سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام

صالح بن طه عبد الواحد

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

سُبُل السَّلام مِن صَحيح سيرة خَير الأنَامِ عَليه الصَّلاة وَالسَّلام

جميع الحقوق محفوظة الطّبعة الثانِيَة ربيع الأول 1428 هـ مكتبة الغرباء الأردن - عمان - هاتف: 4789399 الدار الأثرية عمان - الأردن - تلفاكس 65658045/ 00962 خلوي: 795943456/ 00962 - 925595 - الرمز البريدي: 11190 الرمز الإلكتروني: [email protected]

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه وجنده. أما بعد: فإن السيرة النبوية تسجيل صادق لحياة سيد البشر، ورسول رب العباد: محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث اختاره الله للرسالة الإلهية الخاتمة الخالدة، ليضع بين يدي البشرية مفاتح سعادتها، ويضع أقدامها على مراقي العز، فمن أخذ ذلك بقوة، كان ممن قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وممن وصفهم المولى -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. ولذلك؛ فإن الله -جل جلاله- جعل مناط القدوة ومحل الأُسوة محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وجعل معيار التقوى اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ولن تبلغ الأمة كمالها ولن يتم للعبد تمام التأسي وحقيقة الاتباع، إلا بمعرفة سيرة خير البرية وسيد البشرية، ودراستها، بتمحيص وتوثيق، ليصفو للمتبع الثابت الصحيح المقبول من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وممن ساهم في هذا الجانب وقام مقاماً محموداً أخبرنا في الله الشيخ

أبو إسلام صالح طه -وفقه الله- حيث ألقى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطب ماتعة في مسجد إبراهيم الحاج حسن، فجاءت مترابطة متراصة آخذ بعضها برقاب بعض؛ لتكون في نهاية المطاف هذا الكتاب الحافل في سيرة خير الأنام محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وقد مررت بها ووقفت عليها؛ فوجدتها جديرة بالنشر، ليعم بها النفع. سائلاً المولى -عز وجل- أن يجعل جميع أعمالنا خالصة لوجهه الكريم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وكتبه حامداً ومصلياً ومسلماً أبو أسامة سليم بن عيد الهلالي أصيل يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة في عمان البلقاء عاصمة جند الأردن من بلاد الشام المحروسة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فهذه مجموعة من الخطب المنبربة ألقاها أخبرنا الشيخ أبو إسلام صالح بن طه عبد الواحد -حفظه الله ونفع به- وهي في "السيرة النبوية". وتمتاز هذه الخطب بالاعتماد على الأحداث الصحيحة منها، وتحقيق ذلك في السيرة خاصة يحتاج إلى جهد جهيد، وتعب في البحث والتنقيب، و "أي خير في حديث اختلط صحيحه بواهيه، وأنتَ لا تفليه، ولا تبحث عن ناقليه". ومن ميزات الكتاب: التحليل الجيّد للحَدَث الذي يتكلم عنه، وذكر العظات والعبر والفوائد منه، والتركيز منها على ما يخص حال الأمة الآن. ويزين ذلك كله: جودة حفظ أخينا الشيخ أبي إسلام للأحداث، والتمكن منها، وسرد الأحاديث الطويلة جداً من ذاكرته، مع حُسن إلقاء على وجهٍ مؤثّرٍ. فازدان الموضوع والأُسلوب، والاختيار والتحليل ولا شك أن السيرة النبوية هي التطبيقات العملية لما يحب الله ويرضى، وتجسيد للمعاني والأحكام والأخلاق في الواقع العملي، ليتحقق مقام العبوديّة، وما أحوج

الناس هذه الأيام لأمثال هذه الخطب، ولئن فات كثير من القراء استماع هذه الخطب فإنها جُمعت -ولله الحمد- بين دفَّتي هذا الكتاب، ليعمّ به النَّفع، وما ذلك على الله بعزيز. وكتب أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} {آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار (¬1). عباد الله! قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ¬

_ (¬1) هذه خطبة الحاجة التي كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بها خطبه.

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام" (¬1). ودعوة إبراهيم عليه السلام هي قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129]. وبشرى عيسى: كما أشار إليه قوله عَزَّ وَجَلَّ حاكياً عن المسيح عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6]. وقوله: "ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام" قال ابن رجب: خروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 262)، والحاكم (2/ 0 60)، "مجمع الزوائد" (8/ 222)، وإسناد أحمد حسن وله شواهد تقويه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16]. وقال ابن كثير: وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ولهذا جاء في الصحيحين: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، وفي صحيح البخاري: "وهم في الشام" (¬1). عباد الله! وهذه الفرقة الناجية المنصورة هي التي عرفت ربّها فعبدته ولم تُشرك به شيئاً استجابةً لقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وعرفت رسولها فاتبعته وتأست به ولم تبتدع في دين الله استجابة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وعرفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلكت منهجهم وسبيلهم استجابة لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" (1/ 184)، رواه البخاري، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" (8/ 189) رقم 7311.

واحدة" قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: "هي التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي". فالنجاة يا عباد الله في توحيد الله في العبادة وتوحيد رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الاتباع وتوحيد الصحابة رضي الله عنهم في المنهج والفهم. عباد الله! وانطلاقاً من قوله تعالى على لسان هود - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف:68]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة"، قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدال على الخير كفاعله" (¬2). منذ عشرين عاماً أو يزيد وأنا في مسجد إبراهيم الحاج حسن (عمان/الأردن) أركّز في خطب الجمعة على العقيدة الصحيحة وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ففي العقيدة ألقيتُ مجموعة من خطب الجمعة بعنوان "العقيدة أولاً لو كانوا يعلمون" وقد خرجت بفضل الله وكرمه إلى الوجود كتاباً في أربعة مجلدات. ثم بعدها ألقيت مجموعة من الخطب بعنوان "ثمرات الإيمان" وخرجت إلى الوجود في مجلدٍ واحدٍ بعنوان "أحسن البيان من مواقف أهل الإيمان". ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) "صحيح الجامع" (3393).

ثم ألقيت بعدها مجموعة من الخطب بعنوان "الدعاء النافع" وهي تحت الطبع يسر الله خروجها في مجلدٍ واحدٍ أيضاً. ثم انتقلت من العقيدة إلى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فألقيت مجموعة من الخطب في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وستخرج قريباً بإذن الله تعالى إلى الوجود مجلداً واحداً بعنوان "سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام" وهي كتابنا هذا الذي بين أيديكم. ثم انتقلت من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سيرة أصحابه الكرام رضي الله عنهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ولنصر دينه ونحن ما زلنا بصدد الحديث عنها. والله أسال أن يتقبل عملي خالصاً لوجهه وأن ينفعني به يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتب أبو إسلام صالح بن طه عبد الواحد إمام وخطيب مسجد إبراهيم الحاج حسن عمان- الأردن 23 من شهر شعبان لعام 1424 من الهجرة الموافق 19 تشرين أول لعام 2003 ميلادي

الخطبة الأولى: ثمار دراسة السيرة النبوية

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الخطبة الأولى: ثمار دراسة السيرة النبوية إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع سلسلة جديدة من المواعظ بعنوان:

محمد رسول الله والذين معه

محمد رسول الله والذين معه وقفات تربوية مع سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - فيها دروس وعظات وعبر. عباد الله! وهذا العنوان أخذناه من كتاب ربنا من قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. عباد الله! وهذه الآية الكريمة هي الآية الأخيرة من (سورة الفتح) التي قال الله فيها لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحًا مُّبِينًا (1)} وهذا اليوم الذي نبدأ فيه هذه السلسلة من المواعظ: هو اليوم الأول من السنة الهجرية لعام ألفٍ وأربع مئة وثلاثة وعشرين (1423هـ)، وهذا يوم يذكرنا بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ليقيم دولة الإِسلام في المدينة، والتي فتح من خلالها قلوب العباد والبلاد؛ فبهذه المناسبة -نسأل الله -تبارك وتعالى- فهو الجدير بالإجابة- أن يجعل هذه السلسلة من المواعظ سبباً لهجرة المسلمين إلى ربهم ليعبدوه وحده، ولا يشركوا به شيئاً، وإلى سنة رسولهم ليتبعوه وحده ويبتعدوا عن البدع والخرافات، وأن يعودوا إلى منهج الصحابة - رضي الله عنهم - وأن يتركوا السبل القصيرة التي على كل سبيل منها شيطان يدعُ الناس إليه، وأن يكون ذلك سبباً للفتح المبين ولنصر المسلمين على أعداء الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عباد الله! في هذه الآية الكريمة: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اَللهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ} يثني ربنا جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الصحابة الكرام، ففي قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اَللهِ}: يخبرنا ربنا جل وعلا عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب، وهو خاتم الرسل والأنبياء فلا نبي بعده ولا رسول بعده. وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ثناء من الله تعالى على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعاملهم مع الكفار بالشدة، ومع المؤمنين بالرحمة والعطف، فالكافر الذي هو عدو لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - يُعَامَلُ بشدةٍ وغلظةٍ، والمؤمن الذي رضي بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً يُعَامَلُ بالعطف والرحمة والمحبة والحنان. كيف لا، والله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. عباد الله! الإخوة رابطة قوية، تربط المؤمنين بعضهم ببعض. ويبين - صلى الله عليه وسلم - شدة هذه الرابطة. فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه (¬1). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (¬2). فإذا نظرنا يا عباد الله! إلى أحوال المسلمين الآن، فإنه ينطبق علينا العكس تماماً إلا من رحم ربي، رحماء مع الكفار أشداء فيما بيننا و"إنا لله وإنا إليه راجعون". ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 481)، ومسلم (رقم 2585). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 6011)، ومسلم (رقم 2586).

عباد الله! وفي قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}. بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- كيف يتعامل الصحابة مع الخلق، يخبرنا عنهم كيف يتعاملون مع الخالق؛ فهم يتقربون إلى الله -عز وجل- بالأعمال الصالحة تراهم {رُكَّعًا سُجَّدًا} وفي موضع آخر {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}. ماذا يريدون بهذه العبادة؟ {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يريدون بعبادتهم وجه الله، يريدون بعبادتهم رضا الله والجنة، إيمان صادق، أعمال صالحة، إخلاص لله -عز وجل-. فظهر ذلك على وجوههم قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} انظر إلى رجل في صلاة الفجر بات لله ساجداً وقائماً ترى النور يعلو وجهه، وانظر إلى رجل ترك الصلاة وأكل الربا وبات على معصية الله ترى على وجهه السواد والغبرة، ثم يخبر ربنا جل وعلا أن مثل الصحابة هذا موجود في التوراة قبل تحريفها {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} انظر إلى النبات كيف يبدأ صغيراً ثم يكبر، ثم يخرج شطأه -أي فراخه- ثم يثمر ويعجب الزراع حينذاك. فالصحابة بدأوا قلة ثم كثروا ثم قامت لهم قائمة، ثم كانت لهم دولة فغاظوا بذلك الكفار وفتحوا الدنيا من مشرقها إلى مغربها. ولذلك وعدهم الله تعالى بالمغفرة والأجر العظيم. فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}.

عباد الله! وهذا سؤال: ما هي الفائدة من دراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-؟ عباد الله! الفوائد من دراسة السيرة النبوية وسيرة الصحابة -رضي الله عنهم- كثيرة وكثيرة جداً، ومنها: الفائدة الأولى: معرفة أسباب نزول كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهذا مما يعين على فهمهما والاستنباط منهما أو معايشة أحداثهما. فمثلاً: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} قالوا: نزلت في صهيب الرومي - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة، فأتبعه نفر من قريش فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟! والله لا يكون ذلك، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجالاً، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي من يدي منه شيء فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي قالوا: نعم، ففعل. فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، ونزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} (¬1). ¬

_ (¬1) حديث صحيح أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 228) والحاكم في "المستدرك" (3/ 398) وقال عقبه: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وانظر "أسباب النزول" للواحدي (ص 39)، و "فقه السيرة" (ص 166) وتعليق شيخنا الألباني - رحمه الله- عليه.

وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111] الفائدة الثانية: معرفة الطريق الذي يوصل إلى رضا الله والجنة ويتمثل فيما يلي: أولاً: في عبادة الله وحده والابتعاد عن الشرك. ثانياً: في اتباع النبي وحده والابتعاد عن البدع والخرافات. ثالثاً: في سلوك منهج الصحابة الكرام والابتعاد عن سبل الشيطان. عباد اللهَ! والصحابة - رضي الله عنهم - ضربوا لنا مثلاً أعلى في عبادتهم لله، وفي اتباعهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاءت أدلة في الكتاب والسنة تأمر المسلمين أن يسلكوا منهج الصحابة؛ لأنهم قوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. ويقول - صلى الله عليه وسلم -:"وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا ملة واحدة" قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" (¬1). ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (2519).

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " .. وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي -أي طريقتي- وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" (¬1). عباد الله! فعندما ندرس سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يتبين لنا الطريق الذي يوصل إلى رضا الله والجنة. الفائدة الثالثة: يعرف المسلمون من أين ينطلقون وكيف يبدؤون. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بُعث في الناس وهم في ضلال مبين يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، والقوي يأكل الضعيف، ويشربون الخمر. من أين بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته لهذا المجتمع الذي يتقلب في الضلال المبين؟ هل بدأ بالمواجهة المسلحة فأعلنها حرباً وتدميراً وإرهاباً للكفار في مكة؟ الجواب: لا. هل بدأ بدخول البرلمانات النيابية والوصول إلى المناصب العليا في البلاد لتوصيل الإِسلام لهم؟ الجواب: لا. هل بدأ - صلى الله عليه وسلم - برفع راية الجهاد أولاً لتحرير الأرض من يد الفرس والروم؟ الجواب: لا. هل بدأ بثورة إصلاحية لتصحيح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؟ الجواب: لا. ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بدعوة الناس أولاً إلى عقيدة التوحيد؛ إلى "لا إله إلا الله"؛ وهذه هي دعوة الأنبياء كلهم قبله. ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (رقم 2157) "صحيح ابن ماجه" (42)، "رياض الصالحين" (رقم 161، 175، 707) تحقيق الألباني.

كلُّ نبيٍّ قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. أمة الإِسلام! انظروا معي إلى الساحة الإِسلامية في هذه الأيام: فريق من المسلمين ظنوا أن المواجهة المسلحة مع الباطل هي الطريق الصحيح؛ فبدأوا بالقتل والاغتيالات والتفجيرات للمسلم وغير المسلم، ومنهم من كَفَّرَ أباه وأمه، واستحل دمه، ومع ذلك فقد وصلوا إلى طريق مسدود وضاعت الثمار والجهود. وفريق آخر ظنَّ أن الطريق الوحيد لقيام الدولة الإِسلامية هو الدخول في البرلمانات ومجالس الأمة، والوصول إلى المناصب العالية في الدولة ومن خلالها يخدمون الإِسلام، ومنهم مَنْ وصل إلى هذه المناصب وما وجدنا أنهم قدموا خدمة للإسلام والمسلمين، إلا أنهم قدموا خدمة لحزبهم؛ من جمع الأموال والوصول إلى المناصب. فما هو الطريق؟ الطريق هو طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ دعوةُ الناس إلى العقيدة الصحيحة فكم من المسلمين يشرك بالله؟ وكم من المسلمين يطوف بالقبور؟ وكم من المسلمين يدعو غير الله؟ وكم من المسلمين يذبح لغير الله؟ فلا بد أن نبدأ بدعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة أولاً. فإن عادت الأمة إلى ربها وإلى سنة نبيها وإلى منهج الصحابة - رضي الله عنهم - فهم بذلك قد غيروا من أنفسهم، ومن سنن الله -تبارك وتعالى-

التي لا تتبدل ولا تتغير {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. عباد الله! لا بد أن يبدأ التغير منا، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا تبايعتم بالعينة"، -وهو نوع من أنواع الربا- "وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1). وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. الفائدة الرابعة: معرفة أسباب النصر وأسباب الهزيمة إذا درسنا السيرة النبوية، وسيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفنا أسباب النصر، وأسباب الهزيمة. فمن أسباب النصر: - الثقة بالله عز وجل. - التوكل عليه وحده. - التضرع إليه. - الأخذ بالأسباب الموصلة إلى النصر مع عدم الثقة بالأسباب. - الإيمان بأن النصر من عند الله. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (رقم 11)، "صحيح الجامع" (416).

وبالمثال يتضح المقال: في غزوة بدر يقول الله -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9 - 10]. قلوب طاهرة من الشرك يطلبون المدد من الله -عز وجل- وحده. عباد الله! كم من المسلمين الآن إذا اشتدت بهم الأمور يطلب المدد من أصحاب القبور؟ وهذه العقيدة فاسدةٌ عند أهل الضلاَّل يقولون: إذا اشتدت الأمور فعليكم بأصحاب القبور -أي: استغيثوا بأصحاب القبور-، أما الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم طلبوا المدد من الله يوم بدر. ولذلك امتن الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين بهذا النصر في يوم بدر، فقال تعالى في موضع آخر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. عباد الله! وفي يوم الأحزاب يقول الله -عز وجل- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} [الأحزاب: 9 - 12]. عباد الله! انظروا إلى الصحابة ماذا قالوا:

يقول الله -عز وجل-: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} إلى أن قال رب العزة: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 23 - 25]. عباد الله! ومن أسباب الهزيمة: - حب الدنيا. - مخالفة الأوامر الشرعية. ويظهر ذلك يوم أحد، فقد بدأت المعركة بنصر كبير للمسلمين، وخالف الرماة أمر رسول الله ونزلوا من على الجبل فتحول النصر إلى هزيمة فلما تعجب الصحابة لما أصابهم أنزل الله -تبارك وتعالى-: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165]. أنتم السبب، الله أكبر، مخالفة واحدة كان ما كان من تحويل النصر إلى هزيمة؟! نعم، فكيف بنا يا أمة الإِسلام؟ وقد فسدت العقيدة، وترك الكثيرون الصلاة، وأكلنا الربا، وتبرجت النساء، وتركنا صلاة الجماعة، إلا من رحم ربي. عباد الله! وفي يوم حنين، التفتوا إلى الكثرة، وأعجبتهم كثرتهم؛ فكانت الهزيمة في بداية المعركة ولكن الله سلَّم.

ولذلك قال الله -عز وجل-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} [التوبة: 25 - 27]. الفائدة الخامسة: دراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام؛ زادٌ نافع لكل مسلم. فالدعاة إلى الله -عز وجل- يتعلمون كيف يدعون الناس إلى عبادة الله؟ والقائد يتعلم من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كيف تكون القيادة؟ والجندي يتعلم من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كيف تكون الجندية؟ والمربي يتعلم من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كيف تكون التربية؟ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ضربوا لنا مثلاً أعلى في ذلك، ولذلك أمرنا الله -عز وجل- أن نتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وأمرنا الله -عز وجل- أن نطيعه في كل أمر، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وأخبرنا ربنا -جل وعلا- أن في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - الهداية إلى كل خير فقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. وحذر ربنا -جل وعلا- المؤمنين من مخالفة أمره فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. وأثنى الله -عز وجل- على صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى من تبعهم بإحسان قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. الفائدة السادسة: أن نتعلم من السيرة أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فالله -عز وجل- وصفه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. فماذا كان خلقه - صلى الله عليه وسلم -؟ سئلت عائشة -رضي الله عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن" (¬1). الفائدة السابعة: نتعلم من السيرة المعجزات التي أيد الله بها نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -. فمثلاً عندما طلب الكفار آية على صدقة أنه رسول أشار بيده إلى القمر فانشق نصفين، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، ومع ذلك ما زاد الكفار إلا طغياناً كبيراً. وقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الإناء ففاض الماء من بين أصابعه إلى غير ذلك من المعجزات التي نتكلم عنها في وقتها سائلين المولى في علاه أن ينفعنا بدراسة هذه السيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وهذه المواعظ تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: دراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الذي نبدأ به من الجمعة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 746)، وذكره النووي في "رياض الصالحين" (رقم 1856 - تحقيق الألباني).

القادمة -إن شاء الله تعالى-. والقسم الثاني (¬1): دراسة سيرة الصحابة ونبدأ بها -إن شاء الله تعالى- إذا انتهينا من الكلام عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) وهذا سيكون في كتاب مستقل غير هذا سميته: "رجالٌ صدقوا".

الخطبة الثانية: صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه

الخطبة الثانية: صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه أيها الإخوة عباد الله! يقول الله -عز وجل-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وحديثنا في هذا اللقاء سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من كل شيء. العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس نسباً. العنصر الثالث: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً وخَلْقاً. العنصر الرابع: أسمائه - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت في الكتاب والسنة. العنصر الأول: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من حل شيء. لأنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 15)، ومسلم (رقم 44).

فمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من ديننا ومن عقيدتنا. قال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله: لأنت أحبَّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنك الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الآن يا عمر" (¬1). فيا عباد الله! محبتنا للنبي- صلى الله عليه وسلم - عقيدة وإيمان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أخرجنا به من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أحرص علينا من أنفسنا، قال ربنا -جل وعلا-: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ولذلك فإن الله -عز وجل- في كتابه يتوعد وُيفسق الذين يحبون الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن أكثر من حبهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 6632).

العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس نسبا

وهذه المحبة يا عباد الله! تتمثل في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - وفي التمسك بسنته وفي نشرها بين الناس. العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس نسباً فالأنبياء والرسل هم أشرف الناس نسباً، وأفضلهم خلُقاً وخلْقاً، وذلك لأن الله -تبارك وتعالى- اصطفاهم وأرسلهم برسالته إلى الناس، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. ولما سأل هِرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب عن نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف نسبه فيكم؟ " فقال أبوسفيان: هو فينا ذو نسب. ثم قال هرقل: "سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها" (¬1). يعني في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة - صلوات الله عليهم أجمعين -. عباد الله! ورسولنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هو أولى الأنبياء بكل فضيلة، فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة، تعالوا بنا لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا عن نسبه الشريف: يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله -عز وجل- اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬2). يقول العباس - رضي الله عنه - بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض ما يقول الناس فصعد المنبر، فقال: "مَنْ أنا؟ " قالوا: أنت رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله -تعالى- خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 7)، ومسلم (رقم 1773). (¬2) رواه مسلم (رقم 2276).

العنصر الثالث: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا وخلقا

فجعلني من خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وأنا خيركم نسباً" (¬1). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه" (¬2). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "خرجت من نكاح، ولم أخرج عن سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يُصبني من سفاح الجاهلية شيء" (¬3). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" (¬4). عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو أشرف الناس نسباً فهو: أبو القاسم محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان" (¬5). وعدنان بلا شك من ولد إسماعيل الذبيح عليه السلام وإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. العنصر الثالث: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً وخَلْقاً: ويكفيه شهادة في خُلُقِه أن الله -تبارك وتعالى- قال فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (1485)، "صحيح السيرة النبوية" (ص 11). (¬2) رواه البخاري (رقم 3557). (¬3) "صحيح الجامع" (3220). (¬4) "صحيح السيرة النبوية" للألباني (ص 12). (¬5) "صحيح البخاري".

خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم:4]، فمهما تكلمنا عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نعطيه حقه، ولما سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان خلقه القرآن" (¬1). عباد الله! "ومن دراسة سيرته وقراءة الأحاديث النبوية في صفاته الخُلُقية تُطالعنا صور التواضع المقترن بالمهابة، والحياء المقترن بالشجاعة، والكرم الصادق البعيد عن حب الظهور، والأمانة المشهورة بين الناس، والصدق في القول والعمل، والزهد في الدنيا عند إقبالها، وعدم التطلع إليها عند إدبارها، والإخلاص لله في كل ما يصدر عنه، مع فصاحة اللسان وثبات الجنان، وقوة العقل، وحسن الفهم، والرحمة للكبير والصغير، ولين الجانب ورقة المشاعر وحب الصفح والعفو عن المسيء، والبعد عن الغلظة والجفاء والقسوة، والصبر في مواطن الشدة والجرأة في قول الحق" (¬2). يقول أنس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً" (¬3). ويقول أيضاً - رضي الله عنه -: "ما مسستُ ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت رائحة قطُّ أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد خدمتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 746) وقد مضى. (¬2) "السيرة النبوية الصحيحة"، أكرم ضياء العمري (ص 89). (¬3) رواه مسلم (رقم 2301) ومتفق عليه من حديث البراء بنحوه، أخرجه البخاري (رقم 3549)، ومسلم (رقم 2337). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 3561) ومسلم (رقم 2330).

وتقول عائشة -رضي الله عنها -: "ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى" (¬1). وتقول - رضي الله عنها -: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى" (¬2). أما صفاته - صلى الله عليه وسلم - الخَلْقية فقل في ذلك ما شئت ويكفيه أن أعداءَهُ لم يجدوا في خلقته عيباً واحداً يعيبونه به، فكان - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً وخَلْقاً. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى أصحابه رضي الله عنهم وهم يصفون لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول أنس - رضي الله عنه - في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان رَبْعةً من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم، ليسى بجعد قطط ولا سبطَ رجلٍ، أُنزل عليه وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وقُبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" (¬3). ويقول البراء - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً وأحسنهُ خَلْقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير" (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم3560)، ومسلم (رقم 2327). (¬2) رواه مسلم (رقم 2328). (¬3) رواه البخاري (رقم 3547)، ومسلم (رقم 2347) واللفظ للبخاري. (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 3548)، ومسلم (رقم 2337).

العنصر الرابع: أسمائه - صلى الله عليه وسلم -

وسئل البراء: "أكان وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر" (¬1). ويقول كعب بن مالك - رضي الله عنه - وهو يُحدث عن تخلُفه عن غزوة تبوك: "فلما سلمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعةُ قمر وكنا نعرف ذلك منه" (¬2). ويقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها" (¬3). ويقول علي - رضي الله عنه -: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين، ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسرُبة، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). العنصر الرابع: أسمائه - صلى الله عليه وسلم -: يخبرنا - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "لي خمسة أسماء: أنا محمَّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس على قدميَّ -أي على أثري- وأنا العاقب والعاقب: الذي ليس بعده نبي" (¬5). ويقول أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا نفسه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3552). (¬2) رواه البخاري (رقم 3556). (¬3) رواه البخاري (رقم 3562)، ومسلم (رقم 2320). (¬4) "مختصر الشمائل" (رقم: 4) للألباني. (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 3532)، ومسلم (رقم 2354) وتفسير العاقب عنده وحده.

أسماءً فقال: أنا محمَّد، وأحمد، والمقفيِّ والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة" (¬1). وقال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أمياً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً، رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة، ونعمة وهادياً" (¬2). ومن أسمائه - صلى الله عليه وسلم -: "المذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين، والمزمل، والمدثر" ومن أسمائه أيضاً: "المختار، والمصطفى، والشفيع، والمشفع، والصادق المصدوق" (¬3). عباد الله! ما هي أحوال الناس في مكة قبل مولده - صلى الله عليه وسلم -؟ وما هي الأحداث العظام التي حدثت قبل مولده - صلى الله عليه وسلم -؟ هذا ما نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى- إن كان في العمر بقية. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2355). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" (ص 9) للألباني. (¬3) "فتح الباري" (6/ 643 - 644 تحت رقم 3533).

الخطبة الثالثة: الأحداث العظام التي سبقت ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الثالثة: الأحداث العظام التي سبقت ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - عباد الله! يقول الله -عز وجل-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]؟ عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: أحوال مكة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. العنصر الثاني: الأحداث العظام التي سبقت ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - العنصر الثالث: دروس وعظاتٌ وعبر. العنصر الأول: أحوال مكة قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل بعثته. الناس في مكة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في ضلال مبين؛ يتقلبون في ظلمات الشرك والجهل. والله -تبارك وتعالى- أخبرنا بأحوال الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:

العنصر الثاني: الأحداث العظام التي سبقت ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم -

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا بأحوال الناس قبل بعثته فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ماجهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب .. الحديث" (¬1). وها هو الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - يصور لنا أحوال الناس في مكة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول للنجاشي: "أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار .. " (¬2). عباد الله! فالناس في حاجة إلى أن يرسل الله -تبارك وتعالى- إليهم رسولاً يخرجهم من هذه الظلمات التي يتقلبون فيها. العنصر الثاني: الأحداث العظام التي سبقت ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى هذه الأحداث: قصة حفر عبد المطلب لزمزم، والذي يخبرنا بهذه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2865). (¬2) "فقه السيرة" (ص 34) للغزالي، تحقيق شيخنا الألباني - رحمه الله-.

القصة هو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فيقول: (قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برَّة. قال: فقلت: وما برَّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغدُ رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة، قال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه؟ فجاءني فقال: احفر زمزم قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً -أي لا ينقطع ماؤها- ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل، فلما بُين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيُّ كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئرُ أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم؛ فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد. قال: نعم، قال: وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة نفر من قريش. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فابوا عليهم، فقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أَصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما

رأيُنا إلا تبعٌ لرأيك، فمُرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركبٍ جميعاً، قالوا: نِعم ما أَمرتْ به، فقام كلُّ واحدٍ منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا. حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عينٌ من ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها (¬1). عباد الله! حدث عظيم وما منكم إلا وقد شرب من هذا البئر، لا ينقطع أبداً مهما أخذ منه، فهو يتدفق بأمر الله سبحانه وتعالى يسقي الحجيج. عباد الله! ومن الأحداث التي حدثت قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر "مغازي ابن إسحاق" (ص 3)، "سيرة ابن هشام" (1/ 179 - 181)، "دلائل النبوة" (1/ 93) للبيهقي، "وقفات تربوية" "السيرة النبوية الصحيحة".

قصة نذر عبد المطلب بأن ينحر أحد أبنائه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: " .. كان عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط -أي أعطاه الله عشرة أولاد- أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرةٌ، أقرع بينهم أيهم ينحرُ، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإبل" (¬1). عباد الله! والحادث يوحي بما خطهُ القدر الإلهي من ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه عبد الله بن عبد الطلب، فقد حفظ اللهُ حياة عبد الله بما صرف عبد المطلب عن نحره. وتزوج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وحملت آمنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! ومن الأحداث العظام التي سبقت مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قصة أصحاب الفيل، وهذه القصة مشهورة تعرفونها وقد ثبتت في الكتاب والسنة: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [سورة الفيل]. قال ابن كثير -رحمه الله-: هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" لأكرم ضياء العمري (ص 93).

الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيب سعيهم وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال. ولكن الله لم ينصر قريشاً على الحبشة لخيرتهم عليهم بل صيانة للبيت العتيق الذي شرفه الله وعظمه ووقره ببعثة خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). عباد الله! وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشير إلى قصة الفيل فمنها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فضل الله قريشاً بسبع خصال: 1 - فضلهم بأن عبدوا الله سنين لا يعبده إلا قرشيٌ. 2 - وفضلهم بأن نصرهم يوم الفيل وهم مشركون. 3 - وفضلهم بأن نزلت فيهم سورة من القرآن لم يُدخل فيهم غيرهم (لإيلاف قريش) 4 - وفضلهم بأن فيهم النبوة. 5 - والخلافة. 6 - والحجابة. 7 - والسقاية" (¬2). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير". (¬2) "السلسلة الصحيحة" (رقم 1944).

العنصر الثالث: دروس وعظات وعبر.

الشاهد: أنه نصرهم سبحانه وتعالى على أصحاب الفيل وهم مشركون. ولما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حَل حَل- كلمة تقال للناقة إذا تركت السير -فألحت- أي تمادت على عدم القيام وهو من الإلحاح فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء -أي حرنت- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل" (¬1). ولما فتح الله -عز وجل- على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين" (¬2)، وفي ذلك إشارة إلى قصة أصحاب الفيل. العنصر الثالث: دروس وعظات وعبر. عباد الله! نقول على سبيل الاختصار: أولاً: الكعبة هي بيت الله وهي أول بيت وضع للناس، من حاول أن يعتدي عليها أهلكه الله عز وجل. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} [الفيل: 1 - 2]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج: 25]. ولذلك نقول لأعداء الإِسلام ولكل من يحاول أو تسول له نفسه أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 2731، 2732). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 112)، ومسلم (رقم 1355).

يفكر أن يعتدي على مقدسات المسلمين أو على بيت الله، فإن الله -تبارك وتعالى- له بالمرصاد. ثانياً: الكعبة هي قبلة المسلمين والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو إمام المتقين. فانظروا عباد الله! كيف حفظ الله -تبارك وتعالى- الكعبة من أصحاب الفيل لأنها ستكون بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم فحفظها تبارك وتعالى. النبي الكريم هو الذي يقود البشرية إلى سعادة الدنيا والآخرة ولذلك إذا أراد الله شيئاً هيأ له الأسباب، فمن الذي حفظ عبد المطلب وهو في الصحراء أن يموت عطشاً إنه هو الله لأنه سيخرج من هذا الرجل عبد الله وهو والد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن الذي حفظ عبد الله من النحر والذبح إنه هو الله لأنه سيخرج من هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي سعادة البشرية تتوقف بإرساله، والذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتشرفوا بأنكم تنتموا إلى هذا الدين العظيم، وأنكم من أتباع سيد ولد آدم وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! ها هو رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في بطن أمه في حفظ الله ورعايته، في أي عام ولد؟ وكيف ولد؟ وأين ولد؟ وكيف تربى؟ وأين تربى؟ وما هي الآيات الساطعات التي ظهرت عندما وضعته أمه، هذا الذي نعرفه في الجمع القادمة -إن شاء الله تعالى- إن كان في العمر بقية. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

الخطبة الرابعة: الآيات الجسام التي ظهرت ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الرابعة: الآيات الجسام التي ظهرت ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الله! يقول الله -عز وجل-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. وموعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا اللقاء رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا عن نفسه: جاء نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأتْ أمي حين حملت بي؛ أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" (¬1). فمع هذا الحديث، نعيش وإياكم هذا اليوم. عباد الله! في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة أبي إبراهيم". تعالوا بنا لنستمع إلى إبراهيم عليه السلام -هناك عند الكعبة- وهو يدعو بهذه الدعوة. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (1545).

قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 127 - 129]. دعا إبراهيم عليه السلام، ومرت الأيام والأعوام وقد استجاب الله -تعالى- دعوته، وبعث في الأميين -أي: في العرب- رسولاً منهم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. عباد الله! وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبشرى عيسى"، أي: وأنا بشرى عيسى عليه السلام، فها هو عيسى عليه السلام يبشر أمته برسولنا - صلى الله عليه وسلم -، والله تبارك وتعالى يخبرنا بذلك في كتابه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعلمون ذلك، وكانوا ينتظرون أن يخرج النبي منهم فلما خرج من العرب حسدوهم على ذلك وكفروا به، فإنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بالبينات، قالوا هذا سحر مبين. عباد الله! ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاء له قصور الشام". عباد الله! لما نجا عبد الله بن عبد المطلب من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة

من الإبل زوجه من أشرف نساء مكة نسباً، وهي آمنة بنت وهب، ولما حملت آمنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سافر عبد الله بن عبد المطلب للتجارة، فأدركته منيته وهو راجع من سفره بالمدينة فدفن بها عند أخواله "بني عدي بن النجار" ولم ير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أباه. عباد الله! ولد - صلى الله عليه وسلم - يتيماً يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قال أعرابي: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل عليَّ فيه" (¬1). وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل وهو المجمع عليه. عن قيس بن مخرمة قال: "ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل" (¬2). عباد الله! أما الآيات التي ظهرت ليلة مولده عليه الصلاة والسلام: عن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - قال: والله، إني لغلام يفعةٌ -أي: إذا شبَّ ولم يبلغ-، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلَّ ما سمعت، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمةً بـ (يثرب): يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به" (¬3). ترقب بدقة من اليهود من قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد أن بعث - صلى الله عليه وسلم - واليهود يحسدون العرب على ما منّ الله تبارك وتعالى عليهم ببعثة هذا الرسول الكريم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1162). - فائدة: وفي هذا بيان للاحتفال الشرعي بمولده وهو صوم يوم الاثنين، وليس كما يفعل المبتدعة من الاحتفال السنوي بمولده وما يكون فيه من مخالفات شرعية. (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 13). (¬3) قال الشيخ الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (ص 14): "إسناده حسن".

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه - قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: "قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فأرجع فصدقه واتبعه" (¬1). عباد الله! ومن الآيات التي ظهرت عند ولادته - صلى الله عليه وسلم -، أن أمه رأت نوراً خرج منها أضاء لها قصور الشام، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" (¬2). قال ابن رجب - رحمه الله-: "وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16]. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف:157] (¬3). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45 - 46]. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف:8 - 9]. ¬

_ (¬1) إسناده حسن قاله الشيخ الألباني - رحمه الله- في "صحيح السيرة النبوية" (ص 14). (¬2) مضى تخريجه (ص36). (¬3) "لطائف المعارف" (89).

عباد الله! وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أضاء له قصور الشام". قال ابن كثير - رحمه الله-: وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم في الناس بشريعة الإِسلام، ولهذا جاء في "الصحيحين" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (¬1). والشام هي أرض فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وجزء من العراق، وهذه أرض مباركة قد بارك الله فيها في كتابه الكريم في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]. الموضع الثاني: قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]. الموضع الثالث: قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]. قال ابن جرير الطبري: الأرض التي باركنا فيها، يعني الشام. ¬

_ (¬1) وفي "صحيح البخاري" رقم (3641): (وهم بالشام) من قول معاذ - رضي الله عنه -، وانظر "صحيح مسلم" (1920)، "تفسير ابن كثير" (1/ 184).

عباد الله! وجاءت الأحاديث النبوية الكثيرة تخبر عن فضائل الشام. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "طوبى لأهل الشام، طوبى لأهل الشام، طوبى لأهل الشام قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال- صلى الله عليه وسلم -: "تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ستُجندون أجناداً، جند بالشام، وجند بالعراق وجند باليمن" فقام رجل فقال: خر لي يا رسول الله! فقال: "عليكم بالشام .. فإن الله -عز وجل- قد تكفل لي بالشام وأهله". قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث. يقول: "ومن تكفل الله به فلا ضيعه عليه" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني رأيت عمود الكتاب، انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عُمدَ به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" (¬4). نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الطائفة المنصورة. عباد الله! قد سمعتم عن الآيات التي أخبرنا الله فيها أنه قد بارك في بلاد الشام وقد سمعتم عن الأحاديث التي قد جاءت تتكلم عن فضل الشام، وهاهم اليهود يدنسون بلاد الشام فما من تبرج ولا شرك ولا فساد إلا ¬

_ (¬1) "فضائل الشام" للربعي تحقيق شيخنا الألباني (ص 12). (¬2) "فضائل الشام" للربعي تحقيق شيخنا الألباني (ص 13). (¬3) "فضائل الشام" للربعي تحقيق شيخنا الألباني (ص 14). (¬4) "فضائل الشام" للربعي تحقيق شيخنا الألباني (ص 19).

ووراءه اليهود. عباد الله! إن الله لا ينصر قوم حتى ينصروه في أنفسهم، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. أما آن الأوان يا أمة الإِسلام عامة، ويا أهل الشام خاصة، أن نعود إلى الله؟ أظن أنه قد آن الأوان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. اللهم أعز الإِسلام والمسلمين.

الخطبة الخامسة: ميلاده - صلى الله عليه وسلم - ونشأته

الخطبة الخامسة: ميلاده - صلى الله عليه وسلم - ونشأته أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: ميلاد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونشأته. العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مهمة تجارية إلى بلاد الشام. العنصر الثالث: الله -عز وجل- يحفظ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شبابه من أقذار الجاهلية. العنصر الرابع: دروس وعظات وعبر. العنصر الأول: ميلاد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونشأته. ولد - صلى الله عليه وسلم - يتيماً في يوم الإثنين من شهر ربيع الأول وذلك عام الفيل، وأول من أرضعته ثويبة أمَة عمه أبي لهب (¬1). ثم استُرضع - صلى الله عليه وسلم - في بني سعد بن بكر، وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (رقم 5101)، ومسلم (رقم 1449)، وانظر "صحيح السيرة النبوية" (ص 15) لشيخنا الألباني - رحمه الله-.

فجاءت نسوةٌ من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً يرضعنهم فكان - صلى الله عليه وسلم - من نصيب حليمة السعدية. وهناك في بادية بني سعد بن بكر حصلت له - صلى الله عليه وسلم - حادثة شق الصدر. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا عن ذلك. جاء نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك. قال: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بَهماً لنا، إذ أتاني رجلان -عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب، مملوء ثلجاً، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنه بعشرة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال: زمنه بألف من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك فوالله لو وزنته بأمته لوزنها" (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة [سوداء] فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثمّ لأمَه، ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمِّه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. ¬

_ (¬1) صحيح، "صحيح السيرة النبوية" الألباني (16).

العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مهمة تجارية إلى بلاد الشام.

قال أنس: وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره (¬1). بعد هذه الحادثة أشفقت مرضعته عليه فأعادته إلى أمه، وعاش - صلى الله عليه وسلم - عند أمه ومرت الأيام والسنين وأخذته أمه وذهبت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه؛ بني عدي بن النجار وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق، فماتت بالأبواء- قرية بين مكة والمدينة- ودفنت هناك. عباد الله! وعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل من بطن أمه يتيماً لم ير أباه، وها هو قد فقد أمه، ثم عاد إلى جده عبد المطلب وكفله جده، ورق له رقةً لم تعهد له في ولده، ومرت الأعوام ثم توفي عبد المطلب وكان عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنوات فكفله شقيق أبيه أبو طالب وكان به رحيماً وكان أبو طالب مُقلاً في الرزق، فعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - برعي الغنم؛ مساعدةً منه لعمه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت، فقال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (¬2). وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أكنت ترعى الغنم؟ قال: "نعم وهل من نبي إلا رعاها" (¬3). ثم بعد ذلك اشتغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتجارة. العنصر الثاني: رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مهمة تجارية إلى بلاد الشام. عن أبي موسى الأشعري قال: "خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 18). (¬2) رواه البخاري (رقم 2262). (¬3) رواه البخاري (رقم 3406)، ومسلم (2050).

الله - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب -يعني: بحيرى- هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم. قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا سيد العالمين، وهذا رسول رب العالمين. يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل- فقال: أرسلوا إليه. فأقبل وغمامة تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم، إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت، فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: فهل خلفكم أحدٌ هو خير منكم؟ قالوا: لا، إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه؟ هل يستطيع أحدٌ من الناس رده؟ فقالوا: لا. قال: فبايعوا وأقاموا معه عنده قال: فقال الراهب:

العنصر الثالث: الله -عز وجل- يحفظ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شبابه من أقذار الجاهلية.

أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزله يناشده حتى ردّه. ... وزوّده الراهب من الكعك والزيت" (¬1) العنصر الثالث: الله -عز وجل- يحفظ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شبابه من أقذار الجاهلية. حادثة شق الصدر هي تطهير لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - من حظ الشيطان ولذلك لم يتلوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شبابه بأقذار الجاهلية. ومن الأمثلة على ذلك: أولاً: صانه الله -عز وجل- عن شرك الجاهلية، وعبادة الأصنام. عن زيد بن حارثة قال: كان صنم من نحاس- يقال له: (إساف) و (نائلة). يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمسه" قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تنه؟! " قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله- تعالى- بالذي أكرمه وأنزل عليه" (¬2). وقال- صلى الله عليه وسلم - لخديجة: أي خديجة، والله لا أعبدُ اللات والعزى" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح، انظر "صحيح الترمذي" (3862)، "فقه السيرة" تحقيق الألباني، "صحيح السيرة النبوية" (ص 29 - 31) الألباني. (¬2) قال الألباني: إسناده حسن. انظر "صحيح السيرة النبوية" (ص 32). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 225): "رجاله رجال الصحيح".

ثاثياً: حفظ الله -تعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن يأكل الذي ذُبِحَ على النصب -أي: التي يذبحونها لغير الله-. فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل ما ذبح على النصب، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو ابن نفيل. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لقى زيد بن عمرو ابن نفيل بأسفل (بلدح) -واد قبل مكة أو جبل بطريق جده- قبل أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، فَقُدِّمتْ إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - سُفرةٌ، فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له" (¬1). ثالثاً: حفظ الله -تعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن تبدو عورته أو يظهر عرياناً. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لما بُنيت الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق. فقال: إزاري إزاري فشُدَّ عليه إزاره وفي لفظ قال: "فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشياً عليه فما رؤي بعد ذلك عرياناً - صلى الله عليه وسلم - (¬2). رابعاً: وفق الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - للوقوف بعرفة قبل البعثة، مخالفة لما ابتدع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3826). (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في "صحيحه" (رقم 364)، ومسلم (رقم 340).

العنصر الرابع: دروس وعظات وعبر.

قومه من رأي الحُمس -والأحمسُ الشديد على دينه- وكانت قريش تسمى الحُمُسْ وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إذا عظمتم غير حَرَمِكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يقفون بعرفة يوم عرفة، وكان سائر الناس تقف بعرفة، وكانت شريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك الوقوف بعرفة، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]. وعن محمَّد بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم قال: أضللت بعيراً لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة فقلت: هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا" (¬1). فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف بـ (عرفات) قبل أن يوحى إليه، وهذا توفيق من الله تعالى له. العنصر الرابع: دروسٌ وعظات وعبر. أولاً: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم". وفي ذلك إشارة على أن الرجال لا يقعدون عالة على الناس بل يعملون ليأكلوا من عمل أيديهم، فالأنبياء يعملون في رعي الغنم ليكتسبوا مالاً يعيشون منه ولم يجلسوا متواكلين عالة على القوم. وفيه إشارة إلى الإحسان إلى الحيوان. وفيه إشارة أن الذين يرعون الغنم ويحافظون عليها، ويصبرون عليها ويرحمونها؛ يستطيعون بعد ذلك أن يرعوا الأمم والشعوب، ولذلك ما من ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 1664)، ومسلم (رقم 1220).

نبي إلا وقد رعى الغنم في بداية حياته؛ لأن من وفق في رعي الغنم وفق في رعاية الأمم والشعوب. وعليه فإنه عندما بعث رسولنا - صلى الله عليه وسلم - رعى الأمة وحافظ عليها، وأخذ بأيد الأمة ناصحاً أميناً يقودها إلى جنة عرضها السموات والأرض. ثاتيأ: وفي قول الراهب بحيرى لأبي طالب: إني أخاف على هذا النبي من اليهود والروم؛ دليل على عداوة اليهود والنصارى للنبي- صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته وبعد بعثته، وقد أخبرنا الله بعداوتهم في كتابه فقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. فأهل الكتاب عامة واليهود خاصة يبغضون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ويعملون بالليل والنهار للقضاء على الإِسلام والمسلمين، وكما سيمر معنا في الحديث عن السيرة المحاولات الكثيرة التي حاولتها اليهود ليتخلصوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سبيل المثال: يقول أبوهريرة - رضي الله عنه -: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجمعوا إليَّ من كان ها هنا من اليهود"، فجُمعوا له. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقيَّ عنه؟ " فقالوا: نعم يا أبا القاسم: فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أبوكم" قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتم، بل أبوكم فلان" فقالوا: صدقت وبررت،

فقال: "هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ ". فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أهل النار؟ ". فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اخسئوا فيها، والله لا نخلفكنم فيها أبداً. ثم قال لهم: "هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ " قالوا: نعم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ " فقالوا: نعم فقال: "ما حملكم على ذلك؟ " فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك" (¬1) قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [لمائد ة: 82]. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3169، 5777).

الخطبة السادسة: الأحداث الجسام قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة السادسة: الأحداث الجسام قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون حول الأحداث الجسام التي كانت قبل بعثة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! وسنقتصر في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- على ثلاثة أحداث فقط. الحدث الأول: شهوده - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول. الحدث الثاني: زواجه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة -رضي الله عنها -. الحدث الثالث: بناء الكعبة وقضية التحكيم. الحدث الأول: شهوده - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول. عباد الله! أما شهوده - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحبه أن أنكثه، وأن لي حمر النعم" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته" (¬2). عباد الله! والمراد بحلف المطيبين في الأحاديث هو حلف الفضول، وهذا الحلف كان في دار عبد الله بن جدعان، فاجتمعوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (1900)، "صحيح السيرة النبوية" للألباني (ص 35). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" للألباني (ص 35).

الحدث الثاني: زواجه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة -رضي الله عنها -.

مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها إلا قاموا معه، وكانوا على الظالم حتى يردوا عليه مظلمته. فهو تحالف على التناصر قبل الإِسلام والأخذ للمظلوم من الظالم. الله أكبر: في الجاهلية قبل الإِسلام الناس لا يحبون الظلم ويقفون في وجه الظالم، فما بالنا في هذا القرن قرن الحضارة والتقدم -زعموا- لا أرى أحداً يقف في وجه الظالم، ويقول له اتق الله، ولا أحد يقف مع المظلوم، ولكن نقول لا غرابة في ذلك فالكفار ملة واحدة اجتمعوا على إبادة الإِسلام والمسلمين، ولكن لن يصلوا أبداً إلى ما أرادوا، فالأمة الإِسلامية إن رجعت إلى دينها استطاعت أن تسير بهذا العالم إلى سعادة الدنيا والآخرة، أما يوم أن انصرفت الأمة عن دينها -إلا من رحم ربي- فكان ما كان. فيا أمة الإِسلام عودوا إلى دينكم، فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تبايعتم بالعينة (¬1) وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬2). فالنصر لا يأتِ إلا من عند الله قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. الحدث الثاني: زواجه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة -رضي الله عنها -. عباد الله! أما زواجه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها - فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في بداية حياته يرعى الغنم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط" (¬3)، ثم اشتغل - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالتجارة. ¬

_ (¬1) العينة: أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر، يدفعه نقداً، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة". (¬2) "صحيح الجامع" (416)، "السلسلة الصحيحة" (رقم 11) (¬3) رواه البخاري (رقم 2262).

أولا: منزلة خديجة من نساء العالمين.

عباد الله! "كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستاجر الرجال من مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجر أو تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام" (¬1). عباد الله! ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من البركة ما لم تر قبل هذا، وأُخبرت بشمائله الكريمة وجدت ضالتها المنشودة فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها، وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوج خديجة فرضي بذلك، وكلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه وعلى إثر ذلك تم الزواج، وكان سنها إذ ذاك أربعين سنة. وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسباً وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت - رضي الله عنها - وكل أولاده منها سوى إبراهيم" (¬2). عباد الله! تعالوا بنا لنتعرف على أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها - من خلال الأحاديث والآثار الصحيحة. أولاً: منزلة خديجة من نساء العالمين. قال - صلى الله عليه وسلم -: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت ¬

_ (¬1) "سيرهَ ابن هشام مع الروض الأنف" (1/ 212). (¬2) "وقفات تربوية" (ص 55).

ثانيا: منزلة خديجة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية امرأة فرعون" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" (¬2). ومعنى خير نسائها: أي: أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها. ثانياً: منزلة خديجة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت عائشة -رضي الله عنها -: "ما غرت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا على خديجة وإني لم أدركها"، قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح الشاة فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني قد رزقت حبها" (¬3). وقالت عائشة -رضي الله عنها-:- "ما غرت للنبي- صلى الله عليه وسلم - على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط" (¬4)، وقالت عائشة -رضي الله عنها -: "لم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - على خديجة حتى ماتت" (¬5). وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك، فقال: اللهم! هالة بنت خويلد، فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيراً منها" (¬6) ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (3053). (¬2) رواه البخاري (رقم 3432) ومسلم (رقم 2430). (¬3) رواه مسلم (رقم 2435). (¬4) رواه مسلم (رقم 2435). (¬5) رواه مسلم (رقم 2435 بعد 76). (¬6) رواه البخاري (رقم 3821) ومسلم (رقم 2436).

ثالثا: منزلة خديجة في الجنة

ثالثاً: منزلة خديجة في الجنة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة خطوط، قال: "تدرون ما هذا؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران" (¬1). رابعاً: جبريل عليه السلام يقرئ خديجة السلام من ربها ويبشرها بقصر في الجنة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب" (¬2). خامساً: خديجة -رضي الله عنها- هي التي قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل عليه الوحي في غار حراء: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً؟ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (¬3). وهي -رضي الله عنها- التي آمنت به وصدقته، ووقفت معه تواسيه بنفسها وبمالها. ¬

_ (¬1) صحيح رواه أحمد (2668). (¬2) رواه البخاري (رقم 3820)، ومسلم (رقم 2432). (¬3) رواه البخاري (رقم 3)، ومسلم (رقم 160).

الحدث الثالث: بناء الكعبة وقضية التحكيم.

الحدث الثالث: بناء الكعبة وقضية التحكيم. عباد الله! أما بناء الكعبة وقضية التحكيم. فكانت قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنوات على الراجح. فالله -عز وجل- يقول في كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:96 - 97]. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" (¬1). فيا أمة الإِسلام! كما أنكم لا تقصّرون أبداً في بيت الله الحرام، فاحذروا أن تقصِّروا في المسجد الأقصى، فالله سائلكم يوم القيامة عن تقصيركم في هذا المسجد الذي دنسته اليهود على مسمع من الجميع. عباد الله! وأما قصة بناء البيت الحرام فهي: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ولما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان جاء إبراهيم بها -أي بأم إسماعيل- وبابنها إسماعيل- وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحدٌ، وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتف إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 3366)، ومسلم (رقم 520).

رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، وأخذت أم إسماعيل تنتقل من الصفا إلى المروة فعلت ذلك سبع مرات إلى أن ظهر الماء بإذن الذي يقول للشيء كن فيكون، فشربت أم إسماعيل وأرضعت ولدها فقال لها الملك -وهو جبريل عليه السلام- لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله" ومرت الأيام وكبر إسماعيل عليه السلام - وتزوج وكان إبراهيم عليه السلام يذهب لزيارتهم أحياناً، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 40 - 42).

عباد الله! ومرت الأيام وانهدم البيت بسبب الأمطار أو بحريق أصابه، فبنته قريش وشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بناء الكعبة. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما بُنيت الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك تقك من الحجارة فخرّ إلى الأرض وطمحت عينه إلى السماء ثم أفاق فقال: إزاري إزاري، فشد عليه إزاره". عباد الله! قريش تبني في البيت ولما وصلوا إلى المكان الذي يوضع فيه الحجر الأسود تشاجروا من يضعه؟ فاتفقوا أن يحكم بينهم أول من يدخل من هذا الباب فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، وأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه" (¬1). وسألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحِجْر أمن البيت هو؟ قال: "نعم" قالت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة" قالت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: "فعل ذلك قومك لِيُدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجَدْرَ -أي الحجر- في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض" (¬2). اللهم زد الكعبة شرفاً وتكريماً. ¬

_ (¬1) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 44). (¬2) "السلسلة الصحيحة" رقم (43).

الخطبة السابعة: البشارات بنبوة النبي- صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته

الخطبة السابعة: البشارات بنبوة النبي- صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون حول البشارات التي جاءت تخبر بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته. أمة الإسلام! رسولنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الملأ الأعلى، خاتم النبيين من قبل خلق آدم عليه السلام. سئل - صلى الله عليه وسلم -: متى كتبت نبياً؟ قال: "كتبت نبياً وآدم بين الروح والجسد" (¬1). وسئل - صلى الله عليه وسلم -: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" (¬2). ثم جاءت البشارات من جميع الأنبياء، وفي الكتب السماوية، ومن علماء أهل الكتاب تخبر بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، فتعالوا بنا يا عباد الله! لنستمع إلى هذه البشارات. أولاً: ليزداد الذين آمنوا إيماناً. ثانياً: ليكون ذلك حافزاً لإيمان أهل الكتاب عندما يقرأون أو يسمعون ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (1856). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 54).

أولا: بشارات الأنبياء بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

التبشير ببعثته - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم وعلى لسان جميع الرسل. أولاً: بشارات الأنبياء بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. بشرى في دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129] [البقرة:129]. وبشرى عيسى عليه السلام، قالت تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6]. وقال الصحابة - رضي الله عنهم -: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى عليه السلام ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" (¬1). عباد الله! فذكره - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم - عليه السلام - الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضاً، وقد أخبرنا الله بذلك في كتابه فقال جل شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (1545)، "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 16)، وقد مضى (ص 36).

ثانيا: بشارات الكتب السماوية بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: "لئن بعث محمَّد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه" (¬1). وفي هذا دليل يا عباد الله! أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بشروا برسولنا - صلى الله عليه وسلم - وأمروا باتباعه" (¬2). ثانياً: بشارات الكتب السماوية بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. أخبرنا الله -عز وجل- في كتابه أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشر به في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 52). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 52).

فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. ومن الأمثلة على ذلك: أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشر به في التوراة والإنجيل: 1. عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، قال: أجل؛ والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء؟ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً" (¬1). ولكن لماذا لم يؤمنوا به؟ حسداً من عند أنفسهم. 2. دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها على نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنشدك بالذي أنزل التوراة؛ هل تجدني في كتابك ذا، صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه هكذا؛ أي: لا. فقال ابنه: أي والذي أنزل التوراة؛ إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا اليهودي عن أخيكم" ثم ولي كفنه ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (رقم2125)، "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 77).

والصلاة عليه (¬1). الشاهد: أن هذا الفتى في اللحظات الأخيرة قال: إي والله إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ولكن كتموا ذلك حسداً وبغياً. 3. وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم فقال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "يا معشر اليهود! أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم"، قال: فأسكتوا ما أجابه منهم أحدٌ! ثم رد عليهم، فلم يجبه منهم أحد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أبيتم! فوالله، إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم" ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمَّد! فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله؟ ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. فقالوا: كذبت! ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذ آمن فكذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم"، قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا، ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 73).

ثالثا: بشارات علماء أهل الكتاب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -

وعبد الله بن سلام وأنزل الله تعالى فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} [الأحقاف: 10] (¬1). الشاهد يا عباد الله! أن عبد الله بن سلام علم من التوراة أن هذه الصفات التي جاء بها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - موجودة عندهم في التوراة، فلما وجدها في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالحمد لله على نعمة الإِسلام والسنة. ثالثاً: بشارات علماء أهل الكتاب بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الله عَزَّ وَجَلَّ يخبرنا بذلك في كتابه، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} [القصص: 52 - 53] وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146] وقال تعالى عن القسيسين والرهبان: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 83 - 84]. ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (85 - 81).

ومن الأمثلة على ذلك: 1. سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أخبر في قصة إسلامه الطويلة: "أنّ راهب النصارى عندما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يوصيه، فقال الراهب: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبيٍّ يُبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه". "ثم قص سلمان خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه، ولقائه برسول الله حين الهجرة، وإعطاءه له طعاماً على أنه صدقة فلم يأكل منه الرسول، ثم إعطاءه له طعاماً على أنه هدية وأكله منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه وإسلامه على أثر ذلك" (¬1). 2. وقال هرقل ملك الروم: "فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم إني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه" (¬2). 3. وقال رجال من الأنصار: "إن مما دعانا إلى الإِسلام -مع رحمة الله تعالى ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (ص 122)، و"صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 70). (¬2) رواه البخاري (7).

وهداه لنا- لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن؛ نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89] " (¬1). 4. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال لي: هل تدري عمّ كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبيد؟ - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة؛ كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإِسلام- قال: قلت: لا والله. قال: فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له: ابن الهيِّبان قدم علينا قبل الإِسلام بسنين، فحلّ بين أظهرنا، لا والله؛ ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان! فاستسق لنا. فيقول: لا والله؟ حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 57).

فنقول: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقى لنا، فوالله، ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقى. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث. قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (¬1) خروج نبي قد أظلكم زمانه، هذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية- وكانوا شباباً أحداثاً-: يا بني قريظة! والله، إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله؛ إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم (¬2). عباد الله! أخبار وأدلة كثيرة تبشر برسولنا - صلى الله عليه وسلم -، أردنا أن نذكر بها قبل أن نتكلم عن مرحلة بدء الوحي والبعثة التي يُبعث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لتزدادوا إيماناً مع إيمانكم، ولتعلموا أن دينكم هو الحق، وأن رسولكم هو الحق، فتتمسكوا بدينكم وبسنة نبيكم، ولتثبتوا عند الفتن. ¬

_ (¬1) أي: أتوقع وأنتظر. (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (60 - 61).

فيا عباد الله! احمدوا الله أن جعلكم من المسلمين، فعزتكم في دينكم، وإن طلبتم العزة بغير الإِسلام أذلكم الله. فقد قال عمر - رضي الله عنه -: كنا أذلاء فأعزنا الله بالإِسلام فلو ابتغينا العزة بغير الإِسلام أذلنا الله. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

الخطبة الثامنة: إشراق شمس النبوة

5الخطبة الثامنة: إشراق شمس النبوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن إشراق شمس النبوة؛ عن مرحلة بدء الوحي. أمة الإِسلام! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقترب سنه من الأربعين سنة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة يسلم عليه الحجر والشجر والجبال. عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسَلِّم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" (¬1). وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! ". وفي رواية: "لقد رأيتني أدخل معه الوادي، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله! وأنا أسمعه" (¬2). عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة كان يحب الخلاء والعزلة والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام وقويت محبته للخلوة عند اقتراب نزول الوحي، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كل ذلك مقدمات النبوة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2277). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص95).

عباد الله! بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمره أربعون سنة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين" (¬1). ونزل الوحي على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أول ما نزل يوم الاثنين، فقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه" (¬2). والمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث في شهر رمضان، واستدل ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (¬3). فيا عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - نزل الوحي عليه عندما بلغ أربعين سنة، وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان، والوحي الذي ينزل على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو الوحي الذي كان ينزل على جميع الأنبياء السابقين. قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساءة 163]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3902)، ومسلم (رقم 2351). (¬2) رواه مسلم (رقم 1162). (¬3) "السلسلة الصحيحة (1575).

أمة الإِسلام! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - هناك في غار حراء يعبد ربه ويخلو وحده. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى قصة بدء الوحي. عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار (حراء)، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ". قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]. فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة -وأخبرها الخبر- "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا، أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت على ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل

بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى! فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس -وهو جبريل عليه السلام- الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي شاباً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجي هم؟ " فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هذا الحديث فهي كثيرة؛ نقول على سبيل المثال: أولاً: في الحديث فضل اعتزال أهل الشرك والسوء والمعاصي. قال- تعالى- حاكياً عن إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم: 48 - 49]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)} [الدخان: 21]. وقال ربنا -جل وعلا- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3، 4953)، انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص85 - 86).

فعلى المسلم أن يعتزل أهل الشرك والفسوق والعصيان لأنه إن جلس معهم سيتأثر بهم، ولذلك كان لقمان الحكيم يقول لابنه: يا بني! اختر المجالس على عينك، فإن وجدت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن كنت عالماً نفعك علمك، وإن كنت جاهلاً علموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة فتصيبك معهم، وإن وجدت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم فإن كنت عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً زادوك غياً ولعل الله أن يطلع عليهم بنقمة فتصيبك معهم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" (¬1). وسئل - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قيل ثم من؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه"، وفي رواية: "يتقي الله، ويدع الناس من شره" (¬2). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله! ما النجاة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (¬3). عباد الله! ومن فوائد العزلة. أولاً: الفراغ للعبادة والفكر، والاستئناس بمناجاة الله -تعالى- عن مناجاة الخلق. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 19). (¬2) متفق عليه رواه البخاري (رقم 2786، 6494)، ومسلم (رقم 1888). (¬3) "رياض الصالحين" للنووي رقم (1528) تخريج الألباني.

ثانياً: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة وهي أربعة: أحدها: الغيبة. ثانيها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثالثها: الرياء. ورابعها: مسارقة الطبع لما يشاهد من أخلاق الناس وأعمالهم. ثالثاً: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها. رابعاً: الخلاص من شر الناس من الغيبة وسوء الظن بك والتهمة عليك. خامساً: أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عنهم. سادساً: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقاء ومقاساة أخلاقهم (¬1). ثانياً: في الحديث فضل أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- فهي التي ضربت لنا مثلاً أعلى في الزوجة الصالحة. وكيف أنها مثال للزوجة الصالحة التي تعين زوجها على العبادة، حيث كانت تجهز له الزاد فيأخذه - صلى الله عليه وسلم - ويذهب إلى غار حراء فإن انتهى عاد إليها وتزود مرة أخرى. وهي التي رفعت عنه الهم والخوف عندما رجع إليها بعد أن نزل عليه الوحي وقال: يا خديجة إني خشيت على نفسي، فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً. ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "العزلة" لابن أبي الدنيا، تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.

وهي التي أخذت بزوجها وذهبت إلى ورقة بن نوفل حتى تفرج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كربه وتطمئن قلبه أن ما نزل به هو الخير، وهكذا تكون الزوجة الصالحة تعين زوجها على طاعة الله، فإن رجع من عمله مهموماً حزيناً تخفف عنه الهم والحزن. ثالثاً: في الحديث فضل العلم، وأن الإِسلام يدعو إلى العلم من أول لحظة، ففي أول آية نزلت من القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحث على العلم وطلب العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]، فيجب على المسلم أن يتعلم دينه من الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة؛ لأنه بالعلم الشرعي يميز بين الإيمان والكفر، وبين الشرك والتوحيد، وبين السنة والبدعة، وبين الحلال والحرام. رابعاً: في الحديث فضل ورقة بن نوفل. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنةً أو جنتين" (¬1). وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل فقال: "قد رأيته؟ فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان (¬2) الجنة وعليه السندس" (¬3). خامساً: في الحديث بيان سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله -عز ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 94). (¬2) أي في وسط الجنة. (¬3) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 94).

وجل-، وهي التكذيب والإخراج والقتل، وهذا يؤخذ من قول ورقة: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي". فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه إلى التوحيد فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف:59]، فماذا قال له قومه؟ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} [الأعراف: 60] فاتهموه بالضلال. وقالوا: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)} [المؤمنون: 25] فاتهموه بالجنون وقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)} [الشعراء: 116]، فهددوه بالرجم. وهذا إبراهيم عليه السلام قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)} [العنكبوت: 16]، فماذا قالوا له؟ قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)} [العنكبوت: 24]. وهذا لوط عليه السلام، نهى قومه عن الفاحشة فماذا قالوا له: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)} [النمل: 56].

