فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس محتاجون إلى سلامك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني وقال: كيف قلت؟ فقلت: أقول يا أمير المؤمنين لو تنظر إلى قوتك من الطحين أن يخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذا، فيؤتى بالخبز ليناً وباللحم غريضاً. فسكن غيظه ثم قال: ههنا زغت. قلت: نعم. قال: يا ربيع إنا لو شئنا لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسنابك، يعني الخبز الحواري ولكني رأيت الله تعالى عاب على قوم شهواتهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الاحقاف: 20) ثم أمر أبا موسى بإقراري على عملي وأن يستبدل بأصحابي. وقال قبيصة بن ذؤيب: دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد، وكان على أهل حمص، فقال: علام يحبك أهل الشام؟ فقال: إني أحبهم فأحبوني. قال: مالك اليوم؟ قلت: عبدي وفرسي وبغلي وخادمي! قال: فما تلبس في الشتاء؟ قال: عصابة أشد بها رأسي وجبة وكساء. قال: فما تلبس في الصيف؟ قال: قميصاً وريطة. قال: فأعطاني عمر ألف دينار وقال خذها وأنفق منها وأعط منها. قلت: لا أرب لي فيها وستجد من هو أحوج إليها مني! قال: خذها فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلي مالاً وهو دون ما أعطيتك، فقلت له كما قلت لي فقال: يا عمر ما آتاك الله من هذا المال عطاء من غير أن تعرض له أو تشرف له نفسك فاقبله فأخذه فانطلق به إلى امرأته فقال: أترين رجلاً له هذا من فقراء المهاجرين هو أم من الأغنياء؟ فقالت: بل من الأغنياء. فقسمها حتى بقيت منها صرت أظن فيها ثلاثين أو نحو ذلك فقالت له امرأته: أليس لي أنا حق؟ فأعطاها إياها. قال رجاء بن حيوة: رأيت امرأة تسأل عن دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فأرشدناها إلى الدار فرأت داراً متهشمة فقالت لخياط هناك: استأذن لي على فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز. فقال: ادخلي وصوتي لها فإنها تأذن لك. فدخلت فلما أبصرت ما هنالك قالت: جئت أرم فقري من بيت الفقراء وإذا رجل يعمل في الطين وهناك امرأة فسألتها عن أمير المؤمنين فقالت: هو ذاك يعمل في الطين. فقالت له: يا أمير المؤمنين، مات زوجي وترك لي ثماني بنات! فبكى عمر بكاء شديداً ثم قال لها: ما تريدين؟ قالت: تفرض لهن. فقال: نفرض للكبرى ما اسمها؟ قالت: فلانة. فكتبها فقالت: الحمد لله. قال: وما اسم الثانية؟ قالت: فلانة. فكتبها فقالت: الحمد لله حتى متب السابعة، فقالت: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين! فطرح القلم من يده وقال لها: لو أنك وليت الحمد أهله لأتممناهن لك مري السبع فليواسين الثامنة. الباب الحادي والخمسون: في أحكام أهل الذمة روى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبنا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة

راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطاً منها في خطط المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوساً ولا نكتمه عن المسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحداً، ولا نمنع أحداً من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إن أراده، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب بالسروج، ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا ونلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا، وكتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في حضرة المسلمين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاوزهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نطلع على منازلهم. فلما أتيت عمر رضي الله عنه بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحداً من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضي الله عنه أن أمض ما سألوه، وألحق فيه حرفين واشترطهما عليهم مع ما شرطوه على أنفسهم أن لا يشتروا شيئاً من سبايا المسلمين، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده. وروى نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أهل الشام في النصارى: أن يقطع ركابهم وأن يركبوا على الأكف وأن يركبوا في شق، وأن يلبسوا خلاف زي لباس المسلمين ليعرفوا. وروي أن بني ثعلبة دخلوا على عمر بن عبد العزيز فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا قوم من العرب افرض لنا. قال: نصارى؟ قالوا: نصارى. قال: ادعوا إلي حجاماً ففعلوا فجز من نواصيهم وشق من أرديتهم حزماً يحتزمونها، وأمرهم أن لا يركبوا بالسروج ويركبون الأكف من شق واحد. وروي أن أمير المؤمنين المتوكل أقصى اليهود والنصارى ولم يستعملهم وأذلهم وأقصاهم، وخالف بين زيهم وزي المسلمين وجعل على أبوابهم مثالاً للشياطين لأنهم أقرب لذلك وهم أهله، وقرب منه أهل الحق وباعد عنه أهل الباطل والأهواء، فاحي الله به الحق وأمات به الباطل، فهو يذكر بذلك فيترحم عليه ما دامت الدنيا. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا تستعملوا اليهود ولا النصارى، فإنهم أهل رشا في دينهم ولا يحل الرشا. ولما استقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري من البصرة وكان عاملاً عليها للحساب، دخل على عمر وهو في المسجد فاستأذن لكاتبه وكان نصرانياً فقال له عمر رضي الله عنه: قاتلك الله! وضرب بيده على فخذه، وليت ذمياً على المسلمين أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. وكتب بعض العمال إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن العدد قد كثر

وإن الجزية قد كثرت، أفنستعين بالأعاجم؟ فكتب إليه عمر: إنهم أعداء الله وإنهم لنا غششة فأنزلوهم حيث أنزلهم الله ولا تؤدوا إليهم شيئاً. وقال عمر بن أسد: أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى محمد بن المنتشر: أما بعد فإنه بلغني أن في عملك رجلاً يقال له حسان بن بردا على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 57) فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان إلى الإسلام فإن أسلم فهو منا ونحن منه وإن أبى فلا تستعن به ولا تأخذ من غير أهل الإسلام على شيء من أعمال المسلمين، فقرأ الكتاب عليه فأسلم. ولما خرج النبي إلى بدر تبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال: إني أريد أن أتبعك وأصيب معك. قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن نستعين بمشرك. ثم لحقه عند الشجرة ففرح به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له قوة وجلادة، قال: جئتك لأتبعك وأصيب معك. قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا قال: ارجع فلن أستعين بمشرك. ثم لحقه على ظهر البيداء فقال له مثل ذلك قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم. قال: ففرح به. وهذا أصل عظيم في أن لا يستعان بكافر. هذا وقد خرج ليقاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويراق دمه، فكيف استعمالهم على رقاب المسلمين؟ وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله: أن لا تولوا على أعمالنا إلا أهل القرآن. فكتبوا إليه: إنا وجدنا فيهم خيانة. فكتب إليهم: إن لم يكن في أهل القرآن خير، فأجدر أن لا يكون في غيرهم خير. فصل: ومتى نقض الذمي العهد بمخالفته لشيء من الشروط المأخوذة عليه، لا يرد إلى مأمنه والإمام فيه بالخيار بين القتل والإسترقاق. وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: ويلزمهم أن يتميزوا عن المسلمين في اللباس، وإن لبسوا قلانس ميزوها عن قلانس المسلمين بالخرق، ويشدون الزنانير في أوساطهم ويكون في رقابهم خاتم من رصاص أو نحاس أو جرس يدخلون به الحمام، وليس لهم أن يلبسوا العمائم والطيلسان. وأما المرأة فإنها تشد الزنار تحت الإزار وقيل فوقه، وهو أولى، ويكون في عنقها خاتم تدخل به الحمام ويكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض، ولا يركبون الخيل ويركبون البغال والحمير بالأكف عرضاً، ولا يركبون بالسروج. ولا يصدرون في المجالس ولا يبدءون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق ويمنعون أن يعلوا على المسلمين في البناء، وتجوز المساواة وقيل لا تجوز بل يمنعون، وإن تملكوا داراً عالية أقروا عليها، ويمنعون من إظهار المنكر والخمر والخنزير والناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل، ويمنعون من المقام في الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة. ويجعل الإمام على كل طائفة منهم رجلاً يكتب أسماءهم وحلاهم ويستوفي جميع ما يؤخذون به جميع الشروط، وإن امتنعوا من إداء الجزية والتزام أحكام الملة انتقض عهدهم. وإن زنا أحدهم بمسلمة أو أصابها بنكاح أو آوى عيناً للكفار ودل على عورة المسلمين، أو فتن مسلماً عن دينه أو قتله أو قطع عليه الطريق أو ذكر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز قيل: ينتقض العهد وإن فعل ما يمنع منه مما لا ضرورة فيه كترك الغيار وإظهار الخمر وما أشبهما عزر عليه، ومتى فعل ما لا يوجب نقض العهد رد إلى مأمنه في أحد القولين وقتل في الحين في القول الآخر.

الباب الثاني والخمسون: في بيان الصفات المعتبرة في الولاة

فصل: وفي تقدير الجزية اختلاف بين العلماء فقيل: إنها مقدرة الأقل والأكثر على ما كتب به عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن حنيف بالكوفة، فوضع على الغني ثمانية وأربعين درهماً وعلى من دونه أربعة وعشرين درهماً، وعلى من دونه اثنا عشر درهماً، وذلك بمحضر من الصحابة رصي الله عنهم، ولم يخالفه أحد وكان الصرف اثني عشر درهماً بدينار. وهذا مذهب أبي حنيفة وابن حنبل رضي الله عنهما، وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه وجعلوه كأنه حكم إمام فلا ينقض وقيل: إنها مردودة إلى الأمام في الزيادة والنقصان وهو الأقيس، وقيل: إنها مقدرة الأقل دون الأكثر. فيجوز للإمام أن يزيد على ما قدره عمر رضي الله عنه، ولا يجوز أن ينقص عنه. وقال بعضهم: يجوز أن يساوي بينهم فيأخذ من كل واحد ديناراً وقال مالك رضي الله عنه: يؤخذ من الموسر أربعون درهماً، ومن الفقير دينار أو عشرة دراهم. ويتخرج على مذهب مالك رضي الله عنه في وجوب تقدير طرفيها قولان، بناء على العشرة المأخوذة منهم هل هو تقدير شرعي لا تجوز فيه الزيادة والنقصان، وعن مالك فيه روايتان. ولا جزية على النساء والمماليك والصبيان والمجانين. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: سلام عليك. أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور من العمال واستسنت سنة سنها عليهم عمال السوء فأحرز عليهم أرضهم ولا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب، ولا تأخذ من الخراب ما لا يطيقون ولا من العامر إلا وظيفة الخراج، ولا وزن سبعة ليس لها أس، ولا أجور الضرابين ولا أداة فضة ولا هدية النوروز والمهرجان، ولا ثمن المصحف ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض والواجب أن يؤخذ ما ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من كل جريب كرم عشرة دراهم، ومن كل جريب نخل ثمانية دراهم، ومن كل جريب رطبة أو شجر ستة دراهم، ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم، ومن كل جريب شعير درهمان. فصل: وأما الكنائس فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة وأمر أن لا يظهر علية خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من كنية إلا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء، وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين، وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأمر أن لا يترك في دار الإسلام بيعة ولا كنيسة بحال قديمة ولا حديثة، وهكذا قال الحسن البصري قال: من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة، ويمنع أهل الذمة من بناء ما خرب، وقال الأصطخري: إن طينوا ظاهر الحائط منعوا، وإن طينوا باطنه الذي يليهم لم يمنعوا، ويمنعون أن يعلوا على المسلمين في البناء، وتجوز المساواة وقيل لا تجوز. الباب الثاني والخمسون: في بيان الصفات المعتبرة في الولاة اعلم أرشدك الله أن منزلة العمال من الوالي بمنزلة السلاح من المقاتل، فاجهد جهدك في ابتغاء صلاح العمال، فإذا فقد الوالي عمال الصدق كان كفقد المقاتل السلاح يوم الحرب. ويحتاج إلى طبقات الرجال كما يحتاج الحرب إلى أصناف العدة فنها الدرق للاستجنان والسيف للمناجزة، والرمح للمطاعنة والسهم للمباعدة والدرع للتحصين، ولكل منهم موضع ليس للآخر، والرجال للملك كالأداة للصانع لا يسد بعضها مسد بعض، كذلك طبقات الرجال للملك منهم للرأي والمشورة ومنهم لإدارة الحرب، ومنهم لجمع الأموال ومنهم لحفظها، ومنهم للحماية ومنهم للكتابة، ومنهم للجمال والفخر ومنهم للمباهاة والذكر،

ومنهم للدعاء والوقار ومنهم للعلم والفتيا وحفظ أساس الملة، فلا يكمل للملك ملك ما لم يجمع هذه الطبقات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما مات كسرى بلغ موته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من استخلفوا بعده؟ قالوا: ابنته بوران. قال: لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة! وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كانت فتنة الحرة من استعمل القوم؟ قالوا: عبيد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة الراهب على الأنصار قال: أميران؟ هلك والله القوم! وليس يشترط النسب إلا في الإمامة العظمى دون سائر الولايات. ولما استحضر هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهما، وكان من الخطباء قال له هشام: بلغني أنك تخطب الخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة: قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ابن أمة، وإسحاق صلى الله عليه وسلم ابن حرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل. ثم اتهمه في أمر فقال زيد: أنا أحلف لك. قال له هشام: ومن يصدقك؟ قال له زيد: إنه ليس أحد فوق أن يأمر بتقوى الله ولا أحد دون أن يؤمر بتقوى الله تعالى منك. وقال بعض الخلفاء: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني. قالوا: وكيف تريده؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. قالوا: ما نعمله إلا الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم هو لها! ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استشار في قوم ليستعملهم فقال له بعض أصحابه: عليك بأهل العدل. قال: ومن هم؟ قال: الذين إذا عدلوا فهو ما رجوت، وإن قصروا قال الناس: اجتهد عمر! ولما قدم يزيد بن بشر بن مروان سأله عن بشر قال: يا أمير المؤمنين هو الشديد في غير عنف اللين في غير ضعف، فقال عبد الملك بن مروان: ذاك الأعمر الأجود الذي كان يأمن عنده البريء ويخاف لديه السقيم، ويعاقب على قدر الذنب ويعرف موضع العفو، الشديد في غير عنف اللين في غير ضعف عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الحكيم: اعتبروا الرجال بأفعالهم لا بعظم أجسامهم، فإن النسر مع عظمه لا يأكل إلا نتناً، وطير الماء مع ضعفه يتحامى ميت السمك ويأكل الحي منه. وفي حكم الهند: السلطان الحازم ربما أحب الرجل فأقصاه وأطرحه مخافة ضره، كالملسوع يقطع إصبعه مخافة أن ينتشر السم في جسمه، ربما أبغض الرجل وأكره نفسه على توليته وتقريبه لغنى يجده عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه، إلا أن للإسلام شروطاً قد لا تستقيم هذه السيرة عليها، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما أفضت إليه الخلافة كان معاوية والياً على الشام من قبل عمر ثم عثمان رضي الله عنهما، فاستشار في أمره فقال له بعضهم: أقره على إمرته وأرسل إليه بعهده، فإن دخل في بيعتك فاعزله، فقال له: رحمك الله أتأمرني أن أطلب العدل بالجور؟ ثم عزله فكان سبب عصيانه. وهكذا أشاروا عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين لو فضلت هؤلاء الأشراف ومن يتخوف منهم، وإنما الناس أصحاب دنيا حتى إذا استوثق الأمر عدت إلى التسوية. فقال: أتأمروني أن أطلب العدل بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لو كان مالي لسويت بينهم ولم أفضل بعضهم على بعض، فكيف والمال لهم وإعطاء المال في غير حقه تبذير وسرف، وهو يرفع ذكر صاحبه في الدنيا ويضعه عند الله تعالى في الآخرة؟ ولن يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا حرمه الله تعالى شكرهم، وصير لغيره ودهم، فإن بقي معه منهم من يظهر له الود والشكر فذلك ملقى وخديعة لينال منه فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونته ومكافأة ما سلف من ميرته فشر خليل

وألأم خدين، وإياك أيها الوالي وحب المدح فإن من أحب المدح فهو كمن مدح نفسه. وإذا علم منك ذلك جعلك الناس سلماً لقضاء حوائجهم منك فحينئذ يكون قضاء الحوائج لنفسك لا لهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحث التراب في وجوه المداحين. وسمع المقداد رجلاً يمدح عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ كفاً من تراب فألقاه في وجهه. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يمدح رجلاً فقال: قطعت ظهر أخيك! لو سمعها ما أفلح بعدها. وفي الحديث خمس تأويلات: أحدها حمله على ظاهره كما فعل المقداد مع المداح لعثمان، والثاني أن يرفع شيئاً من التراب فينثره بين يديه كالمتذلل أي من خلق هذا ويعود إليه لا يستحق هذا الثناء، والثالث لا تقض حاجة المداحين، والعرب تقول لمن رجع خائباً من حاجاته: رجع بكفه مملوءة تراباً، والرابع نقيض هذا قاله لي شيخنا أبا العباس الجرماني قال: معناه اقض حاجته وأعطه ما سأل فإن الذي تعطيه سيصير تراباً كأنك أعطيته تراباً، والخامس أن المعنى الدعاء لأن العرب تقول إذا دعت: بفيه الحجر وبفيه التراب أي يقول للمداحين كذلك. ووصف أعرابي أميراً فقال: كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم فالمحسن راج والمسيء خائف. وقال عبد الله بن الزبير: لا يعبدن ابن هند، يعني معاوية، إن كانت فيه لمخارج لم أجدها في أحد بعده أبداً والله إن كنا لنعرفه وما الليث الجري على برامته بأجرأ منه فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن آوى من الأرض بأدهى منه، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر، وأشار إلى أبي قبيس، لا يتخون له عقل ولا تنقض له قوة، وقال الصنابجي: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه كتاباً في مثل أذن الفأرة: أما بعد فإنه لا يقيم أمر الله تعالى في الناس إلا حصيف العقدة بعيد الغرة، لا يطلع الناس منه على عورة ولا يحنق في الحق على الجراءة ولا يخاف في الله لومة لائم. وقال مالك رضي الله عنه: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله أن يكتب له كتاباً في أمر، فقال: اذهب إلى منزلنا فأتنا بدواة وقرطاس، فذهب فلم يجد فقال اطلب عندهم شيئاً، فذهب فلم يجد عندهم إلا أذن مزود فكتب له في تلك الأذن. لما ولى المأمون يحيى بن أكثم قضاء البصرة، بعد أن استمحن عمله وعقله، امتحنه بمسائل فوجده فوق ما يريد، فتلقاه وجوه أهل البصرة فرأوا شاباً صبياً ما بقلت لحيته، فتعجبوا ونظر بعضهم إلى بعض يقلبون الأكف ويغمزون الحواجب. فقال له بعضهم: كم سن القاضي أصلحه الله تعالى؟ قال: نحو سن عتاب بن أسيد لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فهابوه لحدة جوابه وعرفوا فضله، وكان لعتاب بن أسيد إحدى وعشرون سنة لما ولي مكة شرفها الله تعالى. وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا يصلح أن يلي أمور الناس إلا حصيف العقل وافر العلم قليل الغرة بعيد الهمة، شديد في غير عنف لين في غير ضعف، جواد في غير سرف لا يخاف في الله لومة لائم. وقال أيضاً: ينبغي أن يكون في الوالي من الشدة ما يكون ضرب الرقاب عنده في الحق كقتل عصفور، ويكون فيه من الرقة والحنو والرأفة والرحمة ما يجزع من قتل عصفور بغير حق. ويروى أن الرشيد أحضر رجلاً ليوليه القضاء فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه. فقال له الرشيد: فيك ثلاث خصال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم والحلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطأه، وأنت رجل تشاور في أمرك ومن شاور في أمره كثر صوابه. وأما الفقيه فتضم إليك من تفقه به. فولي فما وجد فيه مطعن. وقال أياس بن معاوية: استحضرني عمر بن هبيرة فحضرت فسألني فسكت، فلما أطلت قال: ايه! قلت: سل عما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف الفرائض؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: أنا بها أعلم. قال: هل تعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعلم. قال: إني أريد أن أستعين بك. قال: إن في ثلاثاً لا أصلح معهن للعمل. قال: ما هن؟ قلت: أنا دميم كما ترى وأنا حدد وأنا عي. قال: أما الدمامة فأريد أن أحاسد بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما سوء الخلق فيقومك السوط! فولاني وأعطاني ألف درهم فهو أول ما تمولته. وقال سليمان بن داود

الباب الثالث والخمسون: في بيان الشروط والعهود التي تؤخذ على العمال

عليهما الصلاة والسلام: ما ملاقاة لبوة سلبت أشبالها بأصعب من ملاقاة جاهل راض عن نفسه. الباب الثالث والخمسون: في بيان الشروط والعهود التي تؤخذ على العمال اعلم أرشدك الله تعالى أنه تولى الأعمال أهل الحزم والكفاية والصدق والأمانة، وتكون التولية للغنى لا للهوى، وملاك الولايات كلها وأساسها إن لا تولى الأعمال طالباً لها ولا راغباً فيها. وروى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجل، فلما سلمنا عليه قال صاحبي: يا رسول الله استعملني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده. فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما علمت ما في نفسه. وقد روى عن بزرجمهر أنه قيل له: ما بال ملك آل ساسان صار أمره إلى ما صار إليه؟ قال: لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال. والله در عمرو بن العاص حيث قال: موت ألف من العلية أقل ضرراً من ارتفاع واحد من السفلة. وقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قد أذاه: أدركتك دولة إمرة الصبيان! وقال المعلى بن أيوب: غضب المأمون على بعض أصحابه غضباً شديداً فقال له: لا أماتك الله أو يبلغك دولة السفلة! وقال المستوعر الأكبر وقد كان عمر في الجاهلية ثلثمائة سنة: وما سقطت يوماً من الدهر أمة من النذل إلا أن يسود دميمها إذا ساد فيها الفساد بعد ذل لئيمها تصدى لها ذل وقد أديمها وما قادها للخير إلا مجرب عليم بإقبال الأمور كريمها وما كل ذي لب يعاش بفضله ولكن لتدبير الأمور حكيمها اعلموا أن معظم ما يدخل على الدول من الفساد هو من تقليد الأعمال أهل الحرص عليها. لأنه لا يخطبه إلا لص في ثوب ناسك وذئب في مسلاخ عابد، أو حريص على جمع الدنيا نابذ لدينه ومروته، فيبتغي عرض الحياة الدنيا وقد سبق المثل: الحرص على الأمانة دليل على الخيانة، يتخذون عباد الله خولا وأموالهم دولا، وإذا اهتضمت حقوق المسلمين وأكلت أموالهم فسدت نياتهم وقلت طاعتهم، فانتقضت الأمور ودب الفساد إلى الممالك، وقد ذكرنا في أول الكتاب الآثار في كراهية الولايات، وقال المأمون ما فتق علي قط فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال. ولما قدم رسول ملك غزنة على عضد الدولة بويه الديلي، وقضى الرسالة وأراد الانصراف قال لعضد الدولة: ما أقول لأخيك؟ قال: قل له جئتك من عند سلطان يظلم وحده. فإن قيل: فما معنى قول يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55) . قلنا: يوسف عليه الصلاة والسلام كان نبياً من أنبياء الله تعالى، واثقاً بنفسه بالأمانة والكفاية بين يدي من لا يتحقق بواطن أسرار ولا يعلم خصائصه وفضائله، ويرى الأمور والأعمال والولايات ضائعة في أيدي من ليس لها أهلاً، ويجوز مثل هذا اليوم لمن حصل بين يدي جبار لا يعلم منزلته ولا ما عنده من الخصال والفضائل أن يذكر له بعض ما يعلم من نفسه ليعلم قدره فيسلم بذلك من شره. وعن هذا قال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا كان القضاء في يد من لا يصلح له وجب أن يخطبه من يصلح له وكان ذلك فرضاً عليه. وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك الرأي، ويحتمل أن يكون يوسف عليه السلام قد أوحى الله إليه بما يصير أمره إليه من الملك والعدل ونشر كلمة الإسلام، فلهذا نبه على نفسه. ومن عجيب ما يروى في هذا الباب أن لقمان الحكيم كان عبداً أسود نوبيا غليظ الشفتين مصفح القدمين لامرأة من بني الحسحاس، وكان جليساً لداود عليه السلام، فأتاه جبريل عليه السلام بالنبوة من عند الله تعالى الذي يصطفي لنبوته من يشاء فقال لقمان:

يا جبريل إن أجبرني ربي فسمعاً وطاعةً، وإن خيرني الحكمة، فرضي الله تعالى قوله وأعطاه الحكمة، وصرفت الرسالة إلى داود عليه السلام، وكان داود يقول: طوبى لك يا لقمان! أوتيت الحكمة وأوتي داود البلية! وروى أنه جالس داود عليه السلام، وداود يعمل الدروع، فأقام حولاً ينظر صنعة الدروع ولا يعرف ما تصلح له ولا يسأله عن ذلك، فلما تم حول لبس داود الدرع وقال: درع حصينة ليوم حرب! فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث عاملاً اشترط عليه خمساً: لا يركب البراذين ولا يلبس الرقيق ولا يأكل النقى ولا يتخذ حاجباً، ولا يغلق باباً عن حوائج الناس وما يصلحهم ويقول له: إني لا أستعملك على أنشازهم ولا أعراضهم، وإنما أستعملك لتصلح بهم وتقضي بينهم بالعدل. وروى عباية بن رفاعة قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سعد بن أبي وقاص اتخذ قصراً وجعل عليه باباً وقال: انقطع الصوت فأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه محمد بن مسلمة وكان عمر رضي الله عنه إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما هو بعثه، فقال له: أنت سعد فأحرق عليه بابه! فقدم الكوفة فلما أتى الباب أخرج زنده واستورى ناراً ثم أحرق الباب، فأتى سعد الخبر ووصف له بصفته وعرفه، فخرج إليه سعد فقال له محمد: إنه قد بلغ أمير المؤمنين أنك قلت انقطع الصوت. فحلف سعد بالله تعالى ما قال ذلك فقال له محمد: نفعل الذي أمرنا به ونؤدي عنك ما تقول. ثم ركب راحلته، فلما كان ببطن البرية أصابه من الخمص والجوع ما الله به أعلم، فأبصر غنماً فأرسل غلامه بعمامته فقال: اذهب فابتع شاة. فجاء الغلام بالشاة وهو يصلي فأراد ذبحها فأشار إليه أن يكف. فلما قضى صلاته قال: انظر فإن كنت مسميتها مملوكة فاردد الشاة وخذ العمامة، وإن كنت حرة فاردد الشاة فذهب فإذا هي مملوكة، فرد الشاة وأخذ العمامة فأخذ بخطام ناقته وجعل لا يمر ببقلة إلا خطفها حتى آواه الليل إلى قوم، فأتوه بخبز ولبن وقالوا: لو كان عندنا شيء خلاف هذا أتيناك به، قال: بسم الله كل حلال أذهب السغب خير من مأكل السوء، حتى قدم المدينة ونزل بأهله فابترد من الماء ثم راح، فلما أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أديت. وذكروا أنه أسرع السيرة فقال قد فعلت وهو يعتذر إليك ويحلف بالله ما قال. فقال له عمر رضي الله عنه: هل آمر لك بشيء؟ قال: قد رأيت مكاناً إن تأمر لي فقال عمر رضي الله عنه: إن أرض العراق أرض رقيقة، وإن أهل المدينة يموتون حولي من الجوع، فخشيت أن آمر لك بشيء يكون لك بارده ولي الحار. وروى زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحما فقال له: يا هنى اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل، ورب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة فيقول: يا أمير المؤمنين أفتكارهم أنا لا أبالك في الماء؟ يأتيني ببينة فيقول: يا أمير المؤمنين فأنا تارك لك الماء والكلأ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والفضة. وأيم الله إنهم ليرون أني ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عنهم من بلادهم شبراً! ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً ببناء يبني بحجارة وجص فقال: لمن هذا فذكروا له أنه لعامل من عماله على البحرين فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها! وقاسمه ماله. وكان يقول: لي على كل خائن أمينان الماء والطين. وكان أنوشروان يكتب في عهد العمال: سس خيار الناس بالمحبة،

الباب الرابع والخمسون: في هدايا العمال والرشا على الشفاعات

وامزج للعامة الرغبة بالربة، وسس سفلة الناس بالإخافة وقال سليمان بن داود عليه السلام: كما يصلح الهمز للفرس والرسن للحمار، كذلك يصلح القضيب لظهر الجهال. وفي الأمثال القديمة من لم يصلح باللين أصلحه التليين، ومن يعتدل عدل. وقال هلال بن أساف: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم المقداد على سرية، فلما رجع قال له النبي صلى الله عليه: كيف رأيت الإمارة أبا معبد؟ قال: خرجت يا رسول الله ولا أرى أن لي فضلاً على أحد من القوم، فأرجعت إلا وكأنهم عبيد لي. قال: كذلك الإمارة أبا معبد، إلا من وقاه الله شرها قال: والذي بعثك بالحق نبياً لا أعمل على عمل أبداً. وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يمنعك أن تفشي العمل في الأفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هم أجل من أن أدنسهم بالعمل. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: كان عمر إذا قدم عليه الوفد سألهم عن حالهم وأسفارهم، وعن من يعرف من أهل البلاد وعن أميرهم، وهل يدخل عليه الضعيف وهل يعود المريض؟ فإن قالوا نعم حمد الله تعالى، وإن قالوا لا كتب إليه أن أقبل. ومثل السلطان إذا ولى العمال الظالمين مثل من يسترعى غنمه الذئاب، ومثل من يربط الكلب العقور ببابه. وإن العامة لتشتم الحجاج بن يوسف والخاصة تلوم عبد الملك بن مروان لأنه هو الذي استرعاه الرعية؟ وفيه قيل: ومن يربط الكلب العقور ببابه فعقر جميع الناس من رابط الكلب. وكان العلاء بن أيوب لما ولى فارس من قبل المأمون يكتب عهد العامل، فيقرأه على من يحضره من أهل ذلك العمل ويقول: أنتم عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إلي منه فعلي إنصافه ونفقته جاثياً ورائحاً، ويأمر العامل أن يقرأ عهده على أهل عمله في كل جمعة، وأن يقول لهم هل استوفيتم؟ الباب الرابع والخمسون: في هدايا العمال والرشا على الشفاعات روى أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا والسر فيه أنك إذا قدرت على قضاء حاجته من عند السلطان الظالم أو السيد القاهر، صار ذلك واجباً عليك وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً يقال له ابن اللتبية، فلما جاء قال: يا رسول الله هذا لكم وهذا لي. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما بال الرجل نستعمله على عمل من أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لنا، أفلا قعد أحدكم في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى له؟ قال مالك: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاطر العمال فيأخذ نصف أموالهم. وشاطر أبا هريرة رضي الله عنه وقال له: من أين لك هذا المال؟ فقال له أبو هريرة: دواب تناتجت وتجارات تداولت. فقال: إذن الشطر. وإنما شاطرهم حين ظهرت لهم أموال بعد الولاية لم تكن تعرف لهم. وروى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه اشترى هو وأخوه عبيد الله إبلاً، فبعثا بها إلى الحما فرعت فقال عمر: رعيتما في الحما فشاطرهما وشاطر، سعد بن أبي وقاص حين قدم من الكوفة كأنه رأى أن ما أصاب العامل من غير رشوة فإن كان حلالاً فلا يستحق ذلك لأن لمن له الإمرة قوة على أن ينال من الحلال ما لا يناله غيره، فجعله كالمضارب للمسلمين. ولما رفع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مالاً من بيت المال لعبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالبصرة،

الباب الخامس والخمسون: في معرفة حسن الخلق

فاشتريا به بضاعة فربحت بالمدينة، فأراد عمر أن يأخذ جميع الربح، وأخذ عمر رضي الله عنه النصف لبيت المال. وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله: أما بعد فإنما هلك من كان قبلكم بمنعهم الحق حتى يشتري، وبسطهم الباطل حتى يفتدي الملك بالدين يقوى، والدين بالملك يبقى. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قدم عليه العمال يأمرهم أن يدخلوا نهاراً ولا يدخلوا ليلاً، كيلا يحجبوا شيئاً من الأموال. وقال عتاب بن أسيد: والله ما أصبت في عملي الذي ولاني النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثوبين معدين كسوتهما مولاي كيسان. وروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه استعمل أبا مسعود الأنصاري على السواد، فما رجع إلا وقد امتلأت داره فقال: ما هؤلاء قالوا: كذلك يصنعون بالرجل إذا استعمل قال: كل هؤلاء يريدون أن يأكلوا في أمانتي، ويروى في إمارتي، ورجع إلى علي رضي الله عنه وقال: لا حاجة لي في العمل. وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عبد الرحمن بن سمرة ليستعمله فقال: يا رسول الله اختر لي، فقال: اقعد في بيتك وفي الأمثال: إن الهدية نعمي وتصم. وقال بعض الحكماء: الرشوة رشاء الحاجة. وأنشد بعضهم: إذا أتت الهدية دار قوم تطايرت الأمانة من كواها ولبعضهم: إن الهدية حلوة كالسحر يجتلب القلوبا تدني البعيد من الهوى حتى تصيره قريبا وترد مضطغن العداوة بعد جفوته حبيبا ومما قلته في الرشوة: وأكرم من يدق الباب شخص ثقيل الحمل مشغول اليدين ينوء إذا مشى نفساً ونفخاً وينطح بابه بالركبتين وأكرم شافع يمشي إليها أبو المنقوش فوق الصفحتين ولبعضهم: إذا كنت في حاجة مرسلاً وأنت بإنجازها مغرم فأرسل بأكمه جلابة به صمم أغطش أبكم ودع عنك كل رسول سوى رسول يقال له الدراهم وكتب عبد الملك إلى قاضيه الحارث بن عامر، وقد ارتشى بمكرمة: إذا رشوة في باب قوم تقحمت لتسكن فيه والأمانة فيه سعت هرباً منه وولت كأنها حليم تولى عن جواب سفيه الباب الخامس والخمسون: في معرفة حسن الخلق اعلموا أرشدكم الله تعالى أن هذا الباب مما غلط الخلق فيه وقبلوا القوس ركوة، فعمدوا إلى أخلاق العامة وخلائق الغوغاء والدناة، وما يجري بينهم إذا تلاقوا وتعاشروا من الإفراط في مدح بعضهم بعضاً، وتعاطيهم الكذب والتصنع والملق والمراآة، والمعاريض

