زهر الأكم في الأمثال والحكم

الحسن اليوسي

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والأثال، والله اكبر أن يتطاول إلى سميّ جلاله خيالٌ أو مثال. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، نحمده على ما أسدى من جزيل الرغائب، وأجدى من جميل المواهب، وسنّى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم. ونشكره على أفئدة بنور الأيمان هداها، والسنة أطال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقع غيث الفكر وجداها؛ حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلوا بلوامع التبيان كل ليل بهيم، ونصلّي على نبيه محمّد المختار المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برداء الجلال والإكبار، والمبتعث من أطيب عنصر وأكرم نجار، في حسب حسيب وشرف قديم. الذي أنار بطلعته الغراء علم المهتدين، وسمك بعزته القعساء منار الدين، وثل بشرعته البضاء عروش الجاحدين والحائدين، واستأصل بشوكته الشوكاء شأفة العادين، وجعلة صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وسرَّ السر، وخلاصة الخلاصة، ومصاصة المصاصة، ولباب اللباب، وخيار الخيار، وصميم الصميم. صلى الله عيه صلاة تلوح في أفق مكانته العلياء قمرا، وتفوح على طلعته الغراء عنبرا، وتنهمل في جناب مجاته الفيحاء كوثراً، وتخضل في روضتة جماله الغناء زهرا، ما هب نسيم، وذهب ذو رسيم. وعلى اله الأماثل، وأعلام الدين القويم، والصراط المستقيم، ما بدا على وجنات الورد تخجيل، من رشفات النسيم البليل، واصفر روعة وجه الأصيل، من

لحظات طرف الليل الكحيل، وأسفر الصباح عن ثغر بسيم، ومنظر وسيم. أما بعد، فان العلم انفس علق يقتنى، وأحلى ثمر يجتنى؛ وأعدل حجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة، وأضوء بدر في دجنة؛ وأربح متجر مثابر عليه، وأنجع مرعى ينتجع إليه؛ وأرجى بارق يشتام، وأفضل جناب يعتام؛ وأنور نور يستضاء به في الظلومات، وامنع وزر يعتصم به في الأزمات؛ وأوثق عروة يستمسك بها ذوو البصائر، وأعظم عدة تعقد عليها الخناصير؛ وأقوى مطية تركب، وأتم سلاح يتنكب؛ وأطيب نسمة تستنشق، وأجمل محبوب يعلق؛ وأبهى زينة يتحلى بها المتحلون، وارفع منصة يتجلى عليها المتجلون. فإن العلم غذاء العقل، وبه يعرف الحكم العدل؛ وإنّ الخصيصى التي بها شرف الإنسان إنّما هي العلم؛ فان المرء لو بلغ في كمال الجسم أطوريه، لا يكون أنسانا إلاّ بأصغريه: لولا العقول لكان أدنى ضيعة ... أدنى إلى شرف من الإنسان وما امتاز اللسن الذكي عن العييى إلاّ برجاحة الجنان، وفصاحة اللسان؛ فان الخليق للأفكار عند افتراعها المعاني الأبكار؛ والجدير للألسنة عند اقتطافها أزاهير البيان، واهتصارها أفانين التبيان، أن يتميز فيها الفائق من المائق، والسابق من السائق؛ وعند السياق في ميدانها الوثيم، أن يتجلى المجلى عن اللطيم، وعند مزاولة الغرض المعضل، أن يعرف المقرطس من المخضل. وعند انتياش مضارب الأفهام، أن يمتاز الصارم عن الكهام؛ وعند اقتباس حكمة تستشعر، أن يشرف المورى عن الأدعر؛ وعند اقتسام مزايا الفضل الفسيح، أن يفوز المعلى دون السفيح؛ وعند استفتاح المغالق، وتغشي المضائق، أن يعلم المجحم من المحجم، والهصور من

الحصور. فلا جرم كان من اجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء به وأجدرها، علم الأدب، والتضلع من كلام العرب، إذ به تنحل عقله اللسان، وتزاح روعة الجنان. وهو لسان نبينا نخبة العالم، وصفوة ولد آدم، وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان، من بلغاء عدنان وقحطان، حتى عدلوا عن المجادلة إلى الطعان، وعن المعارضة إلى الادغان. صلى الله وسلم عليه وعلى آله ما لمع بارق، وطلع شارق، فهو لعمري أجل الكلام، وأشرف ما اعتورته الألسنة والأفهام، وأبها بدر يستجلى وعروس، وأسنى أثر يستبقى في ميادين الطروس. لا سيما علم أمثالها التي هي زمام كل معنى، ومناط لك مبنى، ومنار لك مرمى، ومصباح كل ظلما. وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المنبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا بل المعدوم موجودا. وكان الأقدمون بهذا الفن معتنين، ولنوادره ملقنين، ومدونين، يردون مواردها، ويقتنصون شواردها؛ ويقتطفون أزهارها النضرة، ويتنسمون نسماتها العطرة؛ ويرتشفون ثغورها، ويقتبسون نورها؛ ويشيمون لمحات تلك البوارق، ويشمون بدررها صفحات المهارق. فلما طال العهد بأزمان العرب، وقضى من تناسي أيامها كل أرب، تغلبت العجمة على الألسنة والطباع، فخلت من قطينها هاتيك الرباع، وأصبحت حديثا مهجورا، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وعادت أيامها محض أوهام، فكأنها وكأنهم أحلام، وتقلص ضافي بردها، وتكدر صافي وردها، وذهبت المعارف والعوارف، وتقلص ظلها الوارف؛ وأمست رباع الأدب قفرا، وراحت الخواطر منه صفرا. وكانت نفس تشوقني إلى هذا الفن ومآثره، وتنازعني إلى تتبع داثره. فكنت أشتاق أن أرى في هذا موضوعا، وأصادف كتابا مجموعا، مما عني به الأقدمون، واقتفى أثرهم فيه المتأخرون. فلم يسمح بذلك الدهر العقيم، ولم يظفر بشيء منه الجد السقيم. ولما لم أذق من ذلك لملقا، ولم يزدد

القلب إلاّ اشتياقا، طفقت أجول في عرصات كتب الأدب، وكل ما له ماسة بكلام العرب. ولم أزل أتتبع ظلالها، واشتف بلالها، وأرعاها قنناً ووهادا، وأنتجعها فتوحا وعهادا؛ وأحتلبها شصائص وشكارى، وأعتنقها عونا وأبكارا، حتى التقطت من ثمين جوهرها، واقتطفت من يغيع زهرها، ما يشفي العليل، وينقع الغليل، ويميس ميس الغصن المروح، ويسري في الجسوم مسرى الروح. فلما امتلأ بحمد الله من ذلك الوطاب، وعاد البلح إلى الأرطاب، هممت أن أجمع ما علق في هذا الوقت بخاطري، مما ترقى إليه نظري وناظري، في كن يؤويه، ومجموع يحويه، حذارا من النسيان، عند تطاول الزمان. فألفت هذا المجموع في الأمثال، وأود عته كل دمية وتمثال. ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما انتهيت إليه، ووقفت عند تطوافي عليه، وتتميما للفائدة، وتكميلا للعائدة، مع قرب ما بين النوعين جدا، كما ستقف عليه عند التعرض لهما فصلا واحدا. فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا: جمهت به والجفن مغض على القذى ... وبالخد البلبال أصبح ذا خلدِ محاسن تزوي بالنسيم إذا سري ... فحيى محيا السوسن الغض والوردِ وتزري بهاء بالمطير من الربى ... وبالعذب للصادي وبالكاعب الرادِ لآلئ ما غواصها بمصادف ... لها صدفا في ملتفى أبحر الهندِ ولا حليت يوما بها جيد غاده ... ولا فصلت بالعسجد الصرد في عقدِ فرائد ما منهن إلاّ جريدة ... أعز على المرتاد في الأبلق الفردِ

ومع هذا فإني اعتذر لذوي النفوس الوقادة، والصيارفة النقادة، من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه. وكيف لا يعذر ذو بال متقسم، ووبال متكسم، وشخص لا يبين لمتوسم، مكلوم بفاغر من الخطوب متبسم، يرمق العيش برضا، ويقطع بسيط الحيرة طولا وعرضا، لا يترجى مددا، إلاّ كمدا. ولا يغتيق إلاّ عبرة، ولا يعتلف إلاّ زفرة، ولا يعد إلاّ ذنوب الدهر، ولا يعد إلاّ ذنوب نهر، في فتن تحول بين المرء وقلبه، وتذهل غيلان عن حبه، ودهر حال دون القريض، بالشجى والجريض، ورد الأوج إلى الحضيض، ولم يجعل بدا من مصادقة البغيض، وأعاد الصدور أعقابا، والنواصي أذنابا، وكدر كل صفو، وأورث كل شجو، وخلف من بينه كجلد الأجرب، وزباني العقرب، لا يتجرعون إلاّ علاقم، ولا يلتمسون إلاّ أراقم؛ أما أذنابها فرعراع، وشر شعاع، وفتنه وردها قعاع، وظلمة ليس بها شعاع؛ وأما ذراها فلا تعدو رضيعا تبكي المخالص الجرب لمصابه، وتشكو الصفر والبيض يد الضياع لصفر وطابه، وخليعا يذهب دهره ما بين الرخ والرخة، والفخ والفخة، وكلا النوعين قد أنزلهما أسود العين طرفه، وتضمنتهما القمران المشتبهان في بيت طرفة. وكان الأدب وسائر العلوم قديما إنّما يحيي غراسها، ويسني مراسها، ويطيب أنفاسها، ويحبب نفاسها الفضل، الهام والعدل الحام. فأما اليوم فلا ندى يستثمر الإبداع، ولا انتصاف يتلافى الانصداع. فأي علم يترجى، ممن زوال الروع عنده منتهى الرجا؟ قنوع من الغنيمة بالإياب، ومن الايراب، بنفاضة الجراب، ومن الشراب، بلمحة السراب. وكيف يمكن لمثلي أن يجمع بين كلمتين، فضلا عن فصلين؟ لكن لمّا لم يكن التجرع عند حلول الأقدار، من شيم الأحرار، قبضت على أحر من الجمر،

وتجلد على ما بي من ضمر، وتثنيت الضلوع على أذاها، وأغيضت الجفون عل قذاها. فجمعت هذه الأحرف على حين لم يبق من العلم إلاّ رسمه، ومن التحقيق إلاّ اسمه، من غير كبير عدة أعتمد عليها وأرجع عند المعوصات إليها، ولا وجود مصنف في هذا الفن أهتدي بمناره، وأستضيء بضوء نهاره، وإنما أقتدحت الفكر السادر، فاقترحت نوادر، جمعتها من كل أوب، وحدرتها من كل صوب، ولا أكاد مع ذلك أجد مثلا منه متكلما عليه، ومنبها فيه على ما يحتاج إليه؛ وإنّما يذكرها مجردا، فألتقطه مفردا. ثم أتحمل أعباء شرح ألفاظه ومعانيه، وأتكلف من دواوين العرب ومن بعدهم إحضار شواهده ومبانيه. فكنت في ذلك شبه الواضع وإن سبقت، والمخترع وإن نقلت. وأضفت إلى ذلك من نفائس النوادر دررا، ومن نكت الفوائد غررا. وجمعت فيه من شعر الأقدمين والمحدثين عيونا، وقضيت من غريبه ديونا، وما ذكرت شعرا إلاّ اخترته، ولا ألممت بمنزع إلاّ حررته، ولا دفعت إلى مبهم إلاّ أوضحته، ولا افتتحت بابا إلاّ أتممته، مع جملة وافرة من علم اللغة، تكون للمقتصر علية كفاية وبلغة، لولا أنني رمت بذل على تقتير، وإنباضا بلا توتير. فان جاء وفق الغرض، وقضى الحق المفترض، فلله تعالى المنة، ومنه الحول والمنة؛ وإن اتفق خلل، وفرط زلل، فمن نفسي الغبية، وجهالتي الربية، وفطنتي الخامدة، وقريحتي الجامدة. فإنّ مثلي ليس يكون أهلا للتعلم فضلا عن التعليم: ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيمُ ولمّا تم ما أرته بحمد ذي المن والفضل، وبرز من القوة إلى الفعل، سميته زهر الأكم، في الأمثال والحكم. وجعلته سمطين:

الأمثال وما يلتحق بها

السمط الأمل في الأمثال وما يلتحق بها، وفيه مقدمة، وخاتمة، وأربعة وثلاثين بابا تسعة وعشرون منها في الأمثال العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، الباب الوفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثين في الأعيان، الثاني والثلاثين في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في التشبيهات الشعرية. السمط الثاني في الحكم وما يلتحق بها، وفيه اثنان وثلاثون بابا: تسعة وعشرون في الحكم على حروف المعجم؛ الباب الوفي ثلاثين في حكم مجموعة، والحادي والثلاثون في النوادر، والثاني والثلاثون في الأوليات. فكان مجموع ذلك ستّة وستين بابا. والله أسأل أن يجعله عنده ذخيرة وحسنة، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا ممن أدلى بحبل الغرور حتى حان، وسقط العشاء به على سرحان، وأعوذ بوجهه الكريم ممن إذا رأى قبيحا فار بطره، فشمت بالمساوي وأشمت؛ وإذا رأى جميلا ثار حسده، فصمت عن المحاسن وأصمت. وأعوذ به من إطراء المداجن، ومغث المشاجن، وأعوذ به ممن يتعرف الحق بالرجال، أو يحدد فضل الله بالآجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.

السمط الأول

السمط الأول الأمثال وما يلتحق بها المقدمة الكلام في المقدمة وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: معنى المثل والحكمة أما الأول وهو المثل بفتحتين يرد على ثلاثة أضرب: الأول: الشبه، يقال: " هذا مثل ذلك " أي شبهة؛ ويقال أيضاً: " هو مثله بكسر فسكون، ومثيله، كما يقال شبه وشبيه " فإذا قيل: " هو مثيله، وهم أميثالهم بالتصغير " فقد أريد إنّ المشبه حقير، كما أن هذا حقير. ومن هذا قولهم: مسترد لمثيله، أي مثله يطلب ويشرح عليه. ومنه الأمثال من الناس وهو الأفضل، لأن معناه الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم خيارهم. قال تعالى:) إذ يقول أمثالهم طريقه. ويذهبا بطريقتكم المثلى (أي هي أشبه بالحق والفضيلة، وهي تأنيث أمثل - وتقول: مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به تمثيلا وتمثالا بفتح التاء، كالتسيار والتطوف. وأما التمثال بالكسر فالصورة، جمعها تماثيل. يقال: مثله له صورة له حتى كأنه ينظر إليه. وتمثل تصور. قال تعالى:) فتمثل لها بشراً سوياً. (وتماثل الشيئان: تشابها. ومثل الشيء: مقداره. وقوامه: مثلت بفلان مثلة، ومثلت به تمثيلا: أي نكلت به وأوقعت به عقوبة، من هذا، لان معناه أنّه جعله مثلا يرتدع به الغير. الضرب الثاني: الصفة. قال تعالى:) مثل الجنة التي وعد المتقون (أي صفتها ونحو هذا، وهو كثير في القرآن. وقال تعالى:) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى (أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى. ويقال في هذا المعنى أيضاً: مثال.

الضرب الثالث: القول السائر المشبه مضربه بمورده، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال في القرآن. قال تعالى:) وتلك الأمثال نضربها للناس (الآية. وعلى هذا شاع إطلاق اسم المثل إذا أطلق. وقال الراغب: الذي يقال على وجهين بمعنى المثل، نحو شَبه وشِبه، ونِقض ونَقض، قال بعضهم: وقد يعبر بها عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى) مثل الجنة (الآية. والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من معاني، أي معنى كان، وهو اعم والألفاظ الموضوعة للمشابهة. وذلك أن الند يقال فيما شاركه في جوهرية؛ والشكل يقال فيما شاركه في المساحة؛ والشبه يقال فيما يشاركه الكيفية فقط؛ والمساوي يقال فيما يشاركه الكمية فقط. والمثل عام في جميع ذلك. ولهذا إنما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال:) ليس كمثله شيء (انتهى. وقد ذكر غيره أن المماثلة هي المساواة من كل وجه، والمشابهة في اكثر الوجوه. والمناظرة هي المساواة من كل في شيء من الوجوه ولو في واحد، فيكون كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة أعم مما قبله. وكل ذلك مخالف لمّا في متون اللغة من تفسير المثل بالشبه، والعكس كما أوردنه قبل، ومخالف الظاهر صنيع البلغاء في باب التشبيه، حيث قسموا أوجه الشبه إلى ما يرجع إلى الشكل، وما يرجع إلى المقدار، وما يرجع إلى الكيفية، وغير ذلك، وسموا كل ذلك تشبيها وهو من الشبه، والأمر في هذا قريب. إذا عرفت هذا فأعلم إنّ مقصودنا من المثل بالذات في هذا الكتاب هو ثالث الأقسام السابقة وهو المثل السائر. وللناس في تعريفه عبارات. فقيل ما مر من إنّه القول السائر المشبه مضربه بمورده؛ وقيل هو قول مركب مشهور شبه مضربه بمورده، وهما بمعنى. فقيد السائر والمشهور يخرج ما لم يشتهر ويسر من الأقوال كلها. وقيل تشبيه المضرب أي المحل الذي ضرب فيه الآن بالمورد أي المحل الذي ورد فيه أولا يخرج ما اشتهر ولم يقع فيه هذا التشبيه ككثير من الحكم والأوامر والنواهي الشرعية مثلا. وقيل المثل هو الحجة، وهو صحيح لأنه يحتج به كما سيتبين في فائدته. وقال المرزوقي: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلها بذاتها، تتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح

قصده بها من غير تغير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني. ولذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، وأستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما يستجاز في سائر الكلام. وقال الراغب: المثل عبارة عن قول في شيء يشبهه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: " الصيف ضيعت اللبن " فان هذا القول يشبه قولك: " أهملت وقت الإمكان أمرك. " قلت: وتلخيص القول في هذا المقام أن المثل هو قول يرد أولا لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه فيستعمل فيها شائعا ذائعا على وجه تشبيهها بالمورد الأول؛ غير إنّ الاستعمال على وجهين: أحدهما أن يكون على وجه التشبيه الصريح، سواء صرح بالأداة كقولهم: " كمجير أم عامر. " وقولهم: " كالحادي وليس له بعير. " أو لم يصرح كقولهم: " تركته ترك الصبي ظله. " وهو كثير. الثاني إنّ لا يكون وجه التشبيه الصريح كقولهم: " الصيف ضيعت اللبن. "؛ وقولهم: " هان علي الأملس ما لاقى الدبر " ونحو ذلك، وهو اكثر من الأول. أما الوجه الأول فهو تشبيه من التشبيهات، إلى إنّه سار وذاع في بابه فعد مثلا سائرا لمّا عرفت من أن التشبيه كله تمثيل. ومن ثم تجد قدماء اللغويين وأهل العربية يطلقون المثل على المجاز، ويقيدون ما كان سائرا منه بالمثل السائر أو بأنه من أمثال العرب ليفهم ذلك. وأما الوجه الثاني فهو في مورده لا تشبيه فيه، ولكن يستعمل في مضاربه على وجه تشبيهها بالمورد من غير تصريح " بالتشبيه "، بل على أن يستعار اللفظ المستعمل في المورد الأول للشيء الشبيه بذلك. فقول القائل أولا للمرأة التي طلقها: " الصيف ضيعت اللبن " لا يريد تشبيها أصلا؛ وإنّما أراد انك فرطت في اللبن

وتسببت في ضياعه عند زمن الصيف، إذ كنت تطلبين فراقي. ثم انك اليوم إذا رأيت أحد 3 فرط في حاجة زمن إمكانها، ثم جعل يطلبها ثم أدبرت، ساغ لك أن لك أن تشبه هيئته بهيئة من ترك اللبن أو محله في وقت، ثم جعل يطلبه في وقت آخر، فتقول له لأجل هذه المشابهة: " الصيف ضيعت اللبن " أي حالتك هذه حالة التي قيل لها: " الصيف ضيعت اللبن " ولأجل هذا المعنى وهذا التقدير، تنقل لفظ المثل كما قيل أولا من غير تغيير، حتى انك في هذا المثل بعينه تكسر التاء في ضيعت وإن كنت تخاطب ذكرا. وهكذا سائر الأمثال، وهذا يسمى عند الأدباء استعارة تمثيلية، ويسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وهي إحدى قسمي الاستعارة التصريحية التي هي أن تشبه شيئاً بشيء، ثم تنقل لفظ المشبه به وتطلق على المشبه لأجله هذا التشبيه إطلاقا كأنه وضع له من غير تصريح بالتشبيه لا بالمشبه به على وجه يشعر بالتشبيه؛ غير أن لفظ المشبه به قد يكون فردا كلفظ الأسد الذي تنقله من السبع الموضوع هو له أوّلاً إلى الرجل الشبيه به في الجرأة. وقد يكون مركبا كلفظ " الصيف ضيعت اللبن " الذي تنقله من هيئة من ضيع اللبن إلى هيئة من ضيع حاجة من الحوائج. وهي الاستعارة في التركيب والتمثيل على سبيل الاستعارة. والأمثال الداخلة في الوجه الثاني كلها من هذا النمط. وقد سمعت تقدير ذلك وعرفت وجه عدم تغييرها، إذ كما أن الفرد إذا نقل على وجه الاستعارة لا سبيل إلى تغييره، كذلك المركب. فان قيل: فقد ظهر في الوجه الثاني أن للمثل مورد 3 ومضربا، وإنّ الثاني يشبه بالأول؛ وأما في الوجه الأول فإنما ذلك مجرد تشبيه سائر يشترك فيه الناس كلهم، فأنى يكون به مورد خاص؟ وقي معناه نحو قولهم: " اعز من مخ البعوض " و " اكفر من حمار " ونحو ذلك وهو كثير، فكيف يعقل في هذا كله ما ذكر في تعريف المثل من تشبيه المضرب بالمورد حتى يشمله التعريف؟ قلنا: لا يلزم من كونه تشبيها أن لا يسبق إليه ناطق " ينطق به أوّلاً في شيء من

الأشياء، بل لا مرية من إنّه لابد من أن يقدم إليه أحد " ينطق به بادئ بدء كما تقول: إنّ قولهم كحاطب ليل أوّل من قاله اكثم بن صيفي، وقولهم: امنع من عقاب الجو أوّل من قاله عدي بن نصر اللخمي في الزباء وهكذا غيرهما، سواء علمنا نحن ذلك أم لا، لأن هذا شأن الوجه الثاني أيضاً. قاله الأول في شيء كان ذاك مورده فتشبه به مضاربه، ولا فرق في أن التشبيه في هذا صريح دون القسم الثاني. وها هنا نظر في أمرين: أحدهما أنا قد بينا في الوجه الثاني وهو التمثيل على سبيل الاستعارة أن التشبيه فيه وقع بين هيئتين، وعلى ذلك قررها علماء البيان. ونحن ها هنا إذا قلنا مثلا فيمن أحسن إلى من لا يشكر أو يضر: هو كمجير أم عامر، فظاهر اللفظ أنه تشبيه هذا الشخص بذاك الشخص، لا الصورة بالصورة، وإن كان يصح أن يقال: المراد أن حالة هذا الشخص كحالة المجير على تقدير المضاف؛ لكنا في غنى عن هذا التقدير. الثاني: إنّ المشبه به هنا مثلا أو بحالته هو مجير أم عامر حقيقة أعني الشخص الذي أجارها فبقرت بطنه وهو عنصر المثل إنّما وقع بعد ذلك بانرئى شخص شبيه به فقال: هو كمجير أم عامر، ثم سار وشاع. فان جعلنا الذي صدر فيه هذا التشبيه أوّل صدوره موردا، فليس هو الذي تشبه سائر المضارب به، بل هذا المورد بعينه وكل ما بعده متشابهات بالمجير الحقيقي. وإنّ جعلنا المورد هو العنصر الأول، فهو لم يقع عليه لفظ المثل حتى ينقل منه إلى شيء آخر ويقال إنّه شبه بما ورد فيه أولا، وإنّما وقع يعده. على أن لقائل أن يقول أيضاً: يصح أن يكون الناس في مثل هذا مثلا سمعوا حديث مجير أم عامر، فجعلوا يشبهون كلهم. فمن الجائز أن يرى ذلك جماعة أو يسمعوه، ثم يشبه كل واحد على حدة من غير أن يكون لذلك سابق مخصص يتبع ويجعل مكان تشبيهه موردا. وهكذا كل ما يشبه هذا المثل. فقد علمت بهذا أن هذا الوجه مخالف للوجه الثاني، وأن في التعاريف السابقة ما فيها إلاّ

على تسامح أو على أنها دائرة على وجه الثاني فقط دون الأول، وهو بعيد إلاّ أنّ يكون ثم إصلاح. وأعلم إنّ المثل بهذا المعنى الثالث مأخوذ من المعنى الأول وهو الشبه، لأنّه تمثيل، إلاّ أنه سار. وقيل من المثال وهو المقدار كما سبق، لأنّه يجعل مقياسا لغيره، وهو راجع إلى ذلك أيضاً. وقيل إنّما سمي مثلا لأنّه ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به ويعظ ويأمر ويزجر. والماثل: الشخص المنتصب من قولهم: طلل ماثل، أي شاخص، وقد يقال: رسم ماثل أي دارس، وهو من الأضداد. إذا عرفت هذا كله وعرفت معنى استعمال لفظ المثل في المضرب تشبيها بالمورد، فاعلم إنّ ذلك هو معنى ضرب المثل يقال: ضرب الشيء مثلا، وضرب به، وتمثله، وتمثل به، وهو معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وفسر المفسرون ضرب المثل الواقع في قوله تعالى:) إنَّ الله لا يستحي أ، يضربَ مثلاً (الآية، وقوله:) وتلكَ الأمثالُ نضربها للناس (الآية، بالتبيين والجعل والوصف. وفي الكشاف: ضرب المثال: اعتماده وصنعه. وقال الراغب: الضرب: اقاع شيء على شيء. ز بتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدرهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه. وبذلك شبه السجية فقيل لها الضريبة والطبية، والضرب في الأرض الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الفحل الناقة تشبيها بالضرب بالمطرقة، كقولك: طرقها تشبيها بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة. وتشبيها بضرب الخيمة قال تعالى:) ضربتُ عليهمُ الذلةُ (أي التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ربت عليه. ومنه استغير فضربنا على آذانهم في الكهف، وضرب اللبن بعضه ببعض بالخلط، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. قال الله تعالى:) ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً (انتهى.