وقالوا لرسولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)} [الشعراء: 167]. وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]، فماذا قالوا له: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]. عباد الله! فهذه سنة من سنن الأمم الكافرة مع رسلهم ومع الدعاة في كل زمان ومكان. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} [إبراهيم: 13] وقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 34 - 35]. إنها السنن فها هم الكفار في كل زمان ومكان؛ إن وجدوا قوماً يدعون الناس إلى الإِسلام الحق وقفوا في وجوههم وكذبوهم، وقاتلوهم وأخرجوهم من بلادهم، فلا تتعجبوا من ذلك يا عباد الله! فهي معركة بين الحق والباطل، ولكن أخبرنا الله -عز وجل- بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للصالحين، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ

رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة التاسعة: مرحلة الدعوة إلى الله

الخطبة التاسعة: مرحلة الدعوة إلى الله المرحلة الأولى: الدعوة إلى الله سراً أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى ألا وهي المرحلة السرية في مكة. عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن الوحي نزل على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بغار حراء وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]. ولما ذهب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى ورقة بن نوفل وقص عليه الخبر قال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، ثم قال له ورقة: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجي هم؟! " قال ورقة: نعم، لم يأت أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (¬1). "وفتر الوحي": أي تأخر مدةً من الزمان، ولا يعلم على وجه التحديد كم دامت مدة انقطاع الوحي ولكن يبدو أنها لم تدم طويلاً، فقد روى ابن سعد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يفيد أنها كانت أياماً (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3). (¬2) "فتح الباري" (1/ 27)، (12/ 360).

عباد الله! وتأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليذهب عنه ما كان وجده من الروع وليحصل له التشوق إلى العود (¬1)، فلما حصل له ذلك، وأخذ يترقب مجيء الوحي، جاءه جبريل للمرة الثانية، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن فترة الوحي قال: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بـ (حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5]، فحمى الوحي وتتابع" (¬2)، أي حمى الوحي وتتابع في النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! بالوحي الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) .. } ثبتت النبوة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -. وبالوحي الثاني: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .. } ثبتت الرسالة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -. أي: بالوحي الأول كان نبياً وبالثاني كان رسولاً. عباد الله! وقبل أن نتكلم عن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى ألا وهي المرحلة السرية، تعالوا بنا لنتعرف على أقسام الوحي، ومراتب الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (1/ 36). (¬2) أخرجه البخاري (رقم 4).

فالله -عز وجل- قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، والذي نزل إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -ليبلغه إلى الناس- هو الوحي الذي جاءه من الله -تبارك وتعالى- بواسطة جبريل عليه السلام. قال ابن القيّم - رحمه الله -وهو يذكر مراتب الوحي: أحدها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن روح القدس (¬1) نفث في روعي (¬2) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته" (¬3). الثالثة: أنه كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً، كما في حديث جبريل عليه السلام، عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإِسلام، والإيمان، والإحسان، وكان في صورة رجل، فلما ولى قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". ¬

_ (¬1) أي جبريل عليه السلام. (¬2) أي في نفسي. (¬3) صحيح بشواهده، انظر "صحيح الجامع" (2081).

الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس. وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض -إذا كان راكبها- ولقد جاءه الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضُّها (¬1). الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه الله -وهو فوق السماوات- ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام. عباد الله! نزل الوحي على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية يقول: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5]، وفي هذه الآيات يأمر ربنا -جل وعلا- رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم بدعوة الناس إلى الله -عز وجل-. عباد الله! أسئلة تدور في الذهن الآن. من أين يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته؟ وكيف ييدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته؟ ¬

_ (¬1) انظر الأدلة في "زاد المعاد" (ص 79، 80).

وإلام يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس؟ هل يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته بقلب نظام الحكم في مكة، ثم بعد ذلك يدعو الناس إلى الله تعالى؟ أم يبدأ بالبحث عن الوصول إلى المناصب العليا في مكة ثم يقوم من خلالها بدعوة الناس إلى الله تعالى؟ أم أنه يحاول أن يسيطر على اقتصاد مكة ليستطيع من خلاله أن يدعو الناس إلى الله تعالى؟ هل يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الناس لتحرير الأرض من الفرس والروم؟ أم يبدأ بدعوة الناس لتحسين الأوضاع الاقتصادية؟ أم يبدأ بتحريض الناس على ولاة الأمر؟ عباد الله! الجواب: بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته بالتوحيد، والتحذير من الشرك، كما بدأ الأنبياء قبله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وما من نبي أرسل إلى قومه إلا قال لهم: [يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره]، فبدأ رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الناس إلى التوحيد، ويحذرهم من الشرك، ويذكرهم بيوم القيامة، ويبين لهم أن في هذا اليوم يبعث الله الخلائق ليحاسبهم على أعمالهم {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}. وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُزكي أصحابه بدعوتهم إلى كل خير قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. عباد الله! بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس سراً إلى عبادة الله وحده، وترك

عبادة الأوثان، فدعا إلى عبادة الله؛ القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد، فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، ومن الغلمان علي بن أبي طالب، ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام، ومن الموالي مولاه زيد بن حارثه رضي الله عنهم أجمعين. عباد الله! أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس في مكة إلى الله سراً، لا يصطدم بكفار مكة ولا يتدخل في آلهتهم. وهذه أمثلة على ذلك: فهذا عمرو بن عبسة السلمي يخبرنا عن إسلامه فيقول: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جُرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حرٌ وعبدٌ. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس!! ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني، قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم علي نفر من أهل يثرب، من أهل المدينة، فقلت: ما فعل الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت

المدينة، فدخلت عليه ... " (¬1). الشاهد يا عباد الله! أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في المرحلة الأولى يدعو الناس سراً. عباد الله! وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يخبرنا عن إسلامه فيقول: "كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بمكة، فأتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وقد فرا من المشركين فقال- أو فقالا-: عندك يا غلام لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. فقال: هل عندك من جذعةٍ لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضرع ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني. ثم قال للضرع: اقلص فقلص. فلما كان بعد أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: علمني من هذا القول الطيب -يعني القرآن- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك غلام معلم"، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد" (¬2). عباد الله! المرحلة الأولى في مكة في الدعوة إلى الله كانت سرية والسبب في ذلك، أن كفار مكة كانوا لا يسمحون لأحد أن يعتدي على آلهتهم، وأن يأتي بدين غير الذي هم عليه، ولذلك بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة سراً. ولكن في الجمعة القادمة -إن شاء الله- سيتبين لكم أن الله -تبارك وتعالى- يأمر رسوله أن يصدع بالدعوة فيدخل في المرحلة الجهرية. فكثير من الجماعات التي سلكت طريقاً غير طريق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يبدأون ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 832). (¬2) قال الألباني: إسناده حسن "صحيح السيرة النبوية" (ص 124).

دعوتهم المنحرفة سراً ويظنون أنهم بذلك يتأسون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. نقول لهم: لا، أنتم تعيشون في مجتمع مسلم تستطيعون أن تقولوا "لا إله إلا الله" وتحافظون على الصلاة، وتعلموا الناس دينهم، وتدعون الناس إلى التوحيد لا يمنعكم أحد من ذلك. عباد الله! ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ مما سمعنا: 1 - في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} أنه على الدعاة المخلصين أن يقوموا لهذا الدين فالله سبحانه وتعالى يقول لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}. فعلى الدعاة أن يدعو الناس إلى عبادة الله وإلى عقيدة التوحيد كما بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكثير من الناس يصلي وهو يشرك بالله، وكثير من الناس يصلي وهو يذهب إلى السحرة والمشعوذين، وكثير من الناس يصلي وهو يخاف ويعتقد أن السحرة والمشعوذين يضرون وينفعون وهذا شرك. 2 - على الدعاة إلى الله أن يكونوا قدوة أمام الناس، فيعملوا بهذا العلم، ويتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحرام على الداعي إلى الله أن يضع آلات اللهو في بيته، وحرام على الداعي إلى الله أن يضع أمواله في البنوك ليرابي بها، وحرام على الداعي إلى الله أن يقول ما لا يفعل. 3 - على الدعاة المخلصين أن يقوموا لهذا الدين ولا يطلبون أجراً من الناس، فأجرهم على الله وأجرهم عند الله، وأن يبدأوا بالعقيدة والتوحيد كما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم -. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة العاشرة: مرحلة الدعوة إلى الله

الخطبة العاشرة: مرحلة الدعوة إلى الله المرحلة الثانية: الدعوة إلى الله جهراً عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء، سيكون عن المرحلة الثانية من مراحل الدعوة إلى الله تعالى؛ ألا وهي المرحلة الجهرية. عباد الله! رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس سراً، وبقي على ذلك حتى أمره الله أن يجهر بدعوته. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً، لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} (¬1). والتب هو: الهلاك والخسران. ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 4770)، ومسلم (رقم 208).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص. فقال: "يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها" (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على الصفا فقال: "يا فاطمة بنت محمَّد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد الطلب! لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً" (¬3). فهذه دعوة جهرية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجميع أن يؤمنوا بالله تبارك وتعالى وحده. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 204). (¬2) رواه مسلم (205). (¬3) رواه البخاري (رقم 2753) ومسلم (206).

ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ رسالة ربه جهراً، وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى عبادة الله في كل مكان، وبدأ يجهر بصلاته وقراءة القرآن أمام الكفار، وأخذ الضعفاء والمساكين يؤمنون بالله -عز وجل-، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الدين الذي بعثه الله به، وأخذوا يزدادون يوماً بعد يوم. عباد الله! وممن أسلم في مرحلة الدعوة الجهرية في مكة أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه -. ويؤخذ من الروايات الصحيحة أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان منكراً لحال الجاهلية، يأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف، ولما سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحاً إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه فلما استوثق منه أبوذر، أخبره بأنه يريد مقابلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له علي: "فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه، وقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه"، فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار، والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام فأنقذه منهم" (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه رواه البخاري (رقم 3522)، ومسلم (رقم 2474).

عباد الله! اجتمع كفار مكة من أجل التشاور في كيفية صرف الناس عن هذا الدين الجديد، وفي كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن هذه الدعوة الجديدة، فزينت لهم شياطين الإنس والجن أساليب كثيرة منها: السخرية والاستهزاء والتحقير والتضحيك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، القصد بذلك تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية وصد الناس عن الدين، قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)} [الأنبياء: 36]، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 41 - 42]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين: 29 - 33]، فالله -عز وجل- يعاقب الكفار بجنس ما فعلوا يوم القيامة فقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 - 36]، وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ

تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} [المؤمنون: 103 - 111]. ومنها: إثارة الشكوك والشبهات حول النبي- صلى الله عليه وسلم - نفسه ليصدوا الناس عن هذا الدين، فتارة يتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]. وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]. فرد الله عليهم هذه الفرية. فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} [التكوير: 22]. وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1 - 2]. وتارة يتهمونه بالسحر والكذب والشعر والكهانة، قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} [ص: 4]، وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7 - 8]، فرد الله عليهم هذه الافتراءات بقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} [الحاقة: 38 - 51].

عباد الله أخذ كفار مكة يتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاتهامات الكاذبة ليصدوا الناس عن الإيمان به، وجاء رجل إلى مكة فسمعهم يقولون عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إنه مجنون، فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرقيه، فلما جلس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع كلامه آمن به واتبعه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم ضماد مكة -وكان من أزد شنوءة- وكان يرقي (¬1) من هذه الريح (¬2)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال: فلقيه؛ فقال: يا محمَّد! إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك (¬3)؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الحمد لله نحمده ونستعينه. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أما بعد:" فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغهن ناعوس البحر (¬4). فقال: هات يدك أبايعك على الإِسلام، فبايعه. ¬

_ (¬1) من الرقية وهي العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة. (¬2) المراد بالريح، هنا، الجنون ومس الجن. (¬3) أي فهل لك رغبة في رقيتي، وهل تميل إليها. (¬4) أي وسطه ولجته.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعلى قومك" قال: وعلى قومي، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فمروا بقومه. فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها. فإن هؤلاء قوم ضماد" (¬1). انظروا عباد الله! أرادوا أن يصدوا الناس عن رسول الله باتهامه أنه مجنون، فكان ذلك سبب أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً. عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ مما سمعنا فهي كثيرة منها: أولاًَ: لا مجال للسرية والكتمان والخفاء في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بعد أن أنزل الله -عز وجل- على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، فالله -عز وجل- أظهر دينه وأعلى كلمته وعرف الإِسلام، وأرسيت قواعده ومبادئه، وعرفها القاصي والداني، وسمع بها القريب والبعيد، فلا مجال للسرية، ولا مجال للكتمان، ولا مجال للخفاء. وكان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ينكرون السرية ويعيبونها وأهلها الذين يسرون بدعوتهم ويدعون الناس بين الجدران في ظلام الليل، فديننا ليس فيه شيء للخواص وشيء للعوام، إنما الإِسلام يدعو الناس ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 868).

جميعاً أن يكونوا عباداً لله، فمن دعاك إلى العقيدة الصحيحة فأجبه، ومن دعاك إلى درس علم في بيت الله فأجبه، ومن دعاك إلى اجتماع في ظلمة الليل، وأخبرك أن هذا خاص لا يجوز أن تنقله إلى العوام؛ فلا تجبه، فإنه حزبي مبتدع. عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون بأمر دون العامة فهم على تأسيس الضلالة". ولما مدح أبو الفرج ابن الجوزي السنة وأهلها وذم البدعة وأهلها قال: "فبان بما ذكرنا أن المبتدعة هم الذين يقولون شيئاً لا يعرف من قبل ولا مستند له ولهذا أسروه وكتموه، وأما أهل السنة فقولهم مشهور وطريقتهم ظاهرة ولهم العاقبة بإذن الله تعالى" (¬1). كيف لا والله -عز وجل- يقول في كتابه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (¬2). ثانياً: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لأقرب الناس له: "يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمَّد سليني من مالي ما شئت، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً" (¬3)، فالنسب ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" (ص 17 - 18). (¬2) رواه مسلم (رقم 1920). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2753)، ومسلم (رقم 206).

والقرابة لا ينفعان صاحبها يوم القيامة؟ والله -عز وجل- يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101]. وقال تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 3]. وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 36 - 41]. وبين لنا ربنا جل وعلا أن الصلات والإنساب والأرحام لا تنفع أصحابها يوم القيامة. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} [التحريم: 10 - 11]. لكن يستثنى من ذلك قرابة ونسب المسلمين، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] وقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (¬1). ¬

_ (¬1) السلسلة الصحيحة" (2036)، "صحيح الجامع" (رقم 4564).

ثالثاً: المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، فالكفار في مكة مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتهموه بالجنون ليصدوا الناس عن سبيل الله، فلما قدم ضماد - رضي الله عنه - إلى مكة قالوا له: إن محمداً مجنون؛ فذهب إليه ليرقيه؛ فلما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن به واتبعه. وفي هذا الزمان قد مكر الكفار بالإِسلام والمسلمين، يريدون أن يشوهوا صورة الإِسلام بوسائل الإعلام، ولكن كان عكس ما أرادوا فلله الحمد والمنة، الناس في هذا الزمان قد أقبلوا على الصلاة أكثر من ذي قبل، وقد أقبل طلاب العلم على دروس العلم، وقد دخل الناس في دين الله أكثر من قبل، ذلك حتى تعلم أيها المسلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، فهم يمكرون ويكيدون وأنت يا ربنا ماذا تفعل {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 16 - 17]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 8 - 9]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

الخطبة الحادية عشرة: أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الحادية عشرة: أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله ألا وهو أذية قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عباد الله! رسولنا في مكة يدعو الناس إلى دين الله، ويقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس يدخلون دين الله، واجتمع كفار مكة للتشاور في كيفية صرف الناس عن هذا الدين الجديد، وفي كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة، فزينت لهم شياطين الإنس والجن أساليب منها: - الاستهزاء والسخرية والتحقير والتضحيك بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولكنهم فشلوا في ذلك. - ومنها إلقاء الشبهات والشكوك والتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليصدوا الناس عن الإيمان به، ولكنهم فشلوا في ذلك أيضاً. فانتقل كفار مكة إلى أسلوب جديد للصد عن دين الله، ألا وهو الاعتداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل والسب والقتل والتخويف، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثةٌ وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى

إبط بلال" (¬1). عباد الله! ومن أذية قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول: ما رواه ربيعة بن عباد من بني الديل- وكان جاهلياً فأسلم- قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق (ذي المجاز) وهو يقول: "يا أيها الناس! قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب (¬2). وفي رواية أخرى قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ (ذي المجاز) يتبع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول، تقد وجنتاه، وهو يقول: يا أيها الناس! لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم، قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب (¬3). مثال آخر! عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولةٌ، وفي يدها فهر -أي حجر- وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تراني" وقرأ قرآناً، فاعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" (123). (¬2) إسناده جيد. انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 142 - 143). (¬3) إسناده حسن. انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 143).

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء: 45]، فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر! إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت، ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! " قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "يشتمون مذمماً، وأنا محمَّد، ويلعنون مذمماً، وأنا محمَّد" (¬2). عباد الله! كفار مكة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم فهذا يقول: إنه ساحر، وهذا يقول: إنه كاهن، وهذا يقول: إنه كذّاب، وهذا يقول إنه شاعر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضيق صدره بما يقولون، ويحزن على ما يسمع منهم، وعلى كفرهم وإعراضهم، ولكن الله -عز وجل- ربط على قلبه، فكان الوحي ينزل عليه يواسيه ويعزيه ويسدده ويثبته، ويؤكد له أن العاقبة له: قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]، وقال تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 137). (¬2) أخرجه البخاري (رقم 3533).

مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)} [الطور: 29 - 31]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 52 - 55]، فأخبر الله -عز وجل- رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الذي تسمعه من كفار مكة؟ هو الذي تقوله الأمم المكذبة لرسلها من قبل، ولذلك يقول الله -عز وجل- لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مواسياً: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. وعن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءته امرأة فقالت: يا محمَّد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله تعالى قوله: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 1 - 3] (¬1). عباد الله! كفار مكة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ دين الله، ويدعو الناس إلى عبادة الله، ويقول للناس "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس يقبلون على هذا الدين، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعت قريش مرة أخرى للتشاور في كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته، فقرروا أن ينتقلوا من أسلوب الشتم والسب إلى أسلوب أشد، وهو البطش والتعذيب والفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - "لقد أخفت في الله وما يخاف ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (رقم 4950)، ومسلم (رقم 1797).

أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" (¬1). عباد الله! ومن صور هذا الاعتداء: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا (¬2) جزور بني فلان فيأخذه فيأتي فيضعه في كتفي محمَّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدٌ ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت -وهي جويرية- فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد". قال ابن مسعود: فلقد رأيتهم صرعى (أي قتلى يوم بدر) ثم سحبوا إلى القليب؛ قليب بدر" (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" (رقم 123). (¬2) هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة. (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 240)، ومسلم (رقم 1794)، واللفظ لمسلم عدا ذكر عمارة بن الوليد.

ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "واتبع أصحاب القليب لعنة" (¬1)، وقام عليهم يناديهم: "يا فلان! يا فلان! لقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً". قال أصحابه: يا رسول الله أتخاطب أقواماً قد جُيِّفوا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، إلا أنهم لا يملكون جواباً". أسمعهم الله -عز وجل- توبيخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يُعفر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ -أي يسجد ويلصق وجهه بالتراب- فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. زعم ليطأ على رقبته فما فجئهم -أي بغتهم- فيه إلا وهو ينكص على عقبيه -أي: رجع يمشي إلى ورائه- ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً". فأنزل الله -عز وجل-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 240). (¬2) رواه مسلم (رقم 2873).

وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 6 - 19] (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر أبو جهل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمَّد! فانتهره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو جهل: لم تنهرني يا محمَّد! فوالله لقد علمت ما بها أحدٌ أكثر نادياً مني. فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 17 - 18]. فقال ابن عباس: والله؛ لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب (¬2). عباد الله! إيذاء واعتداء من كفار مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويا ليت الأمر توقف عند ذلك ولكنهم قرروا أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن عروة بن الزبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] (¬3). عباد الله! وحزن النبي- صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً؛ لما يفعله كفار مكة من الاعتداءات عليه وعلى أصحابه، فما كان الله ليتركه حزيناً بل أراه من الآيات وخوارق العادات ما ربط على قلبه وثبته. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جالس حزيناً، قد خضب بالدماء؛ ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2797). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 144). (¬3) رواه البخاري (رقم 4815).

مالك؟ فقال له: "فعل بي هؤلاء وفعلوا". فقال جبريل عليه السلام "أتحب أن أريك آية؟ قال: "نعم" قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. فقال: مرها فلترجع. فأمرها فرجعت إلى مكانها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حسبي" (¬1). ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ رسالة ربه، ويدعو الناس إلى دين الله صابراً محتسباً، واقفاً عند أمر ربه {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف: 89]. عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم كما شهد له ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}، فقد كان كفار مكة يعتدون عليه بالسب والشتم والضرب، ومع ذلك كان لا ينتقم لنفسه أبداً، بل جاءه ملك الجبال وقال له: يا محمَّد لقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً" (¬2). رسول كريم، إنها أخلاق النبوة، ويجب على الدعاة أن يتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبر على أذى الكفار، وأن يمضوا في الدعوة إلى هذا الدين العظيم. عباد الله! تعالوا بنا لننظر إلى هذا الخلق العظيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفار مكة يجمعون عليه الإيذاء بالقول والفعل، ومع ذلك فهو يعفو ويصفح. عن عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاصي: ما أكثر ما رأيت ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 138). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3231)، ومسلم (رقم 1795).

قريشاً أصابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم. قال: فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم! راشداً، فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان في الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول: كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، أنا الذي أقول ذلك". ولقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكي دونه ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]؟! ثم انصرفوا عنه (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله! هل أتى ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 148).

عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت فيها فإذا جبربل عليه السلام فناداني فقال: يا محمَّد إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمَّد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؛ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين)! فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً" (¬1). الله أكبر، إنها أخلاق النبوة، إنه العفو والصفح، فهكذا يا دعاة الإِسلام تعلموا الصبر، وأقبلوا على الله -عز وجل-، وادعوا الناس إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 159 - 160]. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) متفق عليه تقدم قريباً.

الخطبة الثانية عشرة: أذية قريش لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الثانية عشرة: أذية قريش لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب الصد عن دين الله ألا وهو أذية قريش لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس جهراً إلى (لا إله إلا الله) وإلى عبادة الله، ويحذرهم من الشرك، وكفار مكة يعملون بالليل والنهار؛ ليصدوا الناس عن هذا الدين الجديد، فهم ينتقلون من أسلوب إلى أسلوب؛ لمنع الناس من الدخول في هذا الدين الجديد. عباد الله! بيّنا في الجمعة الماضية كيف اعتدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصدوه عن دعوته الجديدة ولكنهم فشلوا في ذلك. وها هم ينتقلون إلى أسلوب جديد ألا وهو الاعتداء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصدوهم عن هذا الدين الجديد. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى صور من الاعتداءات على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة. أولاً: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدرع الحديد،

وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد" (¬1). ثانياً: عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: "أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة" (¬2). عباد الله! وفي عمار بن ياسر - رضي الله عنه - ومن مثله أنزل الله -عز وجل-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ (¬3). ثالثاً: وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرّ به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب، فجعلت أعجب! ما قال إلا خيراً! ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه!؟ والله؟ لقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوامٌ أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدِّقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟! والله؟ لقد بعث الله ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 154). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 154). (¬3) صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 155).

النبي - صلى الله عليه وسلم - على أشد حال بُعث عليها فيه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية؛ ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى أن الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان- يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للَّتي قال الله -عز وجل- {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74] (¬1). الشاهد من كلام المقداد، أنه طلب من الرجل أن يحمد الله -عز وجل-، فإنه كان في أول الإِسلام من الناس من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهده، ومع ذلك لم يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجبه وأكبهم الله على مناخرهم في النار، ومن الناس من تعرض للبلاء بسبب إيمانه فيقول لهم (احمدوا الله) بأنكم لم تتعرضوا للبلاء الذي تعرضنا له في أول الإِسلام. رابعاً: وعن قيس بن أبي حازم - رحمه الله- قال: "سمعت سعيد بن زيد في مسجد الكوفة يقول: "والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإِسلام قبل أن يسلم عمر" (¬2). وقوله (وإن عمر لموثقي على الإِسلام): أي: إن عمر - رضي الله عنه - ربطه بسبب إسلامه، إهانة له، وإلزاماً بالرجوع عن الإِسلام، وكان ذلك قبل إسلام عمر. شدة .. عذاب .. ابتلاء لا يعلمه إلا الله. ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص140). (¬2) رواه البخاري (رقم 3862).

خامساً: وعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: "كنت قيناً (¬1) بـ (مكة)، فعملت للعاصي بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه فقال: لا والله؛ لا أقضيك حتى تكفر بمحمد! فقلت: لا والله؛ لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال: فإني إذا مت ثم بعثت؛ جئني ولي ثم مال وولد فاعطيك، فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم: 77 - 80] (¬2). سادساً: وعن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر فقال: "ادن، فما أحد أحق بهذا الجلس منك إلا عمار. فجعل خباب يريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون" (¬3). سابعاً: وعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردةً في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬4). عباد الله! في هذا الحديث دروس وعظات وعبر منها: ¬

_ (¬1) القين: هو الحداد والصائغ (نهاية). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2901)، ومسلم (رقم 2795). (¬3) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 157). (¬4) رواه البخاري (رقم 6943).

أولاً: الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون ليميز الله الخبيث من الطيب، وليمحص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 9 - 11]، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]. عباد الله! ومن فوائد الابتلاء تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42]. ولذلك قال تعالى للمؤمنين الصادقين: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ

الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 139 - 142]. عباد الله! من أجل ذلك ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته على الصبر على البلاء، فقال لخباب بن الأرت - رضي الله عنه -: "قد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه". تربية على الصبر على النبلاء. وكان - صلى الله عليه وسلم - يمر على أصحابه وهم يعذبون فيقول لهم: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" (¬1). الصبر وعدم الاستعجال هو طريق النصر. ولذلك بعد أن ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الصبر على البلاء؛ بأن ضرب لهم مثلاً بالمسلمين الأولين من الأمم السابقة، وما نالهم من التعذيب؛ ليكونوا أسوة لهم، وبعد أن بشرهم بأن النصر والتمكين والعاقبة لهم، حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الاستعجال "لأن من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه". ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخباب بن الأرت: "ولكنكم تستعجلون". وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس -رضي الله عنهما-: "واعلم أن النصر مع الصبر" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح، انظر تعليق الشيخ الألباني على "فقه السيرة" (ص 107). (¬2) هو قطعة من حديث: "احفظ الله يحفظك" انظر "رياض الصالحين" (رقم 63) بتحقيق الشيخ الألباني - رحمه الله -.

عباد الله! وبالصبر وعدم الاستعجال أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما أمر الأنبياء من قبله. قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 83 - 84]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} [غافر: 77]. عباد الله! الصبر وعدم الاستعجال هو الطريق إلى النصر والتمكين في الأرض، أما الطرق العوجاء التي ابتدعها دعاة الاستعجال، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع وهي لا تزيد المسلمين إلا ضعفاً. س: هل يجوز للمسلم أن يطلب البلاء ويحرص عليه ويسعى إليه؟ كثير من الشباب يظنون أنهم إذا صعدوا المنابر، وإذا وقفوا في الأسواق أمام الناس، وسبوا على الحكام وعلى أولياء الأمور، وأخذوا ووضعوا في السجون، يظنون أنهم بذلك قد خدموا الدين، ودل ذلك على كمال إيمانهم. الجواب: لا، لا يجوز للإنسان أبداً أن يسعى إلى البلاء، وأن يتعرض للبلاء؛ لأنه لا يدري إذا نزل به البلاء أيثبت على دينه أم لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك. لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - العدو في بعض أيامه فانتظر حتى إذا مالت الشمس قام فخطب في أصحابه فقال: "أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا" (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 2966)، ومسلم (رقم 1742).

وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قام يوماً على المنبر ثم بكى ثم قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أول على هذا المنبر ثم قال: "سلوا الله العفو والعافية، فما أُعطي أحدٌ عطاءً بعد اليقين خيراً من العافية" (¬1). وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح ولا يمسي إلا ويدعو بهذه الكلمات: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، اللهم إني أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" (¬2). فيا معشر الشباب! هوِّنوا على أنفسكم، ليس الاضطهاد والتعذيب شرطاً لصحة الإيمان، ولا شرطاً لكماله حتى تنشدوه وتسعوا إليه، ويقوم قائمكم بين ظهراني الناس فيسبُّ الحاكم أو يشتمه، أو يحرض الناس عليه، ويدعو الناس للخروج عليه حتى يؤخذ ويودع في السجون، ويعذب يظن أنه قد عمل شيئاً أرضى الله، لا والله، قد نُهيت عن ذلك، وما يدريك إذا تعرضت للبلاء أتصبر أم لا؟ ما يدريك إذا تعرضت للبلاء فوقع عليك أن تفتن عن دينك وترجع عن الإِسلام بعد أن هُديت إليه. أما علمت أن الله تعالى قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} [العنكبوت: 10 - 11]. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه"، قالوا: وكيف يذل ¬

_ (¬1) "صحيح سنن الترمذي" (3558). (¬2) "صحيح سنن أبي داود" (4239).

نفسه يا رسول الله؟ قال: "يتعرض لما لا يطيق من البلاء" (¬1). ثانياً: ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هذا الحديث العظيم - النصر للمؤمنين، والعاقبة للمتقين، والمستقبل لهذا الدين. رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس إلى عبادة الله، ويحذرهم من الشرك، والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - يعانون أشد ألوان الأذى، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يمر على أصحابه، وهم يعذبون بأيدي الكفار فيأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة ويخبرهم أن النصر لهم وأن العاقبة لهم وأن المستقبل لهذا الدين. 1. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخباب - رضي الله عنه -: "والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه". ويبشرهم - صلى الله عليه وسلم - وهم في هذه اللحظة يعذبون فيقول لهم: "إنكم ستفتحون مصر والشام والعراق واليمن" بل بشرهم أنكم ستفتحون الدنيا من مشرقها إلى مغربها، وقد صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحقق ما وعد به وما زال يتحقق حتى تقوم الساعة. 2. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" (¬2). 3. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإِسلام، وذلاً يذل به الكفر" (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح سنن الترمذي" (2254). (¬2) رواه مسلم (رقم 2889). (¬3) صحيح، انظر "تحذير الساجد" الألباني (ص 119).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت" (¬1). والله -عز وجل- بشر المؤمنين الصادقين، أن العاقبة لهم، وأن النصر لهم، وأن المستقبل للإسلام. قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض" (¬2). فيا عباد الله! الصبر الصبر؛ وإياكم والاستعجال، فإنه يدمر، وإياكم ودعاة الاستعجال. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (5). (¬2) "صحيح الجامع" (2822).

الخطبة الثالثة عشرة: المفاوضات وطلب المعجزات

الخطبة الثالثة عشرة: المفاوضات وطلب المعجزات أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب الصد عن دين الله؛ ألا وهو: المفاوضات وطلب المعجزات. عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً إلى (لا إله إلا الله) وإلى عبادة الله، ويحذرهم من الشرك بالله ومن عبادة الأوثان، وكفار مكة يتنقلون من أسلوب إلى أسلوب ليصدوا الناس عن هذا الدين الجديد، ويصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة، ومع ذلك الناس يدخلون في دين الله ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! وبعد أن فشل كفار مكة في صد الناس عن دين الله بأساليب الاضطهاد والتعذيب، انتقلوا إلى أسلوب جديد ألا وهو أسلوب الترغيب والترهيب والمفاوضات وطلب المعجزات. أولاً: أرسلوا رسلهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتفاهموا معه، لعلهم أن يصلوا معه ولو إلى ما يسمى في لغة العصر بأنصاف الحلول. فهذا في ظنهم خيرٌ لهم من استمراره - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الدين الجديد. عباد الله! أرسل كفار مكة عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد رآه حلاً للمشكلة، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها:

إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً - مساكين أهل الدنيا، ظنوا أن الدعوة تباع بالمال والمنصب، والذي يترك دعوته من أجل منصب ومال داعية فاشل راسب-، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك -أي مساً من الجن- طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فرغت"؟ قال: نعم. قال: "فاسمع مني" ثم استفتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة فصلت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 1 - 7]. حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت: 13]، أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمَّد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمَّد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة؛ جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمَّد فغضب،

وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني أكثر من قريش مالاً، ولكني أتيته -وقص عليهم القصة- فأجابني بشيء والله! ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة- قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب" (¬1). عباد الله! ظن كفار مكة أن الأنبياء طلاب دنيا، يريدون بدعوتهم الدنيا الفانية، ولذلك تقدموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه المحاولة، وهي إغراؤه بالمال، والملك والرئاسة، والسيادة، ولكنهم فشلوا في ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجبهم إلى طلبهم. ثانياً: انتقل كفار مكة إلى محاولة ثانية ألا وهي ما يسمى بلغة العصر "تقارب الأديان" قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن قريشاً وعدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه (أي: يسوده) فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمَّد! وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: "وما هي؟ " قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة! فقال - صلى الله عليه وسلم -: "حتى أنظر ما يأتي من عند ربي"، فجاء الوحي ¬

_ (¬1) انظر "فقه السيرة" للغزالي (ص 107)، "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 159 - 162).

من اللوح المحفوظ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6]. وأنزل الله -عز وجل-: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 64 - 66] (¬1). ففشلت المحاولة الثانية. عباد الله! فكرة التقارب بين الأديان ليست بدعة عصرية، وإنما هي قديمة أول من دعى إليها كفار مكة؛ عندما قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح قال: "وما هي؟ " قالوا: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، الله أكبر، ما هذا الضلال؟ كيف يلتقي من يقول (لا إله إلا الله) مع من يعبد كل يوم إلهاً؟! كيف يلتقي التوحيد والشرك؟ كيف يلتقي الإيمان والكفر؟ كيف يلتقي الهدى والضلال؟! - فنحن نقول لأصحاب هذه الفكرة. قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} فالذي يقول بتقارب الأديان؛ جاهل لا يعرف رأسه من رجليه؛ ولا يعرف السماء من الأرض، ولا يعرف الليل من النهار. ثالثاً: فشل كفار مكة في المحاولة الثانية فانتقلوا إلى المحاولة الثالثة، وهي ¬

_ (¬1) صحيح، انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (205 - 206).

أقرب ما يكون بالنفاق والحيلة والخديعة والمكر، فأخذوا يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بآية -أي معجزة- تشهد بصدقه، وأظهروا له أنهم على أتم استعداد أن يتبعوه ويؤمنوا به؛ إذا اقتنعوا أنه رسول الله حقاً، وهم أرادوا من وراء ذلك تعجيز الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)} [الأنبياء: 5 - 6]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 50 - 51]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}. فأمر الله رسوله أن يقول لهم: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}. [الإسراء: 90 - 93]. وبين لنا ربنا -جل وعلا- أنهم يطلبون الآيات ولو نزلت عليهم لا يؤمنون فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ

اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 109 - 111]. وأكبر دليل على ذلك أنهم طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية على نبوته، لم يفعلوا ذلك لكي يؤمنوا؛ وإنما فعلوا ذلك خديعة وحيلة ومكراً واستكباراً. قال أنس - رضي الله عنه -: سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آيةً فأراهم انشقاق القمر فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر: 1 - 2] (¬1). وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل فقالوا: سحرنا محمَّد" (¬2). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا" (¬3). ومع ذلك يطلبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآيات إعجازاً منهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ادع لنا ربك يصبح لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك، قال: "وتفعلوا؟ " قالوا: نعم، قال: ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 14867) ومسلم (رقم 2802). (¬2) "صحيح الترمذي" (2622). (¬3) "صحيح سنن الترمذي" (2621).

فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة قال: "بل باب التوبة والرحمة" (¬1). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (¬2). عباد الله! وكيف يُرجى الخير ممن قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32]. ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه" (¬3). رابعاً: فشل كفار مكة في المحاولة الثالثة فانتقلوا إلى محاولة رابعةٍ ليصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة، ألا وهي ذهابهم إلى عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويؤيده ويمنعه، يُلحِّون عليه أن يتخلى عن ابن أخيه، فأتوه فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا. فقال: يا عقيل! انطلق فأتني بمحمد. فانطلق عقيل بن أبي طالب فأتى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الظهيرة في شدة الحر فلما ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 153). (¬2) "مسند الإِمام أحمد" (2333). (¬3) "نور اليقين" (ص 71).

أتاهم، قال له عمه: يا ابن أخي! إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فَحَلّقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء، فقال: "ترون هذه الشمس؟ " قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة". - والمعنى ما أقدر أن أترك دين الله الذي أمرني بتبليغه كما أنكم لا تقدرون أن تأتوا من الشمس بشعلة تشتعلون بها- "فقال أبو طالب: والله! ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا" (¬1). عباد الله! وهكذا أيد الله سبحانه نبيه بعمه على مخالفته لدينه، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (¬2). فأيد الله -تبارك وتعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأبي طالب مع أنه مات على الكفر. عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ مما سمعنا فهي: أولاً: الداعي إلى الله لا يترك دعوته أبداً في مقابل عرض من أعراض الدنيا، فما من نبي جاء لقومه إلا قال لهم: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا}. ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - عندما عرض عليه كفار مكة المال والجاه والسلطان لم يناقشهم فيها، فهي أسقط وأذل من أن تناقش، ولكنه عرض عليهم أن يؤمنوا بالله وحده فتلى عليهم القرآن. وهذا سليمان عليه السلام بعث بكتابه إلى بلقيس ملكة سبأ يدعوها ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 144). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3062)، ومسلم (رقم 111).

وقومها إلى الإسلام، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} [النمل: 29 - 33]. فما كان من بلقيس إلا أن تختبر ذلك الملك بهدية تبعثها إليه من جميع أصناف المال، فإن كان هذا الملك يريد الدنيا فسيقبل الهدية ويكف عنهم، وإن لم يقبلها فمعناه أنه صادق في دعوته، ولهم المبادرة إلى إجابته والدخول في ملته. {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} [النمل: 34 - 37]. فكانت النتيجة أن أسلمت بلقيس وقومها مع سليمان لله رب العالمين: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44]. فاحذروا معشر الدعاة أن تفتنوا بالمناصب والمال؛ فتتركوا الدعوة إلى الله، أو تنافقوا فتخطبون خطبة تريدون بها رضا الناس، فمن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.

ثانياً: المساومات والمفاوضات وأنصاف الحلول لا تقبل أبداً في أخطر قضية، ألا وهي قضية التوحيد، ولذلك عندما طلب الكفار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، أنزل الله -عز وجل-: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} وقال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} فلا يجوز لإنسان أبداً أن يداهن في قضية التوحيد. ثالثاً: أن يعلم الجميع أن أعداء الإِسلام يخططون بالليل والنهار بكل الأساليب، بأساليب التعذيب والترهيب، وبأساليب الإغراء والمفاوضات، وبأنصاف الحلول كل ذلك ليصدوا الناس عن دين الله. ولكن كما قال رب العزة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 8 - 9]. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة الرابعة عشرة: مجادلة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الرابعة عشرة: مجادلة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب الصد عن دين الله، ألا وهو مجادلة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس سراً وجهراً، وليلاً ونهاراً إلى عبادة الله، ويحذرهم من الشرك، ومن عبادة الأصنام. وكفار مكة ينتقلون من أسلوب إلى أسلوب؛ ليصدوا الناس عن هذا الدين العظيم، ويصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته، وفي الجمعة الماضية تبين لنا أن كفار مكة استخدموا أسلوب المفاوضات، وأنصاف الحلول، وطلب المعجزات، ولكنهم فشلوا في هذا الأسلوب، فالناس يدخلون في الدين، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتقل كفار مكة إلى أسلوب جديد، ألا وهو أسلوب الجدال والمراء لدحض الحق، وصد الناس عن دين الله، والله -عز وجل- يخبرنا عن ذلك في كتابه، أن الذين يجادلون في آيات الله ويجادلون بالباطل هم الكفار. فقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)} [غافر: 4]. وبين لنا ربنا -جل وعلا- أن جدالهم هذا بالباطل ليدحضوا به الحق. فقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)} [غافر: 5] وقال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ

أولا: البعث بعد الموت

وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)} [الكهف: 56] وأخبرنا ربنا -جل وعلا- أن الذين يدفعونهم إلى هذا الجدال بالباطل هم شياطين الإنس والجن. قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} [الحج: 3]. وقد وصف ربنا -جل وعلا- لنا هؤلاء أنهم يجادلون بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، وأن الدافع لذلك هو الكبر في قلوبهم، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} [الحج: 8]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]. عباد الله! ومن الأمور التي جادل فيها المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أولاً: البعث بعد الموت عندما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في مكة إلى الإيمان بالبعث بعد الموت، أنكر المشركون ذلك، وجادلوا في عقيدة البعث فأكثروا فيها الجدل، قال تعالى عنهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق: 3]. وقال تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)} [المؤمنون: 82]. ولم يتوقف كفار مكة على استبعاد البعث بعد الموت بل أقسموا باللهِ لا يبعث الله من يموت، فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]، فأقسم الله لهم بنفسه على أن البعث بعد الموت حق وكائن، فقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68].

ثانيا: الآلهة التي تعبد من دون الله

بل وأمر ربنا -جل وعلا- رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث مواضع من القرآن أن يقسم لهم بالله على أن البعث بعد الموت كائن، فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس: 53]. عباد الله! ومع ذلك جاء أبيّ بن خلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم بالٍ قد أرمَّ فقال: يا محمَّد! أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم؟! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم؛ أنا أقول ذلك؛ يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار". وأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 77 - 83] (¬1). ثانيا: الآلهة التي تعبد من دون الله: قال ابن إسحاق: "وجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) -فيما بلغنا- يوماً مع الوليد ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص201).

بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحدٍ من رجال قريش، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرض له النضر، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء: 98 - 100]، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس. فقال الوليد بن المغيرة له: والله، ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمَّد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم! فقال عبد الله بن الزبعري -أما- والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً: أكل من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأنزل تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} [الأنبياء: 101 - 102]؛ أي: عيسى ابن مريم، وعزيراً، ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 26 - 29].

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 57 - 58] (¬1). عباد الله! وهذا الجدل الذي سلكوه باطل، وهم يعلمون ذلك؛ لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن (ما) لما لا يعقل، فقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}: إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيراً، ولا أحداً من الصالحين؛ لأن الآية لا تتناولهم لا لفظاً ولا معنى، فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل، كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} ثم قال: {إِنْ هُوَ}؛ أي: عيسى {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}؛ أي: بنبوتنا {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}؛ أي: دليلاً على تمام قدرتنا على ما نشاء، حيثما خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا، ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى؛ كما قال في الآية الأخرى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]؛ أي: أمارة ودليلاً على قدرتنا الباهرة {وَرَحْمَةً مِنَّا} نرحم بها من نشاء (¬2). عباد الله! وقال ابن عباس - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش: "يا معشر ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (197 - 198). (¬2) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 198 - 199).

ثالثا: الروح

قريش، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما يقول محمَّد فقالوا: يا محمَّد ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله! صالحاً فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم لكما تقولوا، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف: 57] (¬1). عباد الله! "وهذا القياس الفاسد من قريش، من تشبيه الأنبياء المكرمين بالأصنام المعبودة غير العاقلة اقتضى الرد عليه، فقال الله تعالى مبيناً عبودية عيسى لله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}، وإنه لم يدع إلى عبادة نفسه، بل دعا إلى عبادة الله وحده: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}، وسمى القرآن احتجاج قريش بالجدل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} وهو المراء الباطل حيث كانوا عرباً فصحاء لا يخفى عليهم أن الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} هي خطاب لقريش، وهم يعبدون أصناماً لا تعقل، وليست خطاباً للنصارى، فلا يرد اعتراضهم على الآية أصلاً -هي لما لا يعقل- بدعوى استحلالها للمسيح عليه السلام" (¬2). ثالثا: الروح: عباد الله! ومن المجادلات التي أثارها المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤالهم عن الروح. ¬

_ (¬1) إسناده حسن، انظر "مسند الإِمام أحمد" رقم (297 - ط المؤسسة)، وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 131). (¬2) انظر "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 164).

رابعا: القدر

عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود، أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه. فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً!! قال: فأنزل الله -عز وجل-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109] (¬1). رابعا: القدر عباد الله! ومن المجادلات التي أثارها المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدر، وهو إثبات ما قدرة الله وقضاه، وسبق به علمه، وكتبه على عباده فكل ما يقع لهم إنما هو مقدر في الأزل معلوم لله مرادٌ له، فنزلت الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 48 - 49] (¬2). عباد الله! والإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان" كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره". وقد جاءت الأدلة في الكتاب والسنة تخبر أن الله -عز وجل- قدّر كلَّ شيء في كتاب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال تعالى: ¬

_ (¬1) إسناده صحيح، "مسند أحمد" رقم (12309 - ط المؤسسة)، وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 164). (¬2) صحيح مسلم (رقم 2656).

خامسا: القرآن الكريم

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" (¬1). خامسا: القرآن الكريم عباد الله! ومن الأمور التي جادل فيها المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، القرآن الكريم، فقالوا عن القرآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} [الأنعام: 25]، وقالوا: إنما يعلمه بشر، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 4 - 5]، وطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغير هذا القرآن أو يبدله. ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (4350).

سادسا: نزول القرآن منجما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)} [يونس: 15 - 17]. عباد الله! وقد أخبر الله -عز وجل- ونبه عن خطورة هذا العمل، فقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 73 - 75]، فلما فشلوا في مجادلتهم قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]. سادسا: نزول القرآن منجماً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباد الله! ومن الأمور التي جادل فيها المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ نزول القرآن منجماً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال المشركون: لو كان محمَّد كما يزعم نبياً فَلِمَ يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)}

سابعا: مجالسة المستضعفين والفقراء من المؤمنين.

[الفرقان: 32] (¬1). سابعا: مجالسة المستضعفين والفقراء من المؤمنين. عباد الله! ومن الأمور التي جادل فيها المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ جلوسهم مع الفقراء من المسلمين، في مجلس واحد، عن خباب - رضي الله عنه - قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعداً في ناسٍ من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد! فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: "نعم". قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً. قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب -ونحن قعود في ناحية- فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [الأنعام: 52]. ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. ثم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا ¬

_ (¬1) انظر "فتح القدير" الشوكاني (4/ 75)، و "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 166).

فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، فألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة من يده ثم دعانا، قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وهو يقول: "سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}: ولا تجالس الأشراف {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} يعني: عيينة والأقرع {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قال: هلاكاً؛ قال: أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها؛ قمنا وتركناه حتى يقوم" (¬1). عباد الله! مجادلة بالباطل من كفار مكة، ومع ذلك فشلوا في هذه الأساليب جميعها لصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 222 - 224).

الخطبة الخامسة عشرة قريش تعود إلى أسلوب الخنق والتضييق والتعذيب

الخطبة الخامسة عشرة قريش تعود إلى أسلوب الخنق والتضييق والتعذيب مما جعل كثيراً من المسلمين يهاجرون إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتنة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم إن -شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب الصد عن دين الله، ألا وهو أسلوب الخنق والتضييق والتعذيب والمطاردة، مما جعل كثيراً من المسلمين في مكة يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتنة. عباد الله! رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً إلى عبادة الله -عز وجل-، وإلى عقيدة التوحيد، ويحذرهم من الشرك ومن عبادة الأوثان. وكفار مكة ينتقلون من أسلوب إلى أسلوب؛ ليصدوا الناس عن دين الله، ويصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة، ومع ذلك الناس يدخلون في دين الله، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! بعد ما فشلت قريش في جميع الأساليب، لجأت مرةً أخرى إلى أسلوب الخنق والتضييق والاضطهاد والتعذيب للمسلمين، مما جعلهم يهاجرون إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتن. تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: "لما ضاقت (مكة)، وأوذي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه؛ فقال لهم

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه" (¬1). عباد الله! بدأ الرحيل إلى الحبشة تسللاً في الخفاء، حتى لا تستيقظ قريش للأمر فتحبطه، ولم يبدأ كذلك على نطاق واسع، فتسلل بضعة عشر رجلاً وامرأة كان على رأسهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى انتهى إلى مسامعهم أن الاضطهاد والتعذيب والتضييق على المسلمين في مكة قد خفت وطأته، وترك الكفار المسلمين أحراراً، فعاد المسلمون من الحبشة إلى ديارهم وأرضهم وأهليهم، فبينما هم على مشارف مكة إذ تأكدوا أن الأخبار التي وصلتهم غير صحيحة، وكانت قريش قد أغاظها خروج هؤلاء النفر من بينهم دون علمهم، فلما سمعوا بعودتهم أخذوهم وساموهم سوء العذاب، إلا نفراً قليلاً منهم قد دخلوا في جوار بعض سادات قريش. عباد الله! لما اشتد الاضطهاد والتعذيب والإيذاء بالمسلمين في مكة بعد عودة المهاجرين أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بالهجرة مرة ثانية إلى الحبشة. عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جارٍ، النجاشي، أمنَّا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما ¬

_ (¬1) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 170).

يأتيه منها إليه الأدَم (أي الجلود)، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة -قبل أن يسلما- وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، وعند خير جارٍ فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم. وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لتردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهم: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم.

قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا هيم الله (أي لا والله) إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم. فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإِسلام- فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا،

فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأ عليّ. فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}. قالت: فبكى، والله، النجاشي حتى أخضل (أي بلَّ) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غداً عيبهم عنده، ثم أستاصل به خضراءهم قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟

قالوا: نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا (¬1) عيسى ابن مريم ما قلت؛ هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم -الآمنون- من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غُرِّم ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبراً ذهباً -أي جبلاً ذهباً- وإني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار" (¬2). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ مما سمعنا فهي: أولاً: يجب على العبد المسلم أن يهاجر من البلد التي لم يتمكن فيها من عبادة ربه، إلى بلد آخر يتمكن فيها من عبادة ربه، فقد هاجر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة عندما ضُيق عليهم إلى الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم، وقد هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - وهو أفضل خلق الله- من مكة -وهي أفضل بلاد الله- ليتمكن هو وأصحابه من عبادة الله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) ما تجاوز. (¬2) إسناده حسن، انظر "مسند الإِمام أحمد" رقم (1740 - ط المؤسسة) و "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 170).

ثانياً: أن المؤمنين إذا اتقوا ربهم جعل لهم مخرجاً ودافع عنهم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}. عباد الله! فقد جعل الله للمهاجرين إلى الحبشة مخرجاً، ودافع عنهم، ونصرهم على أعدائهم. ثالثاً: أن الكفار في كل زمان ومكان ينفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فالله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. وقد تبين لكم يا عباد الله! من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، كيف أنفق كفار مكة أموالهم في إرسال الهدايا إلى النجاشي، وإلى بطارقته ثم كانت النتيجة حسرة عليهم. رابعاً: أن من صدق نجا، فعندما صدق جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن معه مع النجاشي ولم يكتموا شيئاً من عقيدتهم، فكانت العاقبة أحسن العواقب وأحمدها، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق فإن الصدق، يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة .. ". خامساً: فضل النجاشي الملك العادل الذي لم يظلم المسلمين في أرضه ودافع عنهم وحافظ عليهم، فقد قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين مات: "مات

اليوم رجل صالح، فقدموا فصلوا على أخيكم (أصحمة) " (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات" (¬2). قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور" (¬3). عباد الله! ما هو أعجب ما رأى المهاجرون إلى الحبشة في أرض الحبشة؟ هذا الذي نعرفه -إن شاء الله -تعالى في الجمعة القادمة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3877). (¬2) "أحكام الجنائز" (ص 45) الألباني. (¬3) قال الألباني: إسناده حسن انظر "صحيح السيرة النبوية" (ص 181).

الخطبة السادسة عشرة الهجرة إلى الحبشة وأعجب ما رأى المسلمون في أرض الحبشة

الخطبة السادسة عشرة الهجرة إلى الحبشة وأعجب ما رأى المسلمون في أرض الحبشة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون أيضاً عن هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، وعن أعجب ما رأى المسلمون في أرض الحبشة. عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن المسلمين هاجروا من مكة إلى الحبشة فراراً بدينهم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "إن بالحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه". تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: "فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً". تقول: "فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا، ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم". فبعد أن ذكرت -رضي الله عنها- المحاولة الفاشلة التي قام بها كفار مكة قالت: "ثم قال النجاشي: فوالله؛ ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، ولا أطاع الناس فيّ؛ فأطيع الناس فيه؟! ردوا عليهما هداياهم، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي". تقول -رضي الله عنها-: "فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به".

تقول - رضي الله عنها-: "فأقمنا مع خير جار في خير دار" (¬1). عباد الله! لما فشلت قريش في محاولتها الغادرة وهي إرجاع المهاجرين من أرض الحبشة إلى مكة، أخذوا يصبوا العذاب صباً على المسلمين في مكة ويضيقون عليهم. "فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين ضاقت عليه (مكة) وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما رأى؛ استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، فأذن له" (¬2). عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى عائشة -رضي الله عنها- وهي تخبرنا الخبر، تقول -رضي الله عنها-: "لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم، إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ بَرْك الغماد -وهو موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن- لقيه ابن الدُّغنة -وهو سيد القارة (¬3) - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدَّغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع، وارتحل معه ابن الدَّغنة فطاف ابن الدَّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا ¬

_ (¬1) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص. 17 - 177). (¬2) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 212). (¬3) القارة: قبيلة مشهورة، يضرب بهم المثل في قوة الرمي.

يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدَّغنة، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء؛ ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدَّغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر؛ فابتني مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من الشركين، فأرسلوا إلى ابن الدَّغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتني مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه؛ فإن أحبَّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك -أي ننقض عهدك- ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرتُ في رجل عقدتُ له. فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله -عز وجل-" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3905).

عباد الله! وهذا أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يخبرنا عن هجرته هو وأصحابه إلى الحبشة. عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "بلغنا مخرج النبي- صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان" (¬1). عباد الله! قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عندما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأصحاب السفينة: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم"، فلما بلغ الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ما هو بأحق بي منكم وله (أي: لعمر وأصحابه) هجرةٌ واحدة ولكم يا أهل السفينة هجرتان" (¬2). ولما عاد مهاجروا الحبشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يسألهم ويخبرونه بما رأوا في أرض الحبشة من أعاجيب: فعن جابر - رضي الله عنه - قال: لما رجع مهاجروا البحر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟! " قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، إذ مرت عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء، فقام إليها فتىً من فتيانهم فوضع إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها. فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غُدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4230، 4231). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4230، 4231)، ومسلم (رقم 2502، 2503).

أولا: تحريم الظلم.

فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقت. صدقت. كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ " (¬1). عباد الله! وفي هذا الحديث فوائدٌ عظيمة منها: أولاً: تحريم الظلم. قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (¬3). وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم: 42 - 43]. عباد الله! الظلم عاقبته وخيمة، والله -تبارك وتعالى- يأخذ من الظالم للمظلوم يوم القيامة، فلا يدخل أحدٌ الجنة ولواحد من أهل النار عنده مظلمة، ولا يدخل أحد النار ولواحد من أهل الجنة عنده مظلمة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح سنن ابن ماجه" (رقم 3239). (¬2) رواه مسلم (رقم 2577). (¬3) رواه مسلم (رقم 2578). (¬4) رواه مسلم (رقم 2582).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتطع" -أي أخذ- "حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة"، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن قضيباً من أراك" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه" (¬2). ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" (¬3). عباد الله! فالظالم خسران في الدنيا والآخرة. والظالم لا يحبه الله، قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. والظالم ملعون، قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. عباد الله! الظلم سبب لهلاك الأمم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 137). (¬2) رواه البخاري (رقم 6534). (¬3) رواه مسلم (رقم 2581).

ثانيا: أن نصر المظلوم واجب على القادر عليه.

قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الذي معنا "كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم". ابن آدم! لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم يرجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم ثانياً: أن نصر المظلوم واجب على القادر عليه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "تمنعه من ظلمه فذلك نصره" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه" (¬3). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، .. وذكر منها نصر المظلوم" (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4686)، ومسلم (رقم 2583). (¬2) رواه البخاري (رقم 6952). (¬3) رواه مسلم (رقم 2580). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5635)، ومسلم (رقم 2066).

ثالثا: إثبات البعث، والحشر، والحساب، والجزاء

ثالثاً: إثبات البعث، والحشر، والحساب، والجزاء: وهذا يظهر من قول العجوز للفتى الذي ظلمها واعتدى عليها: سوف تعلم، يا غُدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والأخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً". قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة" (¬1). ابن آدم: مثل وقوفك يوم العرض عريانا ... مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق ... على العصاة ورب العرش غضبانا إقرأ كتابك يا عبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان لما قرأت ولم تنكر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (5674).

نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ... وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المجرمون غداً في النار يلتهبوا ... والمؤمنون في دار الخلد سكانا عباد الله! ومن أعاجيب ما رأى المهاجرون في أرض الحبشة ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما كان مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، تذاكر بعض نسائه كنيسةً بأرض الحبشة يقال لها (مارية) وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة- فذكرن من حسنها وتصاويرها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، فصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬1). عباد الله! وفي هذا الحديث فائدة عظيمة جداً، ألا وهي حرمة بناء المساجد على القبور. عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: "لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال -وهو كذلك-: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُحذر مثل ما صنعوا" (¬2). وقالت عائشة -رضي الله عنها-، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، قالت: ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 427)، ومسلم (رقم 528). (¬2) رواه البخاري (رقم 435، 436)، ومسلم (رقم 531)، انظر "أحكام الجنائز" الألباني (ص 275).

فلولا ذاك أبرزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من شرار الناس من تدركه الساعة، وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد" (¬4). عباد الله! من هذه الأحاديث يتبين لنا: 1 - أن بناء المساجد على القبور حرام، وكبيرة من الكبائر، ومن فعل ذلك فهو من شرار الخلق عند الله يوم القيامة. 2 - أن الصلاة إلى القبور مستقبلاً لها حرام. 3 - أن السجود على القبور حرام. فليتق الله الذين يبنون المساجد على القبور، والذين يدفنون أنفسهم وأقاربهم في المساجد التي بنوها، فإن هذا حرام وكبيرة من الكبائر، والذي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (رقم 1330)، ومسلم (رقم 529)، انظر "أحكام الجنائز" الألباني (ص 276). (¬2) صحيح، انظر "أحكام الجنائز" الألباني (ص 276). (¬3) أخرجه مسلم (رقم 532). (¬4) صحيح، انظر "أحكام الجنائز" الألباني (ص 278).

يفعل ذلك هو من شرار الخلق عند الله، وقد حبط عمله وغضب الله عليه ولعنه. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة السابعة عشرة إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما

الخطبة السابعة عشرة إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن إسلام حمزة ابن عبد المطلب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما -. عباد الله! تبين لنا من الجُمع السابقة أن كفار مكة استخدموا جميع الأساليب لمنع الناس من الدخول في دين الله ولكنهم فشلوا في ذلك، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} [يوسف: 21]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32 - 33]. عباد الله! كفار مكة بالليل والنهار يحاولون أن يمنعوا الناس من الدخول في دين الله، ومع ذلك الناس في كل يوم يدخلون في دين الله ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - ... أتعرفونه؟ عمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرضاعة، قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيد الشهداء عند الله يوم القيامة؟ حمزة بن عبد المطلب" (¬1). ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (3570).

يروى في سبب إسلامه - رضي الله عنه - أن جارية عيَّرته بإيذاء أبي جهل لابن أخيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فتوجه إليه وغاضبه وسبه وقال له: كيف تسب محمداً وأنا على دينه، فشجه شجة منكرة، فكان إسلامه في بداية الأمر أنفة، ثم شرح الله صدره بنور اليقين، حتى صار من أفاضل المؤمنين" (¬1). وعن محمَّد بن كعب القرظي قال: كان إسلام حمزة - رضي الله عنه - حمية، وكان يخرج من الحرم فيصطاد، فإذا رجع مرَّ بمجلس قريش، وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة، فيمر بهم فيقول: رميت كذا وكذا وصنعت كذا وكذا ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات يوم فلقيته امرأة فقالت: ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل، شتمه وتناوله وفعل وفعل، فقال: هل رآه أحدٌ؟ قالت: إي والله لقد رآه الناس، فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم، فاتكأ على قوسه، وقال: رميت كذا وكذا وفعلت كذا وكذا، ثم جمع يديه بالقوس فضرب بها بين أذني أبي جهل فدق سنتها، ثم قال: خذها بالقوس، وأخرى بالسيف، أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه جاء بالحق من عند الله قالوا: يا أبا عمارة إنه سب آلهتنا، وإن كنت أنت- وأنت أفضل منه- ما أقررناك وذاك، وما كنت يا أبا عمارة فاحشاً" (¬2). عباد الله! ثم شرح الله صدر حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - للإسلام وثبت عليه، فعلمت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحاق (1/ 304). (¬2) قال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلاً ورجاله رجال الصحيح "مجمع الزوائد" (9/ 261).

فكفوا عن بعض ما كانوا ينالوا منه" (¬1). عباد الله! وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .. أتعرفونه؟ الفاروق الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" (¬2) وقال عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون" -أي ملهمون- "فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" (¬3). وقال عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر" (¬4). الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال عن نفسه: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغَيْرة فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك" (¬5). أمة الإسلام! كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل إسلامه من أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم إيذاء وتعذيباً للمسلمين، قال سعيد بن زيد - رضي الله عنه - وهو ابن ابن عم عمر، وزوج أخته فاطمة بنت الخطاب-: "والله لقد رأيتني وإن ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (3/ 33). (¬2) "السلسلة الصحيحة" (327). (¬3) رواه البخاري (رقم 3689) من حديث أبي هريرة، ومسلم (رقم 2398) من حديث عائشة. (¬4) "صحيح الجامع" (2492). (¬5) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 402)، ومسلم (رقم 2399).

عمر لموثقي على الإِسلام قبل أن يسلم" (¬1). عباد الله! كان عمر بن الخطاب رجلاً قوياً مهيباً، وكان يؤذي المسلمين ويشتد عليهم، حتى يئس بعضهم من إسلامه لما رأى من غلظته وقسوته على المسلمين، ولكن شدة عمر الظاهرة تكمن خلفها رحمة ورقة، وكان بعض المسلمين مما يرى من قسوة عمر على المسلمين كان يقول: بأنه لا يمكن أبداً أن يسلم عمر. عن أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: "والله، إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر بن ربيعة (تعني زوجها) في بعض حاجاتنا؛ إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه، قالت: وكنا نلقي منه من البلاء؛ أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض من أرض الله- إذ آذيتمونا وقهرتمونا- حتى يجعل الله لنا مخرجاً. قالت: فقال: صَحِبَكُم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه- فيما أرى- خروجنا. قالت: فجاء عامر (وهو زوجها) بحاجته تلك. فقلت له: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا! قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3862).

أولا: سماعه للقرآن الكريم

قالت: يأساً منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإِسلام" (¬1). عباد الله! ولكن الله -تبارك وتعالى- القادر على كل شيء -كما أنه يحيي الأرض بعد موتها- كذلك يحيى القلوب القاسية بعد موتها. ولذلك لما ذكر الله في كتابه قسوة قلوب أهل الكتاب محذراً منها، عقَّب على ذلك بذكر قدرته على إحياء الأرض الميتة حتى لا ييأس أصحاب القلوب القاسية من إحيائها. فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 16 - 17]. وقد علم الله -عز وجل- أن قسوة قلب عمر قسوة عارضة لا مستحكمة، ولا دائمة، ولذلك هيأ له الأسباب للإسلام، وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه ليكون. عباد الله! ومن أسباب إسلام عمر بن الخطاب: أولاً: سماعه للقرآن الكريم: فالقرآن هو كلام الله، له تأثير في القلوب. فيروى عن عمر أنه قال: "خرجت أتعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 40 - 41]، قلت: كاهن، قال: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} ¬

_ (¬1) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 189).

ثانيا: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له

[الحاقة: 42]، حتى بلغ آخر السورة. قال: فوقع الإِسلام في قلبي كل موقع" (¬1). عباد الله! وهذه القصة فيها ضعف، وكذلك قصته مع أخته فاطمة حين لطمها لإسلامها وضرب زوجها سعيد بن زيد، ثم اطلاعه على صحيفة فيها آيات وإسلامه فلم يثبت شيء من هذه القصص من طريق صحيحه. ولكن الحافظ ابن حجر ذكر بان الباعث له على دخوله في الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة من القرآن .. وعدم ثبوت الروايات حديثياً لا يعني حتمية عدم وقوعها تاريخياً" (¬2). ثانياً: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له: عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم! أعز الإِسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال: فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب" (¬3). عباد الله! استجاب الله -تبارك وتعالى- دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فاعتز به الإِسلام وفرح المسلمون بإسلامه فرحاً عظيماً، وازدادوا بإسلامه قوة ومنعة وعزة ورفعة. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" (¬4). ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "المجمع" (9/ 62): "رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات إلا شريح بن عبيد لم يدرك عمر، فالحديث ضعيف لانقطاعه". (¬2) انظر "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 180). (¬3) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 193). (¬4) رواه البخاري (رقم 3684).