عن الأمور المكنونة التي يفحش إظهارها، والانخراط في سلك المزاح والمهاترة. فهذا وما أشبهه عندهم من أحسن الخلق. وهذا عندنا نقيض ما نص الله تعالى عليه ورسوله من حسن الخلق. فأول ذلك أن يعلم أنه لم تحتو الأرض على بشر أحسن خلقاً من محمد صلى الله عليه وسلم، فكل من تخلق، بأخلاق رسول الله أو قاربها كان أحسن الناس خلقاً وكل خلق ليس يعد من أخلاقه فليس من حسن الخلق. وهذا فصل الخطاب في هذا الباب لمن عقل، وإنما أتى الناس لأنهم استحسنوا الأخلاق العامية واستخشنوا الأخلاق النبوية لجهلهم بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. وها أنا أتلو عليك من أخلاق الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم والأولياء والأصفياء والعلماء والصالحين، نرجو ما نرجو أن ينفعنا الله وإياك به. قال الله تعالى لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) . فخص الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من كريم الطباع ومحاسن الأخلاق من الحياء والكرم والصفح وحسن العهد بما لم يؤته غيره، ثم ما أثنى الله عليه من فضائله بمثل ما أثنى عليه بحسن الخلق فقال: وإنك لعلى خلق عظيم. وعن هذا قالت الشيوخ أن الله تعالى دعا الخلق إلى حسن الخلق، ودعا نبيه صلى الله عليه وسلم إلى حسن الخلق. نن قال عبيد بن عمير: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمير المؤمنين صفي لي خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لي: أما تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن. وحسبك بهذا القول منقبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفاً لك بحسن الخلق، وإذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فالقرآن يجمع كل فضيلة ويحث عليها، وينهي عن كل نقيصة ورذيلة ويوضحها ويبينها، ولذلك لما أنزل الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، فهذا من حسن الخلق كما ترى. فانظر أين أخلاق العامة من هذا النمط، إن أحدهم ليقطع من وصله ويحرم من أعطاه، ويظلم من سأله ويغضب على من اتهمه. وإنما اقتصر على هذه الكلمات لأنها أصول الفضائل وينبوع المناقب، لأن في أخذ العفو صلة القاطع والصفح عن الظالم وإعطاء المانع، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله عز وجل تدخل جميع آداب الشرع فرضها ونفاها، وفي الإعراض عن الجاهلين الصفح والحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه ومجازاة اللجوج، فهذه الأصول الثلاثة تتضمن محاسن الشرع نصاً وتنبيهاً وسمتاً واعتباراً. وروى عن أنس أنه قال: يا رسول الله أي المؤمنين أكمل إيماناً قال: أحسنكم خلقاً. وروى أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم محاسن الأخلاق. اقتضى الحديث أن كل نبي مبعوث إلى أمته إنما بعث ليعلم الخلق الحسن، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم محاسن الأخلاق. إذن فحسن الخلق امتثال الشرائع بأسرها. روى البخاري ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، قال: وإن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً، وقال عليه السلام: إن الله استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فجبذه أعرابي جبذة شديدة حتى أثرت حاشية الرداء في عنقه وقال: يا محمد مر لي بشيء من مال الله الذي آتاك، فلست تأمر لي من مالك ولا من مال أبيك! فالتفت النبي صلى الله

عليه وسلم وقال: مروا له ولم يكلمه بكلمة. وقال أنس: نظرت إلى عنق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية الرداء من شدة جبذه، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ثم أمر له بعطاء. وروى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد املأ لي هذه تمراً وسويقاً فإنك لست تعطي من مالك ولا من مال أبيك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعد علي ما قلت، قال فأعاد كلامه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت املئوا له تمراً وسويقاً لست أعطي من مالي، إنما هو من مال الله عز وجل. وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل. واعلموا أن الخلق الحسن أفضل مناقب العبد، وبه تظهر جواهر الرجال والإنسان مستور بخلقه. ألا ترى أن الله تعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الفضائل، ثم لم يثن عليه بشيء من خصائله بمثل ما أثنى عليه بخلقه. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) قال: لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله عز وجل. وقيل: لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد معرفتك بالله تعالى. قال المحاسبي: حسن الخلق كظم الغيظ وإظهار الطلاقة والبشر إلا لمبتدع أو فاجر، إلا أن يكون فاجراً إذا انبسطت إليه استحق وأقلع، والعفو عن الزالين إلا في أدب وإقامة حسد، وكف الأذى عن كل مسلم ومعاهد إلا لتغيير منكر أو أخذ مظلمة لمظلوم؛ فهذا من حسن الخلق. وقيل: حسن الخلق أن لا تغير ممن يقف في الصف بجنبك. وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت حسن الخلق؟ فقال: من قيس بن عاصم المنقري، قال بينما هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادم له بسفود عليه شواء حار، فسقط من يدها فوقع على ابن له فمات فدهشت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله تعالى! وقيل: جاءت جارية لأبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقصعة من ثريد تقدمها إليه، وعنده قوم فأسرعت بها فسقطت من يدها فانكسرت فأصابه وأصحابه مما كان فيها فارتاعت الجارية عند ذلك فقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى، لعله أن يكون كفارة للروع الذي أصابك! وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا رأى أحداً من عبيده يحسن الصلاة يعتقه، فعرفوا ذلك من حسن خلقه فكانوا يحسنون الصلاة مراآة وكان يعتقهم فقيل له في ذلك فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له! وقال الفضيل: لو أن رجلاً أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين. وكان المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أرفع الدرجات: الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان وقال الكتاني الصوفي: حلق ما زاد عليك في الخلق يزيد عليك في التصوف، وقيل حسن الخلق تحمل أثقال الخلق. وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: عنوان الشرف حسن الخلق. وكان عبد الله بن محمد الرازي يقول: حسن الخلق استصغار ما منك واستعظام ما إليك. وقال سهل بن عبد الله: حسن الخلق أن لا تطمع فيما ليس لك، وليس بهذه الصفة أحد إلا الله عز وجل. وقال شاه الكرماني: علامة حسن الخلق كف الأذى واحتمال المؤن، وقيل: حسن الخلق أن تكون من الناس قريباً وفيما بينهم غريباً. وقيل: حسن الخلق احتمال المكروه بحسن المداراة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال وقال يحيى بن معاذ الرازي: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي فقال: يا هذه أصبت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق. وروى أن أبا عثمان اجتاز بسكة وقت الهاجرة، فألقي عليه من فوق سطح بيت طست رماد، فتغير أصحابه وبسطوا ألسنتهم في الملقي، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئاً، من يستحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب. وقيل لإبراهيم بن أدهم: هل فرحت في الدنيا قط؟ قال: نعم مرتين إحداهما كنت جالساً ذات يوم فجاء إنسان فصفعني، والثانية كنت قاعداً ذات يوم فجاء إنسان فبال علي. وكان أويس القرني إذا رأوه الصبيان يرمونه بالحجارة وهو يقول: إن كان فلا بد فارموني بالحجارة الصغار كي لا تدموا ساقي فتمنعوني الصلاة. وسئل سهل بن عبد الله عن حسن الخلق فقال: أدناه الاحتمال للأذى وترك المكافأة، والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه. وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا غلاماً له فلم يجبه، فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت! فقال: امض فأنت حر لوجه الله تعالى. وهذا ترى قوة إلهية يفرغها الله تعالى على المصطفين من عباده وأهل الصفوة

من أوليائه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) جرده عن حقائق البشرية وألبسه من نعت الربوبية حتى قواه على صحبتهم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم مع الذي كان يقاسيه مع كونه مستغرقاً باستيلاء الحق تعالى عليه يختص برحمته من يشاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن إلف مألوف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف. وإنما سمي آدم لأنه تألف من الجواهر والألوان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين متغاضبين: آدم الله بينكما أي ألف بينكما. ومنه سمي الأدم المأكول لأنه يؤلف الطعام ويحسنه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أراد أن يتزوج امرأة: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما أي يؤلف بينكما. وروي أن معروف الكرخي نزل االدجلة يتوضأ فوضع مصحفه وملحفته، فجاءت امرأة فأخذتهما فتبعها معروف وقال: يا أختي أنا معروف لا بأس عليك ألك ابن يقرأ؟ قالت: لا. قال: فزوج؟ قالت: لا قال: فهاتي المصحف وخذي الثوب. وروي أن أبا ذر رضي الله عنه كان على حوض يسقي إبله فأسرع بعض الناس إليه فانكسر الحوض فجلس ثم اضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا غضبنا أن نجلس، فإن ذهب عنا وإلا فنضطجع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنا لنصافح أكفاً ترى قطعها وقال أبو ذر: إنا لنبش في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم. وقال الحارث بن قيس: يعجبني من الورى كل طلق الوجه مضحاك، فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعمله فلا أكثر الله في المسلمين مثله! وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: مكتوب في الحكمة: يا بني لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك طلقاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يسلم صاحباً صالحاً يغنم. وروي أن إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه خرج إلى بعض البراري فاستقبله جندي فقال: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فأوضحه، فلما جاوزه قيل له: هذا إبراهيم بن أدهم زاهد خراسان. فجاء يعتذر إليه فقال: إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة، فقال: لم؟ قال: قد علمت أني أوجر على ذلك فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير ونصيبك مني الشر! وحكي أن أبا عثمان الجيزي دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب الدار قال: يا أستاذ ليس لي رغبة في دخولك وقد ندمت فانصرف يرحمك الله! فرجع أبو عثمان فلما وافى منزله عاد إليه الرجل وقال: يا أستاذ ندمت وأخذ يعتذر وقال احضر الساعة. فقام أبو عثمان ومضى معه فلما وافى داره قال مثل ما قال في الأولى وأخذ كذلك يعتذر، ثم كذلك في الثالثة والرابعة وأبو عثمان ينصرف ويحضر، ثم قال له: يا أستاذ إنما أردت اختبارك والوقوف على أخلاقك، وجعل يعتذر إليه ويمدحه فقال أبو عثمان لا تمدحني على خلق تجد مثله في الكلاب، والكلب إذا دعي حضر وإذا زجر انزجر! وروي أن بعض الفقراء نزل على جعفر بن حنظلة، وكان جعفر يخدمه والفقير يقول: نعم الرجل أنت لو لم تكن يهودياً! فقال أبو جعفر: إن عقيدتي لا تقدح فيما يحتاج إليه من الخدمة، فسل لنفسك الشفاء ولي الهداية. وروي أن أبا جعفر العمودي المتعبد لقيه بعض الأجناد ومعه كلب الصيد فقال له: خذ هذا الكلب وقده خلفي. فأبى فضربرأسه بالسوط حتى أوجعه فقال بعض المارين: ويحك هذا أبو جعفر العمودي العابد! فنزل عن فرسه وجعل يقبل يديه ويعتذر إليه فقال له: أنت في حل! قال إبراهيم بن الحسين: سمعت أبا جعفر العمودي ليالي عدة

الباب السادس والخمسون: في الظلم وشؤمه وسوء عاقبته

فقال: إنما أدعو بمعاريض وقد علم الله ذلك من نيتي. أما قولي أبقاك الله وتولاك فأريد به أن يبقيه الله تعالى لغرم الجزية ويتولاه بالعذاب، وأما قولي أقر الله عينك فأريد أن يقر حركتها بستر يعرض لها فلا تتحرك جفونها، وأما قولي يسرني والله ما يسرك فإن العافية تسرني كما تسره، وأما قولي جعل الله يومي قبل يومك فأريد يومك أن يجعل الله اليوم الذي أدخله فيه الجنة برحمته قبل اليوم الذي يدخل فيه النار على كفره. الباب السادس والخمسون: في الظلم وشؤمه وسوء عاقبته قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) وردت هذه الآيات الثلاث في بني إسرائيل فكل من لم يحكم بما جاء من عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كملت فيه هذه الأوصاف الثلاثة: الكفر والظلم والفسق، والكفر موقوف على خلاف العقيدة. وقال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (ابراهيم: 42) . وقال أحمد بن حضرويه: لو أذن لي في الشفاعة ما بدأت إلا بالظالمين لأني نلت منه تعزية الله تعالى في قوله ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون. وقال: ولا أغتنم سفراً لا يكون فيه من لا يؤذيني ولا يظلمني شوقاً مني لتعزية الله تعالى للمظلومين. وقال ميمون بن مهران: كفى بهذه الآية وعيداً للظالم وتعزية للمظلوم. وقال كعب الأحبار لأبي هريرة رضي الله عنه: في التوراة من يظلم يخرب بيته. قال أبو هريرة: وذلك في كتاب الله تعالى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} (النمل: 52) فالظلم أدعى شيء إلى سلب النعم وحلول النقم. وروى مسلم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه سبحانه أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار. إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكموجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، يرويه أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو إدريس إذا حدث به جثا على ركبتيه. وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الظلم ظلمات يوم القيامة. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. وروى سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين. قال أبو جعفر الطحاوي: معناه يقلب شجاعاً أقرع فيطوقه كما قال النبي

صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: يجيء ما له يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه يقول أنا مالك أنا كنزك! وكان هذا داخلاً في قوله تعالى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 180) . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغنى ظلم وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! قالوا: يا رسول الله هذا أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تأخذون فوق يده. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: ناس معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها. وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الاسراء: 16) وفي الآية تأويلان: أحدهما أنا أمرناهم بالطاعة ففسقوا أي خرجوا عن الطاعة، والثاني على قراءة المدني كثرنا عددهم وأسبغنا النعم عليهم فعصوا وبغوا. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة أي كثيرة النتاج. واعلموا أن حشرات الأرض وهوامها تلهن العصاة، وقال مجاهد: إذا أشعثت الأرض تقول البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله عصاة بني آدم! وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159) . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الحسل ليموت هزلاً بذنب ابن آدم يعني أن بذنوب الخلق يمتنع القطر فلا تنبت الأرض، فتهلك الدواب والحشرات، وسمع أبو هريرة رضي الله عنه رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا بنفسه فقال: بلى والله إن الحبارى لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الحسل. وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا فشا في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا فشا فيهم الموت، ولا أنقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم، ولا خفر قوم العهد إلا سلط عليهم العدو. وقال بعض الحكماء: اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند المقدرة قدرة الله عليك، ولا يعجبك امرؤ رحب الذراعين سفاك الدماء فإن له قاتلاً لا يموت. وروي أن بعض الملوك رقم على بساطه هذه الأبيات: لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم مصدره يفضي إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم لا شك دعوة مظلوم يحل بها دار الهوان ودار الذل والنقم وأنشدنا أبو عبد الله الدامغاني قاضي القضاة ببغداد: إذا ما هممت بظلم العباد فكن ذاكراً هول يوم المعاد فإن المظالم يوم القصاص لمن قد تزودها شر زاد وقال سحنون بن سعيد: كان يزيد بن حاتم يقول: ما هبت شيئاً قط هيبتي رجلاً ظلمته وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول حسبك الله الله بيني وبينك. وقال بلال بن مسعود: اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله. وقال أبو سليمان الداراني: لما دخل إخوة يوسف عليه السلام عليه عرفهم ولم يعرفوه. وكان على وجهه برقع فخلى كبيرهم وكان ابن خالته وقال له: بم أوصاك أبوك؟ قال: بأربع.

قال: وما هن؟ قال: يا بني لا تتبع هواك فتفارق إيمانك، فإن الإيمان يدعو إلى الجنة والهوى يدعو إلى النار، ولا تكثر منطقك في ما لا يعنيك فتسقط من عين الله، ولا تسيء بربك الظن فلا يستجيب لك، ولا تكن ظالماً فإن الجنة لم تخلق للظالمين. وبكى علي بن الفضل يوماً فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة. ولمحمود الوراق: إني وهبت لظالمي ظلمي وتركت ذاك له على علمي فرأيته أسدى إلي يداً لما أبان بجهله حلمي رجعت إساءته عليه أسى حقاً فآب مضاعف الجرم وغدوت ذا أجر ومحمدة وغدا بكسب الذنب والإثم ما زال يظلمني وأرحمه حتى رثيت له من الظلم فكأنما الإحسان كان له وأنا المسيء إليه في الحكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لما كشف الله تعالى العذاب عن قوم يونس عليه السلام ترادوا المظالم، حتى كان الرجل ليقلع الحجر من أساسه ويرده إلى صاحبه. وقال أبو ثور بن يزيد: الحجر في البنيان من غير حله عربون على خرابه. وقال غيره: لو أن الجنة وهي دار البقاء أسست على حجر من الظلم لأوشك أن تخرب، وقال الحكيم: العدل مرمة والظلم ظلمة. بالعدل تجر إليك الجوانح وبالجور تهجم عليك الجوانح. فاحذر من لا جنة له إلا الثقة بمنزل الغير ولا سلاح له إلا الابتهال إلى مقلب الدول وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: يا معشر الظلمة لا تجالسوا أهل الذكر فإنهم إذا ذكروني ذكرتهم برحمتي، وإذا ذكرتموني ذكرتكم بلعنتي. وقال أبو أمامة رضي الله عنه: يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا كان على جسر جهنم لقيه المظلوم وعرف ما ظلمه به، فما يبرح الذين ظلموا بالذين ظلموا حتى ينزعوا ما بأيديهم من الحسنات، فإن لم يجدوا حسنات حمل عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموا حتى يردوا الدرك الأسفل من النار. وفي صحيح مسلم: إن هشام بن حكيم مر بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت، قال: ما هذا؟ قالوا: يعذبون في الخراج. قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا. وأخبرني رجل ممن كان يقرأ العلم بالإسكندرية قال: كان ههنا شيخ عيناً للمساكين يدور حولهم، فرأيته في النوم بعد وفاته فقلت: من أين تجيء؟ فقال لي: لا تسأل! فأعدت عليه فقال: لا تسأل! فسألته فقال: لا تسأل من الجحيم! فقلت له: قل لي إلى أين تذهب؟ قال: إلى مثل الدار التي خرجت منها. قلت: كيف لقيت؟ قال: وماذا لقيت كأن لحمي جعل في هاون ودق حتى صار مثل المخ! وأخبرني رجل من أهل الدين والعلم قال: رأيت فلاناً البياع في النوم بعد وفاته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أنا محبوس عن الجنة. قلت: بماذا؟ قال: كنت أبيع في الدكان فيزدحم الناس علي فآخذ دراهمهم فأجعلها في فمي، وكلما تفرغت وزنتها وأعطيت كل إنسان حقه، فاختلطت في فمي الفضتان فدفعت لأحدهما فضة الآخر، وكانت أنقص من فضته بحبة، ثم حوسبت فبقي علي حبة فقلت له: فادفع له الحبة فتخلص، فجعل يقلب كفيه ويقول: من أين أدفع له؟ يكررها مرات؟

وروى أن يونس عليه الصلاة والسلام لما نبذ بالعراء وأنبت الله عليه شجرة من يقطين كان يأوي إلى ظلها، فيبست فبكى فأوحى الله تعالى إليه: أتبكي على شجرة فقدتها ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟ وقيل لابن السماك الأسدي أيام معاوية رضي الله عنه: كيف تركت الناس؟ قال: بين مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي. وقال بعض الحكماء: أفقر الناس أكثرهم كسباً من حرام، لأنه استدان بالظلم ما لا بد من رده. وقال رجل: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فذكر الحجاج فشتمته ووقعت فيه، فقال عمر رضي الله عنه: إن الرجل ليظلم بالمظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم ويسبه حتى يستوفي حقه، فيكون للظالم الفضل عليه. وقال عمرو بن دينار: نادى رجل في بني إسرائيل: من رآني فلا يظلمن أحداً فإذا رجل قد ذهب ذراعه من عضده وهو يبكي ويقول: من رآني فلا يظلمن أحداً. فسئل عن حاله فقال: بينما أنا أسير على شاطئ البحر في بعض سواحل الشام إذ مررت بنبطي قد اصطاد سبعة أنوان، فأخذت منه نوناً وهو كاره بعد أن ضربت رأسه، فعض النون إبهامي عضة شديدة ثم أكلناه فوقعت الأكلة في إبهامي، فاتفقت الأطباء على قطعها فقطعتها فوقعت في كفي ثم ساعدي ثم عضدي، فمن رآني لا يظلمن أحداً. فخرجت أسيح في البلاد وأنا أريد قطع عضدي إذ رفعت لي شجرة فأويت إلى ظلها فنعست، فقيل لي في المنام: لأي شيء تقطع عضدك؟ رد الحق إلى أهله. فجئت إلى الصياد فقلت له: يا عبد الله أنا مملوك فأعتقني! فقال: ما أعرفك. فأخبرته فبكى وتضرع وقال: أنت في حل! فلما قالها تناثر الدود من عضدي وسكن الوجع فقلت له: بماذا دعوت علي. فقال: لما ضربت رأسي وأخذت السمكة نظرت إلى السماء وبكيت وقلت: يا رب اشهد أنك عدل تحب العدل وهذا عدل منك، وإنك الحق تحب الحق وخلقتني وخلقته وجعلته قوياً وجعلتني ضعيفاً، فأسألك بالذي خلقتني وخلقته أنتجعله عبرة لخلقك. وقال معاوية: إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على الانتقام، وإن أنقص الناس عقلاً من ظلم من دونه. وقال بعض الحكماء: الظلم على ثلاثة أوجه: ظلم لا يغفره الله عز وجل، وظلم لا يتركه الله تعالى، وظلم لا يعبأ الله سبحانه وتعالى به شيئاً فأما الظلم الذي لا يغفره الله تعالى فهو الشرك به، وأما الظلم الذي لا يتركه الله تعالى فمظالم العباد بعضهم بعضاً، وأما الظلم الذي لا يعبأ به فظلم العبد بينه وبين الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: من ظلم رجلاً مظلمة ففاته أن يخرج منها فاستغفر الله دبر كل صلاة له رجوت أن يخرج من مظلمته. وقال يوسف بن أسباط: توفي رجل من الحواريين فوجدوا عليه وجداً شديداً وشكوا ذلك إلى المسيح عليه السلام، فوقف على قبره ودعا فأحياه الله تعالى وفي رجليه نعلان من نار، فسأله عيسى عليه السلام عن ذلك فقال: والله ما عصيت قط إلا أني مررت بمظلوم فلم أنصره فتنعلت هاتين النعلين! وأنا أوصيك إذا فعلت بأحد مكروهاً فادع الله تعالى له واستغفر له كما فعل موسى عليه السلام لما آذى هارون عليه السلام وأخذ برأسه ولحيته، ثم تبين له براءته وأن بني إسرائيل غلبوه عليه وعلى عبادة العجل، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف: 151) . وروي أن قوم لوط عليه السلام كانت فيهم عشر خصال فأهلكهم الله عز وجل بها: كانوا يتغوطون في الطرقات وتحت الأشجار المثمرة وفي المياه الجارية وفي شواطئ الأنهار، وكانوا يحذفون الناس بالحصى فيعورونهم، وإذا اجتمعوا في المجالس أظهروا المنكر بإخراج الريح منهم، وكانوا يرفعون ثيابهم قبل أن يتغوطون، ويأتون بالطامة الكبرى

الباب السابع والخمسون: في تحريم السعاية والنميمة وقبحهما وما يؤول إليه أمرهما من الأفعال الرديئة والعواقب الذميمة

وهي اللواط؛ قال الله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (العنكبوت: 29) والنادي المجلس، ويلعبون بالحمام ويرمون بالجلاهق وضرب الدف وشرب الخمور، وقص اللحية وتطويل الشارب والتصفيق ولبس الحمرة، وتزيد عليهم هذه الأمة بإتيان النساء بعضهن لبعض وإنما حملهم على إتيان الرجال أنهم كانت لهم ثمار كثيرة في منازلهم وحوائطهم، فأصابهم قحط وقلة من الثمار فقالوا: بأي شيء نمنع ثمارنا حتى لا يطرقها أحد من الناس؟ فاصطلحوا على أن من وجدوه فيها نكحوه وغرموه أربعة دراهم، ففعلوا وما سبقهم بها أحد من العالمين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بدو الفاحشة فيهم أنهم هموا بذلك فجاءهم إبليس اللعين في هيئة صبي أجمل ما يكون وأكمل شيء، فراوده الناس ونكحوه واجترءوا على ذلك وقال أبو العتاهية في الظلم: أما والله إن الظلم لؤم وإن الظلم مرتعه وخيم تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم تروم الخلد في دار المنايا وكم قد رام غيرك ما تروم إلى ديان يوم الدين تمضي وعند الله تجتمع الخصوم سل الأيام عن أمم تقضت فتخبرك المعالم والرسوم وروي أن أنوشروان كان له معلم حسن التأديب فعلمه حتى فاق في العلوم، فضربه المعلم يوماً من غير ذنب فأوجعه فحقد أنوشروان عليه، فلما ولي الملك قال له: ما حملك على ما صنعت من ضربي يوم كذا وكذا ظلماً؟ قال له: لما رأيتك ترغب في العلم رجوت لك الملك بعد أبيك، فأحببت أن أذيقك طعم الظلم لئلا تظلم إذا وليت. فقال له أنوشروان: زه زه! وقال عبد الرحمن: جمع زياد بن أمية الناس بالكوفة في إمارته عليهم، ليحرضهم على لعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه والبراءة منه، فملئ منهم المسجد والرحبة والقصر وكان على الناس يوماً عظيماً، قال: وكنت في القوم فأغفيت إغفاءة ومعي أناس من أصحابي من الأنصار، فرأيت في منامي شيئاً قد أقبل طويل العنق أهدب، فأفزعني منظره فقلت له: من أنت؟ قال: أنا النقار ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر! فاستيقظت فزعاً فأخبرت أصحابي بالذي رأيته فوالله ما كان ريث حلب ناقة، وأنا في الحديث، إذ خرج علينا صاحب زياد فقال: أيها الناس انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، فإذا هو قد ضربه الله سبحانه بالفالج في تلك الساعة. وروي أن عبد الله بن مصعب الزبيري سعى إلى الرشيد يحيى بن عبد الله بن حبيب الحسن بن الحسن السبط الطالبي عليه السلام، فجمع الرشيد بينهما فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لقد قال في باطلا وأنا استحلفه. قال عبد الله أنا أحلف. فقال له: قل نقلت الحول والقوة دون حول الله وقوته إلى حولي وقوتي إن لم أكن صادقاً فيما أدعيته عليك، فتلجلج وامتنع عن اليمين، فغضب الرشيد وقال له: إن كنت صادقاً فاحلف! فحلف بهذه اليمين فقال يحيى: الله أكبر لا يحلف بها أحد كاذباً إلا عوجل. فأخذ في يومه وضربه الله بالجذام وسود وجهه وبدنه. قال سليمان بن جعفر: لقد دخلت عليه في اليوم الثالث من بليته قبل وفاته بيوم، فوالله ما عرفته وجدته كالزنجي وقد تقطع جذاماً! وروي أن مالك بن دينار دخل على بلال بن أبي بردة فقال له بلال: ادع الله لي يا أبا يحيى. قال: وما ينفعك دعائي وبالباب مائتان يدعون عليك؟ ومثل ذلك قول سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ادع لي. فقال: أنا أدعو الله لك ههنا، ومظلوم بالباب يدعو الله عليك فأي الدعوتين أحق بالإجابة؟ وكان سديف مولى بني هاشم يقول في دعائه: اللهم قد صار فيئنا دولة بعد القسمة وإمارتنا غلبة بعد المشورة، وعهدنا ميراثاً بعد الاختيار للامة، واشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة، وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة. اللهم قد استحصد زرع الباطل وبلغ نهيته واستجمع طريده، فأتح له من الحق يدا حاصدة تبدد شمله وتفرق أمره، ليظهر الحق في أحسن صورة وأتم نور. وقال شوذب: قال عمر بن عبد العزيز: يذكر الظلمة الوليد بالشأم والحجاج بالعراق وقرة بن شريك بمصر، وعثمان بن حبان بالحجاز ومحمد بن يوسف باليمن، امتلأت والله الأرض جوراً! فأما ظلم الوليد فقال عبد الرحمن بن محمد الأنصاري: رأيت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم وعليها المسوح السود، فلما قدم الوليد المدينة نظر إلى أبيات النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بالها يدخلها الجنب والحائض؟ اهدموها، فهدموها، وقال حبيب بن عبد الله بن الزبير عمد إلى آية من كتاب الله كنا ننظر إليها فمحاها، فبلغت كلمته الوليد فكتب إلى خليفته: أقم حبيبا على باب المسجد فاضربه مائة سوط، ثم أقمه على البئر ينزع بالبكرة وكان في يوم شديد البرد فمات، وقال الشعبي: دخلت على يزيد بن هبيرة فوالله لقد أردت كلمة أرضي بها أمير المؤمنين ولا أسخط بها خالقي، فما قدرت عليها. ونظر الرجل إلى أبي يوسف القاضي وعليه خلعة الرشيد فقال: جئتك لآخذ عنك ديني فإذا أنت في زي قارون! وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: إذا لم تكن ظالماً فلا تصحب الظالمين فتهون في عيني. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكون في آخر الزمان قوم ينهون عن إتيان الولاة ولا ينتهون، يباعدون الفقراء ويقربون الأغنياء وينقبضون عند الحقراء، وينبسطون عند الكبراء، أولئك الجبارون أعداء الرحمن! وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم. وروي أن عيسى عليه السلام بينما هو في سياحته إذا بفارس قد نزل على شاطئ نهر، فأكل وشرب ثم ركب وانصرف ونسي كيساً كان معه، فأقبل صبي فأخذ الكيس ومضى، ثم أقبل شيخ فتوضأ وصلى ونام، فذكر الفارس الكيس فرجع فأيقظ الشيخ من نومه وسأله عن الكيس، فأنكر أن يكون وجد شيئاً فانتزع سيفه فقتله. فقال عيسى عليه السلام: يا أكرم الأكرمين الصبي أخذ الكيس وقتل الشيخ. فأوحى الله إليه: إن أبا الفارس ظلم أبا الصبي على الكيس والشيخ قتل أبا الفارس. وأنشدوا: يا ذا الذي ليس له زاجر عن ظلم أمثاله ولا ناهي إني لمن قوم إذا أوعدوا توعدوا للوعد بالله! الباب السابع والخمسون: في تحريم السعاية والنميمة وقبحهما وما يؤول إليه أمرهما من الأفعال الرديئة والعواقب الذميمة قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ*هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ*عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ} (القلم13: 10) . فذكر الله عز وجل في القرآن العزيز أصناف أهل الكفر والإلحاد وأهل اللمز والفسق والظلم وأشباههم، ولم يسب سبحانه أحداً منهم إلا النمام في هذه الآية، وحسبك بها خسة ورذيلة وسقوطا وضعة. وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة في أصح الأقوال، والهماز: المغتاب الذي يأكل لحوم الناس الطاعن فيهم، وقال الحسن البصري: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس وهو الهمزة اللمزة. والعتل في اللغة: الغليظ الجافي، وأصله من المعتل وهو الدفع بقوة وعنف. وقال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهما: العتل الفاحش السيء الخلق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: العتل الغليظ الشديد المنافق. وقال عبيد بن عمير: العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة. وقال بنان: هو الجافي القاسي اللئيم العسر. وقال مقاتل: العتل الضخم: وقال الكلبي هو الشديد في كفره وكل شديد عند العرب عتل. وقيل: العتل الشديد الخصومة بالباطل. والزنيم: وهو الدعي الذي لا يعرف من أبوه؛ قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: وذاك زنيم نيط من آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح القرد وقال غيره: زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم وقال أكثر النقلة: هذا رجل إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة وعن هذا قول القدماء: لا يكون