وقيل: ضرب المثل مأخوذ من الضريب أي المثيل له. تقول: هو ضريبه، وهما من ضرب واحد، لأنه جعل للأول مثل. وقيل: من ضرب الطين على الجدار. وقيل: من ضرب الخاتم ونحوه، لان التطبيق واقع بين المثل ومضربه كما في الخاتم على الطابع. وأما الأمر الثاني وهو الحكمة فللناس في معناها أقوال عدة. واعلم أوّلاً إنّ الحكمة هي فعلة من الحكم أو الأحكام. أما الحكم فير بمعنيين: أحدهما القضاء؛ يقال: حكم الشارع أو القاضي بكذا حكم بضم فسكون؛ الثاني العلم؛ يقال: حكم حكما وحكمة. وأما الأحكام فيكون أيضاً بمعنيين: أحدهما الإتقان؛ يقال: أحكم فلان كذا إحكاما إذا أتقنه؛ الثاني المنع؛ يقال: أحكمت السفيه وحكمته أيضا أي منعته وأخذت على يده. قال جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... أني أخاف عليكم أن أغضبا وأحكمت الفرس وحكمته جعلت له حكمة. والحكمة بفتحتين ما أحاط بحنكي الفرس وعلى أنفه من اللجام. وفيها العذران. قال زهير: القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا والقد الجلد، والأبق شبه الكتان. ويقال: هو القنب وكانت تصنع منه الحكمات عند العرب، لأن غرضهم الشدة والشجاعة لا الزينة، إذا عرفت هذا فقيل: الحكمة هي العمل، وقيل: الإتقان، وقيل: العدل، والحلم، والنبوءة، والقرآن، والإنجيل. وقيل: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. قال عياض في قوله صلى الله عليه وسلم: الحكمة يمانية، الحكمة عند العرب كل ما يمنع من الجهل، وبذلك سمي الحاكم لمنعه الظلم ومنه الحديث: إنّ من الشعر

لحكمة، أي ما يمنع من الجهل وينفع وينهى عنه، والحكم والحكمة واحد. وقد قيل ذلك في قوله:) وأتيناه الحكم صبياً (وقيل: حكمة أي عدلا يدعو إلى الخير والرشد ومحامد الأخلاق. وقيل الحكمة إصابة القول من غير نبوءة. وقيل ذلك في قوله:) اللهم علمه الحكمة. (وقيل: الحكمة العلم بالدين. وقيل: العلم بالقرآن وقيل: الخشية. وقيل: الفهم عن الله في أمره ونهيه. وهذا كله يصح في معنى قوله: الحكمة يمانية وقوله:) علمهُ الحكمةَ (لا سيما مع قوله: الفقه يمان. وقد قيل: الحكمة النبوءة. وقيل هذا في قوله:) يؤتي الحكمة من يشاء (انتهى. وقال أبن عطية: أختلف الناس في الحكمة في هذا الآية، فقال أبن عباس: المعرفة بالقرآن فقهه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه. وقال قتادة: الحكمة الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الحكمة الإصابة في القول والفعل. وقال أبن زيد، وأوه زيد أبن سالم: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك: الحكمة المعرفة بالدين والفقه فيه والإتباع له. وروى عنه أبن القاسم إنّه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضاً: الحكمة العقل في الدين والعمل. وقال الربيع: الحكمة الخشية. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " رأس كل شيء خشية الله تعالى " وقال إبراهيم: الحكمة الفهم وقال الحسن: هي الورع. انتهى. وقال النووي: الحكمة فيها أقوال كثيرة مضطربة، اقتصر كل من قائليها على مقتضى صفة الحكمة. وقد صفا لنا منها إنّها عبارة العمل المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله تعالى، المصحوبه بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن إتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقد تطلق الحكمة على القرآن. وهو مشتمل على ذلك. وقد يطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، ونحو ذلك. انتهى. وقال بعضهم: أصح ما قيل في الحكمة إنّها وضع الشيء في موضعه، أو الفهم في كتاب الله. انتهى. ورد الغزالي الحكمة إلى العقل. قال في كتاب نهذيب النفس من الأحياء أمهات الأخلاق وأصولها الأربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل قال: ونعني بالحكمة حال النفس بها تدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الأختيارية. وقال الراغب: الحكمة إصابة الحق بالقول والفعل. فالحكمة من الله تعالى

ومعرفة الأشياء، وإجادها على غاية الإحكام؛ ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله) ولقد آتينا لقمان الحكمة (، ونبه على جملتها بما وصفه بها. فإذا قيل في الله حكيم، فمعناها إذا وصف به. ومن هذا الوجه قال: أليس الله بأحكم الحاكمين. وإذا وصف به القرآن، فلتضمنه معنى الحكمة، نحو:) تلك آيات الكتاب الحكيم (. وقيل الحكيم المحكم، نحو أحكمت آياته. وكلاهما صحيح، فانه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان. انتهى. والعبارات عنهما كثيرة، ولا حاجة إلى التطويل بها، فان مرجعها شيء واحد؛ وإنّما سبب الاختلاف كثيرة اللوازم والخواص، فعبر عنها بما حضره من خواصها. نعم، ربما يظهر من بعض العبارات السوابق إنّ الاختلاف الحقيقي كالقول بأنها إصابة القول من غير نبوءة، مع القول بأنها النبوءة، ونحوه. لكن جل ما تقدم حائم على الإصابة في الأقوال والأفعال والفهوم. وفعلها حكم بالضم؛ يقال: حكم الرجل كشرف، فهو حكيم قال النمر بن تولب: وأبغض بغيضكم بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحما أي أن تكون حكيما. وقال النابغة: أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمدِ يقول: أصب في أمري ولا تخطيء كإصابة الزرقاء في عد الحمام، ولا تقبل قول من يسعى إليك في. وقيل: الحكم بمعنى القضاء. وفعله بالفتح كما مر. والحكم أعم من الحكمة، كما قال الراغب: فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة. قلت: وهو صحيح في الحكمة الخيرة. وقد علمت أن الحكمة تكون في الأعمال والأخلاق أيضاً كما سنبينه. فبهذا تكون أخص من وجه لا مطلقا. وتقدمت الإشارة إلى الخلاف في اشتقاق الحكمة أيضاً فقيل: من الإحكام وهو الإتقان؛ وقيل: من المنع كما مر أخذا من حكمة اللجام. وتقدم اللفظان معا وهو فائدة تقديمها لشرح المادة. والكل محتمل، والأقرب المنع.

ولا يبعد أن يكون الإحكام هو الإتقان من المنع أيضاً، كأن المحكم قد منع من الاختلال والفساد، وأبع عن مظان العيب والاعتراض. وتقدم أن الحكم الذي هو القضاء هو أيضاً منع للظلم، فصارت المادة كلها من المنع، والله اعلم. فإذا تتبعنا متفرقات المعاني المقولة في الحكمة على ما مر وجمعناها من ذلك أنها تتعلق بالقلوب والجوارح من الأيدي والألسنة. أما في القلوب، فعلى معنى الإصابة في اعتقاداتها وتصورها للأشياء وفي أخلاقها من الحلم، والعفو، والعفة، والعدل، ونحو ذلك. وأما في الأيدي فعلى معنى الإصابة في أفعالها وإتقان صنائعها؛ وكذا غيرها من الأعضاء بالجري على السنن في أفعالها، وكذا القصود. وأما في الألسنة فعلى معنى الإصابة في التعبير عن المعاني بإصابة المحز وتطبيق المفصل. غير أنا نقول: لابد في هذا كله عند إطلاق لفظ الحكمة ولفظ الحكيم عند أهل كل عرف من اعتبار دقة في ذلك، ولطافة، ونوع غرابة، وعظم فائدة، باعتبار أهل ذلك العرف، حتى يكون المعنى بالإصابة المذكورة إصابة خاصة لا مطلق الإصابة، للقطع بأنا لا نسمي اليوم من قال الله واحد ومحمّد رسوله صلى الله عليه وسلم حكيما وإن كان في غاية الإصابة؛ ولا من بنى بناء معتادا، أو صاغ صياغة معتادة. وقد نبه على هذا المعنى بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. فقال: المراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، وتدل على معنى فيه دقة، انتهى. ولأجل هذا يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: قلوب اليونان، وألسنة العرب، وأيدي أهل الصين. وما ذلك إلاّ لاختصاص اليونان بميزة التبحر في علم الأشياء ومعرفة القوانين وإتقان البراهين، واختصاص أهل الصين بميزة عمل الصنائع العجيبة وإتقان الأعمال الغريبة؛ واختصاص العرب بمزية إبانة المعاني العجيبة، والأمثال والمواعظ المفيدة، في أشعارها وخطبها. ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ من الشعر لحكمة. ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال: يا عجاج، بلغني أنك لا تقدر على الهجاء. فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية أمكنه خراب الأخبية. قال: فما يمنعك من ذلك؟ قال: إنّ لنا عزا يمنعنا من أن نظلم، وإنّ لنا حاما يمنعنا من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال عبد الملك:

لكلماتك أشعر من الشعر؛ فأنى لك عز يمنعك من أن تنظم؟ قال: الأدب البارع، والفهم الناصع. قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن يظلم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال: يا عجاج، لقد أصبحت حكيما. قال: وما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين؟ انتهى. وستسمع أن شاء الله من كلام حكماء العرب ما تقضي منه الأرب. والكلام المذكور هو أيضاً مصداق ما مر من تعلق الحكمة بالقلوب والألسن وساير الجوارح، والله الموفق. وقد اتضح من هذا الفرق بين المثل والحكمة، وذلك فيما يحضر فكري الآن من ثلاثة أمور: أحدها أن الحكمة عامة في الأقوال والأفعال، والمثل خاص بالأقوال. ثانيها أن المثل وقع فيه التشبيه كما مر، دون الحكمة. ثالثها أن المقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ. ويرد على الأول إنّه فرق بحسب أعمية المورد، ولا مساس له بالحقيقة. فلم يفد إلاّ أن الحكمة الفعلية تباين المثل ولا نزاع فيه، وليس بمفيد في الأقوال إذا تنوزع فيها أن شيئا منها حكمة أو مثل. على أنه قد يكون التمثيل بالفعل أيضاً كتصوير شكل المثلث لمن لا يعرفه. ومن ثم يعد من جملة الرسوم المعروفات الأشياء التعريف بالمثال. ويرد على الثاني أنه إن عنى تشبيه المضرب بالمورد حقيقة، فقد مر أن نوعا كبيرا من الأمثال لا يجري فيه ذلك على ما ينبغي؛ وإن عني مطلق التشبيه، فهو واقع في الحكم كثيرا، كقولهم: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. على أنه قد عد من الأمثال ملا تشبيه فيه أصلا بوجه كقولهم: من قرع الباب ولجَّ ولج. وقولهم: " الرباح مع السماح " ونحو ذلك. ويرد على الثالث أن الاحتجاج صحيح في الحكم أيضاً، بل جلها قضايا كليات وقوانين تورد بحيث يصلح في كل أمر تكون حجة فيه محذوفة إحدى مقدمتيها. فإذا قلنا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء أمكن إنّ نقول: إن فلان فسدت بطانته، وهو المقدمة الباقية، فيعلم أن فلانا هو كمن غص بالماء. وهذا الاستدلال هو الكاشف عن الصواب والخطأ في الأنظار والعلوم، وهو معنى الحكمة بالحقيقة؛ وإنما قلنا جل الحكم قضايا، لأن ذلك هو

الصريح، وقد يكون منها غير ذلك، كالأوامر والنواهي؛ لكنها تتخذ قضايا بحسب الزوم. فالحكم كلها تصلح للاحتجاج، وهي بصدده كالأمثال؛ على أن الأمثال ليست كلها بصدد الاحتجاج، بل هي بالأصالة للتصوير؛ وإنّما تصلح للاحتجاج عندما يراد بها التصديق من مدح، أو ذم، أو تزيين، أو إظهار رغبة في شيء أو عدم مبالاة، أو نحو ذلك على ما ستقف عليه قريبا إن شاء الله. ويجاب عنها، أما أوّلا فبأن القصد الفرق بين المثل والحكمة مطلقا أعم من الموردي والحقيقي، وهذا كاف في الأول وليس مقتصر عليه حتى يعد قاصرا. وأما ثانيا فبأنها نعني تشبيها خاصا لا مطلقا، أما في الوجه الثاني من الأمثال فهو تشبيه المضرب بالمورد كما مر. وأما في الأول فلا يخفى إن لم يكن فيها ذلك على وجهه أن فيها تشبيها بعنصر خاص معين هو سبب جريان ذلك الكلام ووقوع ذلك التشبيه على ما تقدم توضيحه، وليس ذلك بمنظور في الحكم. وأما ثالثا فبأن الاحتجاج في المثل واقع بالفعل حيثما أطلق على سبيل الخصوص، والحكمة إنّما تراد عامة على وجه الصلاح للاحتجاج بها في الخصوصيات لا على الفعل، فالاحتجاج خلاف الاحتجاج. نعم، يبقى من الأمثال ما لم يقع فيه تشبيه لا صريحا ولا مقدرا. والحق أن من الأمثال ما لا يشتبه بالحكمة في ورد ولا صدر، نحو: الصيف ضيعت اللبن، ومن الحكم ما لا يشتبه بالمثل ككثير من الحكم الإنشائية، ويبقى وراء ذلك وسط يتجول فيه الفريقان كالمثل السابق. فان كثيرا منها قد يعد مثلا تارة، وحكمة تارة، ولا فرق يظهر إلاّ بالحيثية، وهي إنها إن سيقت ملاحظا فيها التشبيه فمثل؛ وإن سيقت ملاحظا فيه التنبيه أو الوعظ أو إثبات قانون أو فائدة ينتفع بها الناس في معاشهم أو معادهم فحكمة. وهذا معروف بالاستقراء، ز شاهده الذوق بعد معرفة أن مرجع الحكمة الإصابة، ومرجع المثل التشبيه كما مر، حتى إن من يضرب للناس أمثالا غريبة ينتفعون بها يصح أن يقال إنه حكيم لأنه مصيب في ذلك المثل الذي ضربه، وهكذا يقال في التمثيل الفعلي السابق. فإن من صور صورة المسدس مثلا عد منه ذلك تمثيلا من حيث التشبيه، وحكمه من الإصابة والإتقان، ولا تنافي بين الغرضين. ومن وسع نطاق هذا الاعتبار أمكنه في كل مثل وحكمة هذا المقدار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الثاني

الفصل الثاني فائدة المثل والحكمة وفضلهما أما الأول وهو المثل، فلا يخفى على ذي ميز ولا يشتبه على ذي لب ما جعل الله تعالى فيه من الحكمة، وأودع فيه من الفائدة، وناط به من الحاجة؛ فأن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المغلق، وبه يصور المعنى في الذهن ويكشف المعمي عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم وقطع تشوف المعترض. وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات، حتى شاع من كلام عامة المتعلمين والمعلمين قولهم: " بأمثالها تعرف أو تتبين الأشياء " وسر ذلك إنّ المثل يصور المعول بصورة المحسوس، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك. وتحقيق ذلك أن العقول، وأن كانت تدرك المعلومات، لكنها غير مستقلة بنفسها غلبا في إدراك جميعها ولا جلها استقلالا صرفا لا سيما القاصر. وذلك أن العقول إنما تستقل بإدراك أوائل الضروريات التي توجد في غرائزها ولا تدري لها سبباً غير اختراع الفاعل المختار. وما سوى ذلك فالعقول فيها إما مفتقرة إلى الحواس، كالمعلومات التجريبية التي موادها محسوسة بإحدى الحواس؛ وإما مستعينة بها ضرباً من الاستعانة على طريق التمثيل والتقرير ونحوه. وذلك في غير ذلك. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى حصر العلوم في المحسوسات وعكس آخرون، ونحن لا نقول شيئاً من ذلك، وليس هذا محل تقرير المقاتلين ولا ردهما، ولكنا نشير إلى ما نحن بصدده نوع إشارة فنقول: إنّ الإدراك، سواء قلنا إنّه يكن بالعقل وبالحواس الخمس معا، أو قلنا إنّه بالعقل فقط

بواسطة الحواس، لا يخفى أن ما كان من قبل الحواس الخمس هو أظهر واسهل، ولذا شاركت فيه الحيوانات العجم والإنسان، وأن ما لم يكن من ذلك بنوع تعلق أصلا أخفى وأصعب وإسراف، وبمزية الاختصاص به كان الإنسان اشرف. فكل ما يدركه بحسب العادة الجارية استقراء، إما شيء وصل إليه من طرق الحواس، فيقع فيه بعد تأديه إليه منها نوع من التصور ونوع من التصرف بالتحليل والتركيب؛ وأما شيء يتأد إليه بالحواس، وهو إما شيء يجده عند نفسه أوّلاً كعلمه بان الموجود لا يكون معدوما، وأن الشيء الواحد لا يكون زمانا واحدا في مكانين، ونحو ذلك؛ وإما شيء يجد نظيره عنده بنوع من التشابه، أو يتأدى إليه نظيره من الحواس، كعلمنا بأن لله علما وقدرة وحلما وغضبا، لمّا علمنا في أنفسنا من علم وحلم وغضب، وإن كان الحادث خلاف قديم، لكن بينها ضرب من التشابه؛ ولولا ما علمناه بالوجدان من ذلك ما قدرنا أن نثبت نظيره في جانب الباري، كما قال تعالى:) وفي أنفسكم أفلا تبصرون. (وقال صلى الله عليه وسلم: " من عرف نفسه عرف ربه ". إلاّ إن يخرق الله تعالى العادة في العقل فأنه مستعد لكل العلوم، وهكذا سائر الصفات. وكإدراكنا بحراً من الزئبق، وجبلا من الياقوت، فانه لم يتأد إلى العقل قط من الحواس لعدم وجوده ولا وجود نظيره عنده كالأول؛ ولكن تأدى إليه نظير من الحواس، وكذلك إنّه تأدى إليه البحار من الماء والجبال من الأرض؛ وهو يعلم إنّ بحر الماء مثلا متركب من القطرات المائية؛ فإذا أدرك قطرات الزئبق بمشاهدة الحواس جوز أن تتركب وتتجمع اجتماع قطرات الماء، وتصور من ذلك بحراً؛ وكذلك في أحجار الياقوت التي يراها، وما تصوره القوة الوهمية من أشياء لا حقيقة لها إنما ذلك من هذا القبيل، فإنها تستند إلى الحواس فتصور أشياء عل سبيل ما تأدى إليها منها، إلا إنها تحل ذلك حيث لا محل، كما تصور للغول أنيبا وأظفارا. فقد علم إن العقل غير واصل في العادة إلى غائب صرف من الأمور النظرية؛ وإنما مرجع إدراكه المحسوس هو أو نظيره بالحس الظاهر أو الباطن أو ما مادته ذلك. وكثيراً ما يقع له الغلط في البابين لاشتباه الوهم أو لاشتباه الحس حتى فر الفارون إلى حصر العلوم في المحسوسات حذاراً من الوهم والالتباس الوقع بسببه، وفر الآخرون إلى حصرها في المعقولات حذاراً من اشتباه الحس،

وهما النوعان المذكوران أنفا، وقد بين ذلك في محله. والحق حصول العلم من الجانبين، إلا أن الإنسان في مبدأ فطرته ليس عنده غالباً إلا العقل الهيولائي الغريزي، وهو في إدراكاته الفعلية شبيه بالبهيمة من حيث إنّه إنما يدرك غالب الأمور المحسوسة، فلا يزال يربو عقله وينمو إدراكه، وكلما ازداد النفس من ألفة المحسوسات والاستئناس بها والركون إليها أزيد من ذلك وأكثر، وكأنها هي السابقة وهي أظهر. فإذا كمل إدراكه شيئاً ما بحيث أدرك الضروريات وأستعد للنظريات وصار له عقل بالملكة، كانت النفس إذ ذلك محيطة بعظم المحسوسات، قوية الأستاناس بها، متمكنة من الألفة بها. فأن كان صاحبها مع ذلك من العوام التاركين للعلوم والمعارف، وهم الأكثر، فقد اندفع في المحسوسات وأهمل عقله الخاص بنفسه في مألوفاتها، وصار شبيها بالبهائم في إنّه لا يدرك إلاّ هذه المحسوسات التي تدركها؛ وإنما يفوقها بضرب من التصرف ضعيف فيها. فمتى ذكر لهذا شيء مما وراء ما يشاهد ولم يكن من الضروريات الأوائل الحاصلة له وما أشبهها، احتاج غالبا إلى إنّ يضرب له مثل بشيء مما يشاهد، ويصور له بصورته إما فهما وأما اطمئنانا واستئناسا. وإنّ كان من الخواص الخائصين في العلوم وإدراك المعقولات، فقد علمت مما مر إنّ العقل عادة إنّما يدرك بنفسه الضروريات، وما سوى ذلك إنما يدركه بواسطة تأديه أو تأدى نظيره إليه من الحواس الظاهرة أو الباطنة. ومع ذلك، فالمتأدى إليه إنّما هو أمر جزئي بالضرورة، فمتى حاول جنسا من ذلك لم يكن الجنس بنفسه من حيث إنّه جنس متأديا بشيء منها، فأحتاج إلى أن يمثل بصورة من ذلك الجنس فيدركها لأنها هي التي كانت تتأدى إليه ليقيس عليها غيرها، وبذلك يمكنه أن يدرك القاعدة والقانون، وهو الذي نعني بالجنس في هذا المحل حيث أدرك مادته إلاّ إنّ يكون له من لطف الإدراك وقوة الذكاء ما يستحضر به تلك الصور وينتزع منها مراده من غير أن يصور منها شيء مخصوص، فهذا يستغني عن التمثيل، وقليل ما هم. ومع ذلك فالنفس قد قلنا إنّها قوية الاستئناس بالمحسوسات لوضوحها وسبقها:

أتاني هواها بل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا فإذا خيض بها في شيء من غير ذلك جمت إلى مألوفها حنين الثكلى وقالت: ما الحب إلى للحبيب الأول واستصعبت ذلك وخليت دونه، فاحتيج إلى أن يصور لها ذلك بصورة شيء مما كانت تألفه لتستأنس به وتطمئن. والاستئناس بالمألوف مركوز في جلية النفوس، حتى إنّه ورد في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا زج به في النور وفارقه جبريل أسمعه الله تعالى كلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه تأنيسا له به في ذلك المقام الهائل وهذه حكمة ربانية تعجز العقول عن الإحاطة بها وحدها، فكيف بملكوت السماوات والأرض؟ فتبارك الله أحسن الخالقين! ثم إنّه كلما عرف الإنسان ضربا من العلوم ومارسه ألفته نفسه واستأنست به؛ فإذا ارتحل عنه إلى منزلة أخرى حنت النفس إلى الأولى المألوفة أيضاً، فاحتيج إلى أن يضرب لها مثل بشيء مما ألفه أو نظيره لتستأنس به ونطمئن إليه حتى لا يختص التمثيل بالمحسوسات الصرفة، وهكذا أبدا. فقد تبين بهذه الكلمات الاحتجاج إلى التمثيل ووجه الاحتجاج، وإنّه لا غنى عنه لعام ولا خاص؛ غير أن الاحتجاج قد يكون ضروريا، وذلك عند العجز عن الوصول إلى المطلوب بدونه، وقد يكون تحسينيا، وذلك عند الاحتياج إلى الاستعانة به والاستئناس والاطمئنان. هذا الأصل، وقد يكون الاحتياج لأغراض آخر ستأتي. هذا ما ألهمني الله تعالى في هذا المقام على سبيل الإجمال، وأما بسطه كل البسط فلا يسعه الوقت، وفيما ذكرناه كفاية، إذ ليس من الغرض الإكثار إذا فهم المقصود وأدرك المراد. فقد ظهر بهذا عظم فائدة التمثيل، وبذلك تبين فضله. وقد ضرب الله تعالى الحكيم في القرآن ضروبا من الأمثال للخلق، وقال تعالى:) إنَّ اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثلاً ما بعوضة فما فوقها (الآية. وقال تعالى:

) وتلك الأمثالُ نضربها للناسِ (الآية فعدها منة على الناس لمّا فيها من عظيم الفوائد. وقال تعالى:) وسكنتم في مساكن الذينَ ظلموا أنفسهم وتبينَ لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (إشارة إلى أنه لا إلتباس ولا إشكال بعد ضرب المثل ومع ذلك لم يعتبروا. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال الكثيرة للناس، وسيأتي من جميع ذلك ما فيه غنية في محله أن شاء الله تعالى. ولم يزل إلى الآن المدرسون وشيوخ التعليم والتربية يضربون الأمثال في كل أمر، وكذا غيرهم. وكتب عمر رضي الله عنه إلى الأنصار: علموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وما حسن من الشعر. فهذا حض على تعلم الأمثال خصوصا السائرة، فإنها أقطع للنزاع والشغب، وحض على تعلم الشعر. ولمّا بعث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رسله إلى رستم صاحب جيوش فارس أيام القادسية فرجعوا، وبعث أليه آخرين يدعونه إلى الإسلام أو الجزية، قال لهم رستم: إني قد كلمت منكم نفرا، ولو أنهم فهموا عني لرجوت أن تفهموا، والأمثال أوضح من كثير من الكلام؛ وسأضرب لكم مثلكم: إنكم كنتم في بلاء وجهد وجوع، فأتيتم بلادنا فلم نمنعكم، فلما أكلتم طعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم ذلك لقومكم فأتيتم بهم. فمثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال: وما ثعلب؟ فانطلق الثعلب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعت عليه سد عليه صاحب الكرم مدخلها فقتلها. وقال لهم أيضاً: مثلكم كمثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الحرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعلت الأخر تنقل وتخرج وتكلمه في الخروج فيأبى عليها، حتى إذا انتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، ضاق عليه المخرج فلم يقدر على الخروج منها، فشكا الغلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقالوا: لست بخارج حتى تعود إلى حالتك الأولى. فكف وجوع نفسه وبقي في الجرة حتى أتاه صاحبها فقتله. وقال لهم أيضاً: لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ما خلاكم يا معشر

العرب! ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع. ومثلكم في هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار وقال: " من يوصيني إليه وله درهمان؟ حتى يدخلنه لا ينهنهه أحد " إلا عصاه. فلما دخله غرق ونشب وقال يخرجني وله أربعة دراهم؟. وضرب لهم امثلاً أخرى على هذا النمط، فلما فرغ تكلم سعد رضي الله عنهم بما جاءوا به من الأعذار والإنذار. ثم قالوا: وإما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد والهزل. ولكنا سنضرب لكم مثلكم: إنّ مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقيمون على جناتها. فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم. فلما لم يستجيبوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه، فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها؛ فان ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبداً. ولمّا عظم أمر المسلمين وولي يزدجرد على فارس، وهاله أمر المسلمين، بعث إلى رستم المتقدم ذكره فقال له: انك أنت اليوم رجل أهل فارس، وقد رأيت ما نزل يهم؛ وإني أريد أن أوجهك في هذا الوجه فأنت لها. فأظهر له رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحببت أن انظر فيما لديك لأعلم ما عندك؛ فصف لي العرب وفعلهم، وصف لي العجم وما يقولون عنهم، فقال له رستم: صفة الذباب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إنّما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على ذلك فلم تصب، فأفهم عني إنّما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مراقب عند جبل تأوي في ذراه الطيور تبيت في أوكارها. فلما أصبحت الطير أبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم، وجعلت كلما شد منها طائر انقضت عليه العقاب فاختطفته حتى أفنتها. فلو نهضت بجميعها نهضة واحدة لنجت واشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلاّ واحداً. فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فأعمل على قدر ذلك. وكان لبعض الملوك وزيران أحدهما كان يأمر ببذل الأموال لاجتلاب قلوب الرجال،