وقال أيضاً: "لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي" (¬1). وقال أيضاً: "إن إسلامه كان نصراً" أي للإسلام والمسلمين (¬2). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لعمر بن الخطاب حين طعن: "فلما أسلمت كان إسلامك عزاً، وأظهر الله بك الإِسلام ورسول الله وأصحابه" (¬3). لما أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يرض أن يستخفي كما يستخفي المسلمون، بل أصر على إعلان إسلامه، وإظهار دينه، والجهر بصلاته. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو يخبرنا الخبر: عن ابن عمر قال: "لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه. قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره، وانظر ما يفعل- وأنا غلام أعقل كل ما رأيت- حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسملت ودخلت في دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر واتبعته أنا، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن ابن الخطاب قد صبأ! ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" (3/ 270) بإسناد صحيح. (¬2) "المعجم الكبير للطبراني" (9/ 181) بإسناد حسن. (¬3) "المعجم الأوسط للطبراني" (1/ 334) بإسناد حسن.

قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم. قال: وطلح (أي أعيا) فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فاحلف بالله أن لو كنا ثلاث مئة رجلٍ لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا قال: فبينما هم على ذلك؛ إذ أقبل شيخ من قريش -عليه حلة حبرة وقميص موشى- حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صبأ عمر! قال: فمه؛ رجل اختار لنفسه أمراً؛ فماذا تريدون؟! أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا؟! خلوا عن الرجل، قال: فوالله؛ لكأنما ثوباً كُشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى (المدينة): يا أبت! من الرجل الذي زجر القوم عنك بـ (مكة) يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك أي بني! العاص بن وائل السهمي (¬1). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أول من جهر بالإِسلام عمر بن الخطاب" (¬2)، أسلم عمر وانتشر الخبر وازداد الكفار هماً وغماً، وازداد المسلمون فرحاً وعزة ومنعة بإسلام عمر. عباد الله! ولم يكتف عمر - رضي الله عنه - بذلك بل طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعلن إسلامه في كل مجلس كان يجلسه في الكفر. ¬

_ (¬1) إسناده جيد قوي، انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 191). (¬2) رواه الطبراني، وإسناده حسن، كما في "المجمع" (9/ 63).

عن عمر - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني لا أدع مجلساً جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإِسلام، فأتى المسجد وفيه بطون قريش متحلقة، فجعل يُعلن الإِسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فثار المشركون، فجعلوا يضربونه ويضربهم، فلما تكاثروا خلصه رجل" (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة إسلام عمر - رضي الله عنه -: اْولأ: أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل: فقد انتفع عمر بن الخطاب بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. فاحذر يا أيها المسلم أن تبخل على نفسك وعلى إخوانك بالدعاء، فالدعاء مستجاب، وليس شيء أكرم على الله -تبارك وتعالى- من الدعاء، فادع الله -تبارك وتعالى- واسأله من فضله. ثانياً: يجوز للمسلم أن يدعو للكافر بالهداية، فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب بالهداية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أعز الإِسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب" فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب. وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم أبي هريرة بالهداية، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت أدعو أمي إلى الإِسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإِسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات كما قال الهيثمي.

أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اهد أم أبي هريرة" فخرجت مستبشراً بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جئت فصرت إلى الباب وقرُبت منه، فإذا هو مجاف، فسمعتْ أمي خَشَفَ قدمي، فقال: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله! أبشر، فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وقال: "خيراً". عباد الله! إذا كان الدعاء للكافر بالهداية جائز ومشروع، فالدعاء للمسلم العاصي بالتوبة والرجوع إلى الله من باب أولى، فإذا رأيت مسلماً عاصياً فادع الله أن يرده إلى الإِسلام، وأن يعود إلى ربه، فدعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند الرب -تبارك وتعالى-. ثالثاً: المسلم عزيز بإسلامه والكافر ذليل بكفره، فهذا عمر بن الخطاب اعتز بإسلامه فاعلن به بكل عزة وفخر أمام الكفار، كيف لا، وهو الذي قال: "كنا أذلاء فأعزنا الله بالإِسلام، فلو ابتغينا العزة بغير الإِسلام أذلنا الله". أمة القرآن: أما آن الأوان أن نعود إلى إسلامنا لنعتز به فقط، ولا نعتز بغيره، فيا عباد الله! الرجوع الرجوع إلى الإِسلام فإن فيه والله العزة، وبه تنتصرون على أعدائكم. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

الخطبة الثامنة عشرة المقاطعة العامة والحصار الاقتصادي

الخطبة الثامنة عشرة المقاطعة العامة والحصار الاقتصادي، وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، رحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الأحداث التالية: أولاً: المقاطعة العامة والحصار الاقتصادي ثاتيأ: وفاة أبي طالب وخديجة -رضي الله عنها-. ثالثاً: رحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف. عباد الله! لما فشلت قريش في استعادة المسلمين من الحبشة، ورأت أن الناس يدخلون في دين الله، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأس هؤلاء حمزة ابن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، الذي ازداد المسلمون بإسلامهما فرحاً وعزة ومنعة، عزمت قريش على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! وحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - المكان الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر -يعني تحالفها على مقاطعة بني هاشم حتى يسلموا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه- فذكر أنه خيف بني كنانة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم - من الغد يوم النحر وهو بمنى: "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر". يعني بذلك المُحَصَّبَ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب؛ أن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم

النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). عباد الله! لما رأى أبو طالب إصرار قريش على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، جمع بني عبد المطلب ودعاهم إلى الدخول بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في شعب أبي طالب، ودعاهم أيضاً إلى أن يمنعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل من أراد قتله، فاجتمع على ذلك مؤمنهم وكافرهم، منهم من فعل ذلك حمية، ومنهم من فعل ذلك إيماناً ويقيناً. فلما رأت قريش أن بني هاشم وبني عبد المطلب دخلوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الشِّعب ليمنعوه ممن أراد قتله، اتفقوا فيما بينهم على مقاطعة عامة لبني هاشم وبني عبد المطلب، وأجمعوا أمرهم أن لا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، ولا ينكحوهم ولا ينكحوا منهم، حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه، وكتبوا ذلك في صحيفة، وعلقوها في جوف الكعبة، ومضى على ذلك ثلاث سنين، فجُهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه جهداً شاقاً، وأنهكهم الجوع، وهم في ذلك صابرون محتسبون، واثقون من أن الله -تعالى- جاعل لهم من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً. عباد الله! فلم تمض الثلاث سنين على هذا الحصار وهذه المقاطعة حتى فرق الله كلمة المشركين، وفرق جمعهم، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن سر هذه المقاطعة، وسبب هذا الحصار الذي فرضوه على بني هاشم وبني عبد المطلب، ونفعه وضرره، وماذا جنوا منه وماذا استفادوا، فاجتمع رجال من قريش على نقض هذه الصحيفة الظالمة. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1590)، ومسلم (رقم 1314).

عباد الله! خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الشعب، وقد أنهكهم الجوع، وأصابهم الضيق والشدة والبلاء، كل ذلك ببغي قريش وظلمها والله -عز وجل- يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله على قريش أن يصيبهم بمثل ما أصابهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم سبعٌ كسبع يوسف". أي سبع سنين جدباً، وفي رواية "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" (¬1). فأخذتهم سنة، محت كل شيء، حتى أكلوا أوراق الشجر والميتة والجيفة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى الدخان من شدة الجوع، فلم يجدوا بداً من أن يأتوا رسول - صلى الله عليه وسلم - ويسألونه أن يدعو الله ليفرج كربهم، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقوا الغيث ورفع الله ما نزل بهم. عباد الله! إنها أخلاق النبوة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إدباراً قال: "اللهم! سبع كسبع يوسف" فأخذتهم سنة، حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاء أبوسفيان، وناس من أهل (مكة)، فقالوا: يا محمَّد! إنك تزعم أنك بُعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقوا الغيث" (¬2). عباد الله! وما أن خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشعب حتى فاجأ المرض أبا طالب ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1007)، ومسلم (رقم 2798). (¬2) صحيح، انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 227).

عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان أبو طالب "يحوط النبي ويغضب له" (¬1)، "وينصره" (¬2)، وكانت قريش تحترمه. عباد الله! أبو طالب أشرف على الموت، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه للإسلام لعله يموت عليه، ولكن الهدى هدى الله. عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ دخل عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أي أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب! قال: فكان آخر كلمة أن قال: على ملة عبد المطلب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة:113 - 114]. وأنزل الله -عز وجل- قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56] (¬3). عباد الله! وهكذا مات أبو طالب على الكفر، وخرج من الدنيا على غير لا إله إلا الله، إلا أن الله تفضل عليه بما قدم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشفَّع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجه من أسفل النار إلى أعلاها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 6258). (¬2) رواه مسلم (رقم 209). (¬3) أخرجه البخاري (رقم 1360)، ومسلم (رقم 24).

عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح من النار" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو ينتعل نعلين يغلي منهما دماغه" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه" (¬3). ولكن لم يشفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج من النار؛ لأنه لا يخرج من النار من مات كافراً أبداً، وحرم الله الجنة على من مات كافراً أو مشركاً. عباد الله! مات أبو طالب، ولم تمض إلا أيام قلائل حتى ماتت الزوجة الوفية الأمينة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فحزن عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً، وظل يذكرها بعد موتها بكل خير، ويثني عليها أحسن الثناء، حتى أن عائشة -رضي الله عنها- غارت منها بعد موتها ولم ترها، من كثرة ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت خديجة، وما رأيتها قط ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يُقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (رقم 209). (¬2) رواه مسلم (رقم 212). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3885)، ومسلم (رقم 210).

في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران" (¬2). جبريل عليه السلام يقرئ خديجة السلام من ربها، ويبشرها بقصر في الجنة قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب" (¬3). عباد الله! مات أبو طالب على الكفر، وماتت خديجة على الإيمان، لتعلموا يا عباد الله! أن الموت حق على الجميع على المؤمن والكافر وعلى الكبير والصغير وعلى الغني والفقير وعلى القوي والضعيف فما من أحدٍ منَّا إلا وسيأتيه الموت ويخرج من هذه الدنيا، لكن هنيئاً لمن خرج على الإيمان والعمل الصالح، وخاب وخسر من جاءته المنية وهو على الكفر ومعصية الله. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3818)، ومسلم (رقم 2433). (¬2) صحيح رواه أحمد (2668). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3820)، ومسلم (رقم 2432).

وقال جبريل عليه السلام لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -: "يا محمَّد عش ما شئت فإنك ميت .. ". ابن آدم! لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها تردوا أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفدُ حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من وروده يوماً كما وردوا عباد الله! نسير إلى الآجال في كل لحظة ... وأيامنا تطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقاً كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاعل ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام وهن قلائل عباد الله! لما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغير البيئة، وأن يخرج بالدعوة من مكة إلى غيرها، لعله يجدُ من القبائل والعشائر من يقبل الدعوة، ويحميه حتى يبلغ رسالة ربه، فخرج إلى الطائف ماشياً يلتمس النصرة من ثقيف، رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله -عز وجل-، ولكنها لم تستجب له، وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقابل ذلك بالصبر والرضا وخرج عائداً إلى مكة، مهموماً حزيناً فبعث الله له ملك الجبال لينتقم منهم، فقابل الإساءة بالإحسان والعفو

والصبر، ولم يوافق ملك الجبال على هلاكهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (يعني عقبة الطائف)، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتامره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمَّد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ - جبلان بمكة-، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً" (¬1). إنها أخلاق النبوة، إنها الرحمة، ورجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، وكان بيده أن يتخلص من الكفار، وأن يستريح من شرهم، وأن يمسك هو الحكم ليقوم بما يريد، ولكن ليس بهذه الطريقة جاء الأنبياء إلى هذه الأرض، إنهم جاءوا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3231)، ومسلم (رقم 1795).

عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هذه الأحداث فهي: أولاً: المقاطعة العامة والحصار الاقتصادي، ومطاردة الناس في أرزاقهم؛ من أخلاق الكفرة من قديم الزمان وإلى يومنا هذا، ففي مكة فعلت قريش ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وحاصروهم في شعب أبي طالب، وإلى يومنا هذا الكفار يضربون الحصار الاقتصادي، والحظر على بلاد المسلمين، نقول للكفار في كل مكان: أرزاق العباد بيد الله وليست بايديكم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24] ونقول للكفار: إن الله -عز وجل- بفضله وكرمه ورحمته، لم يكل رزق العباد إلى غيره، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 22 - 23]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58]. وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. عباد الله! أيرزق الله الدواب والطيور وينسى الذين يقولون: لا إله إلا الله، أيرزق الله الكفرة الفجرة الذين يحاربون الله ويحاربون دينه وعباده، ويحرم الذين يعبدونه وينصرون دينه!! قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن ابن آدم هرب من الرزق كما يهرب من الموت، ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (1626).

لأدركه رزقه كما يدركه الموت" (¬1). ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله، لا ينال إلا بطاعته" (¬2). ثانياً: الرحمة والعفو والصفح من أخلاق رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فقد فعل الكفار ما فعلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولما دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبع كسبع يوسف واستجاب الله له فيهم، وجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه أن يدعو الله أن يرفع عنهم ذلك العذاب، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يغيثهم. وعندما اعتدى أهل الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، وجاء ملك الجبال يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره أن يطبق على الكفار الجبلين، رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئاً" إنها أخلاق النبوة .. كيف لا والله -عز وجل- يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ثالثاً: على الدعاة أن يصبروا على دعوتهم وعلى إيذاء الناس لهم، فلا بأس ولا قنوط من إسلام الكفرة والفجرة، ولا من توبة العصاة الفسقة، ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (5116). (¬2) صحيح بشواهده، انظر "صحيح الجامع" (2081).

فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكم من رجل خرج ليلاً ليقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أصبح إلا وهو من أتباعه، فلا يجوز للداعي أن ييأس من الناس، ولا يجوز أن يقنط من الناس، فالله -عز وجل- هو الهادي، والداعي ما عليه إلا البيان، وأجره على الله. رابعاً: جليس السوء يضر صاحبه في الحياة الدنيا، وعند الموت، ويوم القيامة، فقد تبين لكم أن جليس السوء -وهو أبو جهل- قد أضر بصاحبه عندما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" فقال له أبو جهل: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فخرج الرجل من الدنيا على ملة عبد المطلب -على الكفر- وهكذا الجليس السوء. ولكن إذا جلس الجليس الصالح عند صاحبه عند الموت قال له: (قل لا إله إلا الله) فيقولها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (¬1). اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار. ¬

_ (¬1) حسن، انظر "أحكام الجنائز" (ص 48).

الخطبة التاسعة عشرة: الإسراء والمعراج

الخطبة التاسعة عشرة: الإسراء والمعراج عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الإسراء والمعراج. عباد الله! الإسراء والمعراج كان مكافأة ربانية، ومواساة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الحصار الظالم الذي استمر ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، وبعد وفاة الناصر الحميم أبي طالب، والزوجة الوفية الأمينة خدبجة -رضي الله عنها-، وبعد رحلة الطائف الأليمة. فكانت هذه الرحلة الربانية، التي أكرم الله -تبارك وتعالى- فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليُذهب عن صدره الآلام والأحزان. عباد الله! الإسراء: هو ذهاب الله -تبارك وتعالى- بنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، راكباً على البراق، من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى في القدس، في جزء من الليل ثم رجوعه من ليلته. والمعراج: هو صعود الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من المسجد الأقصى في تلك الليلة، بعد إسرائه إلى السموات العلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم رجوعه إلى بيت المقدس في تلك الليلة. عباد الله! حادث الإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة. ففي كتاب ربنا، ذكر الله تعالى الإسراء وحكمته بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1].

- ويستفاد من هذه الآية ما يلي-: أولاً: بدأ الله الآية بـ (سبحان) لأن من قدر على هذا فهو مستحق للتنزيه والتقديس. ثانياً: في ذكر العبد في هذا المقام تشريفٌ، ولذلك وصف الله رسوله بالعبودية في أشرت المقامات: ففي مقام التنزيل قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1]. وفي مقام الدعوة قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19]. وفي مقام التحدي قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وفي مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]. وفي ذكر العبد في هذا المقام أيضاً تحذير أن يتخذ الإسراء ولسيلة لرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الإطراء والغلو حتى لا يقع الناس في الشرك، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" (¬1). ثالثاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بمكة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3445).

وسمى حراماً لحرمته وهو أول بيت وضع في الأرض، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} بفلسطين: وسمى بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، وهو ثاني بيت بني لله في الأرض، سئل - صلى الله عليه وسلم -: "أي بيت وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قيل: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة" (¬1). رابعاً: وفي قوله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فالمسجد الأقصى مبارك، والأرض التي حوله مباركة، وهي بركات دينية ودنيوية. خامساً: وفي قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تلك هي حكمة الإسراء، لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلته؛ ما أذهب عن صدره الآلام والأحزان والروع والخوف، وليربط على قلبه وليثبت فؤاده، وليكون من المؤمنين أن الله معه ولن يتخلى عنه، وأن الله ناصره. عباد الله! وفي كتاب ربنا ذكر الله قصة المعراج وثمرته في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ} يعني جبريل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 13 - 18]. فالإسراء والمعراج ثابت في كتاب ربنا. وكان بالروح والجسد وفي اليقظة لقوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} والعبد لا يكون إلا بالروح والجسد، ولقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} والبصر ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3366)، ومسلم (رقم 520).

يكون في الجسد. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كذبتني قريش قمت في الحجر فَجَلَّى الله ليَ بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته" (¬1). فلو أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بأنها رؤيا رآها لما اختبروه بالسؤال عن آياته وعلاماته. عباد الله! والإسراء والمعراج ثابت في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فتعالوا بنا لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا خبر الإسراء والمعراج. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري ثم غسله بماء زمم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه" (¬2). عباد الله! بعد أن فرغ جبريل عليه السلام من عملية شق الصدر وغسله ولأمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الإسراء من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى على البراق. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتيت بالبراق -وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه تحية المسجد ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة" (¬3). عباد الله! ومن هناك من المسجد الأقصى بدأت رحلة المعراج فعُرج ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4710). (¬2) رواه البخاري (رقم 3342). (¬3) رواه مسلم (رقم 162).

بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، من المسجد الأقصى، إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء الله. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبربل فقيل: من أنت؟ قال: جبربل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل: من أنت؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- فرحبا بي ودَعَوا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل عليه السلام: من أنت؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام وقد أعطى شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير. قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]. ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل قيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون - صلى الله عليه وسلم - فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل:

من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى، تغيرت فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فأوحى الله إلى ما أوحى، ففرض علي، خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي، فحط عني خمساً، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً. قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي -تبارك وتعالى- وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمَّد! إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت

له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه" (¬1). عباد الله! وهكذا كان الإسراء والمعراج- تلك الرحلة العجيبة- تم في جزءٍ من الليل، وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من رحلته والناس نيام لم يشعر أحدٌ بذلك. عباد الله! كفار مكة وخبر الإسراء والمعراج. الذين كذبوا أن يقع وحيٌ على الأرض أتراهم يصدِّقون به في السماء؟ تعالوا بنا يا عباد الله! لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا عن حال قريش عندما وصلهم الخبر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعْتُ بأمري وعرفتُ أن الناس مكذِّبيَّ"، قال: فقعد معتزلاً حزيناً، فمرَّ به عدوُّ الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمُستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال: ما هو؟ قال: "إنه أُسري بي الليلة". قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم". قال: فلم يُره أنه يُكذِّبه، مخافه أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 162).

قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. فانتفضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما. قال (أي أبو جهل): حدث قومك بما حدَّثتني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم". قال: فمن بين مُصَفِّق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب زعم! قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد، ورأى المسجد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذهبت أنعتُ، فما زلت أنعتُ حتى التبس عليَّ بعض النعت". قال: "فجيء بالمسجد وأنا انظر حتى وضع دون دار عِقالٍ -أو عقيل- فنعتُّه، وأنا أنظر إليه". فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب" (¬1). ¬

_ (¬1) إسناده حسن، "مسند الإِمام أحمد" رقم (2819 - ط المؤسسة)، و"فتح الباري" (7/ 239).

المعجزة الأولى

ومع ذلك ما زادهم ذلك إلا نفوراً. عباد الله! وفي هذا الحديث معجزات للنبي - صلى الله عليه وسلم -: المعجزة الأولى: رفع الله المسجد الأقصى من بيت المقدس في فلسطين، وجاء به ووضعه في مكة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ينظر إليه قريباً من دار عِقال أو عقيل. المعجزة الثانية: أن النبي وحده هو الذي يرى المسجد الأقصى دون كل من حوله من الناس. المعجزة الثالثة: بعد أن انتهت المهمة رد الله المسجد الأقصى مكانه حيث كان أولاً {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: 20]. فهذا سليمان عليه السلام، لما طلب عرش بلقيس أن يأتيه من اليمن إلى بيت المقدس {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 38 - 40]. فالله على كل شيء قدير، وإذا أراد أمراً أن يقول له كن فيكون، فالله يكرم أوليائه وأنبيائه بما شاء من الكرامات والمعجزات. عباد الله! وكفار مكة بعد ما سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النعت وقالوا: "أما النعت فوالله لقد أصاب". ما زادهم ذلك إلا نفوراً وأبى الظالمون إلا كفوراً فانطبق عليهم قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا

أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر: 2 - 5]. فإذا كان هذا حالهم يقول الله- عز وجل- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} واتركهم ليوم عظيم: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر: 6 - 8]. عباد الله! أبو بكر الصديق وخبر الإسراء والمعراج. أما أبو بكر الصديق عندما وصله الخبر ماذا قال: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما أُسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه؟ وسعوا بذلك إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحه، فلذلك سُمي أبو بكر: الصديق" (¬1). أمة الإِسلام! الإسراء والمعراج فيها دروس وعظات وعبر عظيمة فما هي ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" رقم (306).

العظات والعبر التي تؤخذ من حادث الإسراء والمعراج؟ هذا ما سنعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى-. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة العشرون: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من الإسراء والمعراج

الخطبة العشرون: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من الإسراء والمعراج عباد الله! موعدنا في هذا اليوم- إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس والعظات والعبر؛ التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج. عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أنه أسري برسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء الله -تبارك وتعالى- وقد فرض الله -تبارك وتعالى- على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، وقد رأى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - من آيات ربه الكبرى، ثم عاد إلى المسجد الأقصى، ثم إلى المسجد الحرام في نفس الليلة، وكان ذلك بالروح والجسد، وفي اليقظة لا في المنام، وقد تبين لنا أن الإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة. أمة الإسلام! قصة الإسراء والمعراج فيها دروس وعظات وعبر كثيرة جداً منها: أولاً: أهمية المسجد الأقصى في الإِسلام. عباد الله! إذا كنتم قد نسيتم المسجد الأقصى فها نحن نذكركم به؛ المسجد الأقصى هو ثاني مسجد وضع في الأرض؛ لعبادة الله وتوحيده. سئل - صلى الله عليه وسلم -: أي بيت وضع في الأرض أول؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسجد الحرام" قيل: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قيل: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة" (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3366)، مسلم (رقم 520).

المسجد الأقصى رفع بناءه وجدده سليمان بن داود عليهما السلام: عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بني بيت المقدس -أي المسجد الأقصى- (وفي رواية: لما فرغ من بناء مسجد بيت المقدس)، سأل الله -عز وجل- خلالاً ثلاثة .. " الحديث (¬1). الشاهد منه يا عباد الله! أن الذي رفع بناء المسجد الأقصى وجدده؛ هو سليمان بن داود عليهما السلام. المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى. عن البراء - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت .. " الحديث (¬2). فكان - صلى الله عليه وسلم - يقلب وجهه في السماء، يرغب، ويسأل ربه أن يحول قبلته إلى المسجد الحرام، فاستجاب الله له، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. أمة الإسلام! المسجد الأقصى مسجد مبارك، بارك الله فيه وحوله من بركات الدنيا والدين، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ ¬

_ (¬1) "صحيح سنن النسائي"، (رقم 669)، "صحيح ابن ماجه" (رقم 1408). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 40)، ومسلم (رقم 525).

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)} [سبأ: 18]. المراد بها المسجد الأقصى. فهذه البلاد المباركة المقصود منها، هي، بيت المقدس، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يردها للمسلمين من أيدي إخوة القردة والخنازير. أمة الإسلام! الصلاة في المسجد الأقصى فضلها عظيم. عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بني بيت المقدس سأل الله -عز وجل- خلالاً ثلاثة: سأل الله -عز وجل- حُكماً يُصادفُ حكمه فأُوتيه، وسأل الله -عز وجل- ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأُوتيه، وسأل الله -عز وجل- حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحدٌ لا ينهزهُ -أي يدفعه- إلا الصلاةُ فيه، أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمة (وفي رواية: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا اثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة" (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل، مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس؟. ¬

_ (¬1) مضى قريباً.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو .. " الحديث (¬1). فتكون الصلاة في المسجد الأقصى بمئتين وخمسين صلاة. أمة الإسلام! أنسيتم المسجد الأقصى! هو مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه عرج به إلى السماء. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ... ثم ربط البراق في الحلقة التي تربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت تحية المسجد ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن فاخترت اللبن، فقال جبربل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء .. " الحديث أي عرج من المسجد الأقصى إلى السماء، وفي هذه إشارة أنه كما أن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فهذه بشرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمين إلى يوم القيامة بأن قيادة البشرية ستنتقل من أيدي بني إسرائيل؛ لأنهم عصوا الله وملأوا الأرض غدراً وخيانة، ستنتقل إلى الأمة الإِسلامية، بقيادة رسولها - صلى الله عليه وسلم - وقد فتحت الأمة الإِسلامية الدنيا من مشرقها إلى مغربها، لما كانوا متمسكين بدينهم، وبسنة رسولهم لكن لما انشغلوا بالدنيا وحطامها فقد ضيعوا الدنيا والبلاد من مشرقها إلى مغربها، ولذلك، نقول إذا أردتم يا أمة الإِسلام أن يعود الأقصى إليكم وتحرروا أرضكم من الكفار ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (2902).

ثانيا: أهمية الصلاة في الإسلام.

فعليكم أن تعودوا إلى دينكم وأن تتمسكوا بدينكم وسنة نبيكم، إن فعلتم ذلك نصرتم الله في أنفسكم وإن نصرتم الله في أنفسكم نصركم الله على عدوكم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. أمة الإِسلام! المسجد الأقصى من المساجد التي تشد لها الرحال. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي" (¬1). وشد الرحال تكون للصلاة في هذه المساجد أو الاعتكاف فيها، أما شد الرحال إلى الأضرحة والقبور والأولياء، فهذا حرام ولا يجوز في شريعة الإِسلام. عباد الله! ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من الإسراء والمعراج. ثانياً: أهمية الصلاة في الإِسلام. أمة الإِسلام! الصلاة، الصلاة، فلأهميتها فرضها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هناك فوق السموات، بعد سدرة المنتهى مباشرة وبدون واسطة. عباد الله! الصلاة هي عمود الدين الذي لا يقوم إلا به. قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: "ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده وذِرْوة سنامه" قلت: بلى يا رسول الله قال: "رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" (¬2) ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1197)، ومسلم (رقم 827). (¬2) "رياض الصالحين" رقم (1530) تحقيق الألباني.

الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت، فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر" (¬1). الصلاة هي آخر وصية وصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، فقال - صلى الله عليه وسلم - في أنفاسه الأخيرة: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم". الصلاة هي آخر ما تبقى لنا من ديننا، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى" (¬2). الصلاة تجارة رابحة، يقول رب العزة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29]. الصلاة تمحو الذنوب والخطايا، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؟ ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" رقم (1088) الألباني. (¬2) "صحيح الجامع" (2572). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 528)، ومسلم (رقم 667).

قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (¬1). الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. الصلاة سبب للتمكين في الأرض، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 41]. الصلاة سبب لنزول الرحمة على العباد، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. الصلاة سبب لدخول الجنة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .. } إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11]. أولى هذه الصفات الذين هم في صلاتهم خاشعون، وآخر هذه الصفات، والذين هم على صلواتهم يحافظون. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 251).

ثالثا: التحذير من الغيبة والخوض في أعراض المسلمين، وأكل لحوم الأبرياء

أمة الإِسلام! ومع ذلك فقد ضيع الكثير من الناس الصلاة. أنسي هؤلاء الذين ضيعوا الصلاة أن من أول أسباب دخول النار ترك الصلاة، قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 42 - 43]. أنسي الذين تركوا الصلاة أن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (¬2). أمة الإِسلام! اتقوا الله في الصلاة، فإنكم ستسألون عنها يوم القيامة. عباد الله! من الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج. ثالثاً: التحذير من الغيبة والخوض في أعراض المسلمين، وأكل لحوم الأبرياء: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبربل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" (¬3). عباد الله! الذين يغتابون المسلمين، ويأكلون لحوم الأبرياء في مجالسهم، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 282). (¬2) "رياض الصالحين" رقم (1086)، تحقيق الألباني. (¬3) "رياض الصالحين" رقم (1534) تحقيق الألباني.

هذا عذابهم في حياة البرزخ جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً، فليتق الله كل منا في لسانه؛ لأن اللسان إذا أُطلق في أعراض المسلمين أدخل صاحبه النار قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47]. أي: كنا في الدنيا نخوض بألسنتنا بالباطل وأكل لحوم الأبرياء وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله إن فلانة تُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها" -أي النافلة- "ولكنها تؤذى جيرانها بلسانها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هي في النار". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن فلانة تُذكر من قلة صلاتها وصيامها وصدقتها، ولكنها لا تؤذى جيرانها بلسانها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هي في الجنة". وعن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه" فبعد أن أخبره ودله على أبواب الخير. قال - صلى الله عليه وسلم - له: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله". قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: "كف عليك هذا". قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا

حصائد ألسنتهم؟ " (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - للرجل عندما سأله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك؟ " (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" (¬3). وقال رجل يا رسول الله! أي المسلمين أفضل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬4). وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين يأكلون لحوم الناس بألسنتهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته" (¬5). فاتقوا الله يا معشر المسلمين في ألسنتكم وأمسكوها عن أعراض المسلمين، وعن الغيبة، فإنكم راجعون إلى الله وموقوفون بين يديه، وسائلكم عن ألسنتكم. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. عباد الله! ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" رقم (1530) تحقيق الألباني. (¬2) "رياض الصالحين" رقم (1528) الألباني. (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6018)، ومسلم (رقم 47). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 11) ومسلم (رقم 42). (¬5) "صحيح الجامع" (7861).

رابعاً: التحذير من خطباء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، والذين يدعون الناس إلى كل شر الذين يدعون الناس إلى الشرك والبدع والخرافات، الذين يدعون الناس إلى الحزبية البغيضة التي فرقت الأمة، الذين يحرضون المسلمين على ولاة أمرهم ليفسدوا في الأرض. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ليلة أسري بي- رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب؛ أفلا يعقلون؟! (¬1). فهذا الخطيب الذي يقول للناس هذا حرام ثم يفعله، ويقول لهم هذا حلال ولا يفعله، خطيب السوء الذي يأمر بالبر وينسى نفسه، يأمر الناس بالحجاب وينسى امرأته وابنته، يأمر الناس أن يبتعدوا عن البنوك ويضع ماله في البنوك، يأمر الناس بالمحافظة على الصلاة وهو يضيع الصلاة، يحذر الناس من الكذب وهو يكذب، يحذر الناس من الغيبة والنميمة وهو واقع فيها هذا خطيب لا عقل له، قال رب العزة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44]. ونقول لهذا الخطيب: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني رحمه الله حديث حسن انظر كتاب "الإسراء والمعراج" ص (52).

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم والله سبحانه وتعالى يمقت ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3]. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب الذي يقول للناس ويخالف بفعله ما يقول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (¬1). أمة الإِسلام! خطباء السوء "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" (¬2). فاحذروهم يا عباد الله!. فهذا حذيفة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3267)، ومسلم (رقم 2989). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3606)، ومسلم (رقم 1847). (¬3) متفق عليه، قطعة من الحديث الذي قبله.

فيا أمة الإِسلام! فوالله إني لكم لناصح أمين، فإن وجدتم المنابر قد صعد إليها الخطباء الذين يدعون إلى الحزبية البغيضة، ولا هم لهم إلا أن يحرضوا الناس على ولاة الأمر، ويجعلون بلاد المسلمين بركة من الدماء، فاحذروهم، وارجعوا إلى عقيدة التوحيد وإلى منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ما كان عليه الصحابة، كما قال ربنا -جل وعلا-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة" قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليه بالنواجذ" (¬2). أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المتبعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) حسن بشواهده. (¬2) صحيح، أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676).

الخطبة الحادية والعشرون: بيعة العقبة

الخطبة الحادية والعشرون: بيعة العقبة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن بيعة العقبة الأولى والثانية. أمة الإِسلام! تكلمنا في الجمعة قبل الماضية أنه أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج برسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء الله، وهناك فرض الله -تبارك وتعالى- على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته خمس صلوات في اليوم والليلة، وقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) -في رحلة المعراج- من آيات ربه الكبرى، ورأى - صلى الله عليه وسلم - في رحلته قوماً لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلته قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، فلا يعقلون؟! " وقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من رحلة الإسراء والعراج: أولاً: منزلة الأقصى في الإِسلام. ثانياً: منزلة الصلاة في الإِسلام. ثالثاً: التحذير من إطلاق اللسان في أعراض المسلمين، ومن أكل لحوم الأبرياء.

رابعاً: التحذير من خطباء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون بخلاف ما يقولون، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون. عباد الله! رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رحلة الإسراء والمعراج قرير العين، منشرح الصدر، مطمئن القلب، عازماً على مواصلة الدعوة إلى الله، واثقاً من أن الله ناصره، ومظهر دينه. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9]. عباد الله! لم يدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرصة للاجتماع بالناس وتبليغهم الدعوة - وخاصة في موسم الحج عندما تقبل القبائل إلى مكة-، وكان مما خاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في الموقف: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي -عز وجل-؟! " (¬1). عباد الله! "لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج قال: من موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإِسلام وتلا عليهم القرآن .. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام. ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (3960).

وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك. فسنُقدم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك!! ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا" (¬1). عباد الله! لما رجع هؤلاء إلى المدينة ذكروا لقومهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإِسلام، وفشا فيهم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تبق دارٌ إلا دخلها الإِسلام، حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا- فيهم الستة الذين كلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموسم السابق- وعزموا على الاجتماع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة- بمنى- وعقد معهم بيعة (وهي بيعة العقبة الأولى). عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، قال فبايعناه على ذلك" (¬2). عباد الله! لما عزم القوم على العودة إلى المدينة، بعث معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأمره أن يُقرئهم القرآن ويعلمهم الإِسلام، ويفقههم في الدين. ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني: إسناده حسن انظر "فقه السيرة" (ص 145). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 18)، ومسلم (رقم 1709).

فقام مصعب - رضي الله عنه - بمهمته خير قيام، يدعو الناس إلى عبادة الله بالحكمة والموعظة الحسنة، متذرعاً بالحلم والصبر الذي تعلمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتشر الإِسلام في المدينة وغيرها على يديه - رضي الله عنه -. وقبل حلول موسم الحج التالي عاد مصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى مكة، ليبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتشار الإِسلام ويخبره بحصيلة دعوته في ذلك العام. وكأنه يقول له: يا رسول الله إن المدينة تتهيأ لاستقبالك أنت ومن معك من المسلمين. إخوة الإِسلام! ولما انتشر الإِسلام في المدينة، واطمأن المسلمون المهاجرون بين إخوانهم الأنصار، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يُلاقي عنت قريش وأذاها الذي كان يشتد على مر الأيام، قدم وفد الأنصار في موسم الحج فبايعوا بيعة العقبة الثانية. وممن حضر هذه البيعة جابر بن عبد الله الأنصاري، وهو يخبرنا الخبر: عن جابر - رضي الله عنه - قال: "مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى؛ يقول: "من يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر -كذا قال- فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش؛ لا يفتنك. ويمشي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع؛ حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإِسلام، ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا،

فقلنا: يا رسول الله! نبايعك؟ قال: (فذكر الحديث). قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ بيده ابن زرارة -وهو من أصغرهم- فقال: رويداًَ يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُيَيْنة، فبينوا ذلك؛ فهو عذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا سعد! فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نسلبها أبداً. قال: فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة" (¬1). وتمت البيعة، وبايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطاعة والنصرة والحرب لذلك سماها عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: بيعة الحرب، وممن حضر هذه البيعة كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - وهو أحد المبايعين في بيعة العقبة الثانية يخبرنا عما حدث في هذه الييعة. عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: "خرجنا في حجاج قومنا من المشركين .. ، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة من أوسط أيام التشريق .. وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا .. فقمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا .. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أحمد (3/ 322 - 323) وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/ 263)، إسناده جيد، وقال الألباني في "الصحيحة" (63)، إسناده صحيح على شرط مسلم.

جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب -وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له- فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعه في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه .. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإِسلام ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر". فقاطعه أبوالهيثم بن التيهان متسائلاً: "يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم" ثم قال: أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس .. وقد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم الانصراف إلى رحالهم فقال رجلٌ منهم: والذي بَعَثَك بالحق لئن شئتَ لنميلن عن أهل منى غداً بأسيافنا؟

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم" فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعوتهم له للهجرة فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم" (¬1). وهكذا مرت البيعة بسلام، وعاد الأنصار إلى المدينة ينتظرون هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بتلهف كبير. عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من بيعة العقبة الأولى والثانية: أولاً: النصر مع الصبر، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "واعلم أن النصر مع الصبر"، فإن صبرنا نصرنا الله، فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه في مكة صبروا على إيذاء قريش، وصبروا على ما لاقوا من أعداء الدين ابتغاء مرضات الله فجعل الله لهم مخرجاً، ونصرهم الله بالأنصار، فبعد أن أغلق أهل مكة قلوبهم عن الدين فتح الله قلوب أهل المدينة لهذا الدين، وبعد أن أبى أهل مكة أن يبقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع لهذا الدين فقد فتح الله -تبارك وتعالى- المدينة على مصراعيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي يحمل هذا الدين. فمهما ضيق الكفار على المسلمين، فوالله الذي لا إله إلا هو فإن الله تبارك وتعالى سيجعل للمؤمنين مخرجاً، إن هم عادوا إلى الله وصدقوا مع ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "المسند" (3/ 460 - 463). وقال الألباني في تحقيقه "فقه السيرة": "وهذا سند صحيح".

الله، وعادوا إلى دينهم، وطلبوا العزة بالإِسلام فإن طلبنا العزة بالإسلام أعزنا الله، وإن طلبنا العزة بغير الإِسلام أذلنا الله. كما قال الفاروق عمر - رضي الله عنه - "كنا أذلاء فأعزنا الله بالإِسلام، فلو ابتغينا العزة بغير الإِسلام أذلنا الله" فاصبروا على البلاء، وعودوا إلى الله، واعلموا أن الله تبارك وتعالى ينصر مع الصبر، وإياكم ودعاة الاستعجال الذين يورطون الأمة في بركة من الدماء، فإن الله نهى عن الاستعجال فقال: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لخباب: "ولكنكم تستعجلون". ثانياً: أن المستقبل لهذا الدين: فقد أخبر الله -تبارك وتعالى- في كتابه، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته، أن المستقبل لهذا الدين، وأنه ما من مكان في هذه الدنيا تطلع عليه الشمس إلا وسيدخله الإِسلام، وما من بيت شجر ولا مدر إلا وسيدخله الإِسلام ولو كره الكافرون، ولو تزمجر المنافقون فالمستقبل للإسلام. ثالثاً: أن السر في النجاح في الدعوة إلى الله هو الإخلاص. الإخلاص هو سر النجاح، فإن أرادت الأمة أن تنجح في دعوتها لهذا الدين فعليها بالإخلاص لله تبارك وتعالى، فها هو مصعب بن عمير - رضي الله عنه - كان مخلصاً ضرب لنا مثلاً أعلى في ذلك، فاستجاب لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب إلى المدينة يدعو لهذا الدين بالليل والنهار، فما من بيت في المدينة إلا ودخله الإِسلام بفضل الله -تبارك وتعالى-، ثم بالجهود العالية العظيمة التي بذلها

مصعب، فكان يجلس في المكان يدعو لهذا الدين يأتيه الرجل من المدينة يحمل حربته يريد أن يقتله فما أن يجلس ويسمع الكلام منه ودعوته بالحلم واللين إلا وهو يقوم وقد شهد "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، إنها الحكمة والحلم في الدعوة والصبر على الناس، وكيف لا وقد تعلم مصعب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

الخطبة الثانية والعشرون: هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة

الخطبة الثانية والعشرون: هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاءٍ جديدٍ من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن هجرة الصحابة - رضي الله عنهم - إلى المدينة. عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن بيعة العقبة الأولى والثانية، وفي بيعة العقبة الثانية بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة والنصرة والحرب، فعندما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" (¬1) قالوا له: "نعم والذي بعثك بالحق، لنمعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر" (¬2). وعندما قالوا له: يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) مضى تخريجه.

عباد الله! لما تمت بيعة العقبة الثانية، وعاد القوم إلى المدينة ينتظرون هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إليهم بتلهف كبير؛ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالهجرة إلى المدينة واللحوق بالأنصار، فخرجوا أرسالاً -أي جماعات- عباد الله! وكانت الهجرة إلى المدينة بوحي من الله تعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي -أي ظني- إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب" (¬1). وقالت عائشة - رضي الله عنها-: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: "وإني أريت دار هجرتكم، سبخة، ذات نخل بين لابتين- وهما الحرَّتان-". فهاجر من هاجر قِبلَ المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلك يا أبا بكر، فإني أرجوا أن يؤذن لي"، فقال أبو بكر: أترجوا ذلك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: "نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السَّمر أربعة أشهر" (¬2). وذلك استعداداً لهجرة النبي من مكة إلى المدينة. عباد الله! عندما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، طاروا إليها زرافات ووحدانا، يحثهم الشوق إلى أرض أمن وأمان، يعبدون فيها ربهم، ويجهرون بصلاتهم، ويأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، فلما رأت قريش ¬

_ (¬1) متفق عليه رواه البخاري (رقم 7035)، ومسلم (رقم 2272). (¬2) رواه البخاري (رقم 2297).

الديار في مكة خلت، والمسلمين هاجروا إلى المدينة، سعت بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين، مرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، ولكنه يهاجر فالدين عنده أغلى من كل شيء، ومرةً بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرةً بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة، لكن شيئاً من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة، فالمهاجرون كانوا على أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة. عباد الله! وهذه أمثلة أضعها بين أيديكم لتعلموا الصعوبات التي كانت أمام المسلمين عندما هاجروا من مكة، ومع ذلك هاجروا فراراً بدينهم وطاعة لربهم، فالدين عندهم أغلى شيء، فهذا أبو سلمة - رضي الله عنه - أخذوا منه زوجته وابنه ليمنعوه من الهجرة فلم يمنعه ذلك من الهجرة إلى المدينة فراراً بدينه الذي هو أغلى من كل شيء. فتعالوا بنا عباد الله! لنستمع إلى أم سلمة - رضي الله عنها- وهي تخبرنا الخبر، تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رَحَلَ لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة (وهم أصهاره) قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ورهط أبي سلمة. قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: فَفُرِقَ بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس

بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أُمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي -أحد بني المغيرة- فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة؛ فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت قالت: وردّ بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. وما معي أحد من خلق الله قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان ابن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا قال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه. كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعاً إلى مكة.

فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإِسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة. وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة" (¬1). الشاهد يا عباد الله! أن ننظر إلى الصعوبات التي تغلب عليها المسلمون، وهاجروا من مكة إلى الدينة فراراً بدينهم. عباد الله! وهذا صهيب الرومي - رضي الله عنه - لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم ما لي. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ربح صهيب، ربح صهيب" (¬2). فانظروا عباد الله!، ضحى صهيب بماله كله ليفر بدينه الذي هو أغلى من كل شيء قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة: 207]. عباد الله! وهذا مثال ثالث يبين الأساليب التي اتخذتها قريش لمنع المسلمين من الهجرة إلى المدينة. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "اتعدت (أي تواعدت) - لما أردنا الهجرة إلى المدينة- أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص التناضب من إضاءة ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (1/ 469 - 470)، وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (1/ 202 - 204). (¬2) قال الألباني: حديث صحيح "فقه السيرة" (ص 157).

بني غفار فوق سرف (وهو مكان معروف بالقرب من مكة) وقلنا أينا لا يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء. وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة- وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما- حتى قدما علينا المدينة- ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة- فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرقَّ لها. فقلت له: يا عياش! إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم .. فقال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، ذلك نصف مالي ولا تذهب معهما. فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما. فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول. فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما. حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى

قال: فأناح وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عَدَوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة؛ قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ أنزل الله- تعالى- فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزمر: 53 - 55]. قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال: فقال هشام: فلما أتتني خرجت بها إلى ذي طوى (واد بمكة) أُصَعِّدُ فيها النظر وأُصَوِّبه لأفهمهما، حتى قلت: اللهم فهمنيها؟ قال: فألقى الله -تعالى- في قلبي، أنها إنما أُنزلت فينا، وفيما كنا نقول لأنفسنا، ويقال فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). عباد الله! حيل، عراقيل، صعوبات، وضعتها قريش أمام المهاجرين المسلمين من مكة إلى الدينة، ومع ذلك هاجروا فراراً بدينهم، فالدين عندهم أغلى شيء. عباد الله! هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون في مكة يفعلونه بمن يريد ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (1/ 474) بإسناد حسن لذاته انظر "السيرة النبوية الصحيحة" (ص 204 - 206).

الهجرة من المسلمين، ومع ذلك خرج المسلمون من مكة أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً، ولم يبق بمكة أحد من المسلمين إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعلي أقاما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره وحبس قوم كرهاً؛ حبسهم قومهم، فكُتب لهم أجر المهاجرين بما كانوا عليه من حرصهم على الهجرة. عباد الله! المسلمون من المهاجرين والأنصار في المدينة ينتظرون هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم بتلهف كبير. والرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة ينتظر متى يؤذن له بالهجرة فيهاجر إلى المدينة. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجمعنا بكم مع نبينا في جنات النعيم. عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هجرة الصحابة- رضي الله عنهم- من مكة إلى المدينة فهي كثيرة جداً منها: أولاً: على المسلم إذا ضُيقَ عليه في بلد ما ولم يتمكن من عبادة ربه، أن يهاجر إلى بلد آخر ليتمكن من عبادة ربه، فالدين أغلى من كل شيء، فقد هاجر الصحابة - رضي الله عنهم - من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم. قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} [النحل: 110]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 97 - 99].

ثانياً: الصحابة - رضي الله عنهم - جيل فريد اختارهم الله لنصرة نبيه ولنصرة دينه؛ الأنصار في المدينة قدموا الأرواح والأموال رخيصة في سبيل هذا الدين العظيم؛ والمهاجرون تركوا الأموال والديار والأهل من أجل هذا الدين العظيم، ولذلك قال الله تعالى في وصفهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8 - 9]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (¬1). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمَّد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون عن دينه" (¬2). وقال الإِمام الطحاوي في "عقيدته": "ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم. وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2540). (¬2) قال الشيخ الألباني في التعليق على "شرح العقيدة الطحاوية" (ص470): "حسن موقوفاً". (¬3) "شرح العقيدة الطحاوية" (ص 467).

ثالثاً: النجاة والسلامة في اتباع الصحابة - رضي الله عنهم- وسلوك منهجهم قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة" قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: "هي التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" (¬2). اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (رقم 2157). (¬2) "شرح العقيدة الطحاوية" (ص 383).

الخطبة الثالثة والعشرون: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة

الخطبة الثالثة والعشرون: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاءٍ جديدٍ من سيرة الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. عباد الله! الهجرة من مكة إلى المدينة كانت بوحي من الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي -أي ظني- إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب" (¬1). عباد الله! بعدما تحدد المكان الذي يُهاجر إليه؟ أذن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أفراداً وجماعات، وتغلبوا على جميع الصعوبات التي واجهتهم. عباد الله! وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين؛ إلا من حبس أو فتن؛ إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر -رضي الله عنهما-. وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلك يا أبا بكر، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: أترجو ذلك يا رسول الله بأبي أنت؟ قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر أربعة أشهر (¬2) ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3622)، ومسلم (رقم 2272). (¬2) رواه البخاري (رقم 2297).

إستعداداً للهجرة من مكة إلى المدينة. عباد الله! رأت قريش أن الديار قد خلت من أهلها، وأن المسلمين قد تركوا مكة مهاجرين إلى المدينة، تاركين ديارهم وأموالهم، وشعرت قريش أيضاً بأن الإِسلام أضحت له دارٌ يأرز إليها، وحِصنٌ يحتمي به، وتوجست خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلمت قريش أيضاً أن محمداً لا بد أن يدرك أصحابه اليوم أو غداً، فاجتمعوا في دار الندوة ليتخذوا قراراً حاسماً في هذا الأمر. فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ويشد وثاقه ويرمى به في السجن لا يصله منهم إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت، ورأى آخر أن ينفي من مكة فلا يدخلها وتنفض قريش يديها من أمره، وقد استُبعِدَ هذان الاقتراحان لعدم جدواهما واستقر الرأي على الاقتراح الذي أبداه أبو جهل. قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم نعطي كل فتى سيفاً صارماً، ثم يضربونه جميعاً ضربة رجل واحدٍ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلِّها، ولا أظن أن بني هاشم يقوون على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها. ورضي كفار مكة بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم، وانصرفوا ليقوموا على تنفيذ هكذا القرار الجائر الغادر. وقد أخبرنا الله في كتابه عن هذا الاجتماع، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ

الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30] (¬1). عباد الله! لما أجمع كفار مكة على قتله - صلى الله عليه وسلم -، أوحى الله -تبارك وتعالى- إليه بالإذن في الهجرة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيته إلى بيت أبي بكر - رضي الله عنه - ليخبره بذلك. تعالوا بنا لنستمع إلى عائشة -رضي الله عنها- وهي تخبرنا الخبر، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً- في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخْرِجْ مَنْ عِندَك. فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال - صلى الله عليه وسلم -: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال أبو بكر: فخذ- بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بالثمن"، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق" (¬2). إخوة الإِسلام! وتواعدا أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، فيمكثا ثلاث ليال ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" مع "الروض الأنف" (2/ 221 - 223). (¬2) رواه البخاري (رقم 3905).

وذلك من تمام إحكام الخطة، ورجاء النجاة والسلامة، ذلك أن قريشاً تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجر إلى المدينة فإذا فقدته ستطلبه جهة المدينة- في الشمال- فخرج - صلى الله عليه وسلم - أول ما خرج جهة الجنوب، جهة اليمن مخالفاً تماماً الطريق الذي قصده، حتى إذا خرجت قريش من جهة المدينة فلم تدركه علمت أنه قد نجى، فترجع فيخرج بعد آمناً سالماً مطمئناً. واستأجرا أجيراً يهديهما الطريق، وكان كافراً إلا أنهما أمناه على هذا السر، وأسلما له الراحلتين، وواعداه أن يأتيهما بعد ثلاث في غار ثور. وفي الليل خرج - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً أن ينام في فراشه تلك الليلة، وأتيا غار ثور فدخلاه، وكان عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- يبيت عندهما إلى الثلث الأخير من الليل، فإذا دخل السحر تدلى إلى مكة فأصبح بينهم كأنه بائت فيهم، فيستمع إليهم بالنهار، وما يكيدونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاء الليل ذهب إليهما، فأخبرهما بما سمع من مكائد قريش، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم قريباً من الغار، فإذا كانت العشاء راح عليهما بالغنم في الظلام، فيحلبان ويطعمان ثم ينعق عامر على الغنم فتنزل إليه، صنع ذلك حتى انتهت الثلاث. عباد الله! وجاء الشباب الذين أجمعوا أمرهم على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وباتوا ليلتهم أمام الدار، فلم يرعهم إلا خروج علي بدلاً من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فجن جنونهم وطاروا هنا وهناك في الطرقات، يبحثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه حتى انتهى بهم أثر الأقدام إلى غار ثور الذي دخله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعمى الله أبصارهم، وصرف قلوبهم عن دخول الغار، وهم أمام بابه وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن

الله معنا" قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]. عباد الله! وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، فصرف قلوبهم عن دخول الغار، فرجعوا يجرون أذيال الخيبة، وبعد ثلاث جاء الأجير الكافر في موعده، وكان هادياً خريتاً -أي ماهراً بالطريق- بالراحلتين فارتحل النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما وأبو بكر الأخرى، وخرج معهم عامر ابن فهيرة، وانطلق بهم الدليل نحو الجنوب، ثم انحاز بهم نحو الساحل ثم أخذ طريق الساحل إلى المدينة. عباد الله! ولكن قريشاً لم تسكت ولم تهدأ، ساءها خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بينهم، وفشلهم في إدراكه. فذاعوا في الناس: من جاء بمحمد وصاحبه أحياءً وأمواتاً فله ديتهما، والدية مائة من الإبل، والإبل أنفس أموال العرب وأحبها إلى قلوبهم، فسال لعاب الناس، من الذي يأتي بمحمد وصاحبه فيأخذ مائتين من الإبل. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى سراقة بن مالك وهو يخبرنا الخبر قال سراقة: "فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي إذ أقبل رجل فيهم حتى قام علينا ونحن جلوس. فقال: يا سراقة! إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا.

ثم لبثت في الجلس ساعة ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي- وعصيت الأزلام- تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت- وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يد فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة، إذا لأثرِ يديها عُثانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم؛ أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزءاني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أُدم، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إخوة الإِسلام! النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى المدينة، وقد وصلت الأخبار إلى المدينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة إلى المدينة فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم. حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3906).

فعادوا، وقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، فخرجوا فاستقبلوه وكان فرحتهم به غامرة فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرّة فاستقبلوه. ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء، ولما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم وعدد الذين استقبلوه من الأنصار خمس مئة. فأحاطوا بالرسول وبأبي بكر وهما راكبان، ومضى الموكب داخل المدينة. "وقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -" وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمَّد يا رسول الله، يا محمَّد يا رسول الله. قال الصحابي البراء بن عازب - رضي الله عنه - وهو شاهد عيان "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي كثيرة جداً منها: أولاً: الدين أغلى عند المسلم من كل شيء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تركوا ديارهم وأموالهم فداء ونصرة لهذا الدين العظيم، وهذا يظهر من قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (ص 218 - 219).

مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى، والله! لولا أني أخرجت منك، ما خرجت" (¬1). عباد الله! كفار مكة أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأنهم قالوا: ربنا الله، ولأنهم دخلوا في دين الله، وهذا يظهر من قول ورقة بن نوفل لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي" (¬2). ولذلك على المسلم إذا ضيق عليه في دينه، ولم يتمكن من عبادة ربه، أن يهاجر إلى أي بلد مسلم آخر ليتمكن من عبادة ربه، فليس هناك على وجه الأرض شخص أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هناك بلد أفضل من مكة ومع ذلك فقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. ثانياً: الله -عز وجل- ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة مهما كاد الكفار للمسلمين وخططوا، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21]. وهذا يظهر من نصر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة إلى المدينة. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" (2523). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3)، ومسلم (رقم 160).

فالصحابة الكرام - رضي الله عنهم - هناك في المدينة لا يملكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، وكفار مكة يطاردون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان ليقتلوه، ومع ذلك نصر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأيده بجنوده التي لا يعلمها إلا الله. قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: 40]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

الخطبة الرابعة والعشرون الباحثون عن الحق عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما -

الخطبة الرابعة والعشرون الباحثون عن الحق عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما - عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الباحِثَيْنِ عن الحق وهما: عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما-. عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، وتبين لنا أن المسلمين في المدينة فرحوا بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحاً شديداً. يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ويقول أنس - رضي الله عنه -: "لما كان اليوم الذي دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلُّ شيء، وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" (¬2). الشاهد يا عباد الله! أن المدينة ومن فيها فرحوا بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحاً شديداً. عباد الله! دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة راكباً على ناقته، والأنصار يتطلعون إلى استضافته، فكلما مر على أحدهم دعاه للنزول عنده فكان - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة"، (ص 218 - 219) أكرم العمري. (¬2) "صحيح سنن الترمذي" (2861).

يقول لهم: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، في مكان المسجد النبوي الذي هو فيه الآن (¬1). عباد الله! فتساءل - صلى الله عليه وسلم -: أي بيوت أهلنا أقرب؟ - يقصد بذلك بيوت بني النجار أخواله-. فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي فنزل - صلى الله عليه وسلم - في داره (¬2). وكانت الدار طابقين، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسكن في الطابق الأرضي، فقال أبو أيوب - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إني لأكره أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا أيوب: إنه أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت". قال أبو أيوب: فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفل وكنا فوقه في المسكن، فانكسرت جرة لنا فيها ماء، فقمت أنا وأمُّ أيوب بقطيفة لنا -ليس لنا لحاف غيرها- ننشف بها الماء مخافة أن يقطر منه شيء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيؤذيه" (¬3). عباد الله! أخذت الوفود تتوافد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب، وسمع عبد الله بن سلام -وكان رجلاً يهودياً- بنزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب، وقد تنادى الناس فيما بينهم: قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، فجاء عبد الله بن سلام مع الناس ليرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (219). (¬2) "صحيح البخاري" (رقم 3911). (¬3) "سيرة ابن هشام" بإسناد صحيح، انظر "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (ص 220).

قال عبد الله بن سلام: فلما رأيت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" (¬1). فالإِسلام هو دين السلام، جاء بالسلام والرحمة إلى الناس. عباد الله! ذهب عبد الله بن سلام إلى أهله ثم عاد ليبحث عن الحق. قال عبد الله بن سلام: يا محمَّد إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهم إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخبرني بهن جبريل آنفاً" قال ابن سلام: جبريل؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" قال ابن سلام: "ذاك عدو اليهود من الملائكة". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما نزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة؛ نزع الولد (أي: جذبه إليه فكان أشبه بأبيه)، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل؛ نزع إليها. فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله ثم قال: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (رقم 2485)، وابن ماجه (رقم 1334، 3251)، والحاكم (3/ 13، 4/ 160) وانظر "صحيح الجامع" (7742).

يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت (أي أهل إفك وكذب) يقولون في الرجل ما ليس فيه، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فابعث إليهم يا رسول الله، واسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا أني أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيَّ. فأرسل إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءوه، واختبأ عبد الله بن سلام، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر اليهود، ويلكم، اتقوا الله وأسلموا، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد علمتم أني رسول الله حقاً، وأني قد جئتكم بالحق من عنده". فقالوا: ما نعلمه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إن أسلم؟ ". قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابن سلام اخرج عليهم". فخرج ابن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم قال لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق.

فقالوا له: كذبت ثم قالوا: شرنا، وابن شرنا وتنقصوه. فقال ابن سلام: يا رسول الله! ذاك الذي كنت أخاف على نفسي منهم فأخرجهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وصدق الله العظيم حيث قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} [الأحقاف: 10]. فهذه شهادة مِن رجلٍ مَنَّ الله عليه بالإِسلام من اليهود في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي اليهود، فأخبر في شهادته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، وأن اليهود قوم بهت. عباد الله! إذا كانت اليهود تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق بشهادة أعلمهم وهو عبد الله بن سلام، فتعالوا بنا لنرى شهادة النصارى أيضاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن أحبارهم ورهبانهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]. ويظهر لنا ذلك من قصة إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدثني سلمان عن نفسه فقال: كنت رجلاً فارسياً من أهل (أصبهان)، من أهل قرية منها يقال لها: (جيّ)، وكان أبي دهقان قريته (أي رئيسها)، وكنتُ أحبُّ خلقِ اللهِ إليه، فلم يزل به حُبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، وأجهدت في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3329).

المجوسية حتى كنت قاطن النار؛ الذي يوقدها؛ لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فَشُغِلَ في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني! إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها. وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسممعت أصواتهم؛ دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، قال: فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت! مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله؛ إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا

الدين، وأحببت أن أكون معك؛ أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها؛ فإذا جمعوا إليه منها أشياء؛ اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء؛ يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها؛ فإذا جئتموه بها؛ اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً. قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً. فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة. ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه. قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه؛ أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بـ (الموصل) وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالحق به. قال: فلما مات وغُيب؛ لحقت بصاحب (الموصل)، فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي. فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث

أن مات، فما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان! إن فلاناً أوصي بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله -عز وجل- ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني! والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بـ (نصيبين)، وهو فلان فالحق به. قال: فلما مات وغُيب؛ لحقت بصاحب (نصيبين) فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي قال: فأقم عندي. فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر؟ قلت له: يا فلان! إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك؛ فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني! والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بـ (عمورية)؛ فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا. قال: فلما مات وغيب؛ لحقت بصاحب (عمورية)، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان! إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان بي إليك؛ فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني! ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة؛ فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. قال: ثم مات وغُيب، فمكثت بـ (عَمورية) ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي

نفر من كلب تجاراً، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهموها، وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل من اليهود عبداً، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لىِ صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاجي، فأقمت بها. وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان! قاتل الله بني قيلة؛ والله إنهم الآن لمجتمعون بـ (قباء) على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرُواء (أي: الرِّعدة) حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بـ (قباء)، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "كلوا". وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم جئت به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره؛ هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدبرته؛ عرف أني استثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحول". فتحولت، فقصصت عليه حديثي -كما حدثتك- يا ابن عباس! قال: فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شَغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر واحد، قال: ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كاتب يا سلمان". فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعينوا أخاكم". فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية (صغار النخل)، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر -يعني الرجل بقدر ما عنده- حتى اجتمعت لي ثلاث مئة ودية، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب يا سلمان! ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي". ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فوالذي نفس سلمان بيده؛ ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: "ما فعل الفارسي المكاتب؟ ". قال: فدعيت له. فقال: "خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان! ". فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: "خذها؛ فإن الله -عز وجل- سيؤدي بها عنك".

قال: فأخذتها، فوزنت لهم منها -والذي نفس سلمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد" (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة إسلام عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما- فهي كثيرة جداً نعيش معها في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى- إن كان في العمر بقية. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) إسناده صحيح، "السلسلة الصحيحة" (894). "مسند الإِمام أحمد" (23737 - ط المؤسسة).

الخطبة الخامسة والعشرون الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من إسلام عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما -

الخطبة الخامسة والعشرون الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من إسلام عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما - أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة إسلام عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما-. عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وكانت الدار من طابقين فنزل - صلى الله عليه وسلم - في الطابق الأرضي، فلما طَلبَ منه أبو أيوب أن يصعد إلى الطابق العلوي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت"، وبدأت الوفود تتوافد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب، وكان ممن جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبحث عن الحق، عبد الله بن سلام وكان رجلاً يهودياً فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء فلما أجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله" ثم قال ابن سلام: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت .. الخ. عباد الله! وتكلمنا في الجمعة الماضية أيضاً عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - وكيف انتقل من بلد إلى بلد، ومن رجل إلى رجل يبحث عن الحق فعندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعلم به سلمان الفارسي ذهب إليه، فلما وجد منه الصفات التي أخبروه عنها؛ وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل الصدقة، ويأكل

الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، أسلم ودخل في دين الله، وكان سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عبداً عند يهودي فأعانه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة حتى تحرر من الرق وحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الخندق وما بعدها من الغزوات. أمة الإِسلام! وفي قصة إسلام عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما- دروس وعظات وعبر منها: أولاً: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ورأفته ورحمته بأصحابه وبضيوفه، وهذا يظهر من نزوله في الطابق السفلي من دار أبي أيوب الأنصاري، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا أيوب! إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت". عباد الله! من اللحظة الأولى وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه في مكان يسهل على جميع الناس أن يصلوا إليه، ولم يجعل على بيته بوابين يمنعون الناس من الدخول عليه - صلى الله عليه وسلم -، فهذا عبد الله بن سلام من اليهود، ومع ذلك دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله وتكلم معه ثم أسلم، والشاهد على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على بابه بوابين: مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تبكي عند قبر فقال لها: "اتقي الله واصبري" فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" (¬1). الشاهد يا عباد الله! أنها لم تجد على بابه بوابين يمنعونها من الدخول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1283)، ومسلم (رقم 926).

ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم -. يقول أنس - رضي الله عنه -: إن كانت الأمة -أي العبدة المملوكة- من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت" (¬1) وذلك ليقضي لها حاجتها، إنها أخلاق النبوة. - وسئلت عائشة - رضي الله عنها - ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله- يعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ على الصبيان سلم عليهم (¬3). ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أوحى إلى؛ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد" (¬5). والله -عز وجل- يثني عليه في كتابه فيقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. عباد الله! وبهذا التواضع، وبهذه الرحمة، وبهذا الرفق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" (رقم 610) تحقيق الألباني. (¬2) رواه البخاري (رقم 676). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6247)، ومسلم (رقم 2168). (¬4) رواه البخاري (رقم 3445). (¬5) رواه مسلم (رقم 2865 بعد 64).

بأصحابه، وبالناس أقبل الناس عليه، والتفوا حوله، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. ثانياً: اليهود قوم بهت -أي أهل إفك وكذب يقولون في الإنسان ما ليس فيه- وهذا يؤخذ من قول أحد علمائهم وهو عبد الله بن سلام بعد أن شرح الله صدره للإسلام فقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت. والبهتان يا عباد الله! هو: أن ترمي الرجل بما ليس فيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون ما الغيبة" قالوا: الله ورسوله أعلم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: يا رسول الله أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" (¬1). فهذا تاريخ اليهود الأسود يشهد لهم بذلك؛ يقلبون الحقائق فنراهم في واقعنا المعاصر يقتلون المسلمين في أرض فلسطين ثم بعد ذلك باستخدامهم لوسائل الإعلام يقلبون الحقائق ويظهرون للناس أنهم هم الذين يُقْتَلونَ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2589).