نماما إلا وفي نسبه شيء. وسعى رجل إلى بلال بن أبي بردة برجل، وكان أميراً على البصرة فقال: انصرف حتى أكشف عن أمرك. فكشف عنه فإذا هو ابن بغي يعني ولد زنا. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لا يبغي على الناس إلا ولد بغي. وقيل: الزنيم الذي له زنمة في عنقه يعرف بها كما تعرف الشاة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما وصفه الله عز وجل بتلك الخلال المذمومة لم يعرف حتى قيل زنيم، فعرف لأنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها، ومن ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقونه تعظيماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ففزع ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: منعوني صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثم كشف عن أمرهم فوجد ما قاله كذباً، فنزلت هذه الآية وسماه الله تعالى فاسقاً. ومن ذلك قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) . فشرك الله تعالى بين السامع والقائل في القبح وساوى بينهما في الذم، فكان فيه تنبيه على أن السامع نمام في الحكم. وأما ما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى مسلم في الصحيح عن هشام قال: كنا مع حذيفة فقيل له إن ههنا رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة قتات، وفي لفظ آخر نمام. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: شراركم المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون العيوب. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ملعون ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كل شغاز ملعون كل قتات، ملعون كل منان. والشغاز: المحرش بين الناس يلقي بينهم العداوة والقتات: النمام والمنان الذي يعمل الخير ويمن به. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبري من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين وغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا وذلك لبركة يده صلى الله عليه وسلم. وأما السعاية إلى السلطان أو إلى كل ذي قدرة ومكنة، فهي المهلكة والحالقة لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة ولؤم النميمة التغرير بالنفوس والأموال، والقدح في المنازل والأحوال وتسلب العزيز عزه وتحط المكين عن مكانته والسيد عن مرتبته، فكم من دم أراقه سعي ساع وكم حريم استبيح بنميمة نمام، وكم من صفيين تقاطعاً ومن متواصلين تباعداً، ومن محبين تباغضاً ومن إلفين تهاجراً ومن زوجين افتراقاً، فليتق الله ربه رجل ساعدته الأيام وتراخت عنه الأقدار أن يصغي لساع أو يستمتع لنمام. روى ابن قتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجنة لا يدخلها ديوث ولا قلاع. فالديوث الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم. والقلاع الساعي الذي يقع في الناس عند الأمراء لأنه يقصد الرجل المكين عند السلطان فلا يزال يقع فيه حتى يقلعه. وقال كعب: أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى عليه الصلاة والسلام، فخرج موسى ليستسقي ببني إسرائيل فلم يسقوا ثم خرج الثانية فلم يسقوا ثم خرج الثالثة فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى إني لا أستجيب لك ولا لمن معك، فإن فيكم نماماً، فقال موسى: يا رب من هو حتى

نخرجه من بيتنا؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أنهاكم عن النميمة وآيتها فأكون نماماً فتابوا فأرسل الله تعالى عليهم الغيث. ولما لقي أسقف نجران عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين احذر قاتل الثلاثة. قال: ومن قاتل الثلاثة؟ قال: الرجل يأتي الإمام بالحديث الكذب فيقبله الإمام، فيكون قد قتل نفسه وصاحبه وإمامه، فقال عمر رضي الله عنه: ما أراك أبعدت. ووجدنا في حكم القدماء أبغض الناس إلى الله عز وجل المثلث. قال الأصمعي: هو الرجل يسعى بالنميمة في أخيه إلى الإمام فيهلك نفسه وأخاه وإمامه. وذكر الرجل السعاة عند المأمون فقال: لو لم يكن من عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكون أبغض ما يكون عند الله عز وجل. وقال حكيم الفرس: الصدق زين على كل أحد إلا السعاية، فإن الساعي أذم وآثم ما يكون إذا صدق. ولله در الإسكندر حين وشى إليه واش برجل فقال له الإسكندر: إن شئت قبلناك على صاحبك بشرط أن نقبله عليك، وإن شئت أقلناك. قال: أقلني. قال: قد أقلناك، كف عن الشر يكف عنك الشر. وروي أن رجلاً سعى بجار له عند الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أما أنت فتخبرنا أنك جار سوء فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقاً أبغضناك وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت تركناك. قال: فاتركني يا أمير المؤمنين. فقال: قد تركناك! ومن أعجب العجب أن الرجل يشهد عندك في تافه بقل فلا تقبله حتى تسأل عنه: هل هو من أهل الثقة والعدالة والصيانة أم لا؟ ثم ينم عندك بحديث فيه الهلاك وفساد الأحوال فتقبله. وقال يحيى بن زيد: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما لما سقي السم: أخبرني من سقاك. فدمعت عيناه وقال: أنا في آخر قدم من الدنيا وأول قدم من الآخرة، أتأمرني أن أغمز؟ وقال رجل للمهدي: عندي نصيحة يا أمير المؤمنين. قال: لمن نصيحتك هذه ألنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين. قال مهدي: ليس الساعي بأعظمهم عورة ولا بأقبح حالاً ممن قبل سعايته، ولا يخلوا من أن تكون حاسد نعمة فلا يشفى لك غيظك، أو عدوا فلا يعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس وقال: يا أيها الناس لا ينصح لنا ناصح إلا بما لله فيه رضى وللمسلمين فيه صلاح. وروي أن رجلاً سعى برجل إلى الفضل بن سهل فوقع على ظهر كتابه: نحن نرى قبول السعاية أسوأ من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وجاز لأن من فعل أشر ممن قال. وروي أن رجلاً رفع إلى المنصور نصيحة فوقع على ظهرها: هذه النصيحة لم يرد بها وجه الله تعالى، ولا جواب عندنا لمن آثرنا على الله تعالى. وروي أن رجلاً قال للمأمون يا أمير المؤمنين الله الله في أصحاب الأخبار فإنهم قوم إذا أعطوا مدحوا، وإن حرموا ذموا وهم كاذبون! فقال المأمون: لله درها من كلمة ما أصدقها وأبين فضلها! وأمر أن يثبت في ديوان أصحاب الأخبار. قال مروان ابن زنباع العبسي: يا بني عبس احفظوا عني ثلاثاً: من نقل إليكم نقل عنكم، وإياكم والتزويج في البيوت السوء، واستكثروا من الصديق ما استطعتم، واستقلوا من العدو ما استطعتم فإن استكثاره ممكن. وقال بعض الحكماء: احذروا أعداء العقول ولصوص المودات، وهم السعاة والنمامون إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات. وقال حكيم العرب: إياك والسعاة فإنهم أعداء عقلك ولصوص عدلك فيفرقون بين قولك وفعلك وفي المثل السائر: من أطاع الواشي ضيع الصديق، وقد تقطع الشجرة بالفؤوس فتنبت ويقطع اللحم بالسيف فيندمل

الباب الثامن والخمسون: في القصاص وحكمه

واللسان لا يندمل جرحه، وأحق الناس برعاية ما رسمته من هذه الخلال، ونقلته من هذه الحكم واستودعته من هذه السيرة من آتاه الله عز وجل سلطاناً ومكن له في الأرض، فذو القدرة إذا أطاع الواشي أهلك العالم. وكان بعض الحكماء يقول: من أراد أن يسلم من الإثم وتبقى له الإخوان فيجعل نفسه بينه وبينهم قاضياً عدلاً ويحكم بالحق، ولا يقبل أحداً في أحد ولا في نفسه إلا بشهود وتعديل، فإنا قد أحببنا بقول أقوام وأبغضنا بقول آخرين، فأصبحنا على ما فعلنا نادمين. ومن لطيف حكمة الله تعالى في النميمة: لما علم عز وجل شؤمها واستطارة شرها وعموم مضرتها في الورى، حكم بفسق النمام حتى لا يقبل له قول فيستريح الخلق من شره وقال ابن عمر رضي الله عنهما: وفد الحاج وفد الله ووفد الشيطان قوم يرسلهم السلطان إلى الناس ويسألهم عن حالهم، فيخبرونه أنهم راضون وليسوا براضين. واعلموا أن الله تعالى خلق الإنسان على أنحاء شتى لسنا نذكرها الآن لكثرتها وطول تتبعها، فخلق الله تعالى له الحواس الشريفة والأعضاء النافعة الرئيسة، فمن أفضل ما ركب في اللسان الذي هو آلة النطق والبيان، وبه فصل بينه وبين البهائم ثم فضله على سائر الحيوان وامتن به عليه في أول سورة الرحمن فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْأِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن4: 1) . وخلق فيه أيضاً أعضاء تذل وتستهان وجعلها مجرى لفضول الطعام والشراب، فمن تتبع سقطات الكلام وتروى عثرات الأنام التي هي كالعورات الواجب سترها ودفنها، كان قد استعمل أشرف الآلات في أخس المستعملات، فصار كمن يلحس بلسانه سؤة أخيه إذ جعل أكرم جوارحه لاحساً لأدناس المستعرضين، ورضي أن يقع من الناس موقع الذباب من الطير يتتبع نغل الجسد ويتحامى صحيحه، وقد كان له في نشر المحاسن شغل، ولكن أهل كل ذي حال أولى بها. وفي هذا سبق المثل: إن لم تكن ملحاً تصلح فلا تكن ذباباً تفسد، ومن لم يقدر على جمع الفضائل فلتكن همته ترك الرذائل، وإذا تتبع الإمام عورات الناس أفسدهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بالخروج يوماً فشعر بأناس من أصحابه يضحكون فامتنع من الخروج إليهم حذراً أن لا يفسد قلبه عليهم. ولو علم الذي يستمع أخبار الناس ماذا جنى على نفسه لعلم أن الصمم كان أهنأ لعيشه وأنعم لباله من سماع الأخبار، فإذا علم نقلة الأخبار نفاقها عنده حملوا إليه الصدق والكذب، فيكون في سماع الكذب ممن قال الله تعالى فيهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) . ويكون في سماع الصدق حمالاً للهم حرج الصدر على الخلق، معادياً لهم متتبعاً لعثرات الخلق وخزاناً لسقطاتهم، وقد وعى منهم ما يجب ستره وحفظ ما يجب نسيانه، ثم لا يستطيع الانتصاف من كل قائل لأنه إن كان ذا قدرة أهلك الرعية، ولا يستطيع أن يهلك جميع الرعية وإن كان سوقه لم يشف غيظه، ثم أفسد أحواله وأبغض من يجب أن يحب وأحب من يجب أن يبغض، فلا يزال يتحمل الحائف وتزيد الأحقاد والضغائن ويرصد لكل قائل يوماً يشفى صدره فيه، فما أغنى العاقل عن سماع هذه البلية. ولله در عمرو بن العاص رضي الله عنه إذ لا جاه رجل يوماً وقال له: أما والله إن عشت لأتفرغن لك! فقال له عمرو: والآن وقعت في الشغل يا ابن أخي والسلام. الباب الثامن والخمسون: في القصاص وحكمه قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) . يغني إذا علم القاتل والفاتك أنه

يقتص منه أحجم ولم يقدم على الفعل، فيكون في ذلك سبب حياته وحياة الذي هم به وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه؛ وهذا حديث صحيح رواه البخاري: فإن قيل: يعارضه قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) . فكيف يؤخذ الظالم بذنب ركبه المظلوم؟ قلنا: معنى الآية أنه لا يعاقب أحد بذنب أحد ابتداء، وأما في مسألتنا فمظلمة بقيت عنده وليس له وفاء بها فهو الذي اكتسب هذا الوزر وهو المعنى بقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت: 13) . وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة منه لمنزله في الدنيا. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته: من كانت له عندي مظلمة فليأت حتى أقصه من نفسي. فقام سواد بن غزية فقال: يا رسول الله إنك ضربتني على بطني ليلة العقبة فأوجعتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فاقتص. فقال يا رسول الله إنك ضربتني وأنا مكشوف البطن، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم بطنه، فإذا هي كالقباطي يعني ثياب مصر، فأكب عليه يقبله فقال: يا سواد ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله دنا لقاء هؤلاء المشركين فأردت أن يكون آخر العهد بك أن أقبل بطنك. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لعلمه أن الله تعالى لا يدع القصاص في المظالم بين العباد، لأن الله تعالى أعدل من أن يدع مظلمة لأحد عند نبي ولا غيره. وفي الحديث: يقول الله تعالى يوم القيامة: أنا ظالم إن فاتني ظلم ظالم. ويروى أن داود عليه السلم يقدمه خصمه إلى الله تعالى يوم القيامة فيقضي له عليه، فيدفعه إلى أوريا ثم يستوهبه الله تعالى من أوريا، ثم يعوض أوريا على ذلك الجنة. وقال حبيب: دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه فوجد غلامه يعلف ناقة له، وإذا في علفها شيء فأخذ بأذنه فعركها ثم ندم فقال للغلام: قم فاقتص مني! فأبى الغلام فلم يزل به حتى قام فأخذ بأذنه ثم قال له: اعرك اعرك، وهو يقول شد شد حتى عرف عثمان أنه بلغ منه ثم قال: واهاً لقصاص الدنيا قبل قصاص الآخرة! وروى عوف بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا خادماً فلم يجيه أو كان نائماً، فقال النبي صلى الله لولا القصاص لأوجعتك ضرباً. وروى ابن وهب في موطاه عن ابن شهاب قال: وقد أقاد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده رضي الله عنهما من أنفسهم ليستن بهم، ولم يتعمدوا حيفاً وكانوا سلاطين. وفي صحيح مسلم: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من خطاياهم فطرحت عليه ثم ألقي في النار، قال مالك رحمه الله: وبلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة ضرب رجلاً ثم ندم وقال: مالي ولهذا ألا رددتها عليهم؟ فسمعته عائشة رضي الله عنها فأرسلت إلى

عمر رضي الله عنه، فجاءه عمر فقال له: إني قد ضربت رجلاً وقد كنت معافى من هذا أن أضرب أحداً، فقال له عمر رضي الله عنه كذلك الإمام. قال: فما المخرج؟ قال: أن نأتي الرجل فنسأله أن يجعلك في حل. فأتياه فاستحلاه. دلت الآثار على أن الأمير والمأمور في القصاص سواء، إذا جنى أحدهما على الآخر، وإن الأمير إذا ظلم المأمور زال تأمره عليه في ذلك المعنى، وكان الأمير في ذلك المعنى كبعض المؤمر عليهم حتى يتحاكموا إلى السلطان الأعظم. وكان عمر رضي الله عنه يقول: إنما بعثت أمرائي ليعلموا الناس دينهم ويقسموا بينهم فيئهم ويعدلوا فيهم، ولم أبعثهم ليضربوا أبشارهم ويحلقوا أشعارهم، فمن ظلمه أميره فلا إمرة له عليه، ذروني حتى آخذ له بحقه. فقال عمرو بن العاص: الله الله يا أمير المؤمنين! إن أدب رجل رجلاً من رعيته يقتص له منه؟ فقال عمر: أنا أقتص منه. وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. فأما القصاص بين البهائم فاختلف الناس في جشرها وفي جريان القصص بينها. فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول حشرها موتها قال: وحشر كل شيء الموت إلا الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة. وقال معظم المفسرين: إنها تحشر ويقتص منها. وقال أبي بن كعب: تحشر البهائم. وقال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما من دابة في الأرض إلا ستحشر يوم القيامة، ثم يقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً واقرؤوا إن شئتم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إلى قوله {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الأنعام: 38. وقال أبو الحسن الأشعري: لا يقطع بإعادة البهائم والمجانين ومن لم تبلغه الدعوة، ويجوز أن يعادوا ويدخلون الجنة، ويجوز أن لا يعادوا. والدليل على ثبوت الإعادة في الجملة قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (التكوير: 5) . وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38) . وروى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى إن الشاة الجلحاء لتقاد من الشاة القرناء. وقال أبو ذر رضي الله عنه: انتطحتا شاتان عند النبي صلى الله علي وسلم فقال: أتدري فيم انتطحتا؟ قلت: لا أدري، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما، فقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال أبو ذر: إن الحجر ليسأل عن نكبة إصبع الرجل. وفي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليأتي أحدكم على رقبته بعير لها رغاء، على رقبته بقرة لها خوار، على رقبته شاة تيعر ثم يبسط لها بقاع قرقر فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مرت عليه أولاها عادت أخراها والحديث وارد في مانع الزكاة. قال أبو الحسن: لا تجري المقاصصة بين البهائم لأنها غير مكلفة ولا يجري عليها القلم. قال: وما ورد في ذلك من الأخبار نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقتص للجماء من القرناء ويسأل العود لم خدش العود) فعلى سبيل المثل والإخبار عن شدة التقصي في الحساب وأنه لا بد أن يقتص للمظلوم من الظالم. وأبى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني. قال في الجامع الجلي: يجري القصاص بينها، قال: ويحتمل أنها كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا فلهذا جرى فيه القصاص. قلت: وكلام الأستاذ له وجه في الصحة لأن البهيمة تعرف النفع والضر، فتنفر من العصا وتقبل العلف، وينزجر الكلب إذا زجر ويستأسد إذا شلي، والطير والوحش يفر من الجوارح استدفاعاً لشرها، ثم إنهم لم يجر عليهم القلم في الدنيا وإنما يرفع القلم عنها في الأحكام. فإن قيل: القصاص انتقام وهو جزاء على جناية وقعت مخالفة للأمر، والبهائم ليست بمكلفة ولا لها عقول ولا جاءها رسول، والعقول عندكم لا يجب بها شيء على العقلاء فضلاً عن البهائم وفي هذا انفصال عن قول الأستاذ أبي إسحاق إنها

الباب التاسع والخمسون: في الفرج بعد الشدة

كانت تعقل هذا القدر إذ لا يجب بالعقل شيء ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: 15) . فالجواب: إنها ليست مكلفة لأنه من ضرورة التكليف أن يعلم الرسول والمرسل، وذلك من خصائص العقلاء وهم الثقلان، فإذا لم يكونوا مكلفين كانوا في المشيئة يفعل الله بهم ما أراد، كما سلط عليهم في الدنيا الإستسخار والذبح فلا اعتراض عليه، ولله تعالى أن يفعل في ملكه ما أراد من تنعيم وتعذيب، وإذا جاز أن يؤلم البهيمة ابتداء جاز أن يؤلمها بعد جنايتها. والآية محمولة على من يعلم الرسول والمرسل، ويجوز أن الله تعالى خلق لها العلم الضروري بالعلم من ذلك، ثم إن لم يجر عليها القلم في الدنيا فإنما رفع عنها في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به. وقد روى البخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام. فهذه عجماه عوقبت على سوء صنيع جنسها. وفيه دليل على أن الله تعالى يعذب بملكه لا بالمعصية. وقد ضرب موسى عليه السلام الحجر الذي فر بثوبه وبنوا إسرائيل ينظرون عورته؛ رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضربه بعصاء والحجر يفر وموسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر! قال أبو هريرة: فوالذي نفسي بيده إنه ندب الحجر ستة أو سبعة. وروى في تفسير قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة: 24) . إنها الحجارة التي نكبت الناس في الدنيا وروي أن المسيح عليه السلام مر بجبل فسمع أنينه فسأله عن ذلك، فقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فلا أدري أكون من تلك الحجارة أم لا. وقد تأول بعضهم قول ابن عباس رضي الله عنهما "حشرها موتها" تحشر لضرب من القصاص بينها ثم تصير تراباً. قلت: وتأويل ابن عباس رضي الله عنهما بعيد، لأن الحشر وليس في موتها جمعها بل فيه تفرقتها وتفرقة أجزائها ثم قال إلى ربهم يحشرون، وإنما يكون الحشر إلى الرب تعالى بإعادة الحياة إليها وجمعها إلى ربها جل وعلا. الباب التاسع والخمسون: في الفرج بعد الشدة قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} (الشورى: 28) وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (النمل: 62) وقال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح: 6) . وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا فقد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين! وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر، لن يغلب عسر يسرين، ومعنى الآية أنه لما عرف العسر ونكر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفاً ثم أعادته فهو هو، وإذا نكرته ثم كررته فهو اثنان. وقال بعضهم: إن يكن نالك الزمان ببلوى عظمت عندها الخطوب وجلت وتلتها قوارع ناكبات سئمت دونها الحياة وملت فاصطبر وانتظر بلوغ مداها فا لرزايا إذا توالت تولت وإذا أوهنت قواك وحلت كشفت عنك حمله فتجلت وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل عليه السلام، اتخذت منطقاً لتخفي أثرها عن سارة ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلاء المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعها هناك ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم صلى الله عليه وسلم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت

له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية بحيث لا يرونه استقبل البيت بوجهه، ثم رفع يديه ودعا بهذه الدعوات فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (ابراهيم: 37) حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} . وجعلت أم إسماعيل عليه السلام ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى نفد ما في السقاء، فعطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه! تريد نفسها فسمعت أيضاً فقالت: قد سمعت إن كان عندك غياث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو يقال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف لكانت عيناً معيناً. قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيت الله عز وجل، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله عز وجل لا يضيع أهله. ومنه قصة الثلاثة الذين خلفوا، وذلك أن كعب ابن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية تخلفوا عن غزوة تبوك، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لنا الأرض بما رحبت فما نعرفها، وكنت أطوف في الأسواق وأشهد الصلاة مع المسلمين ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فلما تمت خمسون ليلة من يوم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، صليت صلاة الفجر وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها الله عز وجل قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، وما كان شيء أهم علي من أن أموت على تلك الحال، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت النبي صلى الله عليه وسلم، فأكون بين الناس بتلك المنزلة لا يكلمني أحد ولا يصلي علي. فأنزل الله تعالى توبتنا فسمعت صوت صارخ من أعلى الجبل: يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجداً لله تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج، فخلعت ثوبي على الصارخ ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وهو يبرق وجهه من السرور، وقال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! فقلت: يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. وروي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما شب ودرج في موضع ربي فيه، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً يقال أنه رأى الزهرة قال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} (الأنعام77: 76) بعد طلوع الفجر {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} فلما أصبح و {رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ*وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ

وَقَدْ هَدَانِ} يعني إلى الإسلام {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 76-80) . قالوا: يا إبراهيم أما تخاف من آلهتنا أن تصيبك بسوء لا تقوم به إن أنت سببتها وعبتها؟ قال: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. وكان آزر يصنع أصناماً يعبدها قومه ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيكسرها ويذهب بها إلى نهر لهم فيلقيها فيه على رؤوسها ويقول لها اشربي استهزاء بها وإظهاراً لقومه فساد ما هم عليه، ففشا ذلك عندهم من غير أن يبلغ ذلك إلى نمرود. فأول ما نادى في قومه أن نظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم، يعني من الغيظ عليهم وعلى أصنامهم، فظنوا أنه مطعون وكانوا يفرون من الطاعون إذا سمعوا به، فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم، فدخل عليها وقد وضعوا لها طعاماً وشراباً، فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين، وكسرها وقطع أيديها وأرجلها حتى جعلها جذاذاً وأراق طعامها وشرابها، وعمد إلى الفأس فعلقها في يد إلههم الكبير ثم خرج عنها وتركها جذاذاً، فلما رجع قومه من عيدهم دخلوا بيت أصنامهم، فلما رأوا ما صنع بها راعهم ذلك وأعظموه وقالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين؟ قال بعضهم لبعض: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم أي سمعناه يسبها ويستهزئ بها. فقال نمرود: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. فلما أتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون. إنا قد ظلمناه بما نسبنا إليه ثم قالوا قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. قال: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون! فقال له نمرود لما سمع ذلك منه: صف لي إلهك الذي تعبد وتدعو إلى عبادته. قال إبراهيم: إن ربي الذي يحيى ويميت. قال نمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف ذلك؟ قال: آخذ رجلين استوجبا القتل في حكمتي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون أحييته. فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إن كنت صادقاً فأحي الذي قتلت بزعمك وأخرج روحاً من جسده من غير أن تقتله إن كنت صادقاً. وإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت عند ذلك نمرود ولم يرد إلى إبراهيم شيئاً وأمر به إلى السجن، فلبث فيه سبع سنين وجعل يدعو أهل السجن إلى الله تعالى وإلى الإسلام، حتى ظهر أمره وفشا وتبعه قوم كثير على دينه، فلما أرادوا أن يحرقوا إبراهيم وأجمع أمرهم على ذلك بنوا له جسراً طول جداره ستون ذراعاً ووضعوه إلى سفح جبل منيف لا يرام ولا يرقى، وبلطوا الجدار فلا يمشي فيه شيء إلا زلق عنه وأذن مؤذن نمرود: أيها الناس احتطبوا لنار إبراهيم ولا يتخلفن عنها ذكر ولا أنثى ولا حر ولا عبد ولا شريف ولا وضيع، ومن تخلف عن ذلك ألقي في تلك النار. فعملوا في ذلك أربعين ليلة حتى إن المرأة منهم تنذر على نفسها نذراً إن رجع غائبها أو أفاق عليلها لتحتطبن لنار إبراهيم، حتى إذا كمل ذلك قذفوا به إلى النار حتى إنه كان يسمع وهج النار على المسافة البعيدة، فلما بلغ ذلك وضع إبراهيم في كفة المنجنيق. قال وهب بن منبه رضي الله عنه: بلغني أن السماء والأرض والبحار وما فيها ضجوا إلى الله تعالى ضجة واحدة وقالوا: يا ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته. فأوحى الله تعالى إليهم: إن استغاث بكم فانصروه وأعينوه، وإن دعاني فأنا

وليه وناصره. فلما وضع في كفة المنجنيق وقذفوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم إنك تعلم إيماني بك وعداوة قومي فيك فانصرني عليهم ونجني من النار فأوحى الله تعالى إلى النار أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. فأطاعت النار ربها عز وجل، ولو لم يقل وسلاماً لمات من شدة البرد. ولبث إبراهيم عليه السلام في النار سبعة أيام فظن قومه أنه قد أحرق. ثم قال نمرود: انظروا ماذا فعل إبراهيم فإني رأيت الليلة في نومي أن جدار هذا الجسر قد انهدم، وخرج إبراهيم يمشي وذاب النحاس الذي سد به باب الجسر واحترق الجدار فصار رماداً، فاطلعوا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوجدوه صحيحاً سليماً، وخرج الناس ينظرون إليه على تلك الحالة. فلما رآهم خرج يمشي حتى قعد إلى أمه وهي في الجمع، وأقبلت سارة وكانت أول من آمن به حتى جلست إليه وقالت: يا إبراهيم إني آمنت بالذي جعل النار عليك برداً وسلاماً، فقالت لها أم إبراهيم: احذري القتل على نفسك. فقالت: إليك عني فإني لا أخاف شيئاً وقد آمنت برب إبراهيم. وحول إبراهيم جمع من الناس لا يحصى عددهم يأتمرون به ليجددوا له عذاباً، فأرسل الله ريحاً عاصفاً فنسفت رماد تلك النار في وجوههم وعيونهم ففروا عنه، وقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله تعالى ومذكراً به. وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: إن نبي الله سليمان عليه السلام انطلق إلى الحمام ومعه جني يقال له صخر، ولم يكن سليمان عليه السلام يدخل الخلاء بخاتمه، فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر، فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان عليه السلام منه، وألقي على الشيطان شبه سليمان فجاء فجلس على كرسيه وتسلط على جميع ملك سليمان غير نسائه، فجعل يقضي بين الناس والناس ينكرون قضاياه حتى قالوا: لقد فتن نبي الله سليمان. ومكث سليمان على ذلك أربعين يوماً، ثم أقبل سليمان على حالته تلك وهو جائع تائع حتى انتهى إلى شاطئ البحر فوجد صيادين فاستطعم أحدهم من صيده وقال له: أنا سليمان. فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشج وجهه. قال فجعل يغسل وجهه على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم على ضربه إياه، ثم أعطوا سليمان سمكتين مما قد تغير عندهم ونتن، ولم يشغله ما كان فيه من الضرب عن أن يقوم إلى الشاطئ البحر فشق بطونهما وغسلهما فوجد خاتمه في بطن أحدهما، فأخذه فلبسه فرد الله تعالى عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير فحامت عليه فعرف القوم أي الصيادون أنه سليمان عليه الصلاة والسلام، فجاءوا يعتذرون إليه. وروى وهب بن منبه رضي الله عنه أن الله تعالى وهب لإبراهيم إسحاق، فلما كان ابن سبع سنين أوحى الله إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبحه وأن يجعله قرباناً، فكتم إبراهيم ذلك عن ابنه وأمه وجميع الناس، وأسره إلى خليل له يقال له العازر، وكان أول من آمن به من قومه يوم رمي في النار، فقال له: إن الله تعالى قد رفع اسمك في الملأ الأعلى على جميع أهل البلاد حتى كنت أرفعهم بلية، ليرفعك الله بقدر ذلك في أعلى المنازل والفضائل، وقد علمت أن الله تعالى لم يبتهلك بذلك ليفتنك ولا ليضلك، فلا يسوءن ظنك بالله وأعوذ بالله أن يكون ذلك حتماً مني على الله تعالى أو تسخطاً لحكمه الذي حكم على عباده، ولكن هذا أحسن الظن بالله تعالى. فإن عزم ربك على ذلك فكن عند أحسن علمه بك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فتعزى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله واشتد له رأيه بصيرته وانطلق بإسحاق فلما صعد الجبل ومعه السكين والحبل وأداة القربان فقال له إسحاق: يا أبت أرى معك أداة القربان ولا أرى معك قرباناً. قال إبراهيم: القربان يا بني بعين ربك ينظر إليه فإن شاء رحم أباك، فلم يفطن إسحاق. فلما ولفى رأس الجبل قال إبراهيم: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك وأجعلك

قرباناً يرفعك إليه ويتقبلك فانظر ماذا ترى. فتهلل وجه إسحاق واستبشر فقال له والده: والله لقد فجعتك يا بني بأمر ما فجع به والد ولده، وإني لأرى من سرورك بذلك وشكرك لربك أمراً أرجو به العافية والفرج. فقال له: يا أبت لم يكن شيء من الدنيا أحب إلي من البر بك وبأمي وقد حرمنيه ربي فإذا أردت ذبحي فاشدد وثاقي فإني أخاف حين يفارقني عقلي، وأجد ألم الحديد أن يتحرك مني عضو فيؤذيك، وأنا أكره أن أختم بذلك عملي، فإذا فرغت من شأني فأقرئ أمي السلام وقل لها لا تجزعي فقد أكرم الله لك ابنك في حياتك! فلما فرغ من وصيته عمد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إليه فعصبه بعمامته ما بين منكبيه إلى الكعبين، ثم كبه لوجهه وكره أن يستقبل وجهه كي لا تدركه له رحمة إذا هو تشحط في دمه، ثم أدخل يده تحت حلقه فلما أراد أن يمرها على حلقه انقلبت السكين، فأوجس إبراهيم في نفسه ثم أعاد ثانية فلما أراد أن يجر السكين انقلبت السكين، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ*وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 104-107) هذا فداء ابنك قد فداه الله تعالى لك به، فنظر إبراهيم خلفه فإذا بكبش قد لوى قرنه الأيمن على ساق شجرة، فأخذه ووجهه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وكانت قبلته يومئذ فذبحه إبراهيم وقصه إسحاق، فلما فرغا منه قرباه قرباناً فرفعه الله تعالى إليه وتقبله. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لما صار يوسف عليه السلام إلى مصر واسترق بعد الحرية جزع جزعاً شديداً، وجعل يبكي الليل والنهار على أبويه وإخوته ووطنه وما ابتلى به من الرق، فأحيى ليلة من الليالي يدعو ربه تعالى، وكان من دعائه أن قال: رب أخرجتني من أحب البلاد إلي وفرقت بيني وبين إخوتي وأبوي ووطني، فاجعل لي في ذلك خيراً وفرجاً ومخرجاً من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب، وحبب إلي البلاد التي أنا فيها وحببها إلى كل من يدخلها وحببني إلى أهلها وحببهم إلي، ولا تمتني حتى تجمع بيني وبين أبوي وإخوتي في يسر منك ونعمة وسرور، تجمع لنا به بين خيري الدنيا والآخرة إنك سميع الدعاء. فأتى يوسف عليه السلام في نومه فقيل له: إن الله تعالى قد استجاب لك دعاءك وأعطاك مناك، وورثك هذه البلاد وسلطانها، وجمع إليك أبويك وإخوتك وأهل بيتك، فطب نفساً واعلم أن الله تعالى لا يخلف وعده. وبدعاء يوسف عليه السلام صارت مصر محبوبة لكل من دخلها فلا يكاد يخرج منها. قال قتادة: ما سكنها نبي قبله. ولما جمع الله تعالى شمله وتكاملت النعم عليه، اشتاق إلى لقاء ربه فقال: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. ولما وجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق ليطلق أهل السجون ويقسم الأموال، ضيق على يزيد بن أبي مسلم، فلما ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة ولى يزيد بن أبي مسلم إفريقية، وكان محمد بن يزيد والياً عليها، فاستخفى محمد بن يزيد فطلبه يزيد بن أبي مسلم وشدد في طلبه، فأتي به في شهر رمضان عند المغرب، وكان في يد يزيد بن أبي مسلم عنقود عنب، فقال له يزيد حين دنا منه: يا محمد بن يزيد! قال: نعم. قال: أما والله لطالما سألت الله أن يمكنني منك بغير عهد ولا عقد. فقال محمد: وأنا والله طالما سألت الله أن يجيرني منك وأن يعيذني. قال يزيد: فوالله ما أجارك ولا أعاذك، وإن سابقني ملك الموت إلى قبض روحك سبقته، والله لا آكل هذه الحبة حتى أقتلك! فأقام المؤذن الصلاة فوضع يزيد العنقود وتقدم يصلي، وكان أهل إفريقية قد أجمعوا على قتله، فلما ركع ضربه رجل بعمود على رأسه فقتله وقيل لمحمد بن يزيد: اذهب حيث شئت! فسبحان من قتل الأمير وأحيا الأسير سنة الله التي قد دخلت في عباده، طلوع الحياة من شفار