ويقول انهم أنفع وأعود من المال. فقام الآخر ونهاه عن ذلك وقال: أمسك مالك فهو خير لك، متى كان عندك المال واحتجت إلى الرجال وجدتهم. فقال له الملك لابد لهذا من آيه؛ فمثل أي مثلا يتضح به ما ذكرته، فان الأمثال بها تنكشف الأشياء، فقال الوزير: علي بإناء عسل. فجيء به فقال: خمروه. ثم قال للملك: هل ترى هنا من نحل؟ قال: لا فأتى بإناء العسل، فلم يلبث أن جاءت النحل من كل أوب. فقال: هكذا الرجال على المال! فقام الوزي الآخر وقال: خمروا الإناء إلى الليل. فلما كان الظلام أخرج الإناء، فما تحركت نحلة أصلا ولا وقعت عليه. وهذا تشبه قصة الهررة والشمع، وستأتيك قريبا في الأمثال، وتتبع الحكايات يخرج عن العرض؛ وإنّما ذكرنا ما تقدم تنبيها على شدة اعتناء الناس بالتمثيل وعظم فائدته. وكان الحكماء الأولون مثلوا الدنيا بطائر رأسه المشرق وجناحاه اليمن والشام وذنبه المغرب، فبينوا بهذا المثل دناءة المغرب وخسته، لأن أخس ما في الطائر ذنبه. فلما خرج اليونان إلى الجزيرة واستخرجوا فيها المياه وغرسوا الأشجار وبنوا القصور حتى عادت الجزيرة احسن ما يكون قالوا: رجع الطائر طاووسا! لشرف ذنب الطاووس. ومن ما جعل الله تعالى فيما يراه النائم من أمثلة الأشياء، قضى العجب من حكمة الله تعالى وما أودعه في عالم المثال، وهو بحر عميق ليس من غرضنا ولسنا من رجال الخوض فيه، وما ذكرناه في الأمثال من حيث هي وستأتيك زيادة في الأمثال الشعرية في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله. وما ذكرناه أيضاً هو فائدة التمثيل الإصابة، لأن مرجع الغرض من التمثيل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، وفائدته العظمى التبيين والتوضيح كما مر. وقد يرد لأغراض أخرى غير ذلك، كالمدح أو الذم أو التزيين أو التشبيه أو غير ذلك مما قرر في علم الأدب؛ لكن مرجع الجميع إلى الفائدة الأولى وهي التبيين والتوضيح. فإنا إذا مثلنا أحدا بالبحر قصدنا إلى مدحه بالكرم، أو بالأسد قصدنا إلى مدحه بالشجاعة. فالقصد الأصلي بيان هذا الخصوصية التي يبلغ بها هذه الدرجة المخصوصة من الجود والجرأة لأنها هي المتلبسة علينا؛ لكن قد يتناسى هذا المعنى الأصلي ويفهم أن التمثيل سيف للمدح والذم حتى كأنه لا توضيح هنالك أصلا، ومثله في النعت. وأما سوق التمثيل لبيان الامكان أو بيان المقدار فلا إشكال أنه من المعنى الأصلي

وهذا كله في التمثيل من حيث هو في الجملة. وأما الأمثال السائرة التي نحن بصددها فتكون هي أيضاً في الجملة للبيان والتوضيح، لكن لمقاصد كثيرة وضروب من الأغراض لا تكاد تنحصر؛ وستتلى عليك في هذا الكتاب. وأمثال القرآن كذلك بعد دلالتها على توضيح المراد وتقريبه وتصويره للعقل تكون لمقاصد كثيرة من مدح وذم ودلالة على تفاوت في الثواب، وعلى إحباط عمل وتذكير ووعض وحث وزجر واعتبار وغير ذلك مما يسرد على سمعك فيها إن شاء الله تعالى. وكذا أمثال الحديث النبوي، وستأتي إن شاء الله تعالى، والله الموفق. وأما الثاني وهو الحكمة، فلا يخفا أيضاً فائدتها وفضلها. وقد اثني عليها في الكتاب والسنة. قال الله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا. وقال: وآتيناه الحكمة وفصل الحطاب. وقال: وآتيناه الحكم صبيا. ونحو ذلك من الآي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. ويروى: الكلمة الحكمة ضالة كل حكيم. فإذا وجدها فهو أحق بها. وقال صلى الله عليه وسلم: كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها. وغير ذلك من الأحاديث والآثار التي يطول ذكرها. وقد أطبق العقلاء على مدحها والاعتناء بها، وليس الغرض إلاّ بيان فضلها وفائدتها فقط، وكيف يحسن منا ذلك وهي عين الفائدة والفضل؟: وكيف يصبح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وإنّما الغرض هو بيان ما هو الممدوح من مصدوق اسم الحكمة، وإذا الغلط قد وقع في مثل هذا لكثير من العقلاء من جهة شمول لفض الحكمة لأمور كثيرة بحسب كل عرف واصطلاح، بعض تلك الأمور ممدوح دون بعض، فكان كل من يحصل له شيء منها يجعله من مصدوقات الحكمة الممدوحة، فيتمدح بما انتحله ويثني عليه ويضيف ما ورد من

الثناء عليها إلى نفسه. فرأينا أن نشير إلى هذا المقام بضرب من الإشارة قريب يتميز به الطيب من الخبيث وبعرف به الفائز من المغرور. وبسط ذلك يستدعي موضوعا على حدة، فلنقتصر منه على لمحة برق فنقول: قد عرفت فيها مر من تعريف الحكمة أن فيها أقوالا كثيرة مرجعها فيما أوردناه من كلام السلف ضربان: خاص وعام. فالخاص القول بأنها النبوءة والقرآن أو علم القرآن، أو الفهم أو الخشية لله تعالى أو فهم القرآن أو العمل له أو الأتباع له، أو إصابة القول من غير نبوءة ونحو هذا مما تقدم. والعام القول بأنها الإصابة في القول والفعل ونحوه. فأما إذا فسرناها باوجه الخاص وقلنا هي النبوءة، أو علم القرآن، أو العلم به، أو فهمه والاتباع له، أو الخشية، فلا خفاء في مدحها والثناء عليها في هذا المعنى وما أشبهه من كل ما يسترضي به الله تعالى ويتقرب به إليه كالعقل والعدل والحلم؛ إلاّ إنّه لابد في ذلك من تحقيق الحقيقة وحفظ الحيثية وهو تحقيق الإصابة، إذ ذلك هو الحكمة ومناط التقرب المذكور. فأما ما ينتحله المتنبئ الكاذب من النبوءة، وما ينتحله الملحد من فهم كتاب الله تعالى والبدعي من الاتباع، فكل ذلك قد يسميه صاحبه حكمة ويسمي نفسه به حكيما، وليس من الممدوح بل ذلك مذموم غاية الذم، وليس ذلك بنبوءة ولا فهم لكتاب الله إلاّ في تسميته، فقط، وكذا ما أشبه هذا وإن قلنا هي إصابة القول من غير نبوءة ونحو ذلك، فحكمه بعد. وأما إذا فسرناه بالمعنى العام، فقد علمت إنّها متناولة لجميع الإصابات في القول والأفعال والاعتقادات، ودخل في ذلك ما تقدم وغيره. ومجموع ذلك ثلاثة أقسام: القسم الأول: الحكم القولية، وهي كلها محدودة من حيث ذاتها بقيد أن تكون بحكمة في نفس الأمر، وإلاّ فقد يطعن ما ليس بحكمة حكمة، إذ قد يعد من الحكمة ما دل على إيثار العاجلة على الآجلة أو اتباع الهوى، أو على العدوان والعلو في الأرض وسفك الدماء، وعلى اكتساب النبوءة برياضة النفس وطول المجاهدة وبلوغ كمال المعرفة وكمال النفس بذلك من غير تعقيد بقانون الشرع، وعلى إيثار انقطاع الناس إلى الله تعالى بالإعراض عن نبيهم وعدم الالتفات إليه أصلا، توهما أن ذلك هو اللائق بتوحيد الباري والتعبد له ونحو ذلك؛ فكل ذلك وما أشبهه هوس باطل ليس من الحكمة في

ورد ولا صدر، فان الحكمة مرجعها الإصابة كما ذكرنا قبل. ومن هذا النمط ما دونه حكماء الفلاسفة في العلم الإلهي من فنون الفلسفة من الهوس والأباطيل، والاعتقادات الزائغة والحجج الواهية، وكذا ما لنظرائهم من الطبيعيين وأشباههم من قرف المعتزلة وطوائف المبتدعة الضالين المضلين. وقد كان للفلاسفة في غير الإلهيات حكم تقتبس سراجا منيرا. وتورد زلالاً نميرا، فلما خاضوا في العلم الإلهي لم يهتدوا غالبا إلى الحق فيه، ولم يؤذن لهم في الدخول إلى ذلك الجناب النزيه. ومن يضلل الله فما له من هاد. ثم إنّ هذه الحكم القولية، وإن قلنا إنّها محمودة، فهي تختلف شرفا وفضلا بحسب جلالتها وما دلت عليه درجات كثيرة لا تكاد تنحصر. هذا بحسب ذاتها، وأما قائلها الذي صدرت منه فغير واجب أن يكون محمودا دائما ولا أن يعد حكيما، بل قد يكون محمودا، وذلك إذا علم ما يقول وعمل به وتخلف به ولم يكذب فعله وخلقه قوله، وقد يكون مذموما، وذلك إذا كان بخلاف ذلك بحيث يكون من علماء اللسان الثرثارين المتفيهقين، حتى إنّ المتكلمين بالحكم الشرعية من علماء الظاهر الذين تخالف أفعالهم أخلاقهم أقوالهم، ونحوهم من الوعاظ والقصاص في غاية الذم. ومن ثم قيل في ما مر: الحكمة هي الفهم في القرآن والعمل به والإتباع له. وقد تصدر الحكمة ممن هو عن مقتضاها خال وعن فضلها بمعزل. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن. كما مر. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: العلم ضالة المؤمن حيث وجده أخذه وقال: خذ الحكمة ممن سمعتموها، فانه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي. فأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أنه ينبغي للعاقل أن لا يبرح متتبعا للحكمة طالبا لها، كما يطلب الرجل ضالته وينشدها؛ فان الحكمة هي ضالة العاقل لأنها غذاء عقله، فهي أكبر الحاجات وأعظم المطلوبات. وفي

الحديث تأديب الطالب المتعلم وتنبيهه على أنه لا يأنف مكن أخذ الحكمة حيثما وجدها، وإنّه يقبلها من كل من سمعها منه شريفا كان أو مشروفا عالما أو جاهلا برا أو فاجرا؛ ولا يستكبر عن أحد أن يتعلم منه كان فوقه أو دونه. فان طالب الضالة إذا وجدها فهو لا محالة يأخذها ولا يلتفت إلى خسة الآتي بها ولا شرفه، وأو ترك ضالته ومطلوبه الذي كان ينشده لخسة من جاء بها كان أحمق. وقد روي أن الحجاج خطب فقال: إنّ الله تعالى أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤونة الدنيا، فليته كفانا مؤونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا! فقال الحسن: ضالة مؤمن عند فاسق فلنأخذها. وخطب خازم بن خزيمة فقال: إنّ يوما أسكر الكبار، وشيب الصغار، ليوم عسير، شره مستطير. فقال سفيان الثوري: حكمة من جوف خرب، ثم أخرج ألواحا فكتبها. ولهذا ورد: أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه. وروي أن رجلا في بني إسرائيل حكيما ألف ثلاثمائة كتاب في الحكمة واشتهر فرأى إنّ له عند الله منزلة، فأوحى الله إلى نبي ذلك الوقت أن قل لفلان: ملأت الدنيا نفاقا. القسم الثاني في الحكم الفعلية بناء على إطلاق الحكمة عليه كما مر، وهي على تفصيل: فما كان منها خدمة لله تعالى وقيامها بوظائف تكاليفه كله من فعل الواجبات وأنواع القربات، فهو كله محمود. وهذا النوع إنّما يعد حكمة بحسب ما انضم من افهم في كتاب الله تعالى كما مر، فهو جزء منها. وما يرجع إلى إتقان الصنائع العجيبة والحرف المهمة، فهذا كله محمود عادة، وأما شرعا فإنما يحمد إذا كان مقربا إلى الله تعالى مباشرة أو بواسطة أو وسائط، على حكم التفصيل في سائر المباحات. ووراء هذين القسمين قسمان آخران: أحدهما تدبير الذهب والفضة ومعالجة تبديل الأشياء وصناعة الاكسير، وهذا النوع هو المعروف عند كثير من الأوائل بالحكمة، وهو محمود عندهم غاية ومن اجل علومهم، وإطلاق الحكمة عليه من حيث الإصابة والإتقان مع الغرابة واللطافة. وللمتكلمين في ذلك كلام وبحث في إنّ ذلك ممكن أمثال لا، وفي إنّه يعد إمكانه واقع أمثال لا. فهي أربعة مباحث قررت في محلها وليس من غرضنا التعرض لها، غير أنا نقول جريا على ما نحن بصدده:

إن قلنا إن ذلك محال أو غير موجود، فالاشتغال به غير محمود لا عادة ولا شرعا، بل هو في غاية الذم لأنه تضييع للعمر بلا طائل وهوس وجنون. وإن قلنا أنه يوجد ويقع، فلا نشك بالاستقراء إنّه في غاية القلة والندور، وإنّه لا يقع عليه إلا الفرد من الناس في الدهور. وقد اعترف أهل هذا العلم إنّه اخطأ الناس طريقته ولم يعثروا على التحقيق فيه فضاع وبقي اسما بلا مسمى، فنقول: إنّه ينبغي أن يكون مذموما على هذا الوجه أيضاً كأنه تضييع للعمر غالبا بلا طائل، وعدول عن الأسباب المنصوبة للخلق في الاكتساب إلى سبب نادر قليل الجدوى مع كثرة الاين والتعب، منبت في القلب من الحرص والطمع ما تنبته الديم في الأرض الأريضة، ولا داء على القلب شر من الحرص والطمع! نعم، لو عثر على شيء صحيح منه بلا تعمل حرام ولا انجرار طمع واتخذ سببا، كان من جملة المباحات والتحق بحكم الصنائع السابقة. ثانيهما خفة اليد والاحتيال بالشعبذة وأنواع النيروجات، فان كثيرا من هذا النوع قد يسمى حكمة أيضاً لمّا فيه من الغرابة، وهو ليس بممدوح في الجملة لا شرعا ولا عادة عند العقول السليمة. نعم، فيه تفصيل من جهة الحرمة والإباحة يطول بنا التعرف له، وليس كلامنا بالقصد في الفقهيات. الثالث الحكم القلبية، وهي إذا عممنا فيها وتوسعنا ضربان: ما يرجع إلى الأخلاق كالحلم والعدل والزهد والعفة والصمت ونحوها، وهذا النوع كله محمود شرعا وعادة، لأن من يطلق الحكمة في هذا الضرب أخذا مما مر إنّما يطلقها على المحمود من الأخلاق لا على مطلق الخلق حتى يدخل المذموم. وفي الحديث: الصمت حكم وقليل فاعله. وقد يذم بعض هذه الأخلاق المحمودة عند غوغاء الناس العمي البصائر، كالصمت عند المتشدقين الثرثارين والعفاف عند المجانين الفاسقين ونحو ذلك. ولا عبرة بهذا الذم، وهو في الحقيقة ذم للمذموم لا للمحمود، إلا أنه يقع الخطأ للذام والغلط. وذلك أن الصمت مثلا ليس بمحمود دائما، بل في محل يليق به، فقد يرى الجاهل محل الصمت غير محل له، بل محلا للكلام فيذم الصمت وقصده ذم الصمت المذموم، ولو عرف أن ذلك محله ما ذمه وما يرجع إلى

الفصل الثالث:

الاعتقادات وهو كله أيضاً محمود، لأن الحكمة هنا أيضاً إنما تطلق فيما كان علما إذ هو محل الإصابة والعلم كله في نفسه محمود، أعني وصول النفس إلى شيء، لأن ذلك كمال النفس. وقد يعرض العلم الذم من جهة المعلوم، وللعالم الذم من جهة المخالفة عمله لعلمه وعدم جريه على موجبه كما قلنا في اللسان، أو من عدم طائل يعود به عليه مع إضاعة العمر النفيس فيه، أو من الاشتغال به عما هو أولى منه وجوبا أو ندبا أو نحو ذلك. ثم العلم يتفاوت بعد ذلك في الشرف بحسب شرف معلومة وثمرته. وهذا النوع هو الحكمة حقيقة، وكل ما تقدم من الأفعال والأقوال إنّما هو مظهرها وعنوانها عند التحقيق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الفصل الثالث: فضل الشعر ذكرنا في هذا الفصل شيء مما ورد في فضل الشعر، لأنا قد أوردنا في هذا الكتاب جملة وافرة من الشعر؛ فرب جاهل أو جافي الطبع أو متنسك نسكا أعجميا يذم الشعر فيسري ذمه إلى ما في الكتاب ثم إلى الكتاب، فرأينا أن ننبه على شيء من فضله، ونحن عند التحقيق في غنى عن ذلك، بعد ذكر فضل المثل والحكمة، لأن جل ما أوردناه في الكتاب من هذين النوعين، وما سوى ذلك إما توابع وتتمات، وإما شواهد من كلام العرب مما اشترك في جلبها استشهادا كل ذي علم؛ ولكنا نذكر ذلك تقوية. اعلم أنّ الكلام العربي هو أشرف الكلام وأجله، كما وقع في الحديث: إنّ سيد الكلام العربي، وسيد الأنبياء محمد، وسيد الكتب القرآن. وفي الحديث أيضاً: القرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. واعلم أن كلام العرب نوعان: منثور ومنظوم، وكان كله في أصله نثرا. فلما احتاجت العرب إلى ذكر أيامها وأعرافها، وتخليد مكارمها ومآثرها، توهموا أعاريض الشعر وأوزانه، وجعلوه آلة لذلك وعونا على حفظ ما ذكر وإبقائه، لسهولته على الطبع وميله إليه دون المنثور. ومن ثم يقال أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من المنظوم، ومع ذلك لم يحفظ من المنثور عشره، ولم يضع من المنظوم عشره: فكان للشعر بهذا فضل على النثر.

ومما ورد في فضله قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة، وتقدم تفسير الحكمة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً إنّه قال: إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكما، أي كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه. قيل أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها، وقد تقدم أن الحكم بمعنى الحكمة. وقيل الحكم هنا القضاء، بمعنى إنّه ينفذ أمره ويتبع ما يقضي به ويسلم له فيما حكم به كما يكون ذلك في حكم الحاكم؛ ولذلك وضع أقواما ورفع آخرين. وممن وضعهم بنو نمير، إذ هجاهم جرير، وكانوا إحدى جمرات العرب قيل ذلك؛ وبنو العجلان، إذ هجاهم النجاشي، وكانوا قبل ذلك يفتخرون بهذه التسمية، لأن أباهم سمي بذلك لتعجيله القرى للضيف، والربيع بن زياد العبسي، إذ هجاه لبيد، وكان قبل ذلك أحد ندماء النعمان بن المنذر، وكان لا يواكل غيره إذا حضر. وممن رفعه بنو أنف الناقة، حيث مدحهم الحطيئة فقلب هذا اللقب الذي كان يخزون به مدحا وفخرا؛ وعبد العزيز بن حنتم المعروف بالمحلق، حيث مدحه الأعشى وكان قبل ذلك خاملا؛ وهرم بن سنان، حيث مدحه زهير فشرف بذلك على أخيه خارجة بن سنان، وكان خارجة قبل ذلك أنبه منه وإن كانا معا سيدين؛ وغي هؤلاء. وتفصيل هذه الوقائع يطول بنا في هذا المحل، وهي مشهورة وسيأتي كثير منها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسل به الضغائن وروي عن عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرا ينشد عليه الشعر. وروي أن عمر رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فو الله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت! ويحكى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة

يمشي بين يديه وهو يقول: خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر رضي الله عنه: يا أبن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خل عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من وقع النبل. ولمّا هجت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه: اهجهم ومعك جبريل روح القدس فلهجائك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام! وقال عمر رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقال أيضاً: تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى. وكتب إلى أبي موسى الشعري: مر من قبلك يتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب. وقال معاوية رضي الله عنه: يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: رووا أولادكم الشعر واجعلوه أكبر همكم وأكثر آدابكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس ووضعت رجلي في ركابه لأفر من شدة البلاء، فما حملني على الثبات إلا ذكر أبيات عمرو بن الأطنابة: أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح وقال بعضهم: كنا عند عمار بصفين، وعنده شاعر ينشده، فقال رجل: أيقال فيكم الشعر وانتم أصحاب محمّد وأصحاب بدر؟ فقال له عمار: إنّ شئت فاسمع، وإنّ شئت فأذهب. أنا لمّا هجانا المشركون قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: قولوا لهم كما قال لكم، فكنا نعلمه الاماء بالمدينة. وكان أبن عباس يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فان الشعر ديوان العرب. وقال أيضاً: إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر، فانه ديوان العرب. وكان كلما سئل عن حرف من القرآن أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد عليه شعرا. وقيل لسعيد بن المسيب إنّ قموا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكا عجميا! وسئل أبن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان إنّها تنقض الوضوء فقال: نبئت إنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ثم قام فأم الناس وقيل بل أنشد: لق أصبحت عروس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت وسئل ابن عباس هل الشعر من رفث القول، فأنشد: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا وقال إنّما الرفث عند النساء، ثم احزم للصلاة. وكان أبو السائب المخزومي يقول أما والله لو كان الشعر محرما لوردنا الرحبة كل يوم مرارا، يعني الرحبة التي تقام فيها الحدود. وقال عبد الملك لبنيه عليكم بالأدب، فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا، وكانت عائشة أم المؤمنين، وأبن عباس، وعمر، رضي الله عنهم أجمعين من رواية الشعر بالمحل الذي لا يدرك، حتى حكي عن عائشة إنّها قالت: رويت للبيد أثنى عشر ألف بين خلاف ما رويت لغيره. وكذا غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم وما أهل البيت النبوي إلاّ من قال الشعر، غير النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الخلفاء الأربعة. وقد ذكر المعتنون بهذا الشأن ما ثبت عن كل منهم من الشعر؛ والتعرض لذلك يطول بنا، وليس من غرضنا نحن في هذا الكتاب إلاّ مجرد التنبيه؛ وما تقدم كاف في مدح الشعر وإباحته والرد على منكريه.

وقد يحتج ذامه بوله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا. ومحل هذا الحديث عند العلماء أربعة أوجه: أحدهما أن المراد بهذا الشعر المذكور هنا الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع في رواية: شعر هجيت به بهذه الزيادة. وروى أن أبا هريرة، لمّا روى الحديث المذكور قالت عائشة رضي الله عنها لم يحفظ، إنّما قال شعرا هجيت به. ولا شك أن هذا النوع من الشعر لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكيف إذا أميلا الجوف فيه؟!. ثانيها أنه ورد لأقوام كانوا في غاية الإقبال على الشعر فجاء على وجه المبالغة زجرا لهم ليقبلوا على القرآن والذكر والعبادة. ثلثهما أنه في حق من أولع به حتى شغله عن الذكر والقرآن والعبادة، لأن ذلك هو يعني الامتلاء. وأما كان الغالب عليه القرآن والكر. فليس جوفه ممتلئل. رابعها أنه في الشعر المذموم دمن الممدوح، وسنبينه. وقوله صلى الله عليه وسلم: أنَ من البيان لسحرا، لعلماء في هذا الحديث وجهان: أحدهما أنه ورد مورد الذم فشبهه بعمل السحر لغلبته على القلب وجليه إياها، وتزيينه الباطل وتحسينه القبيح وتقبيحه الحسن. ويكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: ولعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فأنما أقطع له من النار. ثانيهما أنه ورد مورد المدح بمعنى أنه تمال به القلوب، ويسترضى به الساخط، ويستنزل به الصعب. ويشهد ليس لهذا قوله في نفس الحديث: إن من الشعر لحكمة. وهذا قول أكثر أهل العلم والأدب، لأن الله تعالى مدح البيان، وهو شامل للشعر والنثر. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله حاجته فأحسن في السؤال: هذا والله السحر الحلال! وقضى حاجته. وأما قوله تعالى:) والشعراءُ يتبعهمُ الغلوون (الآية، فالمراد بها المشركون المشتغلون بالاذاية للنبي صلى الله عليه وسلم وهجائه. وأما الشعراء

المؤمنون كحسان وكعب وأبن رواحة وغيرهم فليسوا بداخلين. ولذلك استثناهم الله تعالى فقال:) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللهَ كثيرا (أي لم يشغلهم الشعر عن الذكر، وانتصروا من بعد ما ظلموا، أي بهجوم الكفار الهاجين للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما، كما قال الله تعالى:) لا يحب اللهُ الجهر بالسوءِ من القول إلاّ من ظُلم (. الآية المذكورة هي فصل الخطاب فيما مر. نعم، قال أبن عطيه: يدخل في الآية كل مخلط بهجو أو يمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، كما يدخل في الاستثناء كل من كان بخلافه. فقد بان بهذا فضل الشعر وأن لا باس به أصلا، غير إنّه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فان هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى، أو لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه في الدنيا والترغيب في الآخرة، فهو مندوب إليه مرغوب فيه؛ وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضاً؛ وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب المؤذي، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء، وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة، إلاّ أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يجرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القئل والمخاطب. وتحقيق ذلك أن الشعر كلام كالنثر، فكل ما يستقبح في النثر يستقبح في الشعر. فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، ز ما لم يوافق الحق فلا خير فيه. وقالصلى الله عليه وسلم: إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب. وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر كلام فيه حسن وقبيح، فخذ الحسن ودع القبيح. وقال أبن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه

هذا، مع أن الشعر قد حسنت فيه أشياء لم تجسم في النثر، وذلك مما يفضله به الأدباء؛ منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته فانه جائز في الشعر، إلى إنّ في المبالغة والإيغال تفصيلا مذكورا في علم الأدب. وافضل الأمور الصدق ومما قرب منه؛ ومنها تزكية الإنسان نفسه ومدحه إياها، ومدح الإنسان بحضرته، ومدح المحرمات من الخمر والنساء الأجانب ونحو ذلك، ومنها خطاب الممدوح مثلا باسمه وبكاف الخطاب مما يكون في النثر استنقاصا، ونحو هذا. وقصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه اللامية متكفلة بأكثرها، وقد أنشدها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، بل أثابه بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين أو عشرين ألف درهم، وبقيت يتوارثها الخلفاء ويلبسونها في الجمع والأعياد تبركا بها. وقيل إنّه أعطاه مع البردة مائة من الإبل ويحكى إنّ الأحوص قال يخاطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ توقف عن إعطاء الشعراء: وقبلك ما أعطى هنيدة جبلة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والاصائل وبالجملة، ففي كل كلام ينطق به اللسان شعرا أو نثرا، إنشاء أو حكاية، فوائد وآفات فصلها علماء الشعر وحرروها، فمن ظفر بالفائدة وسلم عن الآفات فهو الذي ينبغي له أن يتكلم إما وجوبا أو ندبا بحسب الفائدة؛ ومن لم يظفر بالفائدة ووقع في الآفة أو توقعها فهو الذي لا ينبغي له أن يتكلم إما تحريما أو كراهة بحسب الآفة. ومن تعرضتا عنده فهو الذي ينبغي له أن يرجح أحد الجانبين وإلا كف، فإن درء المفسدة أهم، ومن عدمهما معا فهو الذي يباح له الكلام، ولذكر الله أكبر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الرابع:

الفصل الرابع: الأمثال الشعرية اعلم أنا لمّا ذكرنا حكم الشعر عموما كما مر، أردنا أن نردفه بما كان منه مثلا خصوصا. وهذا النوع داخل فيما للذي قبله وداخل أيضاً فيما للمثل مطلقا، وقد فرغنا قبل من شرحه وفضله؛ غير أن هذا النوع له خصوصية كلام وبيان تعلق الغرض بذكره، وجعلنا الكلام في هذا الفصل في أربعة أمور بها يتم الغرض إن شاء الله تعالى: الأول في التمثل بالشعر وما ورد فيه يقال: تمثل بالبيت إذا أنشده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود؛ إلى إنّه يقول ويأتيك من لم تزوده بالأخبار. ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أشد أنك رسول الله، لقوله تعالى: وما علمناه الشعر. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين فتمثلهم بالشعر شائع ذائع لا يحصى، وهو دليل ما تقدم في الفصل قبل هذا. ومما تمثل به أبو بكر رضي الله عنه وهو على المنبر قول الغنوى: جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت أبو أن يملونا وأو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت هم أنزلونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت وأراد بذلك ما فعل بهم الأنصار من الإحسان. وأما عمر رضي الله عنه فكان لا ينزل به أمر ألا تمثل فيه بشعر، وكذا عائشة رضي الله عنها ومما تمثلت به قول لبيد: ذهب اللذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب ورأت النبي صلى الله عليه وسلم يوما يعرق جبينه وهو في عمل، وجعل عرقه يتلألأ نورا، فقالت له: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره فقال لها: وما يقول يا عائشة أبو كبير؟ قالت: يقول: ومبرأ من كل غير حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلهل فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليها فقبل ما بين عينيها وقال: جزاك الله يا عائشة خيرا. ما سررت بشيء كسروري بك! ومما تمثلت به فاطمة رضي الله عنها يوم توفي أبوها عليه الصلاة والسلام قول فاطمة قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاحِ قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البيرار وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراحِ وإذا دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحِ وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد بان حدّ فوارسي ورماحي ومما تمثل به علي كرم الله وجهه وهو على المنبر، معنفا للقوم في تقديمهم أبا موسى الأشعري في التحكيم بعد ما حذرهم منه قول دريد بن الصمة: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغدِ ومما تمثل به معاوية رضي الله عنه قول قيس بن زهير: أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم

على لمحة قبيلة يزداد بها الناظر بصيرة على ما ذكرنا في المثل الأول. ولو تتبعنا ما تمثل به الصحابة في الوقائع، والتابعون وهلم جرا لكان وحده موضوعا. الثاني في المثل الشعري وأقسامه. اعلم إنّ المثل معروف الحقيقة مما قدمنا فيه، وهو يكون نثرا تارة، وذلك أكثره، وقد يكون نظما. فان المثل، وإنّ كان سائرا، لكنه إذا نظم كان أسير له وأسهل على اللسان وأحسن، ثم إنّه قد يقع بيتا كاملا، وقد يقع نصف بيت أو ربعه أو نحو ذلك من الأجزاء. وسئل حماد الراوية بأي شيء فضل النابغة، فقال: إنّ النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت، مثل قوله: حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: وليس وراء الله للمرء مطلب، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: أي الرجال المهذب. ومن ورود المثل بيتا مستقلا قول طرفة مثلا: لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لك الطول المرخى وثنياه باليد وقول أبي الطيب: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد وهو كثير. ومن وروده نصف بيت الشطر الثاني من قول الحماسي مثلا: عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق ومن ورده ربعا الربع الأخير من قوله: ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلاّ أخو ثقة فأنظر بمن تثق

واعلم إنّه قد لا يتم المثل إلاّ على بيتين، كقول الأول: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توافقه بخلت، وبعض البخل حزم وقوة ... ولم يبتذلك المال إلى حقائقه وقد لا يتم إلى على اكثر، كقول بعض الأدباء: لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البر وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحر وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبر لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقر وقد يكون في البيت الواحد مثلان أو ثلاثة أو أربعة أو اكثر. فمن الأول قول امرئ القيس: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل ومن الثاني قول ضابىء بن الحارث: وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحرس الفتى ويصيب

ومن الثالث قول الأول: فالهم فضل وطول العيش منقطع ... والرزق منقسم وروح الله منتظر ومما فيه خمسة قول بعض الأدباء: خاطر تفد وأرتد تجد وأكرم تسد ... وانقد تقد وأصغر تعد الأكبرا ومما فيه ستة قول أبن رشيق: خذ العفو وأب الضيم واجتنب الأذى ... وأغض تسد وأرفق تنل وأسخ تحمد الثالث فيما ينبغي له ويستحسن، وهو ثلاثة أشياء: أحدها أن يكون متزنا قائما بنفسه غير محتاج إلى غيره، وذلك إما أن يكون بيتا مستقلا، كقول طرفة السابق، وكقول السموأل: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل ونحوه وهو كثير. وأما أن يكون جزءا من البيت مستقلا كقول الحماسي السابق، وكقول جميل بن عبد الله: أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان أن يتغيرا فان الشطر الثاني مثل مستقل بالوزن والمعنى، وكذا الأول، أما إن كان جزءا محتاجا غير مستقل، كقول النابغة المذكور: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال مهذب فان قوله: أي الرجال المهذب مثل، إلى إنّه محتاج في الوزن إلى ما قبله. وكذا قول الحماسي: وإن أبيتم فأنا معشر أنف ... لا نطعم الخسف إنّ السم مشروب

فان قوله: إنّ السم مشروب مثل، وليس بمستقل، فهو كله غير مستحسن. ووجهه فيما يظهر لي ما تقدم من أن المثل إنّما نظم ليكون أيسر وأشهر. فإذا كان بيتا مستقلا حسن إنشاده من غير حشو هنالك ولا التباس؛ وإن كان شطرا تام الوزن، حسن أيضاً إنشاده وحده من غير حشو ولا فساد في النظم ولا خروج عن حكم الشعر؛ وإن كان جزءا غير تام الوزن فهو إن انشد البت المحتوى عليه كله كان ما زاد على المثل حشوا مع وقوع الالتباس تارة فيما أريد من البيت إذا لم يتعين المقصود، كما في قول النابغة: أي الرجال المهذب، فانه مثل وباقي البيت أيضاً مثل، وقد لا يدرى أيهما المراد بعينه، وإن كانا يرجعان إلى مقصود واحد. واكثر الأبيات يصح التمثيل بها فيقع الالتباس. وإن لم ينشد البيت كله، بل اقتصر على المثل وحده صار نثرا وبطلت فائدة نظمه. أما ما لا يتم من الأمثال في بيتين أو اكثر كما مر فهو من التام الوزن دون المعنى، وهو عيب التضمين. ويتقوى العيب بكون التضمين بين مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل، ونحو ذلك. ويسهل بكونه بين الشرط والجزاء، أو بين القسم والجواب ونحوه. وتفصيله مذكور في علم القوافي. ثانيهما أن يكون سالما عن التكلف سلسا، تستلذه الأسماع ليكون أوقع له في النفس وأعون على الشيوع. فان الشعر إذا كان متكلفا كان المنثور أحسن منه. وقد يكون التكلف بالإكثار من الأمثال في البيت الواحد أو في القصيدة، فان تعاطي الجمع بين أربعة أمثال في البيت لا يخلو عن تكلف، فضلا عن الخمسة والستة، وكذا في القصيدة. ولذلك قال أبن رشيد في عمدته: وهذه الأشياء في الشعر إنّما هي نبذة تستحسن، ونكت تستطرف، مع القلة وفي الندرة؛ فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة. فلا يجب للشعر أن يكون مثلا كله وحكمة، كشعر صالح بن عبد القدوس: فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة، لإكثاره من ذلك. وكذا لا يجب أن يكون استعارة وبديعا كشعر أبي تمام ثم قال: وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء لمّا تدعو إليه من

التكلف لاسيما إن كان في الطبع ايسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه، لمّا يحتاج أليه من شاهد العقل، واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر أن يكون أيضاً خاليا مغسولا من هذه الحلى فارغا ككثير من شعر أشجع وأشباهه. ثالثها أن يكون متحرى فيه الصدق وحسن الإصابة. وهذا لا يختص بالمثل الشعري، فان المثل كله أفضله أصدقه وأحكمه وأوجزه؛ وإنّما اشترطت الوجازة احتزازا عن التكلف والإملال: فان قوة البشر غالبا قاصرة عن إيراد الأمثال الطوال من غير تكلف ولا موجب إملال؛ ومن ثم وردت في القرآن الذي هو درجة الإعجاز قصارا وطوالا، وحسنت كلها لانتفاء المانع. فمن القصار قوله تعالى:) كمثل الحمار يحمل أسفارا (ونحوه، ومن الطوال قوله تعالى:) إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماءِ (الآية؛ وقوله تعالى:) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرياح (الآية، و) الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ (الآية، ونحو ذلك وهو كثير. وكذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقعت قصارا وطوالا وحسنت لصدورها عن المصطفى الذي هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فمن قصارها قولهصلى الله عليه وسلم: الناس كأسنان المشط، وقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ونحو ذلك. ومن طوالها قوله: مثل البخيل والمنافق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد الحديث؛ وقوله: وإنّ مما ينبت الربيع لمّا يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها الحديث وسيأتي الجميع في موضعه مستوفى مشروحا أن شاء الله تعالى. الرابع في معنى السائر. اعلم إنّه يقال: مثل سائر، سواء كان شعرا أو غيره، وهو من السير في الأرض استعمل في ذهاب المثل وشيوعه في أسماع الناس. ويقال أيضاً: مثل شارد وشرود، وهو من شرود البعير وهو نفوره، واستعمل في شيوع المثل إذا شاع لا يستطاع رده ولا يمكن إخماده. كما لا يستطاع رد الصعب الشرود من الإبل. ولذلك قال زهير يخاطب بني الصيداء، حيث ذهب الحارث بن ورقاء بإبله وغلامه يسار:

فابلغ إن عرضت بهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار بأن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به التجار وقال أيضاً: أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم ... مني فواقر لا تبقي لا تبقي ولا تذر وإن يعلل ركبان الحجيج بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر قال أبن رشيق: وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر. فأما قول أبي تمام، وكان إمام الصنعة ورئيسها: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس حين عيب عليه قوله في أبن المعتصم: إقدام عمر في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس فإنه يشهد للقول الأول، لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديما، وليس بمثل لا نضير له كما زعم الآخر.

خاتمة

خاتمة في اصطلاح الكتاب اعلم إني رتبت ما ذكرته من الأمثال على حروف المعجم، جاعلا الباب الأول حروف الكلمة، فان اشتمل المثل على كلمات اعتبرت أولها كلمة، ثم أوّل هذه الكلمة حرفا ثم عند سرد أمثال كل باب اعتبر هذا الترتيب أيضاً في جمعها وتقديم بعضها على بعض، والمعتبر من جميع ذلك أوّل الحروف الأصلية دون الزائدة، إلاّ أن يكون لها مسوغ يخرطها في سلك الأصلية. فان كان الحرف مما ينبني عليه التركيب كلا وما النافيتين، وفي والباء الجارتين، اعتبر أيضاً. فإذا فرغت من الأمثال ذكرت شيئا مما يجري مجرى المثل وجعلته ملتحقا به، ثم ذكرت بعض ما يحضر فكري من الأمثال الوقتية من غير تكلف ولا كبير تأمل ولا مراجعة، ثم شرعت في الشعر فذكرت ما هو من الشعر مثل أو يحسن التمثل به في أمر من الأمور من شعر المتقدمين والمتأخرين، وليس في وسع أحد اليوم استقصاؤه ولا بلوغ جله، لكن اذكر من ذلك مقدارا يكون كفاية لمبتغيه، مع التجافي عن جانبي الإخلال والإملال، فان كلا طرفي قصد الأمور ذميم، واعلم أني ربما اذكر شيئا من أمثال المولدين ومن بعدهم، أو شيئا مما يتمثل به في وقتنا من ألفاظ الحديث وغيره. ولا اقتصر على أمثال العرب ولا على ما عد مثلا بالصراحة. وإذا عثرت على ما يحسن إيراده أوردته غير مبال بقائله ولا بتصحيح السند والرواية، فان الكتاب ليس موضوعا للعزو الصرف والحكايات المجردة، بل موضوع لينتفع به الأديب ويستعين به التصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما إنّ شاء الله تعالى. ولا حرج على من لعف العسل، أن لا يسل. وهذا حين أشرع بالمقصود، مستعينا بالفتاح الخبير الودود.

باب الألف

باب الألف أبى الحقين العذرة الاباية: الامتناع. يقال: أبى الشيء يأباه ويأبيه إباء وإباءة بكسر أولهما، إذا كرهه. والحقين: اللبن المحقون في السقاء. تقول: حقنت اللبن في السقاء إذا صببته فيه وجعلت حليبه على رائبه. واسم السقاء: المحقن على مثال منبر. واسم اللبن: الحقين. قال زهير يصف الخيل: ويرجعها إذا نحن إنقلبنا ... نسيف البقل واللبن الحقين يقول إنّه يرجعها إلى ما كانت عليه من السمن ما تنسفه من البقل وتأكله، وما نسقيها من اللبن المحقون. والعذرة: العذر. قال النابغة يخاطب النعمان: ها إن ذي عذرة إلاّ تكن نفعت ... فان صاحبها مشارك النكد ومعنى المثل أن العذر باطل مع وجود اللبن. وسيأتي شيء من هذا في قولهم: أهون مظلوم سقاء مروب، إن شاء الله تعالى أتى الأبد، على لبد. الإتيان: المجيء. يقال: أتاه أتيا وإتيانه وإتيانا وأتيا، كما يقال مأتى ومأتاه، إذا جاءه؛ وأتى فلان هذا الأمر إذا فعله؛ وأتى الدهر على فلان إذا أهلكه، وهو المقصود هنا. والأبد بفتحتين: الدهر. يقال: أبد أبيد، كما يقال: دهر داهر. ولبد: بضم ففتح آخر نسور لقمان بن عاد وبهلاكه هلك لقمان، وقصته مشهورة، وتلخيصها: إنّ عادا لمّا بعث الله إليهم نبيهم هودا، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم، كذبوه وعتوا واستكبروا ولم يأمنوا، فاحتبس عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا فأوفدوا وفدا إلى البيت الحرام يستسقون لهم، فيهم لقمان بن عاد، ورأسهم رجل يقال له قيل. فانطلق الوفد حتى أتوا على معاوية بن بكر فنزلوا عليه وهو خارج الحرم، وهم أخواله وأصهاره. فمكثوا عنده شهرا يكرمهم، يشربون الخمر وتغنيهم قينتان له يقال لهما الجرادتان. فلما طال مقامهم عنده تذكر ما نزل بقومهم من البلاء، فشق عليه مقامهم وتركهم ما بعثهم فيه قومهم وقال: هلك أصهاري وأخوالي، والله ما أدري ما أصنع! إن أمرتهم بالخروج ظنوا بي إني ضاق بي مقامهم عندي فقال شعرا وأعطاه الجرادتين وأمرها أن تغنياهم به، وهو:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما وإنّ الوحش تأتيهم جهارا ... فلا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما فأما غناهم بالشعر قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم لمّا نزل بهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لهم. وفيهم رجل يقال له يزيد بن سعد أو مرثد بن سعد ممن آمن بهود. فقال لهم: والله لا تسقون حتى تطيعوا نبيكم! وأظهر حينئذ إيمانه وقال في ذلك شعرا، فلم يجيبوه إلى ما قال، وقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا يزيد لا يدخل معنا مكة وهو على دين هود. فانطلقوا حتى دخلوا مكة، وخرج يزيد وراءهم، فأدركهم قبل أن يدعوا بشيء، فقال: اللهم لا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، فقام قيل وقال: اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا فقد هلكنا! فإنشاء الله تعالى سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ونودي من السحاب. يا قيل، اختر لنفسك ولقومك! قال: قد اخترت السوداء لأنها اكثر السحاب ماء. فنودي: اخترت رمادا رمددا، لا يبقي من آل عاد أحدا. فساق الله السحابة السوداء بما فيها من النقمة إلى عاد، وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فلم تدع منهم أحدا إلاّ هلك. واعتزل هود عليه السلام ومن معه إلى حديقة، فكانوا لا يصيبهم منها إلاّ نسيم يلين الجلود وتلذه الأنفس. وكان الوفد لمّا دعوا بمكة خيروا فأختار قيل أن يصيبه ما أصاب قومه فاقتلعته الريح فأهلكته. وسأل لقمان أن يعمر فخير بين عمر سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر، وبين سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر. فأختار النسور. فكان يأخذ فرخ النسر حين يخرج من البيضة، فيغذيه حتى إذا هلك أخذ آخر، حتى بقي السابع وهو لبد. فكان يغذيه حتى هرم ولم يستطع النهوض، فأيقن حينئذ لقمان بالموت، فهلكا جميعا. وذكرت الشعراء هذا النسر في أشعارها كثيرا، قال النابغة: أمست خلاء وأمس أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد

أتتك بحائن رجلاه.

وسيأتي تتمة الكلام عليه في حرف الحاء، إن شاء الله تعالى. ويضرب هذا المثل عند التأسي والاعتبار، والتعزي والاستبصار. وهو من الأمثال الحكيمة. أتتك بحائنٍ رجلاه. الإتيان: التقدم. والحائن: الهالك. ويقال حان الرجل يحين حينا كباع بيعاً إذا هلك، فهو حائن. واحنه الله: أهلكه. ويضرب هذا المثل فيمن سعى إلى مضرته وطلب هلاكه وجرى إلى حتفه. وقال عبيد بن الأبرص. وسببه أن المنذر بن ماء السماء أو النعمان على خلاف بينهم، كان قسم دهره يومين: يوم نعيم ويوم بؤس. فكان كل من يلقيه في يوم النعيم اجزل صلته، ومن لقيه يوم البؤس قتله. فبينما هو في أيام بؤسه إذ طلع عليه العبيد بن الأبرص. فقال له الملك: ألا كان الذبح لغيرك؟ فقال عبيد: أتتك بحائنٍ رجلاه: قال الملك: أو اجل بلغ أناه، ثم قال له: أنشدني يا عبيد، فقد كان يعجبنا شعرك. فقال عبيد: حال الجريض، دون القريض، ويبلغ الحزام الطبيين. قال: أنشدني: أقفر من أهله محلوب ... فالقطبيات فالذنوب وهو من شعر عبيد. فقال عبيد: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد فقال: أنشدني هبلتك أمك! قال: المنايا على الحوايا. فقال بعض القوم: أنشد الملك هبلتك أمك! فقال: لا يرحل رحلك من ليس معك. وقال له آخر: ما اشد جزعك على الموت! فقال: لا غرو من عيشة نافده ... وهل غير ما ميتةٍ واحدة فابلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الراصدة

أتيته صكة عمي

فلا تجزعوا لحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالدة فقال له الملك: لا بد من الموت ولو لقيني أبي في هذا اليوم لم أجد بداً من أن اذبحه. فأما إذ كنت لها وكانت لك فأختر مني ثلاث خصال: من الأكحل، وإنّ شئت من الأبجل، وإنّ شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال مقادها شر مقاد، وحاديها شر محاد، ولا خير فيها لمرتاد، فإن كنت لا محالة فاعلاً فأستقي الخمر حتى إذا ذهلت لها ذواهلي، وماتت لها مفاصلي فشأنك وما تريد! فسقاه، فلما أخذت فيه الحميا وقرب الذبح أنشد يقول: وخيرني ذو البؤس يوم بؤسه ... ثلاثاً أرى في كلها الموت قد برق كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة أنق سحائب ريح لم توكل ببلدةٍ ... فتتركها إلاّ كما ليلة الطلق فأمر به فذبح. وفي هذه القصة أمثال يأتي شرح كل منها في محله إن شاء الله تعالى. ولمّا دخل عبد الله بن زياد الكوفة، وسمع به مسلم بن عقيل بن أبي طالب، تحول إلى هانئ بن عروه المرادي، فوضع أبن زياد الرصد على مسلم حتى علم بموضعه، فبعث محمّد بن الأشعث إلى هانئ فجاءه به من هناك. فلما نظر إليه أبن زياد قال: أتتك بحائن رجلاه! ثم قال: أريد حياته ويريد قتلي ... عذريك من خليلك من مراد والقصة مشهورة في قتل الحسين رضي الله عنه، وسنلم ببقايا بعد إنّ شاء الله تعالى. أتيته صكة عمي الإتيان مر والصك: الضرب الشديد. والصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبين.

أتتهم فالية الأفاعي.

يقال: صكَّ، يصكُّ، صككّا، كما يقال مل، مللا. فهو أصك ومصك. واصطك أيضاً اصطكاكا وعمي: بتشديد الياء على مثال سمي، اسم رجل من العمالقة كان أغار على قوم ظهراً فصكهم واستأصلهم، وبقي مثالاً لكل من جاء ذلك الوقت، وهو الهاجرة وشدة الحر. وقيل هو رجل كان يفتي في الحجم، فجاء في ركب، ونزلوا منزلاً في يوم حار. فقال لهم: من جاءت عليه الساعة من غد وهو حرام، بقي حرام إلى قابل فوثبوا حتى وافوا البيت من مسيرة ليلتين جادين. وقيل عمي اسم للحر بعينه. وقيل المراد به الظبي، لأنّه يصدر في الهواجر فيصطك بما يستقبله كاصطكاكا الأعمى، فصغر الأعمى تصغير الترخيم، فيه عمي، كما قالوا في تصغير أدرد، وأسود، وأزهر: دريد، وسويد، وزهير. أتتهم فالية الأفاعي. الإتيان مر. وفالية الأفاعي: خنفساء رقطاء. قال العبدي في شاعر من بني حميس: ألا ينهى سراة بني حميسٍ ... شويعرها فويلية الأفاعي فصغرها كما صغر الشاعر تحقيراً له. وهذه الخنفساء تألف العقارب والحيات في جحرها؛ فإذا خرجت أو رؤيت في موضع علم إنّ هناك العقارب والحيات، فيضرب المثل لأول شر ينظر بعده شر منه. يأتيك كل غد بما فيه. الغد معروف، واصله غدو، ثم خفف بحذف لامه، وقد يؤتى به على أصله قال لبيد. وما الناس إلاّ كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع وهذا المثل من أمثالهم المشهورة يعنون به: " المقادير كلها في علم الله تعالى قد قدرت،

إحدى حظيات لقمان

والأحداث بأصنافها قد فصلت وقسطت، وكل ما هو واقع منها فهو لا محالة كائن، وما قضي أن يبرز منها فهو بارز حتى يعاين، فكل غد فهو يأتيك بما فيه من خير وشر، ويسر وعسر، وفرح وترح. إحدى حظيات لقمان الإحدى: تأنيث الأحد بمعنى الواحد. والحظية تصغير حظوة، بفتح الحاء المهملة وسكون الظاء المشالة، وهي سهم صغير قدر ذراع. وفي الصحاح إنّه إذا لم يكن فيه نصل فهو حظية بالتصغير. وتطلق الحظوة أيضاً على كل قضيب تابت في أصل شجرة. ولقمان: هو أبن عاد. وحظياته: سهامه ومراميه. يضرب بمن عرف بالشرارة ثم جاءت منه هنة صالحة. وذكروا في أصل ذلك أن لقمان تزوج امرأة كانت طلقها رجل يقال له عمرو، فكانت تكثر أن تقول: لا فتى إلاّ عمرو! فإذا سمع منها لقمان ذلك اغتاظ فقال: والله لأقتلن عمرا! فنهته المرأة عن ذلك وقالت له: والله لأن تعرضت له ليقتلنك! فذهب لقمان حتى صعد سمرة عند مستقى عمرو لإبله، واتخذ فيها عشا، وترصد عمرا ليصيب منه غرة. فإذا بعمرو أورد إبله، فتجرد وأكب على البئر يسقي إبله فرماه لقمان من فوقه بسهم وأصاب ظهره. فقال عمرو: حس إحدى لقمان، فانتزعه ورفع رأسه إلى السمرة فإذا لقمان، فقال له: أنزل فنزل فأراد قتله فتبسم لقمان فقال: أضاحك أنت؟ قال: والله ما أضحك إلى من نفسي، أما إني قد نهيت عما ترى قال: ومن نهاك؟ قال: فلانة. قال: فإن وهبتك لها لتعلمنها بذلك، قال: نعم! فخلى سبيله. فأتاها لقمان فقال: لا فتى إلاّ عمرو، فقلت: لقد لقيته، قال نعم، لقد كان كذا وكذا وأراد قتلي ثم وهبني لك، فقالت لا فتى إلاّ عمرو، قال: صدقت. الأخذ سلجان، والقضاء ليان الأخذ: التناول. تقول: أخذت الشيء أخذا، وتقول خذ يا فلان بحذف فاء الكلمة. وأصله أأخذ، فلما استثقل الجمع بين الهمزتين حذفتا، ولم تبدل الثانية حرف مد ولو

الأخذ سريط، والقضاء ضريط

ادخل على الفعل الواو أو الفاء. وكذا الأمر من أكل وأمر؛ إلاّ أن الآخر إذا دخل عليه العاطف جاز رد فائه. والسلجان: الابتلاع يقال سلج اللقمة بالكسر يسلجها سَلجانا وسَلَجانا إذا ابتلعها. والسلجان بكسرتين مشدد اللام: الحلقوم. وطعام سليج وسَلَجلج وسُلَجلج: طيب، يُتسلج، أي يبتلع. واستعمل حسان رضي الله عنه السلجج في السيف الماضي الذي يقطع الضريبة بسهولة، حيث قال يوم بدر: زين الندى معاود يوم الوغى ... ضرب الكمأة بكل ابيض سلجج ولويت أمري عنه لين وليانا: طويته، ولويته بدينه ليا وليانا بكسرهما: مطلته. وفي الخير: لي الواجد يحل عرضه. وقال ذو الرمة: تريدن لياني وأنت ملية ... واحسن يا ذات الوشاح التقاضيا وقضاء الدين والحق معروف. ومعنى المثل إن الأخذ سهل ينساه في الحلق بسهولة، والقضاء بخلاف ذلك. فإذا اخذ الرجل الدين أكله غير مبال؛ فإذا حان القضاء تصعب الأمر وتلوى. وقد يقال في هذا المثل أيضاً: الأكل سلجان، والقضاء ليان، ولا فرق بين الأكل والأخذ في المقصد، فالمعنى واحد. الأخذ سريط، والقضاء ضريط الأخذ مرّ. والسريط الاستراط. يقال: سرط اللقمة يسرطها، كذلك يدخل، وسرطها يسرطها، كفهم يفهم، سرطا إذا ابتلعها. والمسرط بكسر الميم وفتحها الحلقوم. والضراط معروف. يقال: ضرط بالكسر يضرط ضرطا، وضريطا ككتف، وضريطا وضراطا بالضم إذا فعل ذلك. وأضرطه وضرطه تضريطا: عمل به ما يضرط منه؛ وأضرط به: عمل بفيه كالضراط وهزئ به ومعنى المثل أنه يأخذ ألين فيسترطه ويبتلعه سهلا؛ فإذا طالبه صاحبه بالقضاء