فاليهود قوم بهت: 1 - ومن بهتانهم: أنهم كذبوا على الله فوصفوه بما لا يليق وقد فضحهم الله في كتابه، قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181]. وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30]. 2 - ومن بهتانهم: أنهم اتهموا مريم بالزنا، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)} [النساء: 156]. 3 - ومن بهتانهم: أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام عدوٌّ لهم وهذا يظهر من قول ابن سلام قبل أن يسلم عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أخبرني بهن جبريل آنفا" فقال ابن سلام: جبريل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فالله -عز وجل- كذبهم ورد عليهم فقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 97 - 98]. عباد الله! اليهود أهل حقد وحسد على المسلمين، وقد فضحهم الله في

كتابه؛ فقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. وقال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]. اليهود لا يحبون الخير للمسلمين أبداً، وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82]. عباد الله! اليهود يعملون بالليل والنهار، وينفقون أموالهم ليصرفوا المسلمين عن دينهم، وذلك لأن اليهود تقوى على حساب تفرق المسلمين وضعفهم وبعدهم عن دينهم. قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. عباد الله! اليهود هم أكلة الربا في العالم كله قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160 - 161]. اليهود ينقضون العهود والمواثيق وهم قتلة الأنبياء قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ

قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155] اليهود هم أفسد الناس في الأرض على الإطلاق، وهم الذين يشعلون الحروب بين الناس لأنهم لا يعيشون إلا على حساب خراب بيوت الآخرين قاتلهم الله. قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. اليهود يسارعون إلى الإثم والعدوان وأكل الحرام ليلاً ونهاراً قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)} [المائدة: 62]. اليهود من أشر الناس ومن أضل الناس، ولذلك غضب الله عليهم ولعنهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79]. اليهود من أجبن الناس على الإطلاق؛ قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر: 13 - 14]. ثالثاً: على الإنسان أن يبحث عن الحق ليلاً ونهاراً، فإن وجده اتبعه بلا تردد، وهذا يؤخذ من فعل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما-.

فهذا عبد الله بن سلام عندما نظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجده ليس بوجه كذاب، وعندما سأله عن المسائل الثلاث وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرف ابن سلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وأنه جاء بالحق من عند الله تعالى، فعندها بلا تردد قال: أشهد أن لا إله الله وأشهد أنك رسول الله، وقال ابن سلام لليهود: يا معشر اليهود! اتقوا الله؟ فوالله الذي لا إله غيره إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق. وهذا سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، ترك أهله، وترك الغنى عند أبيه، وانتقل من بلد إلى بلد، ومن شخص إلى شخص، وباعوه عبداً لرجل من اليهود، ومع ذلك يبحث عن الحق فعندما التقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم له الصدقة فلم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها، وقدم له الهدية فأكل - صلى الله عليه وسلم - منها، ورأى سلمان خاتم النبوة بين كتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - انكب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبله ويبكي، ودخل في دين الله، فعلى الإنسان أن يبحث دائماً عن الحق في كل شيء، فإذا وجده اتبعه بلا تردد؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال، ولأن الحق أحق أن يتبع، فكم من إنسان منعه الكبر من اتباع الحق؟! وكم من إنسان منعه الجهل من اتباع الحق، وكم من إنسان منعته الدنيا وحب الدينار عن اتباع الحق، وكم من إنسان منعته الحزبية البغيضة عن اتباع الحق؟! قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج: 62]. رابعاً: ضرورة التعاون على البر والتقوى، وضرورة مساعدة المحتاج، وضرورة التعاون على قضاء الدين عن المدين. وهذا يؤخذ من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - مع سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عندما ساعدوه ليتحرر من الرق فالله -عز وجل- يقول:

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أعينوا أخاكم" أي: سلمان (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً؛ ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .. " (¬2). فإذا ابتلي رجل من المؤمنين الصالحين بِدَين، من غير إسراف ولا تبذير، ولا محاربة لله ورسوله بالمعاصي، فإنه يجب على المسلمين أن يتعاونوا مع هذا الرجل على قضاء هذا الدين عنه، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة مع سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون" (¬3) أي: أعانه الله. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه، إلا أداه الله عنه في الدنيا" (¬4) اللهم أعز الإِسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2442)، ومسلم (رقم 2580) واللفظ له. (¬3) "صحيح الجامع" (5610). (¬4) "صحيح الجامع" (5553).

الخطبة السادسة والعشرون: المسجد في الإسلام

الخطبة السادسة والعشرون: المسجد في الإسلام أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن المسجد في الإِسلام. عباد الله! أولُ عملٍ قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة هو بناء المسجد. يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة نزل علوِّ المدينة، في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا متقلدين بسيوفهم. قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال أنس: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى بني النجار فجاءوا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا"، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: كان فيه نخل، وقبور المشركين وخربٌ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت، وصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه حجارة. وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم: اللهم لا

العنصر الأول: اهتمام الإسلام بالمساجد.

خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" (¬1). هكذا عباد الله! بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في المدينة، وهو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - لله بيتاً قبل أن يبني لنفسه بيتاً وسكناً، وبهذه البساطة قام مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من النخيل ومن الحجارة والسقف من الجريد، ولكنه خرَّج رجالاً هم صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذين فتحوا قلوب العباد والبلاد. عباد الله! وحديثنا عن المسجد سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: اهتمام الإسلام بالمساجد. العنصرالثاني: أهمية المسجد في الإِسلام. العنصرالثالث: البدع والمخالفات الشرعية التي وقعت في بناء المساجد. العنصر الأول: اهتمام الإِسلام بالمساجد. اهتم الإِسلام بالمساجد اهتماماً كبيراً وربط المسلمين بالمساجد، ففي كتاب ربنا: قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]. وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 428)، ومسلم (رقم 524).

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114]. وقال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 17 - 18]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18]. وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36 - 37]. عباد الله! أما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمساجد اهتماماً كبيراً، فحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على بناء المساجد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من بني لله مسجداً يبتغي به وجه الله؛ بني الله له بيتاً في الجنة" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه مِنْ بعد موته" (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 450)، ومسلم (رقم 533) واللفظ له. (¬2) "صحيح الجامع" (2227).

- وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على نظافة المساجد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدُّور (أي: في الأحياء) وأن تنظف وتطيب" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا" (¬3). فلا يجوز إنشاد الضالة عبر السماعات في المسجد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها" (¬5). - وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال بحضور الجماعة في المساجد وحذر من التخلف عن ذلك بدون عذر شرعي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر" (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 415)، ومسلم (رقم 552). (¬2) "صحيح أبي داود" (1/ 436). (¬3) رواه مسلم (رقم 568). (¬4) "صحيح الترمذي" (1/ 265). (¬5) "صحيح أبي داود" (3/ 3769). (¬6) رواه ابن ماجه (793).

فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم .. " (¬1). فليتق الله الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة بلا عذر شرعي. - وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على شهود الجماعة، وحضور الصلاة، وملازمة المساجد في أوقات الصلاة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بشر المشائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة" (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 644)، ومسلم (رقم 651). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 662)، ومسلم (رقم 669). (¬3) رواه مسلم (رقم 251). (¬4) "صحيح أبي داود" (رقم 525). (¬5) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 647)، ومسلم (رقم 649) واللفظ للبخاري.

العنصر الثاني: أهمية المسجد في الإسلام.

- وقد رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حب المساجد والتعلق بها وحضور مجالس العلم فيها والجلوس فيها لذكر الله بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد .. " (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (¬2). وقال- صلى الله عليه وسلم -: "المسجد بيت كل تقي" (¬3). وقال- صلى الله عليه وسلم -: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة" (¬4). عباد الله! اهتم الإِسلام بالمساجد اهتماماً بالغاً أتدرون لم يا عباد الله؟! هذا الذي نعرفه من، العنصر الثاني: أهمية المسجد في الإِسلام. عباد الله! المسجد هو أحب البقاع إلى الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" (¬5). المسجد هو قلعة الإيمان، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 660)، ومسلم (رقم 1031). (¬2) رواه مسلم (رقم 2699). (¬3) "السلسلة الصحيحة" (716). (¬4) "صحيح الجامع" (6222). (¬5) رواه مسلم (رقم 671).

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]. المسجد هو المدرسة التي يتخرج منها الرجال، الذين يفتحون قلوب العباد والبلاد بدعوة الإِسلام، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36 - 37]. المسجد هو المدرسة التي يتعلم المسلمون فيها دينهم الصحيح، من خلال الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة، فقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وزكاهم في مسجده، فتخرج من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا قلوب العباد والبلاد. فمن أين تخرج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان وصهيب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين؟ المسجد هو المدرسة التي يتعلم المسلمون فيها النظام في كل شيء في أعمالهم، في بيوتهم، في شؤونهم، في أسواقهم، ففي المسجد رجل يؤذن للصلاة فإذا أمره الإِمام بإقامة الصلاة أقامها، ثم يتقدم الإِمام ليؤم الناس، فلا يتقدم أحد للإمامة إلا بعد إذنه وهذا هو النظام في أسمى صورة وأبهى حلته، ويقوم المسلمون أجمعون خلف هذا الإِمام صفوفاً معتدلة متساوية. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بنفسه بتسوية هذه الصفوف وتعديلها ويأمر بها: عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة،

ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (¬1). فانظروا عباد الله!، يوم أن كانت الصفوف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستوية اتحدت القلوب، ويوم أن أصبحت الصفوف في أيامنا معوجة كانت القلوب مختلفة فتفرقت الأمة وضعفت، وقوي الأعداء علينا. وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوّي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أن قد عقلنا عنه. ثم خرج يوماً فكاد أن يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف فقال: "عباد الله! لتُسوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيموا الصفوف، حاذوا بين المناكب، سدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين" (¬4). فانظروا عباد الله! إلى هذا النظام، الصفوف مستوية خلف إمام واحد وهم ملتزمون بهديه، مقتدون بفعله، لا يكبرون حتى يكبر، ولا يركعون ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 432). (¬2) رواه مسلم (رقم 436). (¬3) "صحيح سنن أبي داود" (1620). (¬4) "صحيح الجامع" (2353).

العنصر الثالث: البدع والمخالفات الشرعية التي وقعت في بناء المساجد.

حتى يركع، ولا يرفعون حتى يرفع، ولا يسجدون حتى يسجد، ولا ينصرفون من الصلاة حتى ينصرف. والذي يخالف هذا الإِمام وهذا النظام متوعد بالمسخ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال- صلى الله عليه وسلم -: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار" (¬1). عباد الله! في المسجد ترى العدل والمساواة في أبهى صورها، فالغني بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والعامي بجوار الأمير، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. في المسجد ترى الرحمة من الإِمام على المأمومين، وترى السمع والطاعة من المأمومين للإمام، وهذا يعلم المسلمين السمع والطاعة للأمير العام، ويعلم الأمير الرحمة على الرعية التي استرعاه الله عليها. فالرعية التي تربت في المسجد تسمع وتطيع لأميرها، وإن ضربها وأخذ أموالها ما لم يأمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله. في المسجد تربى المسلمون على مراقبة الله في أعمالهم، فالذي يقف خمس مرات بين يدي ربه يمنعه ذلك من الإقدام على المعاصي والذنوب. العنصر الثالث: البدع والمخالفات الشرعية التي وقعت في بناء المساجد. عباد الله! تبين لنا ما للمسجد من أهمية كبيرة في حياة المسلمين وعلى ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 691)، ومسلم (رقم 427).

أولا: بناء المساجد على القبور.

الرغم من عظم هذه الأهمية، فقد فرط المسلمون من ناحية في بناء هذه المساجد، وأفرطوا من ناحية ثانية. أما تفريطهم؛ فإنك تجد آلاف القرى والأحياء في العالم الإِسلامي ليس فيها مسجد واحد، بينما تتناثر في كل مكان دور اللهو والفجور وأما إفراطهم؛ فإنك تجد المسجد الواحد وقد كلف بناؤه مئات الألوف من الدنانير، أنفقت على الزخارف والتحف التي أودعوها في هذا المسجد؛ حتى صار بالمتحف أشبه منه بالمسجد. عباد الله! ومن المخالفات الشرعية التي وقع فيها الكثير من المسلمين في بناء المساجد. أولاً: بناء المساجد على القبور. وهذا حرام، ولا يجوز في شريعة الإِسلام، والنبي- صلى الله عليه وسلم - عندما اشترى الأرض التي يريد أن يبني فيها مسجده ووجد فيها قبور المشركين، أمر بقبور المشركين فنبشت؛ لأنه لا يجوز بناء المساجد فوق القبور لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" (¬1). ولقد كان- صلى الله عليه وسلم - يُحذر من اتخاذ المساجد على القبور ويعد المتخذين شرار الخلق. عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- ذكرتا لرسول- صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها في أرض الحبشة فيها تصاوير فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا ¬

_ (¬1) "صحيح سنن ابن ماجه" (606).

ثانيا: زخرفة المساجد

فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬1). ولما حضرته - صلى الله عليه وسلم - الوفاة لم ينشغل بسكرات الموت مع شدتها عن تحذير أمته من اتخاذ القبور مساجد - عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنهم - قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ طفِق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬2) يحذر ما صنعوا. وعن جندب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (¬3). فلا يجوز أبداً أن يُبنى مسجد على قبر، أو يجاء برجل فيدفن في المسجد؛ لأن الإِسلام جاء لمحاربة الشرك وسد الذرائع التي تفضي إلى الشرك، واتخاذ المساجد على القبور ودفن الصالحين في المساجد بعد موتهم من وسائل الشرك. ثانياً: زخرفة المساجد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أمرت بتشييد المساجد" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 427)، ومسلم (رقم 528). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 435، 436)، ومسلم (رقم 531). (¬3) رواه مسلم (رقم 532). (¬4) "صحيح سنن أبي داود" (1/ 431). (¬5) "صحيح سنن أبي داود" (1/ 432).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم، فالدمار عليكم" (¬1). وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نبأ بمصير المسلمين في قوله: "لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم"، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟! " (¬2). المسلمون اليوم انشغلوا بزخرفة المساجد عن تزكية النفوس، وعمارة المساجد بالصلاة فيها فكان هذا حالهم. أما أسلافنا الكبار -الصحابة رضي الله عنهم- فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام، وفتحوا قلوب العباد والبلاد. ورضي الله عن عمر الفاروق الذي قال لرجل عندما هم ببناء المسجد: "أكنّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر؛ فتفتن الناس" فيا أمة الإِسلام! عودوا إلى الله وإلى القرآن، وعودوا إلى المساجد، وكونوا في المساجد، كما أراد الله وكما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اللهم فقهنا في ديننا. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (135). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3456)، ومسلم (رقم 2669).

الخطبة السابعة والعشرون: الإخاء بيم المهاجرين والأنصار

الخطبة السابعة والعشرون: الإخاء بيم المهاجرين والأنصار أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الإخاء بين المهاجرين والأنصار عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة بدأ أولاً ببناء المسجد؛ لأن في المسجد يقف المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة بين يدي ربهم، وفي المسجد يتعلم المسلمون دينهم، وفي المسجد يتعود المسلمون على النظام في كل حياتهم، وفي المسجد يتدرب المسلمون على السمع والطاعة لأولي أمرهم. عباد الله! ولما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بربهم من خلال عبادتهم في المسجد، وصل بين المسلمين بعضهم ببعض فآخى بين المهاجرين والأنصار. عباد الله! وحديثنا عن الإخاء بين المهاجرين والأنصار سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: المهاجرون والأنصار في الكتاب والسنة. العنصر الثاني: الإخاء بين المهاجرين والأنصار. العنصر الثالث: حقوق الأخوة في الله. العنصر الرابع: الأمراض التي تفتك وتفسد الأخوة في الله. العنصر الأول: المهاجرون والأنصار في الكتاب والسنة. المهاجرون هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، طاعة ومحبة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصرة لدين الله كما وصفهم ربهم في كتابه.

فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. نعم والله صادقون في إيمانهم، صادقون في هجرتهم، صادقون في محبتهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. أما الأنصار هم أهل المدينة الذين استقبلوا إخوانهم المهاجرين وضربوا مثلاً أعلى في الإيثار، كما وصفهم ربهم -تبارك وتعالى- في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. ومن الأمثلة على الإيثار عند الأنصار يقول أبوهريرة - رضي الله عنه -: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أصابني الجهْد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله!؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدخري به شيئاً. قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية! قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد عجب الله -عز وجل- أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله -عز وجل-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬1). ولذلك أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار وتمنى أن يكون منهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار". فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي! آووه ونصروه (¬2). وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حبهم علامة الإيمان، وبغضهم أمارة النفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" (¬3). فالويل الويل للروافض الشيعة الذين يبغضون صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "استوصوا بالأنصار خيراً" (¬5). عباد الله! ها هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، من سلك سبيلهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن ترك سبيلهم شقي في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4889)، ومسلم (رقم 2054). (¬2) أخرجه البخاري (رقم 3779). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3783)، ومسلم (رقم 75). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3784)، ومسلم (رقم 74). (¬5) "ترتيب صحيح الجامع" (2/ 158).

العنصر الثاني: الإخاء بين المهاجرين والأنصار.

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة". قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: "التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬1). عباد الله! وها هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار كما وصفهم الله في كتابه فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. العنصر الثاني: الإخاء بين المهاجرين والأنصار. عباد الله! عندما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وبنى المسجد؛ آَخى بين المهاجرين والأنصار أخوةً تجعل المهاجري أولى بمال أخيه الأنصاري في الميراث من أهله وأقاربه والعكس، فضرب الأنصار المثل الأعلى في الوفاء بحق الأخوة وحسن الاستقبال وكرم الضيافة. عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في شيء من ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ ¬

_ (¬1) مضى تخريجه.

قال: سوق قينقاع. فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء وعليه أثر صفرة، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: "تزوجت"؟ قال: نعم. قال: "مَنْ؟ " قال: امرأةً من الأنصار قال: "وكم سقت؟ " قال: زنة نواةٍ من ذهب فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أولم ولو بشاة" (¬1). عباد الله! عقد الأنصار عقد الإخاء بكل تسامح وإيثار، وهم أصحاب الأموال وأهل الديار، وعقد المهاجرون عقد الإخاء بكل عفة وزهد واستغناء، شاكرين لإخوانهم الأنصار حسن استقبالهم، وكرم ضيافتهم، وإن تعجب فاعجب من سعد بن الربيع وهو يعرض على أخيه عبد الرحمن بن عوف نصف ماله، ويزداد عجبك حين تسمع سعد بن الربيع وهو يقول لأخيه عبد الرحمن بن عوف: عندي زوجتان انظر إليهما فأيتهما أعجبتك فسمِّها لي؛ فأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها الله أكبر! الله أكبر ما هذا الذي نسمعه؟ لا تعجب فإن الإيمان إذا تمكن من القلوب فعل أكثر من ذلك. وإن تعجب من حسن العرض، فاعجب أكثر وأكثر من حسن الرفض اعجب من قول عبد الرحمن بن عوف لأخيه سعد بن الربيع: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في شيء من ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ ثم ذهب إلى السوق وتاجر. الله أكبر من أي مدرسة تخرج هؤلاء؟ إنها مدرسة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 2048).

العنصر الثالث: حقوق الأخوة في الله

عباد الله! استمر عقد الإخاء بين المهاجرين والأنصار، إذا مات أحدهما ورثه أخوه دون ابن أمه وأبيه إلى أن أنزل الله -عز وجل- قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)} [الأحزاب: 6]. فنسخت روابط الإخاء وبقيت أخوة النسب دون أخوة الإخاء الذي أمضاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار. العنصر الثالث: حقوق الأخوة في الله: أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فربط الله -عز وجل- بين المسلمين برابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة النسب والوطن واللغة، فالمؤمنون إخوة وإن تباعدت أقطارهم، المؤمنون إخوة وإن تباعدت أجسادهم، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم" (¬1). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" (¬2) وشبك بين أصابعه. عباد الله! وهذه الأخوة في الله لها حقوق كثيرة منها: أولاً: التناصح والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فالمسلم ناصح لأخيه المسلم أما المنافق يفضح قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2442)، ومسلم (رقم 2580). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 481)، ومسلم (رقم 2585).

ثانيا: النصرة والدفاع والإعانة على قضاء الحاجات

حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. قال تعالى: إخباراً عن نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} وعن هود عليه السلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}. فالنصيحة من صفات الرسل والمؤمنين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة" ثلاث مرات. قيل لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: بايعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكم مسلم (¬2). عباد الله! ومن الأمثلة على التناصح: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة أي لابسة ثياب المهنة، تاركة ثياب الزينة فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبوالدرداء ليس له حاجة في الدنيا -أي: في النساء- وفي رواية: "يصوم النهار ويصلي الليل" فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً -أي لسلمان- فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فلما كان الليل ذهب أبوالدرداء يقوم، فقال له -أي سلمان- نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعاً فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتي النبي- صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق سلمان" (¬3). ثانياً: النصرة والدفاع والإعانة على قضاء الحاجات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "انصر ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 55). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 57)، ومسلم (رقم 56). (¬3) رواه البخاري (رقم 1968).

ثالثا: من حقوق الأخوة في الله: الدعاء لأخيك بظهر الغيب

أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله تنصره مظلوماً فكيف تنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من ظلمه فذلك نصرك إياه" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لأن أمشي في حاجة أخي أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهراً، ومن مشى مع أخيه في حاجة له حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام" (¬4). الشفاعة الحسنة لأخيك أن تمشي لقضاء حاجته. ثالثاً: من حقوق الأخوة في الله: الدعاء لأخيك بظهر الغيب قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل" (¬5). رابعاً: ومن حقوق الأخوة في الله: الاستغفار للأخ حياً وميتاً، فإن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 2443). (¬2) "صحيح الجامع" (6450). (¬3) رواه مسلم (رقم 2699). (¬4) "السلسلة الصحيحة" (906). (¬5) رواه مسلم (رقم 2733).

خامسا: ومن حقوق الإخوة في الله: الإصلاح بينهم إذا وقع بينهم خلاف ونزاع

الاستغفار هو دأب الملائكة المقربين والنبيين المرسلين. قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41]. وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]. وأمر الله رسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. وقال- صلى الله عليه وسلم -: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع الميت في قبره وأهال عليه التراب يقول: "استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل" (¬2). خامساً: ومن حقوق الإخوة في الله: الإصلاح بينهم إذا وقع بينهم خلاف ونزاع. قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (5902). (¬2) قال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد "أحكام الجنائز" (ص 198).

سادسا: ومن حقوق الإخوة في الله: أن يحب الأخ لأخيه ما يحب لنفسه.

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 9 - 10] سادساً: ومن حقوق الإخوة في الله: أن يحب الأخ لأخيه ما يحب لنفسه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1). سابعاً: ومن حقوق الأخوة في الله: التعاون على البر والتقوى. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (¬2). ثامناً: من حقوق الأخوة في الله: التزاور في الله قال الله تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين في والمتزاورين في" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تُربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 13)، ومسلم (رقم 45). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6011)، ومسلم (رقم 2586). (¬3) "صحيح الترغيب والترهيب" (3018).

تاسعا: ومن أعظم حقوق الأخوة في الله: ألا يكون الأخ أحق بدرهمه وديناره من أخيه

قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" (¬1). تاسعاً: ومن أعظم حقوق الأخوة في الله: ألا يكون الأخ أحق بدرهمه وديناره من أخيه. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه" (¬2). ولقد أتى أبا هريرة رجل فقال: يا أبا هريرة إني أريد أن أؤاخيك في الله فقال أبو هريرة: وهل تدري ما حق الأخوة؟ قال: لا، عرفني. قال: إن من حق الأخوة ألا تكون أحق بدرهمك ولا دينارك مني. فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة. قال أبو هريرة: فإليك عني (¬3). وقال أبو جعفر لأصحابه يوماً: أيدخل أحدكم يده في جيب أخيه فيأخذ من ماله ما يريد؟ قالوا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون (¬4). العنصر الرابع: الأمراض التي تفتك، وتفسد الأخوة في الله. أولاً: الحسد والتباغض والتدابر قال - صلى الله عليه وسلم -: " .. لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2567). (¬2) "صحيح الجامع" (5258). (¬3) "منهاج المسلم" (ص 131). (¬4) "مختصر منهاج القاصدين" (ص100).

ثانيا: سوء الظن والتجسس والغيبة والنميمة.

بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره (ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" (¬1). ثانياً: سوء الظن والتجسس والغيبة والنميمة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وقال- صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا .. " (¬2). ثالثاً: الهجران ولذلك كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من الهجر قال- صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تعرض أعمال الناس في كل خميس واثنين، فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً؛ إلا امرءاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول اتركوهما حتى يصطلحا" (¬4). رابعاً: السخرية ولذلك حذر الإِسلام من أن يسخر المسلم من أخيه المسلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2564). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6066)، ومسلم (رقم 2563). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6077)، ومسلم (رقم 2560). (¬4) رواه مسلم (رقم 2565 بعد 36).

خامسا: عدم التثبت من الأخبار التي ينقلها بعض الفساق.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. خامساً: عدم التثبت من الأخبار التي ينقلها بعض الفساق. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. سادساً: الغش في البيع والشراء. قال- صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" (¬2). فاتقوا الله عباد الله!، وكونوا على حذر من هذه الأمراض التي فرقت بين المسلمين، وكونوا عباد الله! إخواناً كما أمركم الله تبارك وتعالى. اللهم ألف بين قلوب المسلمين. ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (6283). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2079)، ومسلم (رقم 1532).

الخطبة الثامنة والعشرون: وفاء المسلمين وغدر وخيانة اليهود

الخطبة الثامنة والعشرون: وفاء المسلمين وغدر وخيانة اليهود عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن وفاء المسلمين وغدر وخيانة اليهود. عباد الله! عندما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً من مكة انشغل بما يلي: أولاً: صلة الأمة بالله، فبادر - صلى الله عليه وسلم - إلى بناء المسجد كما ذكرنا، لتظهر فيه شعائر الإِسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء بربه، وتنقى القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا. ثانياً: صلة الأمة بعضها ببعض، فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار أخوة تمحى من خلالها كلمة (أنا)، ويتحرك الفرد فيها بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها .. ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه. ثالثاً: صلة الأمة بالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها، أخص بالذكر "اليهود" الذين استوطنوا المدينة في ذلك الوقت. عباد الله! وحديثنا عن وفاء المسلمين وغدر وخيانة اليهود سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: الإِسلام دين السلام والأمن والأمان، يأمر بالوفاء وينهى عن الخيانة والغدر.

العنصر الأول: الإسلام دين السلام والأمن والأمان، يأمر بالوفاء وينهى عن الخيانة والغدر

العنصر الثاني: موقف اليهود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة. العنصرالثالث: معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود في المدينة. العنصر الرابع: اليهود أهل غدر وخيانة. العنصر الأول: الإِسلام دين السلام والأمن والأمان، يأمر بالوفاء وينهى عن الخيانة والغدر: عباد الله! الإِسلام دين السلام والأمن والأمان، قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 61]. وقال عبد الله بن سلام -وكان رجلاً يهودياً شرح الله صدره للإسلام-: فلما رأيت وجهه (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" (¬1). وسأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإِسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬4). عباد الله! الإِسلام دين يأمر بالوفاء بالعهود ويحذر من الخيانة والغدر، ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (7742). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 12)، ومسلم (رقم 39). (¬3) رواه مسلم (رقم 46). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 10)، ومسلم (رقم 40).

قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء:34]، أي يا معشر المسلمين إذا عاهدتم فأوفوا بعهدكم، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} [النحل: 91]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} [الأنعام: 152]. وقال تعالى محذراً من نقض العهود: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. عباد الله! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أمته على الوفاء بالعهود ويحذرهم من خلف الوعود، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة": منها "وأوفوا إذا وعدتم" (¬2). والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي رواية لمسلم زاد: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (7056). (¬2) "صحيح الجامع" (1029). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 33)، ومسلم (رقم 59).

العنصر الثاني: موقف اليهود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة.

عباد الله! ولذلك ضرب لنا الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده مثلاً أعلى في الوفاء بالعهود، استجابة لأمر الله ولأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. العنصر الثاني: موقف اليهود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة. عباد الله! اليهود شعب مجرم لا يحب إلا نفسه، ولا يعرف إلا مصالحه؛ يعيش على حساب خراب بيوت الآخرين، دائماً يُشعلون نار الحرب بين القبائل قديماً وبين الدول حديثاً. واليهود في المدينة هم الذين كانوا يشعلون نار الحرب بين الأوس والخزرج، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالإِسلام، عرفوا وأيقنوا أن هذا الدين الجديد يقضي على مصالحهم الخبيثة، فنظروا إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم - والإِسلام نظرة حقد وحسد وبغض ولكنهم لم يستطيعوا أن يظهروا ذلك في أول الأمر. ويظهر لنا ذلك من قصة إسلام عبد الله بن سلام عندما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود فجاءوا فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر اليهود؛ ويلكم اتقوا الله وأسلموا، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد علمتم أني رسول الله حقاً، وأني قد جئتكم بالحق من عنده" فقالوا: ما نعلمه -وهذا يدل على ما في قلوبهم- علماً أنهم يعرفون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حقاً كما يعرفون أبناءهم. وعندما قال لهم: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. وعندما قال لهم عبد الله بن سلام: يا معشر اليهود! اتقو الله فوالله الذي

لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق، فقالوا له: كذبت (وهذا يعبر عما في قلوب اليهود). ويظهر لنا ذلك أيضاً مما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب -رضي الله عنها- أنها قالت: كنت أحَبُّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر؛ لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي؛ حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين -أي وقت صلاة الفجر- قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع. فوالله! ما التفت إلى واحدٌ منهما، مع ما بهما من الغمِّ. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ - وهذا هو الشاهد -أي: أهو الرسول الذي نعرفه في التوراة. قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله! ما بقيت -وهذا هو الشاهد- (¬1). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (1/ 518 - 519).

العنصر الثالث: معاملة النبي- صلى الله عليه وسلم - لليهود في المدينة.

هذا هو موقف اليهود من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى المدينة، حقد بغضاء حسد عداوة. العنصر الثالث: معاملة النبي- صلى الله عليه وسلم - لليهود في المدينة. عباد الله! لما استقرت الأوضاع في المدينة، تطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حماية المدينة من الداخل- وهذا ما يقال في لغة العصر تأمين الجبهة الداخلية- فسعى إلى أن يكون بينه وبن اليهود -وهم على دينهم- حسن جوار فلا يؤذيهم ولا يؤذونه، ولا يعتدي عليهم ولا يعتدون عليه، فدعى النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى معاهدة سلم تكفل لهم الحرية الكاملة التامة في دينهم وأموالهم، وتضمن لهم أن يعيشوا في جوار النبي- صلى الله عليه وسلم - في سلم وسلام، وأمن وأمان. وكان من مقتضى هذه المعاهدة أن يكون المسلمون واليهود يداً واحدة ضد كل من قصد المدينة بسوء. وكان في المدينة من اليهود ثلاث طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فعاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً على المسالمة، وعلى النصرة والمؤازرة ضد كل من يقصد المدينة بسوء. عباد الله! وأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم - يحث المسلمين على الوفاء، وأداء الأمانة، وينهاهم عن الغدر والخيانة، ويأمرهم باحترام هذه المعاهدة واحترام أهلها، ويحذرهم من الاعتداء على أهل هذه المعاهدة في نفس أو مال، فجعل - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" (¬1). ¬

_ (¬1) "صحيح أبي داود" (2626).

وجعل - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" (¬1). عباد الله! وتأليفاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقلوب اليهود، وطمعاً في إسلامهم: توجه - صلى الله عليه وسلم - في صلاته إلى بيت المقدس بأمر الله له. ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء؛ فسألهم عن سبب صيامهم فقالوا: ذاك يوم نجَّى الله تعالى فيه موسى وبني إسرائيل، وأهلك فرعون وملأه؛ فنحن نصومه شكراً لله -عز وجل- فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه" (¬2). وظل - صلى الله عليه وسلم - يوافقهم على ما هم عليه؛ فيما لم يأته فيه وحي من الله -عز وجل- تأليفاً لقلوبهم، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه. "وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ثم فرق بعد" (¬3). سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته تأليفاً منه لليهود، وموافقة لهم حتى يكون قريباً منهم، ومع ذلك لم يستجيبوا له، ثم فرق بعد أن دخل الوثنيون في الإِسلام وأبى اليهود إلا الكفر. عباد الله! وكان القرآن الكريم ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقاً في العلاقة بين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3166). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2005)، ومسلم (رقم 1131). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3558)، ومسلم (رقم 2336) واللفظ له.

المسلمين واليهود، وبين المسلمين والوثنيين. فنهى الله تعالى رسوله والمسلمين عن أكل طعام الوثنيين وعن الزواج منهم، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]، وقال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. نهيٌ عن أكل ذبائح المشركين، ونهى عن الزواج منهم. أما اليهود والنصارى فقد أحل الله تعالى طعامهم والزواج منهم. فقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5]. عباد الله! ونزل القرآن الكريم يدعو اليهود والنصارى إلى الإيمان، ويرغبهم فيه، وينهاهم عن الكفر. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ

الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 70 - 71]. عباد الله! ومع ذلك كله، فقد أصر اليهود على الكفر، واستكبروا استكبار، ومكروا للإسلام والمسلمين مكراً كباراً، فمن مكرهم وخديعتهم، أن يدخل في الإِسلام نفر منهم أول النهار، ويجلسون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المسلمين، ويراهم المسلمون جميعاً، حتى إذا كادت الشمس تغرب رجع هؤلاء اليهود عن إسلامهم آخر النهار وذلك حتى يقال: إن اليهود أهل نبوة وأهل كتاب، وعندهم علم من السماء فقد دخلوا في الإِسلام يظنونه دين الحق، فلما دخلوا فيه تبين لهم أنه ليس دين الحق، ولذلك رجعوا عنه فتكون هذه فتنة لضعاف الإيمان، والذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد، والله -عز وجل- الذي خلقهم يعلم طبائعهم وخبثهم، فأخبرنا في كتابه عن صنيعهم، قال: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 72 - 73]. وحذر ربنا -جل وعلا- اليهود من هذا الفعل، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99].

عباد الله! وقد أخبرنا الله -عز وجل- في كتابه عما تحمله اليهود في قلوبهم نحو المسلمين والإِسلام، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82]، وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. عباد الله! من أجل ذلك حذر الله -عز وجل- رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 118 - 120]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100 - 101].

العنصر الرابع: اليهود أهل غدر وخيانة.

العنصر الرابع: اليهود أهل غدر وخيانة. عباد الله! ومع ذلك كله ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفياً لهم بعهده، ملتزماً بالميثاق الذي أخذه على نفسه لهم، حتى كانوا هم أول من نقض العهد، فأجلاهم وأخرجهم من المدينة، وقتل فيهم من قتل، وكان أول من نقض العهد من طوائف اليهود بنو قينقاع، ثم نقض بنو النضير عهدهم في نفس السنة، ولما جاءت الأحزاب في السنة الخامسة نقض بنو قريظة عهدهم، فلما رجعت الأحزاب أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتل مقاتليهم وسبق ذراريهم ونسائهم، وقد أخبرنا الله في كتابه أن اليهود أهل غدر وخيانة ونقض للعهود. قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 153 - 155]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا

مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 12 - 13]. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بني النضير وأقر قريظة، ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا أن بعضهم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فاَمنهم وأسلموا، وأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة كلهم بني قينقاع (وهم قوم عبد الله بن سلام) ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان في المدينة" (¬1). فقد ثبت بالكتاب والسنة والتاريخ أن المسلمين أهل وفاء وأمانة، وأن اليهود أهل غدر وخيانة. فنسأل الله سبحانه كما أخرج اليهود من المدينة؛ أن يخرجهم من أرض فلسطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4028)، ومسلم (رقم 1766).

الخطبة التاسعة والعشرون: مشروعية القتال

الخطبة التاسعة والعشرون: مشروعية القتال عباد الله! وموعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن مشروعية القتال. وكلامنا عن مشروعية القتال سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قبل مشروعية القتال العنصر الثاني: مشروعية القتال. العنصر الثالث: السرايا والغزوات التي تحركت من المدينة بعد الإذن بالقتال. العنصر الأول: رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قبل مشروعية القتال: عباد الله! أرسل الله رسوله إلى الناس جميعاً، وأمره أن يدعو إلى الهدى ودين الحق، فلبث في مكة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، عباد الله! فقابل كفار مكة هذه الدعوة بالصد والاعتداء على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه، والله -عز وجل- يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقابل هذا الاعتداء؛ بالصبر، والعفو، والصفح الجميل. قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف: 89]، وقال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85]، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14].

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وكفار قريش يقابلون ذلك بالاعتداءات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ولم يأذن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقابل السيئة بالسيئة، أو يواجه الأذى بالأذى، أو يحارب الذين حاربوا الدعوة، أو يقاتل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ولكن قال له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} [المؤمنون: 96]. وذلك يا عباد الله! حتى لا يصطدم المسلمون مع الكفار في بداية الدعوة، فيؤثر ذلك على دعوة الإِسلام. عباد الله! النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة يربي أصحابه على العفو والصبر والصفح، وينهاهم عن قتال الكفار قبل مشروعية القتال. ومن الأمثلة على ذلك: 1. كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يمر على أصحابه وهم يعذبون فيقول لهم: "صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" (¬1). 2. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة- يريدون بذلك أن يأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتلوا الكفار- فقال: "إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا .. " (¬2). 3. وعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني في التعليق على "فقه السيرة" (ص 107) "حديث حسن صحيح". (¬2) "صحيح سنن النسائي" (2891).

العنصر الثاني: مشروعية القتال.

بردة له في ظل الكعبة- ولقد لقينا من المشركين شدة-، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال- صلى الله عليه وسلم -: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬1). تربية في بادئ الأمر على الصفح والعفو والصبر الجميل. العنصر الثاني: مشروعية القتال. عباد الله! كفار مكة يتفننون في أساليب الاعتداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ ليصدوهم عن دينهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقابلون ذلك بالعفو والصفح الجميل، ولما وصل الاعتداء قمته بتدبير مؤامرة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، اضطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يهاجروا من مكة إلى المدينة، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. عباد الله! عندما وصل النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً من مكة بدأ أولاً ببناء المسجد، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدة مع اليهود -الذين يسكنون معه في المدينة- تقتضي أن يكون المسلمون واليهود يداً واحدة ضد كل من قصد المدينة بسوء- وهذا ما يسمى في لغة العصر تأمين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3612).

الجبهة الداخلية- ليتفرغوا للتصدي لأي عدوان يأتي من الخارج على المدينة. عباد الله! لما استقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وألف الله بين قلوب المسلمين، وقامت للمسلمين دولة في المدينة، ساء ذلك قريشاً وأحزنهم، فأخذوا يهددون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ومن الأمثلة على ذلك: 1 - انطلق سعد بن معاذ إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريباً من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة (أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله! لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله! لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة" (¬1). وهذا هو الشاهد، التهديد من كفار مكة لمن جاء إلى المدينة. أمر ثان يشهد بالتهديد من كفار مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. 2 - عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3632).

كفار قريش كتبوا إلى عبد الله بن أبي، ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم. فلما بلغ ذلك ابن أبي ومن كان معه من عبده الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا" (¬1). عباد الله! لما أرسل كفار مكة كتاب التهديد إلى ابن سلول وافق ذلك هوىً في نفسه، إذ كان أهل المدينة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يرصعون التاج لابن أبي ليتوجوه ملكاً عليهم، فلما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انصرف الناس كلهم إليه، وأعرضوا عن ابن سلول، فكان ابن سلول يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه الملك، فما هو أن أتاه هذا الكتاب من كفار قريش حتى بادر إلى تجميع الناس، وتحريضهم على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع هو ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم، وذكرهم ونصحهم، فلما سمعوا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، كفوا أيديهم، وألقوا سلاحهم، ورجعوا عما عزموا عليه. 3 - واستمر كفار مكة في تهديد المسلمين، فأرسلوا كتاباً آخر إلى المسلمين في المدينة يهددونهم بالهجوم عليهم في أي لحظة من ليل أو نهار للقضاء عليهم. ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (رقم 2595).

وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا التهديد ليس مجرد تهديد، وأن قريشاً قد تهاجمهم بالفعل في المدينة في آية ساعة من ليل أو نهار، مما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهر بالليل ولا ينام. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة ليلة؟ فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح -أي: صوت سلاح- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ؟ قال: سعد بن أبي وقاص. قال: وما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نام حتى أصبحنا" (¬1). واستمر هذا السهر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستمرت الصحابة في حراسته ليلاً، حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله -عز وجل-" (¬2). عباد الله! ولم يكن هذا السهر خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - وحده، بل كان أصحابه جميعاً لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، حتى شق عليهم ذلك، وكانوا لا يظنون أن يأتي عليهم يوم يضعون فيه السلاح، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2885)، ومسلم (رقم 2410). (¬2) "صحيح سنن الترمذي" (3046).

عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، ورمتهم العرب عن قوس واحدة -أي اتفقوا الكفار جميعاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه- كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقال بعضهم لبعض وهم كذلك: تظنون أن يأتي علينا يوم نأمن على أنفسنا، ونضع السلاح ولا نخاف إلا الله -عز وجل- من شدة البلاء- فأنزل الله -عز وجل- قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] (¬1). عباد الله! في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، والتي كانت تنبئ عن أنَّ قريشاً لا يفيقون عن غيهم، ولا يمتنعون عن تمردهم بحال؛ أذن الله للمسلمين بالقتال. قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 39 - 41]. عباد الله! شرع الله القتال للمسلمين على مراحل: ¬

_ (¬1) صحيح، رواه الحاكم (2/ 301).

المرحلة الأولى: الإذن بالقتال دفاعا عن النفس.

المرحلة الأولى: الإذن بالقتال دفاعاً عن النفس. قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}. المرحلة الثانية: أمر الله المسلمين بالقتال دفاعاً عن النفس والعقيدة. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. المرحلة الثالثة: أمر الله المسلمين بقتال المشركين، وابتدائهم به، وذلك للتمكن للعقيدة الإِسلامية من الانتشار دون أية عقبات تضعها قوى الشرك، ولتصبح كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبذلك لا يقوى أحد على فتنة المؤمنين، وصرفهم عن دينهم حيثما كانوا، ويظهر ذلك من: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. عباد الله! وهذا القتال الذي شرعه الله -عز وجل- للمسلمين، وأمرهم به، هو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهو يختلف عن الحروب الأخرى التي تقوم بها الشعوب والدول.

العنصر الثالث: السرايا والغزوات التي تحركت من المدينة بعد الإذن بالقتال.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل جيشاً قال لهم: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" (¬1). العنصر الثالث: السرايا والغزوات التي تحركت من المدينة بعد الإذن بالقتال. عباد الله! لما أذن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الدفاع عن نفسه، وعن أصحابه، أخذ - صلى الله عليه وسلم - يبعث سراياه إلى الجهات المختلفة لمقاصد عالية وحكم غالية منها: أولاً: إشعار قريش بأن المسلمين لم يهاجروا فراراً، ولم يخرجوا هرباً، وإنما هاجروا ليعدوا أنفسهم لمقاومة الطغيان، ورد الظلم والعدوان، ولتعلم قريش أن المسلمين أصبحوا أقوياء. ثانياً: السيطرة على بعض أموال قريش ليكون في ذلك إضعاف لقريش عن حرب المسلمين، وتقوية للمسلمين أنفسهم حتى ينفقوا هذه الأموال في سبيل الدعوة إلى الله، بدلاً من إنفاق قريش تلك الأموال في الصد عن سبيل الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. ثالثاً: إعلام الكفار من يهود المدينة ومن حولها؛ أن المسلمين قادرون على دحر أي عدوان ورد أي طغيان على المدينة، سواء كان من العدو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1731).

الداخلي -يعني اليهود- أو من العدو الخارجي -يعني كفار قريش-. رابعاً: استطلاع الأحوال واستكشاف الآراء، والإحاطة بالمواقع ومعرفة ميول الناس حول المدينة هل هي مع المسلمين أو عليهم. خامساً: الدعوة إلى الله -عز وجل-، ونشر دين الله -تبارك وتعالى- ولذلك لم يحصل قتال في أي سرية بعثها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد عناد الكفار، وإصرارهم على القتال، فكان المسلمون يضطرون إلى منازلة الكافرين لإصرارهم على المنازلة. عباد الله! ففي رمضان من السنة الأولى التقى "حمزة بن عبد المطلب" في ثلاثين من المسلمين، بأبي جهل يقود قافلة لقريش، ومعه ثلاث مئة راكب وقد حجز بينهما مجدي بن عمرو الجهني فلم يقع قتال. 2 - وفي شوال من السنة نفسها، سار عبيدة بن الحارث في ستين راكباً إلى وادي رابغ، فالتقى بمائتي مشرك على رأسهم أبو سفيان، وقد ترامى الفريقان بالنبل ولم يقع قتال. 3 - وفي ذي القعدة خرج "سعد بن أبي وقاص" في نحو عشرين رجلاً يعترض عيراً لقريش ففاتته. 4 - وفي صفر من السنة الثانية خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفسه بعد أن استخلف سعد بن عبادة على المدينة، وسار حتى بلغ ودّان يريد قريشاً وبني ضمرة، فلم يلق قريشاً وعقد حلفاً مع بني ضمرة. 5 - وفي ربيع الأول من السنة نفسها خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى "بواط" معترضاً عيراً لقريش يقودها أمية بن خلف ومعه مائة من المشركين ففاتته.

6 - ثم أغار كرز بن جابر الفهري على المدينة واستاق سرحها، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه حتى بلغ وادي سنوان قريباً من "بدر" فلم يدركه وتسمى هذه "غزوة بدر الأولى". عباد الله! بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية، وأمّر عليها عبد الله بن جحش الأسدي، وكان ذلك في شهر رجب، وكتب النبي- صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن جحش كتاباً وأمره أن لا تنظر فيه حتى يسير يومين، فخرج عبد الله بن جحش في اثني عشر رجلاً من المهاجرين فلما سار يومين فتح الكتاب ونظر فيه، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره أن يسير حتى ينزل في نخلة، مكان بين مكة والطائف، فيرصد فيها قريشاً ويتعرف على أحوالها، وأمره النبي- صلى الله عليه وسلم - أن لا يستكره أحداً من أصحابه على السير معه، فلما قرأ عبد الله كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعاً وطاعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أصحابه أنه قد أمر أن لا يستكره أحداً منهم فمن أحب الشهادة فليسر، ومن كره الموت فليرجع. فمضوا كلهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش في عشرة من المهاجرين حتى نزلوا بنخلة فمرت لهم عير قريش قادمة من الشام على رأسها عمرو بن الحضرمي ومعه ثلاثة نفر من كفار قريش فلما رأوا العير تشاوروا ماذا يفعلون؟ إننا في آخر يوم من رجب، فإن قاتلناهم قاتلناهم في الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا المسجد الحرام، فرأوا أن يقاتلوهم حتى لا يفلتوا منهم، فرمي أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، ثم أسروا رجلين وأفلت الرابع، فرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعير والأسير، فأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تصرفهم ولم يقرهم عليه، وانتهزت قريش الفرصة للتشنيع على المسلمين والتشهير بهم، وذمهم وعيبهم على قتالهم في الشهر الحرام، وقالوا: انظروا إلى محمَّد

- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يزعمون أنهم يعظمون الأشهر الحرم وقد قاتلوا في الشهر الحرام، واشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعفى الله عنهم، ورفع الحرج عنهم وأنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. فأقر الله تبارك وتعالى الكفار على عيبهم على المسلمين قتالهم في الشهر الحرام، وقال إن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن أكبر منه وأعظم جرماً ما أنتم عليه معشر المشركين من الكفر بالله، والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام، وما أنتم عليه من الشرك، وإخراج المسلمين أولياء الله من بيت الله الحرام، هذا الذي أنتم عليه أكبر عند الله من انتهاك المسلمين للشهر الحرام، فأنتم تستحقون القدح والذم والعيب والمقت والعقوبة. أما المهاجرون؛ فإنهم وإن انتهكوا حرمة الشهر الحرام؛ فإنما انتهكوها بنوع تأويل أو تقصير حصل، والله يعفو عنهم لأنهم أهل الإيمان وأهل توحيده وعبادته، هم الذين هاجروا مع رسوله، ونصروا دينه وتركوا ديارهم وأموالهم، ابتغاء مرضاته، فلا حرج عليهم فيما كان منهم من القتال في الشهر الحرام (¬1). اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين. ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (3/ 170).

الخطبة الثلاثون الأهداف السامية والحكم العالية التي من أجملها شرع القتال في سبيل الله

الخطبة الثلاثون الأهداف السامية والحكم العالية التي من أجملها شُرِعَ القتالُ في سبيل الله عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الأهداف السامية، والحكم العالية التي من أجلها شُرعَ القتالُ في سبيل الله. عباد الله! تكلمنا في الجمعة الماضية عن مشروعية القتال، وتبين لنا أنه لما استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة؛ وأيده الله بنصره، ورمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمر لهم عن ساق العداوة والمحاربة، والله -عز وجل- يأمرهم بالصبر والعفو، حتى قويت شوكتهم فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم. قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. وبعد ذلك فرض عليهم قتال المشركين كافة. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.

عباد الله! كثير من الناس بسبب الجهل بالدين الإِسلامي، يفهمون القتال في سبيل الله فهماً خاطئاً: فمنهم من يظن أن القتال في سبيل الله؛ هو عبارة عن الخطب الرنانة الحماسية التي تثير الناس على ولاة أمورهم، وهذا خطأ وجهل كبير. ومنهم أن يظن أن القتال في سبيل الله؛ هو عرضٌ للعضلات على رجال الأمن في البلد التي يعيشون فيها، وهذا خطأ كبير. ومنهم من يظن أن القتال في سبيل الله؛ هو عبارة عن التخريب والاعتداء على المنشآت في البلد الذي يعيشون فيه. ومنهم من يظن أن القتال في سبيل الله؛ هو عبارة عن اغتيال الشخصيات البارزة في المجتمع الذي يعيشون فيه. ومنهم من يظن أن القتال في سبيل الله؛ هو عبارة عن الحصول على شرف البطولة، ليكتبوا عنه بعد موته في الجرائد والكتب "الشهيد البطل"، وهذا مفهوم خاطئ للقتال في سبيل الله. عباد الله! وجاءت الأدلة من الكتاب والسنة تبين لنا الأهداف السامية، والحكم العالية التي من أجلها شرع القتال في سبيل الله. الهدف الأول: لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ليعبد الله وحده في الأرض. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76]، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ

كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 40 - 41]. أي من أجل هذا الهدف؛ انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل جيشاً قال لهم: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله .. " (¬2). عباد الله! فالهدف الأول للقتال في سبيل الله هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، أما من قاتل حمية، أو وطنية، أو شجاعة، أو رياء، أو سمعة، أو غير ذلك؛ فله ما نوى، ولا أجر له عند الله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2810)، ومسلم (رقم 1904). (¬2) رواه مسلم مضى قريباً. (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1)، ومسلم (رقم 1907).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً؛ فله ما نوى" (¬1). وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلاً غزى يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا شيء له". فأعادها ثلاث مرات، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "لا شيء له". ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه" (¬2). وأخبر - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكن قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل -أي في الدنيا-، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" (¬3). الهدف الثاني: رد اعتداء المعتدين الذين يعتدون على بلاد المسلمين، وأموال المسلمين وأعراض المسلمين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. وقال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ¬

_ (¬1) "صحيح الترغيب والترهيب" (1334). (¬2) "صحيح الترغيب والترهيب" (1331). (¬3) رواه مسلم (رقم 1905).

وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [التوبة: 13]، وقال تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. الهدف الثالث؛ هو: إرهاب الكافرين وإذلالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. الهدف الرابع: عذاب الكافرين وشفاء صدور المؤمنين ونصرهم، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: 14]. الهدف الخامس: الامتحان والابتلاء والتمحيص لأهل الإيمان؛ لكي يتحصلوا على الشهادة في سبيل الله، فالله سبحانه وتعالى قادر أن ينتصر من الكفار، وقادر أن يهلكهم ويدمرهم، ولكن شرع القتال في سبيل الله لتمحيص المؤمنين، وليتحصلوا على الشهادة في سبيل الله. قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4 - 6]، وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ

مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 139 - 142]. عباد الله! وللقتال في سبيل الله آداب قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد انتهاء القتال. عباد الله! ومن آداب القتال في الإِسلام قبل القتال: الدعوة: وهي دعوة الكافرين إلى إحدى خصال ثلاث: أولاها: الإِسلام، فإذا دخلوا في الإِسلام فقد عصموا دماءهم وأموالهم، وصاروا للمسلمين إخواناً، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وتلك هي الغاية العظمى من القتال والجهاد في الإِسلام، وليس ذلك عن إكراه، بل عن اقتناع كامل لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ثانيها: الجزية: لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فإن أعطوها قبلت منهم، وحقنت بها دماؤهم، وعصمت أموالهم، وإن رفضوا الإِسلام والجزية فقد أصروا على القتال فتعين على المسلمين قتالهم. ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم -: "فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" (¬1). عباد الله! ومن آداب القتال في الإِسلام أثناء القتال: أولاً: إحسان القتل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1731).

قتلتم فاحسنوا القتلة .. " (¬1). ثانياً: اتقاء الوجه لقوله- صلى الله عليه وسلم -: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه" (¬2). ثالثاً: أن لا يقتلوا النساء والصبيان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهى- صلى الله عليه وسلم -عن قتل النساء والصبيان" (¬3). أما إذا ركبت المرأة الطائرة، وحاربت المسلمين، أو الدبابة وقتلت المسلمين، فتقتل لأنها شاركت في المعركة. رابعاً: أن لا يحرقوا بالنار، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار"، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموها فاقتلوهما" (¬4). عباد الله! ومن آداب القتال في الإِسلام بعد انتهاء القتال: أولاً: النهي عن المثلة لقوله- صلى الله عليه وسلم -: "ولا تمثلوا" (¬5). فلا يجوز أن يمثل المسلمون بقتلى المشركين، بقطع أنف، أو أذن، أو يد، أو رجل، وغير ذلك. ثانياً: الأمر بدفن قتلى المشركين، فقد كان- صلى الله عليه وسلم - بعد الانتهاء من المعركة يأمر بدفن قتلى الكفار. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1955). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2559)، ومسلم (رقم 2612). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3014)، ومسلم (رقم 1744). (¬4) رواه البخاري (رقم 2954). (¬5) رواه مسلم، ومضى قريباً.

ثالثاً: الأمر بالإحسان إلى الأسرى، ففي غزوة بدر أمكن الله رسوله من المشركين، فقتل منهم سبعين وأسر سبعين، فلما رجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فرق الأسرى بين الصحابة، ووصاهم بهم خيراً، فكانوا يطعمونهم ويسقونهم فضربوا بذلك مثلاً أعلى في حسن معاملة الأسرى حتى مدحهم الله في كتابه، فقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 8 - 9]. رابعاً: النهي عن الغلول، وهو الأخذ من الغنائم قبل قسمتها فقد أقبل نفر من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كلا: إني رأيته في النار في عباءة غلها" (¬1). خامساً: النهي عن الغدر، فإذا انتهت الحرب بصلح عام، أو معاهدة، أو أجار أحدٌ من المسلمين محارباً، أو أعطاه أماناً وجب الوفاء بالعهد والأمان، وحرم الغدر والخيانة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً" (¬2). فانظروا عباد الله!، وانظروا يا أعداء الإِسلام في كل مكان إلى الإِسلام؛ دين له هدف في القتال في سبيل الله، دين يؤدب المسلمين في القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه لا خير للبشرية ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 114). (¬2) رواه البخاري (رقم 3166).

إلا أن يدينوالله بهذا الدين. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة الحادية والثلاثون: الترغيب في القتال والجهاد في سبيل الله

الخطبة الحادية والثلاثون: الترغيب في القتال والجهاد في سبيل الله عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الحادي والثلاثين من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في اللقاء سيكون عن: الترغيب في القتال والجهاد في سبيل الله. عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن الأهداف السامية التي من أجلها شُرع القتال في سبيل الله. وتبين لنا أن الإِسلام فرض القتال على المسلمين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى دائماً. وتبين لنا أيضاً؛ أن الإِسلام أدب المجاهدين في سبيل الله بآدابٍ قبل المعركة وأثناء المعركة، وبعد الانتهاء من المعركة. عباد الله! ولما كان القتال فيه مشقة على النفوس البشرية، جاءت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة تُرغِبُ وتَحُثُّ وتُحَرِضُ على القتال والجهاد في سبيل الله ففي كتاب ربنا: قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]، وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38]، وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 19 - 22]، وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً

وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95 - 96]. عباد الله! وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تُرغبُ في القتال والجهاد في سبيل الله. سُئل- صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حجٌ مبرور". وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أفضلُ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "مؤمن يجاهد بنفسه وبماله في سبيل الله" (¬1). وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ المؤمنين أكملُ إيماناً؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يجاهد بنفسه وماله، ورجل يعبدُ الله في شعبٍ من الشعاب وقد كفى الناس من شره" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 26)، ومسلم (رقم 83). (¬2) "صحيح الترغيب والترهيب" (1297).

اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة" -أي قدر ما تحلب الناقة- "وجبت له الجنة" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجنة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد يدخلُ الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيدُ، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشر مراتٍ، لما يرى من الكرامة". وفي رواية: "لِمَا يرى مِن فضل الشهادة" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أوله دفعة من دمه، ويرى مقعدهُ من الجنة، ويُجارُ من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، وُيحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، وُيشفّع في سبعين إنسانٍ من أقاربه" (¬4). وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:- يا رسول الله دُلَّني على عملٍ يعدلُ الجهادَ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - "لا أجدهُ". ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ ". فقال الرجل: ومن يستطيع ذلك؟! (¬5) ¬

_ (¬1) "صحيح الترغيب والترهيب" (1301). (¬2) رواه البخاري (رقم 2790). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2817)، ومسلم (رقم 1877). (¬4) "صحيح ابن ماجه" (2257). (¬5) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2785)، ومسلم (رقم 1878)

وقال- صلى الله عليه وسلم -: "عينان لا تمسُّهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرسُ في سبيل الله" (¬1). عباد الله! الإِسلام هو دين الله في الأرض إلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها، ويوم القيامة لا يقبل الله ديناً غيره. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85] والإِسلام عندما أذن للمسلمين بالقتال وفرضه عليهم، بيَّن لهم الأهداف السامية التي يحاربون من أجلها. وأدَّب الإِسلام المجاهدين في سبيل الله بآداب إسلامية قبل المعركة، وأثناء المعركة، وبعد الانتهاء من المعركة، ثم رغب الإِسلام في الجهاد في سبيل الله. ومع ذلك لا يحرص الإِسلام والمسلمون على الحرب، وإشعال الحرب، ولكن إذا فَرَضَتْ الحربُ نفسها على المسلمين، صبروا، وحاربوا من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله. يقول- صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" (¬2). فالإِسلام هو دين السلام ولذلك سمى اللهُ الإِسلام سلماً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]. ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" تحقيق الألباني (1313). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 7237)، ومسلم (رقم 1742).

والجنة دار السلام جعل الله من أسباب دخولها إفشاء السلام. قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (¬1). وأول شيءٍ صدع به النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قدم إلى المدينة قال: "يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنةَ بسلام" (¬2). عباد الله! والكفار إذا كفوا أيديهم عن المسلمين، ولم يصدوا عن سبيل الله، وتركوا المسلمين يتحركون في الأرض بدين الله، يدعون عباد الله إلى الله، فالإِسلام لا يأمر بقتالهم أبداً. قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيشاً في سبيل الله أعلمهم، وأدبهم، وأمرهم أن يدعوا الناس أولاً إلى الإسلام، فإذا أجابوهم إلى الإِسلام فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، ولا قتال ولا إكراه في الدين، فإن رفضوا الإِسلام يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فإن رفضوا الإِسلام والجزية يأتي الإِسلام هنا -بعد أن فرض الكفار على أنفسهم القتال- فيقاتلهم الإِسلام لأنهم لولا أنهم هم يريدون القتال لدخلوا في الإِسلام أو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 54). (¬2) "صحيح ابن ماجه" (6230).

لدفعوا الجزية، حتى يفهم الجميع يا عباد الله، أن الإِسلام، هو دين السلام وهو دين الرحمة ولا يُشْعِلُ ناراً للحرب أبداً في أي مكان. ولقد أخبرنا ربنا -جل وعلا- في كتابه؛ أن اليهود يشعلون نار الحرب هنا وهناك، وها هو التاريخ يشهد بذلك، ما من حرب قامت على وجه الأرض إلا وراءها اليهود؛ لأنهم يعيشون ويترعرعون على الحروب. فإذا فُرضِتْ الحربُ على المسلمين يأتي الإِسلامُ، ويقول للمسلمين كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" (¬1). ففي الوقت الذي أمر الإِسلام ورغبَّ في الجهاد في سبيل الله، بيَّن أن الإِسلام هو دين الرحمة والسلم والسلام والأمان. قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} [النساء: 90]. وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. عباد الله! ولكن إذا اعتدى الكفار على المسلمين وعلى بلاد المسلمين، وصدوا عن سبيل الله، عندها أمر الإِسلام المسلمين أن يقاتلوا الكفار، ويصبروا على ذلك، وبيَّن الإسلام للمسلمين أنهم في قتالهم للكفار؛ فإنها إما النصر وإما الشهادة. قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ¬

_ (¬1) متفق عليه، مضى قريباً.

أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: 52]. ولذلك أمر الإِسلام المسلمين بالصبر والثبات عند لقاء العدو. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45 - 46]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15 - 16]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا لقيتموهم فاصبروا". ثم جاء الإِسلام يحث المسلمين ويرغبهم في قتال الكفار الذين حاربوا المسلمين، وصدوا عن سبيل الله .. اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين.

الخطبة الثانية والثلاثون: غزوة بدرالكبرى

الخطبة الثانية والثلاثون: غزوة بدرالكبرى عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الثاني والثلاثين من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة بدرٍ الكبرى وهي الغزوة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل. وأعزَّ الإِسلام وأهله وأذلَّ الكفر وأهله. عباد الله! وحديثنا عن غزوة بدرٍ سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: بين يدي الغزوة. العنصر الثاني: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. العنصر الثالث: نتائج الغزوة. العنصر الأول: بين يدي الغزوة. وصلت الأنباء إلى المدينة أن قافلة ضخمةً لقريش عائدةٌ من الشام إلى مكة تحمل لأهلها الثروة الطائلة، يقودُها أبو سفيان بنُ حربٍ مع رجالٍ لا يزيدون عن الثلاثين أو الأربعين. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "هذه عيرُ قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها" (¬1) وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك أن يضرب قريشاً ضربة اقتصادية تقصم ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر "فقه السيرة" (ص 218).

ظهورهم؛ لأنهم بهذه الأموال يستعينون بها على محاربة الإِسلام والمسلمين. وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أن يعوض أصحابه ما تركوا من أموال وديار في مكة أرغموهم عليها كفار قريش. ولم يعزم الرسول- صلى الله عليه وسلم - على أحدٍ بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، ثم سار بمن أمكنه الخروج. وخرج المسلمون إلى بدر وهم ثلاث مائةٍ وتسعة عشر رجلاً، منهم مئة من المهاجرين وبقيتهم من الأنصار، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ للمقداد بن الأسود، وفرسٌ للزبير بن العوام - رضي الله عنهما -. وكان معهم سبعون بعيراً يتعقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له زميلان يتعاقبان بعيراً. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدرٍ كل ثلاثةٍ على بعير، وكان أبو لبابة وعليٌ بن أبي طالبٍ زميلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. قال: وكانت عقبةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - (جاء دورة ليمشي). فقال أبو لبابة وعليُّ بن أبي طالب: يا رسول الله نحن نمشي عنك - ليظل راكبًا-. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنتما بأقوى على المشي مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" (¬1). عباد الله! قد بلغ أبا سفيان خروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها في ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني: إسناده حسن، انظر "فقه السيرة" (ص 219).

طريق الساحل، وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم. واستطاع (ضمضم) هذا إزعاج البلدةِ قاطبةً، فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفهُ، وحول رحلهُ، وشق قميصه، يصيحُ: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمدٌ وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث! عباد الله! فقام أشراف مكة، يحثون أهل مكة على أن ينفروا سراعاً؛ ليُخلِّصوا تجارتهم، من محمَّد وأصحابه، فخرجوا في نحو الألف، معهم مائة فارسٍ ومعهم- المغنيات يضربن بالدف، ويغنين بهجاء المسلمين. وخرجوا من ديارهم كما أخبرنا الله تعالي: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] وأقبلوا في تحملٍ وحنقٍ عظيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لما يريدون من أخذ عيرهم. عباد الله! ولما رأى أبو سفيان أنه قد نجا وأحرز العير، كتب إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتُحرِزوا عيركمُ وقد سلَّمها الله، فوصلهم الخبرُ وهم بالجحفةَ. فهمُّوا بالرجوع؛ إلا أن أبا جهل أصرَّ على الخروج والوصول إلى بدر، قائلاً: والله لا نرجع حتى نأتي بدراً فنقيم عليها ثلاثاً، ننحرُ الجُزر، ونطعم الطعام، ونُسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، حتى تسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا بعد ذلك اليوم أبداً، ومضت قريش في مسيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدرٍ، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا.

وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر، وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب. عباد الله! ولما وصل الخبرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن كفار قريش قد خرجوا لملاقاتهم، وأن العيرَ قد نجت، وهي على مشارف مكة استشار أصحابه في لقاء العدو، فقال بعضهم: ما خرجنا إلا للعير، وما أردنا النفير، ولم نستعد له، وقد أخبرنا الله -عز وجل- في كتابه عن هؤلاء، فقال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} [الأنفال: 5 - 7]. عباد الله! وكان الأنصار قد بايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيعة العقبة الثانية على أن يحموه في بلدهم (المدينة)، ولم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة، لذلك اقتصرت السرايا التي سبقت بدرٍ على المهاجرين، ونظرًا لوجود الأنصار مع المهاجرين ببدرٍ، وتفوقهم العددي الكبير فقد أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - معرفة رأيهم من الموقف الجديد. فاستشار - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عامةً وقصد الأنصار خاصة. وقد روى ابن إسحاق خبر المشورة بسند صحيح قال: "فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما

قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغماد (¬1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشيروا عليَّ أيها الناس؟ وإنما يريد الأنصار .. فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرُ به عينك، فسر على بركة الله. فسُر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشّطه ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" (¬2). عباد الله! فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعة الصحابة وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وحبهم للتضحية، بدأ بتنظيم جندهُ ثم أرسل عيونه - الجواسيس- يأتونه بأخبار القوم، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أين القوم، وعددهم، ومن فيهم من أشراف قريش. ¬

_ (¬1) وهو مكان يضرب فيه المثل في البعد. (¬2) انظر "السيرة النبوية الصحيحة"، أكرم ضياء العمري (1/ 358 - 359).