الموت وحضور الموت من معدن الحياة. وروي أن سلطان صقلية أرق ذات ليلة ومنع النوم فأرسل إلى قائد البحر وقال: أنفذ الآن مركباً إلى إفريقية يأتوني بأخبارها. فعمر القائد المركب وأرسله لحينه، فلما أصبحوا إذا بالمركب في موضعه لم يبرح فقال له الملك: أليس قد فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم امتثلت أمرك وأنفذت المركب ورجع بعد ساعة، وسيحدثك مقدم المركب فجاء مقدم المركب ومعه رجل فقال الملك: ما منعك أن تذهب حيث أمرت؟ قال: ذهبت في المركب فبينما أنا في جوف الليل والبحارون يجذفون، فإذا أنا بصوت يقول: يا الله يا الله يا غياث المستغيثين! يكررها مراراً فلما استقر صوته في أسماعنا ناديناه مراراً: لبيك لبيك! وهو ينادي: يا الله يا الله يا غياث المستغيثين! ونحن نجيبه لبيك لبيك! وتوجهنا نحو الصوت فألفينا هذا الرجل غريقاً في آخر رمق من الحياة، فأخرجناه من البحر وسألناه عن حاله فقال: كنا مقلعين من إفريقية فغرقت سفينتنا منذ أيام، وما زلت أسبح حتى وجدت الموت فلم أشعر إلا بالغوث من ناحيتكم، فسبحان من أسهر سلطاناً وأرق جباراً في قصره لغريق في البحر وظلمة الوحشة حتى استخرجه من تلك الظلمات الثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الوحشة، لا إله إلا أنت سبحانك يا أرحم الراحمين! وأخبرني رجل كان إمام المسجد الجامع بالإسكندرية قال: كنت بصقلية أيام فتنة العدو، فزحفت إلينا في البحر سفن تقارب ثلثمائة سفينة وأرست في الساحل، فرأينا أمراً مهولاً وفينا الشيخ الصالح الزاهد العابد ابن السميطار، فلجأ الناس إليه واستجمعوا حوله يتبركون به وينتظرون الفرج على يديه، قال فنظر إلى السماء حيناً ثم سجد وعفر خديه بالأرض يقلبهما يميناً وشمالاً، قال فوالله ما برحنا حتى هبت ريح مزقتها كل ممزق فلم يجتمع منها اثنان. وأخبرني أبو القاسم بن هائل رحمه الله تعالى قال: كنت في طريق الحجاز فعطش الناس في مفازة تبوك، فنفذ الماء ولم يوجد إلا عند صاحب لي جمال، فجعل يبيعه بالدنانير بأرفع الأثمان فجاء رجل كان موسوماً بالصلاح عليه قطعة نطع يحمل ركوة، ومعه شيء من دقيق فتشفع بي إلى الجمال أن يبيعه الماء بذلك الدقيق، فكلمته فأبى علي ثم عاودته فأبى. قال: فبسط الرجل النطع ونثر عليه الدقيق ثم رمق السماء بطرفه وقال: إلهي أنا عبدك وهذا دقيقك ولا أملك غيره، وقد أبى أن يقبله. ثم ضرب بيده النطع وقال: وعزتك وجلالك لا برحت حتى أشرب! فوالله ما تفرقنا حتى نشأ السحاب وأمطر في الحين فشرب الماء ولم يبرح. فكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: رب ذي طمرين لا يؤبه له مطروح بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. وأخبرني شيخ ممن كان يصحب العلماء بالقيروان يقال له جرير قال: أخبرني عبد الكافي الديباجي قال: رأيت بالقيروان آية عظيمة، وذلك أن رجلاً جاء بصبي له قد أسكت منذ أيام لا يتكلم، فدخل به إلى الفقيه أبي بكر بن عبد الرحمن وقال له: إن ابني هذا قد أسكت منذ أيام ولم يتكلم، فادع الله أن يفرج ما نزل به، قال فدعا الشيخ ساعة ثم مسح على وجه الصبي فاستفاق الصبي فقال له: قل لا إله إلا الله. فقال الصبي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله! ثم التفت إلى الرجل وقال: اكتم هذا علي إلى الموت، ثم التفت إلى جاريته وقال: اكتمي هذه علي إلى الموت وأنت حرة لوجه الله تعالى. فلما كان يوم توفى الشيخ أبو بكر واجتمع الناس لجنازته وتكاثرت الأمم قام الرجل فاستنصت الناس فسكتوا فقال: يا أهل القيروان اسمعوا قصتي مع هذا الشيخ وساق الحديث كما ذكر. وحدثني هذا الشيخ قال: نزلت عندنا بالقيروان قصة لم يسمع بمثلها في السالفين، وذلك أن بعض الجزارين أضجع كبشا ليذبحه، فتخبط بين يديه وأفلت منه وذهب، فقام الجزار يطلبه

وجعل يمشي إلى أن دخل إلى خربة، فإذا فيها رجل مذبوح يتشحط في دمه ففزع وخرج هاربا. وإذا صاحب الشرطة والرجالة عندهم خبر القتيل، وجعلوا يطلبون خبر القاتل والمقتول، فأصابوا الجزار وبيده السكين وهو ملوث بالدم والرجل مقتول في الخربة، فقبضوه وحملوه إلى السلطان فقال له السلطان: أنت قتلت الرجل؟ قال: نعم! فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافا لا إشكال فيه، فأمر به السلطان ليقتل فاخرج للقتل، واجتمعت الأمم ليبصروا قتله، فلما هموا بقتله اندفع رجل من الحلقة المجتمعين وقال: يا قوم لا تقتلوه فأنا قاتل القتيل! فقبض وحمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته! فقال السلطان قد كنت معافى من هذا فما حملك على الاعتراف؟ فقال: رأيت هذا الرجل يقتل ظلما فكرهت أن ألقى الله بدم رجلين، فأمر به السلطان فقتل ثم قال للرجل الأول: يا أيها الرجل ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الرجل: فما حيلتي رجل مقتول في الخربة وأخذوني وأنا خارج من الخربة وبيدي سكين ملطخة بالدم، فإن أنكرت فمن يقبلني وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلى سبيله وانصرف مكرما. ولما وزر فخر الملك بن نظام الملك لسنجار الملك، وكان لفخر الملك ابن عم يقال له شهاب الملك، وكان يخاف منه على منزلته فقال فخر الملك لسنجار: لا حياة لي معك إلا أن تقتل ابن عمي شهاب الملك! فأبى سنجار فما زال يراجعه إلى أن أمر به فحبس في بلد يقال لها بيهوا، وكان والي ذلك البلد يكرمه لجلالته وجلالة أهل بيته، وأخلى له دارا في القلعة مشرفة. ثم جعل فخر الملك يفسد قلب سنجار ويحمله على قتل شهاب الملك إلى أن أرسل سنجار إلى واليه بقتل شهاب الملك فاستعظم الوالي قتله وأخره أياما، ثم لم يجد بدا من قتله فعزم على قتله في يوم الجمعة، فبينا شهاب الملك يتطلع من طاقات الدار إذا بفارس يركض، فأوجس في نفسه خيفة منه وقال: هذا يريد يقتلني! فوصل الفارس وقال: مات فخر الملك. فخلى سبيل شهاب الملك، وزرا سنجار مكان فخر الملك، فسبحان الفعال لما يريد. وأخبرني أبو الفضل المعتز بمصر قال: كان بمصر ملوك آل حمدان وكان الرئيس ناصر الدولة، وكان يشكوا وجع القولنج فأعي الأطباء ولم يوجد له شفاء. ثم إن السلطان دس على قتله فأرصد له رجلا معه خنجر، فلما جاء في بعض دهاليز القصر وثب عليه الرجل وضربه بالخنجر، فجاءت الضربة أسفل من خاصرته فأصاب طرف الخنجر المعاء الذي فيه القولنج، فخرج ما فيه من الخلط ثم عافاه الله تعالى وصح وبرئ كأحسن ما كان. ولقد كنت بالإسكندرية ونزلت سفن العدو وبساحل مدينة برقة، فأخذوا مركبا للمسلمين وقتلوا بعضهم وأسروا بعضهم، فأخذ رجل منهم وشد كتافه من خلفه فلما انتهبوا السفينة عمد إليه بعض الأعلاج فرفسه فألقاه في البحر وطعنه برمح كان معه، فلم يخط نصل الرمح حبل الكتاف فقطعه، وانحلت يد الرجل فسبح حتى لحق بالساحل سليماً ووصل للإسكندرية في عافية. وحدثني بعض الشاميين أن رجلا خبازا بينما هو يخبز في تنوره بمدينة دمشق، إذا عبر رجل يبيع المشمش قال فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار، فلما فرغ سقط مغشيا عليه فنظروه فإذا هو ميت، فجعلوا يتربصون به ويحملون إليه الأطباء فيلتمسون دلائله ومواضع الحياة منه، فقضوا بأنه ميت فغسل وكفن وحمل إلى الجبانة. فلما خرجوا به من باب المدينة استقبلهم رجل طبيب يقال له البيرودي، وكان طبيبا ماهرا حاذقا بالطب، فسمع الناس يلهجون بقصته فقال لهم: حطوه حتى أبصره قال: فحطوه وجعل يقلبه وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وسقاه شيئا وقال: حقنة حقنة. فاندفع ما هنالك يسيل وإذا الرجل قد فتح

عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى دكانه. وكان الرجل يمشي ببغداد فبينما هو يمشي في الطريق وإذا بدار قد وقعت عليه فخرت كالجبل العظيم، وإذا في الحائط طاقة فما أخطأت رأسه، وصارت الدار كوما وخرج الرجل من الطاقة سالما. وحدثني أبو القاسم الحضرمي قال: كنت باليمن في أرض آل الصليحي، فوشى بي واش إلى السلطان فأمر بقتلي، فأخرجت وقدمت للقتل وبركني السياف ثم قال: مد لي رقبتك! فمددت عنقي لقضاء الله عز وجل. فقال لي السياف: اشتد! قلت: دونك يا هذا فبينما نحن كذلك إذا بصائح من داخل القصر: لا تقتلوه. فخلوا سبيلي. وجرت بقرطبة قصة غريبة في أيام المنصور ابن أبي عامر، وذلك أن رجلاً يعرف بقاسم بن محمد الشبليشي شهد عليه بالزندقة، فحبسه المنصور مدة مع جماعة من الأدباء وكلهم معروفون بالإنهماك والزندقة، وكانوا من وجوه قرطبة، وكان ينادي عليهم في كل جمعة يوقفون في أثر الصلاة بباب الجامع الأعظم، من كانت عنده شهادة فيهم فليؤدها، فثبت على قاسم عند القاضي سجل بشهادات الشهود بأنواع منكرة، تتضمن الزندقة والكفر، فطلعوا إلى القصر وعقد مجلس عظيم واستفتى الفقهاء فيه فأوجبوا قتله. فأشخص قاسم فحضر وحضر أبوه واستحضر ابنان صغيران لقاسم، ولبسوا ثياب الحداد وحمل أبوه معه نعشاً وحمالين، وجعل أبوه والصبيان يبكون على باب القصر، وأحضر لضرب رقبته سياف يعرف بابن الحبشي، ودفعت له أسياف من القصر فجعل يروزها ويلمس شفارها وأبوه وابناه ينظرون إليه. فاتفق حضور أبي الفقيه عمرو الإشبيلي على كره منه وكان يأبى الحضور فاستفتوه فقال: يا هؤلاء إن الدماء لا تسفك إلا بالحق الواضح دون الشبه، احسبوا بن الشبليشي فروجاً بماذا تذبحوه؟ فقال القاضي ابن السري: بما ثبت عندي وأمعنت النظر فيه، فقال الفقيه: أوقفني عليه فأوقفه عليه فقال: أخبرني بمن تقتله من هؤلاء الشهود؟ فقال: بهذا وهذا حتى عد خمسة. فقال الفقيه: فبجميعهم تقتله؟ قال: نعم. قال: فلو شهد منهم اثنان خاصة أكنت تقتله؟ قال: لا إنما قوى بعضهم بعضاً وزكى أكثرهم عندي. فالتفت الفقيه إلى الفقهاء المشاورين فقال: يا هؤلاء بالدعائم تقتل المسلمون عندكم وتسفك دماؤهم، فلست أرى قتله ولا أشير به! فرجع الفقهاء إلى قوله ولم يردوا عليه شيئاً بعدما أفتوا بقتله منذ ستة أشهر، فأنفض الجمع وشيم السيف فذهب البشير إلى ابن أبي عامر فأخبره بالمجلس، فقال ابن أبي عامر: مضيتم تقتلون ابن الشبليشي فدفنتم القاضي، قد استشهدنا للدين ولا قاتل لمؤجل، فحبس أياماً ثم أطلق فكان ابن ذكوان الفقيه يقول للقاضي في مثل هذا قال القائل: إذا سئلت بماذا عرفت الله تعالى؟ قال: بنقضه عزائمي. ومعنى الدعائم على لسان الفقيه هم الشهود الذين لو انفرد منهم اثنان لم يثبت الحكم بهما ولا يقبلا فيه. فإذا كثروا قوى بعضهم بعضاً فلا يثبت الحكم بهم. وفي نقيض هذا حدثنا القاضي أبو مروان الداني بطرطوشة، وقد ولي قضاءها فتذكرنا يوماً فقال: نزلت قافلة بقرية خربة من أعمال دانية، فأووا إلى دار خربة هناك ليستكنوا فيها من الرياح والأمطار، فاستوقدوا نارهم وسووا عيشهم وقرب تلك الدار حائط مائل قد أشرف على الوقوع، فقال رجل منهم لأهل القافلة: يا هؤلاء لا تقعدوا تحت هذا الحائط ولا تدخلوا هذه البقعة. فأبوا إلا دخلوها وبات الناهي متبرئاً خارجاً عنهم لم يقرب ذلك المكان، ثم أصبحوا في عافية وحملوا دوابهم، فبينما هم كذلك إذ دخل الرجل المحذر الدار ليصطلي ببقية النار فخر الحائط عليه فمات مكانه. وبلغني عن بعض الفقهاء أن جيشاً من الجيوش كان

بجزيرة صقلية ناهضاً من مكان إلى مكان فقعدوا ساعة لبعض شأنهم، فإذا عقرب تدب فضربها بعض الأجناد بمقرعة كانت معه ثم رفع المقرعة إلى نحو عنقه، فإذا بالعقرب قد تشبثت بأهداب المقرعة وهو لا يشعر فلدغته في عنقه فقضى مكانه. وأخبرني القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر قال: كنت أقرأ على الشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين ببغداد جزءاً من الحديث في حانوت رجل يبيع العطر، فبينا أنا جالس معه في الحانوت إذ جاءه رجل من الطوافين ممن يبيع العطر في طبق يحمله على يده، فأعطاه عشرة دراهم وقال له: ادفع إلي أشياء سماها من العطر، فأخذها في طبقه ومضى فسقط الطبق من يده فتفرق جميع ما كان فيه. فبكى الطواف وجزع حتى رحمناه فقال أبو حفص لصاحب الحانوت: لعلك تجبر له بعض هذه الأشياء. فقال: نعم، ونزل فجمع ما يجتمع منها وجبر له بعض ذلك، فأقبل الشيخ على الطواف يصبره ويقول له: لا تجزع فأمر الدنيا أيسر من ذلك. فقال الطواف: لا تظن أيها الشيخ أن جزعي لما ضاع، لقد علم الله تعالى مني أني كنت في القافلة الفلانية، فضاع لي هميان فيه أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم، الشك من أبي ذر، ومعها فصوص قيمتها مثل ذلك فما جزعت لضياعها ولكن طلع لي الليلة مولود فاحتجت في البيت إلى ما تحتاج إليه النفساء، ولم يكن عندي غير هذه العشرة الدراهم فأشفقت أن أشتري بها حوائج النفساء، فأبقى بغير رأس مال ولا أقدر على التكسب، فقلت أشتري بها شيئاً وأطوف به صدر نهاري، فعسى أستفضل شيئاً أسد به رمق أهلي ويبقى رأس المال، أتصرف فيه فلما قدر الله عز وجل بضياعه جزعت فقلت: لا عندي ما أرجع به إليهم ولا ما أكتسب به، وعلمت أنه لم يبق لي إلا الفرار منهم، وإن تركتهم على هذه الحالة يهلكون بعدي، فهذا الذي أوجب جزعي. قال الشيخ أبو ذر: وكان رجل من شيوخ الجند جالساً على باب دار يستوعب الحديث، فقال للشيخ أبي حفص: أنا أرغب إذا أتممتم أمره أن تدخل معه عندي، وقام فظننا أنه يريد أن يعطيه شيئاً. قال: فدخلنا عليه فأذن لنا فقال الجندي للطواف: لقد عجبت من جزعك فأعد علي قصتك، فأعاد عليه فقال الجندي: وكنت في تلك القافلة؟ قال: نعم وكان بها من أعيان الناس فلان وفلان، فعلم الجندي صحة قوله فقال له: وما علامة الهميان وفي أي موضع سقط منك؟ فوصف له المكان والعلامة. فقال له الجندي: لو رأيته كنت تعرفه؟ قال: نعم. فأخرج الجندي همياناً ووضعه بين يديه فقال: هذا همياني وعلامة صحة قولي أن فيه من الأحجار ما صفته كذا وكذا، ففتح الهميان فوجد الأحجار على ما ذكر فقال الجندي: خذ مالك بارك الله لك فيه! فقال الطواف: هذه الأحجار قيمتها مثل الدنانير وأكثر، فخذ أنت الدنانير فنفسي طيبة بذلك! فقال الجندي: ما كنت لآخذ على أمانتي شيئاً فدخل الطواف وهو من الفقراء وخرج وهو من الأغنياء، ثم بكى الجندي بكاء شديداً وانتحب فقال له أبو حفص: على علام تبكي، وقد أدى الله تعالى أمانتك وقد بذل لك مالاً كثيراً، وإن شئت عرضنا عليه أن يعيده عليك؟ فقال ما أبكي لذلك وإنما أبكي لأني أعلم أنه قد حان أجلي وأنه ما بقي لي أمل أؤمله ولا أمنية أتمناها إلا أن يأتيني الله بصاحب هذا الهميان فيأخذ ماله، فلما قضى الله عز وجل ذلك بفضله ولم يبق لي أمل علمت أنه قد حان أجلي. قال الشيخ أبو ذر: فما انقضى شهر حتى توفي الرجل وصلينا عليه. قال القاضي: وحدثني أبو القاسم بن حبيش بالموصل قال: لقد جرت هاهنا في هذه الدار وهذا الحانوت، وأشار إليهما قصة عجيبة. كان يسكن هذه الدار رجل من التجار ممن يسافر إلى الكوفة في تجارة الخز، فبينما هو يحمل الخز في خرجه على حماره وفيه جميع ماله إذ نزلت القافلة، فأراد إنزاله عن الحمار فثقل عليه فأمر إنساناً

هناك فأعانه على إنزاله ثم جلس ليأكل، فاستدعى ذلك الرجل ليأكل معه فأجابه وأكل معه، ثم سأله عن حاله فأخبره أنه رجل خرج من الكوفة لأمر أزعجه دون زاد، فقال له الرجل: كن رفيقي وتعينني على سفري ويكون طعامك عندي. فقال الرجل: أني حريص على خدمتك محتاج إلى طعامك. فسار معه في طريقه فخدمه على أحسن حال حتى وصلا تكريت، فنزلت الرفقة خارج المدينة ودخلت الناس لقضاء حوائجهم. فقال الرجل للخادم: أحفظ رحلنا حتى أدخل فأقضي حاجتنا ثم دخل وقضى حوائجه فأبطأ هناك ثم خرج فلم يجد الرفقة ولا وجد صاحبه، فظن أنه لما رحلت الرفقة رحل معهم فلم يزل يسعى حتى وصل الرفقة بعد الجهد، فسألهم عن حماره وصاحبه فقالوا: ما جاء معنا ولا رأيناه ولكنه وضع الأسباب على الحمار ودخل المدينة على أثرك وظنناك أمرته بذلك. فكر الرجل راجعاً إلى تكريت فلم يجد له أثراً ولا وقع له على خبر، فيئس منه وسار إلى الموصل مسلوب المال فوافاها نهاراً جائعاً عرياناً فقيراً مجهوداً، فاستحى أن يدخل نهاراً فيشمت العدو ويحزن الصديق، فبقي حتى أمسى ثم دخل فدق باب داره فقيل له: من هذا؟ فقال: فلان، يعني نفسه. فأظهروا سروراً عظيماً لحاجتهم إليه وقالوا: الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت على ما نحن فيه من الضرورة والحاجة والفاقة، حملت جميع مالك وطال سفرك واحتاج أهلك وهي نفساء قد ولدت لك في هذا اليوم ولداً، والله وجدنا ما نشتري به شيئاً للنفساء، ولقد كانت هذه الليلة طاوية على حالها، فتحيل لنا على دقيق ودهن وتسرج به علينا فلا سراج عندنا فزاده ذلك غماً وكره أن يخبرهم بحاله فيحزنهم وأخذ وعاء للدهن وجراباً للدقيق وخرج إلى هذا الحانوت، وكان فيه رجل يبيع الدقيق والزيت والعسل ونحوه، وقد أغلق دكانه وأطفأ مصباحه ونام، فناداه فأجابه وعرفه وشكر الله على سلامته. فقال التاجر لصاحب الحانوت: اقدح زناداً أزن لك الدراهم في دقيق وزيت وعسل احتجت إليه الساعة، وكره أن يخبره بتأخير الثمن فيمتنع منه، فقدح البياع للزناد واستصبح فقال له التاجر: زن لي من الدقيق كذا ومن الزيت كذا، ومن العسل كذا ومن السمن كذا ومن الملح كذا ومن الحطب كذا، ما يرمق به الحال تلك الليلة. فبينما هو كذلك إذ حانت منه التفاتة إلى قعر الحانوت فرأى فيه خرجه الذي هرب به صاحبه، فلم يملك أن وثب إليه والتزمه وألقى يده في أطواق صاحب الحانوت وجذبه إلى نفسه وقال له: يا عدو الله أين مالي؟ فقال له صاحب الحانوت: يا فلان؟ فوالله ما علمتك متعدياً ولا أعلم أني جنيت عليك ولا على سواك فما هذا؟ قال: خرجي فر لي به خادم خدمني بجميع مالي وبحماري! فقال له: ما لي علم غير أن رجلاً ورد علي بعد العشاء واشترى مني عشاؤه وأعطاني هذا الخرج، فجعلته في حانوتي وديعة وهذا الحمار في دار جارنا الرجل والرجل في المسجد نائم. فقال له: احمل معي الخرج وامض معي إلى الرجل، فرفع الخرج معه وألقاه على عاتقه ومشى معه إلى المسجد، وإذا الرجل نائم في المسجد فرفسه برجله فقام الرجل مذعوراً فقال له: ما لك؟ فقال: أين مالي يا خائن؟ فقال: هو ذا على عاتقك والله ما تغادر منه ذرة! قال: فأين الحمار؟ قال هو عند ذا الجائي معك. فنهض إلى داره فوجد متاعه سليماً واستخرج الحمار من الموضع الذي كان فيه، ووسع على أهله وأخبرهم بقصته فازدادوا فرحاً وسروراً وتبركاً بذلك المولود. ولما وفى موسى عليه الصلاة والسلام، لصهره شعيب عليه الصلاة والسلام، الأجل الذي أجلاه لرعي موسى غنم شعيب عليه الصلاة والسلام عوضاً عن مهر ابنته، أخذ موسى عليه الصلاة والسلام زوجته وكر راجعاً من مدين، فلما وافى موسى الوادي المقدس عند جانب الطور أحبنهم الليل

بظلمته فأمسوا نائمين، فبينما هم كذلك إذ ضرب زوجته الطلق وكانت حاملاً، وليس عندهم ما تحتاج إليه النفساء من الغداء والدواء، وما يصلح به شأنهم فبقوا في ضيق من الحال وقلة من الحيلة، فخرج موسى عليه الصلاة والسلام يلتفت وينظر يميناً وشمالاً يلتمس فرجاً لما أمسوا فيه من الضرر، {إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} (طه: 10) . فلما أتاها أضيق ما يكون ذرعاً وأحرجه قلباً وأيئسه من رفق نودي من شاطئ الوادي الأيمن: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} (القصص: 30) . وهكذا لطائف الحق سبحانه وتعالى مع من سلم لأمره ورجا فضله وتكلم بالهدى والبشرى، يفسح الله تعالى له أمله ويعطيه فوق ما سأله: هذا موسى خرج يقتبس ناراً فنودي بالنبؤة. وعن هذا قال علماؤنا ليس في خصال الخير وإن جلت ولا في أنواع الأعمال وإن عظمت أعلى من حسن الظن بالله تعالى؛ ونظمه بعض الشعراء فقال: أيها العبد كن لما لست ترجو من نجاحٍ أرجى لما أنت راجي إن موسى مضى ليقبس ناراً من شعاع قد لاح والليل داجي فأتى أهله وقد كلم الل هـ وناجاه وهو خير مناجي وروي أن العدو نزل بساحل إفريقية في عدد كثير من المراكب ففني ماؤهم وعطشوا وأيقنوا بالهلاك، فنفر المسلمون إليهم في عدد كثير من تلك الحصون والسواحل، فمنعوهم النزول لاستقاء الماء، فأرسلوا إلى المسلمين أن يخلوهم لاستقاء الماء فأبوا، فتضاعف عطشهم حتى كادوا يهلكون، ففتحوا أناجيلهم ونشروا صلبانهم وأخذوا في الدعاء والاستسقاء والتضرع إلى الله تعالى، فلم يلبثوا أن أرعدت والتفت السماء بأرزاقها ثم انجلت وأرخت ماء كثيراً، فبسط القوم أنطاعهم وجفانهم وآلتهم فشربوا وملئوا أوانيهم، فضج المسلمون عند ذلك وقالوا: هؤلاء كفار أعداء الله ورسوله قد أخلصوا إلى ربهم وأنابوا إليه وسألوه ما يحيون به رمقهم، فأغاثهم فنحن أحق بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى وأولى بالإجابة منهم. فأخذ المسلمون في الدعاء والابتهال والصلاة إلى الله عز وجل في أن يريهم آية تقوى بها قلوب الضعفاء، ويزيد شكر أهل المعرفة والأولياء، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله تعالى عليهم ريحاً فبددتهم ومزقتهم كل ممزق، وكسرت مراكبهم ولم يجتمع منهم اثنان. ومن عجائب صنع الله تعالى في هذا الباب أن رجلاً من ديار بكر جاء إلى بيت المقدس، وزار قبر الخليل عليه السلام وأكل من ضيافته، فطارت حبة عدسة من الطعام في خيشومه ورام خروجها بكل حيلة، فأعجزته حتى تركته مضنى ثم رجع إلى بلاده، فبينما هو جالس إذ عطس فطارت العدسة في الأرض، فإذا طائر قد التقطها لوقتها وبرئ الرجل، فسبحان من جعل أنف هذا الرجل حرزاً لقوت هذا الطائر على بعد الشقة وطول المدة، وكان ذلك سبباً لبرئه. وأما أنا فلما هممت بالرحيل من بلدي إلى المشرق في طلب العلم، وكنت لا أعرف التجارة ولا لي حرفة أرجع إليها، فجزعت من الخروج وكنت أقول: إني إن ذهبت نفقتي ماذا أفعل؟ وكان أقوى الآمال في نفسي أن أحفظ البساتين بالأجرة وأدرس العلم بالليل، ثم استخرت الله تعالى فرحلت وكانت معي نفقة وافرة في همياني على وسطي، وكنت أسمع المسافرين يقولون: من نام بالليل في الفيافي ومعه نفقته على وسطه فليحلها، فإن اللصوص إذا كاثرت الخلق يبتدرون أوساطهم. فخرجت من بلاد السويدية إلى أنطاكية وهي إذ ذاك حرم للروم،

الباب الستون: في بيان الخصلة التي هي أساس الخصال

فسرينا ليلتنا وأصبحنا على باب أنطاكية، فأخذتني عيني فحللت الهميان ونمت، ولم أستيقظ إلى ضحوة نهار، فاستيقظت ومددت يدي إلى الهميان فلم أجده. فجعلت ألتفت إلى القافلة وأنظر إلى وجوه الناس، وقد أسقط في يدي ولم تبق لي حيلة، فاسترجعت ورفعت أمري إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا رجل من أهل القافلة التفت إلي، فوقع وجهي في وجهه فإذا هو يضحك لما رأى ما بي فقال: ما لك أيها الفقيه؟ فقلت: خيراً فراجعني فقلت خيراً فقام إلي وقال: خذ هميانك عافاك الله تعالى: فسألته: كيف ظفرت به؟ فقال: رأيتك قد تدحرجت ذراعين أو ثلاثة، فالتفت فرأيت سواداً في الموضع الذي كنت فيه نائماً فثرت إليه وأخذته، فإذا هو الهميان، فرحمة الله عليه ورضوانه. الباب الستون: في بيان الخصلة التي هي أساس الخصال وعماد الفضائل ومن فقدها لم تكمل فيه خصلة وهي الشجاعة، ويعبر عنها بالصبر ويعبر عنها بقوة النفس قالت الحكماء: أصل الخيرات كلها في ثبات القلب، ومنها تستمد جميع الفضائل وهي الثبات والقوة على ما يوجبه العدل والعلم. والجبن غريزة يجمعها سوء الظن بالله تعالى، والشجاعة حالة متوسطة بين الجبن والتهور. وسئل الأحنف بن قيس عن الشجاعة فقال: صبر ساعة. وسئل أبو جهل عن الشجاعة فقال: تصبرون على حد السيوف فواق ناقة وهو ما بين الحلبتين. واعلم أن الفر من القتل طريدة من طرائد الموت، واستقبال الموت خير من استدباره. وقد قال الأول: رب حياة سببها التعرض للوفاة ووفاة سببها طلب الحياة. ومن حرص على الموت في الجهاد وهبت له الحياة. وقالوا: الهزيمة شفرة من شفار الموت والفار يمكن من نفسه والمقاتل يدفع عن نفسه. وقالوا: ثمرة الشجاعة الأمن من العدو. واعلم أن من قتل في الحرب مدبراً أكثر ممن قتل مقبلاً. وقالوا: تأخير الأجل حصن المحارب. وفيل لبعضهم: في أي جنة تحب أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل متأخر. وقيل لآخر: في أي سلاح تشتهي أن تقاتل عدوك؟ قال: بأدبار دولته وانقضاء صولته. واعلموا أن الشجاعة لمن كانت له مدة، وإذا انقضت المدة لم تغن كثرة العدة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: إذا انقضت المدة كانت الهلكة في الحيلة، وذلك أن كل كريهة تدفع أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. ألا ترى أنك إذا هممت بأن تمنح شيئاً من مالك خار طبعك، ووهن قلبك وعجزت نفسك وشححت به؟ وإذا حققت عزمك وقويت نفسك وقهرت ذلك العجز، أخرجت المال المضنون به. وعلى قدر قوة القلب وضعفه يكون طيب النفس بإخراجه وكراهية النفس لإخراجه. وعلى هذا النمط تكون جميع الفضائل، فمهما تقارنها قوة النفس لم تتحقق وكانت مخدوجة. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشجاعة والجبن غرائز يضعها الله تعالى فيمن يشاء من عباده، فالجبان يفر من أبيه وأمه، والشجاع يقاتل عمن لا يؤب به إلى رحله، فبقوة القلب يصابر امتثال الأوامر والانتهاء عن الرواجز، وبقوة القلب يصابر اكتساب الفضائل وبقوة القلب ينتهي عن اتباع الهوى والتضمخ بالرذائل، وقال الشاعر: جمع الشجاعة والخضوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب! وبقوة القلب يصير الجليس على أذى الجليس وجفاء الصاحب، وبقوة القلب تتلقى الكلمة العوراء والفعلة الرديئة ممن جاءت، وبقوة القلب تكتم الأسرار ويدفع العار، وبقوة القلب تقتحم الأمور الصعاب، وبقوة القلب تتحمل أثقال المكاره، وبقوة القلب يصبر على أخلاق الرجال، وبقوة القلب تنفذ كل عزيمة وروية أوجبها الحزم والعدل والعقل، وبقوة القلب يضحك الرجال في وجوه الرجال وقلوبها مشحونة بالضغائن والأحقاد

كما قال أبو ذر: إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم! وقال علي رضي الله عنه: أنا لنصافح أكفا نرى قطعها! وليس الصبر والشجاعة وقوة النفس أن تكون مصراً على المحال لجوجاً في الباطل، ولا أن تكون جلداً عند الضرب صبوراً على التعب مصمماً على التغرير والتهور، فإنما هذه من صفات الحمير والخنازير، ولكن تكون صبوراً على أداء الحقوق، صبوراً على أداء الحقوق، صبوراً على سماعها وإلقائها إليك غالباً لهواك مالكاً لشهواتك، ملتزماً للفضائل بجهدك عاملاً في ذلك على الحقيقة التي لا تحيدك عنها حياة ولا موت، حتى تكون عند موتك على الخبر الذي أشار به العلم وأوجبه العدل خير من البقاء على ما أوجب رفض العلم والعدل، كما قال علي للحسن رضي الله عنهما: يا بني وما يبالي أبوك لو أن الخلق خالفوه إذا كان على الحق، وهل الخير كله للحق إلا بعد الموت؟ وعن هذا قالت حكماء الهند: إذا لم يكن للملك من نفسه معين كان في جميع أموره ضعيفاً مخذولاً. واعلم أن الجبن مغلبة والحرص محرمة والعجز ذل والجبن ضعف، والجبان يعين على نفسه يفر من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، والشجاع يحمي من لا يناسبه ويقي مال الجار والرفيق بمهجته، والجبان يخاف من لا يحس به والجبان حتفه من فرقه، واعلم أن الشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه: رجل إذا التقى الجمعان وتزاحف العسكران وتكالحت الأحداق بالأحداق، برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي هل من مبارز؟ والثاني إذا تناشب القوم واختلطوا ولم يدر أحد من أين يأتيه الموت، يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب، لم يخامره ولا خالطته الحيرة فيتقلب تقلب المالك لأمره القائم على نفسه. والثالث إذا انهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم، ويحول بينهم وبين عدوهم فيقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعف، ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم، فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كردس عن فرسه كشف عنه حتى ييئس العدو منهم، وهذا أحمدهم شجاعة. وعن هذا قالوا: المقاتل من قاتل وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين. ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحريم وقالوا: لكل أحد يومان لا بد منهما أحدهما لا يعجل عليه، والثاني لا يغفل عنه فمال الجبان والفرار. وكان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا قالوا: دارت حرب بين المسلمين والكفار ثم افترقوا فوجدوا في المعترك قطعة من بيضة الحديد، قدر ثلثها بما حوته مع الرأس، فيقال إنه لم ير قط ضربة أقوى منها. وكان شيوخ الجند في بلدنا طرطوشة يحكون لنا أنهم خرجوا في أيام سيف الملة في سرية إلى بلاد العدو، فبينما هم يسيرون إذا لقيتهم سرية للروم يريدون منا ما نريد منهم، قالوا وعرف بعضنا بعضاً، وكان في القوم صناديد الروم وكان فينا صناديد المسلمين، فتوافينا ساعة ثم شددنا وشدوا فالتقينا وتجالدنا ساعة، ثم منحها الله عز وجل أكتافهم فجعلناهم حصيداً كأنهم جزر في الأوضام، وكان هناك بقربهم قرية فيها شيء من الخمر فشربناه وسكرنا ثم اشتهينا شرائح اللحم فقمنا نقطع لنا من لحومهم ونجعل على النار وأكلنا منها، ففزع من كان أسرناه منهم وبلغ الحديث إلى الروم، فانقلبت النصرانية تعجباً منا وقذف الرعب في قلوبهم. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي عمرو بن معدي كرب فقال له: يا عمرو أي السلاح أفضل في الحرب؟ فقال: فعن أيها تسأل؟ قال: ما تقول في السهام؟ قال منها ما يخطئ ويصيب. قال: فما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك! قال: فما