اتخذ فلان حمارا للحاجات

أضرط به كما في الذي قبله. ويقال هنا سريط وضريط، بضم أولهما وتشديد الراء؛ وسريطى وضريطى كذلك مع الألف المقصورة؛ وسريط وضريط وسريطى وضريطى على مثل خليفى؛ وسريطاء وضريطاء، مضمومتين مخففتين، والكل واحد. وقد يقال: الأخذ سريط، والعطاء ضريط ولا فرق بين القضاء والعطاء فالمعنى واحد. اتخذ فلان حمارا للحاجات الاتخاذ التصيير. والحاجات: جمع حاجة؛ وتجمع أيضاً على حاج وحوج وحوائج، وهذا الأخير على خلاف القياس، كأنه جمع حائجة. وكان بعض اللغويين ينكره ويقول إنّه مولد. وقال آخرون هو عربي وإن كان خلاف القياس، وأنشدوا: نهار المرء مثل حين يثضي ... حوائجه من الليل الطويل يضرب هذا المثل فيمن يمتهن في الأمور كالحمار. أخذ الليل جملاً الاتخاذ مر، والليل معروف، وكذا الجمل من الإبل. يضرب هذا المثل لمن سرى الليل اجمع، إما لأنه بات ساريا مستيقضا عارفا بجميع ما مر عليه من أجزاء الليل كان مصاحبا لليل حقيقة، غير تارك له ولا غافل عنه بالنوم، ولا مفارق له كمصاحبة الراكب لراحلته، وأما لأنه صار الليل له سببا في وصوله إلى مأربه وبلوغه حين سراة، كما أن الجمل يكون سببا في وصول إلى مطلبه حين يركبه؛ وإما لأن الدلجة تعين على السير وتقطع المسافة البعيدة كما في الحديث فأشبهت الجمل لأن أقوى على السير، وأبقى على الأير، وأقطع للفلوات، وأنجح في بلوغ الحاجات. قال حبيب: جعل الدجى جملا وودع راضيا ... بالهون يتخذ القعود قعودا ويحكى أن عبد الله بن سعيد لمّا افتتح أفريقية وقتل ملكها جرجير، بعث بالفتح إلى عثمان رضي الله عنه مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. فلما بلغ أبن الزبير قام في الناس خطيبا فقال: الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، الحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد

كما حمد نفسه وكما هو أهله؛ ابتعث محمّدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه وائتمنه على وحيه؛ فاختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فأستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي لا تأخذهم في الله لومة لائم، أيّها الناس - رحمكم الله - إذا خرجنا للوجه الذي قد علمتم، فكنا مع خير وال ولي فمحمد، وقسم فعدل، لم تفقد من بر أمير المؤمنين شيئا. كان يسر بنا البريدين يخفض بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا. يعجل الرحل من المنزل القفر، ويطيل اللباث في المنزل المخصب الرحب. فلم نزل على احسن حالة يتعرفها قوم من ربهم حتى انتهى إلى أفريقية فنزل منا بحيث يسمع صهيل الخيل، ورعاء الإبل، وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه، فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح، فكانت هذه ابعد، فأقام فيهم ثلاث عشرة ليلة يتأنى بهم وتختلف رسله إليهم. فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب. ثم ناهد لعدوه فقاتلهم اشد القتال يومه ذلك، وصبر الفريقان جميعا وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، وأستشهد الله رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض فأفرغ الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر. ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسين مائة ألف دينار. وتركت المسلمين قد قرت أعنهم وقد أغناهم التفل ووسعهم الحق وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من الشرك، فاحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يرد

أخذهم ما قدم وما حدث:

عن القوم المجرمين. وزعموا أنه لمّا فرغ من الخطبة نهض إليه أبه الزبير فقبل بين عينيه وقال له: يا بني، إذا نكحت امرأة فأنكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسن أبي بكر الصديق حتى صمت. أخذهم ما قدم وما حدث: الأخذ مر. وقدم الشيء بالضم فهو قديم: ضد الحادث؛ بالفتح يحدث، كنصر ينصر، فهو حادث. فإذا قرن حدث بقدم كما في هذا المثل ضمت دال حدث للمزاوجة كما قيل: لا دريت ولا تليت، وأرجعن ما زورات غير ما جورات والقياس في الأول تلوت، وفي الثاني موزورات؛ وكما قيل: هناني الطعام ومراني، والقياس أمراني؛ وكذا يقال في غير المزاوجة بالهمز؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، والقياس: ومن أضلوا، فعبر بما والنون للمزاوجة. يضرب هذا المثل لمن يستولي عليه الهم، وكأنهم يريدون انه اجتمع عليه قديمه وحديثه، والله أعلم. خذ من جذع ما أعطاك: الأخذ مر وجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة اسم رجل، وهو جذع بن عمرو الغساني. وكانت غسان تؤدي إلى ملك سليح، وهي قبيلة باليمن، دينارين من كل رجل. وكان قابض ذلك سبطة بن المنذر السليحي. فجاء مرة يسأل الدينارين، فدخل جذع منزله وأشتمل بسيفه وخرج فضرب به سبطة حتى برد وقال له: خذ من جذع ما أعطاك! وقيل إنّه أعطى بعض الملوك سيفه رهنا فلم يأخذ، فضربه حتى قتله، وقال ذلك، فذهب مثلا يضرب في اغتنام ما يجود به البخيل. خذ من الرضفة ما عليها: الرضفة، بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة: واحدة الرضف، وهي حجارة محماة يوغر عليها اللبن ويشوى عليها. وهذا المثل من معنى الذي قبله، والله أعلم.

خذه ولو بقرطي مارية:

خذه ولو بقرطي مارية: القرط، بضم فسكون: ما يعلق في شحمة الأذن من الحلي، والجمع قرطة، يقال درج ودرجة؛ وقراط كما يقال رمح ورماح. وقرطت الجارية تقريطا: ألبستها إياه، فتقرطت هي. قال أعرابي يخاطب امرأته: قرطك الله على العينين ... عقاربا سودا وأرقمين ومارية، بالراء المخففة على وزن صاحبة: امرأة من غسان. وهي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو المعروف بمزيقياء بن عامر. وكان لها قرطان كان فيهما مائتا دينار. وقيل جوهر قوم بأربعين ألف دينار. وقيل كان فيهما درتان كبيضتي الحمامة لم ير الناس مثلهما. فأهدتهما إلى الكعبة، فضرب بهما المثل. وقيل: خذه ولو بقرطي مارية، أي على كل حال. ومارية هذه هي الواقعة في قول حسان رضي الله عنه: للهِ درُ عصابةٍ نادمتهم ... يوما بجلق في الزمانِ الأولِ أولاد جفنه حول قبر أبيهمُ ... قبر أبن ماريةَ الكريم المفضلِ وابنها المذكور هو الحارث الأعرج أبن الحارث الأكبر بن أبي شمر. وأولاده يزيد بن الحارث وابنه عمرو، وهو الذي مدحه النابغة الذبياني بقوله في قصيدته البائة المعروفة: عليَّ لعمرو نعمة بعد نعمةٍ ... لوالده ليس بذلتِ عقاربِ حلفتُ يمينا غير ذي مثنويةٍ ... ولا علمَ إلاّ حسنُ ظنٍّ بصاحبِ لئن كان للقبرينِ قبر بجلقةِ ... وفبرٍ بصيداء الذي عند حاربِ

آخر البز على القلوص:

وللحارثِ الجفني سيدِ قومهِ ... ليلتمسن بالجيشِ دارَ المحاربِ وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غزا ... كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائبِ بنو عمه دنيا وعمرو بن عامرِ ... أولئك قومٌ بأسهم غيرُ كاذبِ ولشعر خسان قصة ظريفة مع جبلة بن الأيهم ستذكر في باب الأعيان إن شاء الله تعالى. وقيل هي مارية بنت ظالم، وقيل هي أم ولد جفنة، والله اعلم. وقد عرف مضرب المثل مما مر. آخر البز على القلوص: الآخر بالمد وكسر الخاء: ضد الأول؛ والبز: أمتعة البزاز من الثياب، والبز أيضاً: السلاح؛ والقلوص من النوق؛ الفتية بمنزلة الشابة من النساء. وهذا المثل قاله الزبان الذهلي، وكان ابنه عمرو بن الزبان بينه وبين قوم ترة، فذهب عمرو يوما هو وأخوته لأمر فرآهم خوعتة الغفلي، فدل عليهم أصحابه، فأتوهم وهم قعود يتغذون. فقال لهم عمرو: لا تشبوا الحرب بيننا وبينكم! فقالوا: كلا! بل نقتلك ونقتل أخوتك قال: فإن كنتم فاعلين، فأطلقوا هؤلاء الذين لم يلتبسوا بالحروب، فإنَ ورائهم طالبا أطلب مني، يعني أباهم، فقتلوهم وجعلوا رؤوسهم في مخلاة وعلقوها في عنق ناقة لهم يقال لها الدهيم. فجاءت الناقة والزبان جالس أمام بيته فبركت، فقامت الجارية فجست المخلاة فقالت: أصاب بنوك بيض النعام فأدخلت يدها فأخرجت رأس عمرو ثم رؤوس أخوته. فأخذها الزبان وغسلها ووضعها على ترس فقال: آخر البز على القلوص، فذهبت مثلا، أي آخر عهدي بهم فلا ألقاهم بعدها. ثم شب الحرب بينه وبين بني عقيلة حتى أبادهم، فقالت العرب: أشئم من خوتعة، وأشئم من الديهم، وأثقل من حمل الديهم. وسنأتي هذه الأمثال كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكان هذا المثل هو الذي أشار إليه حبيب بقوله:

آخر أقلها شربا.

وهرجاما بطست به فقلنا ... خيارُ البز جاء على القعودِ آخر أقلها شربا. الآخر تقدم. والأقل: ضد الأكثر. والشرب، بكسر الشين المعجمة: الحظ من الماء. وأصل هذا المثل في الإبل، فإن أواخرها وردا ترد وقد نزف الحوض ولم يبق فيه إلاّ قليل من الماء، فيكون ما تناله من الماء شيئا قليلا، فيضرب المثل لمن كان كذلك في الأمور والحظوظ كلها. أخوك أم الذئب؟ الأخ معروف، وكذلك الذئب. والأخ والذئب على طرفي نقيض، فإنَ الأخ شأنه الوفاق والإيناس والإعانة والإحسان، والذئب شأنه الأذية والمعاداة. فيضرب المثل عند سؤالك أحدا أهو صديق أم عدو، وهو مثل مشهور. أخوك البكري ولا تأمنه! هذا المثل مشهور وقديم، يضرب في استعمال الحذر وسوء الظن، ورد في الخبر عن عبد الله بن عمرو بن الفوعاء الخزاعي عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بعد الفتح، فقال: التمس صاحبا. قال: فجائني عمرو بن أمية الضمري، وهو أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناف، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتاتمس صاحبا. فقال: قلت أجل! قال: فأنا لك صاحب. قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد وجدت صاحبا. قال. فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري. قال: إذا هبطت بلاد قومه فأحذره فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه! فخرجنا حتى إذا كنت بالأبواء قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فالبث لي، قلت راشد. فلما ولى ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم، فشددت على بعيري وأوضعته حتى كنت بالأصفار إذا هو يعرضني في رهط. قال: وأوضعت فسبقته. فلما رأني فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة. قال. قلت: أجل! ومضينا حتى مكة، فدفعت المال إلى أبي سفيان. انتهى. والبكري صفة أخوك، والخبر محذوف تقديره " أو مخوف " أو نحو ذلك

إذا دخلت أرض الحصيب فهرول!

والمعنى إنّه أخوك شقيقك وأنت تحذره ولا تأمنه، فكيف بغيره؟ والبكري، إن كان نسبته إلى القبيلة، فهو بفتح الباء الموحدة. واستظهر بعضهم أن يكون يكسرها وكأنه يرى أنه من بكر الأولاد. يقال: امرأة بكر للتي ولدت بطنا واحدا، وبكرها ولدها الأول. والذكر والأنثى فيه سواء قال: يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحتَ مني كذراعٍ من عضد وهو بكسر الباء، وإلا إنّه يوصف به، ولا يحتاج إلى ياء النسبة. وعلى الاحتمال الأول يصح أن يكون البكري هو الخبر، ولا تقدير. إذا دخلتَ أرض الحُصيبِ فهرول! الدخول معروف، كذلك الأرض. والحصيب، بالحاء والصاد المهملتين مصغرا: موضع باليمن. والهرولة: الإسراع، أو بين المشي والجري. والحصيب فاقت نساؤه حسنا وجمالا، وأحسب لذلك أمر بالهرولة عند دخوله حذرا من فتنتهن. فإنَ كان الأمر كذلك، حسن أن يضرب المثل فيما يشبه ذلك من الحذر وطلب السلامة، والله اعلم. إذا رغب الملك عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة. هذا المثل مصنوع فيما يظهر، وهو ظاهر المعنى، وسيأتي في الحكم بسط هذا المعنى واستيفاؤه من كلام الحكماء، إن شاء الله تعالى. إذا ارجحن شاصياً فارفع يداً: يقال ارجحن ارجحنانا إذا مال. وشصا بصر الرجل يشصو شصواً: ارتفع، واشصاه صاحيه: رفعه. أي: إذا مال ساقطا، ورفع رجليه، فارفع يدك عنه ولا تضربه والمعنى: إذا خضع لك فاكفف عنه وارفق به، لأن القدرة تذهب الحفيظة. إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبحٌ. السماع معروف والسرى على وزن هدى. يقال: سرى يسري سُرى، ومسرى، وسرية، وأسرى إذا مشى عامة الليل. والقين: الحداد وجمعه أقيان. والقين أيضاً: العبد، وجمعه قيان والصباح: الدخول في الصباح. يضرب هذا المثل في الكذب والإخلاف حيث يعرف كذب الرجل فيرد صدقه.

إذا اشتريت فاذكر السوق.

وأصله أن قينا كان باليمن، فكان إذا كسد في موضع أخبرهم إنّه سيخرج غدا ثم لا يخرج، فضربوا به المثل. وسيأتي تمام القصة في حرف الدال، إن شاء الله تعالى. إذا اشتريت فاذكر السوق. ألفاظه ظاهرة. وهو من أمثال العرب المشهورة. يريدون به أنك إذا اشتريت سلعة فاذكر الصحة واطلبها، وتبصر العيوب وتجنبها، فانك ستحتاج فيما اشتريته إلى إنّ تقينه في السوق يوما لبيعه إن احتجت إلى ثمنه. فتذكر ذلك اليوم فانك إن اشتريت جيدا بعت جيدا. وفي معناه قول العامة اليوم: كما تشتري تبيع. إذا طلبت الباطل أنجح بك. الباطل معروف: والنجاح والنجح: الظفر بالحاجة. يقال: نجحت حاجته وأنجح هو: صار ذا نجح. ويقال: أنجح بك إذا غلبك؛ فإذا غلبته فقد أنجحت به. وكانت الفتاة من العرب تزوجت شيخا، فكان يقعد لينتعل فتقول: يا حبذا المنتعلون قياما، فسمعها يوما فحاول أن ينتعل قائما فضرط، فقالت: إذا طلبت الباطل أنجح بك، أي ظفر بك ولم تظفر أنت بشيء، فسار مثلا يضرب عند الظلم في أداء الباطل. إذا عز أخوك فهن. العز خلاف الذل؛ يقال: عز الرجل يعز إذا قوى وامتنع بعد ذلة؛ وعز علي أن تفعل كذا، وعز علي هذا الأمر: أي أشتد. وهن يروى بضم الهاء وكسرها: فالضم من هان يهون هوانا إذا ذل وخضع. ومعنى المثل عليه إذا عز أخوك، أي عظم وتقوى فاخضع له أنت تسلم من شره. والكسر من هان يهون إذا لأن. والمعنى: إذا أشتد أخوك وتصعب، فلن أنت. هكذا ذكر بعض الناس، وهو صحيح من جهة المعنى؛ لكن ما ذكر من كسر الهاء، إنّها يصح إن وجدت مادة هذا يقال ن. والمعروف في اللغة إنّها هو مادة هذا ون؛ إلاّ إنّه إذا أريد الذلة والخضوع، قيل الهون بضم الهاء، والهونة؛ وإذا أريد الين والسكينة، قيل: الهون بفتح الهاء. قال تعالى:) والذين يمشونَ على الأرضِ همنا (. ويقال رجل هيِّن وهين كميت وميِّت، وليس يائيا بل واويا، فوقع القلب: ويقال: هون الله الأمر، إذا سهله. ومما يوافق المعنى الأول قول أبن أحمر:

إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.

وقوارع من الأيام لولا ... سبيلهم لراحت عنك حينا دببت لها الضراء وقلت أبغي ... إذا عز أبن عمك أن تهونا وهو محتمل للمعنى الثاني أيضاً. ومن الضريح في الثاني قول الآخر: بنيَّ إذا ما سمك الذلَّ قادرٌ ... عزيزٌ فلن فاللين أولى وأحرزُ ولا تسم في كل الأمور تعززاً ... فقد يورثُ الذلَّ الطويلَ التعززُ والمثل للهذيل بن هبير. وسببه إنّه أغار على ضبة فغنم وأقبل بالغنائم. فقال أصحابه: أقسمها بيننا. فقال: أخاف أن يدرككم الطلب، فأبوا. فعند ذلك قال: إذا عز أخوك فهن، ونزل فقسمها. إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. الاستحياء الانقباض والحشمة؛ يقال: حيي منه بالكسر يحيى حياء بالمد، واستحيى، وهو حيي كغني: ذو حياء؛ وقد يقال: استحى يستحي. قال الشاعر: تقول يا شيخ أما تستحي ... في شربك الخمر على المكبر؟! وهذا الكلام يتمثل به، وليس من الأمثال. وفي الخبر: مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وفسر بمعنيين: أحدهما ظاهر، وهو المشهور: إذا لم تستحي من العيب ولم تخش عارا ولا لوما مما تفعل، فافعل ما تحدثك به نفسك، حسنا أمثال لا. ولفظه أمر، ومعناها الخبر على وجه التوبيخ والتهديد، كأنه قيل: إذا لم يكن فيك حياء، فأنت صانع ما شئت من خير وشر. وفيه إشعار بأن الرادع للإنسان عن السوء هو الحياء؛ فإذا انخلع عنه كان كالمأمور بارتكاب كل محذور، وتعاطي كل قبيح وسيئة، كما قال الحماسي: إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاءُ فلا والله ما في العيش خيرٌ ... ولا الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ

إذا نزل بك الشر فاقعد.

وقال أبو دلف العجلي: إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... وتستحي مخلوفاً فما شئت فاصنعِ وقد أكثر الشعراء من هذا النحو. ثانيهما أن يحمل الأمر على بابه، أي إذا كنت في فعلك آمنا أن تستحي لجريك على اسنن وليس من الأفعال التي يستحي منها، فافعل؛ وإلاّ فلا. وهذا قانون كلي، وهو مثل ما في الحكمة: إياك وما يعتذر منه. إذا نزل بك الشر فاقعد. هذا مثال مشهور معناه: إذا رأيت شرا مقبلا، وهولا حاصلا، وفتنة ثائرة، فتربص وتأن، واحلم ولا تسارع، ولا تستهدف ولا تستشرف. وفي الحديث في ذكر الفتنة: من يستشرف لهل تستشرفه. إذا نزل القضاء عمي البصر: هذا يتمثل به أيضاً. والمعنى أن ما قضى الله تعالى فهو كائن، وما قدره فهو واقع، لا ينجي منه الحذر، ولا نظر البصير. يحكى أن نافعا سأل أبن عباس - رضي الله عنه - فقال له: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله تعالى من الملك، كيف عني بالهدهد مع صغره؟ يعني حيث تفقد الطير فسأل عن الهدهد وقال: لأعذبنه أو ليأتيني بسلطان مبين. فقال أبن عباس: إنه احتاج إلى الماء والهدهد كانت له الأرض كالزجاج فقال نافع: قف يا وقاف! كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا عطي له بقد إصبع من التراب؟ فقال أبن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال أبو عمر الزاهد في هذا المعنى: إذا أراد الله أمراً بأمرءٍ ... وكان ذا عقلٍ ورأيٍ وبصر وحيلةٍ يفعلها في دفع ما ... يأتي بهِ محتومُ أسبابِ القدر غطى عليهِ سمعهُ وعقلهُ ... وسلهُ من ذهنه سلَّ الشَّعر حتى إذا نفذَ فيه حكمهُ ... ردَّ عليه عقلهُ ليعتبر

إذا لم تغلب فاخلب.

وهو معنى ما في الحديث: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب عقول الرجال الحديث. إذا لم تغلب فاخلب. الخلابة: الخداع، والمثل ظاهر المعنى. مأرب لا حفاوة: المأرب الحاجة، والجمع مآرب وفي التنزيل: ولي فيه مآرب أخرى. وكذا المأربة مثلث الراء. والحفاوة: الاهتمام والاهتبال بالشيء، يقال. حفيت بالرجل بالكسر، فأنا به حفي، إي اهتممت به وبالغت في الألطاف به والسؤال عن حاله. قال تعالى:) سأستغفرُ لك ربيَ إنهُ كانَ بي حفياً (. وقال الحماسي: فلما أتينا السفح من بطن حائلِ ... بحيثُ تناصى طلحها وسيالها دعوا لنزارٍ وانتمينا لطيئ ... كأسدِ الشرى إقدامه ونزالها فلما التقينا بيَّن السيفُ بيننا ... لسائلهِ عنَّا حفيَّ سؤالها يضرب هذا المثل للرجل يتملقك لا رغبة فيك ولا اهتماما بأمرك، ولطن لغرض يطلبه منك وحاجة ينالها عنك. ومأرب يصح أن يكون مبتدأ يقدر خبره، أي بك مأرب لا حفاوة، وأن يكون خبرا يقدم مبتدؤه، أي باعثك وحاملك على الدنو مني والتملق لي مأرب لا حفاوة. فإن قلت: هل يصح أن ينصب أو يقال إنه مرفوع عن منصوب في الأصل، كما قيل في: سلام وحنان، وصبر جميل؟ قلت: لو كان منصوبا لكان معناه تقصد أو ترتاد مأربا، وحينئذ لا يحسن العطف بهذا التقدير في حفاوة كما لا يخفى، ويحتاج إلى تقدير آخر كأنه قيل ترتاد مأربا ولا تحفي حفاوة، وفيه بعض التكلف، وإن كان يمكن تقدير فعل أعم كالملابسة.

آكل من أرضة.

آكل من أرضة. الأكل معروف. والأرضة بفتحتين والضاد المعجمة: دويبة صغيرة تأكل الخشب وفي قصة الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم أ، الله بعث عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من جور وظلم ز قطيعة رحم، وبقي ما كان فيها من ذكر. ويضربون المثل بالأرضة في كثرة الأكل وقوته. وينسب إلى القاضي عبد البوهاب: يا أهلَ مصر رأيتُ أيديكم ... عن بسطها بالنوالِ منقبضة لمّا عدمت النوال عندكم ... أكلتُ كتبي كأنني أرضة آكل من سوس. الأكل مر. والسوس: الدود المعروف يقع في الصوف والطعام. قال امرؤ القيس: آليت حب العراقِ الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القريةِ السوسُ يضرب به المثل أيضاً في كثرة الأكل. قيل لخالد بن صفوان: كيف ابنك؟ فقال: سيد فتيان قومه ظرفا وأدبا. فقيل له: كم زقه؟ قال: درهم. فقيل: أيرتفع منه ثلاثون درهما في شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفا؟ قال: الثلاثون أسرع في هلاك المال من السوس. ولهذا قالوا: العيال سوس المال كما سيأتي. يأكلك الأسد ولا يأكلك الكلب. هذا فيما يظهر مثل مولد يضرب عند اختيار المرء صولة العزيز وعقوبة الكبير على صولة الذليل وعقوبة الحقير، فإنَ صولة الذليل أشد على النفس كما قيل: لو ذات سوار لطمتني والمثل قد وقع في الكلام الأمير شمس الدين قراسنقر، وذلك أن شمس الدين بن السلعوس كان يكرهه. فلما حضر الملك الاشرف إلى دمشق، وبلغ قراسنقر كراهية الوزير وعمله، بادر بهدية عظيمة وتقدمة حسنة إلى الملك، وأحضر ذلك بنفسه، فقال

له السلطان: لأي شيء هذا؟ قال: بلغني أن إنّ السلعوس يعمل علي ويغير خاطر مولانا السلطان. وقد جئت أما بنفسي يأكلني السبع ولا يأكلني الكلب. وفي هذا قال الصابئ في أبي الورد البغدادي: ومن عجب الأيام أنَّ صروفها ... تسوي إمرءاً مثلي بمثل أبي الوردِ فيا ليتها اختارت نظيراً وأنه ... رماني بشنعاء الدواهي على عمدِ فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ز مقتولِ الصراغة الأسدِ ونحو قول المثقب العبدي: فإن أكُ مأكولاً فكن خير أكلِ ... وإلاّ فداركني ولمل أمزقِ ويحكى أن العجير السلولي هجا قوما من بني حنيفة، فأقاموا عليه البينة عند نافع بن علقمة الكناني، فأمر به أن يقام عليه الحدّ في ملأ من الناس. فهرب العجير ليلا حتى أتى نافعا فقعد له متنكرا حتى خرج من المسجد، ثم تعلق به فقال: إليك سبقنا السوط والسجنَ تحتنا ... حُبالى يسامين الظلام ولقحُ إلى نافعِ لا نرتجي ما أصابنا ... تحومُ علينا السانحاتُ وتبرحُ فإن أكَ مجلوداً فكن أنت جالي ... وإن أكُ مذبوحاً فكن أنت تذبحُ فقال له: انج لنفسك، فإني سأرضي خصومك، فبعث إليهم وأرضاهم. وهذا المثل باق اليوم في ألسنة العوام يقولون: من أكله السبع خير ممن أكله الذئب.

آلف من حمام مكة.