عباد الله! العنصر الثاني: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "هذه قريش قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها"؟ ونزل جيش الإِسلام بالعدوة الدنيا، ونزل جيش الكفر بالعدوة القصوى، ولا يعرف كل منهم ما وراء هذا اللقاء الرهيب. عباد الله! العنصر الثاني: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. هذا اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، وأعز الله فيه الإِسلام وأهله، وأذل فيه الكفر وأهله، يقول الله -عز وجل-: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال: 41 - 44]. عباد الله! وبات الجيش المسلم ليلة الجمعة، ليلة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ببدرٍ يرتقب هجوم العدو الكافر في أي ساعةٍ، فطار النوم من عيون المسلمين، وخافت قلوبهم، فأرسل الله عليهم النعاس، فناموا تلك الليلة حتى احتلم بعضهم، فلما أصبحوا ولا ماء أنزل الله عليهم من السماء ماءً فكان على المشركين وبالاً شديداًَ منعهم من المتقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلَّب به الرمل، وثبت به الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على

قلوبهم قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]. عباد الله! ووصف عليٌّ - رضي الله عنه - كيف بات المسلمون ليلة السابع عشر من رمضان ببدرٍ وأمامهم معسكر المشركين؟ قال: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ وما منا إلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يصلى إلى شجرة ويدعو حتى أصبح .. " (¬1). عباد الله! وفي الصباح صف النبي - صلى الله عليه وسلم - جنوده للقتال كما يحب الله عز وجل. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4]. وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "لا يقدمنَّ أحدٌ منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر القتال بنفسه. قال عليٌّ - رضي الله عنه -: لقد رأيتُني يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو- أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" (¬2). فئة مؤمنة تقاتل من أجل لا إله إلا الله، وفئة كافرة جاءت لتقضي على الذين يقولون لا إله إلا الله. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "المسند". (¬2) رواه أحمد في "المسند" (2/ 228).

عباد الله! بدأ القتال بمبارزاتٍ فردية، فقد تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنهُ الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتُدب لهم شباب من الأنصار فرفضوا مبارزتهم، طالبين مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم. وقد تمكن حمزة من قتل عتبة، ثم قتل عليٌ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد وجرح كل منهما صاحبه فعاونه عليٌ وحمزة فقتلوا الوليد واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين" (¬1). عباد الله! وقد أثرت نتيجة المبارزة في معسكر قريش وبدأوا بالهجوم، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بنضح المشركين بالنبل إذا اقتربوا منهم، حرصاً على الإفادة من النبال بأقصى ما يُستطاع. فقال - صلى الله عليه وسلم - "إذا أكثبوكم -يعني دنوا منكم- فارموهم واستبقوا نبلكمُ" (¬2). ورمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصى في وجوه المشركين وقال: "شاهت الوجوه". قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر أُمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فأخذ كفاً من الحصى فاستقبلنا به فرمى بها وقال: "شاهت الوجوه". فأنزل الله -عز وجل-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬3). عباد الله! وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات ¬

_ (¬1) صحيح أبي داود (2321). (¬2) رواه البخاري (رقم 2900). (¬3) قال الشيخ الألباني: حديث حسن، "فقه السيرة" (ص 228).

والأرض"، فقال عُمير بن الحُمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم". فقال: بخ بخ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حملك على قولك بخ بخ"؟ قال: رجاءَ أن أكون من أهلها، فقال: "فأنت من أهلها". فأخرج عميرٌ تمرات ليأكلها فجعل يأكلها، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم رمى بالتمرات، وأقبل على القوم فدخل في صفوفهم فقاتلهم - رضي الله عنه - حتى قُتل" (¬1). عباد الله! حميَ الوطيس، واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء والابتهال، ومناشدة ربه -عز وجل- حتى سقط رداؤه عن منكبيه. وها هو عمر - رضي الله عنه - يخبرنا الخبر فيقول: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٍ وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه -أي يصيحُ ويستغيث بالله بالدعاء- "اللهم أنجز لي ما وعدتني: اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تُهلك هذه العصابةُ -أي الجماعة من أهل الإِسلام- لا تُعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه، مادّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءهُ فألقاه على منكبيه، ثم التزمهُ ورائه وقال: يا نبي الله! كذلك -أي كفاك- مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1901).

فأنزل الله -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9 - 9] فأمده الله بالملائكة (¬1). وقد خرج - صلى الله عليه وسلم - من العريش الذي بُني له وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45] (¬2). عباد الله! وتقدم المسلمون يقتلون المشركين، والملائكة تقاتل معهم حتى قال ابن عباس: بينما رجلٌ من المسلمين يشتدُّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه خرَّ مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فجاء ذلك المسلم وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ذلك من مدد السماء الثالثة" (¬3). قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9 - 10]، وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12] وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عريشه وهو يقول: "يا أبا بكر، أبشر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرسه عليه آلة الحرب" (¬4). ¬

_ (¬1) "شرح النووى على صحيح مسلم" (12/ 84 - 85). (¬2) رواه البخاري (رقم 4875). (¬3) رواه مسلم (1763/ 1383/ 3). (¬4) أخرجه ابن إسحاق كما في "الفتح" (7/ 313).

عباد الله! العنصر الثالث نتائج الغزوة.

ولما جيء بالعباس بن عبد المطلب أسيراً جاء به رجل من الأنصار قصير يقول: يا رسول الله أسرتُ هذا، فقال العباس: يا رسول الله! والله ما أسرني هذا ولكن أسرني رجل أبلج، على فرس أبلق وجهه كأحسن وجوه الناس، لا أراه في القوم فقال الأنصاريُ: أنا يا رسول الله أسرتُه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اسكت لقد أعانك الله عليه بملك كريم" (¬1). عباد الله! ورجع كفار مكة يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، قُتِلَ منهم سبعون وأُسِرَ منهم سبعون. قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} [آل عمران: 127]، وقال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: 7 - 8]. عباد الله! العنصر الثالث نتائج الغزوة. انتهت غزوة بدرٍ بنصر الإِسلام والمسلمين، وهزيمة الشرك والمشركين، وكان من نتائج الغزوة. أولاً: نصر عظيم من الله للمؤمنين. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 17) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

ثانيا: هلاك أئمة الكفر

بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 123 - 126] ثانياً: هلاك أئمة الكفر: فقد قتل المسلمون سبعين رجلاً من بينهم أئمة الكفر. هلاك أبي جهل لعنه الله: عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتني يوم بدر في الصف بين غلامين حديثة أسنانهما، فتمنيتُ أن أكون بين أكبر منهما، قال: فغمزني الذي عن يميني وقال: يا عماه أين أبو جهل؟ فقلت: يا ابن أخي ومالك ولأبي جهل قال: يا عماه لقد أخبرت أنه كان يسب رسول الله! لئن لقيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: ثم غمزني الذي عن يساري وأسرّ إليّ بمثلها، فلم أنشبْ أن رأيت أبا جهل يجول في الناس. فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه وكان الغلامان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء" (¬1). والظاهر أنهما تركاه مثخناً في جراحه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ولذلك روى أبو داود في "سننه": أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرَّ بأبي جهل صريعاً فوقف على رأسه وقال: أخزاك الله يا عدو الله، ثم جعل يجهز عليه بسيفه، قال: فلم تغن عني شيئاً فما زلت أضربه حتى سقط سيفه من يديه فضربته به حتى برد (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3141)، ومسلم (رقم 1752). (¬2) "صحيح أبي داود" (3357).

هلاك عقبة بن أبي معيط أشقى القوم لعنه الله

هلاك عقبة بن أبي مُعيط أشقى القوم لعنه الله: أما عقبةُ بن أبي معيط، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وكان من الأسرى، وفيه جواز قتل الأسير الكافر؛ لأنه كان من أشقى القوم، وممن يطلق عليهم بمصطلح العصر (مجرم حرب) وسيق الأشقياء الثلاثة إلى النار وبئس القرار، وكم لاقى المسلمون بمكة من إيذائهم واستهزائهم، وليبشر أئمة الكفر في كل زمان بهذه النهاية المشؤومة، إن لم يتوبوا إلى ربهم ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله -عز وجل- يمهل ولا يُهمل "إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلتهُ" (¬1). {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] هلاك أمية بن خلف عدوالله: الذي كان يعذب المسلمين في مكة، ومنهم بلال - رضي الله عنه -، فقد أسره عبد الرحمن بن عوف بعد المعركة، وأسر معه علياً ابنه فلمحه بلال، وكان هو الذي يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، واستصرخ عليه الأنصار، فأعانوه على قتله هو وابنه علي (¬2). عباد الله! وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر فألقوا فيها، فلما كان ببدر اليوم الثالث وقف على أربعة وعشرين رجلاً منهم من صناديد قريش في إحدى الآبار فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2669). (¬2) "فتح الباري" (4/ 480).

ثالثا: ومن نتائج غزوة بدر الكبرى: الأسرى.

فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال قتادة: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة" (¬1). ثالثاً: ومن نتائج غزوة بدرٍ الكبرى: الأسرى. فقد أسر المسلمون سبعين رجلاً من صناديد قريش. وقد استشار الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر فيما يصنع بالأسرى؟ فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم، وعلل ذلك بقوله "فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام". وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم وعلل ذلك بقوله "فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها"، ولم يكن قد نزل من أمرهم وحيٌ. ومال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رأي أبي بكر بقبول الفدية، فنزلت الآية الكريمة في موافقة رأي عمر - رضي الله عنه -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 67 - 68] (¬2). رابعاً: الغنائم وقد غنم المسلمون في بدر من الكفار غنائم كثيرة جداً، ووقع خلاف ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 300). (¬2) انظر "شرح النووى على مسلم" (12/ 86 - 87).

خامسا: الشهداء

حول الغنائم إذ لم يكن حكمها قد شرع بعد، فنزل القرآن بتقسيمها كما نزل بمشروعيتها، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1]. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال: 41]، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)} [الأنفال: 69]. خامساً: الشهداء واستُشهد من المسلمين في بدرٍ أربعة عشر رجلاً اتخذهم الله شهداء فضلاً منه ونعمة، سبحانه وهو القائل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. وجاءت أم حارثة وقد قتل ولدها ضمن الأربعة عشر شهيداً، فقالت: يا رسول الله، أنبئني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك بكيت عليه بكاءً لم يُبكَ على غيره. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أهبلت يا فلانة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك قد حاز الفردوس الأعلى منها" (¬1). اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 5809).

الخطبة الثالثة والثلاثون: غزوة بني قينقاع وغزوة بني النضير

الخطبة الثالثة والثلاثون: غزوة بني قينُقاع وغزوة بني النضير عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة بني قينقاع وغزوة بني النضير. عباد الله! عندما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً من مكة بدأ ببناء المسجد، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدة مع اليهود في المدينة تَكْفُلُ لهم الحرية الكاملة في دينهم وعقائدهم، وتضمن لهم أن يعيشوا في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم -، في سلم وسلام، وأمنٍ وأمان. وكان من مقتضى هذه المعاهدة، أن يكون المسلمون واليهود يداً واحدة ضدَّ كل عدو يقصد المدينة بسوء، وأن يحافظ الجميع على الأمن الداخلي في المدينة. وكان اليهود في المدينة ثلاث طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فعاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً. وأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم - يحث المسلمين على الوفاء، ويحذرهم من الغدر والخيانة، ويحثهم على احترام هذه المعاهدة وعلى احترام أهلها، ويحذرهم من الاعتداء على أهل هذه المعاهدة في نفسٍ أو مالٍ. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "ألا من ظلم معاهداً، أو انتقضه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" (¬1). ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (2626).

وقال- صلى الله عليه وسلم -: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" (¬1). عباد الله! وحافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على هذه المعاهدة، ولم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها، ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود؛ لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، فغدروا وخانوا، ونقضوا العهود والمواثيق بعد أن نصر الله المسلمين في بدرٍ. وكان أول مَنْ غَدَرَ يهودُ بني قينقاع، وكان ذلك بعد غزوة بدرٍ الكبرى بشهرٍ واحد، ثم غدرت بنو النضير بعد غزوة بدرٍ بستة أشهر، كما ذكر الإِمام البخاري في "صحيحه"، ثم غدرت بنو قريظةَ في غزوة الأحزاب، فعاقبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقاب الذي يليق بهم وبغدرهم {جَزَاءً وِفَاقًا (26)}، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وَأَقَرَّ قريظة ومنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا أن بعضهم، لحقوا بالنبي- صلى الله عليه وسلم - فأمَنَهُم وأسلموا، وأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينةُ كلهم بني قينقاع (وهم قوم عبد الله بن سلام)، ويهود بني حارثة، وكل يهوديٍّ كان في المدينة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3166). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4028)، ومسلم (رقم 1766).

العنصر الأول: بعد غزوة بدر الكبرى، كفار مكة في مكة يهددون، واليهود في المدينة يغدرون.

عباد الله! وحديثنا عن غزوة بني قينقاع وغزوة بني النضير سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: بعد غزوة بدرٍ الكبرى كفار مكة في مكة يهددون، واليهود في المدينة يغدرون. العنصرالثاثي: ولا يحيق المكر السيئُ إلا بأهله. العنصر الثالث: اليهود في المدينة يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار. العنصر الرابع: دروس وعظات وعبر العنصر الأول: بعد غزوة بدر الكبرى، كفار مكة في مكة يهددون، واليهود في المدينة يغدرون. عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن غزوة بدرٍ الكبرى وتبين لنا أن الله قد منَّ على المسلمين بنصر عظيم على الكافرين؛ بأن قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وعندما وصلت أخبارُ النصر إلى مكة لم يصدقوا، حتى أنهم اتهموا الذي يخبرهم بالجنون حتى وصل جيش الكفر يجر أذيال الهزيمة والخيبة والعار، فلما تبين لهم صدق الخبر صُعِقَ نفرٌ منهم فهلك لتوِّه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدري ما يفعل. ولم تزدهم الهزيمة إلا كُرها للإسلام، ونقمة على محمَّد وصحبه واضطهاداً لمن يدخل في دينه. ولما وصلت أخبار النصر إلى المدينة؛ لم يُصدق الخبر المنافقون والمشركون واليهود حتى أنهم اتهموا المسلمين الذين يُذيعون الخبر بالكذب، حتى جاء جيش الإِسلام من بدرٍ وأعلام النصر ترفرف عليه، والأسرى مقرنين في

الأصفاد، والغنائم بين يديه، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً، وقلوبهم تغلي حقداًَ وحسداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وفريق آخر سلك أسلوب الدسِّ والنفاق والغدر والتمرد. عباد الله! كفار مكة بعد هزيمتهم في بدر، يفكرون في الانتقام من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولكنهم يريدون أن يكون ذلك عن طريق اليهود في المدينة، فأرسلوا إليهم تهديداً، إذا لم تقتلوا محمداً فعلنا بكم كذا وكذا. فلما وصل ذلك لليهود في المدينة بدأ الغدر، ونقض العهود والمواثيق والخيانة، وأول من نقض العهد يهود بني قينقاع. عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجلٍ من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أن كفار قريش كتبوا بعد وقعة بدرٍ إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتُقاتلُنَّ صاحبنا -أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحولُ بيننا وبين خدم نسائكم شيء- وهي الخلاخيل .. " (¬1). عباد الله! لما وصل الكتاب إلى اليهود في المدينة أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأولُ من نقض العهد وغدر؛ هم يهود بني قينقاع، وكانوا يسكنون داخل المدينة -في حي باسمهم- وكانوا صاغة وحدادين، وكانت عندهم خبرةٌ بالقتال وصنع السلاح، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة مقاتل. عباد الله! وبعد أن نصر الله المسلمين في بدرٍ أخذ يهود بني قينقاع يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل مَنْ ورد سوقهم من ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (2595).

المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون لنسائهم فجاءت امرأة إلى السوق عندهم لتبيع شيئاً، فلما جلست عند الصائغ اليهودي راودها على أن تكشف وجهها فأبت فاجتمع اليهود وراودوها أن تكشف عن وجهها فأبت، فقام الصائغ بربط طرف ثوبها في ظهرها خفية دون أن تعلم، فلما قامت المرأة انكشفت سوءاتها، فضحك اليهود فقام مسلم يوجد في السوق فقتل اليهودي فاجتمع اليهود على هذا المسلم فقتلوه، فجاء أهل المسلم واستنصروا بالمسلمين فوقع الشر بين المسلمين وبين يهود بني قينقاع. وهذه رواية يذكرها أصحاب السير وإن كان في إسنادها ضعف، ولكن هذا لا يستغرب من أفعال اليهود. ولم يكتفوا بذلك بل قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمَّد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحنُ الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى قرآناً ينذر هؤلاء بسوء المنقلب: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} [آل عمران: 12 - 13]. عباد الله! وفي قولهم هذا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعلان منهم سافرٌ عن الحرب، ونقضٌ منهم للعهود والمواثيق، ولم يكتفوا بذلك بل أخلُّوا بالأمن في داخل المدينة وأخذوا يتعرضون لنساء المسلمين فلما فعلوا ذلك سار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب، المسلمة، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فأراد قتلهم

العنصر الثاني: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

فاستوهبهم منه عبد الله بن أُبي، رأسُ النفاق وزعيم المنافقين وكانوا حلفاءه فوهبهم له. وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات بالشام، ولم يبقوا هنالك طويلاً حتى هلك أكثرهم. العنصر الثاني: ولا يحيق المكُر السيئ إلا بأهله. عباد الله! لم يعتبر باقي اليهود بما أصاب كفار قريش في بدرٍ من القتل والأسر، ولا بما أصاب بني قينقاع من الجلاء عن المدينة. فأخذ اليهود في المدينة يمكرون بالإِسلام والمسلمين مكراً سيئاً. قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال:30]. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 54]. ومن هؤلاء اليهود الذين مكروا بالإِسلام والمسلمين مكراً سيئاً كعب بن الأشرف، وكان هذا اليهودي من أشد اليهود حنقاً على الإِسلام والمسلمين، وإيذاءً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتظاهُراً بالدعوة إلى حربه. وهذا اليهودي كان من يهود بني النضير، وكان غنياً مترفاً، معروفاً بجماله في العرب، وكان شاعراً من شعرائها. ولما بلغه أول خبرٍ عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدرٍ قال: أحقٌ هذا؟ هؤلاء أشرافُ العرب، وملوكُ الناسِ والله! إن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خيرٌ من ظهرها. عباد الله! ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ويمدح عدوَّهم، ويحرضهم عليهم بل أخذ يتغزل بنساء الصحابة

في شعره، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريشٍ، فنزل على أحد أشرافهم وجعل ينشد الأشعار، يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يُثيرُ بذلك حفائِظهم، ويزكي حقدهم على النبي- صلى الله عليه وسلم -، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمَّد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال عدو الله: أنتم أهدى منهم سبيلاً وأفضل، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [النساء: 51 - 52]. ثم رجع كعب بن الأشرف اليهودي إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب -أي يتغزل- في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بصلاقة لسانه أشد الإيذاء. عباد الله! عندها قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله، قال محمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه -، أنا يا رسول الله. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى قصة قتل هذا المجرم- كعب بن الأشرف اليهودي- الذي آذى الله ورسوله، ومكر بالمسلمين مكراً سيئاً، لتعلموا أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ ". فقام محمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - فقال: أنا يا رسول الله! أتحب أن أقتلهُ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم".

قال: تأذن لي أن أقول شيئاً (أي: ائذن لي أن أتكلم في حقك من أجل المصلحة). قال - صلى الله عليه وسلم -: "قل". فأتاه محمَّد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنَّانا (أي أوقعنا في العنت والحرج وكلَّفنا ما لا نجد). فقال كعبٌ- وقد بدى البِشْرُ على وجهه مما سمع من محمَّد بن مسلمة في حقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله! لتمَلُّنَّهُ. فقال محمَّد بن مسلمة: إنا قد اتبعناهُ، وما نريد أن نرجعَ عنه حتى نرى إلى ماذا ينتهي أمرهُ وشأنه، فَسَلِّفني وسْقاً أو وَسقين. فقال كعب: نعم أرهنوني. قال محمد بن مسلمة: ماذا تريد أن نُرهنك؟ فقال كعب: أَرهنوني نساءكمُ قال ابن مسلمة: كيف نُرهنك نساءنا وأنت أجملُ العربِ؟ قال كعب: فارهنوني أبناءكم. قال ابن مسلمة: كيف نُرهِنُك أبناءَنا، فيسبُ أحدُهم، فيقال: رُهِنَ بوسقٍ أو وسقين -أي هذا عارٌ علينا-. قال كعب: فماذا ترهنوني؟ قال ابن مسلمة: نرهنك اللأمة - (يعني: السسلاح) - وأراد ابن مسلمة بذلك، أنه إذا جاءه بعد ذلك والسلاح في يده لا ينكرهُ؛ لأنه في اعتقاده أنه جاء بالسلاح ليضعه عنده رهناً-.

قال كعب: نعم ثم وعده محمد بن مسلمة أن يأتيه في الليلة القادمة ببعض رجالٍ على مثل ما هو عليه في محمد - صلى الله عليه وسلم -. فجاءَوه في الليلة التالية وهم متسلحون، فدعوه ليلاً لينزل إليهم فقالت امرأتهُ: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم! فقال كعب لها: إنه أخي محمَّد بن مسلمة ورضيعي -أي أخي في الرضاعة- أبو نائلة، ولو دُعي الفتى لطعنةٍ ليلاً لأجاب، فنزل. فقال محمَّد بن مسلمة لأصحابه قبل أن ينزل إليهم: إني سأمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم فاقتلوه. فلما نزل إليهم كعب نزل متوشحاً، تفوح منه رائحة الطيب. فقالوا: نجد منك ريح الطيب؟ فقال كعب: نعم عندي أعطرُ نساء العرب. فقال محمَّد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم؟ فوضع يده في رأسه فمسح رأسه بيده ليأخذ من طيب رأسه ثم شمّها، ثم ساروا قليلاً ثم عاد محمَّد بن مسلمة فقال: أتأذن لي أن أعود فاشمَّ؟ قال كعب: نعم شمَّ، فوضع يده في رأسه، فلما استمكن من رأسه قال لأصحابه: دونكم فاقتلوه، فقتلوه" (¬1). عباد الله! نزلت السيوف على جسد هذا المجرم فوقع عدو الله قتيلا، وقد ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2510)، ومسلم (رقم 1801).

العنصر الثالث: اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الأبصار.

صاح صيحة شديدة، أفزعت من حوله من اليهود فلم يبق حصنٌ إلا أوقد النار -أي استيقظ من نومه- وفي الصباح علمت بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف فدب الرعب في قلوبهم العنيدة {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وهكذا يفعل الله بكل من مكر بالإِسلام والمسلمين، قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. عباد الله! هذا عذابهم في الدنيا، قتلٌ، خزيٌ، فضيحة، أما في الآخرة فالعذاب الأليم قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}، وقال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} ليعلم الجميع أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. العنصر الثالث: اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الأبصار. عباد الله! بعد غزوة بدرٍ الكبرى أرسل كفار مكة كتاباً إلى اليهود في المدينة يهددونهم بكذا وكذا إذا لم يقتلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل الكتاب إلى اليهود في المدينة، أجمعت بنو النضير على الغدر ونسوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من العهد والميثاق. فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخرج لنا في ثلاثين من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبراً؛ حتى نلتقي بمكان المنصف؛ فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك؛ آمنا بك- وهم بذلك يريدوا أن يغتالوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه- {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 54].

فأخبر اللهُ -عز وجل- رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق جبريل عليه السلام بما مكر به يهود بني النضير. فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الجيش المسلم، فلما رأوا الجيوش قد زحفت إليهم فروا هاربين إلى حصونهم، وكانت حصونهم منيعة، فأغلقوا أبوابهم، وتحصنوا بها، وحاصرهم النبي- صلى الله عليه وسلم - ليالي وهموا بالتسليم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول أرسل إليهم أن امتنعوا وتحصنوا ولا تنزلوا من حصونكم، فإنَّا مِن ورائكم، نمنعكم مما يضركم، لئن قوتلتم لننصرنكم، ولئن أُخرجتم لنخرجن معكم، فصدّقوهم، وأرسل يهود بني النضير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولوا: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخيل وتحريقها، فدبَّ الخوف في نفوسهم وملأ الرعبُ قلوبهم، وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا على أن لهم ما حملت الإبلُ إلا السلاح، فوافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عرضهم هذا. فجعل الرجل يهدم بيته بيده! ويحملُ الأبواب والشبابيك معه، وخرجوا من المدينة، فمنهم من نزل خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)} [النمل: 50 - 52]. عباد الله! ونزلت سورة الحشر في بني النضير، فعن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - "قال: قلت لابن عباس سورة الحشر؟ فقال: لا تقل سورة الحشر، قل:

سورة بني النضير" (¬1). عباد الله! وفي سورة الحشر أولاً: بدأها الله بالتسبيح وختمها بالتسبيح، قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}، وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}. ثانياً: بين الله في هذه السورة كيف ينتقم من أعدائه، وكيف أنه سبحانه جاء لبني النضير من باب لا يخطر لهم على بال. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2] دب الرعب في قلوبهم، والرعبُ سلاح رباني ينصر الله به عباده. ثالثاً: أثنى الله في هذه السورة على المهاجرين والأنصار ومن سلك سبيلهم قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8 - 9]. رابعاً: فضح الله المنافقين الذين أظهروا الإِسلام وأبطنوا الكفر قال تعالى: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4029).

العنصر الرابع: الدروس والعظات والعبر

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)} [الحشر: 11 - 12]. العنصر الرابع: الدروس والعظات والعبر: أولاً: من وقف في وجه الإِسلام أباده الله، عاجلاً أو آجلاً، فانظروا ماذا فعل الله بكفار مكة عندما جاءوا للاعتداء على الإِسلام والمسلمين في غزوة بدر. وماذا فعل بيهود بني قينقاع عندما مكروا بالإِسلام والمسلمين. وانظروا ماذا فعل الله تعالى بيهود بني النضير عندما نقضوا العهود والمواثيق، واعتدوا على الإِسلام والمسلمين، والعاقل من اتعظ بغيره، وليعتبر كل من تسول له نفسه أن يقف في وجه الإِسلام، وأن يمكر بالإِسلام والمسلمين. ثانياً: النصر على الأعداء لا يكون إلا من عند الله. قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]، وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. من الذي نصر المؤمنين يوم بدر؟ إنه هو الله. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. من الذي نصر المؤمنين يوم الأحزاب؟ إنه هو الله.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} [الأحزاب: 9]، وقال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25] - من الذي نصر المؤمنين يوم حنين وفي مواطن كثيرة؟ إنه هو الله قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25]. - من الذي قذف الرعب في قلوب يهود بني النضير، فأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؟ إنه هو الله. قال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2] فالنصر يا عباد الله لا يكون إلا من عند الله. قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 10] ومن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير أنه لا ينصر عباده إلا إذا نصروه. قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. ثالثاً: بالعقيدة الصحيحة والعمل الصالح واتباع منهج الصحابة ننتصر على أعدائنا عامة وعلى اليهود خاصة. وهذا يظهر جليا من سورة الحشر التي نزلت من شأن يهود بني النضير.

ففي السورة توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وفيها الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار. وفي السورة الحث على الأعمال الصالحة، فالسورة بدأت بالتسبيح لله عز وجل وانتهت بالتسبيح. وقال تعالى في وسط السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 18 - 19]. وفي سياق السورة؛ أثنى الله على المهاجرين والأنصار، ومن سلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين، {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، ثم الآية التي جاءت بعدها في الأنصار، ثم الآية التي بعدها جاءت في من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. رابعاً: على المسلمين أن يفهموا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة -الصحابة رضي الله عنهم- ومن سلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين. الشباب المتحمس والمتعجل الذي يفهم الكتاب والسنة بعواطفه، ويستدل بقتل كعب بن الأشرف اليهودي على عمليات الاغتيال للحكام ورجال الأمن وهذا خطأ كبير لا يقره الشرع والدين؛ لأن قتل كعب بن الأشرف كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يهودياً مناقضاً للعهد والميثاق الذي وثقه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤذي الله ورسوله، والذي أمر بقتله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسولنا الكريم لا يأمر من عند نفسه ولكن كان ذلك بوحي من الله -عز وجل-، ونقول عندما أمر الرسول بقتل كعب بن الأشرف لم تكن هناك مفسدة واحدة، ولم يستطع يهودي واحد أن يتكلم أو يتحرك بعد ما

رأوا قتل كعب بن الأشرف، بل دخلوا في حصونهم ودب الرعب في قلوبهمِ، أما ما يفعله بعض الشباب المسلم فيقتلون فلاناً وفلاناً بعد أن يُكَفِّرُونهم، ويحملون فكر التكفير في عقولهم، هذا يخالف ديننا ويبرأ منه الإِسلام، والمفاسد كثيرة بعد أن يقتلوا رجلاً واحداًَ، وإذا قلنا لهم ذلك ونصحناهم اتهمونا بالعمالة والجبن، والله المستعان. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداًَ جميلاً.

الخطبة الرابعة والثلاثون: غزوة أحد

الخطبة الرابعة والثلاثون: غزوة أُحُد عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة أُحد. غزوة أُحد التي ظهر فيها النفاق بأظهر علاماته وأجلى صفاته. والتي ظهر فيها الإيمان الكامل وما يفعله في النفس البشرية من الاستعلاء على الشهوات والإخلاص لرب الأرض والسماوات. والتي تعلَّم فيها المسلمون أسباب النصر وأسباب الهزيمة. والتي دفع فيها المسلمون الثمن غالياً من القتلى والجرحى. والتي ظهر فيها التوكل على الله والثقة به. والتي ميز الله فيها الخبيث من الطيب. والتي أفرد للحديث عنها من سورة آل عمران ستون آية لأهميتها. عباد الله! وحديثنا عن غزوة أُحد سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: أحد جبل يحبنا ونحبه (¬1). العنصر الثاني: يوم التقى الجمعان. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1482)، ومسلم (رقم 1392).

العنصر الأول: أحد جبل يحبنا ونحبه

العنصر الثالث: ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد انتهاء الغزوة. العنصر الأول: أحد جبل يحبنا ونحبه: عباد الله! جبل أحد هو الجبل الذي وقعت عنده غزوة أُحد، وهو جبل يقع بالقرب من المدينة. وهو الجبل الذي دَفَنَ عنده النّبي - صلى الله عليه وسلم - من خيرة أصحابه، كعمه حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهما -رضي الله عنهم جميعاً-. وهو الجبل الذي ذهب إليه النبي- صلى الله عليه وسلم - وصلى على شهداء أحد قبل موته كالمودع للأحياء والأموات. وهو الجبل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحدٌ جبل يحبنا ونحبه". وهو الجبل الذي التقى عنده جيش الكفر وجيش الإيمان {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران:13]. عباد الله! بعد أن أُصيبتْ قريش في عظمائها وأئمة الكفر فيها يوم بدر، وقلوبهم تغلي حقداً وحنقاً وغيظاً على المسلمين والإِسلام، عبأت قريش قُوَّتها، واستعانت بحلفائها، وخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل يقودها أبو سفيان بن حرب لتحقيق الأهداف التالية: أولاً: استعادة مكانتها عند العرب بعد أن فقدتها بهزيمتها في غزوة بدر. ثانياً: الثأر لقتلاها ببدرٍ. ثالثاً: تأمين طريق التجارة من مكة إلى الشام. عباد الله! وصلت الأخبار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم هذا الجيش لغزو المدينة،

ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا -ورؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي- حكاها لأصحابه فقال: "رأيتُ في رؤياي أني هززت سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد كأحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً -والله خيرٌ - فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد .. " (¬1). عباد الله! فلما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أشار عليه الشباب ومن حُرِمَ من شهود بدرٍ وغلبهُ الشوق إلى الجهاد وملاقاة العدو بالخروج إليهم -وهم الذين يتشوقون إلى الاستشهاد-، وكان من رأيه- صلى الله عليه وسلم - ورأي الشيوخ وكذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول المكوث في المدينة، ومقاتلتهم إذا دخلوها من الأزقة ومن أسطح البيوت. قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقراً منحرةً، فأوَّلت أن الدرع الحصينة المدينة، وأن البقر هو والله خير". ثم قال لأصحابه: "لو أنا أقمنا بالمدينة، فإذا دخلوا علينا فيها قاتلناهم فقالوا: يا رسول الله، والله ما دُخِلَ علينا فيها في الجاهلية، فكيف يُدْخَلُ علينا فيها في الإِسلام؟ ". فقال: "شأنكم". ثم دخل - صلى الله عليه وسلم - فلبس لأمتهُ -أي لباس القتال- فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه، فجاءوا فقالوا: يا نبي الله شأنُكَ إذاً -أي الرأيُ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3622)، ومسلم (رقم 2272).

رأيك فاصنع ما أراك الله- فقال- صلى الله عليه وسلم - لهم: "إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" (¬1). عباد الله! خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر من يوم الجمعة؛ في ألف مقاتل من المدينة إلى جبل أحد، وفي الطريق وبالقرب من جبل أحد انسحب من الجيش عبد الله بن أُبي ابن سلول رأس النفاق بثلث الجيش -ثلاثمائة مقاتل- وأراد بذلك أن يحطم معنويات الجيش- مدعياً أنهُ لن يقع قتال مع المشركين!! معترضاً على قرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخروج لقوله: (أطاعهم وعصاني) فكذب الله ابنَ سلول وأنزل الله على رسوله {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 166 - 167] عباد الله! وكانت هذه أول فائدة من فوائد غزوة أحد، وهي تمييز المنافقين، والفصل بينهم وبين المؤمنين الصادقين. قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] عباد الله! وقد ظهر في أوساط الصحابة رأيان في المنافقين الذين انسحبوا من الجيش الرأي الأول: قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 351)، وصححه الألباني.

وانشقاقهم عن الجيش. الرأي الثاني: لا يرى قتلهم، وقد بينَّ الله -عز وجل- في كتابه موقف الفريقين في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} [النساء: 88]. عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة أُحد رجع ناسٌ ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} (¬1). عباد الله! وقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين، ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى، فدفع عنهم الوهن، فثبتوا مع المؤمنين وهما: بنو سلمة (من الخزرج) وبنو حارثة (من الأوس). وقد أخبرنا ربنا -جل وعلا- في كتابه عن موقف الطائفتين. فقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] عن جابر - رضي الله عنه - قال: "فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1884)، ومسلم (رقم 2776).

{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (¬1). عباد الله! ولما انسحب ابن سلول زعيم المنافقين، هو ومن على شاكلته بثلث الجيش تبعهم عبد الله بن حرام- والد جابر بن عبد الله- ينصحهم بالثبات ويؤنبهم على العودة، وبذكرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الآخر وثقة بالإِسلام ورسوله، فأبى ابن أُبي الاستماع إليه وفيه ومن انسحب معه نزلت الآية {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ .. } [آل عمران: 167] عباد الله! وقبل أن يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أُحد استعرض الجيش، فرد مَنْ ردَّ من الشباب لصغره عن سن البلوغ، وأجاز مَنْ أجاز وكان ممن ردهم عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-. يقول ابن عمر - رضي الله عنهما-: "عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة لم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابنُ خمس عشرة فأجازني" (¬2). أين تربى هؤلاء؟! على عقيدة التوحيد وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين وعددهم سبعمائة مجاهد فقط -أي ما يعادلُ ربع جيش الكفار تقريباً- ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4051)، ومسلم (رقم 2505). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2664)، ومسلم (رقم 1868).

ونزل - صلى الله عليه وسلم - بالجيش بالشعبِ بجبل أُحد، وجعل ظهر الجيش للجبل وعيَّن أميراً على الميمنة، وأميراً على الميسرة، وانتقى من مهرة الرماة خمسين رجلاً فعينهم للحراسة على الجبل، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - وأصدر - صلى الله عليه وسلم - أوامرهُ المشددة للرماة فقال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وأن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشرُكونا" (¬1). وفي رواية قال لهم: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" (¬2). عباد الله! وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظم الصفوف ويحرضُ أصحابهُ على القتال، وينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه، فأخذ سيفاً وقال: "من يأخذ هذا السيف؟ ". فبسطوا أيديهم كلٌّ يقول: أنا، أنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من يأخذهُ بحقه؟ " فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: "أنا آخذهُ بحقه يا رسول الله، فأخذهُ ففلق به هام المشركين" (¬3). قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها عُلِمَ أنه سيقاتل حتى الموت. وقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت فأين أنا؟ ¬

_ (¬1) صحيح رواه الحاكم (2/ 296). (¬2) قطعة من حديث رواه البخاري (رقم 4043). (¬3) رواه مسلم (رقم 2470).

العنصر الثاني: يوم التقى الجمعان

قال - صلى الله عليه وسلم -: "في الجنة" فألقى الرجل تمرات كانت في يده ثم قاتل حتى قُتِلَ - رضي الله عنه - (¬1). عباد الله! وعند جبل أحد تعبَأت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل. العنصر الثاني: يوم التقى الجمعان عباد الله! وهذا هو يوم السبت، حيث التقى فيه جيش الإِسلام الذي خرج من أجل- لا إله إلا الله-، مع جيش الكفر الذي خرج ليقتل مَنْ يقول لا إله إلا الله، قال تعالى في كتابه عن هذا اليوم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155]. وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166] عباد الله! وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، واندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فتقدم أَسدُ اللهِ حمزةُ إلى حامل لواء المشركين فقتله، فلما سقط اللواء خلفه أخوه في رفعه، فقتله حمزة فتتابع تسعة رهطٍ على رفع راية المشركين فقتلهم المسلمون، وسقط لواء المشركين فلم يرفع. وتقدم أبو دجانة نحو المشركين بسيفه الذي أخذه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بحقه، ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4046)، ومسلم (رقم 1899).

فأعمل فيهم سيفه -أي حصد رؤوس الكفار بهذا السيف-، وتقدم حنظلة - رضي الله عنه - حتى انتهى إلى قائد المشركين أبي سفيان فرفع سيفه عليه، فبينما هو فوق رأسه رأى رجلٌ من المشركين المشهد فقتل حنظلة من وراءه- لحكمة يريدها الله، فقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك- ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الملائكة تُغَسِّلُ حنظلة فسأل عنه لماذا تغسله الملائكة؟ والشهداء لا يغسلون؟ فأُخبر أنه خرج إلى الجهاد جنباً -أي كان عريساً ينام مع زوجته- فرأى إن اغتسل تأخر عن الخروج فبادر بالخروج جنباً، وقتل شهيداً فغسلته الملائكة بين السماء والأرض (¬1). عباد الله! حمزة - رضي الله عنه - يحصد بسيفه رؤوس الكفر هنا وهناك في أرض المعركة، لا يقف أمامه أحدٌ من المشركين. قال قاتلُهُ وحشيٌ: رأيت حمزة بن عبد المطلب كالجمل الأورق، حاملٌ سيفهُ يقتل به المشركين ما يقوم له شيء. قال وحشيٌ: وخرج إليه رجلٌ من المشركين فرفع حمزة سيفهُ عليه فما أخطأ رأسه. وقال وحشىٌ: وانتهزت منه غفلة فرفعتُ حربتي حتى إذا رضيتُها دفعتُها إليه فوقعت في ثُنته -أي أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه (¬2). يقول ولما مات حمزة أخذت حربتي وذهبت بعيداً عنه، وليس لي بغيره حاجة، ومع ذلك مات حمزة أسد الله، والمسلمون يحصدون روؤس الكفر، ويقتلون الكفار حتى أنهم ولوا مدبرين. ¬

_ (¬1) إسناده جيد: انظر كتاب "الجنائز" (ص 74) للألباني. (¬2) "سيرة ابن هشام" (3/ 76).

عباد الله! وحاول المشركون وقف هذا الزحف الهائل، والسيل العارم، ولكن دون جدوى فتفرقوا وولوا مدبرين، ولم يجترئ أحدٌ من المشركين أن يدنوا من لوائِهم الذي سقط على الأرض، وأخذ جيش الكفر في الانسحاب من أرض المعركة. عباد الله! قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وَصَدَقَهُم وَعْدَهُ فحسُوهم -أي قتلوهم- بالسيوف حتى إذا كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خدم -أي سوق- هند بنت عتبة وصواحبها مشمراتٍ هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير (¬1) .. ويقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: "فلما لقيناهم هربوا، حتى رأيتُ النساء يشتددنَّ في الجبل يرفعن سوقهُن قد بدت خلاخيلهنَّ" (¬2). ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما- ما نُصِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في موطنٍ كما نصر يوم أحد. قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. يقول ابن عباس: والحسُ القتل (¬3). عباد الله! وبينما كان الجيش الإِسلامي بعدده القليل يُسجل مرةً أخرى ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (2/ 77). (¬2) رواه البخاري (رقم 4043). (¬3) صحيح: رواه الحاكم (2/ 296).

نصراً ساحقاً على جيش الكفر، لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية الرُماة غلطةٌ فظيعةٌ قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين وكادت تكون سبباً في مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! لما رأى الرُّماة أن المسلمين بدأوا يجمعون الغنائم التي خلَّفها المشركون، قال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم فماذا تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير فقال لهم أنسيتم عهد رسول الله إليكم؛ ألا تبرحوا مكانكم حتى يأذن لكم؟ قالوا: إنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحمي ظهر الجيش حتى ينصرهم الله، وقد نصرهم الله، والله لنأتين القوم فنصيب معهم من الغنائم، فنزل أربعون من الرماة وبقى الأمير في عشرة فقط. عباد الله! نظر خالدُ بن الوليد وقد ولَّي هارباً، فإذا الجبل قد انكشف ولم يبق عليه غيرُ عشرةٍ، فاستدار خالدٌ في نفر من فرسان المشركين وعلو الجبل -أي جبل الرماة- فقتلوا أمير الرماة ومن معه، ثم دخلوا في المسلمين من ورائهم فأصابوا منهم ما أصابوا، وصرخ عدو الله إبليس في المسلمين: أي عباد الله أُخراكم، أي جاءكم العدو من ورائكم، فرجعت أولاهم على أُخراهم فاجتلدت أولاهم مع أُخراهم -المسلمون أنفسهم- هؤلاء راجعون وهؤلاء متقدمون، فأُعميت الأبصار فلم يلتفتوا إلى شيء وجعلوا يضربون بعضهم بعضاً، ونظر حذيفة بن اليمان فرأى أباه المسلم والسيوف تعمل فيه فقال: أبي أبي، فما انحجزوا عنه حتى قتلوه. ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى أصحابه قد ولوا عنه مدبرين فجعل ينادي: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فسمع المشركون صوته فعرفوه، فأقبلوا عليه يريدون قتله ولكن الله عصمه، فأنزل ملائكتهُ تقاتلُ دونه.

عباد الله! ومع ذلك خلُص بعض المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - نفسه وهو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فقال: "من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ " فقاتلوا عنه واحداً واحداً حتى استشهد الأنصار السبعة" (¬1). وأنزل الله -تبارك وتعالى- جبريل وميكائيل يدافعان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "رأيت يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأيتهما قبلُ ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل" (¬2). وقام سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ المشركين عنه، ونثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له كنانتهُ، وجمع له أبويه ولم يجمعهما لغيره وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ارم سعد، فداك أبي وأمي" (¬3)، وترَّس أبو طلحة - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يحمي السهام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتلقفها في صدره ونحره وظهره وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ارم أبا طلحة! ارم أبا طلحة". وكلما مر رجل من المسلمين معه سهامٌ قال: "انثرها لأبي طلحة"، فيرمي أبو طلحة فينظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين وقع السهم، ويقول أبو طلحة له: دونك يا رسول الله، لا يصيبك سهم من سهامهم نحري دون نحرك" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1789). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4054)، ومسلم (رقم 2306). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4055)، ومسلم (رقم 2412). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4064)، ومسلم (رقم 1811).

عباد الله! ورغم استبسال الصحابة - رضي الله عنهم - في الدفاع عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقد أُصيب إصابات كثيرة منها: كُسرت رُباعيته، وسال الدم من وجهه، ووقع - صلى الله عليه وسلم - في حفرةٍ ودخلت حلقة المغِفر في وجنتيه، وجعل- صلى الله عليه وسلم - يقول: "كيف يُفلح قومٌ شجوا نبيهم وكسروا رباعيتهُ، وهو يدعوهم إلى الله". فأنزل الله -عز وجل-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128] (¬1). عباد الله! وقد أُشيع بين الصحابة - رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل، فاغتم المسلمون غماً على غمهم، وحزناً على حزنهم، وتولى بعضهم إلى المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم فما يدرون كيف يفعلون. كما قال تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]. عباد الله! أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في الانسحاب بالبقية الباقية حوله حتى انتهى بهم إلى الشِّعب، وأرادت قريش أن تمنع هذا الانسحاب ولكن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1791).

دون جدوى، فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه إلى الشعب الذي قد نزل فيه في أول القتال. عباد الله! وقد يئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين فكفوا عن القتال. فانتهزها أبو سفيان فرصة ليولي الأدبار هو الآخر، وخاف أن تكون الجولة الثالثة للمسلمين كما كانت لهم الجولة الأولى، إلا أنه وقف يشمت بالمسلمين، ويفخر بآلهتهم وجعل ينادي: أفي القوم محمَّد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تجيبوه" قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال أبو سفيان لقد قتل هؤلاء- لتعلموا أنهم قد جاءوا للقضاء على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعلى كبار الصحابة- فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت عدو الله لقد أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان: أُعلُ هبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أجيبوه" قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عُزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجيبوه" فقالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وتجدون مُثلةً لم آمر بها ولم تسؤني" - أي لم آمر الجيش أن يمثل بقتلاكم، ولكن لم يسؤني. وفي رواية

العنصر الثالث: ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم -بعد انتهاء الغزوة.

أخرى قال عمر: "لا سواءٌ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" (¬1). عباد الله! مَثّلَ المشركون يوم أحد بقتلى المسلمين، جدعوا أُنوفهم وآذانهم، وبقروا بطونهم حتى إن هنداً بنت عتبة بقرت بطن حمزة - رضي الله عنه - واستخرجت كبدهُ فلاكتها ثم لفظتها، وَمَثَّلوا بأنس بن النضر حتى أنه ما عرفهُ أحد إلا أخته عرفته ببنانه" (¬2). العنصر الثالث: ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم -بعد انتهاء الغزوة. عباد الله! ولما ولَّى المشركون مدبرين ولم يحرزوا نصراً، ولم يقتلوا ما أرادوا من المسلمين، ولكنهم أصابوا من المسلمين ما أصابوا لحكمة يريدها الله، قام - صلى الله عليه وسلم - وصف المسلمين خلفه ثم رفع يديه يثني على ربه: "اللهم لك الحمد كلُّه، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مُقرِّب لما بعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من فضلك ورحمتك وبركتك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم القيلة -أي الفاقة-، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينهُ في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الفجرة، الذين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3039، 4043). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2805)، ومسلم (رقم 1903).

يكذبون رسُلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق" (¬1). عباد الله! ثم قام - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه ويجمع الشهداء، وحمل نفرٌ من المسلمين شهداءهم ليدفنوهم بالمدينة في مقابر أهلهم فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادفنوا الشهداء في مضاجعهم" (¬2). ومن هنا كانت السنة عدم نقل الموتى من بلدٍ إلى بلدٍ. وقام - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يشرف على دفن الشهداء، وأمر أن يُدفنوا في ثيابهم ودمائهم ولم يُغسِّلهم ولم يصل عليهم، وكان ربما جمع الشهيدين والثلاثة في قبر واحد، لكنه كان يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدٍ منهم قدمه في اللحد على أصحابه" (¬3) إكراماً لأهل القرآن. فلما فرغ من دفنهم قام ينظر إليهم، ويشهد لهم شهادة لا تُرد أبداً إن شاء الله تعالى، قام يقول: "أنا شهيدٌ على هؤلاء، ما من جريح جُرحَ جرحاً في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة ينزف جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك". عباد الله! ثم عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر النهار من يوم السبت، السادس من شوال، من السنة الثالثة للهجرة، فلما بات ليلة الأحد خاف - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع العدو إلى المدينة مرة أخرى، فانتدب سبعين من أصحابه يخرجون في إثر العدو. عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قرأت قول الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172]. ¬

_ (¬1) صحيح انظر: "فقه السيرة" (ص 284 - 285) تحقيق الألباني. (¬2) "صحيح سنن النسائي" (1893). (¬3) رواه البخاري (رقم 1343).

فقالت لعروة ابن أختها: يا ابن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد فانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فانتدب منهم سبعين رجلاً كان فيهم الزبير وأبو بكر (¬1) ". عباد الله! ولما انتهى أبو سفيان إلى مكان بعيد عن المدينة لقيه رجلٌ. فقال: هل أنت مُبلِّغ عني محمداً ولك كذا وكذا؟ قال: نعم فقال: أخبر محمداً أنا راجعون إليهم لنستأصل بقيتهم ونسبي نساءهم وذراريهم، فلما بلغ الخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قالوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل". يقول ابن عباس - رضي الله عنهما- "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار، وقالها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} (¬2). حسبنا الله لديننا، حسبنا الله لكتابنا، حسبنا الله لسنة نبينا، حسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين واخذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بالكفرة الفجرة الذين كذبوا رسولك وصدوا عن سبيلك. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4077)، ومسلم (رقم 2418). (¬2) رواه البخاري (رقم 4563).

الخطبة الخامسة والثلاثون: الدروس والعظات والعبر والفوائد التي تؤخذ من غزوة أحد

الخطبة الخامسة والثلاثون: الدروس والعظات والعبر والفوائد التي تؤخذ من غزوة أحد عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الخامس والثلاثين من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس والعظات والعبر والفوائد التي تؤخذ من غزوة أحد. عباد الله! الفتح والنصر في المعارك من خصائص المسلمين فقط، وأما ما يناله الكفار من المسلمين في بعض المعارك، فإنما هو نصيب فقط، قدَّره الله -عز وجل- لحكمة يعلمها وهو الحكيم العلم. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 140 - 141]. ففي هذه الآية سمى الله -تعالى- ما يكون للمؤمنين فتحاً ونصراً، وسمى ما يكون للكافرين نصيباً. عباد الله! والذي حدث في غزوة أحد كان نصراً عظيماً للمؤمنين، ويظهر ذلك من الجولة الأولى في المعركة؛ فقد حصد المسلمون رؤوس الكفار، وسقط لواء المشركين وولوا مدبرين، وتَبعَهُم المسلمون يقتلونهم ويجمعون الغنائم.

ولذلك قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما نُصِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من موطن كما نُصِرَ يوم أحد": فلما أُنكِرَ عليه ذلك قال: "بيني وبين من أنكر؛ كتاب الله -عز وجل- إن الله يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. يقول ابن عباس: "والحسُّ القتل" (¬1). وإنما دالت الدولة لَمَا عصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفشلوا وتنازعوا في الأمر، وكان ما كان لحكمة يعلمها الله. ولذلك قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152] عباد الله! والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن: كيف يكون الذي أصاب المسلمين من غزوة أحد نصراً عظيماً؟ الجواب: إن النصر كان للمسلمين في أول المعركة لا يقل عن النصر ببدر، ولما أصاب المسلمين ما أصابهم بسبب المخالفة التي وقدت من بعض الرماة، علَّم الله -تبارك وتعالى- المسلمين، وجعلهم يأخذون من غزوة أحد الدروس والعظات والعبر والفوائد التالية: أولاً: تبين للمسلمين خطر النفاق والمنافقين على الإِسلام والمسلمين، ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الحاكم (2/ 256).

وظهر ذلك عندما رجع عبد الله بن أُبي ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش، قبل الوصول إلى جبل أحد. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 166 - 167]. عباد الله! وهذه هي أول فائدة من فوائد غزوة أحد، وهي تمييز المنافقين والفصلُ بينهم وبين المؤمنين الصادقين. قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. عباد الله! بعد النصر العظيم الذي مَنَّ الله به على المؤمنين في غزوة بدرٍ الكبرى دخل في الإِسلام بعضُ الناس، ظاهرهم الإِسلام وباطنهم الكفر، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فاقتضت حكمة العليم الحكيم أن يمتحن المسلمين بما أصابهم يوم أحدٍ، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويتبين الكاذب من الصادق. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3] عباد الله! فبعد غزوة أحد انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: كافرين ظاهرهم الكفر وباطنهم الكفر، ومؤمنين ظاهرهم الإيمان وباطنهم الإيمان، ومنافقين ظاهرهم الإِسلام وباطنهم الكفر.

عباد الله! ولما كان المنافق أشد خطراً على الإِسلام والمسلمين من غيره، لأنه لا يَظهَرُ ولا يُعْرَفُ، فقد فضحهم الله في كتابه وحذر المؤمنين منهم. فقال تعالى عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] عباد الله! ولئن أفادت غزوة بدر في خذل الكافرين، فإن غزوة أحد أفادت مثلها في فضح المنافقين، وربَّ ضارة نافعة، وربما صحت الأجساد بالعلل. عباد الله! تبين للمسلمين بعد غزوة أحد أن النصر يكون مع الصبر والاعتصام والطاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخذلان يكون مع الاستعجال والتفرق والتنازع والمعصية لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. عباد الله! بالصبر ننتصر على أعدائنا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن النصر مع الصبر" ولذلك أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بالصبر وعدم الاستعجال. قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. وقال- صلى الله عليه وسلم -: " .. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".

فليتق الله دعاة الاستعجال، فقد جاء الإِسلام يأمر بالاتحاد والاعتصام! وينهي عن التفرق والتنازع والاختلاف. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31 - 32] عباد الله! بالطاعة لله ولرسوله- صلى الله عليه وسلم - ننتصر على أعدائنا، وبالمعاصي ننهزم، ولذلك جاء الإِسلام يأمر بالطاعة لله ولرسوله- صلى الله عليه وسلم -، ويحذر من المعاصي لأن المعاصي سبب الخذلان. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45 - 46]، وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160] ولذلك لما تعجب المسلمون مِنَ الذي أصابهم في غزوة أحد، أخبرهم الله -عز وجل- أن المخالفة التي وقعت من الرماة هي السبب، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165]. عباد الله! بمخالفة واحدة وقعت من بعض الرماة في غزوة أحد؛ نزل ما نزل بالمسلمين، فما بالنا بالمخالفات الكثيرة التي تقع من الأمة في هذا الزمان.

فيا عباد الله! كونوا من الاستعجال على حذر، وكونوا من التنازع والفرقة على حذر، وكونوا من المعاصي والذنوب على حذر فإن ذلك من أسباب الخذلان. ثالثاً: تبين للمسلمين بعد غزوة أحد، أن من سنة الله وحكمته في رسله وأوليائه وأحبابه، أن يُدالوا مرة، ويُدالُ عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة. قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. ولذلك كان الذي أصاب المسلمين في غزوة أحد؛ علم من أعلام النبوة، ودليل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله للناس إني رسول الله إليكم جميعاً، ولذلك لما بَعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإِسلام يقول له: "أسلم تسلم". قال هرقل لحاشيته: ائتوني بمن بأرضي من العرب، فجيء بأبي سفيان ومعه نفر من المشركين فسأله هرقل عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من ضمن الأسئلة: هل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم. قال هرقل: كيف كانت الحرب بينكم وبينه؟ قال أبو سفيان: سجال، يُدال علينا مرة، ونُدال عليه الآخرة. فقال هرقل: تلك سنة الله مع أنبيائه ثم تكون العاقبة لهم" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 7).

ولذلك قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} [آل عمران: 137]. رابعاً: تبين للمسلمين أنه إذا مات الرسول بقيت الرسالة، وإذا مات الداعية بقيت الدعوة، وأنه يجب على المسلم أن يموت على الإِسلام والتوحيد، سواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي. ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله- في "زاد المعاد" (ص 224). ومنها -أي من الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد-: أن وقعة أحد كانت مقدمةً وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فثبتهم، ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يقتلوا فإنهم إنما يعبدون ربَّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌ لا يموت. فلو مات محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بُعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليخلد لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإِسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل. فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]. خامساً: تحصَّل كثير من المسلمين في غزوة أحد على الشهادة في سبيل الله والشهادة في سبيل الله درجة عالية يتطلع إليها كل مسلم ومسلمةٍ،

1 - سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب

والصحابة - رضي الله عنهم - هم أحرص الناس على طلب الشهادة في سبيل الله. عباد الله! تعالوا بنا لنتعرف على بعض الصحابة الذين فازوا بالشهادة في غزوة أحد. 1 - سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب: عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، ذهب جماعةٌ إلى وحشى فقالوا له: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال وحشي: نعم. إن حمزة قَتَلَ طُعَيْمَةَ بن عدي بن الخيار ببدرٍ، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر - قال: فلما أن خرج الناس عام عينين -وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه وادٍ- خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباعٌ، فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإِسلام ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً فقيل لي إنه لا يهيج الرسل - أي لا ينالهم منه مكروه. قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآني قال: "أنت وحشيٌ"؟ قلت: نعم. قال: "أنت قتلت حمزة" قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك. قال: "فهل تستطيع أن تُغيِّبَ وجهك عني"؟

2 - أنس بن النضر - رضي الله عنه -

قال: فخرجت فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان فإذا رجل قائم في ثلمة جدار، كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه. قال: "ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته" (¬1). 2 - أنس بن النضر - رضي الله عنه -: عن أنس - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع! قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِلَ ومَثَّلَ به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى- أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4072).

3 - عبد الله بن حرام، والد جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-

يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] (¬1). 3 - عبد الله بن حرام، والد جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لما حضرت أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني -أي أظنني- إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن علي ديناً فاقضه واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفنت معه آخر في قبره ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه، فجعلته في قبر على حده" (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه، أبكي وينهوني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله باجنحتها حتى رفعتموه" (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مهتم فقال: "ما لي أراك منكسراً ياجابر؟ ". قلت: استشهد أبي يوم أحد، وترك عيالاً وديناً. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلمه ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2805)، ومسلم (رقم 1903). (¬2) رواه البخاري (رقم 1351). (¬3) رواه البخاري (رقم 1244).

4 - عمرو بن الجموح - رضي الله عنه -

كفاحاً -أي: مواجهة ليس بينه وبين الله حجاب". فقال الله تعالى: أي عبدي تمنَّ عليَّ أعطك. قال: يا رب تحيني فاقتل ثانية. قال الله سبحانه: لقد سبق القول مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فابلغ من ورائي. فنزلت الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 169 - 170] (¬1). 4 - عمرو بن الجموح - رضي الله عنه -: وكان أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما توجه إلى أحد أراد أن يخرج معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة!! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد. وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله -عز وجل- أن يرزقه الشهادة؟ فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقتل يوم أحد شهيداً" (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه": (157). (¬2) صحح الشيخ الألباني إسناده في تحقيق "فقه السيرة" (ص 262).

5 - عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -

وهناك زيادة في "مسند الإِمام أحمد" (¬1): أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مرّ عليه بعد ما قتل فقال - صلى الله عليه وسلم - "كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة" (¬2). 5 - عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -: عن سعيد بن المسيب قال: "قال عبد الله بن جحش: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني بم ذاك؟ فأقول: فيك. قال سعيد: إني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما بر أوله" (¬3). وهذا الشاهد من زيادة في آخره قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه معلقتان في خيط" (¬4). سادساً: عزى الله نبيه وأولياءه في شهدائهم الذين قتلوا يوم أحد، أحسن عزاء وألطفه وأبره، فقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 169 - 170]. عن مسروق قال: سألنا ابن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية فقال: أما إنا قد سألنا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أرواحهم في جوف طير ¬

_ (¬1) (رقم 22553 - المؤسسة). (¬2) قاله الشيخ الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (ص 262): "وسنده صحيح". (¬3) رواه الحاكم (3/ 199 - 200) وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني: لكن له مشاهد موصول أخرجه البغوي كما في الإصابة. (¬4) انظر "فقه السيرة": تحقيق الألباني (ص 292).

خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا مِن أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس بهم حاجة تركوا" (¬1). عباد الله! وأنزل الله -عز وجل- قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يمسح به جراحات المسلمين ويزيل به عنهم ما أصابهم في غزوة أحد، فقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 137 - 142]. سابعاً: فائدة: إن الذي يقرأ الآيات الستين التي نزلت في سورة آل عمران تتحدث عن غزوة أحد، يرى أن الله تبارك وتعالى تخللها بنداء على المؤمنين يحذرهم فيه من أكل الربا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1887).

مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 130 - 132]. فهذا سؤال يفرض نفسه علينا الآن. ما السر، وما الحكمة في النهي عن الربا في هذا الموضع؟ الجواب: أن الجهاد في سبيل الله محتاجٌ للمال كما هو محتاج للنفس، ولذلك قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ثم قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال: 60] والجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10 - 11]. والنبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (¬1). عباد الله! وكما يجب أن تخلص النوايا من كل الشوائب، يجب أن تخلص الأموال التي تنفق في الجهاد من كل الشوائب، وأوسخ شائبة تشوب المال هي شائبة الربا، وإنفاق المال الربويّ في الجهاد في سبيل الله من أكبر أسباب الهزيمة والخذلان. ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (2186).

وذلك لأن أكل الربا من أكبر الكبائر، والمعاصي -كما تبين لنا- من أسباب الهزيمة والخذلان. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ظهر الزنا والربا في قريةٍ، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" (¬1). عباد الله! وأعلن الله تبارك وتعالى الحرب على آكل الربا، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 278 - 279] عباد الله! والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من الربا تحذيراً شديداً. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستةِ وثلاثين زينة" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه" (¬3). عباد الله! ولما كان الله تعالى يعلم المؤمنين ويربيهم على الابتعاد عن كل عوامل الهزيمة والخذلان، عرفهم بجريمة الربا أثناء الحديث عن غزوة أحد ليبتعدوا عنها ويتقوها. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ¬

_ (¬1) "صحيح الجامع" (692). (¬2) "صحيح الجامع" (3375). (¬3) "صحيح الجامع" (3539).

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}. عباد الله! ولقد استفاد المسلمون الأولون مما نزل عليهم من عند ربهم في شأن غزوة أحد استفادة عظيمة، فما هزموا بعدها لأنهم أخذوا منها العبر والعظات وتجنبوا أسباب الهزيمة والخذلان، فكان النصر حليفهم بفضل الله. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 126].

الخطبة السادسة والثلاثون: غدر الكفار: مأساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة

الخطبة السادسة والثلاثون: غدر الكفار: مأساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء السادس والثلاثين من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غدر الكفار. ويتمثل هذا الغدر في مأساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة. عباد الله! تكلمنا عن غزوة أحد وتبين لنا أن الذي أصاب المسلمين فيها كان بسبب المخالفة التي وقع فيها بعض الرماة؛ عندما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقفوا على الجبل ولا يتركوه؛ فنزلوا ليجمعوا الغنائم فكان ما كان. والله يخبرنا بذلك فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165]. عباد الله! وكان من نتائج غزوة أحد أن تجرأ الكفار على المسلمين وأخذوا يفكرون في استئصال المسلمين وإبادتهم، ففي مكة أخذ أبو سفيان ابن حرب يهدد ويتوعد، واليهود في المدينة تخون وتغدر ويفرحون بما حدث للمسلمين في أحد، والقبائل العربية من الأعراب حول المدينة تعتدي وتخون وتغدر وهم أشد كفراً ونفاقاً.

أولا: مأساة يوم الرجيع.

عباد الله! وبالفعل بدأ الكفار -والكفر ملة واحدة- في التحرش بالمسلمين ولكن لا عن طريق التصريح والمواجهة، بل عن طريق الحيلة والمكر والخديعة والغدر ويظهر ذلك جلياً من ماساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى ما حدث في يوم الرجيع، وما حدث عند بئر معونة، ليتبين للجميع أن الغدر والمكر والخيانة من شيم وأخلاق الكفار من قديم الزمان وحتى يومنا هذا، وليست من شيم المسلمين. أولاً: مأساة يوم الرجيع. والرجيع هو: اسم للمكان الذي وقعت عنده المأساة، وتتلخص هذه المأساة فيما يلي: أرسلت قبيلتان من القبائل العربية المجاورة للمدينة -عضل والقارة- وافدهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره أن بهم إسلاماً، وأنهم يريدون أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم من يفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن وأحكام الإِسلام، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تبليغ دين الله -عز وجل- ونشر الإِسلام وإظهاره استجابة لأمر ربه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، فقد استجاب لهم - صلى الله عليه وسلم - وبعث لهم عشرة من أصحابه وأمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت - رضي الله عنه -. فلما وصل الوفد إلى مكان يسمى الرجيع بين عسفان ومكة، أغار عليهم بنو لحيان (من هذيل) وهم قريب من مائتي مقاتل، فأحاطوا بهم وقد لجأ الوفد من الصحابة إلى مكان مرتفع. قال المشركون للوفد: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً فقال عاصم -وهو أميرهم-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم

أَخبر عنَّا نبيك، فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسوله خبره، فأخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا". وفي رواية: "فقال عاصم: اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحمي لي لحمي" (¬1). فقاتلوهم حتى قَتَلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خُبيب بن عدي وزرر بن الدثنة، وعبد الله بن طارق. عباد الله! ولما قَتَلَ المشركون عاصماً أرادوا أن يأخذوا رأسه لإمرأة من المشركين نذرت؛ إن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيها الخمر؛ لأن عاصماً - رضي الله عنه - كان قد قتل ابنيها يوم أحد، فأرسل الله تعالى النحل والدبابير فأظلته فحمته منهم فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم - رضي الله عنه - قد أعطى الله تعالى عهداً أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً، فوفَّى الله تبارك وتعالى له. فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته؟ عباد الله! وبقي من الوفد خبيب وزيد وعبد الله، فدعاهم المشركون إلى النزول وأعطوهم العهد والمثياق ألا يقتلوهم فنزلوا. فلما استمكن المشركون من الصحابة الثلاثة- ربطوهم بالحبال- فقال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر وأبى أن يسير معهم فجروه وعالجوه على أن يسير معهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلق المشركون بخبيب وزيد فباعوهما بمكة. ¬

_ (¬1) انظر "فتح الباري".