الباب الحادي والستون: في ذكر الحروب وحيلها وتدبيرها وأحكامها

تقول في الترس؟ قال: هو الدائرة وعليه تدور الدوائر قال: فما تقول في السيف؟ قال: ذاك لأعدائك. وكان عمرو هذا من شجعان العرب وأبطالها، نزل يوم القادسية على النهر فقال لأصحابه: إني عابر على الجسر فإن أسرعتم مقدار جزر الجزور، وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي، وقد عقرني القوم وأنا قائم بينهم. وإن أبطأتم وجدتموني قتيلاً بينهم. ثم حمل على القوم فانغمس فقال بعضهم لبعض: يا بني زبيد علام تدعون صاحبكم؟ والله ما نظن أن تدركوه حياً فحملوا فانتهوا إليه وقد سرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها، وإن الفارس ليضربه وما يقدر الفرس أن يتحرك، فلما غشيناه رمى الرجل بنفسه وخلى فرسه فركبه عمرو وقال: أنا أبو ثور كدتم والله تفقدونني! قالوا: أين فرسك؟ قال: رمي بنشابة فغار وشب فصرعني. ويروى أن عمراً حمل يوم القادسية على رستم، وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين فاستقبله عمرو وكان رستم على فيل فجذب عرقوبه فسقط رستم وسقط الفيل عليه، مع خرج كان فيه أربعون ألف دينار، فقتل رستم وانهزمت العجم. ويروى أن قاتل رستم زنيم بن عمرو. وأما الضربة التي حكيناها التي جاوزت ثلث البيضة بما حوته من الرأس، فلم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، وكانوا إذا عيروا بانهزام يقولون: لقينا أقواماً هذا ضربهم! فترحل أبطال الروم ليروها، وإنما كانت العرب تفخر في هذا الباب بقول النمر بن تولب يصف ضربة بسيف: أبقى الحوادث والأيام من نمر إسناد سيف قديم إثره بادي يظل يحفر عنه إن ضربت به بعد الذراعين والقيدين والهادي وينشد قول النابغة في السيف أيضاً: بعد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب وأين هذا ممن قد بيض الحديد بما حواه من الرأس؟ وأين الثريا من الثرى وأين الحسام من المنجل؟ ولولا كراهية التطويل لذكرنا من أمثال هذا الباب ما فيه العجب. وقد قالوا: السيف ظل الموت. والسيف لعب المنية. والرمح رشاء المنية. والسهام رسل لا تستأمر من أرسلها. والرمح أخوك وربما خانك. والدرع مشغلة للرجل متبعة للفارس، وإنها لحصن حصين. والترس مجن وعليه تدور الدوائر. الباب الحادي والستون: في ذكر الحروب وحيلها وتدبيرها وأحكامها ومن حزم الملك أن لا يحتقر عدوه وإن كان صغيراً، ولا يغفل عنه وإن كان حقيراً، فكم من برغوث أسهر فيلاً ومنع الرقاد ملكاً جليلاً قال الشاعر: ولا تحقرن عدواً رماك وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف تحز الرقاب وتعجز عما تنال الإبر وفي الأمثال: لا تحرقن الذليل فربما شرق بالذباب العزيز، ومثل العدو مثل النار إن تداركت أولها سهل إطفاؤها، وإن تركت حتى استحكم ضرامهاً صعب مرامها وتضاعفت بليتها. ومثاله أيضاً مثال الجرح الرديء، إن تداركته سهل برؤه، وإن أغفلته حتى نغل عظمت بليته وأعجز الأطباء برؤه. واعلموا أن الناس قد وضعوا تدبير الحروب كتبا ورتبوا فيها ترتيبا ولا يسع سائر أهل الأقاليم، إن لكل أمة نوعا من التدبير وصنفاً من الحيلة، وضربا من المكيدة وجنساً من اللقاء والكر والكفر، وتعبية المواكب وحمل بعضهم على بعض، ولكن نصف

منها أشياء تجري مجرى المعاقد ولا يكاد يختلف في أنها أزمة الحروب. ونبدأ أولاً بما ذكره الله تعالى في القرآن قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) وقوله تعالى: {ما استطعتم} مشتمل على كل ما هو في مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون فقال: ألا إن القوة الرمي. وكان بعض أصحابه إذا أراد الغزو ولا يقص أظفاره، ويتركها عدة ويراها قوة. فأول ذلك أن يقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدقة وصيام ورد مظلمة، وصلة رحم ودعاء مخلص وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأمثال ذلك. فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بذلك ويقول: إنما تقاتلون بأعمالكم. ويروى أن بريداً ورد عليه بفتح المسلمين فقال عمر: أي وقت لقيتم العدو؟ قال: غدوة. قال: ومتى انهزم؟ قال: عند الزوال. فقال عمر رضي الله عنه: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاوم الشرك الإيمان من غدوة إلى الزوال لق أحدثتم بعدي حدثاً أو أحدثت بعدكم حدثاً. والشان كل الشان في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الألوية. فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة والجراءة ثبت الجنان صارم القلب جريئه، رابط الجأش صادق اليأس، ممن قد توسط الحروب ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال، عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، وما الذي يجب سده بالحماة والأبطال من ذلك، بصيراً بصفوف العدو ومواقع الغرة منه، ومواضع الشدة منه، فإذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كان جميعهم كأنهم مثله، فإن رأى لقراع الكتائب وجهاً وإلا رد الغنم إلى الزريبة. واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء، وآخر ما يجب ركوبه قرع الكتائب وحمل الجيوش بعضها على بعض فليبدأ بصرف الحيلة في نيل الظفر. قال نصر بن سيار: كنت أمير خراسان من قبل مروان الجعدي، آخر ملوك بني أمية، قال: كان عظماء الترك يقولون ينبغي للقائد العظيم القياد أن تكون فيه عشرة أخلاق من أخلاق البهائم: شجاعة الديك وبحث الدجاجة وقلب الأسد وحملة الخنزير وروغان الثعلب وصبر الكلب على الجراح وحراسة الكركي وغارة الذئب وسمن نغير، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وكان يقال أشد خلق الله تعالى عشرة الجبال، والحديد ينحت الجبال والنار تأكل الحديد والماء يطفئ النار والسحاب يحمل الماء، والريح تصرف السحاب والإنسان يتقي الريح بجناحيه، والسكر يصرع الإنسان والنوم يذهب السكر، والهم يمنع النوم فأشد خلق ربكم الهم. فأول ذلك أن يبث جواسيسه في عسكر عدوه ليستعلم أخباره مع الساعات، ويستميل قلوب رؤسائهم وقوادهم وذوي الشجاعة منهم فيدس إليهم ويعدهم وعداً جميلاً ويوجه إليهم بضروب الخدعة، ويقوي أطماعمهم في نيل ما عنده من الهبات الفخيمة والولايات السنية. وإن رأى وجهاً عاجلهم بالهدايا والتحف وسامهم إما الغدر بصاحبهم وإما الاعتزال وقت اللقاء، وينشئ على ألسنتهم كتباً مدلسة إليهم ويبثها في عسكره، ويكتب على السهام أخباراً مزورة ويرمي بها في جيوشهم، ويضرب بينهم بما في الميسور من ذلك فإن جميع ما ذكرناه تنفق فيه الأموال والخيل، واللقاء تنفق فيه الأرواح والرؤوس، ووجوه الخداع فيه

لا تحصى والحاضر فيه أبصر من الغائب. ولله در المهلب لما كتب إليه الحجاج يستعجله في حرب الأزارقة، رد الجواب فقال: إن من البلاء أن يكون الرأي عند ابن زياد: امض إلى عدوك برأي غير مستند وحزم غير متكل، ولا تركن إلى الدولة فربما انقلبت وانتشر من لا يطمع في عملك ولا يسر بقتلك، واستخر، الله تعالى قبل إقدامك توفق. وأوصت أم الديال العبسية ابنها القتال وهو من أشد العرب: يا بني لا تنشب في حرب إذا وثقت بشدتك حتى تعرف وجه المهرب منها، فإن النفس أقوى شيء إذا وجدت سبيل الحيلة وأضعف شيء إذا يئست منها، وأحمد الشدة ما كانت الحيلة مدبرة لها إذا لم يكن النصر من الله تعالى قائداً لها، واخلس من تحارب خلسة الذئب، وطر منها طيران الغراب فإن الحذر زمام الشجاعة والتهور عدو الشدة. وقال أبو السرايا وكان أحد الفتاك لابنه: يا بني كن بحليتك أوثق منك بشدتك، وبحذرك أوثق منك بشجاعتك فإن الحرب حرب المتهور وغنيمة الحذر. واعلم أن الدول إذا زالت صارت حيلها وبالاً عليها، وإذا أذن الله تعالى في حلول البلاء، كانت الآفة في الحيلة. وقالت الحكماء: إذا نزل القضاء كان العطب في الحيلة، وإذا نقضت مدة الدول أدبرت سنة الغفلة من سنة الحذر، ويغلب الضعيف بإقبال دولته كما يغلب القوي ببقاء عدته، وقالوا: سعود الدول ونحوسها مقرونة بسعود الملك ونحوسه. وقالوا: بناء كل امرئ دولته فإذا انقضت بدت عورته. وقال بعض الحكماء: إذا ولت دولة ولت أمة، وإذا أتت دولة نتجت أمة. وقالوا: رب حيلة أهلكت المحتال، ومن الحزم المألوف عند سواس الحروب أن تكون حماة الرجال وكماة الأبطال في القلب فإنه مهما انكسر الجناحان فالعيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت راياته تخفق وطبوله تضرب، كانت حصناً للجناحين يأوي إليه كل منهزم، وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان. مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر أحد جناحيه ترجى عودته، ولو بعد حين وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان، ولا تحصى كثرة انكسار جناح العسكر وثبات القلب، ثم يرجع الفارون إلى القلب ويكون الظفر لهم. وقل عسكر انكسر قلبه فأفلح اللهم إلا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش، فيخلي القلب قصداً وتعمداً ولا يغادر به كبير أمر حتى إذا توسطه العدو واشتغل بنهبه انطبق عليه الجناحان. ومن أعظم المكائد في الحروب الكمين، ولا يحصى كثرة كم من عسكر استبيحت بيضته وقل عربه بالكمناء، وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار، حتى يلتفت فيرى وراءه بنداً منشوراً ويسمع صوت الطبل، فحينئذ يكون همه خلاص نفسه ولتكن همتك وراء ذلك وعليه مدار الحروب، وعليك بانتخاب الشجعان واختيار الأبطال فاصطنع ذوي البسالة والإقدام والجراءة، ولا عليك أن لا يكثروا وبعيد عليك أن يكسروا، فهم في الجيش وإن كالإنفحة في اللبن. ولا تنس بيت الشاعر: والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا بل قد جرب ذلك فوجد الواحد خيراً من عشرة آلاف. وسأحكي لك من ذلك ما ترى فيه العجب: فمن ذلك لما التقى المستعين بن هود مع الطاغية ابن روميل النصراني، على مدينة وشقة من ثغور بلاد الأندلس، وكان العسكران كالمتكافئين كل واحد منهما يراهق عشرين ألف مقاتل بين خيل ورجل، فحدثني رجل ممن حضر الوقعة

من الأجناد قال: لما دنا اللقاء قال الطاغية بن روميل لمن يثق بعقله وممارسته للحروب من رجاله: استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفونا ومن غاب منهم ومن حضر. فذهب ثم رجع فقال: فيهم فلان وفلان حتى عد سبعة رجال. فقال له: انظر الآن من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة ومن غاب منهم، فعدهم فوجدهم ثمانية رجال لا يزيدون. فقام الطاغية ضاحكاً مسروراً وهو يقول ما أبيضك من يوم! ثم نشبت الحرب بينهم فلم تزل المضاربة بين الفريقين لم يول أحدهم دبرة ولا تزحزح عن مقامه، حتى فنى أكثر العسكرين ولم يفر أحد منهم، قال: فلما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة ثم حملوا علينا حملة وداخلونا مداخلة، ففرقوا بيننا وصرنا شطرين وحالوا بيننا وبين أصحابنا وصاروا بيننا، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا، ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم، فأشار مقدم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه وانكسر عسكر المسلمين، وتفرق جمعهم وملك العدو مدينة وشقة. فليعتبر ذو الحزم والبصيرة من جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل ولا يحضره من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر رجلاً، وليعتبر بضمان العلج الظفر واستشاره بالغنيمة لما زاد في أبطاله رجل واحد. وسمعت أستاذنا القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى يحكي قال: بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره قد ملؤا السهل والجبل، فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي فقال: كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟ فقال ابن المضجعي: أرى جمعاً كثيراً وجيشاً واسعاً. فقال له المنصور: لا يعجزنا أن يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والبسالة. فسكت ابن المضجعي فقال المنصور: وما سكوتك؟ أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا! قال: فتعجب المنصور ثم انعطف عليه فقال: أفيهم خمسمائة رجل من الأبطال المعدودين؟ قال: لا! فحنق المنصور ثم انعطف عليه فقال: أفيهم مائة رجل من الأبطال؟ قال: لا! قال: أفيهم خمسون رجلاً من الأبطال؟ قال: لا! فسبه المنصور واستخف به وأمر به فأخرج على أقبح وجه. فلما توسطوا بلاد المشركين اجتمعت الروم وتصاف الجمعان. فبرز علج من الروم بين الصفين شاك في سلاحه يكر ويفر وهو ينادي: هل من مبارز؟ فبرز له رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج، ففرح المشركون وصاحوا واضطرب لها المسلمون، ثم جعل العلج يمرح بين الصفين وينادي: هل من مبارز اثنان لواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج، وجعل يكر ويحمل وينادي هل من مبارز ثلاثة لواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج. فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت تكون كسرة. فقيل للمنصور: ما لها إلا ابن المضجعي! فبعث إليه فحضر فقال له المنصور: أما ترى ما يصنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟ قال: بلغني جميع ما جرى. قال: فما الحيلة فيه؟ قال: وما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شره. قال: نعم الآن! ثم قصد إلى رجال يعرفهم فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد نشرت أوراكها هزالاً، وهو يحمل قربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في نفسه وحليته غير متصنع، فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم؟ فقال: قد رأيته فماذا ترى فيه؟ قال له: أريد رأسه الآن! قال: نعم. فحمل القربة إلى رحله ولبس لامة حربه وبرز إليه. فتجاولا ساعة فلم ير الناس إلا والمسلم خارج إليهم يركض ولا يدرون ما هناك، فإذا الرجل يحمل رأس العلج فألقى

الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء أخبرتك أنه ليس في عسكرك ألف ولا خمسمائة ولا مائة ولا خمسون ولا عشرون ولا عشرة! فرد ابن المضجعي إلى منزلته وأكرمه. واعلم أن أول الحرب شكوى وأوسطها نجوى وأخرها بلوى. الحرب شعثاء عابسة شوهاء كالحة، حزوز في حياض الموت شموس في الوطيس، تتغذى بالنفوس. الحرب أولها الكلام وآخرها الحمام. الحرب مرة المذاق إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عرف ومن ضعف عنها تلف. جسم الحرب الشجاعة وقلبها التدبير، وعينها الحذر وجناحها الطاعة ولسانها المكيدة، وقائدها الرفق وسائقها النصر. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة. وقالوا: الحرب غشوم؛ سميت بذلك لأنها تتخطى إلى غير الجاني كما قال الشاعر: لم أكن من جناتها علم الل هـ وإني لحربها اليوم صالي وقال آخر: رأيت الحرب يجنيها أناس ويصلي حرها قوم براء وقال آخر: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اضطرمت وشب ضرامها عادت عجوزاً غير ذات خليل شمطاً تنكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل وقال بعض الحكماء: قد جمع الله لنا آداب الحرب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال46: 45) . واستوصى قوم أكثم بن صيفي في حرب أرادوها فقال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح فشل ولا جماعة لمن اختلف، وتثبتوا فإن أحزم الفريقين الزكين. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترون أصحاب محمد جثياً على الركب خرساً يتلمظون تلمظ الحباب؟ ورأيت غير واحد ممن ألف في الحروب يكره رفع الصوت بالتكبير ويقول يذكر الله تعالى في نفسه. واعلم أرشدك الله تعالى أن الله تعالى قد وضح لنا في كتابه العزيز علة النصر وعلة الهزيمة والفرار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) يعني إن تنصروا رسوله ودينه، وأما الفرار فعلته المعاصي. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: 155) . أي بشؤم ذنوبهم وتركهم المركز الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رتب الرماة يوم أحد على ثلمة الجبل، ليمنعوا قريشاً أن يخرجوا عليهم كمينا من ذلك الموضع، ثم التقى المسلمون بالكفار فانهزم الكفار فقال الرماة لا تفوتنا الغنائم! فأقبلوا على الغنائم وتركوا المركز الأول، فخرجت خيل المشركين من هناك وأقبلوا على المسلمين فكانت مقتلة أحمد. وليخف قائد الجيش العلامة التي هو مشهور بها، فإن عدوه قد استعلم حليته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلاً ولا نهاراً وليبدل زيه ويغير خيمته ويعمي مكانه، حتى لا يلتمس عدوه غرته، وإذا سكنت الحرب فلا يمش في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فإن عيون عدوه قد أدليت عليه. وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقية عند فتحها، وذلك أن الحرب سكنت في وسط النهار فخرج مقدم العدو، يمشي خارج العسكر ويتميز عساكر المسلمين، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي السرح وهو نائم في قبته، فخرج فيمن وثق به من رجاله وحمل على العدو، فقتل الملك وانهزم جميع أصحابه وكان الفتح. ولما عبر

طارق مولى موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس ليفتحها، وموسى إذ ذاك بإفريقية، خرجوا في الجزيرة الخضراء وتحصنوا في الجبل الذي يسمى اليوم جبل طارق، وهم في ألف وتسعمائة رجل، فطمعت الروم فيهم فاقتتلوا ثلاثة أيام، وكان على الروم أمير استخلفه لدريق ملك الروم، وكان قد كتب إلى لدريق يعلمه أن قوماً لا ندري أمن الأرض هم أم من السماء قد وصلوا إلى بلادنا، وقد لقيتهم فانهض إلي بنفسك، فأتاه لدريق في تسعين ألف عنان، فلقيهم طارق وعلى خيله مغيث الرومي مولى الوليد بن عبد الملك، فاقتتلوا ثلاثة أيام أشد قتال، فرأى طارق ما الناس فيه من الشدة، فقام فحثهم على الصبر ورغبهم في الشهادة، وبسط في آمالهم. ثم قال: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس إلا الصبر منكم والنصر من ربكم تعالى. وأنا فاعل شيئاً فافعلوا كفعلي، فوالله لأقصدن طاغيتهم فإما أن أقتله وإما أن أقتل دونه! فاستوثق طارق من خيله وعرف حلية لدريق وعلامته وخيمته، ثم حمل مع أصحابه عليه حملة رجل واحد فقتل الله تعالى لدريق بعد قتل ذريع، وحمى الله المسلمين فلم يقتل منهم شيء، وانهزم الروم فأقام المسلمون ثلاثة أيام يقتلون فيهم، واحتز طارق رأس لدريق وبعث بها إلى موسى، وبعث بها موسى إلى الوليد بن عبد الملك، وسار المغيث إلى قرطبة وسار طارق إلى طليطلة، ولم تكن لهم همة غير المائدة التي يذكر أهل الكتاب أنها مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فدفع إليه ابن أخت لدريق المائدة والتاج فقومت المائدة بمائتي ألف دينار لما فيها من الجواهر التي لم ير مثلها. وبهذه الحيلة قهر البارسلان ملك الترك ملك الروم وقبضه، وقتل رجاله وأباد جمعه، وكانت الروم قد جمعت جيوشاً قل أن يجتمع لمن بعدهم مثلها، وكان مبلغ عددهم ستمائة ألف مقاتل من كتائب متواصلة وعساكر مترادفة، وكراديس يتلو بعضها بعضاً كالجبال الشامخة، يدرك بعضهم بعضاً لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد، وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق والآلات المعدة لفتح الحصون في الحرب، وكانوا قد اقتسموا بلاد المسلمين الشام ومصر والعراق وخراسان وديار بكر، ولم يشكوا أن الدولة قد دانت لهم وأن نجوم السعد قد خدمتهم، ثم استقبلوا بلاد المسلمين فتوارت أخبارهم إلى بلاد المسلمين واضطربت لها الممالك من الإسلام، فاحتشد للقائهم البارسلان التركي وهو الذي يسمى الملك العادل، وجمع جموعه بمدينة إصبهان، واستعد بما قدر عليه ثم خرج يؤمهم فلم يزل العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين وقالوا للبارسلان: غداً يتراءى الجمعان. فبات المسلمون ليلة الجمعة والقوم في عدد لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، وما المسلمون فيهم إلا أكلة جائع. فبقي المسلمون أجمعين لما دهاهم، فلما أصبحوا صباح يوم الجمعة نظر بعضهم إلى بعض، فهال المسلمين ما رأوا من كثرة العدد وقوتهم وآلاتهم. فأمر البارسلان أن يعد المسلمون فبلغوا اثني عشر ألف تركي، فإذا هم كالرقمة في ذراع الحمار، فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين والنظر في العواقب، فاستشارهم في استخلاص صواب الرأي فتشاوروا برهة ثم أجمع رأيهم على اللقاء، فتوادع القوم وتحاللوا وناصحوا الإسلام وأهله، ثم تأهبوا أهبة اللقاء وقالوا للبارسلان: نسمي الله تعالى ونحمل على القوم. فقال البارسلان: يا معشر أهل الإسلام أمهلوا فإن هذا يوم الجمعة والمسلمون يخطبون على المنابر ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها، فإذا زالت الشمس وفاءت الأفياء وعلمنا أن المسلمين قد صلوا ودعوا وصلينا

نحن، عملنا أمرنا. فصبروا إلى أن زالت الشمس ثم صلوا ودعوا الله تعالى أن ينصر دينهم ويربط على قلوبهم بالصبر، وأن يوهن عدوهم وأن يلقي في قلوبهم الرعب. وكان البارسلان قد استوثق من خيمته ملك الروم وعلامته وفرسه وزيه ثم قال لرجاله: لا يتخلف أحد منكم حتى يفعل كفعلي، ويضرب بسيفه ويرمي بسهمه حيث أضرب بسيفي وأرمي بسهمي. ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم، فقتلوا من كان دونها وخلصوا إليه وقتلوا من حوله، وأسر ملك الروم وجعلوا ينادون بلسان الروم: قتل الملك! فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا وتمزقوا كل ممزق، وعمل السيف فيهم أياماً وأخذ المسلمون أمولهم وغنائمهم. واستحضر ملك الروم بين يدي البارسلان بحبل في عنقه فقال له البارسلان: ما كنت تصنع بي لو أخذتني؟ قال: فهل تشك أني كنت أقتلك؟ فقال له البارسلان: أنت أقل في عيني أن أقتلك! اذهبوا به وبيعوه لمن يريده، فكان يقاد بالحبل في عنقه وينادي عليه: من يشتري ملك الروم؟ وما زالوا يطوفون على الخيام ومنازل المسلمين وينادى عليه بالدراهم والفلوس، فلم يدفع أحد فيه شيئاً حتى باعوه من إنسان بكلب، فأخذ الذي كان يتولى ذلك من أمره الكلب والملك، فحملها إلى البارسلان وقال: قد طفت جميع العسكر وناديت عليه فلم يبذل أحد فيه شيئاً إلا رجل واحد دفع لي فيه كلباً! قال: قد أنصف لأن الكلب خير منه، فاقبض الكلب وادفع إليه هذا الكلب! ثم إنه أمر بعد ذلك بإطلاقه فذهب إلى قسطنطينية فعزلته الروم وكحلته بالنار. فانظر ماذا يأتي على الملوك إذا عرفوا في الحرب من الحيلة والقصد والمكيدة. واعلم أن القدماء قالوا: الكثرة للرعب والقلة للنصر. وقد قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: 25) . فالكثرة أبداً يصحبها الإعجاب، ومع الإعجاب الهلاك. وخير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب جيش يبلغ اثني عشر ألفاً من قلة إذا اجتمعت كلمتهم. وأما صفة اللقاء وهو أحسن ترتيب رأيناه في بلادنا، وهو أرجى تدبير نفعله في لقاء عدونا، أن نقدم الرجالة بالدرق الكاملة والرماح الطوال والمزاريق المسنونة النافذة، فيصفوا صفوفهم ويركزوا مراكزهم ورماحهم خلف ظهورهم في الأرض، وصدورها شارعة إلى عدوهم جثياً في الأرض، وكل رجل منهم قد ألقم الأرض ركبته اليسرى وترسه قائم بين يديه، وخلفهم الرماة المختارون التي تمزق سهامهم الدروع، والخيل خلف الرماة فإذا حملت الروم على المسلمين لم تتزحزح الرجالة عن هيئاتها ولا يقم رجل منهم على قدميه، فإذا قرب العدو رشقتهم الرماة بالنشاب والرجالة بالمزاريق وصدور الرماح تتلقاهم، فاخذوا يمنة ويسرة فتخرج خيل المسلمين بين الرماة والرجالة، فتنال منهم ما شاء الله تعالى. ولقد حدثني من حضر مثل هذه الوقعة ببلدي طرطوشة قال: صاففنا الروم على هذا الترتيب فحملوا علينا، فبينا رجل منا كان في آخر الصف فقام على قدميه، فحمل عليه علج من العدو فأصاب غرته فقتله. ولما برز المقتدر بالله بن هود ملك الأندلس من سرقسطة في ثغور بلاد الأندلس للقاء الطاغية روميل، عظيم الروم، وكان كل واحد منهما قد احتشد منهما بما في ميسوره، فالتقى المسلمون والكفار ثم تنازلوا للقتال وتصاففوا، ودام القتال بينهم صدراً كثيراً وكان المسلمون في خسران، فأفزع المقتدر ذلك وفرق المسلمون من شر ذلك اليوم، فدعا المقتدر رجلاً من المسلمين لم يكن في الثغور أعرف

منه في الحرب يسمى سعدادة فقال له المقتدر: كيف ترى هذا اليوم؟ فقال سعدادة: هذا يوم أسود، ولكن بقيت لي حيلة. فذهب سعدادة وكان زيه زي الروم وكلامه كلامهم لمجاورتهم وكثرة مخالطتهم، فانغمس في عسكر الكفار ثم قصد إلى الطاغية روميل، فألفاه شاكاً في السلاح مكفتاً في الحديد، لا يظهر منه إلا عيناه فجعل يتحيله ويرتصد غرته إلى أن أمكنته الفرصة، فحمل عليه وطعنه في عينه فخر صريعاً لليدين والفم، ثم جعل ينادي بلسان الروم: قتل السلطان يا معشر الروم! فشاع قتله في العسكر فتجادلوا وولوا منهزمين، وكان الفتح بإذن الله تعالى. ولما استضعف الروم صقلية ووضعوا عليهم الخراج، فكانوا يحملون إليهم الخراج ويحملون الأموال إلى العرب بإفريقية، ويستنجدون بهم على الروم فقال لهم ملك الروم: إنما مثلي ومثلكم يا أهل صقلية مثل رجل له زوجتان عجوز وصبية، فكان إذا بات عند الصبية تلقط الشيب من لحيته لتصبيه فيزهد في العجوز، وإذا بات عند العجوز تلقط الشعر الأسود من لحيته لتشيخه فتزهد الصبية فيه، فيوشك إن دام هذا به أن يصبح أطلس، كذلك حالكم معي ومع العرب، إذا أديتم المال لي ولهم يوشك أن تفقد أموالكم فتبقوا فقراء فأسلمكم وأسلم البلاد. ويروى أنه لما هم بحصار صقلية أمر أن يبسطوا بساطاً في الأرض، ثم جعل في وسطه ديناراً ثم قال لوجوه رجاله: من أخذ منكم هذا الدينار ولم يطأ البساط، علمنا أنه يصلح للملك، فوقفوا حوله ولم يصل أحد إليه، فلما أعياهم ذلك طوى ناحية من البساط من عنده، وأمر أن يطوي كل واحد مما يليه حتى طوى البساط، فمدوا أيديهم فلحقوا الدينار، فحينئذ قال لهم: إن أردتم مدينة صقلية خذوا ما حولها من الحصون والمدن الصغار والضياع والقرى، حتى إذا ضعفت أخذتموها. وكان بسرقسطة فارس يقال له ابن فتحون، وكان يناسبني من جهة أمي فيقع ابن خال والدتي، وكان أشجع العرب والعجم، وكان المستعين أبو المقتدر يرى له ذلك ويعظمه، وكان يجري له في كل عطية خمسمائة دينار، وكانت النصرانية بأسرها قد عرفت مكانه وهابت لقاءه. فيحكى أن الرومي إذا سقى فرسه فلم يشرب يقول له: ويلك! لم لا تشرب هل رأيت ابن فتحون في الماء؟ فحسده نظراؤه على كثرة العطاء ومنزلته من السلطان وأغروا به صدر المستعين، فمنعه إياه. ثم إن المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم فتواقف المسلمون والمشركون صفوفاً، ثم برز علج إلى وسط الميدان ينادي: هل من مبارز؟ فخرج إليه فارس من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله الرومي، فصاح الكفار سروراً وانكسرت نفوس المسلمين، ثم جعل الرومي يكر على فرسه ويقول: اثنان لواحد! فخرج إليه فارس من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله الرومي، فصاح الكفار سروراً وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الرومي يكر ويفر بين الصفين وينادي: ثلاثة لواحد! فلم يستجرأ أحد من المسلمين أن يخرج إليه وبقي الناس في حيرة. فقيل للسلطان: ما لها إلا الوليد بن فتحون. فدعاه وتلطف به وقال له: أما ترى ما يصنع هذا العلج؟ فقال: هو بعيني! قال: فما الحيلة فيه؟ فقال أبو الوليد: فماذا تريد؟ فقال: اكف المسلمين شره! قال: الساعة يكون ذلك إن شاء الله تعالى. فلبس قميص كتان واستوى على سرجه بلا سلاح، وأخذ بيده سوطاً طويل الطرف وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إلى النصراني فعجب منه ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فلم تخط طعنة النصراني سرج ابن فتحون، فإذا ابن فتحون متعلق برقبة الفرس ونزل إلى الأرض لا شيء منه في السرج، ثم ظهر على سرجه وحمل عليه وضربه بالسوط في عنقه، فالتوى على عنقه فأخذه بيده من السرج واقتلعه وجاء به يجره، فألقاه بين يدي