آلف من حمام مكة. يقال ألِفَ فلان كذا، بكسر اللام، يألفه إلفاً بكسر الهمزة وفتحها فهو ألف، وهي آلفة، وهم آلاف، وهن آلفات وأو ألف. والألفة بضم الهمزة: اسم من الائتلاف. إلفك بكسر الهمزة: الذي تألفه كما يقال: حب وخدن. والحمام على مثال سحاب: اسم جنس واحدة حمامة للذكر والأنثى. وقد يقال للواحد حمام، قاله في الصحاح وأنشد عليه قوله الشاعر: حماما أيكة وقعا فطارا وقول الآخر: وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامةُ أيكةٍ تدعو حماما قلت: والأول محتمل لأن يكون تثنية جماعتين كما قال الآخر: هما سيدانا يزعمانِ وإنما ... يسوداننا إن أيسرت غنماها فثنى الغنم وهو اسم جمع، وهذه التثنية لا تخص بالمفرد، بلهي جارية في أسماء الجموع، وجموع التكسير أيضا، كما علم في محله، فلا دليل فيها على المفرد. والثاني يحتملل أن يكون الحمام فيه اسم جنس، لا يقال مقابلته بالحمامة عاضد للأفراد، فهو ظاهر في المراد، لأنا نقول ذلك لو سلم أن الحمامة أريد بها الأنثى ليكون المقال ذكرا. لكنا نقول إنها للفرد من الجنس كما مر، ومقابل الفرد من حيث هو الجنس. والحمام قال في الصحاح: ذوات الأطراف من نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا وأشباه ذلك. قال: وهي عند العامة الدواجن فقط، وأنشد على الأول لحميد بن ثور: وما هاجَ هذا الشوق إلاّ حمامةٌ ... دعت ساقَ حرٍّ ترحه وترنما قال: والحمامة هاهنا قمرية قال وقال الأصمعي في قول النابغة: احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراعٍ واردِ الثمدِ هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا. قلت: وبه حزم شارح ديوان النابغة عن أبي حاتم، وإن

هذه المرأة كانت لها قطاة. فمر بها سرب من القطا فقالت ذلك. وأراد النابغة بالحمام ذلك القطا. ومكة البلدة الحرام ووصف حمامها بالألفة لأنه محترم لا يتعرض له أحد بمكروه ولا أذى، كما قال العجاج: ورب هذا البلدِ المحرمِ ... قواطناً مكة من ورقِ الحمِ أي الحمام، فرخم للضرورة فلما كان آمنا كان ثابت الجأش غير نفور من الناس نفور الصيد، كما قال النابغة: والمؤمنِ العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبانُ مكة بين الغيل والسعدِ وأراد بالعائذات هذه الطير، ولذا أتى بالطير بدلا منها، والمؤمن هو الله تعالى، وهو لفظ اسم فاعل متعد إلى مفعولين بهمزة النقل، والواو للقسم، والمفعول الثاني محذوف أي: أقسم بالله تعالى الذي أمن الطير العائذات أن تصاد أو أن تؤخذ. وقوله: يمسحها ركبان مكة، أي يمسحون عليها ولا يهجونها لألفتها لهم واستئناسها بهم. والغيل بفتح المعجمة وقيل بسكونها، والسعد أجمتان بين مكة ومنى. وقيل: الغيل بفتح الغين الماء الجاري على وجه الأرض. وهو هنا ماء يخرج من أصل أبي قبيس. واعلم أن هذه الصيغة وهي قولنا أفعل من كذا، مستعملة في باب المثل عند أرادة منتهى التشبيه وأقصاه، كما يقال: أعز من الأبلق العقوق، وأجود من حاتم، وأعيى من باقل، ونحو ذلك. وأنما يتم ذلك ببلوغ المضروب به غاية ذلك المعنى. لكن هذا أمر إضافي موكول إلى نظر القائل واعتبره وحكم خياله. فأيهما شيء استعظم درجته ساغ له أن يضرب به المثل. ولذا يصح له أن يضرب المثل بالحمام في الألفة، وإن كان غير الحمام فيها وأحق، لكنه لم يلتفت إلى الغير فاستعظمها في الحمام إذ ليس الألفة من شأن الطير، فهي مستغربة، والاستغراب زائد الاستعظام كما قالوا: أجرأ من خاصي الأسد. وفهم مثل هذا في كل ما يرد في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

آلف من غراب عقدة.

آلف من غراب عقدة. الألفة مرت، والغراب معروف، جمعه غربان واغربة. وعقدة، بضم العين المهملة، وسكون القاف: موضع. وهي أيضاً المكان المخضب الكثير الشجر أو النخل. وإنّما وصف غراب عقدة بالألفة لأنّه لا يطير لكثرة الشجر. إلاّ أن عقدة، إن جعلت مكان بعينه، لم تصرف؛ وإن جعلت اسما للمكان المخضب مطلقا صرفت. وهما جاريان هنا معا كما يقتضيه كلام القاموس، وسيأتي في قولهم: عيش لا يطير غرابه زيادة بيان لهذا المحل إن شاء الله تعالى. إليك يساق الحديث. السوق معروف. يقال: ساق الماشية يسوقها سوقا وسياقا وسياقة، واستقاها. ثم يستعمل السوق في الكلام والحديث، لأنّه يؤتى به كما يؤتى بالماشية. وهذا المثل يضرب عند الإساءة في السؤال والاستعجال به قبل أوانه. وله قصة مذكورة عندهم، وقد نظمه بشار وبين معناه فقال: ومرتْ فقلتُ متى نلتقي ... فهشَّ اشتياقاً إليها الخبيث وكادَ يمزقُ سربالهُ ... فقلتُ إليكَ يساقُ الحديث وقال الآخر: لا تعجبوا لسؤال ركبان الحمى ... فإليكمُ هذا الحديثُ يساقُ أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك. الأمر معروف. والمبكيات والمضحكيات: المورثات بكاء أو ضحكا. وكانت فتاة من العرب لها خالات وعمات. فكانت إذا زارت عماتها ألهينها، وإذا زارت خالاتها ابكينها. فقالت لأبيها: إنّ عماتي يلهينني، وخالاتي يبكينني إذ زرتهن، فقال لها أبوها: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، فذهبت مثلا يضرب عند الحذر والتحذير من الهوى والأمر باجتنابه. والمعنى: أطع من يدلك على رشادك، ويبصرك بصلاح معاشك ومعادك، وينبهك من رقدة الغفلة والغرة، ويفطمك من مراضع الهوى المضرة، وإن كان ذلك يبكيك، ويثقل على نفسك ويؤذيك؛ ولا تطع من يأمرك بما تهوى، ويحسن لك ما يشينك في العاجلة والعقبى، وإن كان ذلك يضحكك ويلهيك، ويؤنسك ويسليك.

الأمور مخلوجة وليست بسلكى.

الأمور مخلوجة وليست بسلكى. الأمور جمع أمر، وهو الشأن والحال والشيء الواقع: والخلج: الجذب والنزع؛ والمخلوجة: المجذوبة؛ والمخلوجة أيضاً: الطعنة المعوجة عن يكين وشمال؛ والسلكى، بضم الأول وألف مقصورة: الطعنة المستقيمة تلقاء الوجه. قال امرؤ القيس: مطغنهم يلكى ومخلوجة ... كزك لأيمن على نابلِ ثم إنهم جعلوها في الأمور، وجعلوا المخلوجة والسلكى مثلا في الأمور باعتبار اعوجاجها واستقامتها قالوا: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، أي هي معوجة وليست بمستقيمة، وأصله في الطعن. قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل الحارث بن عباد، وذلك أن جساس بن مرة لمّا قتل كليبا على ما سيأتي خبره، قام مهلهل بن ربيعة بثأر أخيه كليب، وكان ممن قتل بجير بن الحارث المذكور أو أخيه في قصة ستأتي. وفيه يقول مهلهل: وإني قد تركت بواردات ... بجيراً في دم مثل العبير هتكت به بيوت بني عبادٍ ... وبعضُ الشرَّ أشفى للصدورِ فلما بلغ الحارث بن عباد مقتل بجير قال: نعم القتيل قتيل أصلح الله به بين بني وائل وباء بكليب! فقيل له: إن مهلهلا لمّا قتله قال له: بُؤبِشِسعِ نعل كليب! فعند ذلك غضب الحارث وقال: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، وقال: قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حربُ وائلٍ عن حيالِ قربا مربط النعامة مني ... إنّ بيع الكرام بالشسعِ غالِ

تأمير الأراذل، تدمير الأفاضل.

لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بجمرها اليوم صالِ وهي قصيدة. ونهض لحرب تغلب حتى أبارهم. وفر مهلهل حتى هلك غريب الدار كما سيأتي. وقلب أبو عبيد هذا المثل فأورده هكذا: الأمر سلكى وليست بمخلوجة، والصواب العكس، كما أورده غيره وهو الذي قدمنا، لأن الأمور في قضية الحارث ليست بسلكى، وهلم جرا. وقول امرئ القيس كرك لأمين على نابل، فيه كلام يبين بعد في تشبيهات امرئ القيس إن شاء الله تعالى. تأمير الأراذل، تدمير الأفاضل. التأمير: تولية الإمارة: وأراذل الناس: سفلهم، والتدمير، بالدال المهملة: الإهلاك. وأفاضل الناس. خيارهم. ومعنى المثل ظاهر، وهو فيما أظن مصنوع موجود في بعض تآليف البلغاء المصنوعة. الأمر أشد من ذلك. قد يتمثل به، وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر المحشر وأن الناس يحشرون حفاة عراة، فقيل له: وكيف ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال ذلك. والحديث معروف مشهور. آمن من حمام مكة. الأمن ضد الخوف؛ والحمام ومكة تقدما. وأمن الحمام في مكة أنه لا يتعرض له ولا يصاد ولا يقتل. ولذلك قال النابغة: والمؤمن العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبان مكةَ بين الغيلِ والسعد وقال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي من قصيدة: فسحت دموع العينِ تبكي لبلدةٍ ... بها حرمٌ أمنٌ وفيها المشاعرُ وتبكي لبيتِ ليس يؤذى حمامهُ ... تطل به أمناً وفيه العصافرُ وفيه وحوشٌ ليس ترامُ أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادرُ

أما الدين فلا دن.

وهذا الشعر قله عندما نفتهم خزاعة وأخرجتهم إلى اليمن من مك، فجعل يتذكر مكة ويحزن ويبكي لفراقها. وتقدم شيء من معنى هذا المثل. أما الدَّينُ فلا دِن. يتمثل به كثيرا، وهو كلام مسيلمة الحنفي الكذاب لعنه الله تعالى. وذلك أنه، لمّا غزاهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فلما اشتد القتال آخرا على مسيلمة وأصحابه بني حنيفة وعظم عليهم الأمر وأيقنوا بالهلاك والدمار قال له بعض أصحابه: أين ما كنت تعدنا يا أبا ثمامة من نصر؟ فقال عبد ذلك: أما الدين فلا دين، ولكن قاتلوا على أحسابكم. فجعلوا يتندمون ويسبونه، وقتل في ذلك اليوم، لعنه الله. والقصة مشهورة ومعروفة في السير لا حاجة إلى سردها. أنا بالقُوس، وأنت بالقرقوس، متى نجتمع؟ القوس بضم القاف: صومعة الراهب. قال الشاعر يذكر امرأة: لا ستفتنتني وذا المسحين في القوس. والقرقوس، على مثال قربوس: القاع الصلب من الأرض، وبين المكانين بون بعيد. فيضرب عند التباعد في الأمكنة أو الخلال أو الشيم، كما قيل: هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعودَ ولن تستطيع إليك النزولا أنا أبن بجدتها. يقال بجد بالمكان يبجد بجودا إذا أقام به. والبجيد بفتح الباء الموحدة وضمها مع سكون الجيم، وبضمهما معا: أصل الشيء ودخلة الأمر وباطنه، فيقال عند فلان بجدة هذا المر أي علمه، وهو أبن بجدتها أي العالم.

أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق

قال أبو العلاء المعري: إذا أسكت المحتجُ كل مناظرٍ ... فعند أبن نصر بجدةٌ بحّوابِ وقال صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى: لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يومَ الفخار ولا بر التقى قسمي ويقال أيضاً للدليل الهادي. ويقال أيضاً: هو عالم ببجدة أمرك وبجد أمرك، أي بداخلته. وقيل إنّما قسل: أنا أبن بجدتها، وهو أبن بجدتها من البجود وهو الإقامة، لأن المقيم بالمكان عالم به. يقال: هو أبن بجدة هذا البلد أي العالم بأمره لإقامته به. وقيل اصله من قولهم: فلان من أهل البجد أي من أهل البادية وهم العلماء باللسان على ما وضع به. أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق؟ التئق: الممتلئ غضبا. واصله في الإناء يقال: تئق الإناء يتأق إذا امتلأ وأتأقته أنا ملأته. ويقال: التئق السريع إلى الشر. ويقال: هو الحديد قال الشاعر يصف كلبا: أصمعُ الكعبينِ مهضومُ الحشا ... سرطمُ اللحيينِ معاجٌ تئقْ وقال الآخر: يصف فرسا: ضافي السبيبِ أسيل الخدِ مشترفٌ ... حابي الضلوعِ شديدٌ أسره تئقُ وقال الأخر يصف فرساً: ضافي السبيب أسيل الخد مشترف ... حابي الضلوع شديد أسره تئق والمئق: الباكي يأخذ شبه الفواق عند البكاء والنشيج. يقال: مئق الرجل والصبي يأمق مأقا وماقة باتحريك وامتاق. قال رؤبة. كأنما عولتها بعد التأق ... عولة ثكلي ولولت بعد المأق

أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.

وشأن التئق النزوع إلى الشر لغضبه، وشأن المئق ضيق الصدر عن الاحتمال، فلا يجتمعان. فيضرب للمتخالفين خلقا. أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. لمّا قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فأتاهم أبو بكر وعمر من المهاجرين - رضي الله تعالى عليهم جميعاً - فتكلم أبو بكر، والقصة مشهورة. وتكلم رجل من الأنصار، وفي رواية وهو الحباب بن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. والجذيل تصغير جذل بكسر الجيم وتفتح، وبالذال المجمعة الساكنة. والجذل: ما عظم من أصول الشجر أو أصل الشجر وغيرها بعد ذهاب الفرع. والجمع أجذال وجذولة. قال امروء القيس: كأن على لباتها جمر مصطلي ... أصاب غضا جزلا وكف بالجذال والجذال أيضاً: عود ينصب للجربى لتحكك به، وهو المقصود هنا. ويقال: هو عود ينصب في مبرك الإبل للتحكك به لتزيل ما عليها من قراد وكل ما لزق بها فتشتفي بذلك، ويكون كالتمرغ للدابة. وقال الراجز: لاقت على الماء جذيلا واتد ويضرب مثلا للرجل فيقال: هو جذل محاكة وجذل حكاك. وقال الأصمعي: قلت لأعرابي: ألك بنون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تقم على مثلهم منجبة. قلت صفهم لي. قال: جهم وما جهم! ينصي الوهم، ويصد الدهم، ويفري الصفوف، ويعل السيوف. قلت ثم من؟ قال: غشمشم وما غشمشم! ماله مقسم، وقرنه مجرجم، جذل حكاك ومدرة لكاك. قلت: ثم من؟ قال: عشرب وما عشرب! ليث محرب، وسماهم مقشب؛ ذكره باهر، وخصمه عاثر؛ وفناؤه راحب، وداعيه مجاب. قلت: فصف لي نفسك. قال: ليث أبو ريابل، ركاب معاضل، عساف مجاهل؛ حمال أعباء، ناهض ببزلاء.

قوله: ينضي الوهم أي يهزل الوهم، وهو الجمل الضخم من قوته؛ ويصد الدهم أي يكف الدهم، وهو العدد الكثير من العدو. ويفري الصفوف أي يشقها في القتال مقدما. ويعمل السيف أي يوردها دماء الأقران مرة ثانية من العلل في الشرب. وقوله: قرنه مجرجم أي مبارزه مجرجم أي مصرع؛ وجذل حكاك أي يستشفي به في الأمور كالجذال المنصوب الذي يستشفي به الإبل الجربى والمدره: لسان القوم. واللكاك: الزحام. والليث المحرب: المغضب، وهو أشد ما يكون؛ والمقشب: المخلوط. والباهر: الغالب. واليابل جمع ريبال يهمز ولا يهمز، وهو الأسد. والمعاضل: الدواهي؛ والعساف: الركاب الطريق على غير هداية. والمجاهل: الفلوات؛ والأعباء: الأثقال؛ والبزلاء: الرأي الجيد، وهو مثل سيأتي. وأما العذيق فهو تصغير عذق، وهو بالفتح: النخلة بحملها، وبالكسر القنو منها. والمقصود هنا الأول. والمرجب: المعظم. يقال: رجبته ترجيبا: عظمته. ومنه رجب لتعظيمهم إياه. ويقال: إنّ فلان لمرجب أي عظيم. وحدث الأصمعي قال: مررت في بلاد بني عامر بحلة في غائط يطؤهم الطريق، فسمعت رجلا ينشد في ظل خيمته له ويقول: أحقا عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبرِ كأنَّ فوأدي كلما مر راكبٌ ... جناحُ غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ إذا رحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبكَ للذكرِ فيا راكب الوجناء أبت مسلماً ... ولا زلتَ من ريبِ الحوادثِ في سترِ إذا ما أتيتَ العرضَ فاهتف بجواهِ ... سقيتَ على شحطِ النوى سبلَ القطرِ

فانك من وادٍ إلى مرجبٍ ... وإن كنت لا تزدار إلا على عفرِ قال فلما رآني مصغيا إليه أشار إلي فاستأنسني وأنزلني ووضع طعاما فقلت: أنا إلى غير هذا أحوج، قال: ماذا؟ قلت: تنشدني، قال: أفعل. فلما أصبت من الطعام قلت: الوعد، فأنشدني: لقد طرقت أمُّ الخشيف وإنها ... إذا صرع القوم الكرى لطروقُ فيا كبداً يحمى عليها وإنها ... مخافةَ هيضات النوى لخفوقُ أقام فريقٌ من أناسٍ يودهم ... بذات الغضا قابي وبان فريقُ لحاجة محزون يظل وقلبه ... رهين ببيضات الحجال صديقُ تحمان أن هبت لهن عشيةً ... جنوبٌ وأن لاحت لهن بروقُ كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غدياً على أدمِ الجمال عذوقُ وفيهن من بخت النساء ربحلةٌ ... تكادُ بها غرُ السحاب يرقُ هيجانٌ فأما العصُ من أخرياتها ... فوعثٌ وأما خصرها فدقيقُ فقوله: فإنك من وادٍ إلى مرجبٍ أي معظم. وقوله في القطعة الثانية: كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غديا على أدم الجمال عذوقُ أي نخلات، جمع عذق وهو النخلة كما ذكرنا قبل، أو قنوانها، وهو تشبيه مشهور عند القدماء، يشبهون الحمول والبرود المرقومة فيها بالنخيل إذا أينع ثمرها فأحمر وأصفر. قال امرؤ القيس: أو المكرعات من نخيل أبن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا سوامق جبارٍ أثيتٍ فروعهُ ... وعالين قنوانا من البسرِ أحمرا وقال أيضاً: علوانَ بأنطاكية فوق عقمةٍ ... كجرمة نخلٍ أو كجنة يثربِ والترجيب في النخل أن يجعل للنخلة دكان تعتمد عليه اة يدعم بشيء إذا كثر حملها لئلا تنكسر. ويسمى ذلك الطكان الرجبة بضم الراء. وقيل أن يغرز الشوك حولها حتى لا يوصل إليها. وقيل أن تضم قنوانها إلى سعفاتها وتشد بالخوص حتى لا

ينفضها الريح فيقال: نخلة مرجبة، وعذاق مرجب. ويقال: نخلة رجيبة بتخفيف الجيم وتشديدها. ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في سنة الجوائح ولا يرجب من النخل إلاّ الكريمة. واعلم أن التصغير في كل من الجذيل والعذيق للتعظيم على ما اثبت الكوفيون من ورود التصغير للتعظيم كقول لبيد: فويق جبيل شامخ لن تناله ... بهمته حتى تكل وتعملا وقيل للتقريب كما في بني أخي. وقد تحصل في معنى الكلام بجملته إنه يقول: أنا الذي يرجع إليه في النائبات، ويستشفى بفضل رأيه في المعضلات المعوصات، كالجذيل الذي تستشفي بالاحتكاك به الإبل؛ وأنا لي أيضاً عشيرة يحفظوني ويؤووني، وعصبة ينصروني ويمنعوني، كالنخلة الممتنعة برجبتها، الكريمة على أهلها إذ لا يرجب من النخل إلاّ الكرام كما مر. وقد علم اشتمال الكلام على مثلين وليس مثلاً واحداً؛ إلاّ إنّهما يقرن بينهما كثير. وفي مقامات البديع قوله: حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجداك بينا ذيلة، قال أصبتم عذيقة، ووافيتم جذيلة الخ. وقيل معنى أنا جذيلها المحككك أنا صاحب رهان. والمحكك المعاود لها، كما قال الراجز: جذل رهان في ذراعيه حدب أي السير ويقال أيضاً. رجل محكك: أي مجرب للأمور بصير بخيرها وشرّها. وهو مدح في الرجال، ذم في النساء قال الحماسي: لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت ويقال أيضاً: أنا جحيرها المأرب، وعذيقها المجرب. والجحير تصغير جحر وهو الغار؛ والمأرب المقور الململم، ومعناه واضح من الذي قبله.

أنا كلف، وأنت صلف، فكيف نأتلف

أنا كلف، وأنت صلف، فكيف نأتلف؟ الكلف بفتحتين العشق والولوع بالشيء. يقال: كلف الرجل بكذا يكلف به بالكسر في الماضي، فهو كلف ككتف. والصلف بفتحتين: عدم الحظوة. ويقال: صلفت المرأة بالكسر إذا لم تكن لها مكانة عند زوجها ولا قدروا بغضها، فهي صلفة وهن صلائف. قال القطامي يذكر امرأة: لها روضة في القلب لم ترع مثلها ... فورك ولا المستعبرات الصلائف ويقال للمرأة: اصلف الله رفغك أي بغضك إلى زوجك. والصلف أيضاً التكلم بما يكرهه صاحبك، والتمدح بما ليس عندك، ومجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا. وهذا المثل يضرب أيضاً للمتباينين في الأخلاق كالذي تقدم. أنا اتلوص قبل أن أرمى. التلوص بالصاد المهملة: التلوي والتقلب، والاصة: إدارة. والرمي معروف. وأعلم إنّ العقلاء من حكماء الفلاسفة والعرب وضعوا حكما كثيرة وأمثالاً جمة على ألسنة الجمادات والحيوانات والعجومات باعتبار حالها تعليما للناس وإرشاداً لهم إلى مصالحتهم معاشاً ومعاداً، وذلك من قبيل التمثيل الذي ذكرناه من قبل. وسيأتي في هذا الكتاب إنّ شاء الله كثير من هذا النوع، فكان من ذلك أن قالوا: إنّ الغراب وصى ابنه فقال له: يا بني، إذا رميت فتلوص، أي انحرف لئلا تصاب فقال: يا أبت، أنا اتلوص قبل أن أرمى يضرب في التحرز من الشيء وأخذ الحذر منه قبل كينونته. أنا من هذا الأمر فالج بن خلاوة. فالج بالفاء والجيم، على صيغة فاعل: اسم رجل من أشجع، وهو فالج بن خلاوة بفتح الخاء المعجمية بن سبيع بن بكر بن أشجع. وكان فالج هذا قيل له يوم الرقم إذ قتل أنيس الأسرى: انتصر أنيساً؟ فقال: إني منه بريء. واليوم الرقم يوم من أيامهم، فقد فيه فرس عامر بن طفيل، فيقس لكل خلي من أمر متبرئ منه يقول: أنا منه فالج بن خلاوة أي أنا منه جلاء بريء بمنزلة ذلك الرجل.

أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة.

أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة. الحقن: الحبس. يقال: حقن اللبن في السقاء إذا جمعه وخلط حليبه برائبه كما مر، وحقن البول: امسكه، وحقن دمه: منعه من القتل. وكل شيء أمسكته وحبسته فقد حقنته. والإهالة: الودك، وهو اشحم أو ما أذيب منه، أو الزيت وما يؤتدم به، فيقال: أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة، أي عالم به خبير بحاله، لأنه لا يحقن الإهالة في السقاء إلاّ من يعلم إنّها بردت لئلا يحترق السقاء بها. أنا النذير العريان. الإنذار: الإبلاغ مع تخويف، والاسم النذر. قال تعالى:) فكيفَ كانَ عذابي ونذر (. والنذير فعيل بمعنى مفعل أي منذر. ويكون النذير أيضاً بمعنى الإنذار، والقصد هنا الأول. والعريان معروف. ويقال: عري الرجل بالكسر يعرى عراء فهو عريان بضم العين وعار؛ وجمع العريان عريانون، وجمع العاري عراة. وهذا المثل ورد بهذا اللفظ في الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مثل قديم للعرب يقال عند الإنذار بقرب العدو مع المبالغة في الإنذار. اصله أن النذير الجاد المغوث يتعرى من ثوبه فيمسك بيده ويشير به ويلمع لتسبقه رؤية الثوب سماع صوته، وإنّما ذلك عند قرب العدو وهجومهم، فكان مثلا عند الجد والتشمير في الإنذار بكل أمر هائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: " أرأيتم لو أخبرتكم أن بالوادي خيلاً تصبحكم أكنتم مصدقي؟ فقالوا: ما جربنا عليك من كذب. فقال: فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديدً "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الروض في قوله تعالى:) يا أيّها المدثرُ (إنّ وجه ارتباطه مع قوله تعالى:) قم فأنذر (أن الإنذار من أوصافه صلى الله عليه وسلم التي وصف بها نفسه بقوله: " أنا النذير العريان ". ومعلوم أن الإنذار على هذا الشعار مخالف للتدثر بالثياب، فكان فيه من التطابق والالتئام مالا يخفى. وهو حسن ظاهر. ويقال أصل المثل في رجل من خثعم أخذه العدو وسلبوه ثيابه وقطعوا يده. فجاء قومه منذراً على تلك

أنت شولة الناصحة

الحال. ويقال إنّه في يوم ذي الخلصة حمل عليه عوف بن عامر فقطع يده ويد امرأته والله اعلم. أنت شَولة الناصحة شَولة بفتح الشين المعجمة فسكون: أمة كانت لعدوان، وكانت رعناء حمقاء، فكانت تنصح لمواليها فتعود نصيحتها شراً عليهم ووبالاً لحمقها. فضرب بها المثل لكل ناصح أحمق يقال له: أنت شولة الناصحة، أي بمنزلة تلك الأمة. أنت صاحبة النعامة. النعامة واحدة النعام المعروف. وصاحبة النعامة امرأة من العرب وجدت ذات يوم نعامة عصت بصعرور، وهو صمغة، فأخذتاها وربطتها بخمارها إلى شجرة، وقد منعتها الغصة أن تهرب. فذهبت المرأة إلى الحي فهتفت بهم وجعلت تقول: من كان يحفنا ويرفنا فليترك، أي من كان يحسن إلينا ويلطف بنا فليقطع ذلك عنا. ثم قوضت خيمتها لتحمل على النعامة. فجائت إليها فوجدتها قد ساغت وفرت فبقيت المرأة لا هي بالنعامة ظفرت، ولا بنصيبها من الناس تمسكت، فيضرب بها المثل ويقال: أنت صاحبة النعامة: أو كصاحبة النعامة عند التشنيع على من وثق بغير ثقة وأغتر بغير طائل. وفي معنى هذه القصة ما تحكي العامة اليوم في الخرافات أن رجلاً وجد أرنباً في فلاة قد نامت فجاء يشتد حتى انتهى إلى الحي فصاح بهم: إلاّ أنا قد قطعنا التذويق فيما بيننا، وهو الله تعالى يتهاداه الجيران فيما بينهم من نحو الفاكهة واللحم واللبن، وجعل يقول: قد قطعنا، حتى اسمع الناس ذلك واسمعوه مثله، فرجع فوجد الأرنب قد هبت من نومها وذهبت. أنتِ غيري نغرةٌ يقال: غار الرجل على امرأته يغار غيراً وغيرة بالفتح وغاراً، فهو غيورهم غير، وهو غيران وهم غيارى وغيارى، ورجل مغيار؛ وغارت المرأة تغار، فهي غيور وغيرى، وهن غيارى: والنغرة: التي تلغي من الغيرة كما تنغر القدر أي تغلي. ويقال: نغر الرجل بالكسرة إذا أعتاظ وغلي جوفه من