فأما خبيب فاشتراه بنو الحارث بن عامر ليقتلوه بالحارث بن عامر الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر. فمكث خبيب أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ به فأعارته- الله أكبر! ما هذا يا خبيب غداً ستقتل وتستعير هذا الموسى ليحلق عانته تطبيقاً لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، أين تربى هؤلاء؟! حرص على السنة في آخر لحظة من حياته. قالت: فغفلت عن صبيٍّ لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال -أي خبيب- أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك -إن شاء الله تعالى- قالت: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزق رزقه الله- إنها الكرامة يكرم بها ربنا؟ من يشاء من عباده- قالت: فلما أرادوا أن يقتلوه خرجوا به من الحرم إلى الحل. فلما عزموا على قتله قال لهم: دعوني أُصلي ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، فلما انصرف قال لهم: أما والله لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت في الصلاة، فكان أول من سنّ الصلاة عند القتل، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً ثم أنشأ يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذاك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصالِ شلو ممزع (¬1) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 7402).

ثانيا: مأساة بئر معونة

ثم تقدم فقتل - رضي الله عنه -. عباد الله! وأما زيد فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف وكان أمية بن خلف قد قتل يوم بدر. فلما أرسله أيضاً إلى الحل ليقتل خارج الحرم، اجتمع عليه رهط من قريش فيهم سفيان بن حرب {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} فقال أبو سفيان: يا زيد! أنشدك الله! أتحب أن محمداً مكانك الآن تضرب عنقه وأنت جالس في أهلك؟ فقال زيد - رضي الله عنه -: والله ما أحب أن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه وأنا في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً، كَحب أصحاب محمد محمداً (¬1). وفي هذا يقول القائل: أسرت قريش مسلماً ... فمضى بلا وجلٍ إلى السياف سألوه هل يرضيك أنك ... سالمٌ ولك النبي فدىً من الإتلاف فأجاب: كلا لا سلمت من ... الردى ويصاب أنف محمَّد برعاف ثانياً: مأساة بئر معونة عباد الله! جاء وفد من قبائل رعل وذكران وعصية وبني لحيان إلى النبي ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (3/ 160).

- صلى الله عليه وسلم - وأظهروا الإِسلام، واستمدوه على قومهم (أي طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمدهم برجال من أصحابه إلى أقوامهم يعلمونهم الإِسلام والقرآن وأحكام الدين). ومع أن العهد بالغدر الأول قريب، ولم ينس النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه العشرة الذين قتلوا يوم الرجيع، إلا أن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - الشديد وطمعه الكبير في إسلام الناس وانتشار الإِسلام جعله يستجيب لهذا الوفد، ويرسل معهم سبعين صحابياً من خيرة أصحابه. يقول أنس - رضي الله عنه - "كنا نسميهم القراء، كانوا يقرءون القرآن بالليل ويتدارسونه فيما بينهم ويتعلمون، فإذا أصبحوا جاءوا بالماء فوضعوه بالمسجد واحتطبوا فباعوه واشتروا طعاماً لأهل الصفة والفقراء". فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم. عباد الله! وعندما انتهى القراء إلى "بئر معونة" بعثوا أحدهم -وهو حرام ابن ملحان- إلى عامر بن الطفيل رأس الكفر في تلك البقاع، فأعطاه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يدعوه فيه إلى الإِسلام، فلم ينظر "عامر" في الكتاب وأمر الكافر رجلاً من أتباعه أن يغدر بحامل الرسالة، فما شعر حرام إلا وطعنةً تخترق ظهره وتنفذ من صدره. فقال حرام - رضي الله عنه -: "الله أكبر، فزت ورب الكعبة". وكأن هذه هي الشهادة التي يتمناها من قديم. عباد الله! ومضى "عامر" الكافر في جرمه، فاستصرخ أعوانه ليواصلوا العدوان على سائر القوم، فانضمت إليه قبائل "رعل" و"ذكوان" و"عصية" و "بني لحيان" فهجم بهم عامر على القراء.

ورأى هؤلاء الموت مقبلاً عليهم من كل صوب، فهرعوا إلى سيوفهم يدفعون عن أنفسهم دون جدوى، إذ استطاع الكفرة أن يقتلوهم جميعاً غير رجل رقى فكان في رأس جبل، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر. فنعاهم لأصحابه فقال: إن إخوانكم قد أصيبوا -أي قتلوا جميعاً- وإنهم قد سألوا الله عَزَّ وَجَلَّ فقالوا: ربنا بلغ عنا إخواننا بما رضيت عنا ورضينا عنك، فأخبرهم عنهم. قال أنس: "فقرأنا فيهم قرآناً ثم نسخ: بلغوا عنا قومنا، أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" (¬1) عباد الله! فحزن النبي- صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء السبعين القراء حزناً شديداً. يقول أنس - رضي الله عنه -: "ما رأيتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وَجَد -أي حزن- على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة وكانوا يُدعَوْنَ القراء، فمكث شهراً يقنت على قتلتهم" (¬2). عباد الله! ومكث النبي- صلى الله عليه وسلم - شهراًَ يقنت على الكفرة الذين قتلوهم، كلما صلى ورفع رأسه من الركوع رفع يديه، وقال: "اللهم العن رعلاً وذكوان وعصيّة وبني لحيان عصوا الله ورسوله" (¬3). عباد الله! وهكذا فقد المسلمون في شهر واحدٍ ثمانين من خيرة الدعاة، وقبل ذلك بقليل فقد المسلمون سبعين من خيرة الصحابة في غزوة أحد ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2801)، ومسلم (رقم 677). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1300)، ومسلم (رقم 677). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1003)، ومسلم (رقم 1001).

أولا: الغدر والخيانة من أخلاق الكفار واليهود

ولكن كل ذلك في سبيل الله ودعوة الناس إلى هذا الدين، ليتبين لك يا تارك الصلاة كيف وصلك هذا الدين، ليتبين لك يا من تتخلى عن دينك كيف وصلك هذا الدين، وصلك على جماجم الصحابة، قدموا الأرواح والأموال ليوصِّلوا لك هذا الدين وأجرهم عند الله، ليعلم الجميع أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى رجال يقدمون الروح والمال رخيصة في سبيل هذا الدين العظيم. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من مأساة يوم الرجيع ومأساة بئر معونة فهي: أولاً: الغدر والخيانة من أخلاق الكفار واليهود، وليست من أخلاق المسلمين ويظهر ذلك مما فعله المشركون بالصحابة من حادثة يوم الرجيع، وفي حادثة بئر معونة؛ فهذا أكبر دليل على أن المشركين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، أما المسلمون فلا يغدرون ولا يخونون ويظهر ذلك من فعل خبيب بن عدي - رضي الله عنه - عندما كان سجيناً عند بني الحارث، وتدحرج الغلام الصغير حتى وصل إلى خُبيب فأخذه خبيب ووضعه على فخذه، فلما خافت أم الغلام قال لها خبيب: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. ثانياً: إثبات كرامة الأولياء. - ويظهر ذلك مما حدث لخبيب - رضي الله عنه -، عندما كان مسجوناً عند بني الحارث

تقول إحدى بنات الحارث: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقهُ الله". - ويظهر ذلك أيضاً مما حدث مع عاصم بن ثابت - رضي الله عنه - عندما دعا فقال: "اللهم أخبر عنا نبيك" فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره، وعندما دعا فقال: "اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحمي لي لحمي"، فاستجاب الله لعاصم، فحمى لحمه من الكفار عندما أرادوا أن يقطعوا رأسه، فأرسل الله مثل الظلة من الدبابير فحمت لحمه من الكفار فلم يقدروا منه على شيء. فالله يكرم أوليائه بكرامات ولكن الولي لا يخبر بهذه الكرامات ولا يصور نفسه بأفلام الفيديو لتنشر في العالم، فالله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم: 32]. والله سبحانه وتعالى له أولياء، وللشيطان أولياء فلا بد للمسلم أن يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقد وصف الله تعالى أولياءه فقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62 - 63]. فإذا ظهرت خارقة على يد رجل ما، نظرنا في حاله فإذا كان من المؤمنين الصادقين المتبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من أولياء الرحمن، وإن كان من المشعوذين الدجالين المخالفين لكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من أولياء الشيطان. ثالثاً: جواز الدعاء على الكفرة والمشركين بالعموم، ويؤخذ ذلك من

دعوة خبيب - رضي الله عنه - على المشركين عندما عزموا على قتله فقال: "اللهم أحصهم عدداً". ويؤخذ أيضاً من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما دعا شهراً كاملاً على الذين قتلوا السبعين من القراء. رابعاً: الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب ويظهر ذلك مما حدث للصحابة من مأساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب ويعرف أن ذلك سيحدث لأصحابه ما أرسلهم. وقد دلت الأدلة من كتاب ربنا على أن الرسل لا يعلمون الغيب إلا ما أعلمهم الله به. قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]. وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26 - 27]. خامساً: التمسك بالسنة إلى الموت وبظهر ذلك من تعظيم الصحابي لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن خبيباً مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها، ومع ذلك كان حريصاً على سنة الاستحداد واستعار الموسى لذلك، وفي هذا واعظ لمن يستهين بكثير من السنن، بل وكثير من الواجبات بحجة أنه لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإِسلام كافة، والسعي لإقامة شرع الله، والله تعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}.

وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة السابعة والثلاثون: غزوة بني المصطلق (المريسيع)

الخطبة السابعة والثلاثون: غزوة بني المصطلِق (المريسيع) عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء السابع والثلاثين من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون: عن غزوة بني المصطلق. عباد الله! وبنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة، وكانوا يسكنون قديداً وعُسفان على الطريق من المدينة إلى مكة، وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإِسلام كان في إسهامهم واشتراكهم في جيش قريش من غزوة أحد. عباد الله! وحديثنا عن غزوة بني المصطلق سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: أحداثُ الغزوة. العنصر الثاني: دور المنافقين الخبيث في هذه الغزوة. العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هذه الغزوة. العنصر الأول: أحداث الغزوة عباد الله! تجرأت قبيلة بني المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أُحُدٍ كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة، فأخذت هذه القبيلة برئاسة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ وتستعد، بجمع الرجال والسلاح لغزو المدينة لتستأصل المسلمين. عباد الله! ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق جمعوا المجموع لغزو المدينة فبعث - صلى الله عليه وسلم - عيونه يتأكدوا له من صحة هذا الخبر، فأكدوه، فكان لا بدَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من التحرك السريع نحو هذه

المجموع لتفريقها، وتلقينها درساً قاسياً لا تنساه، ويكون رادعاً لغيرها من القبائل التي تفكر أن تحذو حذوها في حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغزو المدينة عباد الله! خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين إلى بني المصطلق فباغتوهم في ساعة لم يتوقعوها عند بئر يقال له المريسيع، فتفرقوا يميناً وشمالاً وولوا الأدبار، فقتل من قتل منهم، وأُسر من أُسر منهم، وسبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - النساء والذراري، وغنم الأموال دون آية مقاومة تُذكر. عباد الله! وبهذا لقَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق، وغيرهم من القبائل المجاورة درساً لا ينسونه، أراهم من نفسه أن به وبالمسلمين قوة قادرة على حماية المدينة، وردّ كل من يريدها بسوء. عباد الله! ولما عاد الجيش من غزوة بني المصطلق، وفي الطريق إلى المدينة أدركت الجيش القائلة في وادٍ كثير العضاة فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرّق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سَمُرة فعلق بها سيفه ونام الجيش نومة، فجاء أعرابيٌ مشرك فأخذ سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترطه -أي سله وهو في يده- فقال الأعرابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تخافنُي؟ قال- صلى الله عليه وسلم -: "لا". فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "الله- ثلاثاً"، فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من يمنعك مني؟ " فقال الأعرابي: كن خير آخذٍ. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ ". قال الأعرابي: لا، ولكني أُعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى سبيله، فأتى الأعرابي أصحابه فقال: "جئتكم من عند خير الناس" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح: "رياض الصالحين" (رقم 79) تحقيق الألباني.

إنها والله أخلاق النبوة. عباد الله! لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وقسم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق في سهم واحدٍ من الصحابة فكاتبتهُ ثم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستعينه على كتابتها، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن رأيه. ودقة نظره، أن يُكرمها ويرفع من شأنها وينزلها منزلتها اللائقة بها كبنت ملك أو رئيس قوم، فعرض عليها أن يدفع عنها كتابتها ويتزوجها فوافقت -رضي الله عنها-. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع على عائشة -رضي الله عنها- وهي تخبرنا الخبر. تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما قسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له، وكانت امرأةً مُلاّحة تأخذها العين، فجاءت تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابتها، فلما قامت على الباب فرأيتها كرهت مقامها، وعرفت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سيرى منها مثل الذي رأيتُ. فقالت: يا رسول الله! إني جويرية بنت الحارث، وقد كان من أمري ما لا يخفى عليك، وإني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبته على نفسي، وجئتك يا رسول الله أستعينك على كتابتي. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أو خيرٌ من ذلك"؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أدفع عنك كتابتك وأتزوجُك" قالت: قد فعلتُ، فما هو أن تزوجها حتى قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت أيدينا، فبادروا فأطلقوا سراح السبايا كلهن.

العنصر الثاني: دور المنافقين الخبيث في غزوة بني المصطلق

قالت عائشة: فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أُعتق بسببها أكثر من مائة أهل بيت من بني المصطلق" (¬1). العنصر الثاني: دور المنافقين الخبيث في غزوة بني المصطلق. عباد الله! لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بني المصطلق، خرج معه نفرٌ من المنافقين فكان خروجهم كما وصفهم الله في كتابه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}. وعندما انتصر المسلمون على بني المصطلق، وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإِسلام نصراً جديداً ازدادوا غيظا على غيظهم كما وصفهم الله في كتابه فقال: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}، فعند ماء المريسيع عكّرَ المنافقون هذا النصر بأن أثاروا العصبية الجاهلية بين المهاجرين والأنصار، وأثاروا الفتنة وغرسوا بذور الفرقة في النفوس. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - وهو شاهد عيان يخبرنا الخبر. يقول - رضي الله عنه -: "كنا في غزاة -وهي غزوة بني المصطلق- فكسح رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار -أي ضربه برجله- فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَا بالُ دعوى الجاهلية"؟ ¬

_ (¬1) "صحيح أبي داود" (3327).

قالوا: يا رسول الله! كسح رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها منتنة". فسمع بذلك عبد الله بن أُبي -زعيم المنافقين- فقال: أو قد فعلوها؟ -يقصد بذلك المهاجرين- أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- يعني: لعنة الله بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: دعه يا عمر، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد" (¬1). عباد الله! والذي بلَّغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالة ابن أبي هو زيد بن الأرقم - رضي الله عنه - فتعالوا بنا لنستمع إليه وهو يخبرنا الخبر يقول زيدٌ - رضي الله عنه -: "خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة - وهي غزوة بني المصطلق- فقال عبد الله بن أُبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: فذكرتُها لعمِّي أو لعمر فذكرها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابن أُبي وأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا فصدقهم وكذَّبني قال زيد: فأصابني همٌ ما أصابني مثلهُ قط، فجلستُ في بيتي فجاء عمِّى فقال: ما أردت إلى أن كذَّبك رسول الله ومقتك؟ فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 146، 6/ 128)، و"صحيح مسلم" (8/ 19).

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} إلى قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 1 - 8]. فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها علي ثم قال: "إن الله قد صدَّقك يا زيدُ" (¬1). عباد الله! وقد فضح الله هذا المنافق، وضعف مركزه في قومه، فكانوا يعنفونه ويلومونه كلما أخطأ. فهذا ابنه - الصحابي الجليل- عبد الله بنُ عبد الله بن أُبي استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته" (¬2). فداك أبي وأمي يا رسول الله، إنها أخلاق النبوة. عباد الله! ومنع هذا الابن المؤمن أباه المنافق من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها، وقال له: لتعلم أنك الذليل وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز. عباد الله! ولما فشل المنافقون بزعامة ابن سلول في إثارة العصبية الجاهلية ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4900)، ومسلم (رقم 2772). (¬2) "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (2/ 410).

العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد مما حدث في غزوة بني المصطلق

بين المهاجرين والأنصار، سعوا إلى إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها. عباد الله! ما هو الإفك؟ ومن الذي تولى نشره بين الناس؟ ومن التي اتهموها بهذا الإفك؟ هذا الذي نعرفه في الجمعة القادمة - إن شاء الله تعالى-. العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد مما حدث في غزوة بني المصطلق: أولاً: على الدعاة إلى الله أن يتخلقوا بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم؛ استجابة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعفو عن الجاهلين، ولا ينتصر لنفسه أبداً ولا يغضب لها ويظهر ذلك: 1 - من معاملته - صلى الله عليه وسلم - مع الأعرابي عندما أراد أن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له من يمنعك مني؟ فقال له رسول الله: "الله- ثلاثاً .. "، فوقع السيف، وأخذه رسول الله فقال له: "من يمنعك مني .. " فعندما خلى سبيله رجع الأعرابي إلى قومه يقول: جئتكم من عند خير الناس. 2 - ومن معاملته - صلى الله عليه وسلم - مع ابن سلول زعيم المنافقين بعد ما قال ما قال، وأراد ابنه المؤمن أن يقتل أباه فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته". ثانياً: الأسماء الشريفة المشروعة إذا قُصد بها تفريق المسلمين وتفتيت جماعتهم، تصير من دعوى الجاهلية، وهي مُنتنةٌ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمع أن اسم المهاجرين واسم الأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف

أصحابها، وقد سماهم الله -عز وجل- بهذه الأسماء على سبيل المدح لهم فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. إلا أن هذه الأسماء لما استعملت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء العصبيات الجاهلية أنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "دعوها فإنها منتنة". ومن هنا أقول: من المشروع ولا بأس في ذلك ولا حرج أن يقول الإنسان أنا عراقي أو مصري أو فلسطين أو أردني، ولكن إذا استعملت هذه الأسماء في العصبية والحمية التي تفرق المسلمين فهي من دعوى الجاهلية وهي منتنة. ثالثاً: العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذل والهوان للكفرة والمشركين والمنافقين. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون:8]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. فعندما أراد ابن سلول- زعيم المنافقين- أن يُعز نفسه بمعصية الله؛ أذلة الله وفضحه، كما حدث في غزوة بني المصطلق. فالعزة بالإِسلام. رابعاً: المفسدة الكبرى تُدفع بالمفسدة الصغرى ويؤخذ ذلك مما حدث في غزوة بني المصطلق عندما قال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "دعه يا عمر، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه". اللهم فقهنا في ديننا.

الخطبة الثامنة والثلاثون: حديث الإفك

الخطبة الثامنة والثلاثون: حديث الإفك عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن غزوة بني المصطلق، وتبين لنا دور المنافقين الخبيث في تلك الغزوة، فقد حاولوا إثارة العصبية الجاهلية بين المهاجرين والأنصار ولكنَّ الله سلَّم. وقال زعيمهم عبد الله بن أُبي بن سلول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال أيضاً: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقد فضحه الله -عز وجل-، وأنزل في فضيحته قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. عباد الله! ولم يتوقف هذا المنافق ومَنْ معه من المنافقين إلى هذا الحد من الاعتداء والمكر، ولكنهم سَعوا إلى إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها وليس لها أساس من الصحة. عباد الله! ما هو الإفك؟ ومَنْ الذي اختلقه وتولى نشره بين الناس في غزوة بني المصطلق، وبعد الرجوع إلى المدينة؟ ومن هي البريئة التي رميت بهذا الإفك عدواً وظلماً؟ وكيف عاش الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في المدينة شهراً كاملاً على أعصابهم بسبب هذا الإفك؟ وكيف برأ الله تعالى أم المؤمنين مِنْ فوق سبع سماوات، فأنزل فيها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة؟

عباد الله! تعالوا بنا إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لنستمع لها وهي تخبرنا الخبر؛ عائشة -رضي الله عنها- أتعرفونها؟ هي الصديقة بنت الصديق، التي تربت في بيت أبي بكر الصديق، ثم انتقلت وهي طفلة إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تعرف الشرّ. عائشة - رضي الله عنها- التي قال- صلى الله عليه وسلم - فيها: "أحب الناس إليَّ عائشة ومن الرجال أبوها". عائشة -رضي الله عنها- التي قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". عائشة -رضي الله عنها- التي قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "عائشة زوجتي في الجنة". عائشة -رضي الله عنها- التي قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام". ثم بعد ذلك، تأتي الرافضة والشيعة الشنيعة، يتهمون أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. عباد الله! روى الإمامُ البخاري في "صحيحه" والإمام مسلمٌ في "صحيحه" أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائهِ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه". قالت -رضي الله عنها-: "فأقرع بيننا في غزوة غزاها" -وهي غزوة بني المصطلق- فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد ما أُنزل الحجاب فأنا أُحملُ في هودجي، وأنزل فيه مسيرنا". قالت- رضي الله عنها-: "حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه وقفل"

-أي: رجع- "ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرَّحيل، فقمت حين آذنوا بالرَّحيل، فمشيتُ حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرَّحلِ فلمستُ صدري فإذا عِقدي -من جزع أظفار- قد انقطع، فرجعت فالتمستُ عِقدي فحبسني ابتغاؤه" -أي: تأخرت وأنا أبحث عن عقدي-. قالت: رضي الله عنها-: "وأقبل الرهطُ الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركبُ وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذا ذاك خِفافاً لم يغشهنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم ثِقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنِّ فبعثوا الجمل وساروا". قالت -رضي الله عنها-: "ووجدت عِقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليَّ". قالت -رضي الله عنها-: "فبينما أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السُّلمي، قد عرّسَ مِن وراء الجيش" -أي: تأخر- "فأدّلج" -أي: جاء في آخر الليل- "فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضرب الحجابُ عليَّ". قالت - رضي الله عنها-: "فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني" - أي: انتبهت من نومي على قوله "إنا لله وإنا إليه راجعون" - "فخمرتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما يُكلمني كلمة، ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعهِ، حتى أناخ راحلتهُ .. فركبتُها، فانطلق يقود بي الرَّاحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة" -أي: نزلوا في شدة الحر- "فهلك من هلك

في شأني وكان الذي تولى كِبَرهُ عبد الله بن أُبي ابن سلول". عباد الله! عاد الجيش من غزوة بني المصطلق إلى المدينة، وفي المدينة أخذ المنافقون يتكلمون بهذا الإفك هنا وهناك- وهذه هي البيئة التي يترعرع فيها النفاق- تقول -رضي الله عنها-: "فقدمنا المدينة فاشتكيتُ" -أي: مرضت- "حين قدمنا المدينة شهراً، والناسُ يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو -أي والذي- يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيُسلِّم ثم يقول: "كيف تيكم" فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرِّ. تقول -رضي الله عنها-: "حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبلَ المناصع، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .. فأقبلتُ أنا وأم مسطح قِبلَ بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت: تعس مِسطح. فقلتُ لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً قد شهد بدراً، قالت: أي هنتاهُ - أي يا مسكينة - أو لم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضاً إلى مرضي" تقول -رضي الله عنها-: "فلما رجعت إلى بيتي، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: "كيف تيكم" قلتُ: أتأذِنُ لي أن آتي أبويَّ؟ قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أتيقن الخبر من قِبلَهما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول -رضي الله عنها-: فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أُمَّتاهُ! ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنيةُ هوِّني عليك. فوالله! لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها -أي الكلام- قالت: قلتُ: سبحان

الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع" - أي لا ينقطع- "ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي". عباد الله! أبطأ الوحي في النزول؛ والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتألم مما يسمعُ من كلام الناس، فدعا بعض أصحابه يستشيرهما في فِراق أهله. تقول - رضي الله عنها-: "ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالبٍ وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي -أي أبطأ ولم ينزل- يستشيرُهما في فراق أهله". قالت: فأمَّا أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلمُ في نفسه لهم من الوُدِّ. فقال: يا رسول الله! همُ أهلك ولا نعلمُ إلا خيراً. وأمَّا عليُ بن أبي طالب فقال: لم يُضيق اللهُ عليك، والنساء سواهما كثيرٌ، وإن تسأل الجارية تصدُقك. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجارية فقال لها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ فقالت الجارية: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قطُّ أغمصه عليها -أي أعيبها به- أكثر من أنها جارية حديثة السنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجن فتأكله". تقول -رضي الله عنها-: "فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاهُ في أهل بيتي- يقصد عبد الله بن أبي ابن سلول- فوالله، ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما

علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله! إن كان من الأوس ضربنا عنقه. وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. تقول: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلتهُ الحمية - فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمرُ الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بنُ حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمرُ الله! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت". عباد الله! عائشة -رضي الله عنها- ازدادت حزناً على حزنها وألماً على ألمها. تقول -رضي الله عنها-: "وبكيتُ يومي ذلك. لا يرقأ لي دمعٌ -أي لا ينقطع- ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي. تقول -رضي الله عنها-: "فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم ثم جلس. ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء". تقول -رضي الله عنها-: "فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: "أما بعدُ: يا عائشة فإنهُ قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك اللهُ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف

بذنبه ثم تاب تاب الله عليه". قالت: فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي -أي: ارتفع- أي: جف -حتى ما أحِسُ منه قطره- وهذه الحالة من الحزن والألم شبيه بالموت -، فقلتُ لأبي: أجب عني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تقول -رضي الله عنها-: "وأنا جارية حديثة السِّنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن" فقلت: إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، -والله يعلم أني بريئة- لتصُدِّقوني، وإني والله ما أجدُ لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}. استعانت -رضي الله عنها- بالله على أمرها بعد أن انقطعت النصرة من أهل الأرض. عباد الله! وجاء الفرج بعد الكرب. تقول -رضي الله عنها-: "ثم تحولتُ فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مُبرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقرُ في نفسي من أن يتكلم الله -عز وجل- فيَّ بأمر يُتلى. ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في

النوم رُؤيا يُبِّرئني الله بها". تقول -رضي الله عنها-: "فوالله ما رام -أي فارق- رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحدٌ حتى أنزل الله -عز وجل- على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء -أي الشدة- عند الوحي حتى إنه ليتحدَّرُ منه مِثلُ الجُمان -أي مثل حبات اللؤلؤ- من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه". تقول -رضي الله عنها-: "فلما سُرِّي -أي كُشِفَ- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة! أما اللهُ فقد برَّأك". تقول -رضي الله عنها-: "فقالت ليَ أمي: قومي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -". فقلتُ: والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، تقول -رضي الله عنها-: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ .. }. تقول - رضي الله عنها-: "فلما نزلت براءتي قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره -: والله! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً وقد قال في عائشة ما قال، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه وقال: والله لا أقطع عنه النفقة بعد ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 2661)، ومسلم (رقم 2770).

عباد الله! بسبب كلمة واحدة تلفظ بها منافق حاقد بين الناس ولاكتها الألسن، عاش رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وأبو بكر وأهل بيته والمسلمون كلهم شهراً كاملاً في غم وهم وحزن .. ولذلك أنزل الله -عز وجل- الآيات يؤدب فيها المسلمين ويعلمهم كيف يتعاملوا مع الشائعات، وهذا هو الذي نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى- اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

الخطبة التاسعة والثلاثون: الدروس والعظات والعبر والآداب التي تؤخذ من حديث الإفك

الخطبة التاسعة والثلاثون: الدروس والعظات والعبر والآداب التي تؤخذ من حديث الإفك أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس، والعظات، والعبر، والآداب التي تؤخذ من حديث الإفك. عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن حديث الإفك، وتبين لنا أن الذي اختلقه ونشره بين الناس في غزوة بني المصطلق؛ هو زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي ابن سلول، وانتشر هذا الإفك بين الناس في المدينة، وعاش الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في المدينة شهراً كاملاً في همٍّ وغمٍّ وحزنٍ، وتأخر الوحيُ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً. والتي اتهمت بهذا الإفك هي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى الآيات التي نزلت في سورة النور فيها براءةُ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- لنأخذ منها الدروس والعظات والعبر. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ

فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} [النور: 11 - 26]. هذه الآيات التي نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عاش - صلى الله عليه وسلم - وعائشة وأبو بكر والمسلمون شهراً كاملاً على أعصابهم في هم وغم وحزن.

أولا: الصبر على الإشاعات الكاذبة التي يشنها أعداء الإسلام على الإسلام والمسلمين.

عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر والآداب التي تؤخذ من هذه الآيات فهي: أولاً: الصبر على الإشاعات الكاذبة التي يشُنُّها أعداء الإِسلام على الإِسلام والمسلمين. عباد الله! أعداءُ الإِسلام في كل زمان ومكان يشنون حرباً إعلامية على الإِسلام والمسلمين ليشوهوا صورة الإِسلام والمسلمين في العالم، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. فعلى المسلمين أن يقابلوا ذلك بالصبر والإيمان، والاستعانة بالله -عز وجل- كما فعلت عائشة -رضي الله عنها- عندما افترى عليها زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول فقالت -رضي الله عنها-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} فيا أمة الإِسلام: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 128]. يا أمة الإسلام! اصبروا واتقوا الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129]. عباد الله! صَبَرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعائشة -رضي الله عنها- وأبو بكر - رضي الله عنه - والمسلمون في المدينة على إفك المنافقين فكان خيراً لهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.

ثانيا: إحسان الظن بالمؤمنين

ثانياً: إحسان الظن بالمؤمنين عباد الله! إذا سمع المؤمن حرباً إعلامية على أحد من المؤمنين، فيجب عليه أن يُحسن الظن بأخيه المؤمن، كما أنه يُحسن الظن بنفسه، استجابة لقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}، واستجابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1). عباد الله! وهذا ما فعلته أم مسطح -رضي الله عنها- عندما كذَّبت الخبر وردّته، بل ودعت على ولدها عندما قالت: تعس مسطح -أي هلك- وهي بذلك أحسنت الظنَّ بعائشة -رضي الله عنها- وأعلنت لربها أنها لا توالي من عادى أولياءه، ولو كان ذا قربى إلا أن يتوب إلى الله كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وهذا الذي فعلته زينب بنت جحش -رضي الله عنها- عندما سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة -رضي الله عنها- فقالت: يا رسول الله أحمى سمعي وبصري، ما رأيت إلا خيراً، وما سمعت إلا خيراً، والله ما علمت إلا خيراً" (¬2). وهذا الذي فعله أسامة بن زيد - رضي الله عنه - عندما استشاره النبي - صلى الله عليه وسلم - في فِراق أهله فقال أسامة - رضي الله عنه -: يا رسول الله! هم أهلك ولا نعلم! إلا خيراً وشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببراءة أهله. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 13)، ومسلم (رقم 45). (¬2) متفق عليه، وهو قطعة من حديث الإفك، تقدم تخريجه.

ثالثا: التثبت من الأخبار وإمساك اللسان عن الخوض في أعراض المسلمين.

وهذا الذي فعله أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عندما قالت له زوجته أم أيوب: يا أبا أيوب أتسمع هذا الذي يقوله الناس في عائشة؟ قال أبو أيوب: نعم، وإنه والله الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، فقال لها أبو أيوب: وعائشة والله خيرٌ منكِ (¬1). فالواجب على المسلمين في كل مكان، إذا سمعوا أحداً من الناس ينقل إشاعة عن أحد من المسلمين، أن يُحسنوا الظن بأخيهم المسلم، وأن يُدَافعوا عنه في غيابه يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبَّ عن عِرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار" (¬2). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" (¬3). ولذلك أدب الله المسلمين الذين نقلوا الإفك وتكلموا به. فقال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12]. ثالثاً: التثبت من الأخبار وإمساك اللسان عن الخوض في أعراض المسلمين. عباد الله! يجب على المسلم إذا سمع خبراً أن يتثبت من صحته، ويفكر فيه قبل أن يتكلم به ويقوم بنقله بين الناس. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

_ (¬1) ابن كثير (3/ 273). (¬2) صحيح الجامع (6116). (¬3) صحيح الجامع (6138).

رابعا: لا تتبعوا خطوات الشيطان

إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وفي قراءة (فتثبتوا) لماذا نتبين ونتثبت؟ قال تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. ولذلك قال تعالى في الذين نقلوا الإفك هنا وهناك، {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ .. } إلى قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}. لو أن الذي سمع هذا الإفك من ابن سلول أول ما سمع فقال له: لا بد أن تأتي على ما تقول بأربعة شهداء على هذا الافتراء، فما استطاع ابن سلول أن يأتي بأربعة شهداء لأنه يعلم أنه كذَّاب فإذا لم يأت ابن سلول بأربعة شهداء لبقي هذا الإفك في صدره، ولم ينتشر أبداً بين الناس ولكن عندما سمعوا وتكلموا قبل أن يتبينوا فانتشر الإفك بين المنافقين، حتى أنه تكلم به بعضُ المؤمنين الصادقين ولذلك يقول الله -عز وجل- للمؤمنين الصادقين الذين تكلموا بهذا الإفك: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}. فمن أراد النجاة فعليه بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (¬1). رابعاً: لا تتبعوا خطوات الشيطان عباد الله! الذين يروجون الإشاعات الكاذبة على المسلمين هم شياطين الإنس والجن، فحذر ربنا -جل وعلا- عبادة المؤمنين من خطوات ¬

_ (¬1) رياض الصالحين (رقم 1528) بتحقيق الألباني.

خامسا: أن تحسن إلى من أساء إليك

الشيطان؛ لأن الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ولأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ولأن الشيطان يأمر بالكفر والضلال. ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. خامساً: أن تُحسِنَ إلى من أساء إليك، وبذلك تنتصر عليه، وهذا ما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - مع مسطح، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فلما نزلت براءتي قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً؛ وقد قال في عائشة ما قال، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}، فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فأرجعَ إلى مسطح ما كان ينفقه عليه وقال: والله لا أقطع عنه النفقة بعد ذلك" (¬1). عباد الله! يحذر ربنا -جل وعلا- الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}. الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا إمَّا بالإعلام، وإمَّا بالدعوة إلى التبرج والسفور والزنا والإشاعات الكاذبة، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) هو قطعة من حديث الإفك، وقد تقدم تخريجه.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}. عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟ " قلنا اللهُ ورسوله أعلم. قال: "من مخاطبة العبد ربه فيقول ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا مني، فيقول الله تعالى: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق باعماله ثم يُخلي بينه وبين الكلام فيقول -أي لأركانه- بُعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل" (¬1)، أي: فكيف شهدتم علي. قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} [فصلت: 19 - 24]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2969).

فاتقوا الله عباد الله في ألسنتكم، وإذا أردتم النجاة فعليكم بهذه الوصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (¬1). فيا مروِّجاً للإشاعات، ويا مختلقاً للإفك، ويا طاعناً في أعراض المسلمين! أمسك عليك لسانك وإلا فالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) مضى قريباً

الخطبة الأربعون: غزوه الأحزاب (الخندق)

الخطبة الأربعون: غزوه الأحزاب (الخندق) أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الأربعين من سيرة سيد الأولين والآخرين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة الأحزاب (الخندق). عباد الله! غزوة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل كانت معركة أعصاب، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكافرين يعدون على الأصابع ومع ذلك فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإِسلام. فالأحزابُ الذين اجتمعوا على حرب الإِسلام والمسلمين في تلك الغزوة هم: - المشركون من أهل مكة. - المشركون من قبائل العرب جميعاً. - اليهود من خارج المدينة (يهود خيبر). - اليهود من داخل المدينة (يهود بني قريظة). - المنافقون. اجتمعوا وتحزبوا لاستئصال المسلمين من المدينة. عباد الله! وحديثنا عن غزوة الأحزاب سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}. العنصر الثاني: الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - في المدينة يستعدون لملاقاة الأعداء.

العنصر الأول: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)}

العنصر الثالث: مواقف المؤمنين ومواقف المنافقين العنصرالرابع: شدةٌ وكربٌ وبلاءٌ يعقبها نصرٌ وفرجٌ. العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة الأحزاب. العنصر الأول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}: أعداء الإِسلام قديماً وحديثاً يمكرون بالإِسلام والمسلمين بالليل والنهار، كما قال تعالى في كتابه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)}. وقال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}. وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)} [النمل: 50 - 52] أمة الإِسلام! أين عادٌ الذين مكروا بنبيهم؟ أين ثمود الذين مكروا بنبيهم؟ أين قوم نوح الذين مكروا بنبيهم؟! أين فرعون الذي مكر بموسى؟ أين هم؟ ذهبوا فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. عباد الله! وأساتذة المكر والغدر والخيانة ونقض العهود وإشعال الحروب هم اليهود- عليهم لعنة الله-

عباد الله! العنصر الثاني: الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة -رضي الله عنهم في المدينة يستعدون لملاقات العدو

قال تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} [الأنفال: 56]، وقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. عباد الله! فها هم اليهود قديماً، خرج وفدٌ منهم من خيبر إلى كفار مكة يحرِّضونهم ويؤلبونهم على غزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، بل وشهدوا لهم بأن الشرك الذي هم عليه خيرٌ من الإِسلام الذي جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشهدوا لهم أيضاً بأنهم أهدى من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وفيهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51]. فأجابهم أبو سفيان لذلك، ثم انطلقوا إلى القبائل المجاورة ودعوهم إلى ما دعوا قريشاً إليه، فأجابتهم القبائل العربية أيضاً، وتواعدوا على المسير إلى المدينة، واجتمع بهذا التحريض -من اليهود- جيش قوامُهُ نحو عشرة آلاف مقاتل وذلك لاستئصال المسلمين في المدينة. عباد الله! العنصر الثاني: الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة -رضي الله عنهم في المدينة يستعدون لملاقات العدو: لما وصل الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخروج هذا الجيش الكبير إلى المدينة، عقد مجلساً استشارياً مع أصحابه الكرام - رضي الله عنهم- ليشاورهم في خطة الدفاع عن المدينة فأشار عليه بعض الصحابة وهو سلمان الفارسي - رضي الله عنه -

بحفر خندق من الجهة الشمالية للمدينة؛ لأن هذه الجهة هي الجهة الوحيدة التي يستطيع العدو أن يدخل إلى المدينة منها، فإن المدينة تقع بين حرتين من جهة الشرق والغرب يعجز العدو أن يدخل من جهتهما، وأما جهة الجنوب ففيها مساكن يهود بني قريظة وبينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهداً وميثاقاً على أن لا يدخل عدو من ناحيتهم. عباد الله! وحفر الخندق مكيدة حربية- لم تكن العرب تعرفها من قبل- والحرب خدعة ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق واستجاب الصحابة - رضي الله عنهم - لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاموا جميعاً بتنفيذ الأمر على الفور وبسرعة قبل وصول العدو. عباد الله! وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه ليحفر معهم في هذا الخندق، فوصل إليهم وهم يحفرون في غداةٍ باردة، وكان الوقت وقت شتاء وكان البردُ شديداً جداً، وكان الزمان زمان قحطٍ، فلما رأى - صلى الله عليه وسلم - ما بهم من التعب والجوع دعا لهم فقال: "اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له: "نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً" (¬1) عباد الله! وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يعمل مع أصحابه في حفر الخندق؛ يحفر بيده وينقل التراب بنفسه، حتى أغبر بطنه من شدة التراب. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2834)، ومسلم (رقم 1805).

يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلنّ سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأُولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يقول: "أبينا أبينا" ويمد بها صوته (¬1). عباد الله! الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحفر بنفسه في الخندق مع أصحابه، والصحابة- رضي الله عنهم- يحفرون في الخندق هنا وهناك، وإذا بصخرة عظيمة تقابلهم فعجزوا عنها، فلجأوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "إني نازل" فخلع ثيابه ثم هبط إليها. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى البراء بن عازب - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر يقول - رضي الله عنه -: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول قال: فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: "باسم الله". فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها من مكاني هذا". ثم قال: "بسم الله" وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر. فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأُبصِرُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3034).

قصرها الأبيض من مكاني هذا" ثم قال: "بسم الله" وضرب ضربة أُخرى، فقلع بقية الحجر فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" (¬1). عباد الله! وهكذا يبشر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفتح هذه البلدان، وهم يُعانون من شدة الجوع والبرد، فرفع ذلك من روحهم المعنوية، فانطلقوا يعملون بجد ونشاط في حفر الخندق وهم يربطون الحجارة على بطونهم من شدة الجوع وهذا من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! ومن معجزاته - صلى الله عليه وسلم - في حفر الخندق أيضاً زيادة الطعام بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، تعالوا بنا لنستمع إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر. يقول - رضي الله عنه -: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدَية شديدة -أي صخرة- فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال- صلى الله عليه وسلم -: "أنا نازل". ثم قام وبطنه معصوب بحجر -ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً- فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول فضرب -أي الصخرة- فعاد كثيباً أهيل أو أهيم -أي صارت الصخرة رملاً سائلاً- فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ما كان لي في ذلك صبر فعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعيرٌ وعَنَاقٌ - والعناقُ أنثى المعز- يقول: فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرمة ¬

_ (¬1) قال الألباني: "إسناده حسن" انظر "فقه السيرة" (ص 297).

-وهي القدر من الحجر- ثم جئتُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - والعجينُ قد انكسر والبرمةُ بين الأثافيِّ قد كادت أن تنضج. فقلت: طُعَيِّمٌ لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال- صلى الله عليه وسلم -: "كم هو؟ " فذكرتُ له قال- صلى الله عليه وسلم -: "كثيرٌ طيبٌ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي". فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا"، فقام المهاجرون والأنصار وهم ألفٌ. فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ادخلوا ولا تضاغطوا -أي لا تزدحموا-". فجعل - صلى الله عليه وسلم -: يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم- ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه- ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية فقال- صلى الله عليه وسلم -: "كُلي هذا وأهدى فإن الناس أصابتهم مجاعة" (¬1). عباد الله! ومن الأحداث التي حدثت في حفر الخندق أيضاً. يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، وفينا فتىً حديثُ عهد بعرس، فجعل يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء النهار ليرجع لأهله، فاستأذنه يوماً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذ عليك سلاحك، فإني ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4101، 4102)، ومسلم (رقم 2039).

العنصر الثالث: مواقف المؤمنين ومواقف المنافقين.

أخاف عليك قريظة" فأخذ سلاحه ورجع فإذا امرأتهُ قائمة بين البابين فأصابته الغيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها فقال: اكفف عليك رمحك، وادخل الدار فانظر ما الذي أخرجني، فدخل الدار فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح -أي ضربها- ثم خرج فركز رمحه في الدار، فعدت عليه الحية فلم ندر أيهما أسرع موتاً الحية أم الفتى؟! فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه .. فقال: "استغفروا لصاحبكم" ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" (¬1). العنصر الثالث: مواقف المؤمنين ومواقف المنافقين. عباد الله! انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من حفر الخندق قبل وصول الأعداء، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد لملاقاة الأعداء فوضع النبي- صلى الله عليه وسلم - النساء والأطفال في حصنٍ هو من أقوى حصون المسلمين حفاظاً عليهم، ورتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش، فأسند ظهرهم إلى سَلعٍ، وجعل وجوههم إلى الخندق الذي يفصل بينهم وبين العدو. عباد الله! وها هو جيش العدو في طريقه إلى المدينة يريد أن يقضى على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لتستريح اليهود ولتستريح قريش وهيهات هيهات. عباد الله! وصل جيش الكفر إلى المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فلما وصل الجيش إلى الخندق فوجئ برؤية الخندق، وأخذ الجيش بقيادة أبي سفيان يتحرك هنا وهناك يفكر في كيفية اقتحام الخندق، وكلما هموا بذلك ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 2236).

أمطرهم المسلمون بالسهام. عباد الله! النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جيش الإِسلام في ثلاثة آلاف مقاتل، الخندق أمامهم والجبل خلف ظهورهم، وفي الجانب الآخر للخندق جيش الكفر بقيادة أبي سفيان في عشرة آلاف مقاتل، واليهود يغدرون. يقول بعض العلماء: لو تركت الكلابِ نبَاحها وتركت الحميرُ نهيقها؛ لتركت اليهود غدرها. عباد الله! هجمات الكفار لم تنقطع؛ وجيش الإِسلام لهم بالمرصاد حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحدِ الأيام في وقتها بل صلوها بعد ما غربت الشمس ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد، يقول عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "فوالله إن صليتها" (¬1). ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب الذين شغلوهم عن صلاة العصر. فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً" (¬2). عباد الله! تعالوا بنا لننظر إلى الظروف الصعبة التي تحيط بأرض المعركة. أولاًَ: أعداد الكفار كبيرة جداً بلغت عشرة آلاف مقاتل تحيط بالمدينة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 631). (¬2) رواه مسلم (رقم 627).

ثانياً: جوع شديد وبردٌ قارص. ثالثاً: وصلت الأخبار أن يهود بني قريظة غدروا بالمسلمين؛ فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضربوا المسلمين من الخلف تعاوناً مع جيش الكفر. رابعاً: ترك المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ أرض المعركة بحجج واهيةٍ زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للأعداء، وإنما هم يريدون الفرار من المعركة. خامساً: أخذ بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض؛ يدعون غيرهم لترك أرض المعركة والرجوع إلى بيوتهم وأهليهم، بحجة أنه لا قِبَلَ لكم بعدد الكفار. سادساً: طال الحصار واشتد من الكفار للمدينة شهراً كاملاً. عباد الله! والله -عز وجل- يخبرنا بهذه الظروف الصعبة على المسلمين، ويصورها لنا فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 9 - 11]. عباد الله! وكما أن الشدائد تُظهر نفاق المنافقين، فهي كذلك تُظهر إيمان المؤمنين، فالمؤمنون وهم يعيشون هذه الظروف الصعبة في أرض المعركة، وهم على أعصابهم، تذكروا قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى

يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} - عندها- أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. ولذلك ازداد المؤمنون إيماناً وتسليماً وتصديقاً لوعد الله فماذا قال المؤمنون؟ قال الله -عز وجل- في وصفهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب: 22]. عباد الله! أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، عندما نظروا إلى جيش الكفر وإلى عدده الكبير ظنوا بالله ظن السوء، وأخذوا يشككون بل ويسخرون من البشارات التي بشَّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عندما ضرب الصخرة وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن". ويقول بعضهم لبعض: انظروا إلى محمدٍ يعدكم بفتح اليمن والشام وفارس؛ وأحدكم لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته من الخوف، ولذلك ازداد المنافقون مرضاً على مرضهم. قال تعالى عن المنافقين ومرضى القلوب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} [الأحزاب: 12]، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)} [الأحزاب: 13] وقال تعالى في وصفهم: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ

العنصر الرابع: شدة وكرب وبلاء، يعقبها نصر وفرج.

فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} [الأحزاب: 18 - 19]. العنصر الرابع: شدة وكرب وبلاء، يعقبها نصر وفرج. عباد الله! البلاء بالمسلمين يزداد يوماً بعد يوم، والخوف يزداد ساعة بعد ساعة، حتى بلغت القلوب الحناجر؛ بردٌ قارصٌ، وجوعٌ شديدٌ، وحصارٌ طالَ شهراً، فأتوا الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله هل من شيءٍ نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ - فماذا قال لهم؟ ربط قلوبهم بالله- فقال - صلى الله عليه وسلم -لهم: "نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. فقال الصحابةُ: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" (¬1). عباد الله! وتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه أيضاً بالدعاء {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وزلزلهم" (¬2). وفي رواية: "اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم". عباد الله! توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة إلى ربهم بالدعاء أن يجعل لهم مخرجاً، وأن ينصرهم على عدوهم. والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، والله -عز وجل- يستجيب الدعاء من ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (2018). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2933)، ومسلم (رقم 1742).

عباده الصالحين. قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}، وجاء النصر والفرج من عند الله، فأرسل الله ريحاً وجنوداً من عنده على الأحزاب أطفئت نارهم، وقلعت خيامهم. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى حذيفة - رضي الله عنه - وهو يخبرنا عن الظروف الصعبة التي يعيش فيها المسلمون، ويخبرنا أيضاً عن الرعب والدمار والذعر الذي حل بالأعداء في الجانب الآخر من الخندق. يقول - رضي الله عنه -: "لقد رأيتُنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق -أي يوم الأحزاب- فقام - صلى الله عليه وسلم - فصلى هوياً من الليل ثم قال: "من يأتنا بخبر القوم- أي العدو- أشترط له الرجعة، وأضمن له الجنة". قال حذيفة: فما قام أحدٌ من شدة الجوع والبرد والريح. قال حذيفة: فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوياً من الليل ثم التفت إلينا وقال: "من يأتنا بخبر القوم؟ أشترط له الرجعة وأسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". قال حذيفة: فلم يقمْ أحد من شدة الخوف والجوع والبرد. يقول حذيفة: فلما لم يقمْ أحدٌ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قم يا حذيفة". يقول حذيفة: فلما دعاني لم يكن لي بدٌّ من القيام فقمتُ. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فأتنا بخبر القوم ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا". قال حذيفة: فخرجت وأنا شديد البرد، فلما مشيت في حاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأني أمشي في حمَّام -أي: لم أجد البرد الذي يجده الناس- لأنه خرج طاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت القوم ودخلت فيهم، وإذا بأبي سفيان يقوم ويقول: يا معشر قريش: لينظر امرىٌ -أي كلُّ واحد- من جارهُ!

قال حذيفة: فبادرت بيدي الذي جنبي، فقلت من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان. وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، والله ما بقي لنا هنا مقام، لقد أكفأت الريح قدورنا، وأطفأت نارنا، وهدمت خيامنا، وقد بلغنا عن بني قريظة ما نكرهُ، أنهم لن يفوا بعهدهم بالحرب معنا فارتحلوا، فإني مرتحلٌ. قال حذيفة: ثم قام إلى جمله فركب عليه، فوثب الجمل على ثلاث فلم يحل عقاله حتى وثب. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحدثنَّ شيئاً حتى تأتينا، فلو شئت أن أقتله لقتلته بسهمي. قال حذيفة: فلما ارتحل وبلغ الخبر سائر القبائل رجعوا من حيثُ جاءوا" (¬1). قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25] عباد الله! ورجعت الأحزاب تجرّ أذيال الخيبة والحزن لم ينالوا شيئاً مما جاءوا له. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم" (¬2). وامتن الله -عز وجل- على المؤمنين بنصرهم هذا في غزوة الأحزاب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1788). (¬2) رواه البخاري (رقم 4109، 4110).

العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة الأحزاب.

فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} [الأحزاب: 9]. ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينسب الفضل كله في هزيمة الأحزاب لله -عز وجل-. يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده" (¬1). العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة الأحزاب. أولاً: الكفر ملةٌ واحدة هدفهم واحد وهو: دمروا الإِسلام أبيدوا أهله. عباد الله! الكفر ملةٌ واحدة في كل بلاد الدنيا هدفهم: دمروا الإِسلام أبيدوا أهله، ويفعل الكفر ذلك تحت ستار (مكافحة الإرهاب). وهدف الكفار من القضاء على الإِسلام والمسلمين هو السيطرة على خيرات المسلمين، وهذا يا عباد الله يظهر لنا من غزوة الأحزاب فقد جاءوا من كل مكان للقضاء على الإِسلام والمسلمين والسيطرة على خيرات المسلمين في المدينة، ولتأمين طرق التجارة بين مكة والشام. عباد الله! والتاريخ يُعيد نفسه فما من عام يمر علينا إلا ونسمع ونرى ملة الكفر يجتمعون لحرب المسلمين تحت شعارات كاذبة، لينهبوا خيرات بلاد المسلمين وليأمنوا مصالحهم في تلك البلاد ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا بذلك فيقول: ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4114)، ومسلم (رقم 2724).

"يوشك أن تداعى عليكم الأمم" -أي: يدعو بعضها بعضاً، فتجيب- "كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السَّيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهنَ. قالوا: يا رسول الله! وما الوهنُ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "حب الدنيا وكراهية الموت" (¬1). عباد الله! وهذا الحديث يُشَخّص لنا حال الأمة الإِسلامية إذا ضعفت وتفرقت مع أعدائها، ففي هذا الحديث: أولاً: أن أعداء الإِسلام يرصدون حالة أمة الإِسلام؛ فإن رأوا أن الوهن دبّ إليها، والمرض نخر جسمها، وثبوا عليها ليقضوا على ما تبقى منها. ثانياً: أن أمم الكفر تدعو بعضها بعضاً لتجتمع للتآمر على الإِسلام وأهله. ثالثاً: أن ديار المسلمين منبع خيرات وبركات، تحاول أمم الكفر الاستيلاء عليها ولذلك شبهها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقصعة المملوءة بالطيب من الطعام، التي أغرت الأكلة فتواثبوا عليها، كل يريد نصيب الأسد. رابعاً: أن أمم الكفر لم تعد تهابُ المسلمين لأنهم فقدوا مهابتهم بين الأمم، بعد أن بعدوا عن دينهم. خامساً: عناصر قوة الأمة الإِسلامية ليس في عددِها وعُدتِها، بل في عقيدتها ومنهجها. ¬

_ (¬1) صحيح: انظر "صحيح الجامع" "صحيح أبي داود".

ثانيا: من الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة الأحزاب (إن تنصروا الله ينصركم).

ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - للسائل: "بل أنتم يومئذ كثير". وتأمل درس حنين قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}. وانظروا إلى يوم بدر كيف نصر الله المسلمين وهم قلة وانظروا إلى غزوة الأحزاب كيف نصر الله عباده بجند من عنده سادساً: أن الأمة الإِسلامية إذا تركت دينها أصبحت لا وزن ولا قيمة لها بين الأمم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل". ثانياَّ: من الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة الأحزاب (إن تنصروا الله ينصركم). عباد الله! الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - في غزوة الأحزاب أخذوا بكل أسباب النصر، مع توكلهم على الله واعتقادهم أن النصر من عند الله، ولذلك توجهوا جميعاً إلى الله -عز وجل- بالدعاء فاستجاب الله لهم، ونصرهم بنصر من عنده على عدوهم. عباد الله! وكان من نتائج غزوة الأحزاب. أولاً: فرق الله شمل الأحزاب واليهود بعد أن اجتمعوا لحرب المسلمين. ثانياً: أرسل الله على المشركين ريحاً شديدة باردة تقلع خيامهم وتطفئ نارهم. ثالثا: أرسل الله على المشركين جنداً من الملائكة، يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}.

رابعاً: رجع الكفار عن المدينة يحملون غيظهم في صدورهم، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ}. خامساً: فشل الكفار في تحقيق أهدافهم {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}. سادساً: كفى الله المؤمنين القتال: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}. عباد الله! ماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هذا الذي نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى- اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين.

الخطبة الحادية والأربعون: غزوة بني قريظة

الخطبة الحادية والأربعون: غزوة بني قريظة أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة بني قريظة. عباد الله! وغزوة بني قريظة كانت نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب، وأثراً من آثارها ولم تكن هذه الغزوة بتدبير من الرسول- صلى الله عليه وسلم -، ولا بمشورة أحدٍ من الصحابة - رضي الله عنهم -، بل كانت بأمرٍ من الله تعالى؛ إذ لم يكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفض يديه من آثار غزوة الأحزاب حتى نزل الوحي بأمر الله له أن يتوجه إلى بني قريظة التي نقضت عهدها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وتحالفت مع الأحزاب سراً لضرب المسلمين في المدينة من الخلف. عباد الله! وحديثنا عن غزوة بني قريظة سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: أسباب هذه الغزوة العنصرالثاني: الجزاء من جنس العمل العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة بني قريظة. العنصر الأول: أسباب هذه الغزوة السبب الرئيسي لغزوة بني قريظة هو: أنهم نقضوا عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعاونوا مع الأحزاب للقضاء على المسلمين في المدينة.

عباد الله! خرج وفدٌ من اليهود وعلى رأسهم حُييُّ بن أخطبٍ وأبو رافع بن أبي الحقيق إلى كفار مكة وإلى القبائل المجاورة، وحرضوهم على غزو المسلمين في المدينة للقضاء عليهم، وخرج بسبب هذا التحريض جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل. عباد الله! ولما وصل هذا الجيش إلى المدينة ووجد الخندق الذي حال بينه وبين دخول المدينة، وطال الحصارُ من هذا الجيش للمدينة، ولم يتمكن من دخولها ذهب رأس العصابة حُييُّ بنُ أخطب اليهودي إلى يهود بني قريظة الذين يسكنون في الجهة الجنوبية من المدينة، وبينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد وميثاق، لينقضوا عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتمكن جيش الأحزاب من الدخول إلى المدينة من الجهة الجنوبية ليضربوا المسلمين من الخلف، فأتي حييُّ بن أخطب اليهودي كعباً القرظي وهو كبير بني قريظة، ثم ناداه يا كعب افتح لي! فأغلق كعب دونه الأبواب. يا كعبُ افتح لي! قال له كعبٌ: ويحك يا حُييُّ، إنك رجلٌ مشئومٌ وقد أعطيت محمداً عهداً وميثاقاً، ولم أر منه إلا وفاءاً وصدقاً فما أنا بناقض عهده. عباد الله! فما زال حُييُّ بن أخطب بكعب القرظي يُغريه حتى فتح له، فأخذ يحدُّثه عن كثرة جيش الأحزاب الذي جاء به، وعن شدة قوة هذا الجيش وعن الأسلحة التي معهم حتى طمأنه أن النصر سيكون بجانب الأحزاب لا لمحمدٍ وأصحابه- لتعلموا ماذا تفعل اليهود في ظلمات الليل، وهذا هو هدفهم في كل زمان ومكان؛ القضاء على الإِسلام والمسلمين- فلما أمِنَ كعبٌ القرظي عاقبة الغدر، وعلم أن الدولة للأحزاب لا لمحمدٍ وأصحابه؛ وافق حُييُّ بن الأخطب على ما دعاه إليه من الغدر، وهذا يدلُنا يا عباد الله على أن اليهود أهل غدر وخيانة، يوفون بالعهد إذا كان لمصلحتهم ويغدرون إذا كان الغدر لمصلحتهم.

العنصر الثاني: الجزاء من جنس العمل

عباد الله! ولما بلغ الخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يأتينا بخبر القوم؟ " -أي بخبر بني قريظة- قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: أنا يا رسول الله قال - صلى الله عليه وسلم -: "من يأتيني بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا يا رسول الله. قال- صلى الله عليه وسلم -: "من يأتيني بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا يا رسول الله ثلاث مراتٍ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل نبيٍ حوارياً، وحواريَّ الزبير بن العوام" (¬1). يقول الزبير - رضي الله عنه - فأتيتهم فأتيته بخبرهم -أي أنهم فِعْلاً غدروا وخانوا، فازداد المؤمنون شدة على شدتهم وخوفاً على خوفهم؛ لأن الأحزاب إذا دخلوا من الخلف ضربوهم ضربهَ قاضية ولكن الله سلّم. فما إن وقعت الفرقة بين الأحزاب وبني قريظة. العنصر الثاني: الجزاء من جنس العمل عباد الله! عندما أراد اليهود- قاتلهم الله- بتحريضهم الكفار على المسلمين وبغدرهم أن يستاصلوا المسلمين من على وجه الأرض؛ وقع ذلك بهم فقتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسبى نسائهم وذراريهم وأخذوا أرضهم وأموالهم {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)}. عباد الله! تعالوا بنا لنتعرف على ما نزل بيهود بني قريظة ومَنْ تعاون معهم بعد غدرهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب. عباد الله! رجعت الأحزاب إلى ديارهم يجرون أذيال الخيبة والخسران، لم ينالوا خيراً بعد أن أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً من عنده، قال تعالى: {وَرَدَّ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2846)، ومسلم (رقم 2451).

اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}، ورجع كذلك الوفد اليهودي- الذي خرج من خيبر لتحريض الأحزاب لغزو المدينة- إلى أرضهم. عباد الله! فلما رأت بنو قريظة أنهم وحدهم في المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأوا أنهم قد هلكوا بسبب غدرهم ونقضهم عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -، دخلوا حصونهم وأغلقوا أبوابهم، وجلسوا ينتظرون ما يُفعل بهم. ودخل معهم حييُّ بن أخطب اليهودي وفاءاً بعهده لسيدهم كعب القرظي، حيث كان حين دعاه إلى نقض العهد والغدر أعطاه عهداً وميثاقاً إن لم يكن ما أراد من استئصال المسلمين أن يرجع فيدخل معه في حصنه، ليصيبه ما أصابه. عباد الله! ورجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة بعد هذا النصر المبين على الأحزاب ووضع - صلى الله عليه وسلم - سلاحه وأخذ يغتسل ليزيل هذا التراب الذي غبَّر جسده الشريف، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله! أوقد وضعت السلاح؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال جبريل: والله ما وضعناه- لتعلموا أن الملائكة كانوا يجاهدون مع المسلمين في غزوة الأحزاب-. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إلى أين"؟ فقال جبريل عليه السلام: ها هنا وأشار بيده إلى بني قريظة (¬1) - إلى الخونة الذين لا يتركون الغدر-. عباد الله! فأصدر النبي- صلى الله عليه وسلم - أوامره للجيش المسلم بالخروج إلى بني قريظة ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4117)، ومسلم (رقم 1769).

فوراً وبأسرع ما يمكن وقال لهم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" (¬1)، وكان ذلك بعد الظهر، ولبس النبي - صلى الله عليه وسلم - سلاحه وخرج مع الجيش عباد الله! ها هو جيش الإِسلام بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى بني قريظة، وقد سبقهم جبريل عليه السلام. ويقول أنس - رضي الله عنه -: "كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة" (¬2). وتقول عائشة -رضي الله عنها- خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فمر على بني غنم، وهم جيران المسجد، فقال لهم: مَنْ مرَّ بكم؟ فقالوا: مر بنا دحية الكلبي، وكان دحية الكلبي تشبه لحيته ووجهه جبريل عليه السلام فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل قد سبقه إلى بني قريظة - تقول -رضي الله عنها- فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم خمسة وعشرين ليلةً، فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح. فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ، فأُتي به على حمار قد حمل عليه وحفَّ به قومُهُ -أي من الأوس- وقالوا له: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك، وأهل النكاية، ومَنْ قد علمت. فلم يرجع شيئاً ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 946)، ومسلم (رقم 1770). (¬2) رواه البخاري (رقم 4118).

فقال: قد آن لي أن لا يأخذني في الله لومة لائم. عباد الله! وسعد بن معاذ - رضي الله عنه - قد أصابه سهم من رجل من المشركين في غزوة الأحزاب فأصاب أكحله فقطعه فدعا سعد ربه فقال: "اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة". عباد الله! فلما وصل سعد - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فأنزلوه. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احكم فيهم -أي في بني قريظة-. قال سعد - رضي الله عنه -: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم -أي نساءهم وأطفالهم- وتقسم أموالهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد حكمت فيهم بحكم الله -عز وجل-، وحكم رسوله" (¬1). وفي رواية قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت فيهم بحكم الملك" (¬2). عباد الله! ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار بالمدينة، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق، ثم طفق يبعث إليهم فيؤتي بهم أرسالاً -أي جماعات- فتضرب أعناقهم- العزة لله ولرسوله وللمؤمنين- وفيهم عدو الله حييُّ بنُ أخطب النضري اليهودي الذي قال- لعنه الله- عندما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ثم جلس فضُرِبَتْ عنقُهُ لعنه الله. ¬

_ (¬1) إسناده جيد انظر "مجمع الزوائد" (6/ 137، 138)، و"مسند الإِمام أحمد". (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3043)، ومسلم (رقم 1768).

عباد الله! ولما قتل رجال بني قريظة وسبيت النساء والصبيان، وقرت عين سعد بن معاذ لذلك استجابة من الله لدعوته: توجه - رضي الله عنه - إلى الله تعالى بدعوة ثانية فقال: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على نبيك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فابقني لها، وإن كنت أنهيت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، فسأل جرحه فلم يتوقف حتى مات - رضي الله عنه - (¬1). عباد الله! وقد أخبرنا الله في كتابه بغزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة فقال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 25 - 27]. هكذا (الجزاء من جنس العمل) {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}. أرادت بنو قريظة القضاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فنزل ذلك بهم، وأراد عدو الله حيي بن أخطب اليهودي استئصال المسلمين فنزل ذلك به وضرب المسلمون عنقه مع أعناق بني قريظة. عباد الله! وهذا أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي، الذي ذهب مع حيي بن الأخطب اليهودي إلى كفار مكة؛ ليحرضوهم على استئصال المسلمين في المدينة، لا بد أن يأخذ جزاءه فأمر النبي- صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يقتلوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 142).

عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى البراء بن عازب - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر قال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك". وكان أبو رافع يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم -أي رجعوا بمواشيهم- قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فأدخل، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق -أي المفاتيح- على وتد. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب. وكان أبو رافع يُسَمَّرُ عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت علي من داخل. قلت إن القوم نذروا بي -أي علموا بي- لم يخلصوا إلى حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت؟ فقلت: أبا رافع، فقال: مَنْ هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئاً؟ وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأُمِكَ الويلُ إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربةً أثخنته، ولم أقتله، ثم وضعت ضبة السيف في بطنه حتى أَخذ من ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى

العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد من غزوة بني قريظة.

انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلتُ النجاء -أي أسرعوا- فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته فقال لي: "ابسط رجلك" فبسطتُ رجلي فمسحها فكأنها لم أشتِكها قط" (¬1). عباد الله! وهكذا تخلص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من رؤوس الأفاعي من اليهود- لعنهم الله-، الذين تربوا على الغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} فكل من كان على المسلمين وسعى في استئصالهم؛ هذا هو مصيره في الدنيا القتل والفضيحة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}. العنصر الثالث: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد من غزوة بني قريظة. أولاً: الله -عز وجل- للظالمين بالمرصاد، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} ". ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (4039)

ثانيا: المستقبل للإسلام

عباد الله! ماذا فعل الله بالأحزاب عندما أرادوا ظلم المسلمين في المدينة؟ أرسلَ الله -عز وجل- عليهم ريحاً وجنوداً من عنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}. ماذا فعل الله -عز وجل- بيهود بني قريظة عندما أرادوا أن يضربوا المسلمين من الخلف فخانوا وغدروا؟ أبادهم الله من فوق الأرض وأعطى أموالهم وأرضهم وديارهم للمسلمين، فاحذروا من الظلم يا عباد الله، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واعلموا أن الله -عز وجل- يستجيب دعوة المظلوم إذا دعا على الظالم. ثانياً: المستقبل للإسلام. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. الإِسلام دين الله في الأرض: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]. والإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. عباد الله! والله -عز وجل- يحفظ هذا الدين ويحفظ أهله؛ إن هم نصروا الله في أنفسهم. قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج: 40]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم:47]، وقال

ثالثا: فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء: 105]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليبلغن هذا الأمر -أي هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر؛ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإِسلام، وذلاً يُذل به الكفر" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" (¬2). عباد الله! ما من أمة حاولت أن تعتدي على هذا الدين وعلى أهله إلا أبادهم الله -عز وجل- ودمرهم، فانظروا عباد الله، ماذا فعل الله -عز وجل- بالأحزاب عندما جاءوا من كل مكان للقضاء على الإِسلام وأهله؟ وانظروا عباد الله، ماذا فعل الله -عز وجل- بيهود بني قريظة؛ عندما أرادوا بغدرهم القضاء على الإِسلام وأهله؟ ثالثاً: فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - عباد الله! سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي دعا فاستجاب الله له، قال: "اللهم لا تمتني حتى تقر عيني مِنْ بني قريظة". سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي حكم في بني قريظة بحكم الملك، من فوق سبع سموات، سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي اهتز عرش الرحمن لموته. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (3). (¬2) "السلسلة الصحيحة" (2).

قال - صلى الله عليه وسلم - "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" (¬1). سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي حملت الملائكة جنازته. عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الملائكة كانت تحمله" (¬2) اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3803)، ومسلم (رقم 2466). (¬2) "صحيح الترمذي" (3024).

الخطبة الثانية والأربعون: عمرة الحديبية (صلح الحديبية)

الخطبة الثانية والأربعون: عمرة الحديبية (صلح الحديبية) أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن عمرة الحديبية (صلح الحديبية). عباد الله! والحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم (¬1). عباد الله! وحديثنا عن عمرة الحديبية أو عن صلح الحديبية سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: سبب هذه العمرة وموقف المنافقين. العنصر الثاني: الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام يتحركون إلى مكة. العنصر الثالث: الأحداث التي وقعت عند الحديبية قبل الصلح. العنصر الرابع: صلح الحديبية. العنصرالخامس: الأحداث التي وقعت بعد الصلح. العنصر السادس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من صلح الحديبية. العنصر الأول: سبب هذه العمرة وموقف المنافقين. رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو بالمدينة- رؤيا بالمنام: أنه داخل مكة وطائف بالبيت العتيق، ورؤيا الأنبياء وحيٌ، فأولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها إذنٌ من الله- ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (5/ 334).

عز وجل- بدخول مكة. فأذن مؤذنه في الناس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معتمر، فأجابه إلى العمرة ألف وأربعمائة من المؤمنين الصادقين. عباد الله! وأما المنافقون فقد ظنوا بالله ظن السوء، ظنوا أن محمداً وأصحابه إن دنوا من مكة، فإن قريش والعرب سيستأصلونهم ويبيدونهم، فلا يرجع منهم واحد البتة. ثم زَوَّروا في أنفسهم عذراً يعتذرون به للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن هو رجع، والله -عز وجل- يعلم ما يسرون وما يعلنون، فأنزل على رسوله قرآناً يفضح فيه المنافقين. قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} [الفتح: 11 - 13]. عباد الله! موقف المنافقين في كل الأحوال واحد لا يتغير إلا بأسلوبه وشكله الظاهري، وجزاؤهم على ذلك- عند الله تعالى -أيضاً واحد لا يتبدل. فقال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6].

العنصر الثاني: الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام يتحركون إلى مكة.

العنصر الثاني: الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام يتحركون إلى مكة. عباد الله! خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، ونظراً لتوقع الشر من قريش فإن المسلمين أخذوا سلاحهم فكانوا مستعدين للقتال، فلما وصلوا إلى ذي الحليفة -وهي ميقات أهل المدينة- أحرموا بالعمرة، وساقوا الهدى سبعين بدنة، وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عيناً إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش. ولما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى "عسفان" جاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قريشاً قد جمعوا المجموع، وخرجوا يريدون أن يقاتلوه، ويصدوه عن البيت الحرام. فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في أن يَغِيرَ على ديار الذين ناصروا قريشاً، واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أشيروا أيها الناس عليّ، أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله -عز وجل- قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين؟ -والمحروب هو من سلب ماله- فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "امضوا على اسم الله" (¬1). عباد الله! أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والصحابة يسيرون إلى مكة؛ حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن خالد بن الوليد بالغميم -مكان قريب من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4178، 4179).

العنصر الثالث: الأحداث التي وقعت عند الحديبية قبل الصلح.

مكة- في خيل لقريش طليعة -أي في مقدمة الجيش- فخذوا ذات اليمين، فانحازوا ذات اليمين، فلم يشعر بهم خالد حتى رأى الغبار صاعداً فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حلْ حلْ- وهي كلمة تقال للناقة إذا تركت السير- فألحت -أي تمادت على عدم القيام- فقالوا: خلأت القصواء -أي حرنت القصواء- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله -أي من ترك القتال في الحرم- إلا أعطيتهم إياها -أي أجبتهم إليها- ثم زجرها فوثبت -أي قامت الناقة-. فَعَدَلَ النبي- صلى الله عليه وسلم - عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على بئر قليل الماء، فما لبثوا أن نزحوه فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهماً من كنانته؛ ثم أمرهم أن يجعلوه في البئر فما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه - وهذه من معجزاته (صلى الله عليه وسلم) -. العنصر الثالث: الأحداث التي وقعت عند الحديبية قبل الصلح. عباد الله! أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إلى قريش رجلاً من أصحابه يخبرهم أنهم جاءوا عماراً، ولم يجيئوا لقتالٍ - ليعلم الجميع أن الإِسلام لا يطلب حرباً إلا إذا فرضت عليه، وإن الذين يشعلون الحرب هم أهل الكفر والشرك- فدعا عمر - رضي الله عنه - فقال عمر: يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فأرسله، فانطلق عثمان فمر على نفر من قريش فقالوا له: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أدعوكم إلى الله وإلى الإِسلام وأخبركم؛ أنا لم نأت لقتالٍ وإنما جئنا عماراً.

فقالوا: قد سمعنا ما تقول فأنفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، فحمله بين يديه وأجاره حتى بلّغَ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأخر عثمان - رضي الله عنه - في مكة حتى أشيع أنه قد قتل. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة بيعة الرضوان على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه وقال: هذه يد عثمان، ثم جاء عثمان - رضي الله عنه - بعد أن تمت البيعة. قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. عباد الله! بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على حالهم بالحديبية، إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة -وهم موضع سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل النصح له- فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قريشاً خرجت بكل ما تملك من قوة، ونزلت بالحديبية عند الماء الكثير، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب -أي أضعفت قوتهم وأموالهم- وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة -أي جعلت بيني وبينهم مدة يترك الحرب بيننا وبينهم فيها- وُيخلّو بيني وبين الناس -أي من الكفار العرب وغيرهم- فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد رحموا -أي فإن ظهر غيرُهم عليَّ كفاهم المؤنة، وإن أظهر أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني وإلا فلا تنقض مدة الصلح إلا وقد استراحوا وقووا- ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي -أي: حتى أموت- ولينفذن الله أمره -أي: وليمضين الله أمره في نصر دينه-.

فقال بُديل: سأبلغهم ما تقول، ثم انطلق حتى أتى قريشاً فقال: يا معشر قريش، إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا- وعرض عليهم الخطة التي عرضها عليه النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال لهم عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. فقالوا ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - نحواً من قوله لبُديل، فقال له عروة عند ذلك: يا محمَّد جئت لقتال قومك، فإن قتلتهم فهل رأيت أحداً قبلك اجتاح قومه- أي أهلكهم -وإن كانت الأخرى- يعني إن هزمت أنت -فإني والله أرى حواليك أوباشاً خليقاً- أي: حقيقاً- أن يفروا عنك ويدعوك -أي يتركوك-. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لعروة: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال عروة: مَنْ هذا؟ قالوا له: هذا أبو بكر. فقال عروة: والله لولا يَدٌ لك عندي -أي نعمة- لم أجزك بها -أي: لم أكافئك بها- لأجبتك. عباد الله! وأخذ عروة يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأخذ بلحيته، وكان المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قائماً عند رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف وعلى رأسه المغفر، كلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربها المغيرة بنعل السيف وقال له: نح يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فقال عروة: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. قال عروة: أي غدر! أولست أسعى في غدرتك؟ - وكان المغيرة - رضي الله عنه - في الجاهلية صحب رجالاً من قريش فقتلهم ثم أخذ أموالهم، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما الإِسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء - لكونه أخذ غدراً-. عباد الله! واستمر عروة يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينظر في أصحابه كيف يحترمونه، ويعزرونه ويوقرونه، فما تنخم - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في يد أحد منهم، فدلك بها وجهه وجلده، ولا توضأ وضوءاً إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، كلهم يريد أن يمس منه، ولا تكلم بكلمة إلا بادروا بالعمل بها ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى قريش، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمَّد محمداً- وحدثهم بما رأى- ثم قال لهم: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. عباد الله! فقام رجل من بني كنانة فقال دعوني آته. فقالوا ائته- فأتاه فلما أشرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: هذا رجل من بني كنانة قد أتاكم، وهو من قوم يعظمون البُدن فابعثوها له فبعثوها، واستقبله القوم يلبون- لبيك اللهم لبيك- فلما رأى البُدن وسمع التلبية قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم ما رأى قال لقريش: استقبلوني ملبين يسوقون الهدي، جاءوا معتمرين ولم يجيئوا لقتال، وما أرى أن يُصدوا عن البيت. فقالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك. عباد الله! ثم أرسلت قريش مكرز بن حفص وأعقبته بسهيل بن عمرو

العنصر الرابع: صلح الحديبية

فلما رآه النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: قد سهل لكم من أمركم. العنصر الرابع: صلح الحديبية: عباد الله! عندما أرسلت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرادت بذلك الصلح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن بشرط أن يرجع المسلمون دون عمرة في هذا العام. عباد الله! عندما جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما (الرحمن) فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب "باسمك اللهم". ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذا ما قاضى عليه محمَّد رسول الله". فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب "محمَّد بن عبد الله". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني"، اكتب "محمَّد بن عبد الله". والرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك لأنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". ثم قال - صلى الله عليه وسلم - للكاتب: اكتب: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أُخذنا ضغطه، ولكن ذلك من

العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك! إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وكان قد أسلم فحبسوه وأوثقوه في الحديد، فهرب منهم وهو مقيد، حتى رمى بنفسه بين ظهرأني المسلمين، فلما رآه أبوه قال: يا محمَّد هذا أول ما أقاضيك عليه أن تردَّه إليّ. فقال - صلى الله عليه وسلم -؟ إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: ردَّه عليَّ، وإلا والله لا أصالحك على شيء أبداً. فقال- صلى الله عليه وسلم - له: فأجزه لي- قال سهيل: ما أنا بمجيزه لك. قال- صلى الله عليه وسلم -: بلى فافعل، قال سهيل: ما أنا بفاعل. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين بعد ما أسلمت وعذبت. عباد الله! وغضب المسلمون لرد المسلمين الفارين من قريش إليها فقالوا: "يا رسول الله تكتب هذا؟ قال لهم: نعم. إنه مَنْ ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له مخرجاً وفرجاً" (¬1). عباد الله! وظهر الغضب الشديد على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: "فأتيت نبي الله- صلى الله عليه وسلم -"، فقلت: ألست نبي الله ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1784).

حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا ناتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ فقال له: أبو بكر بمثل ما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وزاد: "يا عمر إلزم غرزه -أي: تمسك بأمره وترك مخالفته- حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد" (¬1). وقال عمر: "ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق مِنَ الذي صنعتُ مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً" (¬2). عباد الله! وكان عمر - رضي الله عنه - يُراجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصلح، وكان يرغب في إذلال المشركين فجميع ما ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 325) بإسناد حسن. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 325).

العنصر الخامس: الأحداث التي وقعت بعد الصلح

صدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه (¬1). العنصر الخامس: الأحداث التي وقعت بعد الصلح: عباد الله! لما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم رجل واحد، قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر لها ما لقي من الناس. قالت أم سلمة: يا نبي الله! أتحب ذلك، اخرج ولا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج - صلى الله عليه وسلم - فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنة وحلق، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. عباد الله! وقبل أن يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جاءه نسوة مهاجرات فماذا يفعل فيهن؟ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. عباد الله! وبعد أن رجع النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جاءه رجل من قريش يقال له أبو بصير وهو مسلم، فبعثت قريش في طلبه رجلين، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (5/ 346 - 347).

وسألاه أن يرده عليهم فرده عليهم. فانطلقا به فنزلا بذي الحليفة، ومعهم أبو بصير، وأخرجا تمراً كان معهما يأكلان منه، فبينما هم يأكلون أخرج أحدهما سيفه وأخذ يلوح به. فقال له أبو بصير: أرى سيفك هذا سيفاً جيداً! فقال الرجل: نعم إنه كذلك، وإني قد جربته وجربته. فقال أبو بصير: أرنيه أنظر فيه قال الرجل: نعم خذه. فأخذه أبو بصير وضرب به الرجل حتى قتله، فلما رآه صاحبه يُضرب، فر مذعوراً هارباً إلى المدينة، فدخل المسجد يعدو فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا قد رأى ذعراً. فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فبينما هو عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أبو بصير، فقال يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه أحد" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر -أي: ساحله- فعلم أبو جندل بن سهيل بن عمرو أن أبا بصير يقيم على سيف البحر، فاحتال حتى تَفَلَّتَ من قريش وأتى أبا بصير، فأقام معه على سيف البحر، وسمع رجال من المستضعفين من المسلمين من مكة أن أبا بصير وأبا جندل على سيف البحر، فخرجوا إليهم حتى كانوا عصبة، لا يسمعون بعِيْرٍ لقريش جاءت من الشام إلا خرجوا عليها، وقتلوا من فيها فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم، لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأنزل الله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ

العنصر السادس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من صلح الحديبية

مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24:26]. وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت. العنصر السادس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من صلح الحديبية. أولاً: كان صلح الحديبية فتحاً مبيناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين، ففي عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من الحديبية نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي بسورة الفتح. يقول - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهيَ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} (¬1). يقول البراء - رضي الله عنه - "تعدون أنتم الفتح؛ فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية" (¬2). عباد الله! وقد اشتملت هذه السورة العظيمة على المبشرات الكثيرة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4177). (¬2) رواه البخاري (رقم 4150).

الطيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ومن هذه المبشرات: 1. المغفرة من الله -عز وجل- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما تقدم وما تأخر من ذنبه. قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3]. 2. تبشير المؤمنين بالجنة. قال تعالى {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح: 5] 3. بشرهم بفتح خيبر. قال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ .. } [الفتح: 20]. قيل هذه غنائم خيبر. 4. بشرهم الله -عز وجل- برضاه عنهم. قال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. 5. بشرهم بالنصر والتمكين في الأرض وظهور هذا الدين. فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]. ثانياً: في صلح الحديبية تطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - لمبدأ الشورى في الإِسلام. حيث استشار المسلمين في الإغارة على ذراري المشركين عندما قال لهم: "أشيروا أيها الناس عليَّ" وأخذ برأي الصديق - رضي الله عنه - واستشار أم سلمة -رضي الله عنها- في أمر الناس؛ لما لم يبادروا بالنحر والحلق حين أمرهم بعد الصلح، وأخذ - صلى الله عليه وسلم - برأيها. ثالثاً: وقد ظهرت معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية عندما ازداد الماء بين يديه يقول جابر - رضي الله عنه -: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة، فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ما لكم؟ " قالوا يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال جابر: فشربنا وتوضأنا. قال رجل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال جابر: لو كنا مائة ألفٍ لكفانا كنا خمس عشرة مائةً (¬1). اللهم اجعل للمسلمين فرجاً ومخرجاً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (152).

الخطبة الثالثة والأربعون: غزوة خيبر

الخطبة الثالثة والأربعون: غزوة خيبر أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة خيبر. عباد الله! خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، تقع على بعد ستين أو ثمانين ميلاً من المدينة من جهة الشمال، وسكانها من اليهود. عباد الله! ومدينة خيبر كانت حين غزاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه آخر معقل من معاقل اليهود في أرض الجزيرة. عباد الله! وفتح خيبر وعداً وعده الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين عند عَوْدَتِهم مِنْ صلح الحديبية، قال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20]. يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر. عباد الله! وحديثنا عن غزوة خيبر سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: أسباب هذه الغزوة وموقف المنافقين. العنصر الثاني: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى خيبر. العنصر الثالث: أحداث الغزوة. العنصرالرابع: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر. العنصر الأول: أسباب هذه الغزوة وموقف المنافقين: ومن أسباب هذه الغزوة: أن اليهود في خيبر نقضوا المعاهدة التي بينهم

وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعقدوا حلفاً مع قريش ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يهدف إلى تطويقه من الشمال إلى الجنوب (¬1). واليهود في خيبر هم الذين حزَّبوا الأحزاب ضد المسلمين في غزوة الأحزاب، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ويهود خيبر هم الذين وضعوا خطة لاغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم -. فكان لا بد من التخلص من يهود خيبر، الذين هم سبب لكل شر وبلاء في أرض الجزيرة. عباد الله! وموقف المنافقين واحد لا يتغير إلا في أسلوبه وشكله فقط، وعندما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى خيبر، أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول إلى يهود خيبر: "أن محمداً قصدكم وتوجه إليكم فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه، فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمَّد شرذمة قليلون، عُزَّلٌ لا سلاح معهم إلا قليل". فلما علم ذلك يهود خيبر، أرسلوا إلى غطفان يستمدونهم -لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين- وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين (¬2). وصدق الله العظيم حيث قال في وصف المنافقين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 138 - 139]، وقال ¬

_ (¬1) "مختصر السيرة لابن هشام". (¬2) "الرحيق المختوم".

العنصر الثاني: الجيش الإسلامي في طريقه إلى خيبر.

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 67 - 68] العنصر الثاني: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى خيبر. عباد الله! رجع النبي- صلى الله عليه وسلم - من الحديبية في ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة، وبعد شهر واحد خرج بجيش المسلمين إلى خيبر، وهو على يقين من النصر والفتح، لما وعده الله تعالى أثناء عودته من صلح الحديبية. قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} [الفتح: 18 - 19]. عباد الله! وبينما يسير الجيش المسلم إلى خيبر ذات ليلة إذ قال رجل من الصحابة لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك -وكان عامر بن الأكوع رجلاً شاعراً- فنزل يحدو بهم وهو يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداءً لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينةً علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا ... وإن أردوا فتنةً أبينا فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من هذا السائق" فقالوا: عامر بن الأكوع. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يرحمه الله" فقال رجل من القوم: يا رسول الله وجبت -أي:

أنه يرزق الشهادة بدعائك له ووجبت له الجنة- لولا أمتعتنا به" (¬1). وكان الصحابة - رضي الله عنه - يعرفون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استغفر لرجل منهم يخصه؛ استشهد، فعلموا أن عامر بن الأكوع سيستشهد في غزوة خيبر. عباد الله! وكان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا صعدوا كبروا، وإذا نزلوا سبحوا (¬2). فأشرفوا على واد فرفعوا صوتهم بالتكبير: الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "أربعوا على أنفسكم، أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" (¬3). عباد الله! ولما أشرف الجيش المسلم على خيبر، قال لهم - صلى الله عليه وسلم - "قفوا"، ثم تضرع - صلى الله عليه وسلم - إلى ريه بهذا الدعاء "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها. ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها" (¬4). لتعلموا يا أمة الإِسلام أن جيش الإِسلام ذاكراً لله دائماً في سفره وحضره. عباد الله! وصل جيش الإِسلام إلى أسوار خيبر، وبات- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خارج خيبر، واليهود لا يشعرون، فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون صلوا ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4196)، ومسلم (رقم 2477). (¬2) رواه البخاري (رقم 2993). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4205)، ومسلم (رقم 2704). (¬4) حسنه الألباني في "فقه السيرة" (ص 340)

الفجر في أول وقته، ثم دخلوا خيبر واليهود خارجون إلى مزارعهم بآلات الزراعة. فلما رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجيش قالوا: محمَّد والله، محمَّد والخميس: -أي الجيش- ثم فروا هاربين، ودخلوا حصونهم كما وصفهم الله في كتابه، فقال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 13 - 14]. عباد الله! فلما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بهم من الرعب قال: "الله أكبر خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين" (¬1). الرعب يدب في قلوب الكفار إذا كنا على ديننا، أمَّا إذا تركنا ديننا فقد أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - "ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". قالوا: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "حب الدنيا، وكراهية الموت" (¬2). عباد الله! وتحصنت يهود خيبر في ثمانية حصون أشدها تحصناً هو (حصن ناعم) وكان هذا الحصن هو خط الدفاع الأول لليهود لمكانه (الاستراتيجي). وكان هذا الحصين هو حصن مرحب اليهودي: ملك اليهود- الذي كان يعد بالألف -أي: كان عندهم بألف رجل- ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 371)، ومسلم (رقم 1365). (¬2) صحيح: مضى تخريجه.

العنصر الثالث: أحداث الغزوة.

العنصر الثالث: أحداث الغزوة. عباد الله! في ليلة الهجوم على خيبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه مبشراً لهم بالفتح: "لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه". فبات الناس يدكُّون -أي: يتهامسون -أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أين علي بن أبي طالب؟ ". فقالوا: يا رسول الله! هو يشتكي عينيه -أي: به رمد- فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرسلوا إليه" فأتي به. فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال علي - رضي الله عنه -: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإِسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم" (¬1). يوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة إلى أن يحرصوا على دعوة الناس إلى الإِسلام، ولا يتطلعوا إلى الغنائم التي بعد الفتح. عباد الله! أخذ علي - رضي الله عنه - الراية، وتحرك بجيش المسلمين إلى أول حصن من حصون اليهود، ألا وهو حصن ناعم وهو من أشد حصون اليهود تحصناً، ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2942)، ومسلم (رقم 2406).

ويوجد فيه مرحب ملك اليهود الذي يعد بالألف. فدعاهم علي - رضي الله عنه - للإسلام فرفضوا هذه الدعوة. وخرج ملكهم مرحب إلى ميدان القتال ودعا إلى المبارزة وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي "مرحب" ... شاكِي السلاح (¬1) بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز إليه علي - رضي الله عنه - وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره -أي: اقتل الأعداء قتلاً واسعاً- فتقدم علي - رضي الله عنه - إلى مرحب فعلاه بالسيف فقطع رقبته، ثم تقدم نحو حصون اليهود ففتحها حصناً حصناً، وكان الفتح على يد عليّ - رضي الله عنه -. عباد الله! ولما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعد فتحها، أهديت إليه شاه فيها سم من امرأة يهودية، لتعلموا أن اليهود أهل غدر وخيانة ومكر، تعالوا بنا لنستمع إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر: يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لأصحابه: أمسكوا إنها مسمومة بعد أن مضغ النبي - صلى الله عليه وسلم - منها مضغة. ¬

_ (¬1) أي تام السلاح.

ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجمعوا من كان ها هنا من اليهود". فجمعوا له: فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: كذبتم بل أبوكم فلان- لتعلموا أن اليهود أهل الكذب- فقالوا: صدقت وبررت. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: كذبتم، اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً. ثم قال لهم: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما حملكم على ذلك؟ " قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك" (¬1) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3169).

عباد الله! ثم جيء بالمرأة التي وضعت السم في الشاة فسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم وضعت السم في الشاة"؟ قالت اليهودية: أردت أن أقتلك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان الله ليسلطك علي". قال الصحابة - رضي الله عنهم - يا رسول الله؟ أفلا نقتلها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا" (¬1). الله أكبر، إنها والله أخلاق النبوة، العفو عند المقدرة. عباد الله! ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد فتح الله له فتحاً مبيناً، ونصره نصراً عزيزاً، وحقق للمسلمين ما ودعهم به: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}. عباد الله! وقسّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المغانم الكثيرة التي غنمها من يهود خيبر كما أمره الله تعالى، وأثناء القسمة أدركه مهاجره الحبشة، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فضرب لهم بسهم، ولم يسهم لمن غاب عن خيبر إلا لمهاجرة الحبشة، وكان في السبي صفية بنت حيي بن أخطب فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، ثم دعاها إلى الإِسلام فأسلمت فأعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقها صداقها، وبنى بها، وأولم عليها بالتمر والسمن، ولم يكن في وليمتها لحم قط. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2617)، ومسلم (رقم 2190).

العنصر الرابع: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيير

عباد الله! ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية وجد في وجهها خضرةً فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا"؟ قالت: رأيت كأن القمر زال من مكانه فوقع في حجري، فذكرت ذلك لزوجي ابن أبي الحقيق اليهودي، فلطمني على وجهي؛ وقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة- يقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا والله يا رسول الله لا أذكر من أمرك شيئاً (¬1). ولكن هذه الرؤيا التي رأتها هي زواجها من النبي - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! وهكذا فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، واستراح المسلمون من غدر وخيانة اليهود، وليعلم الجميع أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. العنصر الرابع: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيير: أولاً: إخباره- صلى الله عليه وسلم - باستشهاد عامر بن الأكوع وهم في طريقهم إلى خيبر، وقد حدث ذلك. ثانياً: إخباره- صلى الله عليه وسلم - بأن من يأخذ الراية غداً سيفتح الله على يديه، ففتح الله خيبر على يديه. ثالثاً: بصق - صلى الله عليه وسلم - في عين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ودعا له فشفي من ألم عينيه كأنما لم يكن بها وجع. رابعاً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن الشاة التي قدمت له مسمومة، عندما قال- صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "البدايهّ والنهاية" (196، 197)، و"زاد المعاد" (3/ 327).

لأصحابه "أمسكوا فإنها مسمومة". خامساً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن رجلاً ممن معه من الذين خرجوا إلى خيبر من أهل النار. يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: خرجنا إلى خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه ممن يدعي الإِسلام: هذا من أهل النار. فلما كان القتال، قاتل الرجل أشد ما يكون القتال، وكثرت به الجراحات حتى كاد بعض الناس أن يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه، فاشتد رجال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "قم يا فلان فأذن في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن". ثم قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر" (¬1). اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3062)، ومسلم (رقم 111).

الخطبة الرابعة والأربعون: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام

الخطبة الرابعة والأربعون: كُتُبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم- إن شاء الله- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام. عباد الله! عندما قال الله -عز وجل- لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}، وقال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الناس إلى هذا الدين العظيم، بالليل والنهار، سراً وعلانية، في السلم والحرب. ففي صلح الحديبية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما وصله الخبر أن قريشاً اجتمعت لمنعه من دخول مكة: "إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا -أي قريش- ماددتهم مدة - أي: جعلت بيني وبينهم مدة يترك الحرب بيننا وبينهم فيها- ويخلّوا بيني وبين الناس" - أي: يتركوني أدعو الناس إلى الإسلام، وهذا هو الشاهد على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على دعوة الناس إلى الإِسلام في السلم. وفي غزوة خيبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -؛ عندما أعطاه الراية

وأرسله إلى خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم أدعوهم إلى الإِسلام" وهذا هو الشاهد على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على دعوة الناس إلى الإِسلام حتى في أيام الحرب. عباد الله! وبصلح الحديبية أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شر أقوى أعدائه، شر قريش، وبفتح خيبر قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شر اليهود في الجزيرة العربية - من الشمال-، وبذلك استقرت الأوضاع في المدينة، وأمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على المدينة عاصمة الدولة الإِسلامية. عباد الله! عند ذلك كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك ورؤساء الدول الكبرى، كفارس، والروم يدعوهم إلى الإسلام. عن أنس - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). عباد الله! وكسرى هو لقب لكل مَن ملك الفرس، وقيصر هو لقب لكل مَنْ ملك الروم، والنجاشي هو لقب لكل مَنْ ملك الحبشة. عباد الله! وعندما عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إرسال الكتب إلى الملوك والرؤساء قيل له: "إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً، فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً ونقشه محمَّد رسول الله" (¬2). "فكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمَّد سطر، ورسول سطر، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1774). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 65)، ومسلم (رقم 2092).

والله سطر" (¬1). "وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: يجعل هذا الخاتم في الخنصر من يده اليسرى" (¬2). عباد الله! وأول من كتب إليه من الملوك هو هرقل عظيم الروم. وهذا هو نص الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإِسلام -أي بدعوة الإِسلام وهي كلمة التوحيد- أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -الفلاحين- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران: 64] (¬3). عباد الله! وختم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتاب، وبعث به دحية الكلبي، فدفعه دحية إلى عظيم بصرى، فسلمه هرقل. ماذا فعل هرقل عندما وصله الكتاب؟ وماذا كان رده؟ عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى ابن عباس -رضي الله عنهما -وهو يخبرنا الخبر من فيِّ أبي سفيان بن حرب. يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى فيَّ، قال -أي أبو سفيان- انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 5878). (¬2) رواه مسلم (رقم 2095). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 7)، ومسلم (رقم 1773).

(صلى الله عليه وسلم) -يعني صلح الحديبية- فبينما أنا بالشام إذا جئ بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل -يعني عظيم الروم- جاء به دحية الكلبي، فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. فقال هرقل: هل ها هنا أحدٌ من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم. قال: -أي: أبو سفيان - فدُعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه. فقال: -أي هرقل- أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال: أبو سفيان: أنا -يقول أبو سفيان- فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا ترجمانه؟ فقال قل لهم: إني سائل هذا الرجل -يقصد أبا سفيان- عن هذا الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني، فكذبوه .. قال أبو سفيان: والله لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب، لكذبته -أي: لولا خفت أن رفقتي ينقلون عني الكذب إلى قومي، ويتحدثون به في بلادي، لكذبت عليه، لبغضي إياه- ثم قال لترجمانه: سلة كيف حسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب. قال هرقل: فهل كان مِن آبائه ملك؟ قال أبو سفيان: لا. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

قال أبو سفيان: لا قال هرقل: ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. قال هرقل: هل يرتد أحد منهم عن دينه، بعد أن يدخل فيه سخطه له؟ قال أبو سفيان: لا قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم قال هرقل: كيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً -يصيب منا ونصيب منه-. قال هرقل: فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، -يقصد بها صلح الحدييية- قال أبو سفيان: ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه-. قال هرقل: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال هرقل لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، فكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك، قلت: رجل

يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه: أضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم: وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، وقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطةً له، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهيم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أن الحرب بينكم وبينه سجال، تنالون منه وينال منكم، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل يأتم بقول قيل قبله. ثم قال هرقل: بم يأمركم؟ قال أبو سفيان: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال هرقل: إن يكن ما تقول فيه حقاً؛ فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه، لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه، فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم". سلام على ما تبع الهدى .. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلم

تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}. فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط -وهي الأصوات المختلطة- وأمر بنا فأخرجنا. فقال أبو سفيان: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة -أي: عظم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إنه ليخافه ملك بني الأصفر- يعني الروم. قال أبو سفيان: فما زلت موقناً بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإِسلام" (¬1). عباد الله! وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى ملك الفرس يدعوه إلى الإِسلام، وهذا هو نص الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من أَتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ًويحق القول على الكافرين. فأسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس" (¬2). عباد الله! عندما وصل الكتاب إلى كسرى مزقه. ¬

_ (¬1) تقدم قريباً. (¬2) قال الشيخ الألباني: حديث حسن انظر "فقه السيرة" (ص 368).

فلما وصل الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مزق الله ملكه" (¬1). فاستجاب الله لدعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومزق ملك كسرى، وذلك عندما قام ابنه بقتل إخوته ثم قتل والده ليرث الملك وحده ثم بعد ذلك بقليل مات هذا الابن فتمزق ملك كسرى جزاءً وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً. عباد الله! أما الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء فهي كثيرة جداً منها: أولاً: محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعث بالإِسلام إلى الناس كافة، والدليل على ذلك في كتاب الله قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. والدليل على ذلك من السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم - "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" (¬2). الشاهد أرسلت للناس كافة. ويؤخذ أيضاً من رسائله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء والقادة، في داخل الجزيرة وخارجها يدعوهم فيها إلى الإِسلام، ويقول: "فإني أنا رسول الله إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 64). (¬2) رواه مسلم (رقم 523).

الناس كافة؛ لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين". ثانياً: الكذب خلقٌ قبيح في الجاهلية، وقبيح وحرام في الإِسلام. ويؤخذ هذا من قول أبي سفيان عندما سأله هرقل فقال: "فوالله لولا الحياء مِنْ أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه". فيا أمة الإِسلام! الكذب قبيح في الجاهلية وقبيح عند الكفار، أما يستحي المسلم الذي يصلي ويصوم أن يكذب على الله، وعلى رسول الله، وعلى الناس. وقد جاء الإِسلام يأمر بالصدق ويحذر من الكذب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} إلى قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر .. " (¬1). ثالثاً: المؤمن الصادق إذا تمكن الإيمان من قلبه لا يرتد عن دينه أبداً، وإن نشر بالمناشير ومشط بأمشاط الحديد، وهذا يؤخذ من قول هرقل: "سألتك هل يرتد أحدٌ منهم سخطة عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والذين دخلوا في الإِسلام طمعاً في الدنيا الفانية، فهم الذين يرتدون عن دينهم، وفيهم قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6094)، ومسلم (رقم 2607).

يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (¬1). أما المؤمنون الصادقون؛ فقد قال الله تعالى في وصفهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وقال - صلى الله عليه وسلم - لخباب بن الأرت - رضي الله عنه -: "قد كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها ثم يؤتي بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬2). رابعاً: الإِسلام دين الله، ومن وقف في وجه دعوة الإِسلام دمره الله، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 118). (¬2) رواه البخاري (رقم 3612).

وهذا يؤخذ من رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى عظيم فارس عندما مزقها فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمزق الله ملكه. وهذا الذي فعله الله في جميع الأمم السابقة عندما وقفت في وجه دعوة الإسلام. قوم نوح عندما وقفوا في وجه الإِسلام الذي جاء به نوح عليه السلام أبادهم الله. عاد عندما وقفوا في وجه الإِسلام الذي جاء به هود عليه السلام أبادهم الله. ثمود عندما وقفوا في وجه الإِسلام الذي جاء به صالح عليه السلام أبادهم الله. فرعون عندما وقف في وجه الإِسلام دمره الله. قريش عندما وقفت في وجه الإِسلام ودعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمرهم الله. فليحذر الذين يكيدون للإسلام فإن الله -عز وجل- يقول في كتابه، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 15 - 17]. اللهم دمر كلَّ من وقف في وجه الإِسلام.

الخطبة الخامسة والأربعون: غزوة مؤتة

الخطبة الخامسة والأربعون: غزوة مؤتة أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة مؤتة. عباد الله! غزوة مؤتة وقعت في السنة الثامنة للهجرة وكانت نصراً وفتحاً للمسلمين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "فأخذ الراية خالد ففتح الله عليه". غزوة مؤتة رفعت من شأن المسلمين، وقذفت الرعب في قلوب الكافرين. عباد الله! وحديثنا عن غزوة مؤتة سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: سبب هذه الغزوة. العنصر الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في المدينة قبل التحرك إلى الشام. العنصر الثالث: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى أرض الشام. العنصر الرابع: أحداث الغزوة. العنصر الخامس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة مؤتة. العنصر الأول: سبب هذه الغزوة. سبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني -أحد أمراء قيصر إلى

العنصر الثاني: رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والجيش الإسلامي في المدينة قبل التحرك إلى الشام.

أرض الشام- فأوثقه رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه. ولم يُقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول غيره، فاشتد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نُقلت إليه الأخبار لأن الرسل لا يُقتلون، فجهز لغزو الروم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب (¬1). العنصر الثاني: رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في المدينة قبل التحرك إلى الشام. عباد الله! أَمَّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الجيش الكبير زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وقال - صلى الله عليه وسلم - للجيش: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" (¬2). ووصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمير في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك دائماً إذا أرسل جيشاً في سبيل الله. عن بريدة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَّرَ أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً .. " الحديث (¬3). عباد الله! وودع المسلمون الجيش، وسلموا على الأمراء فبكى عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه - فقالوا له: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله ¬

_ (¬1) "الرحيق المختوم" (ص 369)، "زاد المعاد" (3/ 381). (¬2) رواه البخاري (رقم 4261). (¬3) رواه مسلم (رقم 1731).

العنصر الثالث: الجيش الإسلامي في طريقه إلى أرض الشام

- صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم: 71]، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون للجيش: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين -أي: سالمين-. فقال عبد الله بن رواحة يرد على هذا الوداع: ولكنني أسألُ الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ (¬1) تقذف الزَّبدا أو طعنةً بيدي حَرَّان مجهزة ... بحربةٍ تنفذ (¬2) الأحشاء والكبدا حتى يُقال إذا مرَّوا على جَدثي (¬3) ... يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا (¬4) عباد الله! وودع النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستودع الجيش: قال "أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم" (¬5). العنصر الثالث: الجيش الإِسلامي في طريقه إلى أرض الشام: عباد الله! تحرك الجيش الإِسلامي بقيادة زيد بن حارثة - رضي الله عنه - قاصدين أرض الشام، فلما وصلوا إلى "معان" - وهي مدينة معروفة على الحدود ¬

_ (¬1) أي ذات سعة. (¬2) أي تخترق. (¬3) أي قبري. (¬4) "زاد المعاد" (3/ 382). (¬5) "صحيح سنن أبي داود" (2266).

العنصر الرابع: أحداث الغزوة

الأردنية-، وصلتهم الأخبار أن الروم قد تجهزوا لهم بمئتي ألف مقاتل لقتالهم؛ مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب. عباد الله! وجيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل فقط، وكأن النسبة واحد إلى سبعين. وبات الجيش الإِسلامي بمعان ليلتين يتشاورون في الأمر، أيتقدمون للهجوم على عدوهم على بركة الله، معتصمين بالله، واثقين به؟ أم يبعثون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يخبره الخبر فيرى رأيه، فإما أن يمدهم بمدد من عنده، وإما أن يأمرهم بأمره فيمضوا له. فقام عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - خطيباً في الجيش فقال: يا قوم: والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وإنا ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظفر -أي نصر- وإما شهادة. فقال الناس: صدق والله ابن رواحه، ثم تشجعوا وتحركوا نحو العدو (¬1). العنصر الرابع: أحداث الغزوة: عباد الله! وصل جيش الإسلام إلى "مؤتة" وعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال في ثلاثة آلاف مقاتل، ووصل جيش الروم بقوته في مئتي ألف مقاتل يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -وهو ممن أسلموا بعد صلح الحديبية، وكانت مؤتة أول غزوة يحضرها-: "شهدت مؤتة فلما دنا المشركون -أي الروم- رأيت ما لا قبل لأحد به، رأيت عدداً وعدة وسلاحاً وخيلاً، وديباجاً وحريراً وذهباً، فبرق بصري. فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جُموعاً كثيرة؟ ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (3/ 382)، "مختصر سيرة ابن هشام" (ص 215).

قال: إي والله. فقال له ثابت: إنك لم تشهد معنا بدراً، إنا لا نُنصر بالكثرة" (¬1). وصدق ثابت - رضي الله عنه - لأن الله قال في كتابه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 26]. عباد الله! وهناك في "مؤتة" التقى الجمعان، وبدأ القتال المرير، ودخل ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين في مئتي ألف مقاتل من المشركين، معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب. عباد الله! أخذ الراية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يقاتل بضراوة وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإِسلام، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم -أي: سال دمه- فقتل - رضي الله عنه -. ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقاتل على فرسه الشقراء حتى أرهقه القتال، فنزل عن فرسه فعقرها -أي: ضرب قوائمها بالسيف وهي قائمة- ورفع الراية بيده، والسيف في يده الأخرى وأخذ يقاتل القوم وهو يقول: ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (4/ 244) وعزاه للبيهقي.

يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارداً شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إن لاقيتها ضِرابها عباد الله، فما زال - رضي الله عنه - يقاتل القوم حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل - رضي الله عنه -، فعوضه الله عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء. "ولذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا سلم على عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (¬1). ولذلك لقب جعفر بن أبي طالب بجعفر الطيار. عباد الله، يقول ابن عمر -رضي الله عنهما- "وقفت على جعفر يومئذ، وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره- يعني في ظهره" (¬2). وفي رواية أخرى: يقول - رضي الله عنه - "كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورميةٍ" (¬3). عباد الله، لما قتل جعفر بن أبي طالب أخذ الراية عبد الله بن رواحة الأمير الثالث المعين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفعها، فوجد في نفسه تردداً عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3709). (¬2) رواه البخاري (رقم 4260). (¬3) رواه البخاري (رقم 4261).

الاقتحام فأكرهها على النزول وقال: أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنّه ... إن أجلب الناسُ وشدُّوا الرنَّه لتنزلنه أو لتكرهنّه ... مالي أراك تكرهين الجنة وقال أيضاً: يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي! ... هذا حمام الموت قد صليت! وما تمنيت فقد أُعطيت! ... إن تفعلي فعلهما هُديت! ثم نزل، فأتاه ابن عم له بِعَرْقٍ من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك فقد لقيت ما لقيت، فنهس منه نهسه، ثم سمع جلباً -أي صوتاً- فقال: وأنت في الدنيا -يعني القتال دائر بين المسلمين والمشركين وأنت يا ابن رواحة في الدنيا- ثم رمى بقطعة اللحم، وأخذ سيفه، ودخل في صفوف المشركين فقاتل حتى قتل - رضي الله عنه -. عباد الله! تقدم ثابت بن أرقم - رضي الله عنه - فرفع الراية وقال: يا قوم اصطلحوا على أميرٍ منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، لست لها، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وكانت هذه الغزوة أول غزوة يشهدها خالد في صفوف المسلمين؛ لأنه أسلم بعد صلح الحديبية. عباد الله! أخذ خالد - رضي الله عنه - الراية وقاتل قتالاً مريراً. يقول خالدٌ - رضي الله عنه -: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة لي يمانية" (¬1)، ولذلك سماهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومها سيف الله، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4266).

قال - صلى الله عليه وسلم -: "فأخذها سيف من سيوف الله ففتح الله له" (¬1). عباد الله! ولما كان الليل أعاد خالد بن الوليد - رضي الله عنه - تنظيم الجيش وغير فيه وبدل، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدَّمة ساقة، والساقة مقدمة، ووضع خطة للانسحاب بالجيش في صباح اليوم التالي في عزة وكرامة دون أن يُشعر العدو أنه منسحب، فلما طلع النهار وتراءى الجمعان رأى العدو أن الجيش قد تغير وتبدّل، فقذف الله الخوف في قلوب الكفار، فظنوا أن خالداً قد أُمِدَّ بمددٍ من المدينة لأنَّ صورة الجيش قد تغيرت، وأخذ خالد يقاتل وهو يرجع إلى الوراء بالجيش قليلاً قليلاً قليلاً، فألقى الله الرعب أيضاً في قلوب الكفار، وظنوا أن خالداً يريدُ استدراجهم ليبيدهم، فانسحبوا قبل المسلمين، وقتل المسلمون من المشركين كثيراً، وأوقع جيش الإِسلام بالعدو خسائر كبيرة، وولَّي العدو مهزوماً واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه. وكانت النتيجة في غزوة مؤته لصالح المسلمين، وكانت نصراً وفتحاً. عباد الله! ومن أرض المعركة بمؤته إلى المدينة حيث قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر المسلمين في المدينة بنتائج المعركة. يقول أنس - رضي الله عنه -: خطب النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: أخذ الراية زيدٌ فأصيب -أي: قتل-، ثم أخذها جعفر فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها خالد بن الوليد مِن غير إمرة ففتح الله له وعيناه تذرفان (¬2). عباد الله! فلما جاءه من يخبره قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تُخبرني أم أُخبرك؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4262). (¬2) رواه البخاري (رقم 4262).

العنصر الخامس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة مؤتة

قال: أخبرني أنت يا رسول الله؟ فأخبره بما كان، فقال الصحابيُّ: والله يا رسول الله ما نقصت مما دار حرفاً. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4] (¬1). العنصر الخامس: الفوائد والدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة مؤتة: أولاً: المسلمون ينتصرون على أعدائهم في المعارك بالإِسلام العظيم الذي أكرمهم الله به، وهذا يؤخذ من قول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - عندما قال لأصحابه في غزوة مؤته: والله ما نقاتل القوم -أي العدو- بعدَّة ولا عدد ولا كثرة، والله ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فامضوا يا قوم على بركة الله، فهي والله إحدى الحسنيين: إما الظفر وإما الشهادة". ويؤخذ أيضاً من قول ثابت - رضي الله عنه - لأبي هريرة عندما قال له: "يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة. قال أبو هريرة: أي والله، قال ثابت: إنك لم تشهد معنا بدراً، إنا لا ننصر بالكثرة". ففي بدرٍ نصر الله المسلمين وهم قلة قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. ويوم حنين أُعجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغنِ عنهم شيئاً. قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (3/ 384).

مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25 - 26]. فالنصر من عند الله تعالى؛ ولو كان المسلمون قلة إذا رجعوا إلى دينهم ونصروا الله في أنفسهم، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]. وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} [محمد: 7 - 8]. وقال- صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1). ثانياً: رحمة النبي- صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، ويؤخذ ذلك من حزنه وبكائه عندما نعى الأمراء الذين استشهدوا في غزوة مؤته، وعيناه تذرفان -أي تدمعان-. عباد الله! وقد تكرر ذلك منه- صلى الله عليه وسلم -، يوم أرسلت إليه إحدى بناته تقول له: إن ابني قد احتُضر فاشهدنا، فردّ مع رسولِها يقول: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب". فأرسلت إليه تُقسمُ عليه ليأتينها، فأتاها في نفرٍ من أصحابه، فرُفع إليه ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (رقم 11)، "صحيح الجامع" (416).

الصبيّ ونفسه تقعقع، فذرفت عيناه - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: "هذه رحمة، جعلها الله في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" (¬1). ولما دخل - صلى الله عليه وسلم - على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه بكى أيضاً وقال: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون ولا نقول إلا ما يرضى ربنا" (¬2)، كيف لا والله -عز وجل- يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. عباد الله! وفي هذا دلالة على جواز البكاء والحزن على الميت من غير نياحة، ولا رفع للصوت لأن ذلك حرامٌ. ثالثا: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤته. المعجزة الأولى: أنه حين عيّن الأمراء أشار من طرفٍ خفىٍّ إلى استشهادهم حيث أمّر زيد بن حارثة ثم قال، فإن أصيب فجعفر، ثم قال: فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. المعجزة الثانية: أن الله أطلعه على كل ما دار في أرض المعركة بمؤته، وأراهُ ما كان فيها، فنعى الشهداء إلى أهليهم قبل أن يأتيه الخبر من أرض المعركة. اللهم انصر الإِسلام وأعز المسلمين. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1284)، ومسلم (رقم 923). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1303)، ومسلم (رقم 2315).

الخطبة السادسة والأربعون: الفتح الأكبر (فتح مكة)

الخطبة السادسة والأربعون: الفتح الأكبر (فتح مكة) أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الفتح الأكبر (فتح مكة). عباد الله! فتح مكة: هو الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، فتح مكة هو الفتح الأكبر الذي اسستنقذ الله به بلده الحرام وبيته، الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين. فتح مكة: هو الفتح الذي دخل النَّاس به في دين الله أفواجاً قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [سورة النصر] فتح مكة هو الفتح الذي تحطمت فيه الأصنام، وزهق فيه الباطل، وانكسرت رؤوس الكفر، وعلت فيه كلمة التوحيد في مكة خاصة وفي كل الدنيا عامة، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81] عباد الله! وحديثنا عن فتح مكة سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: سبب هذا الفتح. العنصر الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد للخروج إلى مكة في سريةٍ تامةٍ. العنصر الثالث: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في طريقهم إلى مكة وأحداث الطريق.

العنصر الأول: سبب هذا الفتح

العنصر الرابع: أحداث الفتح. العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من فتح مكة. العنصر الأول: سبب هذا الفتح صَالَحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشاً صلح الحديبية، وأعطاهم فيه كل ما سألوه مما يعظم حرمات الله، وكان من بنود هذا الصلح: أولاً: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين. ثانياً: من أحب أن يدخل في عقد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق، وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلت بنو بكر في عهد قريش. عباد الله! وظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفياً لقريش بعدها، ملتزماً بكل شروط الصلح، حتى إذا كانت السنة الثامنة للهجرة عَدَتْ بنو بكر حليفة قريش على خزاعة حليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتلت منهم رجالاً، وعاونتهم قريش على هذا الاعتداء فنقضت بذلك عهدها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وتعرف قريش أن هذا نقض صريح لصلح الحديبية، وعدوان سافرٌ على حلفاء المسلمين؛ ولذلك رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الوقت قد حان للقضاء على قريش. العنصر الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد للخروج إلى مكة في سرية تامة. عباد الله! أصدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره للجيش المسلم بالتجهيز والاستعداد للخروج للغزو، ولم يُعلمهم بوجهته، وحرص - صلى الله عليه وسلم - على السرية التامة لئلا تستعد قريش للقتال، وقد استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبائل التي حول المدينة:

أسلمُ وغفار وَمُزينة وجهينة وأشجع وسليم وخرج المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد. عباد الله! وقد بلغ عدد الجيش الإِسلامي عشرة آلاف مقاتل، وهذا العدد الكبير يدل على تعاظم قوة المسلمين ما بين صلح الحديبية وفتح مكة. عباد الله! ولما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى مكة، كتب أحد الصحابة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر في المسير إليهم لغزوهم، وحملت الكتاب امرأةٌ، إلا أن الوحي من السماء كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسبق من الكتاب إلى قريش، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه من أتاه بهذا الكتاب الذي بعث إلى قريش. عباد الله! تعالوا بنا إلى عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لنستمع إليه وهو يخبرنا الخبر: يقول عليٌّ - رضي الله عنه -: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ -مكان بين مكة والمدينة وهو من المدينة أقرب- فإن بها ظعينة -امرأة في هودج- معها كتاب من حاطب فأتوني به". قال عليٌّ: فانطلقنا تتعادى (أي تجري) بنا خيلُنا حتى أتينا روضة خاخ فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتابٍ، فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب أو لنُلْقِين الثياب، فأخرجته من عِقاصِها -ضفائرها- فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى نفر من قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا يا حاطب؟ " فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ! ما فعلته كفراً بعد الإسلام، ولا ردَّة عن الدين بعد إذ هداني اللهُ إليه، ولكني كنت امرءاً مُلصقاً في قريش ولم

أكن مِن أنفسهم، وما من أحدٍ من أصحابك إلا له أهلٌ في قريش يحمون ماله وأهله، فأردت إن فاتني ذلك من النسب أن أتخذ بهذا الكتاب عندهم يداً يحمون بها أهلي ومالي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنه قد صَدَقكم". فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عُنق هذا المنافق. فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر أو ليس قد شهد بدراً؟ وما يدريك لعلَّ الله قد اطلع على أهل بدرٍ فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم، فأنزل الله -تبارك وتعالى- في حاطب بن أبي بلتعة وكتابه الذي بعث به إلى قريش سورة الممتحنة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة: 1] (¬1). عباد الله! وهكذا أخفى الله -تبارك وتعالى- عن قريش خبر خروج رسوله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وكذلك ما يستطيع أحد أبداً أن يتكلم في حق حاطب الصحابي الجليل - رضي الله عنه - لأنه شهد بدراً وشفعت له حسنته الكبيرة بشهوده في بدر ما فعل. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3007)، ومسلم (رقم 2494).

العنصر الثالث: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإسلامي في طريقهم إلى مكة وأحداث الطريق.

العنصر الثالث: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في طريقهم إلى مكة وأحداث الطريق. عباد الله! خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش الإِسلامي من المدينة، في رمضان من السنة الثامنة للهجرة في عشرة آلاف مقاتل. وخرج- صلى الله عليه وسلم - صائماً، وصام الجيش معه، حتى إذا كان بالكديد- مكان بين مكة والمدينة -أفطر- صلى الله عليه وسلم -وأظهر فِطرهُ أمام الجيش ليروه ليقتدوا به فيفطروا، فلما رأوه قد أفطر أفطروا، ومازال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يفطر في رمضان عام الفتح، ويقصر الصلاة حتى رجع إلى المدينة. عباد الله! الجيش الإِسلامي بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى مكة. وفي الطريق: يلتقي العباس بن عبد المطلب عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين، وذلك عندما خرج العباس بعياله مُهاجراً من مكة إلى المدينة، وهو لا يدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادمٌ من المدينة فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فلزمه، وكان العباس مسلماً ولكنه كان مقيمًا في مكة. عباد الله! وفي الطريق: نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين في مكان بالقرب من مكة يُسمى "مرَّ الظهران" بالليل. فنزل الجيش، ونصبت الخيام، وأُوقدت النيران في معسكر يضم عشرة آلاف مقاتل، حتى أضاء منها الوادي، وفي هذه الليلة خرج أبو سفيان عظيم قريش وحكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء يلتمسون الأخبار، فلما رأوا تلك النار قال أبو سفيان: كأنها نيران عرفة، فقال حكيم بن حزام: كأنهم بنو عمرو فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من هذا. وبينما هم يتحدثون إذ مرَّ عليهم عيون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأخذتهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوقع ثلاثة من كبراء مكة أسرى للجيش الإِسلامي.

هذا أبو سفيان الذي قال في غزوة أُحد: اعل هُبل، أبو سفيان الذي قال في غزوة أحد لنا العُزى ولا عزى لكم، فها هو بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيراً. فما تظنون أن يفعل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم -؟ دعاه - صلى الله عليه وسلم - طوال الليل إلى الإِسلام فأسلم أبو سفيان. عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو يخبرنا الخبر: يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مرَّ الظهران"، قال العباس: والله لئن دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن تستأمنه قريش لقد هلكت قريش. فركب العباس بغلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وانطلق يبحث عن ذي حاجةٍ يأتي مكة، فيأمرهم أن يخرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم مكة. قال العباس: فبينما أنا أسيرُ إذ سمعت صوت أبي سفيان وبُديل بن ورقاء يتحدثان. فقلت: أبا سفيان، فعرف صوتي فقال: العباس، فقلت: نعم. قال أبو سفيان: مالك فداك أبي وأمي؟ قال العباس: رسول الله والناسُ. قال أبو سفيان: ويحك فما الحيلة؟ قال العباس لأبي سفيان: اركب ورائي، فركب وراءه فأتى به النبي- صلى الله عليه وسلم - فأسلم. فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له منه شيئاً.

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" (¬1). فأراد أبو سفيان أن ينصرف فيأتي أهل مكة فيخبرهم؛ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - للعباس: "يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها". قال العباس: فانطلقت بأبي سفيان فحبسته حيث أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن أحبسه، فجعلت القبائل تمرُّ علينا قبيلةً بعد قبيلةٍ، كلما مرت قبيلة سألني أبو سفيان: من هؤلاء؟ أقول بني سُليم، يقول: ماليَ ولبني سُليم ثم تمر القبيلة فيقول من هؤلاء؟ أقول مُزينة، يقول: مالي ولمزينة، فجعلت القبائل تمرُّ قبيلة قبيلة، كلما رأى قبيلة قال: يا عباسُ من هؤلاء؟ أقول بني فلان، يقول ماليَ ولبني فلان، حتى مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته الخضراء معه الأنصار والمهاجرون لا تُرى منهم إلا الأعين فلما رآهم أبو سفيان قال: يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه المهاجرون والأنصار. قال أبو سفيان: يا عباس! ما لأحدٍ بهؤلاء من قبل ولا طاقة. ثم قال أبو سفيان: يا عباس! لقد أصبح ملك ابن أخيك الآن عظيماً. فأراد العباس أن يصحح هذه الفاهيم لأبي سفيان فقال له: يا أبا سفيان ليس الملك ولكنها النبوة؛ ليعلم الجميع أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما جاء يوماً يبحث عن الملك ولا عن الدنيا إنما جاء بالنبوه ليدعو الناس إلى هذا الدين العظيم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1780) وانظر "صحيح أبي داود" (2611).

العنصر الرابع: أحداث الفتح

قال العباس له: ويحك! النجاة النجاة! أدرك قومك. فانطلق أبو سفيان ليأتي أهل مكة ليخبرهم بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل مكة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! إن محمداً قد جاءكم بما لا قبل لكم به اليوم ولا طاقة. فأقبلت إليه هندُ بنت عتبة زوجته تأخذ بشاربه؛ وتقول: اقتلوا الأحمق، قبَّحك الله من طليعة قوم. فقال أبو سيفيان: يا معشر قريش لا تغرنكُم هذه ولا مقالُها، بادروا، من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ. قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال لهم أبو سفيان: ومن أغلق عليه داره فهو آمنٌ، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وأغلق بعضهم عليه داره" (¬1). العنصر الرابع: أحداث الفتح عباد الله! قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين إلى ميمنة وميسرة وقلب، وعين - صلى الله عليه وسلم -قادة الجيش كلٌّ في مكانه. ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحاً منتصراً، مؤيداً من الله- تبارك وتعالى- وكان- صلى الله عليه وسلم - خاشعاً لله، شاكراً لأنعمه، يقرأ سورة الفتح، ويرجِّع في قراءتها وهو على راحلته. عباد الله! وكانت قريش قد وبَّشت أوباشاً -أي: جمعت جموعاً متفرقة من ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (4/ 290و291).

قبائل متفرقة لا أنساب بينهم- وقالت قريش: نقدِّم هؤلاء الأوباش -أي: نجعلهم في المقدمة- فإن أصابوا -أي انتصروا- كنا معهم، وإن أُصيبوا -أي قُتلوا- أعطينا الذي سئلنا -أي: صالحنا المسلمين- عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر، يقول أبو هريرة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فنظر فرآني فقال: "يا أبا هريرة نادِ في الأنصار لا يأتيني إلا أنصاري". قال أبو هريرة: فاجتمعوا حوله، فأقاموا به. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إلى أوباش قريش، احصدوهم حصداً ولا تبقوا منهم أحداً، ووضع يمينه على شماله". قال أبو هريرة: فانطلقنا فما شاء أحدٌ منا أن يقتل أحداً منهم إلا قتله، وما فعلوا بنا شيئاً. فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أُبيدت خضراء قُريش، لا قريش بعد اليوم. ثم قال أبو سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل السجد فهو آمن، فردَّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مقولة أبي سفيان -تأكيداً وإقراراً لها- فقال- صلى الله عليه وسلم -: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن". فلما سمع الأنصار مقولة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا فيما بينهم: أمُّا الرجل -يعنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فأدركته رغبة في قريته -أي: مكة- وأسرُّوها في أنفسهم، والله سميعٌ عليمٌ فأوحى الله بها إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الأنصار! قلتم أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ ".

قالوا: إي والله يا رسول الله، لقد قلنا هذا .. يعزُّ علينا أن تتركنا يا رسول الله وتقيم في أهلِك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ورسوله يُصِّدقانكم ويعذرانكم"، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "كلا، ما أفعل الذي ظننتم، إني رسول الله هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم". عباد الله! وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بيده، فكان يهوي بقوسه إليها فتتساقط على الأرض تحت الأقدام وهو يقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} وكانت الأصنام ستين وثلاث مئة. عباد الله! ولطخ النبي - صلى الله عليه وسلم - صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام- وكانت هذه الصور داخل الكعبة- وقال - صلى الله عليه وسلم -: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام. ولم يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة إلا بعد أن محيت هذه الصور منها، ثم دخل- صلى الله عليه وسلم - الكعبة فصلى فيها ركعتين، ثمَّ استلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود، وطاف بالبيت سبعاً مهللاً مكبراً ذاكراً شاكراً، فلما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من الطواف بالبيت سبعاً، رقي الصفا فاستقبل الكعبة وهلَّل وحمد الله، وأثنى عليه، ومجَّدهُ بما هو أهله ودعا بما شاء الله أن يدعو به، ولم يطف بين الصفا والمروة لأنه لم يكن محرماً بعمرة (¬1). عبادة الله! وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة، فيؤذن ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" (رقم 1330)، و"صحيح البخاري" (رقم 3352).

للصلاة، فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حُلمٍ، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويِّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين، الله أكبرُ الله أكبرُ، اللهُ أكبر اللهُ أكبر. ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً تحت أسواط العذاب وهو يقول: أَحدٌ أَحدٌ، ها هو اليوم يُجلجل فوق كعبة الله قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والكل خاشعٌ منصت خاضع. ها هي الآن كلمة التوحيد هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فها هي الأصنام تحت الأقدام، إنها لحظة والله يبكى فيها القلب فرحاً على هذا النصر العظيم. عباد الله! ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على الإِسلام، فبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا؛ بايعهم رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً. وما مست يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -للنساء: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأةٍ كقولي لمئة امرأة" (¬2). عباد الله! فلما بايع النبي- صلى الله عليه وسلم -الرجال والنساء على الإِسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واستقر الأمن .. خرج - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيت أمِّ هانئ بنت أبي طالب بنت عمه، فاغتسل - صلى الله عليه وسلم - ثم صلى ثماني ركعات شكراً لله تعالى على هذا الفتح. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5288)، ومسلم (رقم 1866). (¬2) "صحيح النسائي" (4192).

العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من فتح مكة.

وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا من أجرتِ يا أمِّ هانئ" (¬1). عباد الله! فلما مكن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة، واستقر الفتح أمَّنَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الناس جميعاً، وعفا عنهم كلهم ولم يأخذهم بجريرتهم السابقة، إلا أربعة رجالٍ وامرأتين كانوا قد آذوه إيذاءً شَديداً. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" فمنهم من قتل ومنهم من أسلم. عباد الله! فلما كان الغد من يوم الفتح قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ومجَّدهُ بما هو أهله، ثم قال: "يا أيها الناس إن مكة حرَّمها الله، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لأحد أن يسفك فيها دماً، ولا أن يعضد فيها شجرة، فإن أحدٌ ترخص بقتال رسَّوَل الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح -أي بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب" (¬2). عباد الله! وفي فتح مكة نزلت سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من فتح مكة. أولاً: كان فتح مكة بداية فتحٍ عظيم للمسلمين، فقد كان الناس تبعاً ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 357)، ومسلم (رقم 336). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 104)، ومسلم (رقم 1354).

لقريش في جاهليتهم كما أنهم تبعٌ لقريش في إسلامهم، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش عليه يكونون بذلك قد كفوهم أمره. فلما نصر الله رسوله والمسلمين، وفتحوا مكة عرف الناس جميعاً أنه رسول الله صدقاً، فدخل الناس في دين الله أفواجاً. قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) .. }. ثانياً: سورة النصر علامة على أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت عائشة - رضي الله عنها-: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من قوله: "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه". فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخبرني ربي أنى سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتُها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه"، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (¬1). عباد الله! وهذه السورة تسمى سورة التوديع، حيث جاءت مخبرة بقرب أجل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فعن ابن عباس: قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدرٍ فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله. فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاني ذات يومٍ فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 817)، ومسلم (رقم 483 بعد 217) واللفظ له.

قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}. فقال بعضهم: أمرنا أن نحمده ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، - وذلك علامة أجلك- {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تقولُ" (¬1). ثالثاً: التحذير من الشفاعة في حدٍ من حدود الله قال عروة بن الزبير: إن امرأةً سرقت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، ففزع قومُها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمة أسامة فيها تلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان العشيّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي محمَّد بيده، لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4970). (¬2) رواه البخاري (رقم 2648).