الباب الثاني والستون: في القضاء والقدر والتوكل والطلب

المستعين، فعلم المستعين أنه قد أخطأ في صنعه معه فأكرمه ورده إلى أحسن أحواله. أيها الأجناد أقلوا الخلاف على الأمراء فلا ظفر مع الخلاف ولا جماعة لمن اختلف عليه. قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) فأول الظفر الاجتماع وأول الخذلان الافتراق، وعماد الجماعة السمع والطاعة، وإنما أتي علي رضي الله عنه يوم صفين وكان قد ظهر أهل العراق على أهل الشام، وتضعضعت صفوف معاوية فأحس بالشر وأنه مغلوب، فقال لعمر بن العاص: اذهب فخذ لنا الأمان من ابن عمك! يعني علياً رضي الله عنه، فأدار عمرو الحيلة وأمرهم أن يرفعوا المصاحف في أطراف الرماح وينادون: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى. فلما رأى ذلك أصحاب علي رضي الله عنه كفوا عن الحرب فقال لهم علي رضي الله عنه: يا قوم هذه مكيدة منهم ولم يبق في القوم دفاع! فعصوه وتركوا القتال وكان ذلك سبب الحكمين. اعلموا أن من أحزم مكائد الحرب إدكاء العيون واستطلاع الأخبار وإفشاء الغلبة، وإظهار السرور وإبانة الحذر والإحتراس من العدو، وأن لا تخرج هارباً إلى قتال ولا تضيق أماناً على مستأمن. وقال بعض المصنفين: كثرة التكبير عند اللقاء فشل. غضوا الأصوات وتجلببوا السكينة، وأقلوا اللوم واحتملوا الجبين. وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل. الليل يكفيك الجبان ويصف الشجاع، الليل المدد الأعظم. الحازم يحذر عدوه على كل حال، المواثبة إن قرب والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف والاستطراد إذا ولى، الجهل قوة الجراءة. من اغتر بقوته فقد وهن، ليس من القوة التورط في القوة. لكن أشد ما كنت أحذر ما كنت عند نفسك أكثر قوة وعدداً. من استضعف عدوه اغتر. ومن اغتر ظفر به عدوه. أشعروا قلوبكم في الحرب الجراءة فإنها سبب الظفر، واذكروا الظعائن فإنها تبعث على الإقدام، والتزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. إذا وقع اللقاء برز القضاء، إذا لقي السيف السيف ذهب الخيار. رب مكيدة أبلغ من نجدة. رب كلمة هزمت عسكراً. الصبر سبب النصر. الظفر مع الصبر. اجعل قتال عدوك آخر حيلك. النصر مع التدبير. لا ظفر مع بغي. لا تغتر بالأقوياء لفضل قوتك على الضعفاء لا تجبنوا عند اللقاء ولا تقتلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور ولا تغلوا عند الغنائم، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا. الباب الثاني والستون: في القضاء والقدر والتوكل والطلب اعلم وفقك الله تعالى أن مذاهب أهل الحق في القضاء والقدر وخلق الأفعال وإرادة الكاينات متيسرة لله، لا يخرج عن عمله وقضائه وقدره وحكمه حادث، فمن خالفنا في القضاء والقدر وافقنا في العلم، وقد تباين الخلق فيه وتشتتت مذاهبهم وتقاطعوا فيه وتدابروا، وكل حزب بما لديهم فرحون. ولم نضع هذه الترجمة لاستيفاء ما قالوا والاحتجاج لكل فريق، لأن ذلك يستدعي مجلدات وأسفار، وإنما نذكر في هذا الكتاب أحكاماً ظاهرة قريبة من العقول لتقريب الفائدة على الناظر فيه. فاعلم أولاً أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر، ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره، كذلك لا يطير طائر بجناحيه ولا يدب حيوان على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. ثم اعلم أن القدر والطلب لا يتنافيان والتوكل والكسب لا يتضادان، وذلك أن تعلم أن كل ما قضى الله تعالى وقدره فهو كائن لا محالة، كما أن ما عمله الله تعالى أن يكون

فهو كائن، ومن خالفنا في القضاء والقدر وافقنا في العلم، فرب أمر قدر الله تعالى وصوله إليك بغير طلب فهو واصل، ورب أمر قدر وصوله إليك بعد الطلب فلا يصل إلا بالطلب، والطلب أيضاً من القدر ولا فرق بين الأمر المطلوب وبين القدر في أنهما مقدوران. فمن ههنا قلنا إنهما لا يتنافيان. وكذلك التوكل مع الكسب لأن التوكل محله القلب والكسب محله الجوارح، ولا يتضاد شيئان في محلين بعدما يتحقق العبد أن المقدور من الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره وإن أتفق فبتيسيره. قال أنس رضي الله عنه: جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل. والتوكل والاعتصام بالقدر يستمدان من العقل، والطلب والكسب يستمدان من الأمر، فالتوكل على الله تعالى هو الثقة بما ضمنه والقطع بكون ما حكم به، فمن رام أمراً من الأمور ليس من الطريق في تحصيله أن يغلق بابه عليه، ويفوض أمره إلى ربه وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه الله تعالى فيه. وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، واتخذ خندقاً حول المدينة ليستظهر به ويحترس به من العدو، وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لامة الحرب ويعبئ، الجيوش، ويأمرهم وينهاهم بما فيه مصالحهم، واسترقى وأمر بالاسترقاء وتداوى وأمر بالمداواة وقال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء. فإن قيل: قد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل؟ قلنا: أليس أنه قد قال اعقلها وتوكل، وظاهر بين درعين وسائر ما ذكرناه آنفاً. فإن قيل: فما الجمع بين ذلك؟ قلنا: معناه من اكتوى أو استرقى متكلاً على الرقية والكي، وأن البرء من قبلهما خاصة فهذا يخرجه من التوكل، وإنما يفعله كافر يضيف الحوادث إلى غير الله تعالى. فأما من باشر الأسباب والأدوية وتعاطى تدبير الأمور بنفسه وأعوانه وماله، على ما جرت به سيرة الله في أرضه وعادته في خلقه، غير معتمد على شيء من ذلك بل هو واثق القلب أن ما حصل فبتقديره وما تعسر فبتقديره، معتمداً في ذلك على المسبب لا على الأسباب، فهذا هو التوكل لكن شرطه أن يمشي في ذلك كله مع الأمر، ولا يسلك طريقاً فيه معصية فليس يستدرك ما عند الله بمعاصيه. قال علي رضي الله عنه: من ابتغى أمراً بمعصية الله تعالى كان أبعد لما رجي وأقرب لمجيء ما أتقن. ومن ظن أن الطلب والاكتساب يناقض التوكل، فقعد في بيته وأغلق بابه متكلاً على اله عز وجل في زعمه، كان عن العقل خارجاً وفي تيه الجهل والجاً، ويقال له: فيجب من هذا إذا جعت وحضر الطعام لا تمد يدك إليه ولا تفتح فاك له، فإن تمادى على ذلك كان إلى العقل أحوج منه إلى المعرفة، وينبغي لأهله أن يداووه. ألا ترى أن الله تعالى قال لمريم عليها الصلاة والسلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} (مريم: 25) فهلا أمرها بالسكوت ثم حمل الرطب إلى فيها؟ وهكذا القول فيمن له دابة أو بستان يؤمر بسقي البستان وحفره وإصلاح شأنه، ويؤمر بأن يعلف الدابة ويسقيها. وأنشدوا: ألم تر أن الله قال لمريم إليك فهزي الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزها إليها ولكن كل شيء له سبب وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو أخماصاً وتروح بطاناً فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه في الغدو والرواح. وقد كان جهبل بن رئيس القندهارس برئ من تصديق القدر وتكذيب الطلب، دون أهل زمانه من

الملوك ما حجزه عن الطلب والتدبير، فأخرجه إخوته من سلطانه وقهروه على مملكته. فقال له بعض الحكماء: إن ترك الطلب يضعف الهمة ويذل النفس، وصاحبه سائر إلى أخلاق دواب الحجرة من الحيوان كالضب وسائر الحشرات تنشأ في حجرتها وفيها يكون موتها. ثم جمعوا بين الطلب والقدر وقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة إن حمل في واحد منهما رجح على الآخر وسقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره، وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته. وضربوا له مثالاً عجيباً فقالوا: إن أعمى ومقعداً كانا في قرية بفقر وضر، لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد. وكان في القرية رجل يطعمهما في كل يوم احتساباً قوتهما من الطعام والشراب، فلم يزالا في عافية إلى أن هلك المحتسب، فأقاما بعده أياماً فاشتد جوعهما وبلغ الضرر منهما جهده، فأجمعا رأيهما على أن يحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، ويستقل الأعمى بحمل المقعد ويدوران في القرية يستطعمان أهلها ففعلا فنجح أمرهما ولو لم يفعلا هلكا. وكذلك القدر سببه الطلب، والطلب سببه القدر، وكل واحد منهما معين لصاحبه. فأخذ جهبل في الطلب فظفر بأعدائه ورجع إلى ملكه. فكان جهبل يقول: لا تدع الطلب اتكالاً على القدر، ولا تجهدن نفسك في الطلب متكلاً عليه مستهيناً بالقدر، فإنك إذا جهدت نفسك في الطلب بوجوه التدبير المحمودة مصدقاً بالقدر، نلت ما تحاول ولم تلتو عليك الأمور. فإن علمت بذلك والتوى عليك أمر من مطلوبك فذلك من إعاقة القدر، وأنك قد أتيت ذنباً فتفقد جوارحك واستكشف ظاهرك وباطنك، وتب إلى الله تعالى من كل ذنب أتيته بجارحة من جوارحك، واخرج من كل مظلمة ظلمتها، فإذا فعلت ذلك قابلك الحظ وساعدك القدر إن شاء الله تعالى. واعلم أن على هذا الأصل الذي قررناه يخرج كل ما ورد في القرآن العزيز. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوكل على الله عز وجل والتسليم إليه والتفويض له. ومن ذلك أن سليمان الخواص رحمة الله عليه تلى يوماً قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: 58) فقال: ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى. قلنا: معناه لا يلجأ إلى الأسباب اعتماداً عليها، ولكن يلجأ إليها واثقاً بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقل الناقة ولبس درعين. ألا ترى أن من يطلب الزرع والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولا بذر أرضه معتمداً في ذلك على الله تعالى واثقاً به أن تلد امرأته من غير وقاع، وتنبت أرضه الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجاً ولأمر الله تاركاً. وللأئمة والحكماء في القدر ألفاظ بارعة سليمة على السير والامتحان. منها ما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن القدر، فأعرض عن السائل فأبى إلا الجواب، فقال علي رضي الله عنه: أخبرني أخلقك الله تعالى كما يشاء أو كما تشاء؟ فأمسك الرجل فقال علي رضي الله عنه للحاضرين أترونه يقول كما أشاء؟ إذاً والله أضرب عنقه. فقال الرجل: كما يشاء. فقال علي: يحييك على ما يشاء أو كما تشاء. قال: كما يشاء. قال: أيميتك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال: كما يشاء. قال: أفيحشرك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال: كما يشاء. قال: أفيدخلك حيث يشاء أو حيث تشاء؟ قال: حيث يشاء. فقال: قم فليس لك من الأمر شيء! وروى أن رجلين قدرياً ومجوسياً تناظرا فقال القدري للمجوسي: ما لك لا تسلم؟ فقال المجوسي: لو أراد الله تعالى لأسلمت. فقال القدري: قد أراد الله تعالى أن تسلم ولكن الشيطان يمنعك! فقال المجوسي: فأنا مع أقواهما. وروي في الإسرائيليات أن نبياً من أنبياء الله تعالى مر بفخ منصوب، وإذا بطائر قريب منه فقال الطائر:

يا نبي الله تعالى هل رأيت أقل عقلاً من هذا؟ نصب هذا الفخ ليصيدني فيه وأنا أنظر إليه. فقال: فذهب عنه ثم رجع فإذا الطائر في الفخ. فقال له: عجباً لك! أولست القائل آنفاً كذا وكذا؟ فقال: يا نبي الله إذا جاء الحين لم تنفع أذن ولا عين. وقال رجل من الخوارج لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرأيت من جنبني سبيل الهدى وسلك بي سبيل الردى أحسن إلي أم أساء؟ فقال له علي رضي الله عنه: إذا كنت استوجبت عليه حقاً فقد أساء وإذا كنت لم تستوجب عليه حقاً فهو يفعل ما يشاء. وقال مأمون بن مهران لغيلان القدري: سل فأقوى ما تكونون إذا سألتم. فقال غيلان: أشاء الله أن يعصى؟ فقال ميمون: أيعصى كارهاً؟ فانقطع غيلان. وروي أن رجلاً قال لبزرجمهر: تعال نتناظر في القدر. فقال: وما نصنع بالمناظرة في القدر؟ رأيت ظاهراً استدللت به على الباطن، ورأيت أحمق مرزوقاً وعاقلاً محروماً، فعلمت أن التدبير ليس للعباد. وقال بعضهم: يخيب الفتى من حيث يرزق صاحبه ويعطى المنا من حيث يحرم طالبه ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك، فقال له يزيد بن المهلب: أنت أدهى الناس وأعلمهم فكيف طرحت نفسك في يد سليمان؟ فقال موسى: إن الهدهد يهندس الماء في الأرض الفيفاء، ويبصر القريب منه من البعيد على بعده في التخوم، ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة والحية فلا يبصره حتى يقع فيه. وفي الإسرائيليات: أن الهدهد كان رائد سليمان بن داود عليهما السلام إلى الماء فيتقدم عسكره ثم ينظر إلى الأرض فيقول: الماء هنا على ألف قامة أو أقل أو أكثر. فتبادره الجن تحفره فلا يلحق سليمان عليه السلام إلا وقد استعد الماء. واعلموا أن الهارب مما هو مقضي مقدر كالمتقلب في كف الطالب. وأنشد بعضهم: وإذا خشيت من الأمور مقدراً وفررت منه فنحوه تتوجه وقال بشار: طبعت على ما في غير مخبر هوائي ولو خيرت كنت مهذبا أريد فلا أعطى وأعطى فلم أرد وقصار علي أن ينال المغيبا وأصرف عن قصدي وعلمي مقصرا وأمسي وما أعطيت إلا التعجبا ولما وقع الطاعون في الكوفة فر بن أبي ليلى على حمار له يطلب النجاة فسمع منشداً ينشد: لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار ويأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري فكر راجعاً إلى الكوفة وقال: إذا كان الله أمام الساري فلات حين مهرب. وأنشد بعضهم: أقام على المسير وقد أنيخت مطاياه وغرد حادياها وقال: أخاف عادية الليالي على نفسي أن ألقى رداها ومن كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها ولما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتاباً فيه: إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلاً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. وقال ابن عباس وجعفر بن محمد وحسن البصري رحمهم الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} (الكهف: 82) إنما كان الكنز لوحاً من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح،

الباب الثالث والستون: وهو جامع من أخبار ملوك العجم وغيرهم وحكاياتهم

وعجبت لمن يوقن بيوم الحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يريد أن يتناول رزقه بتدبيره وهو يرى تناقض تدبيره، ورجل شغله هم غده، وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط. ومن أعجب ما نزل بالإسكندرية أن رجلاً من خدمة السلطان غاب عن خدمته أياماً، وقبضه الشرط وحملوه إلى دار السلطان، فانساب منهم في بعض الطريق وترامى في بئر، والمدينة مسربة تحت الأرض بأسراب يمشي الماشي فيها قائماً يخترقها ويدورها، لأن في دورها آباراً على تلك السروب، فما زال الرجل يمشي إلى أن لاح له بئر مضيئة فطلع منها. وإذا البئر في دار السلطان فطلع الرجل في دار السلطان، فأدبه السلطان فكان فيه المثل السائر: الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل ليشرف على الأمر من الإمارة والتجارة أو غيرها، ذكره الله فوق سماواته فيقول للملك: اصرف عن عبدي هذا الأمر فإني إن أيسره له أدخله به جهنم، فيظل متغيظاً على جيرانه فيقول: سبقني فلان وحسدني فلان وما صرفه عنه إلا الله تعالى. وأنشد بعضهم: قالوا تقيم وقد أحا ط بك العدو ولا تفر فأجبتهم والشيخ ما لم ينتفع بالعلم غمر: لا نلت خيراً ما بقي ت ولا عداني الدهر شر إن كنت أعلم أن غ ير الله ينفع أو يضر استأذن العقل على الجد فقال: اذهب فلا حاجة لي بك. فقال العقل: ولم؟ فقال: لأنك تحتاج إلي وأنا لا أحتاج إليك. وأوصى حكيم ابنه فقال: يا بني رزقك الله جداً يخدمك به ذوو العقول ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوو الجدود. وكان يقال: إفراط العقل مضر بالجد. وروي أن رجلاً خير في أمر فأبى أن يختار وقال: أنا بجدي أوثق مني لعقلي فافرغوا. وفي الأمثال: اسع بجد لا بكد. واسع بجد ودع جدك لك ذلك الجد لا الجد. الجد أغنى من الكد. واعلم أن زمام الأمور التوفيق، ولم ينزل من السماء إلى الأرض أجل من التوفيق وهو مقرون بالاجتهاد. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) . وقد كنت جمعت فيه كتاباً من جملة كتابي في الأسرار. هل التوفيق مكتسب أو موهوب بلا مزيد عليه؟ ومن لطيف ما وقفت عليه في مجال القضاء والقدر، وأن الهارب من القدر كالمتقلب في يد الطالب، ما نزل بنا في الإسكندرية في قضية الرجل الذي تقدم ذكرة. الباب الثالث والستون: وهو جامع من أخبار ملوك العجم وغيرهم وحكاياتهم وهو مشتمل على خمس فصول: الأول يشتمل على أخبار وقعت إلينا بعد فراغنا من الكتاب فألحقناها. والثاني يشتمل على حكم لحكيم الفرس خاصة. والثالث يشتمل على حكم الحكيم الهند خاصة. والرابع يشتمل على حكم لحكيم العرب خاصة. والخامس يشتمل على حكم محمودة مجموعة منتخبة، رسمنا ذلك لننظر في عقول القوم وأغراضهم ومنتهى مرامهم، من كتاب جاويدان جرد الفارسي: ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر والحيل: العبادة في العلماء، والعقول في

المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار، وثلاث لا يشبع منهن: الحياة والعافية والمال. وقال ابن لقمان لأبيه: يا أبت ما الداء العياء؟ قال: رعونة مولودة. قال: فما الجرح الدوي؟ قال: المرأة السوء! قال: فما الحمل الثقيل؟ قال: الغضب. ولما قرأ هذه الحكاية أبو عباد الكاتب، وكان ظريفاً في أحباره قال: لكن والله الغضب أخف علي من ريشة، وكان أسرع الناس غضباً فقيل له: إنما عنى لقمان أن احتمال الغضب ثقيل. فقال: لا والله لا يقوى أحد احتمال الغضب إلا الجمل. وغضب يوماً على بعض أصحابه فرماه بدواة فشجه، فجعل الدم يسيل فقال أبو عباد: صدق الله عز وجل حيث قال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: 37) فبلغ ذلك المأمون فاستدعاه وقال له ويلك! ألا تحسن أن تقرأ آية من كتاب الله عز وجل؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأقرأ من كل سورة ألف آية فضحك المأمون وأمر بإخراجه. وقيل لأنوشروان: ما العقل؟ قال: القصد في كل الأمور. قيل: فالمروة؟ قال: ترك الربية. قيل: فما السخاء؟ قال: أتنصف من نفسك. قيل: فما الحمق؟ قال: الإغراق في الذم والحمد. وقيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: سوء الظن. فقال بعضهم في قوله الحزم سوء الظن قال: إنما أراد سوء الظن بنفسه لا بغيره. قيل: فما الصواب؟ قال: المشورة. قيل: فما الذي يجمع القلوب على المودة؟ قال: كف بذول وبشر جميل. قيل: فما الاحتياط؟ قال: الاقتصاد في الحب والبغض. وقال معاوية لزياد حين ولاه العراق: يا زياد ليكن حبك وبغضك قصداً فإن الغيرة كامنة، واجعل للرجوع والنزوع بقية من قلبك، واحذر صولة الإنهماك فإنها تؤدي إلى المهالك. وهو مثل قول علي بأبي طالب رضي الله عنه: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. ومن ذلك قول الأول: وأحبب حبيبك حباً رويداً فليس يفوتك أن يصرما وقال آخر: ولا تيئسن الدهر من حب كاشح ولا تأمنن الدهر صرم حبيب وسئل بزر جمهر عن العقل فقال: ترك ما لا يعني. فسئل: فما الحزم؟ قال: انتهاز الفرصة. قيل: فما الحلم؟ قال: العفو عند المقدرة. قيل: فما الشدة؟ قال: ملك الغضب. قيل: فما الخرق؟ قال: حب مغرق وبغض مفرط. وقيل لبعض الملوك، وقد بلغ في المنزلة والقدرة ما لم يبلغه أحد من ملوك زمانه: ما الذي بلغ بك هذه المنزلة؟ قال: عفوي عند قدرتي وليني عند شدتي، وبذلي الإنصاف ولومي نفسي وإبقائي في الحب والبغض مكاناً لموضع الاستبدال. وقال الإسكندر لبعض الحكماء وقد أراد سفراً أرشدني لأحزم أمري. قال: لا تملكن قلبك محبة الشيء ولا يستولين عليك بغضه، واجعلها قصداً فإن القلب كاسمه يتقلب وله خاصية تنزع وترجع، واجعل وزيرك التثبت وسميرك التيقظ، ولا تقدم إلا بعد المشورة فإنها نعم الدليل، وإذا فعلت ذلك ملكت قلوب رعيتك ملك استعباد، قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب وقيل لبعض الحكماء: ما الدليل الناصح؟ قال: غريزة العقل مع الطبع. قيل: فما القائد المشفق؟ قال: حسن المنطق. قيل: فما العياء المعي؟ قال: تطييعك من لا طبع له. وقال الفضل بن مروان: سألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم فقال: بذل عرفه وجرد سيفه، فاجتمعت عليه القلوب رغبة ورهبة، لا يهضم جنده ولا يحرج رعيته سهل النوال حزن النكال، الرجاء والخوف

معقودان في يده. قلت: فكيف حكمه؟ قال: يرج الظلم ويردع الظالم ويعطي كل ذي حق حقه، فالرعية اثنان راض ومغتبط. قلت: فكيف هيبتهم له، قال يتصور في القلوب فتغضي له العيون. قال: فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه وإقبالي عليه، وكانت الرسل تنزل عندي فقال لترجمانه: ما الذي يقول الرومي؟ قال: يصف له ملكهم ويذكر سيرته. فكلم الترجمان بشيء فقال لي الترجمان: أنه يقول أن ملكهم ذو أناة عند المقدرة وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة وذو عقوبة عند الاحترام، قد كسا رعيته جميل نعمته وقصرهم بعنيف عقوبته، فهم يتراءونه ترائي الهلال خيالاً ويخافونه مخافة الموت نكالاً، وقد وسعهم عدله وردعتهم سطوته وبأسه، فلا يمتهنه مرحه ولا يوثقه عقله. إذا أعطى أوسع وإذا عاقب أوجع، فالناس اثنان راج وخائف، فلا الراجي خائب الأمل ولا الخائف بعيد الأجل. قلت: فكيف رهبتم له؟ قال: لا ترفع إليه العيون أجفانها ولم تتبعه الأبصار إنسانها، كأن رعيته قطاً فرقت عليها صقور صوائد. فحدث المأمون بهذين الحديثين فقال لي: كم قيمتها عندك؟ قلت: ألفا درهم. قال: يا فضل إن قيمتها أكثر من الخلافة، أما علمت حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: قيمة كل امرئ ما يحسن أفتعرف أحداً من الخطباء البلغاء أن يصف أحداً من الخلفاء الراشدين المهديين بمثل هذه الصفة؟ قلت: لا. قال: فقد أمرت لهما بعشرين ألف دينار معجلة، واجعل العدة مادة بيني وبينهما على العود، فلولا حقوق الإسلام وأهله لرأيت إعطاءهما ما في بيوت المال الخاصة والعامة دون ما يستحقانه. وقال الفضل بن سهل: كان عندي رسول ملك الروم، وكان يحدثني عن أخت الملك يقال لها خاتون قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرارة المصائب وصنوف الآفات، ففزع الناس إلى الملك فلم يدر ما يجيبهم به. فقالت له خاتون: يا أيها الملك إن الحزم علق لا يخلق جديده ولا يمتهن عزيزه، وهو دليل الملك على استصلاح رعيته وزاجر له عن استفسادها، وقد فزعت رعيتك إليك لفضل العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزاء، ولا ينقصه العود بالإحسان إليهم ملكاً، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الموصى ولا بركوب الدلالة من الدال، ولا بحسن الرعاية من الراعي ولم تزل في نعمته لم تغيرها نقمة، وفي رضى لم يكدره سخط إلى أن جرى القدر بما عمي البصر وذهل عنه الحذر، فسلب الموهوب والسالب هو الواهب، فعد إليه بشكر النعم وعذبه من فظيع النقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلن الحياء من التذلل للمعز المدل شركاً بينك وبين رعيتك، فتستحق مذموم العاقبة، ولكن مرهم ن ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار بالله بكنه القدرة، وبتذلل الألسن في الدعاء بمحض الشكر له تعالى، فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن سيئ فعل إلى صالح عمل، وليبعثه على دؤب شكر يحوز به أفضل أجر. فأمرها الملك أن تقوم فيهم وتنذرهم بهذا الكلام ففعلت، فرجع القوم عن بابه. وقد علم الله تعالى منهم قبول الوعظ في الأمر والنهي فحال الحول عليهم وما بينهم مفتقد نعمة كان قد سلبها، وتوارت عليهم الزيادات بجميل الصنيع، فاعترف الملك لها بالفضل فقلدها الملك بعده وجمع الرعية على الطاعة لها في المحبوب والمكروه. فهذا فعل الله تعالى بأعدائه وضرائر نعمه، لما شكروه أعاد لهم من نعمه ما كان قد استرجع وزادهم من فضله ما تمنوه، فكيف بمن يوحدونه ويؤمنون به لو صدقت نياتنا وضمائرنا؟ وقال

الواقدي: توفي رسول بعض الملوك بدمشق في خلافة هشام بن عبد الملك فوجد في جيبه لوح من ذهب مكتوب فيه: إذا ذهب الوفاء نزل البلاء، وإذا مات الاعتصام عاش الإنتقام، وإذا ظهرت الخيانات امتحقت البركات. وقال الوضاحي: وجه أنوشروان رسولاً إلى الملك قد أجمع على محاربته وأمره أن يتعرف سيرته في نفسه ورعيته، فرجع إليه فقال: وجدت عنده الهزل أقوى من الجد والكذب أكثر من الصدق والجور أرفع من العدل. فقال أنوشروان: رزقت الظفر به سر إليه وليكن عملك في محاربته بما هو عنده أضعف وأقل وأوضع، فإنك منصور وهو مخذول. فسار إليه فقتله واستولى على مملكته. وقال بزرجمهر: المزح آفة الجد والكذب عدو الصدق والجور مفسدة، فإذا استعمل الملك الهزل ذهبت هيبته، وإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا بسط الجور فسد سلطانه. وكان نقش خاتم رستم وهو أحد ملوك الفرس: الهزل مبغضة والكذب منقصة والجور مفسدة. وقتل لبعض أصحاب اسفنديار رجل من الترك، فأصيب في عنقه لوح من ذهب مكتوب فيه: آفة الشدة التهيب وآفة المنطق الحياء وآفة كل شيء الكذب. وقيل لبعض الحكماء: ما قيمة الصدق؟ قال: الخلد في الدنيا. قيل: فما قيمة الكذب؟ قال: موت عاجل. قيل: فما قيمة العدل؟ قال: ملك الأبد. قيل: فما قيمة الجور؟ قال: ذل الحياة قال: وسأل ملك الهند الإسكندر وقد دخل بلاده: ما علامة الملك ودولته؟ قال له: الجد في كل الأمور. قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيه. قال: فما سرور الدنيا؟ قال: الرضاء بما رزقت. قال: فما غمها قال: الحرص على ما لعلك لا تناله. وقال بزرجمهر: ثلاث هن سرور الدنيا وثلاث هن غمها: فأما السرور فالرضاء بالقسم والعمل بالطاعة في النعم ونفي الاهتمام بالرزق لغد، وأما الغم فحرص مسرف وسؤال مجحف، وتمنى ما يلهف. ومر بعض الملوك بغلام يسوق حماراً غير منبعث، وقد عنف عليه في السوق فقال: يا غلام ارفق به. فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرة عليه. قال: وما مضرته؟ قال: يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وما الإحسان إليه؟ قال: يخف حمله ويطول أكله. قال فأعجب الملك بكلامه وقال له: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مأجور. قال: وقد أمرت بإثبات اسمك في جيشي. فقال: كيف مؤونة ورزقت بها معونة. قال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. قال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. قال فاستوزره فوجده ذا رأي صائب وفهم رحيب ومشورة تقع مواقع التوفيق. قال: وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس، وقد نفذت يده في المشرق والمغرب وبلغ منهما ما لم يبلغه أحد قبله: اكتب إلي لفظاً موجزاً ينفع ويردع. فكتب إليه: إذا استولت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنتك العافية فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية الأمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة إليها نصيباً. قال ووعظ بعض الحكماء ملكاً فقال له: أيها الملك إن الدنيا دار عمل والآخرة دار ثواب، ومن لا يقدم لا يجد فأذق نفسك حلاوة عيشها بترك الإساءة إليها. واعلم أن زمام العافية بيد البلاء وأمن السلامة تحت جناح العطب، وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكونن في حال من هذه الثلاثة غير متوقع لأضدادها ولا تجعل نفسك غرضاً لسهام الهلكة، فإن الدهر عدو بن آدم فاحترز من عدوك بغاية

الاستعداد، وإن فكرت في نفسك وعدوها استغنيت عن الوعظ. قال وكتب الإسكندر على باب الإسكندرية أجل قريب في يد غيرك وسوق حثيث من الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين المدة فاحتل قبل المنع واكرم أجلك بحسن صحبة السابقين، وإذا آنستك السلامة فاستوحش العطب فإنه الغاية، وإذا فرحت بالعافية فاحزن للبلاء فإليه تكون الرجعة، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل فهو الموعد وإليه المورد. وقال ابن الأعرابي: حدثني من رأى بين إصبهان وفارس حجراً مكتوباً عليه: العافية مقرونة بالبلاء والسلامة مقرونة بالعطب والأمن مقرون بالخوف. ولما ضرب أنوشروان عنق بزرجمهر لما رغب عن دين المجوسية وانتقل إلى دين المسيح عليه السلام، وجد في منطقته كتاباً فيه ثلاث كلمات: إذا كان المقدر حقاً فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلاً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. ولما تاب الله تعالى على سلمان بن داود عليه الصلاة والسلام ورد عليه ملكه: كتب على كرسيه: إذا صحت العافية نزل البلاء، وإذا تمت السلامة نجم العطب، وإذا تم الأمن علق الخوف. وحفر حفير بفارس فوجد فيه لوح رخام فيه أربعة أسطر محفورة: أولها أيها المعافي ابشر بالبلاء، والثاني أيها السالم توقع العطب، والثالث أيها الآمن خذ أهبة الخوف، والرابع أيها الموسر لن يبعد عنك العسر. ولما نزل أبو مسلم مدينة سمرقند أتاه اسبهندها فقال: أيها الملك إن بالقندهارس حجراً مدفوناً فيه ثلاثة أسطر وجدت في الكتب، وإن سليمان بن داود عليه السلام بعث به ودفن في هذا الموضع ووجد أنك أنت الذي تستخرجه وتعمل بما فيه. فأمر به فأخرج فإذا أول سطر فيه: الحزم انتهاز الفرصة وترك الونى فيما يخاف عليه الفوت. والسطر الثاني: الرياسة لا تتم إلا بحسن السياسة. والسطر الثالث: لم يقتل الآباء من ترك الأبناء ولم يصب من لم يحب. فكان أبو مسلم يقول: علم جليل به تتم هذه الدولة إن لم ينزل القدر ربما يحول بيننا وبين الحذر، فلم يزل يستعمل هذا الكلام إلى أن قدم العراق فأعماه القدر عن الاستعانة بالحذر، فقتله أبو جعفر المنصور. ولما حج أبو مسلم قيل له: إن بالحيرة نصرانياً قد أتت له مائتا سنة وعنده علم من العلم الأول، فوجه إليه فأتي به. فلما نظر الشيخ إلى أبي مسلم قال: قدمت بالكفاية ولم تأل في العناية وقد بلغت النهاية، أسلمت نفسك لمن سيسكت حسك وكأن قد عاينت رمسك. فبكى أبو مسلم فقال: لا تبك لأنك لم تؤت من حزم وثيق ولا من رأي دقيق ولا من تدبير نافع ولا من سيف قاطع، ولكن ما استجمع لا حد في أمله إلا أسرع في تقريب أجله. قال: فمتى تراه يكون؟ قال: إذا توطأ الخليفتان على أمر كان والتقدير في يد من يبطل معه التدبير، وإن رجعت إلى خراسان سلمت وهيهات، فأراد الرجوع فكتب إليه السلطان بالمضي ووجه إليه من يحثه، فلولا أن البصير يعمى إذا نزل القدر لكانت هذه دلالة تقع موقع العيان، وتبعث على التيقظ بالحذر والاحتيال في الهرب، على أن لكل نفس غاية ولكل أمر نهاية. وقيل لجالينوس وهو حكيم الطب وفيلسوفه وفد نهكته العلة: ألا تتعالج؟ فقال: إذا كان الداء من السماء بطل الدواء، وإذا قدر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الأجل وبئس الداء الأمل! وقال بعض الغزاة فتحنا حصناً من بلاد الروم فرأينا فيه صورة أسد من حجر مكتوب عليه: الحيلة خير من الشدة والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل

والتفكر في العاقبة مادة الجزع. وقال أحمد بن سهل: وجه ملك الروم إلى هارون الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، وعلى سيف منها مكتوب: أيها المقاتل احمل تغنم ولا تفتكر في العاقبة فتهزم. وعلى الثاني مكتوب: إذا لم تصل ضربة سيفك فصلها بإلقاء خوفك. وعلى الثالث مكتوب: التأني فيما لا تخاف عليه الفوت أفضل من العجلة إلى أدراك الأمل. وقال الحسن ابن سهل: قرأت في كتاب جاويدان جرد: ثلاثة تبطل مع ثلاثة: الشدة مع الحيلة والعجلة مع التأني والإسراف مع القصد. وقال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجراً مكتوب بالحميرية: أيها الشديد احذر الحيلة، أيها العجول احذر التأني، أيها المحارب لا تأنس بالتفكر في العاقبة، أيها الطالب موجوداً لا تقطع أملك من بلوغه. وكتب قيصر إلى كسرى: أخبرني بأربعة أشياء لم أجد من يعرفها وأخالها عندك، أخبرني ما عدو الشدة ومدرك للأمل وصديق الظفر ومفتاح الفقر؟ فكتب إليه كسرى: الحيلة عدو الشدة والصبر صديق الظفر والتأني مدرك الأمل والجود مفتاح الفقر. وقال بعض الملوك لحكيم وقد أراد سفراً: أوقفني على أشياء من حكمتك اعمل بها في سفري. فقال له: اجعل تأنيك زمام عجلتك وحيلتك رسول شدتك وعفوك ملك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب رعيتك إن لم تحرجهم بالشدة عليهم أو تبطرهم بالإحسان إليهم. وقال الخضر بن علي: قرأت في كتاب جاويدان جرد وهو أجل كتاب الفرس: الحيلة أنفع من أقوى الشدة وأقل التأني أحد من أكثر العجلة، والدولة رسول القضاء المبرم. وإذا استبد الإنسان برأيه عميت عليه المراشد وكان الجنكان أبو بزرجمهر خامل القدر وضيع الحال مفهه المنطق، فلما أتت على بزرجمهر خمس عشرة سنة حضر مجلس الملك، وقد جلست الوزراء على كراسيها والمرازبة في مجالسها وقف فحي الملك ثم قال: الحمد لله المأمول نعمه المرهوب نقمة، الدال عليه بالرغبة إليه المؤيد الملك بسعود الفلك، حتى رفع شأنه وعظم سلطانه وأنار به البلاد فعاش به العباد، وقسم له في التقدير وجوه التدبير، فرعى رعيته بفضل نعمته وحماها الموبلات وأوردها المعيشات، وزادها عن الآكلين وألفها بالرفق واللين، إنعاماً من الله تعالى عليه وتثبيتاً لما في يديه، وأسأله أن يبارك له فيما آتاه ويختار له فيما استرعاه، ويرفع قدره في السماء وينشر ذكره تحت الماء، حتى لا يبقى له بينهما مناوي ولا يجد له فيهما مداني، واستوهب له حياة لا تنغيص فيها وقدرة لا يشاد عنها، وملكاً لا بؤس فيه وعافية تديم له البقاء وتكثر له النعماء، وعزاً يؤمنه من انقلاب رعية وهجوم بلية، فإنه مولى الخير ودافع الشر. فأمر الملك فحشى فمه بثمين الجواهر ورفيعه، ولم تدفع حداثة سنه مع نبل كلامه أن استوزره وقلده خيره وشره، فكان أول داخل وآخر خارج. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما لله على تعالى على العاقل نعمة بعد الإسلام أفضل من مباينة هذه السفلة بالفهم والعقل، ولو لم يكن هذا ما عرف الله تعالى إلا بالجهل. ألا ترى أن الله تعالى خاطب أولي النهي والألباب وذوي البصائر فيجب على العلية أن يحمدوا الله تعالى على مباينة هذه السفلة بالعقول والأفهام كما يحمدونه على جميع النعم. وقيل لمروان ابن محمد وهو آخر ملوك بني أمية: ما الذي صار بك إلى هذا قال: الاستبداد برأيي لما كثرت علي كتب نصر بن سيار أن أمده بالأموال والرجال. قلت في نفسي: هذا رجل يريد الاستكثار من الأموال والجند بما يظهر لي من فساد الدولة قبله، وهيهات

أن ينتقض على خراسان فانتقضت دولته من خراسان. وقال الواقدي: قال الفضل بن سهل: لما دعي المأمون في كورة خراسان بالخلافة فجاءتنا هدايا الملوك سروراً بمكانة من الخلافة، ووجه ملك كالبستان شيخاً يقال له ذوبان، وكتب يذكر أنه قد توجه بهدية ليس في الأرض أسنى ولا أرفع ولا أفخر ولا أنبل منها. فتعجب المأمون وقال: سل الشيخ ما معه. فسألته فقال الشيخ: ما معي شيء أكثر من علمي. قلت: وأي شيء علمك؟ قال: رأي ينفع وتدبير يقطع ودلالة تجمع. قال: فسر المأمون بذلك وأمر بإنزاله وإكرامه وكتمان أمره. فلما أجمع على التوجه إلى العراق لقتال أخيه قال لذوبان: ما ترى في التوجه إلى العراق؟ قال: رأي وثيق وحزم مصيب وملك قريب، والسير ماض فاقض ما أنت قاض. قال له: فمن نوجه؟ قال: الفتى الأعور الطاهر الأطهر يسير ولا يعثر، قوي مرهوب مقاتل غير مغلوب. قال: وكم نوجه معه من الجند؟ قال: أربعة آلاف صوارم الأسياف، لا ينقصون فخر العدد ولا يحتاجون إلى المدد، فسر المأمون ووجه بطاهر بن الحسين قال: وفي أي وقت يخرج؟ قال: مع طلوع الفجر لك الأمر ويصير إلى النصر، نصر سريع وقتل ذريع وتفريق تلك الجموع والنصر له لا عليه ثم يرجع الأمر إليك وإليه، فظفر طاهر وكان له النصر وقتل علي بن عيسى وزير الأمين واستولى على عسكره وحاز أمواله. فأمر الملك لذوبان بمائة ألف درهم فلم يقبلها وقال: أيها الملك إن ملكي لم يوجهني إليك لأنقصك مالك فلا تجعلن ردي نعمتك تسخطاً وسوف أقبل ما يفي بهذا المال ويزيد عليه. قال المأمون: وما هو؟ قال: كتاب يوجد بالعراق فيه مكارم الأخلاق وعلوم الآفاق، من كتب عظيم الفرس فيه شفاء النفس من صنوف الآداب ما ليس في كتاب، عند عاقل لبيب وفطن أريب، يوجد تحت إيوان كسرى بالمدائن، يقاس بالذراعين في وسط الإيوان لا زيادة ولا نقصان، فأحفر المدر واقلع الحجر، فإذا وصلت إلى الساحة فاقتلعها تجد الحاجة ولا تلزم لغيرها، فيلزمك غب ضرها. فأرسل المأمون إلى إيوان كسرى فحفروا في وسطه فوجدوا صندوقاً صغيراً من زجاج أسود عليه قفل منه فحمل إلى المأمون. فقال لذوبان: هذه بغيتك؟ قال: نعم أيها الملك. قال خذها وانصرف. فتكلم بلسانه ونفخ في القفل فانفتح فأخرج منه خرقة ديباج، فنشرها فسقط منها أوراق فمدها مائة ورقة ولم يكن في الصندوق شيء غيرها فأخذ الأوراق وانصرف إلى منزله. قال الفضل بن سهل: فجئته فسألته فقال: هذا كتاب جاويدان جرد تأليف بنحور وزير الملك ابرازشهر، فطلبت منه شيئاً فدفع إلي منه ورقات وترجمها لي الخضر بن علي، ثم أخبرت المأمون فقال: احمل إلي الورقات. فحملتها إليه فقرأها فقال: هذا والله الكلام لا ما نحن فيه من لي ألسنتنا في فجوات أشداقنا، ولولا أن العهد حبل طرفه بيد الله تعالى وطرفه بأيدينا لأخذته منه. فصل من نوادر بزرجمهر حكيم الفرس قال: نصحني النصحاء ووعظني الوعاظ شفقة ونصيحة وتأديباً، فلم يعظني أحد مثل شيبي ولا نصحني مثل فكري، ولقد استضأت بنور الشمس وضوء القمر فلم استضئ بضياء أضوء من نور قلبي، وملكت الأحرار والعبيد فلم يملكني أحد ولا قهرني غير هوائي، وعاداني الأعداء فلم أر أعدى إلي من نفسي، إذا جهلت واحترزت لنفسي بنفسي من الخلق كلهم حذراً عليها وشفقة فوجدتها أشر الأنفس لنفسها، ورأيت أنه لا يأتيها الفساد إلا من قبلها، وزاحمتني المضائق فلم يزحمني مثل الخلق والسوء. ووقعت من أبعد البعد

وأطول الطول فلم أقع في شيء أضر علي من لساني. ومشيت على الأجمر ووطئت على الرمضاء فلم أر ناراً أحر علي من غضبي إذا تمكن مني. وطالبتني الطلاب فلم يدركني مدرك مثل إساءتي. ونظرت ما الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي سبحانه. والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من تركها ما لا يعنيها. وركبت البحار ورأيت الأهوال فلم أر هولاً مثل الوقوف على باب سلطان جائر. وتوحشت في البرية والجبال فلم أر أوحش من قرين السوء. وعالجت السباع والضباع والذئاب وعاشرتها وعاشرتني وغلبتها فغلبتني صاحب الخلق السوء. وأكلت الطيب وشربت المسكر وعانقت الحسان، فلم أجد شيئاً ألذ من العافية والأمن، وتوسطت الشياطين والجبال فلم أجزع إلا من الإنسان السوء. وأكلت الصبر وشربت المر فلم أر شيئاً أمر من الفقر. وشهدت الحروب ولقيت الجيوش وباشرت السيوف وصارعت الأقران، فلم أر قرناً أغلب من المرأة السوء. وعالجت الحديد ونقلت الصخر فلم أر حملاً أثقل من الدين. ونظرت فيما يذل العزيز ويكسر القوي ويضع الشريف فلم أر أذل من ذي فاقة وحاجة، ورشقت بالنشاب ورجمت بالحجارة فلم أر أنفذ من الكلام السوء يخرج من فم مطالب بحق. وعبرت السجن وشددت في الوثاق وضربت بعمد الحديد، فلم يهدمني شيء مثل ما هدمني الغم والهم والحزن. واصطنعت الإخوان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة، فلم أر شيئاً أخير من الكرم عندهم، وطلبت الغنى من وجوهه فلم أر أغنى من القنوع، وتصدقت بالذخائر فلم أر صدقة أنفع من رد ذي ضلالة إلى هدى. ورأيت الوحدة والغربة والمذلة فلم أر أذل من مقاساة الجار السوء. وشيدت البنيان لأعز به وأذكر فلم أر شرفاً أرفع من اصطناع المعروف. ولبست الكسى الفاخرة فلم ألبس شيئاً مثل الصلاح. وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أر شيئاً أحسن من حسن الخلق. وسررت بعطايا الملوك حباهم فلم أسر بشيء أكثر من الخلاص منهم. فصل من حكم شاتاق الهندي من كتابه الذي سماه منتحل الجواهر للملك ابن قمابص الهندي: يا أيها الوالي أتق عثرات الزمان واخش تسلط الأيام ولؤم غلبة الدهر، واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب وللأيام غدرات فكن على حذر وللأقدار بغتات فاستعد لها. والزمان منقلب متولى فاحذر تقلبه، لئيم الكرة فخف سطوته، سريع الغيرة فلا تأمن دولته، واعلم أن من لم يداو نفسه من سقام الآثام في أيام حياته، فما أبعده من الشفاء في دار لا دواء له فيها! ومن أذل حواسه واستعبدها فيما يقدم من خير لنفسه بان فضله وظهر نبله. ومن لم يضبط نفسه وهي واحدة لم يضبط حواسه وهي خمس، وإذا لم يضبط حواسه مع قلتها وذلتها صعب عليه ضبط الأعوان مع كثرتهم وخشونة جانبهم، فكانت عامة الرعية في نواحي البلاد وأطراف المملكة أبعد من الضبط، فليبدأ الملك بسلطانه على نفسه، فليس من عدو أحق من أن يبدأ بالقهر من نفسه، ثم يشرع في قهر حواسه الخمس لأن قوته الواحدة منهن دون صويحباتها قد تأتي على النفس القوية الحذرة، فكيف إذا اجتمعت خمسة أنفس على واحدة؟ واعلم أن لكل واحدة منهن شراً ليس للأخرى فاقهرها تسلم من شرها، وإنما يهلك الحيوان بالشهوات، ألا ترى أن الفراش يكره الشمس فيستكن من حرها ويعجبه ضياء النار فيدنو منها فتحرقه؟ والظبى على نفار قلبه وشدة حرصه ينصت لسماع الملاهي فيمكن القانص من نفسه، وذباب الورد

المتتبع لطيب الروائح يطلب ما يقطر من أذن الفيل لطيب رائحته، فإنه في طيب رائحته المسك فيلهيه طيب الرائحة عن الاحتراس من تحريك الفيل أذنه، فيتولج في أصل أذنه فتقع عليه ضربة الأذن فتقتله. والسمك في البحر تحمله لذة الطعم أن يبتلعه فتحصل السنارة في جوفه فيكون في حتفه. وذكر هذا الحكيم أن خصالاً معروفة قتلت بالإفراط فيها ملوكاً معروفين فالصيد مات منه قيدة الملك، والإفراط في القمار مات منه قيشوب الملك، والإفراط في السكر مات منه مخارق الملك، وشدة الحرص مات منها مهريق الملك، والغضب أحر سبحى الملك، والطمع وائل، والفرح واطاب، والأنفة بوليس، والتواني زمير نهر. وأخلق بخصال أهلكت ملوكاً أن يتجنبها الملوك. واعلم أن الرعية تستمطر الملك العادل استمطار أهل الجدب للغيث، وينتعشون بطلعته عليهم كانتعاش النبات بما يناله من القطر، بل الرعية بالملك العادل أتم نفعاً منها بالغيث، لأن لمنفعة الغيث وقتاً معلوماً وعدل الملك لا يتعين له وقت. ويحسن بالملك أن يشبه تصاريف تدبيره بطباع ثمانية أشياء: الغيث والشمس والقمر والريح والنار والأرض والماء والموت. فأما شبه الغيث فتواتره في أربعة أشهر من السنة ومنفعته لجميع السنة، وكذلك ينبغي للملك أن يعطي جنده وأعوانه أربعة أشهر تقدير التتمة السنة، فيجعل رفيعهم ووضيعهم في الحق الي يستوجبونه بمنزلة واحدة كما يسري المطر بين كل أكمة وشرف وغائط مستفعل ويغمر كلاً من مائه بقدر حاجته، ثم يستجبي الملك في الثمانية أشهر حقوقه من غلاتهم وخراجهم كما تجبى الشمس بحرها وحدة فعلها نداوة الغيث في أربعة أشهر الأمطار. وأما شبه الريح فإن الريح لطيفة المداخل تسرح في جميع المنافذ حتى لا يفوتها مكان، كذلك الملك ينبغي أن يتولج في قلوب الناس بجواسيسه وعيونه لا يخفون عنه شيئاً حتى يعرف ما يأتمرون به في بيوتهم وأسواقهم. وكالقمر إذا استهل تمامه فأضاء واعتدل نوره على الخلق وسر الناس بضوئه، وينبغي أن يكون الملك ببهجته وزينته وإشراقه في مجلسه وإيناسه رعيته ببشره، فلا يخص شريفاً دون وضيع بعدله. وكالنار على أهل الدعارة والفساد. وكالأرض على كتمان السر والاحتمال والصبر والأمانة. وكعاقبة الموت في الثواب والعقاب يكون ثوابه لا يقصر عن إقامة حد ولا يتجاوزه. وكالماء في لينه لمن لا ينه، وهدمه واقتلاعه عظيم الشجر لمن جاذبه. واعلم أنه قد يكتنف السلطان من شرار الناس والأعوان على الحاجة إليهم من يستبشع ويستكره، كالحيات تكتنف بالصندل فيقتلها الصندل بطيب رائحته وبرده، وينتفع الصندل بها إذ لا يقرب منه من يريد قطعه. وليكن فيك مع تلطفك تشديد لئلا يجترأ عليك، فإن القمر يستضاء بضوئه ويظهر له، والشمس يستظل من حرها ويستكن لها. وقد قالت العرب في مثل هذا لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتلتفظ. اجعل لكل طبقة من أعدائك أشباههم من أعوانك يسوسونهم، فإنهم كالماء في الأذن لا حيلة في إخراجه بأرفق من الماء الذي هو من جنسه، وإذا عاديت رجلاً فلا تعاد كل جنسه، واستبق من جنسه أحداً عسى تنتفع به، فإن السيف القاتل من جنس الدرع الواقي، ولا تطمعن في الكذوب والمطبوع على الشر أن تعطفهما بالإحسان فإنهما كالقرد كلما سمن بالطعام والحلاوة والدسم ازداد وجهه قبحاً. وقد يرد الواحد كيد الجميع إذا كان عاقلاً، كما يرد حر شعاع الشمس إذا كان واقياً غاية

أرمى الناس أن يقتل بسهمه واحداً، لكن رمية عاقل زكين يقتل الجيش بأسره. والملك الشريف العاقل لا ينفذ فيه قدح أهل البغي، فمن انقطع إليه ولزمه كالجوهر المضيء بنوره لا يطفئه عصوف الرياح. من كان قابلاً لما يرد عليه في بقائه وكل قول يسمعه، كان كالسراج تميل به كل ريح لينة ثم لا يلبث إن عصفت الريح أن يطفأ. تدبير الملك الحازم في سلطانه كتعاهد صاحب البستان بستانه، يخرج قاحل عيدانه وشوك شجره، فيحيط به على ثمره وزرعه ليقيه عن الشر والفساد، كما ينتخب الملك أهل الشكيمة والشوكة فيجعلهم في أقاصيه وحدوده رداً للمملكة. وليكن الملك أحذر ما يكون آمن ما يكون. قلت وقد صدق الشاعر: أأمنتم ريب الزمان فنمتم رب خوف مكمن في أمان قال: ألا ترى أن بهرسان الملك أنامت المرأة على فراشه رجلاً فلما رام فراشه وثب عليه فقتله. وباسراج الملك قتلته امرأته بخلخال مسموم. ودروق الملك قتلته امرأته بمدية خبأتها في عقاصها، واعلم أن العدو قد علم منك مواضع الحذر وحالات الأمن، وإنما ترصده لك في حالات الأمن والمواضع التي تظن أن العدو لا يكمن فيها، فكن احذر ما تكون فيها. وسائر حكم هذا الباب قد قدمتها في تراجم كتابنا. فصل: قال غيره: لا ينبغي للملك أن تكون له أيام معلومة يظهر فيها فإن في ذلك خصالاً مذمومة. منها أنه قد يعوق في ذلك اليوم ممسك مهم أو بعض الكسل أو لذة مغتنمة، فيلزمه الخروج على كره. ومنها أنه إذا تخلف عن الظهور لأمر ما تطاولت الأعناق من الرعية وكثر كلامها وقالوا: مرض أو مات أو أصابته آفة، فيكسب العدو جراءة وسروراً ويكسب الولي حزناً وجبناً. ومنها أنه قد واعد عدوه ليوم يلتقيان فيه، ولا ينبغي أن يكون الملك كثير التصرف عند فساد الزمان وخبث الرعية، وعن هذا قالت الحكماء: إذا كان الجمل كثير النفر كان نصيب الذئب. فصل من نوادر كلام العرب: من حكم أكثم بن صيفي، وهذا رجل كان له عقل وحلم ومعرفة وتجربة، وقد علق الناس عنه حكماً لطيفة وألفوا فيها تصانيف. فمن حكمه قال: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء، أفضل من السؤال ركوب الأهوال من حسد الناس بدأ بمضرة نفسه، والعديم من احتاج إلى لئيم. من لم يعتبر فقد خسر. ما كل عثرة تقال ولا كل فرصة تنال. لا وفاء لمن ليس له حياء. قد يشهر السلاح في بعض المزاح. من وفى بالعهد فاز بالحمد. الموت يدنو والمرء يلهو. طول الغضب يورث الوصب. رب عتق شر من رق. من اصطنع قوماً ما احتاج إليهم يوماً ما الكذب بهت والخلف مقت. من لم يكف أذاه لقي ما ساءه. الحر يتقاضى لك من نفسه واللئيم يستحسن تسويفه وحبسه. ليس بإنسان من ليس له أخوان. أنت مزر بنفسك إن صحبت من هو دونك. عليك بالمجاملة لمن لا تدوم له مواصلة. في الأسفار يبدو الاختيار. أفسد كل حسب من ليس له أدب. أفضل الفعال صيانة العرض بالمال. ليس من خادن الجهول بذي معقول. ليس للملحف مثل الرد. من جالس الجهال فليستعد لقيل وقال. وقال: ما جلا عنك النسيان مثل البيان، ولا نفي عنك البهتان مثل البرهان. لم ينج من الموت غني لماله ولا فقير لإقلاله. إذا ما أردت طرد الحر فسمه الهوان. كثرة العلل آية النحل.

كفر النعمة لؤم وصحبة الأحمق شؤم. إن من الكرم لين الشيم. إياك والخديعة فإنها خلق اللئيم. امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة. رب سباب قد أهاجه العتاب. الصدود آفة المقت. سبب الحرمان التواني. من سأل فوق قدره استحق الحرمان. ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يؤوب. وإن من الفساد إضاعة الزاد. من حلم ساد، ومن تفهم ازداد. لا ترغب فيمن يزهد فيك. رب بعيد أقرب من قريب. المزاح يورث الضغائن. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، غثك خير من سمين غيرك. من جد المسير أدرك المقيل. استر عورة أخيك لما تعلم فيك. ولا تكثر من المزاح فتذهب هيبتك، ولا من الضحك فيستخف بك. من أكثر من شيء عرف به. كفى بالحلم ناصراً. المنة تهدم الصنيعة. نعم الشيء الهدية بين يدي الحاجة. ربما نصح غير الناصح، وربما غش المنتصح. الكلام فيما ينفعك خير من السكوت، والسكوت عما يضرك خير من الكلام. لا يغرنك من جاهل قرابة ولا جوار ولا إلف، فإن أقرب ما يكون من النار ترباً أقرب ما يكون منها لهباً. أرفض أهل الدناءة تلزمك المهابة. دع مجالسة أهل الريب على كل حال، فإنك إن يسلم دينك لم تسلم من سوء المقال. الكرم شكر البلاء واللؤم كفر النعمة. أكرم الصنائع سلامة الصدور. لن تسلم من الناس حتى يسلموا منك، من عدم الإيمان لم تزده الرواية فقها. الحزن مفسدة العقل ومقطعة الحيلة. كثرة النوم إماتة القلب. شدة الحذر تدل على ضعف اليقين. محادثة الحمقى والسفهاء تورث سوء الخلق. الدليل على الحمق إعجاب المرء بعقله. من لم يسمع الحديث فارفع عنه مؤنته. من حدث من لا يفقه كمن قدم مائدة لأهل القبور. من قطع عليك الحديث فلا تحدثه فليس بصاحب أدب. ومن عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يقبل صدقه، من وصل من يحسده قوى عدوه وقصر بنفسه. اغفر زلة صديقك. من غضب من غير شيء رضي من لا شيء. من غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه. الرجل عبد هواه. لولا جهل الجاهل ما عرف عقل العاقل. من خاف ربه كف ظلمه. كسل الفقير هلاكه. شح الغني فضيحته. من لم يتورع في كلامه ظهر فجوره. كل شيء لا يوافق الأحمق فاعلم أنه الصواب. إذا غلبتك امرأتك فجاهدها فإنها عدوك. من لم يعرف الخير من الشر فألحقه بالبهائم، من طلب ما عند البخيل مات جوعاً. جار الرجل الجواد كمجاور البحر لا يخاف العطش، وجار البخيل في المفازة هالك. إذا لم تنتفع بمصادقة الأحياء فأت أهل القبور. من عادى من فوقه أبغضه من تحته. الرزق مقسوم والحريص محروم. من كثر كلامه على المائدة غش بطنه، وأبغضه أصحابه. العلم زين ومنفعة والجهل شين ومضرة، الجاهل يستعظم الشر والعاقل يمنع نفسه من الشر. من لم يرتخ للثناء فليس له نصيب في المودة. إذا كان لك جار أو صديق لا تنتفع به فصور مثاله في الحائط فإنه أزين للحائط وأخف للمؤنة. العاقل يرغب في الأدب والجاهل يهرب منه. العاقل إذا فاته الأدب لزم الصمت. لا تستنطق من تكذبه. العاقل يتهم رأيه في نفسه والجاهل يقيم على جهله. من لم يملك عقله لم يملك نفسه. من أظهر محاسنه ودفن مساويه كمل عقله. من غلب هواه عقله له افتضح. من استشار عدوه في صديقه أمره بقطيعته. مصادقة الكرام غنيمة ومصادقة اللئام ندامة. لا تدخل على صديقك التهمة فيرجع لك عن النصيحة. إذا انقطع رجاؤك من صديقك فألحقه بعدوك. من طلب

الباب الرابع والستون: يشتمل على حكم وأحاديث منثورة

مراضاة الإخوان من غير شيء فليصادق أهل القبور. العاقل ليس في مصادقته مخادعة. رأس مال الأحمق المخادعة وفائدته الغضب، والحليم رأس ماله الصمت وفائدته الحلم. إذا جهل عليك الأحمق فالبس له سلاح الرفق واللطف. صديق كل امرئ عقله وعدو كل امرئ حمقه. من أنزل نفسه عاقلاً أنزله الناس جاهلاً. من قنع بكذب الثناء عليه ظهر للناس رقاعته. السكوت عن الأحمق جوابه. السكوت يزين الأحمق والكلام يشينه. من استطال عليك بملبسه وتحلى بفضله، فلا أكثر الله في الناس مثله. الجواد محبب والبخيل مبغض. إذا حملت للبخيل مؤنة أبدى لك الحرمان والعداوة. البخيل يمنع ما عنده ويبخل على الجواد بجوده. من طلب حاجة فهو شر منه. من بذل للبخيل صلته ورفع عنه مؤنته دامت له مودته. ضيف البخيل آمن من التخمة. من طلب من اللئيم حاجة كان كمن طلب السمك في المفازة. عدة الكريم نقد وعدة اللئيم تسويف الكريم يواسي إخوانه في دولته واللئيم يقطعهم. لا تخضع للئيم فإنه لا يعطيك شيئاً. إنما الصديق الذي يبذل لك ماله عند الحاجة ونفسه عند البلية، ويحفظك عند المغيب وينفعك عند الرجاء. إذا صادقت الوزير فلا تخشى الأمير. من لم ينصحك في المصادقة فعاده. من غشك في العداوة فلا تلمه. من كان الناس عنده سواء لم يكن له أصدقاء. من صادق الإخوان بالمكر كافؤه بالغدر. من لم يواس الإخوان في دولته خذل عند مأمنه. إياك أن تبغي مودة من يحسدك فأنه لا يقبل إخاءك. من حسدك على علمك لم يستمع حديثك. الحاسد يفرح بزلتك ويعيب صوابك. إذا رأيت من يحسدك ويسرك أن تسلم منه فعم عليه أمورك. من صبر على مودة الكاذب فهو مثله. كل شيء شيء ومودة الكاذب لا شيء. من بدأك بجهله فكافئه بحلمك تغمه. أول المرؤة طلاقة الوجه، والثانية التودد، والثالثة الفصاحة. الفاجر لا يبالي بما قال والورع يتعاهد كلامه من شغل مشغولاً فقد أظهر ثقله. من صبر على شغل سوء فقد نظر إلى سجنه بعينه. من لم يغلب الحزن بالصبر طال غمه. من استطال على الناس بلسانه بغير سلطان فليصبر على الذل والهوان. لا تحتقر الفقير الثري ولا ترغب في الغني الدني. من تشبه بالسراة وغلبت عليه الدناءة فلا تكرمه. من أغضبته أنكرته. من أغنيته أعطفته. من تعرض لصاحب الدولة انقلب بهزيمة من صانع بماله لم يحتشم من طلب حاجته. من صاحب الكتاب ملوه ومن عاداهم أنكروه. من شمخ عليك بأنفه وطمح ببصره، ولم يدخل عليك فضله فلتهن عليك سلبته. السفيه يقطع مودة لم تزل ويكتسب عداوة لم تكن. حمل المروءة ثقيل. من سالم الناس غنم. خذلان الجار لؤم. رجال البلاء قليل احفظ إخوانك تذل أعداؤك. ما أجمل الصبر على ما لا بد لك منه. المحروم من طال نصبه، وكان لغيره نشبه لا قوي أقوى ممن قوي على نفسه، ولا عاجز أعجز ممن عجز عنها. الخير في غير أهله غريب. ما أضعف قوة من يغالب من لا يغلب. الباب الرابع والستون: يشتمل على حكم وأحاديث منثورة اعلم أيها المريد أن الله تعالى يمتحن أنبياءه وأصفياءه بأعدائه، ويضطر أولياءه وأحباءه إلى أعدائه، رفعة وتقريباً لأنبيائه وتمحيصاً لهفوات أوليائه، وذخراً لهم عنده وزلفى لديه تعظيماً لأقدارهم، وتشريفاً لمنازلهم وترفيعاً لدرجاتهم. قال الله تعالى تعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لعظيم ما كان يلقي من سطوات أعدائه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: 112) . وقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (الفرقان: 31) . يا محمد لا تستوحش منا ولا تتهمنا في سيرتنا فهذه سيرتنا فيمن نحبه ويحبنا. فالبلاء على وجهين: أحدهما كفارة لذنب والآخر رفع درجات وتوفير أجر. ولذلك كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل؛ فالبلاء بلآن: بلاء رحمة لتضعيف درجة وتمحيص سيئة وبلوغ فضيلة وعلو منزلة، وبلاء عقوبة لانتهاك حرمة واقتراف معصية. لن تخلو المكارة أن تكون لحادث رحمة أو بلاء رغبة عما أنعم الله به منهما، أو لسيئة عند إضاعة فلا غنى عن زاجر عنها، فلأجل ذلك كان حلولها عظمت به المنة، ووجبت لله به النعمة، وكان جعفر بن محمد رضي الله عنه إذا وقع مني شيء يكرهه يقول: اللهم اجعله أدباً ولا تجعله غضباً. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المؤمن في رأس جبل لقيض الله له من يؤذيه يا من ضاق صدره وحرج قلبه وساء خلقه، من عدو أقلقه وحاسد حسده، طب نفساً وقر عيناً وانعم عيشاً، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لك بالإيمان، ولعدوك بالنفاق. بخ بخ إن عقلتها! أما لك في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أسوة؟ أما لك في الصالحين قدوة؟ فلو لم نلق الله عز وجل من الحسنات إلا بما اقترفناه اختياراً للقينا الله تعالى فقراء من الحسنات ثقالاً من السيئات. قال الشاعر: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الناس بالنعم وقال بعض الحكماء: الذي رأينا مما نحب فيما نكره أكثر مما رأينا مما نكره فيما نحب. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين. السجون قبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، وأسعد الناس من كان القضاء له مساعداً وكان لمساعدته أهلاً. غلب على الكريم من بدر إليه. الشماتة لؤم. عوام الناس عدة لخواصهم. مجيء القدر يسبق الحذر. من سخر من شيء حاق به. من عير بشيء عير به. الخلق نهب المصائب. مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها. أقل ما في الحيلة الخروج من الاستكانة. جاني العقوبة على نفسه أعظم جرماً عليها من المعاقب له عليها. قرابة بغير منفعة بلية عظيمة. والنعمة منعة. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته من غيرك. الحمية ثوب الجهل. الأنفة قوام السفيه. قل آنف لم يعقب ذلا. العادة كمين لا يأمن ازدحام الكلام مضلة الصواب. عجلوا القرا قبل سوء الظن وإلحاق السيئة. أعجب ما في هذا الإنسان قلبه وله مؤاد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سخ له الرخاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه الأياس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد بالغيظ، وإن استعد بالرضاء نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر أسلمته الغرة، وإن حدثت له نعمة أخذته العزة، وإن امتحن بمصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة أشغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد. أفضل القول بديهة آمنة وردت في مقام خوف. أشد الناس غماً الذي يرى غيره في الموضع الذي هو به أولى. ما أخذ الله طاقة أحد إلا رفع عنه طاعته. من العجب أن لا ترضى عمن ابتغى رضاك، وأعجب من ذلك أن تسخط عليه. زئير الأسد يشبه صولته. علامة العلم العلم بالعراض عند المناوهة. لا تغاروا حتى تروا. لا تفخروا حتى تفعلوا. لا تأنفوا حتى تظلموا. أوجب الشفعاء براءة الساحة. من لزم الصحة والاستقامة لزمته الغبطة والسلامة. قصص الأولين مواعظ الآخرين. البحث