الغيظ، فهو نغر وهي نغرة. فيقال هذا عند اشتداد الغيرة. ويحكى أن امرأة جاءت علياً كرم الله وجهه فذكرت أن زوجها يطأ جاريتها، فقال: إنّ كنت صادقة رجمناه، وإنّ كنت كاذبة جلدناك، فقالت: ردوني إلى أهلي غيري نغرة! قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة، وهو الذي قتله مراد في قضيب، وذلك إنّ أباه المنذر بن امرئ القيس كان تزوج هند بنت الحارث أبن آكل المرار الكندي، فولدت له عمراً، وهو الذي يقال له عمرو بن هند، والمنذر بن المنذر، وملك بن المنذر، وقابوس بن المنذر، وكان ملك أصغرهم. فلما كبرت هند عند أبيهم المنذر أعجبته بنت أخيها امامة بنت سلمة بن الحارث، فطلق هنداً وتزوج امامة فولدت له امامة عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة. ثم إنّ المنذر جعل الأمر من بعده لابنه عمرو بن هند، ثم لقابوس، ثم للمنذر، ولم يجعل لعمرو بن امامة شيئاً. فكان ذلك سبب وقوع الشر بينه وبين اخوته لأبيه. فتملك عمرو بن هند الخورنق والسدير، وجعل لأخيه قابوس البدو، فغضب عمرو بن امامة وذهب نحو اليمن يطلب النصرة على اخوته، وقال في ذلك يخاطب عمرو بن هند: إلاّ بن أمك ما بدا ... ولك الخورنق والسدير فلامنعن منابت الضمر ... إنّ إذ منع القصور بكتائب تردي كما تر ... دي إلى الجيف النسور أنا بني العلات تقضي ... دون شاهدنا الأمور والضمران بفتح الضاد: نبت من نبات البادية؛ والرديان: الجري يقال: ردت الخيل تردي إذا جرت؛ وأبناء العلات: أبناء أمهات شتى؛ وأبناء الأعيان: أبناء أمثال واحدة. ثم ن عمرو بن امامة لحق باليمن وتبعه ناس من قيس عيلان وغيرهم، فأتى ملكها يطلب منه جنداً ليقاتل أخاه على نصيبه من الملك. فقال له الملك: من أحببت، فأختار مراداً، فسيرهم الملك معه، فلما انتهوا معه إلى وادٍ يقال له قضيب تلاومت مرادٌ فيا بينها وقالوا: كيف تتركون أموالكم وعشائركم وبلادكم وتتبعون هذا الأنكر؟ فقام

هبيرة بن عبد يغوث، وهو سيد مراد إذ ذاك، فتمارض وشرب ماء الرفة وهي شجرة هناك، فأصفر لونه. فبلغ عمرا أن هبير مريض، فبعث إليه طبيبا. فجاءه الطبيب وقد شرب المغرة وجعل يمجها لمّا دخل عليه الطبيب مكاويه وجعلها على بطنه، فقال له: أصبت موضع الداء! وجعل يكويه حتى كشح بطنه بالنار، وهو يريه أنه لا يجد مسها، وبذلك سمي صبيرة المكشوح، فرجع الطبيب إلى عمر وقال: وجدته مريضا ورأيته لا يحس بالنار. فلما اطمئن عمرو بن أمامة صار إليه المكشوح في قومه من تلك الليلة وثار به. فلم يشعر حتى أحاطوا به، وكان عمرو تلك الليلة مع بعض حظاياه. فلما سمعت أم ولده الغسانية جلبة الخيل قالت: أبي عمرو، أتيت! وقالت: سال قضيب حديدا، أو جاءتك مراد وفودا، فذهبت مثلا. فقال لها عمرو: أنتي غيري نغرة، أي أنك إنّما قلت ذلك غيرة منك علي، فذهبت مثلا. ومر به قطيع من القطا فقالت: يا عمرو أتيت! لو ترك القطا لنام، فذهبت مثلا. فلما انتهوا إليه وثاروا إليه، ثار إلى سيفه فخرج عليهم وهو يقول: لقد عرفت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقهِ كل امرئٍ مقاتل عن طوقه ... كالثور يحمي جلده بروقهِ فزعموا إنّه لقيه غلام من مراد يقال له الجعيد أو تميم بن الجعيد، وقد كان عمرو قال فيه: نعم وصيف الملك هذا! فقال الغلام: أيَّ وصيف ملك تراني؟ ... أما تراني رابط الجنانِ؟ أفليه بالسيف إذا استفلاني ... أجيبه لبيك إذ دعاني رويت منه علقاً سناني ثم ضربه فقتله، فتفرق عنه الناس، ورجعت مراد إلى اليمن فاقبل الغلام الذي قتله بالغسانية وبابنيه وهما غلامان، فبلغ إلى عمرو بن هند، فقال له: أيّها الملك إني سترت عورتك، وقتلت عدوك. فقال له عمرو: إن لك لخباء أنت له أهل. اضرموا له نارا واقذفوه فيها! فقال الغلام: أيّها الملك إني كريم، فليطرحني فيها كريم فإنَ أي حسبا

فأمر عمرو بن هند ابنه وأبن أخيه أن يتوليا ذلك، فانطلقا به. فلما دنوا من النار مسح شراك نعله فقالا: ما دعاك إلى مسح نعلك وأنت مطروح في النار؟ فقال: أحببت أن لا أدخل النار إلا وأنا نظيف. ثم قال: الخير لا يأتي به حبهُ ... والشر لا ينفع منه الجزعُ ثم قذف بنفسه وبهما معا، فاحترقوا جميعا. وفي ذلك يقول طرفة ينعى عمرو بن إمامة إلى أخيه: أعمرو بن هند ما ترى رأي معشرٍ ... أفاتوا أبا حسان جاراً مجاورا فإن مراداً قد أصابوا جريمةً ... جهاراً وأضحى جمعهم لك واترا دعا دعوة إذ شكت النبل صدره ... أمامة واستعدى هناك معاشرا فلو أنه نادى من الحصن عصبةً ... لألقوا عليه بالصعيدِ الشراشرا ولو خطرت أبناء قرآن حوله ... لأضحى على ما كان يطلب قادرا ولو شهدته تغلب بنت وائل ... لكانوا له عزاً عزيزاً وناصرا ولكن دعا من قيس عيلان عصبةً ... يسوفون في أعلى الحجاز البرائرا إلاّ إنّ خير الناس حياً وميتاً ... ببطن قضيبٍ عارفاً ومناكرا يقسم فيهم ماله وقطينه ... فياما عليه بالمالي حواسرا

إن جرجر العود فزده وقرا

أنفت له على عداوةٍ بيننا ... وقلت ما قتيل بحائرا قوله: أفاتوا أبا حسان، أي أهلكوه، وهو عمرو بن أمامة. وقوله: استعدي أي استنصر؛ والحصن: ثعلبة بن غكابة: والشراشر: المحبة يقال: ألقى عليه شراشره إذا أحبه؛ وأبناء قرآن من بني حنيفة أي أهل قرآن، وهي قرية باليمامة والبرائر جمع بريرة، وهي ثمر الأراك؛ ويسوفون: يشمون، ومنه المسافة، لأن الدليل ربما تحير فشم التراب ليعلم أعلى قصد هو أم على جور. يقول إنهم قوم ضعاف ليس لهم طعام ألا الأراك. ويروي: يسوفون، أي يبتلعون؛ والمآلي جمع مئلات، وهي خرقة تكون مع النائحة؛ وبحائر: اسم لمراد. إن جرجر العود فزده وقراً الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وذلك عند تشكيه من الحمل وضجره وتضرره. قال الراجز: جرجر لمّا عضه الكلوب. وقال الآخر: جرجر في حنجرة كالجب. والعود: المسن من الإبل. قال أمرؤ القيس: وإني زعيمٌ إن رجعت مملكاً ... بسيرٍ ترى منه الفرانق أزورا على لا حبٍ لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا يقول إنّ هذا الطريق إذا أشمه العود من الإبل ضج من، فكيف بغيره. والزيادة معروفة. والوقر بالكسر: الحمل. ويروي: إنّ جرجر فزده ثقلا، والثقل معروف. والمعنى: إنّ ضج بعيرك وتشكى من ثقل حمله، فزده ثقلا آخر ولا تلتفت إلى ضجره. يضرب عند الأمر بالإلحاح في سؤال البخيل، وهو ظاهر. أن ذهب عَير فعير في الرهط. الذهاب معروف. والعير بفتح العين المهملة: الحمار؛ وعير القوم: سيدهم، وهو المقصود هنا. والمعنى ظاهر. الإيناس قبل الابساس الإنس ضد الوحشة؛ وأنست الرجل تأنيسا، وأنسته إناسا.

إن أعيى فزوده نوطا.

والأبساس عند الحلب أن يقال للناقة: بس، بس، وهو صويت للراعي يقول لها ذلك لتدر للحالب، فيقال: أبس بالناقة يبس أبساسا فهو مبس. قال الشاعر: فلحى الله طالب الصلح منى ... ما أصاب المبس بالدهماءِ وناقة بسوس: لا تدر إلاّ على الإبساس والمعنى إنّ الناقة لا ينبغي أن يبس بها حتى تؤنس قبل ذلك ويتلطف لها، فيضرب في أن الإنسان ينبغي أن لا يكلف أمرا أو يسأل حاجة حتى يتقدم إليه بتأنيس مالي أو فعلي أو قولي. قال الشاعر: ولقد رفقت فما حظيت بطائل ... لا ينفع الإبساس بالإيناس! ودخل العتابي على الرشيد فقال: تكلم يا عتابي! فقال: الإيناس قبل الإبساس! لا يمدح المرئ بأول صوابه، ولا يذم بأول خطئه لأنه بين كلام زوره، وعي حصره. أنتهى. إن أعيى فزوده نوطاً. الإعياء: الكلال في المشي. يقال: أعيى الماشي إعياء إذا كل، وعيى الرجل بأمره على مثال رضي، ويدغم: إذا لم يهتد بوجهه أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. وعيي أيضاً في منطقه إذا حصر. والنوط بفتح النون وسكون الواو: جلة صغيرة يجعل فيها التمر وتعلق على البعير. قال النابغة الذبياني يصف قطاة: حذاء مدبرة سكاء مقبلة ... للماء في النحر منها نوطة عجب وأصل النوطة من النوط، وهو التعليق. يقال: نطت الشيء بالشيء، أي علقته به. والمعنى إنّ بعيرك إذا أعيى، فزد عليه تعليقا آخر. وهذا المثل هو كالذي تقدم: إن جرجر فزده ثقلا معنى ومضربا.

أنفك منك وإن كان أجدع.

أنفك منك وإن كان أجدع. الأنف معروف؛ والجدع بالدال المهملة: القطع في الأنف. تقول: جدعت الرجل فهو أجدع، وهو ذو جدع بفتحتين. والمعنى أن أنفك، فلا يمكنك مفارقته ومباعدته وإنّ كان به عيب وشين. فيضرب في استعطافم صاحبك على ذوي قرابتك، وحثك إياه على وصلهم وتحمل ما بهم وأن يلمهم على شعثهم، ولا يصارمهم كما لا يصارم أنفه المتصل به. قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل قنفذ بن جعونة المازني، وذلك أن الربيع بن كعب المازني دفع إلى أخيه كميش فرسا من عتاق الخيل ليأتي به أهله. وكان كميش أحمق وأنوك. وكان عندهم رجل من بني مالك يقال له قراد بن جرم قدم عليهم ليصيب منهم غرة، وكان داهية فمكث فيهم لا يعرفون نسبه. فلما رأى كميشا ركب الفرس، ركب هو ناقته ثم عارضه فقال له: يا كميش، هلك في عانة لم تر مثلها ومعها عير من ذهب، أما الأتان فتروح بها على أهلك، فتفرح بها صدورهم، وتمتلئ قدورهم، وتشبع خصورهم، وأما العير فلا افتقار بعده. فقال كميش: فكيف لنا به؟ فقال له قراد: أنا لك به، ليس يدرك إلاّ فرسك. قال: فدونك! قال: نعم! وأمسك أنت على راحلتي وانتظرني في هذا المكان. وركب قراد الفرس. فلما توارى عنه أنشأ يقول: ضيعت في العير ضلالا مهرك ... فسوف تأتي بالهوان أهلك وقبل هذا ما خدعت الانوكا وبقي كميش هناك ينتظره حتى أمسى، فانصرف إلى أهله وقال في نفسه: إن سألني أخي عن الفرس قلت له تحول ناقة فلما قدم على أخيه قال له: أين الفرس؟ فقال: تحول ناقة. فعلم أخوه أنه قد خدع وجعل يضربه. فقال عند ذلك قنفذين جعونة له: اله عما فاتك، فإن أنفك منك وأن كان أجدع! وأتى قراد أهله بالفرس وقال في ذلك: رأيت كميشا نوكه لي نافع ... ولم أر نوكا قبل ذلك ينفعُ وقلت له أمسك قلوص ولا ترم ... خدعا له مني وذو الكيد يخدعُ

إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.

فأصبح يرمي الخافقين بطرفهِ ... واصبح تحتي ذو أفانين جرشعُ ومثل هذا المثل قولهم: منك ربضك وإن كان سمارا، وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى. إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً. الريح معروفة جمعه رياح وأرواح. قال: إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها ويقال أيضاً أرياح. والإعصار بكسر الهمزة: ريح تثير غبارا يرتفع إلى السماء عمودا، أو ريح تهب بشدة في ما بين السماء والأرض. قال تعالى:) فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت (وجمعه أعاصير. قال الشاعر: وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصيرُ وقال حارثة بن بدر يرثي زيادا، وقد مات في الكوفة ودفن في الثوية: صلى الإله على قبرٍ وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المورُ زفت إليه قريش نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبورُ أبا المغيرة والدنيا مفجعة ... وإنّ من غرت الدنيا لمغرورُ قد كان عندك بالمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكيرُ وكنت نغشى وتعطي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجورُ

أن كنت ذا طب فطب لعينيك

الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصيرُ والمعنى أن كنت مثل الريح في الشدة والقوة، فقد لاقيت من هو مثل الإعصار الذي هو أشد الريح وأقواها. يضرب للرجل يكون صلبا جلدا فيصادف من هو أقوى منه وأشد، وهو ظاهر. أن كنت ذا طب فطب لعينيك الطب مثلثة الطاء: علاج الجسم. والطب أيضاً: الرفق والسحر. ولفظ طب في المثل كذلك مثلث الطاء في الموضعين، والمنى ظاهر. وفي نحوه قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ أن يكن هذا من الله يمضه. يتمثل به كثيرا، وهو من كلام المصطفىصلى الله عليه وسلم قال لعائشة: أريتك أو رأيتك في المنام في سرفة من حرير فقيل لي هذه زوجك، فقلت أن يكن هذا من عند الله يمضه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. إن لا حظية فلا ألية الحظوة: المكانة كما مر يقال: حظيت المرأة عند زوجها بالكسر تحظى حظوة وحظة فهي حظية وهن حظايا ضد صلفت. والألو: التقصير يقال: إلاّ في هذا الأمر يألو ألوا وألوا وأليا، وائتلى إذا قصر فيه وابطئ فهو آل ومئتل. قال أمرؤ القيس: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا ألِ يضرب هذا المثل في مداراة الناس والتودد إليهم. والمعنى انك إن أخطاتك

إن لا أكن صنعا فإني أعتثم.

الحظوة فيما تريد، فلا تأل جهدا ولا تزل مجتهدا متوددا للناس حتى تستدرك ما فاتك مما تطلب. وأصله في المرأة إنها إن لم تحظ عند زوجها فلا ينبغي لها أن تقصر في طلب الحظوة حتى تنالها. قيل: وأصله أن رجلا كانت لا تحظى عنده امرأة فتزوج امرأة فلم تأل جهدا في أن تحظى عنده، فلم يقنعه ذلك وطلقها، فقالت ذلك أي: إن لم أحظ عنده فأني لم أقصر، فصار مثلا في كل من اجتهد في أمر ليناله وتعذر وهو لم يقصر في طلبه والسعي فيه. واعلم إنّه يقال في المثل بالنصب والرفع بحسب تقدير المحذوف، فمن نصب فمعناه باعتبار الأصل إن لا أكن عندك أيّها البعل حظية فلا أكون ألية في الحظوة بتحسين خلقي وخلقي حتى أدركها. ومن رفع فله وجهان: أحدهما أن تكون الحظية مصدرا لا وصفا. والمعنى إن أخطأتني الحظوة عندك فلا أكون ألية في طلبها أو فلا يقع مني ألو وتقصير. الثاني أن تكون الحظية وصفا على بابها إلاّ إنّها راجعة إلى غير القائلة والمعنى: إن لا تكن لك في الناس حظية تحظى عندك فأنا لا أكون ألية في طلبها حتى أنالها منك، أو نحو هذا من التقادير آتى يصح بها المعنى، كما يجري في نحو: إن خيرا فخير، وإن سيفا فسيف. وقد قرر في النحو ما فيه من التقادير وما هو الأرجح منها وهو معروف. إن لا أكن صنعاً فإني أعتثم. الصنع: الحاذق الماهر. يقال: رجل صنيع وصنع بكسر فسكون، وصنع بفتحتين، ويروى بهما قول أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبعُ وقال حسان رضي الله عنه في الأخير: اهدي لهم مدحتي قلبٌ يوازرهُ ... فيما أحب لسانُ حائك صنعُ ويقول: امرأة صناع، على مثال رزان، ضد الخرقاء. قال امرؤ القيس: وعينٌ كمرأة الصناع تديرها ... بمحجرها من النصيف المنقبِ

لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم

والعثم: الانجبار الفاسد. يقال: عثم العظم المكسور، بالتاء المثلثة المفتوحة، أي انجبر على غير أستواء؛ وعثمته إذا لازم ومتعدِ؛ وعثمت المرأة المزادة: خرزتها خرزا غير محكم؛ وأعثمتها أيضاً. فمعنى المثل: إن لم أكن حاذقا ماهرا في هذا الأمر فإني أعمل بقدر طاقتي ومعرفتي. لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم يتمثل به وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. إنّ البغاث بأرضنا يستنسر البغاث، مثلث الباء الموحدة في أوله بعدها غين معجمة فثاء مثلثة: طير أغبر؛ ويطلق على شرار الطير كلها، وما لا يصيد منها. قال الشاعر: إذا كر فيهم كرة افرجوا له ... فرار بغاث الطير صادفن اجدلا وقال دريد أبن الصمة: وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ وقال الحماسي: بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزورُ وسيأتي تمام هذا الشعر في محله. واستنسر: صار نسرا، والنسر: الطائر المعروف. وسمي نسرا لأنه ينسر اللحم. ومعنى المثل إنّ الضعيف من الناس إذا حل بأرضنا ووقع في جوارنا عز بنا وتقوى، كما إنّ البغاث الذي هو ضعاف الطير إذا عاد نسرا فقد تقوى. وقيل معناه، إنّ الضعيف يستضعفنا وتظهر قوته علينا، وعلى هذا إذا أريد الافتخار قيل: إنّ البغاث في أرضنا لا يستنسر. ولشعر دريد المذكور قصة عجيبة رأيت أن اذكرها، وهي إنّ دريدا خرج في فوارس من قومه بني جشم بن بكر حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة رفع لهم رجل في ناحية الوادي معه ظعينة. فلما رآه دريد قال لفارس من أصحابه: دونك فصح به: خل الظعينة وانج بنفسك! فلحقه الفارس فصاح به وألح عليه، فلما أبى أن ينكف عنه

ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة: سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكنِ إنّ أنثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني ثم حمل على الفارس فطعنه طعنة جعلته كأمس الدابر وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما فعل صاحبه، فلما انتهى إليه فرآه صريعا صاح على الرجل فتصامم عنه فظن أن لم يسمع فغشيه. فالقى الرجل زمام الراحلة إلى الظعينة ورجع إليه وهو يقول: خل سبيل الحرة المنيعة ... انك لاقٍ دونها ربيعه في كفه خطية مطيعة ... أولا فخذها طعنة سريعه والطعن مني في الوغى شريعة ثم حمل عليه فصرعه. فلما أبطأ الأمر على دريد بعث فارسا ثالثا لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه فقال له: خل سبيل الظعينة! فقال الرجل للظعينة: اقصدي قصد البيوت! ثم اقبل على الفارس فقال: ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس أرداهما عامل رمح يابس ثم حمل عليه فصرعه وأنكسر رمحه. ثم إنّ دريدا ارتاب وظن إنّ الفوارس قتلوا الرجل وذهبوا بالظعينة، فجاء حتى لحق بالرجل وقد دنا من الحي، ووجد أصحابه صرعى فقال له: أيهما الرجل، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها. فخذ رمحي هذا، فأني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك. فرجع دريد إلى أصحابه وقال لهم: إنّ صاحب الظعينة قد حماها وقد قتل أصحابكم وأنتزع رمحي ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فقال دريد بن الصمة: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارسا لم يقتلِ أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعلِ متهلهلا تبدو أسره وجهه ... مثل الحسام جاءته كف الصيقلِ

يزجي ظعينة ويسحب ذيله ... متوهجاً يمناه نحو المنزلِ وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يكُ مثله لا يجهلِ وقال صاحب الظعينة في ذلك، وهو ربيعة بن مكدم، أحد بني فراس بن كنانة: إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ إذ هي لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدمِ إذ قال لي أنى الفوارس ميتة ... خل الظعينة طائعا لا تندمِ فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلمِ وهتكت بالرمح الطويل أهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفمِ ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فارغة كشدق الأضجمِ ولقد شفعتهما بآخر ثالثا ... وأبى الفرار لي الغداة تكرمي ثم لم تلبث كنانة أن أغارت على بني جشم، فقتلوا وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نفسه. فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءته نسوة يتهادين نحوه، فصاحت إحداهن وقالت: هلكتم وأهلتم. ماذا جر عليها قومها؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! فألقت عليه رداءها وقالت: يا آل فراس! أنا له جارة. فسألوه من هو فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته سليم، قال: فما فعلت الظعينة؟ قالت المرأة أنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم ووامروا أنفسهم. فقال بعضهم: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلاّ برضى المخارق الذي أسره. فلما أمست المرأة، وهي ريطة بنت جذل الطعان، رفعت عقيرتها وقالت: سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما فإنَ كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإنّ كان شرا كان شرا مذمما سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح الطويل المقومى فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذي كان أنعما فلا تكفروه حق نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما

إن البكري ليحسن السعدي

فلو كان حيا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما ففكوا دريدا من إسار مخارقٍ ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما فلما أصبحوا وأطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه. ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك. قلت: وفي بني فراس هؤلاء يقول علي كرم الله وجهه مخاطبا لأهل العراق إذ تخاذلوا عنه: يا ليت لي من بني فراس واحدا بعشرة منكم صرف الدينار بالدرهم!. ولربيعة المذكور قصة أخرى في حماية الظعن تأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. إنّ البكري ليحسن السعدي البكري منسوب إلى بكر، وفي العرب بكر بن وائل، وبنو بكر بن عبد مناة، والنسب إليهم بكري، وكذال النسبة إلى أبي بكر. وفي العرب أيضاً بنو أبي بكر بن كلاب، والنسبة إليهم بكراوي. والسعدي منسوب إلى سعد، وفي العرب سعود كثيرة: سعد تميم وسعد هذيم وسعد قيس وسعد بكر، كما قال طرفة: رأيت سعودا من شعوب كثيرةٍ ... فلم ترعيني مثل سعد بن مالك أبر وأوفى ذمة يعقدونها ... وخيرا إذا ساوى الذرى بالحوارك يريد سعد بن مالك بن ضبيعة. والحس: الرقة؛ تقول: حسست لفلان، بفتح السين وكسرها، حسا وحسا، إذا رققت له. قال القطامي: أخزك الذي لا تملك الحس نفسه ... ترفض عند المحفظات الكتائف والكتائف: الأحقاد. قال كميت: هل من بكى الدار راج إنّ تحس له ... أو يبكي الدار ماء العبرة الخضل؟ وفي الصحاح: قال أبو الجراح العقيلي: ما رأيت عقيليا إلاّ حسست له، أي رققت. إنّ تحت طريقته لعنداوة. الطريقة، بالتشديد على مثال سكين: الرخاوة واللين؛ ورجل مطروق: فيه رخاوة.

إن الجواد عينه فرارة.

قال أبن احمر: ولا تحلي بالمطروق إذا ما ... سرى سرى في القوم أصبح مستكينا والعنداوة: الصعوبة، من العنود، وهو رد الحق والحيدودة عن الطريق، وبعير عاند يحيد عن الطريق. والمعنى أن سكونه ورخاوته قد يكون معه احياناً عسرة وشراسة. إنّ الجواد عينه فرارة. الجواد: العتيق من الخيل الكثير الجري، سمي به لأنّه يجود بنفسه. والعين تطلق على الباصرة، وعلى الشخص الشيء وهو المراد هنا؛ والفرارة: أن تفتح فإذا الدابة لتعلم سنها. يقال: فرها فرا وفرارا، مثلث الفاء، إذا فتح فاها لذلك. ومن قول الحجاج: ولقد فررت عن الذكاء، وفتشت عن تجربة، أي فررت فوجدت تام السن. فإن الذكاء يطل على السن، وهو أحد ما يفسر به قول زهير: يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء ومنه المثل الآتي: جري المذكيات غلاب. وإلى هذا المعنى أشار أبو بكر بن دريد رحمه الله بقوله: وفر عن تجربة نابي فقل ... في بازل راض الخطوب فامتطي وكتب الحسن بن سهل إلى القاضي محمد بن سماعة: أما بعد فأني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طعمة، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، ليس بظنيت برأيه ولا بمطعون في حسبه؛ إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهما من الأمور أجزأ فيه؛ له سن مع أدب ولسان، تعقده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فرعن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة؛ قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحمد فيها؛ له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه. دلائل الفضل عليه لاحئة، وأمارة العلم له شاهدة؛ مضطلعا بها أستنهض، مستقلا بما حمل.

إن الحذر لا يغني من القدر.