رابعاً: الكبيرة دون الشرك لا تخرج صاحبها من الإيمان وقد تكفر بالحسنة الكبيرة، وهذا يؤخذ من فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - عندما أرسل كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وشفع له شهوده بدراً فقال- صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: يا عمر أو ليس قد شهد بدراً؟ وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". عقيدتنا في أصحاب الكبائر أنهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولا نكفرهم، ولا نخرجهم من الملة كما تفعل الخوارج. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

الخطبة السابعة والأربعون: غزوة حنين

الخطبة السابعة والأربعون: غزوة حُنين أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء السابع والأربعين من سيرة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - سيدُ الأنبياء وإمام المتقين، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة حنين. عباد الله! غزوة حنين وقعت بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وتعتبر من أكبر المعارك التي خاضها المسلمون في عصر السيرة ومن أكثرها خطورة. عباد الله! وحديثنا عن غزوة حنين سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: جيش المشركين بقيادة مالك بن عوف سيد هوزان يستعد لمحاربة المسلمين. العنصر الثاني: جيش المسلمين بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد في مكة للقضاء على بقايا الشرك والوثنية، وأحداث الطريق. العنصر الثالث: أحداث الغزوة. العنصر الرابع: حكمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم. العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة حنين. العنصر الأول: جيش المشركين بقيادة مالك بن عوف سيد هوزان يستعد لمحاربة المسلمين: كان فتح مكة بمثابة الضربة القاضية للشرك والمشركين في مكة ومن حولها من قبائل العرب، ولما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وأعلى كلمته،

ونصر دينه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وخضعت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ خافت هوازن وثقيف -وهي من أشرس وأقوى القبائل العربية- وقالوا: قد فرغ محمَّد لقتالنا، فلنغزُه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولَّوا عليهم مالك بن عوف سيد هوازن. عباد الله! وكان مالك بن عوفٍ شجاعاً مقداماً، إلا أنه سقيمُ الرأي سيءُ المشورةِ، فلما اجتمعت قبائل العرب إليه، وجعلوا أمرهم بين يديه؛ أمرَ الناس أن يُخرجوا نساءهم وأبناءَهم وأموالهم معهم؛ ظنًّا منه أن هذه الأموال وتلك الأولاد؛ تحمل الرجال على الثبات عند اللقاء دفاعاً عنها. عباد الله! ورفض هذا الرأي أعرابيٌ كبيرٌ مُحنّك، هو دُرَيدُ بنُ الصِّمة وقال له: إنك إن نُصرت لن ينفعك إلا رجلٌ بسفيه ورمحه، وإن كانت الأخرى فُضحت في نسائِك وأَموالك، فسفَّه مالك رأيه وأصرَّ على خُطتِه. عباد الله! ووضع مالك بن عوفٍ قائد المشركين خطته لخوض المعركة ضد المسلمين على النحو التالي: أولاً: حشر نساء المقاتلين وأطفالهم وأموالهم خلفهم، وقصد من وراء هذا التصرف؛ دفع المقاتلين إلى الاستبسال والثبات أمام أعدائهم لأن المقاتل -من وجهة نظره- إذا شعر أن أعزّ ما يملك وراءه في المعركة، صعُبَ عليه أن يلوذ بالفرار مخلفاً ما وراءه في ميدان المعركة. ثانياً: رتب قومه بشكل صفوفٍ؛ قدَّم الخيل ثم المقاتِلة ثم النساء ثم الغنم ثم الإبل. ثالثاً: رفع الروح العنوية لدى جنوده؛ بأن وقف فيهم خطيباً يحثهم على الثبات والاستبسال وأمرهم أن يُجردوا سيوفهم، وقال لهم: "إذا أنتم رأيتم القوم فاكِسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحدٍ عليهم".

العنصر الثاني: جيش المسلمين بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد في مكة للقضاء على بقايا الشرك والوثنية. وأحداث الطريق.

رابعاً: وضع الكمائن لمباغتة جيش المسلمين والانقضاض عليهم، وقد كادت هذه الخطة أن تقضي على قوات المسلمين لولا لطف الله -سبحانه وتعالى- وعنايته. خامساً: أمر جيشه بالمبادرة بالهجوم على المسلمين؛ لأن النصر في الغالب يكون للمهاجم، أما المدافع فغالباً ما يكون في مركز الضعف. ولهذا أتت هذه الخطةُ ثمارها بعض الوقت -أي: في بداية المعركة- ثم اختلت موازين القوى- بفضل الله تعالى- ثم بثبات رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حيث كسب المسلمون الجولة، وانتصروا على أعدائهم. العنصر الثاني: جيش المسلمين بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد في مكة للقضاء على بقايا الشرك والوثنية. وأحداث الطريق. عباد الله! ولما وصلت الأخبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن مالك بن عوفٍ -قائد المشركين- خرج بجيشٍ قوامُهُ عشرين ألفاً لقتال المسلمين بعد فتح مكة، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يلي: أولاً: أرسل أبا حدرد الأسلمي فقال له: اذهب فادخل في القوم حتى تعلم لنا مِن علمهم، فدخل فمكث فيهم يوماً أو يومين ثم أقبل فأخبره الخبر (¬1). ثانياً: جهز - صلى الله عليه وسلم - جيشاً إسلامياً قوامه اثني عشر ألفاً، يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "لما كان يوم حنين أقبلت هوازان وغطفانُ بذراريهم ونعمهم، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ عشرةُ آلافٍ، ومعه الطلقاء- الذين أطلقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح ¬

_ (¬1) "المستدرك" للحاكم (3/ 48، 149).

مكة وخلى سبيلهم- وهم ألفان" (¬1)، ثالثاً: وزيادة في الاحتياط وأخذاً بالأسباب، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوان بن أمية -وهو لا يزال على شركه- يستعير منه أسلحة ودروعاً، فقال له: "أعطنا سلاحك هذا، نلقي به عدوَّنا غداً -إن شاء الله-". فقال صفوان: أغصبٌ يا محمَّد؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا بل عارية مؤداةٌ" فأعاره ثلاثين درعاً وثلاثين بعيراً (¬2). عباد الله! خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين من مكة، وفي الطريق عيون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتقدم الجيش لتأتي بأخبار العدو، وجاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنِّي انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم ونسائهم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تِلك غنيمة المسلمين غداً -إن شاء الله تعالى-" (¬3) وهذه بُشرى. وفي الطريق وجيش المسلمين يسير بهذا العدد الكبير؛ نظر المسلمون بعضهم إلى بعض والأرض قد امتلأت بهم، فقال بعضهم: لن نُغلبَ اليوم من قلةٍ، ولذلك عاتبهم الله في كتابه فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4337)، ومسلم (رقم 1509 بعد 135). (¬2) "صحيح أبي داود" (3045). (¬3) "صحيح أبي داود" (2183).

مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25]. عباد الله! وفي الطريق وقعت مخالفة من الطلقاء -أي الذين دخلوا في الإِسلام حديثاً- تعالوا بنا لنستمع إلى أحدهم وهو يخبرنا الخبر. يقول الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حديثو عهدٍ بالجاهلية، قال: فسرنا معه إلى حنين وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرةٌ عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط؛ يأتونها كل سنةٍ فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً. قال: فرأينا ونحن نسيرُ مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سدرة خضراء عظيمةُ. قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواطٍ. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} إنها السُنن لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم (¬1). عباد الله! معلوم أن هذا القول لم يصدر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وإنما كان من مُسلمة الفتح، الذين أسلموا قريباً وصدق الله إذ يقول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. فلا يستوي إيمانُ مسلمة الفتح وإيمان من سبقوهم من المهاجرين والأنصار؛ لأن مُسلمة الفتح لم ينهلوا بعدُ من المورد العذب، لم ينهلوا بعد ¬

_ (¬1) "صحيح سنن الترمذي" (1771).

العنصر الثالث: أحداث الغزوة

من الوحي، ولذلك لم يوبخهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ هذا جهلٌ لا يُكفِّرْ، ولذا لم يُكفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم. العنصر الثالث: أحداث الغزوة عباد الله! وصل الجيش الإِسلامي إلى وادي حنين، وكان مالك بن عوف -قائد جيش الشرك والوثنية حينئذ- قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وصنع كميناً للمسلمين في الطرق والمداخل والشعاب والمضايق، وأصدر أمره للجيش بأن يرشقوا المسلمين إذا طلعوا عليهم ثم يشدوا عليهم شدة رجل واحدٍ. عباد الله! وبالسَّحرِ عبأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جيشه، وعقد الألوية والرايات وفرقها على الناس، وفي عماية الصبح -أي ظلامه-، استقبل المسلمون وادي حنين وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي. فبينما هم ينحطون إذا هم تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدَّتْ عليهم شدَّة رجلٍ واحد، فانشمر المسلمون راجعين -أي انفضوا وانهزموا- لا يلوى أحدٌ على أحدٍ، وكانت هزيمة منكرة، وشمت الأعداءُ بهزيمة المسلمين، فقال بعضهم: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر -يريد أن المسلمين هُزموا هزيمة لا قائمة لهم بعدها أبداً-، وقال آخرُ: ألا بطل السحرُ اليوم، وقال ثالث: اليوم أدركُ ثأري من محمدٍ، اليوم أقتلُ محمداً. عباد الله! وانحاز النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين وأخذ ينادي: أين أيها الناس؟ هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمَّد بن عبد الله فلا يردُ عليه أحدٌ، وركبت الإبل بعضها بعضاً وهي موليةٌ بأصحابها. ولم يبق حول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عددٌ قليل من المهاجرين والأنصار، وأهل

بيته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركض بغلته قبل الكفار، ويقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب يقول العباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم - العباس -وكان جهير الصوت- أن ينادي: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان، فأجابوا لبيك لبيك، حتى إذا اجتمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ منهم، استقبلوا العدو واقتتلوا وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة القتال، وقد احتدم القتالُ فقال: "الآن حَمِيَ الوطيسُ" وتوجه النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى ربه بالدعاء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم نزل نصرك"، ثم أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب محمَّد" وقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله إنساناً من الكفار إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة- وولوا من أرض المعركة مدبرين، والمسلمون يحصدونهم حصداً- يقول العباس: فوالله ما هو إلا أن رماهم حتى رأيت حدَّهم كليلاً، وأمرَهم مدبراً، وفي غزوة حنين نزل قول الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25 - 26]. عباد الله! ولَّى المشركون الأدبار، واعتصموا بناحيةٍ يقالُ لها: (أوطاس) فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعقابهم أبا عامر الأشعري فقاتلهم حتى قُتِلَ فأخذ

العنصر الرابع: حكمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم

الراية منه ابنُ أخيه أبو موسى الأشعري فما زال يقاتل العدو حتى بدَّد شملهم وهُزموا شر هزيمةٍ. ومالك بن عوف- قائد المشركين يومئذ- ومن معه من رجالات قومه قرروا أن يمضوا في الفرار حتى يصلوا إلى "الطائف"، فيتحصنوا بحصنها تاركين في هذا الفرار مغانم هائلة، فخلف العدو في أرض المعركة أربعة وعشرين ألفاً من الإبل، وأكثر من أربعين ألفاً من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، هذا إلى جانب ستة آلاف من السبي (¬1). عباد الله! وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقسم على الناس هذه الغنائم، وتأنى يبتغي أن يرجع القوم إليه تائبين، فيأخذوا ما فقدوا، ومكث ينتظرهم بضع عشرة ليلة فلم يجئه أحد، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الغنائم في (الجعرانة) وعين عليها حارساً، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - بنفسه حتى أتى حصن الطائف الذي تحصن به مالك بن عوف ومن معه، وحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وطال الحصار، فلما طال الحصار ولم ينزلوا، رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين. العنصر الرابع: حكمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم: عباد الله! عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف بجيش المسلمين إلى (الجعرانة) وفي (الجعرانة) كانت غنائم حنين الجليلة، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم بسياسة خفيت حكمتها على بعض الصحابة آنذاك، حيث حظي بهذه الغنائم الطلقاء والأعراب تاليفاً لقلوبهم لقرب عهدهم بالإِسلام، وعدم تمكن معاني الإيمان من قلوبهم. ¬

_ (¬1) انظر "فقه السيرة" (ص 425) الغزالي.

فأعطى مائة من الإبل لكل من عيينة بن حصن -من زعماء غطفان-، والأقرع بن حابس -من زعماء تميم-، والعباس بن مرداس، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية -من زعماء قريش (¬1). عباد الله! وشاع في الناس أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يُعطى عطاء من لا يخشى الفقر، فجاء الأعراب من كل مكان يسألونه، حتى اضطروه إلى مضيق وحبسوه عن المسير فتعلق رداؤه بشجرة فقال- صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس أعطوني ردائي فوالله لو كان لي مثل هذه العضاة -أي: الوادي- نَعَما لقسمته فيكم، لا أحبس عنكم شيئاً، ثم لا تجدونني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً" (¬2). عباد الله! وقد أثر عطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوب هؤلاء الزعماء وأتباعهم، فأظهروا الرضا بها وزادتهم رغبة في الإِسلام، ثم حَسُنَ إسلامهم جميعاً، فأبلوا في الإِسلام بلاءً حسناً، وخدموه بأنفسهم وأموالهم إلا يسيراً منهم. قال أنس - رضي الله عنه -: "إن كان الرجل ليُسلِمُ ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإِسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (¬3). وقد عبر بعض المؤلفة قلوبهم عن أثر ذلك فقال صفوان بن أمية: "لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 1060). (¬2) رواه البخاري (رقم 2821). (¬3) رواه مسلم (رقم 2312). (¬4) رواه مسلم (رقم 2313).

عباد الله! وقد تأثر بعض المسلمين -في بداية الأمر- بهذا التقسيم لأنه لم يشملهم، فكان لابدَّ من بيان الحكمة لهم من ذلك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لأعطي الرجل وأدعُ الرجل، والذي أدعُ أحبُ إليَّ من الذي أُعطي، ولكن أُعطي أقواماً لِما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعطي رجالاً حُدثاء عهد بكفر أتألفهم" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعطي الرجل وغيره أحبُ إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار" (¬3). عباد الله! وقد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأنصار وجدوا في أنفسهم؛ لعدم أخذهم شيئاً من غنائم حنين، وأن بعض أحداثهم قالوا: "إذا كانت الشدة فنحن نُدعى، وتُعطى الغنائم غيرنا". وقالوا: "يُعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم". فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن عبادة أن يجمع له الأنصار، فجمعهم له في قبةٍ من أُدمٍ -أي: في خيمة من جلد- فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم بي". قالوا: بلى! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 923). (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 27، 1478)، ومسلم (رقم 150).

قال - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله وبماذا نجيبك؟ المنُّ لله ورسوله. قال - صلى الله عليه وسلم -: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدقتم: جئتنا طريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمناك ومخذولاً فنصرناك .. فقالوا: المنُّ لله ورسوله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإِسلام!! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعباً، وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً، ورسوله قسماً، ثم انصرف .. وتفرقوا .. (¬1). عباد الله! ولما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من توزيع الغنائم وهو بالجعرانة، أراد أن يعتمر قبل أن يرجع؛ فأحرم بالعمرة من الجعرانة ليلاً، ووصل مكة فطاف وسعى ثم تحلل، وخرج منها ليلاً فبات بالجعرانة. ثم عاد- صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة وقد كان خرج منها في رمضان ودخلها في أواخر ذي القعدة. عباد الله! وشتان بين هذا الدخول والدخول يوم الهجرة، لقد دخلها يوم الهجرة خائفاً يترقب، وقريش قد بعثت من يأتي به حياً أو ميتاً. ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني: حديث صحيح "فقه السيرة" (ص 396).

العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد من غزوة حنين

أما اليوم فقد دخلها منصوراً نصراً مؤزراً، وصدقه الله وعده حيث قال له: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لرادُّك ربك إلى مكة (¬1). فصدق الله رسوله وعده وردَّه إلى مكة، وفتح له غيرها، ثم عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخد من غزوة حنين: أولاً: التوكل على الله تعالى لا ينافي الأخذ بالأسباب: ويؤخذ هذا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته، فكان يستعد للقاء العدو بالعددِ والعُدة. وفي غزوة حنين استعار النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلحة من صفوان بن أمية، وخرج بجيش كبير. فلا يجوز لرجلٍ أن يُقدم على عدو دون أن يُعِدَّ العدة ويقول: أنا متوكل على الله، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين، ولكنه أخذ بالأسباب. لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. فهؤلاء الذين يتسرعون لملاقاة الأعداء -قبل أن يستعدوا إيمانياً ومادياً- يضيعون الوقت والجهود فلابد أن يعتبروا بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: الإعجاب بالكثرة يحجب نصر الله: وهذا ما حدث في غزوة حنين فقال بعض المسلمين: "لن نُهزم اليوم من قلة"، فحجب هذا الإعجاب النصر في بداية المعركة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4773).

ثالثا: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل

قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25]. عباد الله! بعد الأخذ بأسباب النصر، لابدَّ أن يعلم المسلمون أن النصر من عند الله، كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]. فالمسلمون لا ينتصرون على أعدائهم بالعدد والعُدة، إنما ينتصرون بهذا الدين العظيم؛ بالإِسلام. وهذا ما قاله عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة، قال: "يا معشر الناس! إن الذي تخافون منه هو الذي خرجتم له؛ الشهادة! والله ما نقاتِلهم بقوة ولا بكثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به". ثالثاً: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وهذا يؤخذ من دعائه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين، عندما توجه إلى ربه وقال: "اللهم نزل نصرك"، فاستجاب الله له ونصره على أعدائه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة، ليس فيها إثم ولا قطيعة ¬

_ (¬1) صحيح الجامع (3402).

رابعا: حلمه - صلى الله عليه وسلم - على جفاء وغلظة الإعراب

رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوتهُ. وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" (¬1). والله -عز وجل- يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. رابعاً: حلمهُ - صلى الله عليه وسلم - على جفاء وغلظة الإعراب: يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: .. فلما كان يوم حنين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً في القسمة .. فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها، وما أُريد فيها وجه الله. قال: فقلت والله! لأخبرنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال ابن مسعود: فتغير وجهه - صلى الله عليه وسلم -حتى كان كالصرف. ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله". ثم قال: "يرحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر" (¬2). ويقول أنس - رضي الله عنه -: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته قال: مُر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه- صلى الله عليه وسلم -، فضحك "ثم أمر له بعطاء" (¬3). والله إنها لأخلاق النبوة. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (3/ 140). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3405)، ومسلم (رقم 1062). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3149)، ومسلم (رقم 1057).

الخطبة الثامنة والأربعون: غزوة تبوك

الخطبة الثامنة والأربعون: غزوة تبوك أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة تبوك. عباد الله! غزوة تبوك هي آخر غزوةٍ غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، وهي أول غزوة خارج الجزيرة. غزوة تبوك هي: غزوة العُسرة، وذلك لأن الصحابة خرجوا إليها في قلةٍ من الظهر، وفي حرٍ شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء. قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. غزوة تبوك هي الفاضحة؛ لأنها كشفت عن حقيقة المنافقين، وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة ونفوسهم الخبيثة، وجرائمهم البشعة بحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. عباد الله! وحديثنا عن غزوة تبوك سيكون حول العناصر التالية: العنصر الأول: سبب هذه الغزوة وتاريخها. العنصر الثاني: موقف المؤمنين وموقف المنافقين من غزوة تبوك. العنصر الثالث: أحداث في الطريق، والوصول إلى تبوك. العنصر الرابع: العودة من تبوك إلى المدينة.

العنصر الأول: سبب هذه الغزوة وتاريخها

العنصر الأول: سبب هذه الغزوة وتاريخها عباد الله! سبب غزوة تبوك هو الاستجابة لأمر الله تعالى بالجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123] وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. ولذلك عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإِسلام وأهله. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في المدينة وغيرها بالجهاد، وأعلمهم بغزوه الروم، وكان ذلك في رجب من السنة التاسعة للهجرة يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداًَ كثيراً فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أُهبة عدوِّهم، وأخبرهُم بوجهه الذي يريد" (¬1). عباد الله! وقال المؤرخون: إن أسباب غزوة تبوك هو: أن الأخبار قد وصلت من الشام بأن الروم قد عزموا على غزو المدينة، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، رأى أنه لا بُدَّ من أن يستنفر المسلمين للخروج لهذا العدو قبل أن ياتيهم في أرضهم. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2948)، ومسلم (رقم 2769).

العنصر الثاني: موقف المؤمنين وموقف المنافقين من غزوة تبوك.

العنصر الثاني: موقف المؤمنين وموقف المنافقين من غزوة تبوك. عباد الله! كما أنَّ الشدائد تظهر نفاق المنافقين، فهي كذلك تظهر إيمان المؤمنين، وغزوة تبوك كانت في ظروف صعبة جداً؛ حر شديدٌ، وعُسَرةٌ في الماء وقلة في المال، وطول في الطريق، فظهر فيها نفاق المنافقين، وكذلك ظهر فيها إيمان المؤمنين الصادقين. فعندما حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على الإنفاق في سبيل الله لتجهيز جيش المسلمين، جاء بعض المؤمنين الصادقين بكل ماله، ومنهم من جاء بنصف ماله، وجاء عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بألف دينار، فنثرها في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسُرَّ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يقبلها في حجره وهو يقول: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" (¬1). عباد الله! وجعل فقراء المسلمين يتصدقون بما يجدونه وإن كان يسيراً، والمنافقون يسخرون من هؤلاء وهؤلاء، فيتهمون أهل الغنى والبذل العظيم بالرياء والسمعة! والفقراء بأن الله عن يسير صدقتهم لغني، وفضحهم الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه. فقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} [التوبة: 79]. عباد الله! وحاول بعض المنافقين أن يتستر خلف نفقته، ففضحهم الله -عز وجل-، فَرَدَّ عليهم نفقاتهم قال تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (3701).

إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 53 - 54]. عباد الله! وعندما أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفير العام في المدينة، وكان ذلك وقت جني التمر وطيب الثمار واشتهاء الظلال، شقَّ ذلك على بعضهم، فعاتب الله الذين تباطئوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38]. وقد طالبهم الله في كتابه بأن ينفروا شباباً وشيوخاً، وأغنياء وفقراء. بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]. عباد الله! ولقد استطاع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى. وحزن الفقراء من المؤمنين الصادقين لأنهم لا يملكون نفقة الخروُج إلى الجهاد. جاء سبعة رهطٍ من الفقراء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يحملهم فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فرجعوا يبكون حزناً ألا يجدوا ما ينفقون فهذا عليَّةُ ابن زيد - رضي الله عنه - أحد البكاءين، قام بالليل فصلى لله وبكى ثم ناجى الله -تبارك وتعالى- قائلا: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ولم تجعل في يدي ما أتقوى به، ولم تجعل عند رسولك ما يحملني عليه، اللهم إنِّي تصدَّقت الليلة على كل مسلم بأي مظلمة أصابني بها، في عرضي أو مالي أو جسدي، ثم أصبح بين الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين المتصدِّق الليلة؟ " فليقم، فقام

عُلية بن زيد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة" (¬1). وفي رواية أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أخبره أنه قد غُفِرَ له (¬2). عباد الله! وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة - ممن أقعدهم المرض، أو النفقة عن الخروج- إلى حد البكاء شوقاً للجهاد، وتحرجاً من القعود حتى نزل فيهم قرآن: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 91 - 92] وقد خصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء المتخلفين المعذورين ممن حسنت نياتهُم، واستقامت طويتهم بقوله: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً؛ إلا كانوا معكم: قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟! قال - صلى الله عليه وسلم -: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر" (¬3). وقد حكى كعب بن مالك في حديثه الطويل إنه لم يبق بالمدينة إلا المنافقون وأهل الأعذار من الضعفاء (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: انظر "فقه السيرة" (ص 405)، "البداية والنهاية" (5/ 5). (¬2) انظر "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (2/ 530). (¬3) "فتح الباري" (8/ 126). (¬4) "فتح الباري" (8/ 126).

العنصر الثالث: أحداث في الطريق، والوصول إلى تبوك

عباد الله! أما المنافقون فسلكوا مسالك شتى، فمنهم من اعتذر قبل الخروج وتعلل بالعلل الباطلة، قال تعالى عنهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)} التوبة: 49]. فأذن لهم النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43]. ثم قال الله عَزَّ وَجَلَّ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 44 - 45]. ومنهم من أخذ يثبط هِمَمَ الناس، قائلين لهم: لا تنفروا في الحرِّ فأنزل الله تعالى فيهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 81 - 82]. العنصر الثالث: أحداث في الطريق، والوصول إلى تبوك عباد الله! في يوم الخميس من شهر رجبٍ من السنة التاسعة للهجرة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين من المدينة، قاصداً غزو الروم؛ واستخلف على المدينة محمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - وخلَّف علياً - رضي الله عنه - على أهله فناله المنافقون بألسنتهم، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه فسمعها عليٌّ فأخذ سلاحه وانطلق يعدو خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتاه فقال: يا رسول الله! قال المنافقون: إنك خلَّفتني استثقالاً لي وتخفُّفاً مني فقال - صلى الله عليه وسلم -:

كذبوا، كذبوا، ارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون مِن موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي" (¬1). عباد الله! وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين ألف مقاتل عبر الصحراء إلى تبوك، وفي الطريق أصاب جيش المسلمين جوع شديد؛ لأنَّ الزمان كان زمان عُسرةٍ، فلما تجهَّزوا لم يتجهزوا بما يكفيهم، إنما تجهزوا بما وجدوا. يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا- جمع ناضحٍ وهي الإبل التي يسقى عليها- فنأكل وندَّهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افعلوا"، فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله! لا تفعل، إنهم إن فعلوا نفذ الظهر -وهو ما يُحمل عليه من الإبل- ولا يجدون ما يركبون، ولكن يا رسول الله ادعهُم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم بالبركة، فعسى الله أن يفعل. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) -أي: بساطٍ من الجلد- فبسطهُ، وأمرهم أن يأتوا بأزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكفٍ من ذرة، وآخر يجيء بكف من تمر، وثالث يجيء بكسرة خبز حتى اجتمع على النَّطع شيءٌ قليل من الزاد، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه بالبركة في الطعام، فبارك الله لهم في الطعام فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا واملأوا أوعيتكم" فملأوا أوعيتهم حتى لم يبق في الجيش وعاء إلا مُلئ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشهدُ أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، لا يلقى الله بها عبدٌ غير شاكٍ فيحجبُ عن الجنة" (¬2). ¬

_ (¬1) أصل الحديث: متفق عليه، انظر "البداية والنهاية" (7/ 5). (¬2) رواه مسلم (رقم 27).

الله أكبر .. الله أكبر مَن الذي أطعم هذا الجيش في هذه الصحراء؟ إنه الله -عز وجل- ثم ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! وفي الطريق أصاب الجيش عطشٌ شديد، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: قيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حدثنا عن غزوة العُسرة - وهي غزوة تبوك-، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد -أي في حرٍّ شديد- فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطشٌ شديدٌ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويضعُه على بطنه. فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! إن الله عودك في الدعاء خيراً فادع. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتحب ذلك يا أبا بكر؟ " قال: نعم. فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه -أي: إلى السماء- فلم يرجعهما حتى قَالَت السماء -أي: تهيأت واستعدت للمطر- ثم سكبت الماء عليهم، فاستقوا وملأوا أوعيتهم قال عمر: ثم ذهبنا ننظر حدود المطر فرأينا أن المطر لم يتجاوز مكان الجيش (¬1). الله أكبر .. الله أكبر مَن الذي سقى هذا الجيش في هذه الصحراء؟ إنه هو الله -عز وجل- ثم ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك، ¬

_ (¬1) رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، وقال الهيثمي: ورجال البزار ثقات "مجمع الزوائد" (6/ 194)، وقال الشيخ الألباني: حسن انظر "فقه السيرة" (ص 407).

فكنا نجمع الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. فلما كان ذات ليلةٍ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ستأتون غداً عين تبوك- إن شاء الله تعالى- وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي"، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين تبضُّ بشيءٍ من ماء، فسألهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "هل مسستما من مائها شيئاً؟ ". قالا: نعم. فسبَّهُما، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع شيءٌ، وغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ كثير، فاستقى الناسُ. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ! يوشك إن طالت بك حياةٌ، أن ترى ما ها هنا قد ملئ جناناً" (¬1). عباد الله! وفي الطريق إلى تبوك ضلَّت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رجل من المنافقين: أليس يزعم أنَّه نبي، ويخبركم عن السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ رجلاً يقول: هذا محمَّد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها" فذهبوا فجاؤوا بها (¬2). عباد الله! وفي الطريق مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين على الحِجر ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 706 بعد 10). (¬2) "زاد المعاد" (3/ 533).

- وهي ديار ثمود- فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن لا يدخلوا مساكنهم، وأن يُسرعوا الخطى، وأن يكونوا باكين، ونهاهم عن التزود من مياههم إلا بئر الناقة. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحِجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه - صلى الله عليه وسلم -، وأسرع السير حتى أجاز الوادي" (¬1). وقال - رضي الله عنه -: "إن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على الحجر- أرض ثمود- فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردُها الناقة" (¬2). عباد الله! وهذا منهج نبويٌ كريم، في توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته والمسلمين إلى الاعتبار بديار ثمود، وأن يتذكروا بها غضبُ الله على الذين كذَّبوا رسوله، وأن لا يغفلوا عن مواطن العظة، ونهاهم عن الانتفاع بشيءٍ مما في ربوعها؛ حتى الماء، لكيلا تفوت بذلك العبرة، وتخف الموعظة بل أمرهم بالبكاء، وبالتباكي، تحقيقاً للتأثر بعذاب الله. عباد الله! وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين إلى تبوك، وأخبر الجيش بأن ريحاً شديدة ستهُب، وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم، فلا يخرجوا حتى لا تؤذيهم، وليربطوا دوابهم حتى لا تُؤذى، وتحقق ما أخبر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فهبت الريح الشديدة، وحملت من قام فيها إلى مكان بعيد. روى مسلم في "صحيحه" بإسناده إلى أبي حُميد قال: وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدة فلا يقم منكم أحدٌ، ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 433)، ومسلم (رقم 2980). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3379)، ومسلم (رقم 2981).

فمن كان له بعيرٌ فليشدَّ عقاله". فهبت ريحٌ شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء" (¬1). عباد الله! وهناك في تبوك لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيش المسلمين أي جُنديٍّ من جنود العدو، وألقى الله الرعب في قلوب الرومان على كثرتهم وقوة عدّتهم، فآثروا السلامة على الفناء، فجلسوا في أرضهم بالشام ولم يتحركوا أدنى مسافة للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بتبوك بضعة عشر ليلة، لم يجد أدنى مقاومة وجاءت القبائل العربية المتنصرِّة حلفاء الرومان، فصالحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجزية، وكتب لها كتاب صُلحٍ، ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك إلى المدينة سالماً غانماً. عباد الله! وغزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب. فغزوة الأحزاب لم يكن فيها قتال، وغزوة تبوك لم يكن فيها قتال. غزوة الأحزاب أولها شدة وبلاء، كما قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10 - 11]. وغزوة تبوك أولها أيضاً شدة وبلاءٌ وعُسرة، في الظَهر والمال والماء، كما قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 706 بعد 10).

العنصر الرابع: العودة من تبوك إلى المدينة

ونهاية الأحزاب نصرٌ على الأعداء بدون قتال، وكذلك في غزوة تبوك نصرٌ على الأعداء بدون قتال، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25]. العنصر الرابع: العودة من تبوك إلى المدينة: عباد الله، عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين من تبوك إلى المدينة سالماً غانماً منتصراً. وفي طريق العودة حاول مجموعة من المنافقين أن يغتالوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآذوا رسول الله والمؤمنين بألسنتهم. وفي هؤلاء المنافقين نزل قول الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)} [التوبة: 74]. قال ابن كثير: أن الضحاك قال: إن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً نزلت فيهم هذه الآية (¬1). عباد الله، وفي طريق العودة، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مسجد الضرار الذي بناهُ المنافقون بالمدينة وكانوا قد طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصلي فيه. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 372).

قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 107 - 108]. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهدم هذا المسجد. عباد الله! لما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من المدينة قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذه طابة وهذا أحدٌ جبلُ يحبنا ونحبه" (¬1). وخرجت النساء والصبيان والولائد يستقبلن أكبر جيش خرج لقتال المشركين في عصر السيرة؛ يقلن. طلع البدرُعلينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع (¬2) عباد الله! ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فبدأ بالمسجد؛ فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاءه المتخلفون من المنافقين يعتذرون إليه بشتى الأعذار، ويحلفون له، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله -عز وجل-. عباد الله! أما كعب بنُ مالك أحدُ ثلاثةٍ من المؤمنين الصادقين تخلَّفوا من ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1481)، ومسلم (رقم 1392). (¬2) انظر "زاد المعاد" (3/ 549).

غير عذر، فقد جاء هو وصاحباه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بذنبه، فماذا قال كعب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وماذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وماذا أمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وما هي نتيجة الصدق؟ هذا الذي نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى- اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.

الخطبة التاسعة والأربعون: قصة كعب بن مالك وصاحبيه

الخطبة التاسعة والأربعون: قصة كعب بن مالك وصاحبيه أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن قصة كعب بن مالك وصاحبيه؛ عندما تخلفوا عن غزوة تبوك. عباد الله! تكلمنا في الجمعة الماضية عن غزوة تبوك، وقد تخلف عنها ثلاثة من الصحابة وهم: كعبُ بن مالك، وهلالُ بن أُمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العمري، والثلاثة من الأنصار المعروفين بحسن إيمانهم. فكعب بن مالك - رضي الله عنه - شهد جميع الغزوات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل غزوة تبوك سوى بدرٍ، وشهد أيضاً بيعة العقبة الثانية، وهلال بن أمية، ومرارةُ بن الربيع شهدا بدراً. عباد الله! الثلاثة من المؤمنين الصادقين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذرٍ، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزوة، جاء كل منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعترف بذنبه، فماذا قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وماذا قالوا له؟ وماذا فعل بهم؟ هذا الذي نعرفه في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى-. تعالوا بنا عباد الله لنستمع إلى كعب بن مالك - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر: يقول كعب - رضي الله عنه -:"لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدرٍ ولم يُعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوِّهم، على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة

- وهي الليلة التي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار فيها على الإِسلام، وأن يؤوه وينصروه- حين تواثقنا على الإِسلام -أي تبايعنا عليه وتعاهدنا- يقول - رضي الله عنه -: "وما أُحِبُّ أن لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها -أي: أشهر عند الناس بالفضيلة- يقول - رضي الله عنه -: "وكان من خبري، حين تخلّفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطُّ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة". يقول - رضي الله عنه -: "فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فَجَلَّى للمسلمين أمرهم" -أي كشفه وبينه وأوضحه- "ليتأهبوا أهبة غزوهم" -أي: ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك- "فأخبرهم بوجههم الذي يريد" -أي: عرفهم جميعاً أنه يريد أن يغزو الروم- يقول - رضي الله عنه -: "والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابُ حافظ- يريد بذلك الديوان- فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا يظنُّ أن ذلك سيخفى به، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل". يقول - رضي الله عنه -: "وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أَصَعُر -أي: أميل- فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم؛ فأرجعُ ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرَّ بالناس الجدُّ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً والمسلمون معه، ولم أقض منِ جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعتُ ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو -أي تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا- فهممت أن أرتحل فأدركهم، فياليتني فعلتُ، ثم لم يُقَدَّر ذلك لي.

يقول - رضي الله عنه -: "فطفقت إذا خرجتُ في الناس، بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يحزنني أني لا أرى لي أسوةً، إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق" -أي: متهماً - أو رجلاً ممن عذر اللهُ من الضعفاء. يقول - رضي الله عنه -: "ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: "ما فعل كعبُ بن مالك؟ " قال رجل منِ بني سلمة: يا رسول الله: حبسهُ بردَاهُ والنظر في عِطفيه" -أي: جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه- "فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله! يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". يقول - رضي الله عنه -: "فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً" -أي: لابسا البياض- "يَزُولُ به السَّراب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون". قال كعب - رضي الله عنه -: "فلما بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلاً" -أي: راجعاً- "من تبوك، حضرني بثِّي" -أي: حزني الشديد- "فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادماً، زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ مِنه بشيءٍ أبداً، فأجمعت صِدقهُ" -أي: عزمت على أن أصدقه-. يقول - رضي الله عنه -: "وأصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قادماً، وكان إذا قَدِمَ مِن سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءهُ المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى"، يقول - رضي الله عنه -: "حتى جئت، فلما سلمت تبسَّم تبسُّمَ المُغضب ثم قال:

"تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: "ما خلّفَك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " -أي: اشتريت راحلتك؟ - قال - رضي الله عنه -: "قلتُ: يا رسول الله! إني والله! لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيتُ جدلاً" -أي: فصاحة وقوة في الكلام- "ولكني والله! لقد علمت لئن حدَّثتك حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، وإن حدَّثتُك حديث صدق تجد عليَّ فيه" -أي: تغضب- إني لأرجو فيه عُقبى اللهِ -أي: العاقبة الحسنة بتوبة الله عليَّ- والله! ما كان لي عذر، والله! ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر منيِّ حين تخلفت عنك، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللهُ فيك"، فقمتُ". يقول كعب - رضي الله عنه -: "وسار رجال مِن بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك". يقول - رضي الله عنه - "فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذِّب نفسي، ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي من أحد قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمريُّ، وهلال بن أمية الواقِفي". يقول - رضي الله عنه -: "فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدراً فيهما أسوة". يقول - رضي الله عنه -: "فمضيت حين ذكروهما لي". يقول - رضي الله عنه -: "ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامِنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في

نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان"، "وأما أنا فكنت أشبَّ القوم" -أي: أصغرهم سناً- "وأجلدهم فكنت أَخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حركَ شفتيه برد السلام أم لا؛ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر" -أي: أنظر إليه خفية- "فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا التفت نحوه أعرض عني". يقول - رضي الله عنه -: "حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة" -أي: علوت سور بستانه- "وهو ابن عمِّي وأحبُّ الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما ردَّ عليّ السلام" فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله -أي: أسألك بالله- "هل تعلمني أحِبُّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فسكت، فعدتُ فناشدته فسكت، فعدت فناشدتهُ فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوَّرت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل (الشام) -أي: فلاح- ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً. فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتُها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحيُ" -أي: أبطأ- "إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها، وأرسل إلى صاحِبيَّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن

أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم فهل تكرهُ أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب". يقول - رضي الله عنه -: "فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منَّا، قد ضاقت على نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سَلْع" -وهو جبل بالمدينة- "يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء الفرج". يقول - رضي الله عنه -: "فآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله - عز وجل - علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا". يقول - رضي الله عنه -: "فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرُني نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله! ما أملك غيرهما يومئذ". يقول - رضي الله عنه -: "واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمَّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنِكَ توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس حوله الناس، فقام طلحةَ بن عبيد الله - رضي الله عنه - يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لطلحة يقول - رضي الله عنه -: "فلما سلمتُ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال وهو يبرق وجهه من السرور:

أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك" فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله عَزَّ وَجَلَّ" يقول - رضي الله عنه -: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه". يقول - رضي الله عنه -: "فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنْخَلِعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله" -أي: أخرجه في سبيل الله- "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله! إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدِّث إلا صِدقاً ما بقيتُ". يقول - رضي الله عنه -: "فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى" -أي: أنعم عليه- "في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله تعالى به، والله ما تعمدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي". ثم قال - رضي الله عنه -: "فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتى بلغ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة:117:119]. يقول كعب - رضي الله عنه -: "والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قطُّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أن لا أكون كذبته فأهْلِكَ كما هلك الذين كذبوا.

إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95 - 96] (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة كعب بن مالك وصاحبيه فمنها: أولاً: الصدق سفينة النجاة. عباد الله! عليكم بالصدق فإنه ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا: نجا كعب بن مالك بالصدق هو وصاحباه. وفي الآخرة: قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]. عباد الله! عليكم بالصدق، فهو طريق إلى الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة" (¬2). ثانياً: بعد الكرب والشدة يأتي الفرج، فهذا كعب بن مالك بعد أن ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، جاء الفرج فسمع صارخاً يصرخ: يا كعب بن مالك! أبشر فخر ساجداً لله وقال: قد جاء الفرج. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4418)، ومسلم (رقم 2769). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6094)، ومسلم (رقم 2607).

والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لابن عباس: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا" (¬1). ثالثاً: أعداء الإِسلام يتربصون بنا الدوائر، ويرصدون ما وقع بين المسلمين، فانظروا في اللحظة المناسبة أرسل ملك غسان إلى كعب بن مالك يطلبه: "الحق بنا نواسك". رابعاً: التأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف أنه كان فعله، لقول كعب بن مالك: "فياليتني فعلت". خامساً: ردّ الغيبة عن المسلم، لقول معاذ بن جبل: "بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً". سادساً: الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. سابعاً: يُشرع لمن بُشر بنعمة ما يلي: - سجود الشكر كما فعل كعب بن مالك - رضي الله عنه - عندما بشروه بتوبة الله عليه. - مكافأة الذي يحملُ البشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسها، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما. - التصدق بالمال: كما فعل كعب بن مالك - رضي الله عنه - فقد تصدق ببعض ماله. ثامناً: خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها؛ يوم توبته إلى الله، وقبول ¬

_ (¬1) صحيح: "رياض الصالحين" تحقيق الألباني.

الله توبته، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك". تاسعاً: استحباب بكاء الإنسان على نفسه إذا وقعت منه معصية، وهذا ما وقع من كعب بن مالك وصاحباه. عاشراً: في الحديث عظم أمر المعصية يقول الحسن البصري -رحمه الله- "يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً، ولا سفكوا دماً حراماً، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ ". اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

الخطبة الخمسون: حجة الوداع

الخطبة الخمسون: حجة الوداع أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الخمسين من سيرة حبيب رب العالمين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، النبي الأمين، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن حجة الوداع. عباد الله! حجة الوداع كانت في السنة العاشرة للهجرة، واتفق العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة، سوى حجةٍ واحدةٍ وهي حجة الوداع. عباد الله! وفي حجة الوداع؛ ودّع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وأصحابه فقال لهم: "خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". عباد الله! كيف حج النبي - صلى الله عليه وسلم -. تعالوا بنا لنستمع إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وهو يصف لنا حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول جابر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم يحُجَّ، ثم أذّنَ في الناس في العاشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ هذا العام. فقدم المدينة بشر كثير (وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكباً أو راجلاً إلا قدم) فتدارك الناس ليخرجوا معه، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله. وقال جابر - رضي الله عنه -: سمعت- قال الراوي: أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فقال: "مُهَلّ أهل المدينة من ذي الحليفة

الإحرام

ومهل أهل الطريق الآخر الجُحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق -أي: مكان بالبادية، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة- ومهل أهل اليمن من يلَملَم". قال جابر - رضي الله عنه -: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع وساق هدياً: فخرجنا معه معنا النساء والولدان: حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عمش محمَّد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستثفري -وهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشى قطناً وتوثق طرفِها في شيء تشده على وسطها فتمنع بذلك سيل الدم- بثوب وأحرمي. فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وهو صامت -يعني أنه لم يُلب بعدُ-. الإحرام: ثم ركب القصواء- وهي ناقته - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالحج -أي رفع صوته بالتلبية- (وفي رواية: أفرد الحج) هو وأصحابه. قال جابر: فنظرت إلى مدِّ بصري -أي: منتهى بصري- من بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وماعمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

دخول مكة والطواف

وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، (وفي رواية: ولبى الناس والناس يزيدون لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً منه. ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته. قال جابر: ونحن نقول لبيك اللهم لبيك بالحج: نصرخ صراخاً لسنا ننوي إلا الحج مفرداً: لا تحلطه بعمرة: (وفي رواية: لسنا نعرف العمرة) وفي أخرى: أهللنا أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصاً ليس معه غيره، خالصاً وحده). قال: وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بـ "سرِف" -أي: موضع قرب التنعيم- عرُكت أي: حاضت. دخول مكة والطواف: قال جابر - رضي الله عنه - حتى إذا أتينا البيت معه صبح رابعة مضت من ذي الحجة، (وفي رواية: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى). فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد. استلم الركن (وفي رواية: الحجر الأسود). ثم مضى عن يمينه. فرمل حتى عاد إليه ثلاثاً -والرملُ هو إسراعُ المشي مع تقارب الخطا- ومشى أربعاً على هينته. ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، ورفع صوته يُسمعُ الناس.

الوقوف على الصفا والمروة

فجعل المقام بينه وبين البيت [فصلى ركعتين]. قال: فكان يقرأ في الركعتين: (قل هو الله أحد) و (قل يا أيها الكافرون) (وفي رواية "قل يا أيها الكافرون" و"قل هو الله أحد"). ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه ثم رجع إلى الركن فاستلمه. الوقوف على الصفا والمروة ثم خرج من الباب (وفي رواية: باب الصفا) إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبداً (وفي رواية: نبدأ) بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت. فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثلاثاً وحمده وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد [يحيي ويميت] وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل ماشياً إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه -أي انحدرت- في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا -يعني قدماه- الشق الآخر مشى حتى أتى المروة فرقى عليها حتى نظر إلى البيت. ففعل على المروة كما فعل على الصفا. الأمر بفسخ الحج إلى العمرة حتى إذا كان آخر طوافه (وفي رواية: كان السابع) على المروة. فقال: يا أيها الناس: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة.

النزول في البطحاء

فمن كان منكم معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، (وفي رواية: فقال: أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً. حتى إذا كان يوم التروية -وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة). فقام سراقة بن مالك بن جعُشمُ (وهو في أسفل المروة:) فقال: يا رسول الله أرأيت عمرتنا (وفي لفظ: متعتنا:) هذه: ألعامنا هذا أم لأبد الأبد: قال: فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في أخرى وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد، ثلاث مرات قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما نستقبل؟ قال: لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل إذن؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. (قال جابر: فأمرنا إذا حللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية كل سبعة منا في بدنة فمن لم يكن معه هدي، فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله قال: فَكَبُرَ ذلك علينا، وضاقت به صدورنا. النزول في البطحاء قال: فخرجنا إلى البطحاء، قال: فجعل الرجل يقول: عهدي بأهلي اليوم. قال: فتذاكرنا بيننا فقلنا: خرجنا حجاجاً لا نريد إلا الحج، ولا ننوي غيره، حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع (وفي رواية: خمس ليال أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى من النساء، قال: يقول

خطبته - صلى الله عليه وسلم - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له

جابر بيده، (قال الراوي): كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ندري أشيء بلغه من السماء. أم شيء بلغه من قِبل الناس. خطبته - صلى الله عليه وسلم - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له. فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه فقال: أبالله تعلموني أيها الناس قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، افعلوا ما آمركم به فإني لولا هديي لحللت كما تحلون ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا. قال: فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وسمعنا وأطعنا. فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي. قال: وليس مع أحد منهم هدي غير النبي- صلى الله عليه وسلم - وطلحة. قدوم علي من اليمن مهلاً بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدم علي من سعايته من اليمن ببدُن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فوجد فاطمة -رضي الله عنها- ممن حل: ترجلت ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟!، فقالت: إن أبي أمرني بهذا قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا فقال: صدقت، صدقت، صدقت أنا أمرتها به. قال جابر: وقال لعلي: ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

التوجه إلى منى محرمين يوم الثامن وهو يوم التروية

قال: فإن معي الهدي فلا تحل، وامكث حراماً كما أنت. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -من المدينة مائة بدنة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي- التوجه إلى مِنى محرمين يوم الثامن وهو يوم التروية: فلما كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر توجهوا إلى مني فأهلوا بالحج من البطحاء. قال: ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة -رضي الله عنها- فوجدها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلِلْ، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي ففعلت (وفي رواية: فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت. وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى بها (يعني مني، وفي رواية: بنا) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس. وأمر بقبة له من شعر تضرب له بنمرة -وهو موضع بجانب عرفات وليس من عرفات-. التوجه إلى عرفات والنزول بنمرة: فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ويكون منزله ثم كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز -أي

خطبة عرفات

جاوز المزدلفة ولم يقف بها- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي. خطبة عرفات فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعد إن اعتصمتم به، كتاب الله وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم أشهد، اللهم أشهد". الجمع بين الصلاتين والوقوف على عرفة: ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.

الإفاضة من عرفات

ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصَّفرة قليلاً حتى غاب القُرصُ، وأردف أسامة خلفه. الإفاضة من عرفات ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية: أفاض وعليه السكينة) وقد شنق للقصواء الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورِك رحله -وهو قطعة أدمٍ يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل، شبه المخدة الصغيرة- ويقول بيده اليمنى "أيها الناس! السكينة السكينة .. ". الجمع بين الصلاتين في المزدلفة والبيات بها: حتى أتي المزدلفة فصلى بها، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر. وصلى الفجر حين تبين له الفجر، بأذان وإقامة. الوقوف على المشعر الحرام ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام. فاستقبل القبلة، فدعا (وفي لفظ: فحمد الله) وكبره وهلله ووحده. فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً. وقال: وقفت ها هنا، والمزدلفة كلها موقف. الدفع من المزدلفة لرمي الجمرة فدفع من جمع قبل أن تطلع الشمس وعليه السكينة. وأردف الفضل بن عباس- وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً-. فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن تجرين- الظعينة البعير الذي عليه

رمي الجمرة الكبرى

امرأة، ثم سمى به المرأة مجازاً لملابستها البعير- فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهة من الشق الآخر. حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً وقال: عليكم السكينة. رمي الجمرة الكبرى ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها ضحى بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. رمى من بطن الوادي وهو على راحلته وهو يقول: لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه. قال جابر - رضي الله عنه - ورمى بعد يوم النحر في سائر أيام التشريق إذا زالت الشمس. ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة، فقال: يا رسول الله، ألنا هذه خاصة؟ قال: لا، بل لأبد. النحر والحلق ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنه بيده. ثم أعطى علياً فنحر ما غبر يقول: ما بقي، وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنه ببضعة -وهي القطعة من اللحم- فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.

خطبة النحر

(وفي رواية قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة). (وفي أخرى قال: فنحرنا البعير، عن سبعة، والبقرة عن سبعة). (وفي رواية خامسة عنه قال: فاشتركنا في الجزور سبعة، فقال له رجل: أرأيت البقرة أيشترك؟ فقال: ما هي إلا من البدن). (وفي رواية: قال جابر: كنا لا نأكل من البدن إلا ثلاث مني، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كلوا وتزودوا". قال: فأكلنا وتزودنا حتى بلغنا بها المدينة. رفع الحرج عمن قدم شيئاً من المناسك أو أخر يوم النحر. (وفي رواية: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق. وجلس بمنى يوم النحر للناس، فما سئل يومئذ عن شيء قدم قبل شيء إلا قال: "لا حرج، لا حرج". حتى جاءه رجل فقال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: "لا حرج". ثم جاء آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي؟ قال: "لا حرج". ثم جاءه آخر فقال: طفت قبل أن أرمي؟ قال: "لا حرج". قال آخر: طفت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج". ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم". ثم قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: قد نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر فانحروا في رحالكم. خطبة النحر وقال جابر - رضي الله عنه -: خطبنا - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: يومنا هذا، قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: شهرنا هذا، أي بلد أعظم

الإفاضة لطواف الصدر

حرمة؟ قالوا بلدنا هذا، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. الإفاضة لطواف الصدر: ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فطافوا ولم يطوفوا بين الصفا والمروة فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلواً فشرب منه (¬1). عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من حجة الوداع فهي: أولاً: تحديد مصدر التلقي، ففي حجة الوداع، حدد النبي- صلى الله عليه وسلم - مصدر التلقي الذي يجب على الأمة أن ترجع إليه، وذلك عندما قال لهم: "خذوا عني مناسككم"، وقال لهم: "تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمت به؟ كتاب الله". عباد الله! وكما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحج قال في الوضوء: "من توضأ نحو وضوئي هذا" وقال أيضاً في الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فعلى الأمة أن تأخذ دينها من الكتاب والسنة، حتى لا تضل عن الصراط المستقيم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي". وعلى المسلمين أن يفهموا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ ¬

_ (¬1) "حجة النبي- صلى الله عليه وسلم - كما رواها جابر - رضي الله عنه -" للشيخ الألباني.

ثانيا: قطع الصلة بالجاهلية، والابتعاد عن الذنوب والمعاصي

الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ". ثانياً: قطع الصلة بالجاهلية، والابتعاد عن الذنوب والمعاصي: وهذا يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع؛ دماء الجاهلية موضوعة .. وربا الجاهلية موضوع". فيجب على الأمة الإِسلامية أن تبتعد عن أمور الجاهلية؛ لتعيش في ظل الإِسلام كاملاً، والتبرج يا عباد الله من أمور الجاهلية، قال تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، والحكم بغير ما أنزل الله من أمور الجاهلية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .. } والفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة من أعمال الجاهلية قال - صلى الله عليه وسلم -: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن؛ الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" (¬1). ثالثاً: الوصية بالنساء ¬

_ (¬1) "صحيح "الجامع" (896).

رابعا: من مات في الحج محرما يبعث يوم القيامة ملبيا

وهذا يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: "فاتقوا الله في النساء". عباد الله! كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي دائماً بالنساء فيقول: "استوصوا بالنساء خيراً"، وفي آخر أيامه وهو في فراش الموت يقول: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم" والله -عز وجل- وصى بالنساء فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. فيجب على المسلمين أن يتقوا الله في النساء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - حذر من الاعتداء على المرأة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين؛ المرأة واليتيم" (¬1). رابعاً: من مات في الحج محرماً يبعث يوم القيامة ملبياً. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، إذ وقع عن راحلته فأوقصته، أو قال فأقعصته -أي: قتلته في الحال- فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه -أي: لا تضعوا عليه من الطيب شيئاً- ولا تخمروا رأسه -أي: لا تغطوا رأسه- فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً" (¬2). اللهم ارزقنا علماً نافعاً ¬

_ (¬1) صحيح "رياض الصالحين" (275) تحقيق الألباني. (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1265)، ومسلم (رقم 1206).

الخطبة الحادية والخمسون: وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الحادية والخمسون: وفاةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عباد الله! وموعدُنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الحادي والخمسين من سيرة حِبيبِ ربِّ العالمين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - النبي الأمين، وهذا هو اللقاءُ الأخير، وحديثنُا في هذا اللقاءِ سيكونُ عن وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عباد الله! رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. والذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. والذي ختم اللهُ به الأنبياءَ والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول بعده. والذي قال الله له {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} أو قال الله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فنشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهدَ في سبيل دينه حتى أتاهُ اليقين، وترك أمته على المحجةِ البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك أو ضالُ. عباد الله! رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] والذي قال الله له: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34 - 35].

وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال له جبريل عليه السلام: "يا محمَّد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه" (¬1). عباد الله! بعد أن فتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأرسل إلى ملوك ورؤساء الدول الكبرى يدعوهم إلى الإِسلام، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً؛ أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى اقتراب أجله، وُيعرضُ بقرب أجله. فقبل حجة الوداع، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يودعه ويوصيه عندما بعثه إلا اليمن، ومعاذ راكب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي تحت راحلته، فلما فرغ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري". فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم التفت - صلى الله عليه وسلم - فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال: "إن أولى الناس بي المتقون؛ من كانوا وحيث كانوا" (¬2). ووقع ما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن معاذاً أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، ومعاذ باليمن. وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف كل سنة عشراً في شهر رمضان، فاعتكف في السنة الأخيرة عشرين ليلة، وكان جبريل يعارضه القرآن مرة في شهر رمضان، ¬

_ (¬1) "الصحيحة" (رقم 831) (¬2) قال الشيخ الألباني: صحيح رواه أحمد (5/ 235).

فعارضه في السنة الأخيرة مرتين. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً (¬1). أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة -رضي الله عنها-: "أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري" (¬2). عباد الله! وفي حجة الوداع، ودع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وأصحابه. في يوم النحر، وعند جمرة العقبة قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا مناسككم -أي: خذوا عني مناسككم- فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" (¬3). وعلى عرفة نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فلما تلاها - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بكى عمرُ - رضي الله عنه - فقيل له: ما يبكيك؟ فقال - رضي الله عنه - إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان (¬4). وفي ثاني أيام التشريق نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [سورة النصر] ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2033)، ومسلم (رقم 1173). (¬2) رواه البخاري (رقم 6285)، ومسلم (رقم 2450). (¬3) رواه مسلم (رقم 1297). (¬4) "تفسير الطبري" (6/ 80)، "البداية والنهاية" (5/ 79).

فلما سأل عمر - رضي الله عنه - ابن عباس - رضي الله عنهما- عن هذه السورة. قال ابن عباس: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول (¬1). عباد الله! ودعا النبي- صلى الله عليه وسلم - فاطمة -رضي الله عنها- فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت. فلما سألتها عائشة -رضي الله عنها- قالت: سارّني في الأول فقال لي: "إن جبريل كان يُعارضُني بالقرآن كل سنة مرةً، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا اقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك" فبكيت. ثم سارني فقال: "يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟ " فضحكت (¬2). عباد الله! وخرج - صلى الله عليه وسلم - يوماً إلى أحد فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض. وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4970). (¬2) متفق عليه، مضى قريباً.

تنافسوا فيها" (¬1). عباد الله! هكذا أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير ويعرض باقتراب أجله، والناس يشعرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودعهم. عباد الله! وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع إلى المدينة، وهناك في المدينة بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتكي من صداع شديد في رأسه. تقول عائشة -رضي الله عنها- رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني، وأنا أجد صداعا وأنا أقول، وارأساه، فقال: "بل أنا يا عائشة وارأساه". ثم قال- صلى الله عليه وسلم - لها: "وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك". فقالت -رضي الله عنها- له: كأني بك والله لو فعلت ذلك، لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك. تقول -رضي الله عنها-: "فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه" (¬2). عباد الله! "اشتد الوجع برسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فطلب من زوجاته أن يمرض في بيت عائشة أم المؤمنين فأذنَّ له، فخرج بين رجلين من أهل بيته حتى دخل بيت عائشة" (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 1344). (¬2) صحيح ابن ماجة (1197). (¬3) رواه البخاري (رقم 2588).

فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري" (¬1) -من ذلك السم-. وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى المسجد يصلي بالناس، فلما اشتد به الوجع قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". تقول عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. ففعلت حفصة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً (¬2). وعاودت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتشاءم الناس بأبيها (¬3). عباد الله! أبو بكر - رضي الله عنه - يصلي بالناس، وفي يوم وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة فخوج يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مكانك، ثم أُتي به حتى جلس إلى جنبه، فكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4428). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 679)، ومسلم (رقم 418). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4445)، ومسلم (رقم 418). (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 198)، ومسلم (رقم 664).

عباد الله! فلما كان يوم الخميس قبل خمسة أيام من وفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ اشتد الوجع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للمسلمين حوله: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده" فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع .. فقال لهم "دعوني فالذي أنا فيه خير" (¬1). ثم أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج للخطبة. فقال لأهله: "أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحَلُ أوكيتها، لعلي أعهد إلى الناس". تقول عائشة -رضي الله عنها- "فأجلسناه في مخصب لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده" أن قد فعلتن، تقول -رضي الله عنها- ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (¬2). يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - "خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال أبو سعيد: "فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خير، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المُخَيرُ، وكان أبو بكر أعلمنا". فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإِسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" (¬3). عباد الله! اشتد الوجع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ يوصي أمته وأصحابه في ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4432)، ومسلم (رقم 1637). (¬2) رواه البخاري (رقم 198). (¬3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 466)، ومسلم (رقم 2382).

الأيام الأخيرة من عمره بما يلي: أولاً: أوصى أمته بإخراج المشركين في جزيرة العرب، فقال - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بخمس: "أوصيكم بثلاث ثم ذكر منها: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" (¬1). ثانياً: وأوصى أن تغلق الأبواب المفتوحة على المسجد إلا باب أبي بكر فقال- صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" وهذه من الإشارات لاستخلافه - رضي الله عنه - (¬2). ثالثاً: وأوصى - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار خيراً. يقول أنس - رضي الله عنه -: "مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك. قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي -أي: موضع سري وأمانتي-، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" (¬3). رابعاً: وأوصى - صلى الله عليه وسلم - بتعظيم الرب -عز وجل- في الركوع، والاجتهاد في الدعاء في السجود يقول: ابن عباس -رضي الله عنهما-: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "أيها الناس، إنه لم يبق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 3168). (¬2) مضى قريباً. (¬3) رواه البخاري (رقم 3799).

من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وأني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن -أي: حقيق وجدير- أن يستجاب لكم" (¬1). خامساً: أوصى - صلى الله عليه وسلم - أمته بالصلاة يقول علي - رضي الله عنه -: كان آخر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الصلاة، الصلاة، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم" (¬2). سادساً: ووصى - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تحسن الظن بالله. يقول جابر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل موته بثلاث: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -عز وجل-" (¬3). سابعاً: نهى - صلى الله عليه وسلم - أمته عن بناء المساجد على القبور، تقول عائشة وابن عباس - رضي الله عنهم -: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقى على وجهه طرف خميصة، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". تقول عائشة: "يُحَذّرُ مثل الذي صنعوا" (¬4). عباد الله! اشتد الوجع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانقطع عن أصحابه بقية يوم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (رقم 479). (¬2) انظر "إرواء الغليل" (رقم 2178). (¬3) رواه مسلم (رقم 2877). (¬4) رواه البخاري (رقم 4441).

الخميس، والجمعة والسبت والأحد، وبينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بالناس، لم يفجأهم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ستر حجرة عائشة؛ فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة ثم ابتسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخرج إلى الصلاة. يقول أنس - رضي الله عنه -: وهم المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل- صلى الله عليه وسلم - الحجرة وأرخى الستر، ثم مات - صلى الله عليه وسلم - ضحى ذلك اليوم الاثنين (¬1). عباد الله! وفي يوم الاثنين اشتد المرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول عائشة -رضي الله عنها-: لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً". قال- صلى الله عليه وسلم -: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أجل، ذلك كذلك. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 680)، ومسلم (رقم 419). (¬2) رواه البخاري (رقم 4445).

سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" (¬1). وتقول عائشة -رضي الله عنها- "لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -أي: وجع الموت- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، ويقول: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" تقول عائشة - رضي الله عنها-: لولا ذلك لأبرز قبره، خشي أن يتخذ مسجداً (¬2). ويقول أنس - رضي الله عنه - لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة- رضي الله عنها- "واكرب ابتاه! قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليست على أبيك كرب بعد اليوم" (¬3). وتقول عائشة -رضي الله عنها- "إن من نعم الله علي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي ويومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقى وريقه عند موته. تقول -رضي الله عنها-: دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك - وأنا مسندة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناوله فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته فأمرّه -أي استاك به- تقول -رضي الله عنها- "وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى"، حتى قبض ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5647)، ومسلم (رقم 2571). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1330)، ومسلم (رقم 529). (¬3) رواه البخاري (رقم 4462).

فمالت يده (¬1). يقول أنس - رضي الله عنه -، لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت فاطمة -رضي الله عنها-: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه. يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه" (¬2). عباد الله! لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعت عائشة -رضي الله عنها- رأسه على وسادة، وسجته -أي: غطته- ببردة. عباد الله! عائشة تبكي، وفاطمة تبكي، والكل يبكي على فراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخبر ينتشر هنا وهناك، فمن المسلمين من يقول: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يقول: لا ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الفاروق عمر - رضي الله عنه - يتوعد من قال مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتل والقطع. عباد الله! وصل الخبر إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فجاء على فرسه، ثم دخل فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4450)، ومسلم (رقم 2443). (¬2) رواه البخاري (رقم 4462).

أولا: الغسل

وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144] فنشج الناس يبكون، وقال عمر: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فَعُقِرْتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي، وهويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات" (¬1) مات النبي- صلى الله عليه وسلم - وإنها لمصيبة من أعظم المصائب؛ لأن بموته انقطع الوحي من السماء. أيها المسلم! اصبر لكل مصيبة وتجلدِ ... واعلم بأن المرء غير مُخلد أوَما ترى أن المصائبَ جمّة ... وترى المنيةَ للعباد بمرصد مَنْ لم يُصبْ ممن ترى بمصيبة ... هذا سبيلٌ لستَ فيه بأوحدِ فإذا ذكرتَ محمداً ومصابه ... فاذكرْ مُصابَكَ بالنبيِّ محمدِ عباد الله! اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة، وبعد المشاورات والمحاورات تم الاتفاق على أبي بكر - رضي الله عنه - خليفةً للمسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبايعه المسلمون في المسجد على ذلك. عباد الله! وبدأ المسلمون في تجهيز النبي- صلى الله عليه وسلم -. أولاً: الغسل: تقول عائشة -رضي الله عنها-: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله لا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (رقم 4454).

ثانيا: الكفن

ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله -تبارك وتعالى- عليهم النومُ حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره. ثم كلَّمهم مُكَلِّمٌ من ناحية البيت- لا يدرون مَنْ هو-: أن غسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون القميص دون أيديهم وكانت عائشة تقول "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه" (¬1). ثانياً: الكفن: فلما فرغوا من غسله - صلى الله عليه وسلم - كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. كما قالت عائشة -رضي الله عنها (¬2) -. ثالثاً: الصلاة عليه: ثم أخذوا في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فرادى، لم يؤمهم أحد، دخل الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان (¬3). رابعاً: الدفن: فلما أرادوا دفنه- صلى الله عليه وسلم - اختلفوا أين يدفنونه؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما نسيته، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه فدفنوه، في موضع ¬

_ (¬1) "صحيح أبي داود" (2693). (¬2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1272)، ومسلم (رقم 941). (¬3) "البداية والنهاية" (5/ 265).

فراشه" (¬1). وكان بالمدينة رجل يُلحد، وآخر يضرح. فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه. فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). تقول عائشة -رضي الله عنها-: ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء (¬3). فلما فرغوا من دفنه قالت فاطمة -رضي الله عنها-: "يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب" (¬4). وتقول أم سلمة -رضي الله عنها- بينما نحن مجتمعون نبكي لم ننم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيوتنا، ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين في السحر، فصحنا وصاح أهل المسجد فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذن بلال بالفجر، فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى وانتحب فزادنا حزناً (¬5). عباد الله! إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا رسول الله لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (1018). (¬2) "صحيح ابن ماجه" (1264). (¬3) حسن "الفتح الرباني" (21/ 256). (¬4) رواه البخاري (رقم 4462). (¬5) "البداية والنهاية" (5/ 271).

ويقول أنس - رضي الله عنه -: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كلُّ شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب حتى أنكرنا قلوبنا (¬1). عباد الله! وعزاؤنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أراد الله رحمة أمةٍ من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها" (¬2). وتقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهماً ولا شاةً ولا بعيراً ولا أوصى بشيء" (¬3). "بل لقد مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعيرٍ أخذها لأهله" (¬4). ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير توفنا على الإسلام وألحقنا بالصالحين ¬

_ (¬1) "صحيح الترمذي" (3618). (¬2) رواه مسلم (رقم 2288). (¬3) رواه مسلم (رقم 1635) من حديث عائشة وأخرجه البخاري (رقم 4461) من حديث عمرو بن الحارث. (¬4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4467)، ومسلم (رقم 1603).

§1/1