يوضح الحق كما يورى النار القدح. ليس من الحسد سرور ولا مع الحرص راحة ولا مع السخط غنى. قال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: عجبت لمن بلى بخمس كيف يغفل عن خمس عجبت لمن ابتلى بالضر كيف يذهب عنه أن نقول {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الانبياء: 83) . والله تعالى يقول {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} (الانبياء: 84) وعجبت لمن بلي بالغم كيف يذهب عنه أن يقول {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الانبياء: 87) والله تعالى يقول {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الانبياء: 88) وعجبت لمن خاف شيئاً كيف يذهب عنه أن يقول {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) والله تعالى يقول {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: 174) وعجبت لمن مكر به كيف يذهب عنه أن يقول {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) والله تعالى يقول {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (غافر: 45) وعجبت لمن أنعم الله عليه بنعمة خاف زوالها كيف يذهب عنه أن يقول {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (الكهف: 39) والله تعالى يقول {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (الكهف: 39) كذا سنة الله تبارك وتعالى فيمن صدق في التجائه إليه، ولم يتوكل في مهماته إلا عليه. اليمين مأثمة أو مندمة. ألذ الموارد منجاة من متلفة أو قدوم غائب بعد أن جاءت باليأس منه الركائب. وشر المصادر ظفر على قنوط. وشر الطبيعة مخالفة المروءة. فاصبر لحق وجب عليك وإن خالف هواك. بهاء المجلس الشريف بالرجل الفاضل. اليقين راحة. وروح العمل النافذ بالرجل المدبر كأنها الياقوت واللؤلؤ في تيجان الملوك. ما أنور الهدى! ما أظلم العمى! ما أكرم التقوى! ما أخدع الهوى! ما أتعب المنى! ما أسرع البلاء! ما أجهل الصبا! الجود أن تهضم الروح حظ الجسد، والإسراف أن يهضم الجسد حظ الروح، والعدل أن يعطي كل واحد منهما حظه، والشح أن تكف حظوظهما عنهما. عدو يخاف الله تعالى فيما يكره، خير من صديق لا يخافه فيما يحب. من العجب أن نطلب في صحة كل علم ما يقنعنا، ونكل العلم إلى الله تعالى من غير بحث عن صحته. لا يرعك الباطل مما ترمى به، ولكن احذر أن يصدع عليك بالحق فتشهد عليك عيناك ووجهك. من بطل رشاؤه بطل منحه. الراغب فقير بقدر رغبته. الحق يعطى ويمنع. تجاوز عن ذنوب الناس تحتج عليهم، واجتنب الذنوب تقل صحبتهم عليك. الفراغ الفاضل عن الحمية أحد العلتين. الفرق ينسي الحجة. جاف العلية في كلامك وسو بينهم وبين السفلة في أحكامك. موت عز خير من حياة ذل. الأكفاء من كل نمط يتباغون. ما ضاع امرؤ عرف قدر نفسه. الدعة الهينة تكون بعد انقضاء العمل. لن يفارق الخير صاحبه حتى يفارقه. خير الناس من تواضع عن رفعة وعفا عن قدرة. الحاسد يظهر وده في كلامه وبغضه في أفعاله باسم الصديق ومعنى العدو. الرياء يفسد العلانية. والعجب يفسد عمل السريرة. إذا كثرت القدرة قلت الشهرة. من عرف قدره كفاك نفسه. كفى بالظفر شفيعاً بالمذنب إلى الحليم. لسان الجاهل دليل حتفه. لا ظفر مع بغي ولا صحة مع نهم، ولا ثناء مع كبر ولا صداقة مع خب، من لم يعرف قدره فاكفه نفسك. أحق ما رد ما خالف شهادة العقل. قطع الظهر وأفسد الدين رجلان: جاهل ناسك وعالم فاجر، هذا يدعو الناس إلى جهله بنكسه وهذا ينفر الناس عن عمله بفسقه. من قوي هواه ضعف حزمه. من ظهر غيظه قل كيده. كفى بالظلم طارداً للنعمة وداعياً للنقمة. من قبل صلتك فقد باعك مروءته. الهدية تفقأ عين الحكيم. صفو الرأي خير من استكدار الفكر. ما استنبط الصواب بمثل المشورة ولا حصنت النعمة بمثل المواساة. من لم يؤمن بالقدر فقد كفر، ومن حمد الله تعالى فقد فخر. ما اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. من استغنى بالله عز وجل افتقر الناس إليه. التقصير يخلخلك

عن الصواب، والإفراط يقحمك في الخطأ. ثلاث خصال ما اجتمعن إلا في كريم: حسن المحضر واحتمال الزلة وقلة الملالة. كفى مخبراً عما بقي مما مضى وكفى عبراً لذوي الألباب ما جربوا. التهاون بالمطلوب أول أسباب حرمانه. الشبهة ظلمة. لن يضيع امرؤ صواب القول حتى يضيع صواب العمل. خير الأمور ما سر عاجله وحسنت عاقبته. لا شرف مع سوء أدب ولا بر مع شح، ولا اجتناب محرم مع حرص ولا محبة مع زهو. بإحالة الفكر يستخرج الرأي المصيب وبحسن التأني تدرك المطالب، وبالنصفة يكثر المتواصلون. الفاحشة عار الأبد وعقوبة غد. الشماتة تعقب الندامة. من سخر ابتلى. قال الله تعالى: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. إذا فقد المتفضلون هلك المتجملون. رب صبابة غرست من لحظة وحرب جنيت من لفظة. ما شاهد على غائب بأدل من طرف على قلب. شر المال ما لا ينفق منه. أفضل المال ما صين به العرض. وبالأفضال تشرف الأقدار. الذي يكون سبباً لفساد نفسه أذل ممن يفسده عدوه أو دهره. لا تعدن وديعة مالاً. الشهوة رق. الحرص كلب. يعبر عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان. لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعلى من التقوى ولا شفيع أغنى من التوبة. أولى الناس بالأمر من حافظ عليه. الخير موضوع لمن أراده موفور لمن عمل به. الرغبة مفتاح الطلب ومطية الخطوة. الحرص داع إلى الحرمان. التنفل بالحسنة ينفي السيئة. المكافأة بالسيئة دخول فيها. البغي سائق إلى الحين. إصلاح الرعية أنفع من كثرة الجنود. حق المذموم التأنيب وحق المحروم المعونة. من الجهل والجفاء إظهار الفرح عند المحزون. المحزون يحقد على الفرح ويشكر المكتئب في ظل السلامة تدب أفاعي الآفات. أعظم الناس قدراً من لم يجعل الدنيا لنفسه قدراً. ما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة. عزائم الأمور خيارها ومحدثاتها أشرارها. الملك يكتسب من اتفاقه والعامة تنفق من تكسبها. من أفنى عمره بجمع المال مخافة العدم فقد أسلم نفسه للعدم. قال الشاعر: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر! من لم يقدر على جمع الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل. إذا لم تكن ملحاً تصلح فلا تكن ذباباً تفسد. إصلاح بعض العدو أفضل من هلاكه. من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في عدوه ما يسره. خير الكتب ما إذا أعاد قاريه فيه النظر زاد حسنه ووقف على خيره. أثقل الأحمال من اتسعت مروءته وقلت مقدرته. استح من الله تعالى بقدر قربه من عقلك وأطعمه بقدر حاجتك إليه، وخفه بقدر قدرته عليك واعصه بقدر صبرك على النار، واعمل للدنيا بقدر بقائك فيها واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها. الملك ينفق ليكتسب والعامة تكتسب لتنفق. الطاعة بقدر الفاقة. يفحش زوال النعم إذا زال معها التجمل. أولى الأمور بك واجبها عليك. الدنيا العافية والشباب الصحة. إذا أقبل الأمر تشبه وإذا أدبر صرح. إذا عدل السلطان ملك قلوب الرعية، وإذا جار لم يملك منهم إلا الرياء والتصنع. الصدقة من سعة، وابدأ بمن تعول. إذا أضرت النوافل بالفرائض تركت النوافل وقدمت الفرائض. قدر الرجل على قدر همته وصدقته على قدر مروءته، وشجاعته على قدر أنفته وعفته على قدر غيرته. من أطاع الواشي ضيع الصديق. ومن جعل لنفسه حظاً من حسن الظن يروح عن قلبه. شر مالك ما لزمك إثم مكتسبه، وحرمت منفعة انفاقه. رب مغبوط بليلة قامت بواكيه في آخرها. لا ترج خير من لا يرجو خيرك ولا تأمن جانب

من لا يأمن جانبك. تارك الطلب ضجراً أرجى للعودة من تاركه جوراً. ثمرات الشهوات المخازي. الخصومة تمرض القلب. أعم الأشياء نفعاً ترك الأشرار. من استكفى الكفاة كفى الأعداء. خير مالك ما أغناك وخير منه ما وقاك، صولة الكريم صلم. ذنب أسد خير من رأس كلب. بجبهة العير يعدو وحافر الفرس. من استبد برأيه خفت وطأته على أعدائه. إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك. من أمن الزمان خانه ومن تعزز عليه أهانه. كما يجب أن تكون المرآة ضوء من الناظر فكذلك يجب أن يكون المؤدب أفضل ممن يؤدب. من ترك العمل بما ينبغي عمل ما لا ينبغي. ليس في الشر أسوة ولا في الحظ قدوة. لم تكن لله ناصحاً حتى تحب عدوك إذا أطاع الله في عداوتك على عداوته وتقلع عما عاداك عليه، وتبغض وليك إذا عصى الله تعالى في موالاتك وتنزع عما والاك عليه. لا تكن على الإساءة أقوى منك على الإحسان. الشقي كل الشقاء من جمع لغيره وضن على نفسه بخيره. شر أخلاق الكريم أن يمنع خيره. من كانت الآخرة رأس ماله كانت الدنيا ربحه، ومن كانت الدنيا رأس ماله كانت الآخرة خسارته. أفضل العلم وقوف الرجل عند علمه. أفضل المال ما قضيت به الحقوق. البدع فخاخ محبوبة قد علقت عليها ألفاظ ظاهرة. رجاء العامة أمنية على ضلالة ورجاء الخاصة يقين على ثقة. القليل من الملك كالكثير من غيره. عطاء الملك زينة وسؤاله شرف. وفي الأمثال: جاور بحراً أو ملكاً. إذا كذب السفير بطل التدبير. أخبث الأزمنة زمان لا يتميز فيه الخطأ من الصواب. لا تعطوا إلى الفضول ما خفتم العجز عن الحقوق. الآذان أقماع تؤدي والقلوب قوابل تعي. من أحب أن يسمى داهياً لم يظهر دهاه. لا دليل أهدى من التوفيق. الحلاء البلاء. من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن. الحفظ قيد للعلم. المدارسة إذكاء للفهم المقابسة إحياء للفطن. استزد النعمة بالشكر والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواصل ولله الرحمة للخلق. استقلال الكثير تعرض للتغيير. ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على عقل كاتبه، والرسول يدل على عقل مرسله، والهدية تدل على عقل مهديها. لم يحكم على العقول حاكم كالغير ولم يحكمها محكم كالتجربة. من عاب سفلاً فقد رفعه ومن عاب سيداً فقد وضع نفسه. من استنقص من قد أجمع الناس على فضله فقد سلط الناس على عرضه. أحق الناس أن يؤتمن على الدنيا أهل الآخرة. صح من صحت سرائره وسقم من سقمت ظواهره. بالكلام يعرف فضل العقل كما بالرسول يعرف قدر المرسل. ملاك أموركم الدين وعصمتكم التقوى وزينتكم الأدب وحصن أعراضكم الحلم. إذا أعطيت ما لا ترضى فارض بما أعطيت. كلما ازداد الخير كثرة كان الخارج منه أشد حسرة. بقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة. الإبقاء على العمل أشد من العمل. من التوقي ترك الإفراط في التوقي. توريث الحرمة والذمام سنة في المروءة كما أن وراثة التركة فريضة في الديانة. لا تمدحن امرأ بأكثر من قدره فتكون مهيناً لنفسك، كذاباً على غيرك. لا تفرحن بسقطة عدوك فإنك لا تدري متى يحدثها الزمان بك. من الجفاء الكلام في الأمر الجسيم من غير مشاورة. أكثر الناس مخادعة لنفسه في أمر جسده عند الحمية. وفي أمر مروءته عند الشهوة، وفي أمر دينه عند الشبهة، المصائب بغتات، العاقل المدبر أرجى من الأحمق المقبل، أشرف الصنائع ما لم يكن مكافأة لماض ولا رجاء لباق. ارض النظير ثم كافئه وأيسر الملهى ثم استمع منه، لم تكن غواية ولا هداية إلا وإليهما سائق وعنهما ناكص. إحسانك إلى الحر يحرضه على

المكافأة، وإحسانك إلى الخسيس يبعثه على معاودة المسئلة. ليس يمتحن الأديب بأن يكون فاعلاً للخير، إنما يمتحن بأن يكون تاركاً للشر. من صنع معك خيراً فضاعفه له وإلا فلا تعجز أن تكون مثله. الأشرار يتبعون مساوي الناس ويغفلون عن محاسنهم، كما يتبع الذباب المواضع النغلة من الجسد ويدع صحيحه. الظرف فطنة مازجتها عبادة مع حذر وتوقي، فإذا خلت الفطنة من التوقي فصاحبها لا يستمتع به أهل المروءة، وإذا خلت الفطنة من العبادة وقارنتها ملاحة فصاحبها طيب الظرف فطنة معها بعض إرسال الألفاظ يرتفع عنها أهل الجلالة من المخلصين في باطن الدنيا والتمييز في باطن الحال. وسمعت القاضي أبا العباس الجرجاني رحمة الله تعالى يقول بالبصرة: أول من نطق بهذه الكلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه أتى بسارق فقال له: أسرقت قل أم لا؟ فقال الرجل: لا. فقال عمر رضي الله عنه: إنك لظريف. جهد البلاء الإقلال والعيال. ينبغي للعالم أن يتطامن للجاهل بقدر ما رفعه الله تعالى عليه. العقل أفقر إلى الحكمة والأدب من الجسد إلى الطعام والشراب. أعظم الناس غماً من زالت نعمته وبقيت شهوته وضاقت مقدرته. قلة العيال أحد اليسارين معالجة الموجود خير من انتظار المفقود. من عدم الحياء عند الفضيحة والصبر عند النصيحة سهلت عليه المعاصي كلها. العالم مثل السراج من مر به اقتبس منه. من تقدم بحسن النية نصره التوفيق. لم تكن لله ناصحاً حتى تحب أن يكون له عدوك مطيعاً. من آذى الناس بغير سلطان كان مصيره إلى الهوان. مادحك بما ليس فيك مخاطب لغيرك، فجوابه وثوابه ساقطان عنك. المكر والخديعة في النار. الأحداث تأتي عليما منه يأتي الحذر. المأكول للبدن والموهوب للمعاد والمحفوظ للعدو. من غضب على من لا يقدر على غمه فقد عذب نفسه واشتد غيظه. أطلب ما يعنيك ودع ما لا يعنيك، فإن في ترك ما لا يعنيك درك ما يعنيك. من أنكى الأشياء لعدوك أن تريه أنك لا تعاديه. كل آت قريب. الاستغناء عن الشيء خير من الاستغناء به. ومن خير خبر أن تسمع بالمطر. لا فخر فيما يزول ولا غنى فيما لا يبقى. شر العيوب ما كان مضمناً للعيوب. شر الذنوب ما كان علة للذنوب. أبلغ الرسل الكتب. حاول الأمور بالنصفة وأنا زعيم لك بالظفر، من أراد جمالاً لا تهدمه الأيام فليصحب المروءة والصيانة فهما ذروة الشرف. رب أمر له ما بعده. من سبق إليك كان له صفوه. من شروط المروءة التغابن للضعيف. المروءة ترك الريبة. يكاد استقصاء القوى من الضعيف أن يكون ظلماً. يكاد استيفاء الغني من الضعيف أن يكون جوراً. القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، أوله حكم وآخره علم، المحادثة على الطعام تزيد في الشهوة وتذهب الحشمة وتزيل الانقباض. لن تنال ما تحب حتى تصبر على كثير مما تكره، ولن تنجو مما تكره حتى تصبر عن كثير مما تحب. ذهاب البصر خير من كثير من النظر. لا تعد العزم عزماً إذا ساق غماً. مع الرأي الأول وهم. النظرة بعد النظرة تعقب لما قبلها وتزيد لما بعدها. ليس مدح الرجل بما فيه تزكية. أنعم الناس من كفي أمر دنياه ولم يهمه أمر دينه. الغريب من فقد إخوانه ونظراءه وإن كان في وطنه. الغريب من لا صديق له. الغريب الفقير. الغريب الأحمق. الغريب من لا ناصر له. شيئان لا يستحي العاقل منهما: المرض وذو القرابة الفقير، من كانت الدنيا سبب صلته فإنها سبب قطيعته، فاحذر أن تجعلها وسطاً بينك وبين أحد. علامة الأشرار أن من خالطهم لم يسلم منهم،

ومن تركهم لا يصرفوا شرهم عنه. وأما الأخيار فمن خالطهم ربح عليهم ومن غالظهم ترك رشده. البر ثلاثة: الصدق في الغضب، والجود في العسر، والعفو عند المقدرة. من عتب على الزمان طالت معتبته. ستساق إلى كل ما أنت لاق. إذا صحب الارتياد الرشاد وجد المراد. ما عتق من الذم من ملكه الجهل. ولا ظفر بالعز من احتمل ما في المعصية من الذل، ولا خرج من الدناءة من صرف عقله إلى الدنيا. آخر الظلمة هريب. المسئلة آخر المكسبة. ما عد من أهل الحجا من كان من أهل الهوى، ولا كان من أهل التقى من حاد عن سبيل الهدى. من ذم أدنى الإحسان لامتناع أقصاه لم يحمد شيئاً منه. من دواعي الهلكة إضاعة المعرفة. واعجبا لمن يبني داره وجسمه يهدم، ولمن يبرم أمور الدنيا وأموره في نفسه تحل! قال علي رضي الله عنه: من لم يكن معنا كان علينا. الساكت أخو الراضي الكاتم للعلوم كمن لا علم له، أو غير واثق فيه الصواب. المرء مخبو تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه. قيمة كل امرئ ما يحسن. العلم بما في المصيبة من الثواب ينسي المصيبة. شر من المعصية سوء الخلق. فقهاء الحكمة ربيع القلوب. الخصومة تكشف العورة وتورث المعرة. بلاء المؤمن من عافيته كالنار حريقها من نورها. قد يكون الناس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً. من لم يرفع نفسه عن قدر الجاهل رفع الجاهل قدره عليه. الذلة مع القلة تجوع الحرة ولا تأكل بثديها. موت عاجل خير من ضنا آجل. الغضب عند المناظرة منساة للحجة. الاختصار أثبت للمتكلم وأفهم للسامع. الكلب في الحاضرة ينبح الضيف ويدفع الزائر ويرد السائل، والكلب في البادية يعين الصاحب وينذر بالضيف ويدفع السارق. لا تغتر بقول الجاهل الملك في يدك لؤلؤة وأنت تعلم أنها بعرة. مثل الصلاة في سائر العبادات مثل السفينة مع جميع من فيها، إن سلمت سلم الكل وإن أصيبت أصيب الكل. الحب والبغض فتنة. من طلب المطمع حرم، ومن طلب المؤنس عجز. قد ينصر المنطق من يعنى به. إذا فسد الزمان كسدت الفضائل وضرت الرذائل ونفعت، وصار خوف الموسر أكثر من خوف المعسر لقاء أهل الخير عمارة القلوب. لا يصد الكثير من لا يصد نفسه الواحدة، بالعمل يحسن المنطق وبالقوة يتم العمل. الفكرة مرآة. من أعظم الناس محنة من قل ماله وكثر مجده. الأدب مع العقل كالشجرة المثمرة والعقل بلا أدب كالرجل العقيم. الماء ألين من القول والقلب أقسى من الحجر، وقد يثلم الماء الحجر إذا كثر انحداره عليه. أشد الأشياء إخفاء الفاقة. أولى الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل، لم يغب من شهد رأيه ولم يفن من بقي أثره ولم يمت من خلد عمله. وقد سبق المثل: ليس بها لك من ترك مالك. كما أنه قبيح إذا ركبنا الخيل أن تجري بنا حيث أرادت دون أن ندبرها، كذلك قبيح أن تجري البدن والنفس بالعقل حيث أراد من الشهوات. أشق الأمور معرفة المرء بنفسه عائب المجمع عليه محجوج. ليس شيء من البر إلا ودونه عقبة من الصبر. ضرب الإنسان عار باق ووتر مطلوب. قيل لحكيم: هل للغضب مادة تحسمه؟ قال: نعم أن يعلم الإنسان أنه ليس يجب أن يكون مطاعاً أبداً ولا يجب أن يخدم أبداً ولا يجب أن يتحمل خطاؤه أبداً، بل قد يطيع ويخدم ويتحمل الخطأ ويصبر على النوائب، فإذا فعل ذلك لم يغضب، وإذا غضب فقليل. السعيد من وعظ بغيره. لا ينفع كثرة العلم من لا يعمل كما لا يغني ضوء الشمس عن من لا يبصر. رضي بالذل

من كشف ضره بترك الورع، وأزرى بنفسه من استشعر الطمع. البدع فخوخ يسترها زخرفة الكلام وخدع المقال. الناس في الدنيا بالإخوان وفي الآخرة بالأعمال. صديق الرجل عقله وعدوه حمقه. من اجتمعت عليه النعمة أديمت له الرغبة. يتحفظ الأحمق من كل شيء إلا من نفسه. لا وجود إلا بمال ولا صداقة إلا بوفاء ولا فقه إلا بورع. العليل الذي يشتهي أرجى من الصحيح الذي لا يشتهي. قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه. اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال لقاء الرجل أخلاءه مسلاة للهم. من لم يصلح على تدبير الله تعالى لم يصلح على تدبير نفسه. الأحلام فرح ووهم كاذب، والعامل بها كالمعتمد على الظل الزائل. الدنيا دول فما كان لك منها أتاك عن ضعف، وما كان عليك لم تقو على دفعه بقوتك. العافية خير من الواقية. الكريم لا يستحي من إعطاء القليل. العفاف زينة الفقير. الكرم حسن الفطنة. واللؤم سوء التغافل، اختلاف كلام المرء دليل على ميل الهوى به. من حق النعمة أن يرى أثرها. من كان شبعه في الطعام لم يزل جائعاً، ومن كان غناه في المال لم يزل فقيراً، ومن كان قصده بحوائجه الخلق لم يزل محروماً، ومن استعان في أمره بغير الله تعالى لم يزل مخذولاً. من خاف من فوقه خافه من تحته، ومن لم يخف من فوقه لم يخفه من دونه. ما تحسنه ولا تعمل به لغيرك نوره وعليك بوره. واعجباً لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، عين العز في طلب ما يبقى. من حذرك كمن بشرك. الشفيع جناح الطالب. إذا أقبلت الدنيا عليك فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى. قال الشاعر: فأنفق إذا أيسرت غير مقتر وأنفق إذا ما أدبرت حين تعسر فلا الجود يفني المال والحظ مقبل ولا البخل يبقي المال والحظ مدبر ولغيره: لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فلن يضر بها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف الغريب: في كل مكان مظلوم. من سلك الجلد أمن من الغبار. لم يتجاوز الحد من ركب القصد. عجباً للئيم يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الكرم الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء! من يطل ذيله يكثر ويله. وقال علي رضي الله عنه: من يبطل فعل أبيه تمنطق به. غثك خير من سمين غيرك. إذا أحببت أن لا يفوتك ما تشتهي فاشته ما يمكنك. من قصد أسهل ومن أسرف أوعر. القصد أخذ الحمام. شر السير الحقحقة: يؤنسك في المجالس مجلس لا يقصر بك ولا تقام عنه. أقلع الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك. وازجر المسيء بإثابة المحسن لكي يرغب في الإحسان. لن يهلك من مالك ما وعظك. الخلاف يهدم الرأي. خير الناس لغيره خيرهم لنفسه. إحسان الله تعالى مكفور عند من أصبح مصراً على ذنب مستور. يصير التخلق خلقاً بالاجتهاد والاعتياد. الحجر الغصب في البنيان رهن على الخراب. ربما يشرق شارب الماء به. رب رأي أنفع من مال وحزم أوفى من رجال. من استوعب الحلال تاقت نفسه إلى الحرام. من ذم الزمان لم يحمد الأخوان. بتقلب الأحوال تعلم جواهر الرجال. من عرف الزمان لم يحتج إلى ترجمان، ومن عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد. رسولك ترجمان عقلك. الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة. كلما اشتد الظلام قوي ضوء السراج.

الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد. أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها. من لم يدر قدر البلية لم يرحم أهلها. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرها. مجالسة الأحمق غرر والقيام عنه ظفر. لا تسأل عما لم يكن فإن في الذي قد كان شغلاً. البخل جامع لمساوي العيوب وهو زمام يقاد به إلى كل سوء. إذا صلح القلب وصح العمل كان التوفيق. إحراز العواقب بالاجتهاد، والاجتهاد أربح بضاعة. التوفيق خير قائد كمال العمل التوفيق من ترفق في استتمام الحظ من النعمة أدرك وبلغ، مقاربة الناس في أخلاقهم آمن من غوائلهم، لا تنظر إلى أحد بالموضع الذي رتبه فيه زمانه، ولكن انظر إليه بقيمته في الحقيقة فإنها مكانه الطبيعي. أبعد الناس سفراً من سافر في طلب أخ صالح. ليست البركة من الكثرة ولكن الكثرة من البركة. وقال داود عليه الصلاة والسلام: إذا كان ما ترى من الجهل يغيظك إذن يكثر الجهل ويطول غمك. قيل لبزرجمهر: ما لكم لا تعاتبون الجهلة؟ قال: لأننا ما نريد من العميان أن يبصروا. العشق مرض نفس فارغة لا همة لها. إجالة الفكر واستخراج الفطنة تتبع الإساءة بالندم وتتبع الندم بالإقلاع. الأمن بالبراءة وكثرة الصديق بالتواضع. وأعم الأشياء نفعاً فقد الأشرار. من بذر عداوة حصد ندامة. السمنة للنساء غلمة وللرجال غفلة. قال المسيح عليه الصلاة والسلام: ما حلم لمن لم يصبر عندالجهل وما قوة لمن يرد الغضب، وما عبادة لمن يتواضع للرب سبحانه. عبادة النوء كالمجيء في غير وقت والجلوس فوق القدر. إذا وقعت الضرورة ارتفعت المشورة. قيل لحكيم: أخرج الهم من قلبك. قال: ليس بإذني دخل. من اغتر بحاله قصر في احتياله. إياكم وطلب الأمور من غير وجوهها فيعييكم طلبها ولا تدركوا حظاً منها. هيئة الزلل تورث الحصر. وقيل لحكيم: لأي شيء تزوجت امرأة دميمة وأنت وسيم؟ قال: اخترت من الشر أقله. وقيل لحكيم: ما تقول في الزواج؟ قال: لذة شهر وهم دهر ووزن مهر ودق ظهر. فتنة عالم إلى إبليس خير من غواية ألف رجل جاهل. تمني المعاتب ولا تمني المعاذير. الموالاة في الإسلام بمنزلة الحلف في الجاهلية. سب الجاهل للحكماء تشريف لهم عند أهل الفضل، لأن الجاهل منسوب إلى فعله، وكما أن الحكيم يتألم بحديث الجاهل كذلك الجاهل يتألم لسماع الحكمة. أغنى الناس عن الحقد من عظم قدره عن المجازاة. الكبير الهمة من الرجال من كان عنف الناصح عنده ألطف موقعاً من ملق الكاشح. إن كانت الجدود من الحظوظ فما بال الحرص، وإن كانت الأمور ليست دائمة فما بال السرور، وإن كانت الدار الدنيا غدارة فما بال الطمأنينة؟ وقال الشعبي: ما رأيت الله سبحانه وتعالى أعطى عباده من أجل الحلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خمس من لم تكن فيه فلا ترجه لشيء من أمر الدنيا والآخرة: من لم يعرف الوثيقة في أرومته والدماثة في خلقه والكرم في طبعه، والنبل في نفسه والتحاقر عند ربه. وقال أبو عبد الله بن حمدون: كنت مع المتوكل لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قصورها ثم خرج فرأى ديراً قديماً هناك حسن البناء بين مزارع وأشجار وأنهار، فدخله فبينا هو يطوف إذ بصر برقعة قد التصقت في صدره، فأمر بقلعها فإذا فيها هذه الأبيات: أيا منزلاً بالدير أصبح خالياً تلاعب فيه شمال ودبور كأنك لم يسكنك بيض أو أنس ولم يتبختر في فنائك حور

وأبناء أملاك غواشم سادة صغيرهم عند الأنام كبير إذا لبسوا أدارعهم فعوابس وإن لبسوا تيجانهم فبدور على أنهم يوم اللقاء ضراغم وأنهم يوم النوال بحور ليالي هشام بالرصافة قاطن وفيك ابنه يا دير وهو أمير إذا العيش غض والخلافة لدنة وأنت طروب والزمان غدير وروضك مرتاد ونورك مزهر وعيش بني مروان فيك نضير بل فسقاك الغيث صوب سحائب عليك لها بعد الرواح بكور! وعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى لها ذكر قومي أنة وزفير لعل زماني جار يوماً عليهم لهم بالذي تهوى النفوس يدور فيفرح محزون وينعم بائس ويطلق من ضيق الوثاق أسير رويدك إن اليوم يتبعه غد وإن صروف الدائرات تدور! فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير وقال: أعوذ بالله من شر أقداره. ثم دعا صاحب الدير فسأله عمن كتبها فقال: لا علم لي به. وأما الكتب وصفاتها فتجل عن بلوغ الوصف ولقد أحسن ابن الجهم في قوله: سمير إذا جالسته كان مسلياً فؤادك عما فيه من ألم الوجد يفيدك علماً أو يزيدك حكمة وغير حسود أو مصر على الحقد ويحفظ ما استودعته غير غافل ولا خائن عهداً على قدم العهد زمان ربيع في الزمان بأسره يبيحك روضاً غير ذاوٍ ولا جعد تنور آداباً بورد بدائع أخص وأولى بالنفوس من الورد وأنشد بعض الأعاجم: إذا ما خلا الناس في دورهم بخمر سلاف وخود كعاب وآنستهم لحساب الليال صفاء الندامى وزهو السحاب خلوت وصبحي كتب العلوم وبيت عروسي بيت الكتاب ودرس العلوم شراب العقول فدوروا علي بذاك الشراب وما يجمع المرء في دهره سوى العلم يجمعه للثواب ومن أحسن ما ينشد في الكتب: إذا ما خلوت من المؤنسين جعلت المؤانس لي دفتري فلم أخل من شاعر محسن ومن عالم صالح منذر ومن حكم بين أبياتها فوائد للناظر المفكر وإن ضاق صدري بأسراره وأودعته السر لم يظهر وإن صرح الشعر باسم الحبيب فلم أحتشمه ولم أحصر وإن عدت من ضجر بالهجا وسب الخليقة لم أحذر

ونادمت فيه كريم المغب لندمانه طيب المخبر فلست أرى مؤنساً ما حييت عليه نديماً إلى المحشر وأنشد ابن حزم وبعض الأدباء: إن سصبنا الملوك تاهوا علينا واستبدوا بالرأي دون الجليس أو صحبنا التجار عدنا إلى الفقر وصرنا إلى حساب الفلوس فلزمنا البيوت نتخذ الح بر ونملأ به وجوه الطروس لو تركنا وذاك كنا ظفرنا من أمانينا بعلق نفيس غير أن الزمان أعمى بنيه حسدونا على حياة النفوس وقال غيره: أنست إلى التفرد طول عمري فما لي في البرية من أنيس جعلت محادثي ونديم نفسي وأنسي دفتري بدل العروس قد أستغنيت عن فرسي برجلي إذا سافرت أو بغل أنوس ولي عرس جديد كل يوم بطرح الهم في أمر العروس فبطني سفرتي والخرج جسمي وهمياني فمي أبداً وكيسي وبيتي حيث يدركني مسائي وأهلي كل ذي عقل نفيس ولئن كان الناظمون قد وصفوا فجودوا وقالوا فأبلغوا فقد قصروا، وأجل ممدوح من أستقصى في مدحه المنتهى، واستمد في تقريظه المحتفل، وكيف لا والكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل! وعالم مليء علماً وظرف حشي ظرفاً وإناء مليء راحاً وحبذا بستان يحمل في أكمامه جوهراً أو درراً! وروضة نقلت في حجر. هل سمعت بشجرة تؤتي أكلها كل حين وساعة بألوان مختلفة وطعوم متباينة؟ هل سمعت بشجرة لا تذوي وزهر لا يتوى وثمر لا يفنى؟ ومن لك بجليس يفيدك الشيء وخلافه والجنس وضده؟ ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء. إن غضبت عليه لم يغضب وإن سخطت عليه لم يجب. أكتم من الأرض وأنم من الريح، وألهى من الهوى وأخدع من المنى وأمتع من الضحى، وأنطق من سبحان وائل وأعيي من باقل. هل سمعت بمعلم واحد تحلى بحلل كثيرة وجمع أوصافاً غزيرة عربي فارسي هندي رومي يوناني؟ إن وعظ أسمع وإن ألهى أمتع، وإن أبكى أدمع وإن ضرب أوجع. يفيدك ويستفيد منك ويزيدك ويستزيد منك. إن حدث فسر وإن مدح فنزهة. قبر الأسرار وحرز الودائع وقيد العلوم، وينبوع الحكم ومعدن المكارم ومؤنس لا ينام. يفيدك علم الأولين ويخبرك عن كثير من أنباء الآخرين. هل سمعت في الأولين أو بلغك عن أحد من السافلين، من جميع هذه الأوصاف مع قلة مؤنته وخفة محمله؟ لا يرزءك شيئاً من دنياك. نعم الذخر والعقدة والشغل والحرفة، جليس لا يضرك ورفيق لا يملك. يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر إن أدمت النظر إليه أطال إمتاعك وشحذ طباعك، وبسط لسانك وجود بنانك وفخم ألفاظك. إن ألفته خلد على الأيام ذكرك وإن درسته رفع في الخلق قدرك، وإن جملته نوه عندهم باسمك. يقعد العبيد مقاعد السادة ويجلس السوقة

مجالس الملوك فأكرم به من صاحب وأعزز به من مرافق! وقد قال فيه الأول: لنا جلساء لا نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً مشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ورأياً وتأديباً وعقلاً مسددا فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أموات فما أنت كاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا! فهذا ما أردنا أن نمليه في هذا الكتاب. شعر: فاكتبوا إن شئتم أنقاشه

§1/1