وقد أثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك. فكتب إليه القاضي: إني عازم أن أرغب إلى الله عز وجل حولا كاملا في ارتياد مثل هذه الصفة وأفراس الرسل الثقات في الآفاق لالتماسه. وأرجو أن يمن الله بالإجابة فأفوز لديك بقضاء حاجتك، والسلام. ويصح أن يراد بالذكاء أيضا في كل ما مر معناه الذي هو الفطنة وحدة الفوائد. وعلى كل حال فذلك مثل للكشف والاختبار، وأصله في الدواب. ومعنى المثل المذكور أن الجواد إذا نظر إليه العارف المعرب عرفه من غير احتياج إلى فره واختباره، وكان نظره إلى عينه، أي شخصه، فرارا له، أي قائما مقام الفرار، فيقال: فلان عينه فرار لهذا المعنى. ويضرب لكل من يدل ظاهره على باطنه لكل معانيه. قال الشاعر: تعرف من عينيه نجابته ... كأنه بالذكاء مكتحل وقال الراجز في صفة الذئب: أطلس يخفي شخصه غباره ... في فمه شفرته وناره هو الخبيث عينه فراره إنّ الحذر لا يغني من القدر. الحذر: التحرز من الشيء وهو ظاهر. والقدر: ما كتبه الله تعالى وقدره من الكائنات. ومعلوم أن ما قضى الله بوقعه فلا دافع له، وهذا من الأمثال الحكيمة. قال هانئ بن قبيصة الشيباني لقومه يحضهم يوم ذي قار وهو يوم مشهور أيامهم: يا معشر بكر! هالك معذور خير من ناج فرور. إنّ الحذر لا يغني من القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنية ولا الدنية. استقبال الموت خير من أستدباره. الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور. يا آل بكر! قاتلوا، فما للمنايا من بد! ويحكى أنّ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه كان إذا حمي وطيس الحرب انشد: أي يومي من الموت افر ... يوم لا يقدر أمثال يوم قدر يوم لا يقدره لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر

إن الرثيئة تفثا الغضب

ثم يحمل ويغشى لظاها. إنّ دون الظلمة خرط قتاد هو بر إنّ الرثيئة تفثاً الغضب الرثيئة: لبن مخلوط. يقال: ارتثأ اللبن بالثاء المثلثة والهمز إذا خثر؛ ورثات اللبن إذا حلبته على حامض فخثر؛ والاسم: الرثيئة والفثئ: التسكين؛ يقال: فثأت القدر بالثاء المثلثة إذا أسكنت غليانها. قال: تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حمؤها غلا وقال الحماسي: فنفل شوكتها ونفثأ حميها ... حتى يبوخ وحمينا لم يبردِ وتقول: فثأت الرجل إذا كسرته عنك بقل أو غيره وسكنت غضبه. وفثأت الخبز، ويقال أيضاً بالتاء المثناة، وهي فعل تام في هذا المعنى غير مخصص بالنفي، كما أثبته أبن مالك وغيره. والغضب معروف، وهو حركة النفس، مبدأها إرادة الانتقام. غضب: بالكسر، يغضب، فهو غضبان. والمعنى أن شرب الرثيئة كاسر للغضب مسكن له نافع. يضرب في اصطناع المعروف مطلقا وفعل اليسير من البر فانه نافع. وأصله أن رجلا كان غضب على قوم، وكان مع غضبة جائعا، فسقوه رثيئة، فسكن غضبه وكان عنهم. وفي الرثيئة يحكى أن عمرو بن معد يكرب قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أافرام بنو مخزوم؟ قال وما ذاك؟ قال: تضيفت خالد بن الوليد فأتى بقوس وكعب وثور. قال: إنّ في ذلك لشبعة. قال: لي أو لك؟ قال: لي ولك. فقال عمرو: حلا يا أمير المؤمنين فيما تقول. إني لأكل الجذع من الإبل أنتقيه عظما عظما، واشرب التبن من اللبن رثيئة وصريفا. أراد بالقوس البقية من التمر تبقى،

إن الرقين تغطي أفن الأفين

وبالكعب القطعة من السمن، وبالثور القطعة من الأقط، وبالتبن القدح العظيم، وبالرثيئة ما صب كما مر، وبالصريف ما انصرف به عن الضرع حارا. وقوله حلا هي كلمة تقولها العرب في الأمر تكرهه بمعنى: كلا. ومنه قول الأحن بن قيس حين دخل على المصعب بن الزبير يكلمه في رجل وجد عليه، فقال مصعب: بلغني عنه الثقة، فقال الأحنف: حلا أيها الأمير، إنّ الثقة لا يبلغ! ويروى هذا المثل: إنّ الرثيئة مما يفتأ الغضب، على إنّه موزون كشطر بيت من البسيط. وقد جعل الشنتمري في شرح الحماسة هذا المثل حديثا، وهو غريب والله اعلم. إنَّ الرقين تغطي أفن الأفين الرقون: جمع رقية، وهي الفضة؛ يقال: ورق، مسكن الراء، مثلث الواو؛ وورق، بفتح فكسر، وبفتحتين، وجمع الكل أوراق. ويقال: رقة، بحذف الفاء، كعدة. ومنه الحديث: في الرقة ربع العشرة. وجمع الرقة: رقون، وهو شاذ، لأن هذا الجمع إنّما يشيع وراء بابه في المحذوف اللام، كنين وعضين وعزين. أما المحذوف الفاء كعدة وجدة ودية فلا، غير إنّه ورد فيه ألفاظ على وجه الندرة، كرقين في جمع الرقة، ما مر؛ وازين، في جمع الازة، وهي حفرة تحفر ويستوقد فيها؛ ولدين، في جمع اللدة، وهو مساويك في السن؛ وحشين في جمع الحشة، وهي الأرض المعشبة. والتغطية: الستر. والأفن: ضعف الرأي؛ يقال: أفن الرجل، بالكسر، أفنا محركا ومسكنا. قال قيس بن عاصم المنقوي رحمه الله تعالى: إني امرؤ لا يعتري حسبي ... دنس يفنده ولا أفنُ من منقر في بيت مكرمة ... والفرع ينبت حوله الغصنُ وقد أفنه الله يأفنه، فهو مأفون وأفين. وقال الشاعر:

إن السقط يحرق الحرجة.

وقد تزدري العين الفتى وهو عاقلُ ... ويؤفن بعض القوم وهو جريمُ ومعنى المثل أنَّ وجدان المال يحلي المرء بحلية الكمال، ويستر ما فيه من ذميم الخصال، ويحببه إلى قلوب الرجال، حتى يروه بعين التوقير والاجلال، وإن كان من أحمق الحمقى وأجهل الجهال، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وأحسن: ربَّ حلم أضاعه عدم المال ... وجهلٍ غطى عليه النعمُ وقال آخر: والناس أعينهم إلى سلف الفتى ... لا يسألون عن الحجى والأولقِِ وقال أعرابي مر بأهله: سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثانِِ فللموت خيرٌ من حياة يرى بها ... على المرء ذي العلياء مس هوانِ متى يتكلم يبلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيانِ كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطقٌ بلسانِ وقال أبو الطيب: فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا في الدنيا لمن قل مجدهُ ويقال: المرء بنشبه وسيأتي في أثناء الكتاب جملة نافعة من هذا المعنى ومن ثناء الشعر على الثروة والغنى. إنَّ السقط يحرق الحرجة. السقط ما يسقط بين الزندين قبل استحكام الورى، وتثلث سيبه والإحراق والتحريق معروف. والحرجة بفتحتين: الشجر الكثير الملتف، جمعه حرج وأحراج وحراج. قال العجاج:

عاين حيا كالحراج نعمه ... يكن أقصى شله محرنجمه وهذا المثل وقع في حكاية للأصمعي قال: بينما أنا بحمى ضربة إذ وقف عليَّ غلام من بني أسد في أطمار ما ظننته يجمع بين كلمتين. فقلت: ما اسمك؟ قال: حريقيص. فقلت: أما كفى أهلك إن يسمونك حرقوصا حتى ضغروا اسمك؟ فقال: إنَّ السقط يحرق الحرج. فعجبت من جوابه فقلت: أتنشدنا شيئا من أشعار قومك؟ قال: نعم، أنشدك لمرازنا قلت: افعل. قال: سكنوا شبيثا والاحص وأصبحوا ... نزلت منازلهم بنو ذيبانِ وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعانِ وإذا فلان مات عن أررومةٍ ... رفعوا معاوز فقده بفلانِ قال. فكادت الأرض تسوخ بي لحسن إنشاده الشعر. فأنشدت الرشيد هذه الأبيات فقال: يا أصمعي، وددت لو رأيت هذا الغلام فكنت أبلغه أعلى المراتب! ومعنى المثل أنَّ الأمر الصغير قد يصير إلى أعظم، والرجل المستحقر قد يغني غناء المستعظم، بل الواحد قد يقوم مقام الجم. ومن هذا قول القائل: لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسدِ وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... وربما أضرمت ناراً على بلدِ وقال الآخر: أرى خلل الرماد وميض نارٍ ... ويوشك أنَّ يكون لها ضرامُ

إن الشفيق بسوء الظن مولع

فإنَ النار بالزندين تورى ... وإنَّ الحربَ أولها الكلامُ وقول المسكين: ولقد رأيت الشر بين الحي يبدؤه صغاره. وقول أبي العلاء: وقد ينمى من صغيرٍ ... وينبت من نوى القسب اللبان وقد بين هذا المعنى من قديم عدي بن زيد حيث يقول: شط وصل الذي تريدين مني ... وصغير الأمور ينجي الكبيرا وبعد هذا البيت: إنَّ للدهر غرة فاحذرنها ... لا تبيتين قد أمنت الدهورا قد ينام الفتى صحيحا فيردى ... ولقد بات آمناً مسرورا أيّها المبتغي سبيل غناه ... الزم البر في الفؤاد ضميرا لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا ووقع في شعر مرارٍ السابق شبيث والاحص وهما موضعان، والمعاوز وهي الخلفان، ويريد انهم كلما مات منهم كريم خلفه كريم يسد مسده. ومثله قول الحماسي السمؤل بن عاديا: إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لمّا قال الكرام فعول وقول الحماسي الآخر: وليس يهلك منا سيد أبدا ... إلاّ اجتلينا غلاما سيدا فينا وقول أبي الطمحان: إذا مات منا سيد قام صاحبه ونحوه كثير في أشعارهم. والمقصود من ذلك كله أنَّ السؤدد في القوم شائع، والكرم كثير ذائع، فكلما فقد من السادات مفقود، فغيره موجود. إنَّ الشفيق بسوء الظن مولع الشفيق بفتحتين: الخوف وحرص الناصح على صلاح المنصوح. ويقال: أشفقت عليه شفقاً وإشفاقاً، فأنا شفيق ومشفق. قال خلف بن خليفة:

إن الشقراء لم يعد شرها رجليها

تهوي حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت اكرم نزال على الحرام ولا يقال: أشفقت عليه. وجوزه بعض اللغويين. والظن الراجح من طرفي التردد في الشيء. وقد يطلق على الاعتقاد مطلقا. والمولع بالشيء: المغرى به؛ يقال: ولع به بالكسر، ولعاً بفتحتين، وولوعاً مفتوح الأول؛ وأولعته أنا وأولع به، فهو مولع. ومعنى المثل إنَّ كان من تشفق عليه فأنت تتخوف عليه الأحداث، حتى إنَّ كل شيء ذكر أو سمع أو رئي تخشى أنَّ يكون قد وقع به، كما قال الحماسي دريد بن الصمة: تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي وعبد الله هو بن الصمة أخو دريد. فكان دريد لمّا سمع قول الفوارس قد صرع فارس ظنه دريد أخاه فشفق عليه. وقيل إنّه ظنه أخاه لمّا علم من إقدامه وجرأته. وسوء الظن عند الشفق أمر معروف مشاهد في الناس، ولا سيما الضعفاء من كالنساء، حتى إنّه متى ذكر هلاك في الجيش غائب أو مسافرين، كان كل من هناك من يشفق عليه يتصور ذلك الهلاك فيه شفقة، وهو أوّل ما يسبق إلى وهمه. ومما يشبه هذا ما وقع لإياس بن معاوية رحمه الله: نظر إلى نسوة ثلاث، وقد فزعن من شيء، فقال: هذه بكر، وهذه ظئر وهذا ظئر، وهذه حبلى. فسئلن عن ذلك فوجد الأمر كما قال. فقيل له: بم عرفت ذلك؟ قال: إنهن لمّا فزعن وضعت كل واحدة يدها على أهم المواضع عندها، فوضعت البكر على فرجها، والظئر على ثديها، والحبلى على بطنها. فانظر في هذه القصة كيف جعلت كل واحدة تظن الشر نازلاً بالمحل الذي لها مزيد إشفاق عليه! إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها الشقراء: فرس جمحت بصاحبها فأتت على وادٍ وهمت أنَّ تثبه، فقصرت ووقعت، فاندقت عنقها وسلم صاحبها. فسئل عنها فقال: إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها، أي لم يتجاوزها إلى غيرها. ويقال فرس رمحت ابنها فقتلته. والمعنى إنَّ الشر لم يتجاوز ما كان برجلها، فيضرب في النحو هذا من الشيء النازل

إن الشقي وافد البراجم.

ولم يتعد. وكان عتبة بن جعفر بن كلاب أجار رجلا من بني أسد فقتله رجل من بني كلاب، فقال بشر بن أبي حازم الأسدي يهجو عتبة: فأصبحت كالشقراء لم يعد شرها ... سنابك رجليها وعرضك أوفرُ وفي الشقراء كلام آخر يأتي إن شاء الله تعالى. إنَّ الشقي وافد البراجم. الشقاء: العسر والشدة، يمد ويقصر. يقال: شقي الرجل بالكسر، يشقى، شقاوة بفتح الشين وكسرها، وشقا وشقاء وشقوة بالفتح والكسر أيضاً فهو شقي. والوافد: القادم؛ يقال وفد علي يفد أي قدم فهو وافد وهو وفد وأوفاد ووفود. ومن الأول قوله تعالى:) يومَ نحشرُ المتقينَ إلى الرحمنِ وفداً (. والمفسرون يقولون: وافدا أي راكبا لأن الوفود سراة الناس. والبراجم: قوم من أولاد حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم. المثل لعمرو بن هند وهو عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي بن أخت جذيمة الأبرش ملك الحيرة. وكان سبب ذلك أنَّ أخاة اسعد بن المنذر كان في بني دارم مسترضعا في حجر زرارة بن عدس الدارمي ويقال في حجر حاجب بن زرارة. فلما شب خرج يوما يتصيد فعبث كما تعبث الملوك لمّا انصرف من صيده وبه نبيذ، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله. وقيل مرت به ناقة كوماء فعبث بها ورمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد، أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب فلحف بمكة وحالف قريشا. وكان زرارة بن عدس من خواص عمرو بن هند. وكان عمرو قبل ذلك قد غزا قوما من العرب ومعه زرارة فأخفق. فلما انتهى عبد رجوعه إلى جبل طيء قال له زرارة: أيّها الملك! إنَّ رجوع مثلك إذا غزا بغير شيء لعظيم، وها هي طيء بجنبك. فمال عليها أبن هند فقيل وأسر. فاضطغنت طيء من ذلك على زرارة وجعلوا يتربصون به فرصة، فلما بلغهم إنَّ دارما قتلت اسعد وكتم عمرو بن هند ذلك في نفسه،

قال عمرو بن ملقط الطائي ينبه عمرا للنهوض إلى أثره ويغريه بقتل زرارة: من مبلغ عمرا بأن ... المرء لم يخلق صباره؟ ها إنَّ عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أوراه تسفي الرياح خلال ... كشحي هو قد سلبوا إزاره فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة! فوافى هذا الشعر عمرا وزرارة عنده. فقال له عمرو: ما يقول هذا؟ فقال: كذب قد علمت عداوتهم أي فيك. قال: صدقت! فلما أمسى زرارة، هرب ولحق بقومه. فغزاهم عمرو بن هند وحلف ليحرقن منهم مائة بأخيه. فلما نزل بأوارة، وقد نذروا به، تفرقوا عنه هربا. فتتبعهم حتى قبض تسعة منهم وحرقهم بالنار. فأراد إنَّ يكمل العدة بعجوز منهم. فلما أمرها قالت: إلاّ فتى يفدي هذه العجوز بنفسه؟ ثم قالت: هيهات! صار الفتيان حمما. ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة الشواء ولم يشعر بالأمر، فظن أنَّ الملك قد اتخذ طعاما. فأقبل نحوه تخب به راحلته لينال منه، حتى وقف على عمرو فقال له: من أنت؟ قال: أبيت اللعن! أنا وافد البراجم. فقال عمرو: إنَّ الشقي وافد البراجم. فذهبت مثلا. ثم أمر به فقذف في النار. يضرب هذا المثل في الإنسان يجلب الحين على نفسه وهو من باب قولهم: بحث عن حتفه بظلفه، وسيأتي. وبهذه الواقعة سمي عمرو بن هند محرقا لتحريقه بني تميم. وقيل سمي محرقا لعتوه وفساده في الأرض فكأنه حرقها. وقيل لتحريقه نخل مللهم، وهو موضع بالبحرين ويسمى أيضاً مضطرب الحجارة لشدة وكأته. وكان جده امرء القيس أيضاً فيما يزعمون يسمى محرقا، وأباه يعني الأسود بن يعفر بقوله: ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ أرض الخورنق والسدير ويارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سندادِ جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ وفي هذه القصة يقول الأعشى: ويكون في الشوفِ الموازي ... منقراً وبني زراره

أبناءُ قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأواره فجروا على ما عاودوا ... ولكلٍّ عاداتٍ أماره والعود يعصرُ ماؤه ... ولكلٍّ عيدانٍ عصاره وقال جرير يعير الفرزدق: أين الذين بنار عمرو حرقوا؟ ... أم أين اسعد فيكم المسترضع؟ وقال أيضاً: وأخزاكم ربي كما قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم وبها أبلغ ليك بني تميمٍ ... بآية ما يحبون الطعاما وقال آخر: إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرك أن يعيش فجئ بزادِ بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفف في بجادِ تراه ينقب البطحاء طرا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ ودخل بعض أذكياء بني تميم، ويقال هو الأحنف، على بعض ملوك قريش، ويقال هو معاوية رضي الله عنه، فقال له الملك: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال السخينة، يا أمير المؤمنين. أراد الملك أنَّ يعيره بالطعام وأشار إلى الشعر السابق وأراد التميمي تعييره بالسخينة، وهي طعام، وكانت قريش تعير بها. ويشبه هذه القصة في تميم أيضاً ما يحكى أنَّ أعرابيا وقف على الفرزدق فقال له الفرزدق: ممن أنت؟ فقال: من فقعس. قال: كيف تركت القنان؟ قال: تركته يساير لصاف. أراد الفرزدق قول الشاعر: ضمن القنان لفقعس سوءاتها ... إنَّ القنان بفقعس لمعمرُ وأراد الفقعسي بقوله يساير لصاف قول آخر:

وإذا تسرك من تميم خصلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثرُ وقد كنت أحسبهم أسود خفية ... فإذا لصاف تبيض فيها الحمر أكلت أسيد والهجيم ودارم ... أير الحمار وخصيته العنبر ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ... سرقا فصب على فشيشة أبجر والقنان، بفتح القاف، جبل لبني أسد، وهو الواقع في قول زهير: جعلن القنان عن يمين وحزنه ... ومن بالقنان من محل ومحرم ولصاف، بكسر اللام وبفتحها، معربا ومبنياً على الكسر، جبل لتميم، وهو الواقع في قول النابغة: بمصطبحات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً يسرهن التدافع ونحوه ما حكى الجاحظ قال: دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات بقرب غدير فيه ضفادع. فقال عبد الله: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها. فقال المحاربي: اصلح الله الأمير! إنّها أضلت برقع لها، فهي بغائه. أراد الهلالي قول الأخطل: تنق بلا شيء شيوخ محاربٍ ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في الظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر وأراد المحاربي قول الشاعر: لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولأبن هلال برقع وقميص ومما شبه هذا في الذكاء والفطنة ما حكي عن بعض الناس إنّه قال: قعدت على جسر بغداد، فمرت امرأة بارعة الجمال، فائقة الكمال، من الرصافة إلى الجانب الغربي. فاستقبلها شاب ذهب نحو الرصافة، فقال الشاب: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري: ولم يقف واحد منهما، بل مر كلٌ لحاجته،

إن العصا قرعت لذي الحلم.

مشرقاً ومغرباً قال: فتبعت المرأة، فقلت لها: إنَّ لم تقولي ما قلتما. فضحكت فقالت: أراد الشاب قول علي بن الجهم: عيون المهى بين الرصافة والجسر ... جلب الهوى من حيث ادري ولا ادري وأردت أنا قول أبي العلاء المعري: فيا دارها بالحزن إنَّ مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال فانصرفت وتركتها. وبعضهم ينكر في قصة عمرو بن هند التحريق، ويقول إنّه قتل تسعة وتسعين وإكمال العدة بوافد البراجم، وينشد قول الجرير: أين الذين بنار عمرو قتلوا؟ وفي القصة اختلاف وطرق، وسنعيدها في الباء إنَّ شاء الله تعالى على وجه آخر للحاجة إليها هناك. إنَّ العصا قرعت لذي الحلم. العصا معروفة. والقرع: الضرب. والحلم: العقل. ومعنى المثل إنَّ الحليم إذا نبه انتبه. واختلف في أوّل من قرعت له العصا: فقيل عامر بن حممة، وقيل عمرو بن مالك، وقيل قيس بن خالد، وقيل عامر بن الظرب العدواني وهو الأشهر، وكان حكماً من حكام العرب. فلما كبر، قيل وأتى عليه ثلاثمائة سنة أنكر من عقلة شيئاً، وكانت له بنت حكيمة، فكان إذا قعد للناس وصاها إنَّ تقرع له المجن بالعصا إذا زل في كلامة ليرجع. قال الملتمس: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلاّ ليعلما وأراد بذي الحلم عامراً، وهو كنينه فيما يزعمون. وقال الحماسي الحرث بن وعلة

الجرمي: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي لا تأمنن قوماً ظلمتهم ... وبدأتهم بالشتم والرغم إنَّ يأبروا نخلاً لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمي وزعمتم أنَّ لأحلوم لنا ... إنَّ العصا قرعت لذي الحلم ووطئتنا وطئا على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم وتركنا لحما على وضمٍ ... لو كنت تسبقني من اللحم قيل: وعامر هذا أوّل من جلس على المنبر وتكلم. وفيه يقول الأسود بن يعفر: ولقد علمت لو إنَّ علمي نافعٌ ... أنَّ السبيل سبيل ذي الأعداد وإليه اشار ذو الإصبع العدواني بقوله: عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض بغي بعضهم ظلما فلم ... يرع على بعض ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض ومنهم من يجيز الناس ... بالسنة والفرض ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي يعني عامر بن الظرب، وسيأتي له مزيد من الخبر.

إن فلانا باقعة.

إنَّ فلاناً باقعة. الباقعة: الرجل الداهية؛ وأصله البقع في الأرض وهو الذهاب فيها وحوله بقاعها. يقال: ما أدري أين بقع أي ذهب. فالباقعة هو الذي جال بقاع الأرض وعرف خيرها وشرها فاستعمل في الداهية الذكي الذي لا يفوته شيء. ويقال الباقعة هو الطائر يرد البقاع وهي الأمكنة فيها ماء ويحيد عن المشارع والمياه المحصورة خوف أنَّ يحتال عليه فيصاد. فضرب مثلا للرجل الحذر المحتال. إنّه لحبل من أحبالها الحبل بكسر الحاء وتفتح الداهية من الدواهي جمعه حبول. قال كثير: فلا تعجلي يا عز أنَّ تتبيني ... بنصحي أتى الواشون أم بحبولِ ويقال للرجل هو حبل من أحبالها إذا كان داهية كالمثل الذي قبله أو كان قائما على المال رفيقا بسياسته. إنّه لذو بزلاء. البزلاء: الرأي الجيد؛ وهو إما مأخوذ من البزول يقال بزل ناب البعير إذا انشق وطلع؛ وبزلت الشيء: شققته فتبزل. فالبزلاء: الرأي الذي ينشق عن الصواب. ويقال: رجل بازل إذا احتنك، تشبيها بالبازل من الإبل. وقال الراعي: من أمر ذي بدوات لا يزال له ... بزلاء يعي بها الجثامة اللبدُ وأما من البزلاء وهي الداهية العظيمة. ومنه قولهم: فلان نهاض ببزلاء إذا كان مطيقا للشدائد. إنّه ليسر حسوا في لرتغاء. السرار ضد الإعلان؛ والحسو: الشرب؛ يقال: حسا اللبن والماء والمرق وغير ذلك إذا شربه؛ واسم ما يحسى: الحسو، مقصورا وممدودا، والحسو على

إنه لساكن الريح.

مثال عدو، والحسية. ورغوة اللبن، مثلثة الراء، ورغاوته، ورغايته، بضم الراءين، ويكسران: زبدة الطافي فوقه. قال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا بأس ونجدة: ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح؟ رأوه فازدروه وهو حر ... وينفع أهله الرجل القبيحُ فشد عليهم بالسيف صلتا ... كما عض الشبا الفرس الجموحُ فاطلقت غل صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريحُ ولم يخشوا مصاليه عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريحُ والصريح: الخالص ويسمى المحض كما قال طرفة: ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... وإن أعطيته أترك لقلبي مجثما وكما قال الآخر: فقل جعل يستق في لبن محض. ويقال: ارتغى الرغوة إذا أخذها بفيه واحتساها. ومعنى المثل إنّه يحسو اللبن وهو يظهر إنّه يزيل الرغوة بفيه ليصلحه لك. وضرب لمن يريك إنّه يعينك وهو يجر النفع لنفسه. وكذا من يريد أمرا وهو يظهر غيره. وقيل للشعبي: إنَّ رجلا قبَّل أمَّ امرأته. فقال: يسر حسواً في ارتغاء، وقد حرمت عليه امرأته. إنّه لساكن الريح. مثل لرجل الوادع، وهو في الأصل إما مشبه بزمن قد سكنت ريحه

إنه لشراب بأنقع.

وهدأت زعازعه، فورد مورد التمثيل؛ وإما مشبه بالريح الساكنة عن الاضطراب، وهو ضرب من التجريد. إنّه لشرَّابٌ بأنقع. الشرَّاب: الشارب بكثرة؛ والأنقع: جمع نقع بفتح فسكون وهو يطلق على الغابر ويطلق على محبس الماء المستنقع، وعلى الأرض الحرة الطين، يستنقع فيها الماء. فيضرب هذا لمن جرب المور وعاود خيرها وشرها أو للداهي المنكر. قيل: واصله في الدليل وهو إنّه إذا كان بصيرا بالفلوات حذف في الطريق وعلم أين يسلك إلى الأنقع حتى يردها. والأنقع هنا: المياه المستنقعة أو محالها بحسب ما فيها من الماء. فصار مثلا لكل بصير بالأمور يصل منها إلى موارخ. وقيل أصله أنَّ الطائر إذا كان حذرا منكرا لم يرد المياه التي يردها الناس مخافة الأشراك التي تنصب بحضرتها وإنّما يرد الأنقاع التي في الفلوات أي المياه المستنقعة. وحكى البكري بسنده عن رياح بن زيد قال: سألت أبن جرير عن آية وقلت إنَّ معمرا أخبرني بكذا فقال: إنَّ معمرا شرب العلم بأنقع. قال عبد الرزاق: الأنقع: الصفا الذي يصيبه الغيث فيكون هاهنا ماء وهاهنا ماء. إنّه لصل أصلال. الصل، بكسر الصاد المهملة: الحية الخبيثة لا تنفع فيها الرقى ولا يبل سليمها. قال الشاعر: والحية الصل لا تغررك هداته ... فكم سليم وموقوذ لنكرته! وقال صاحب تأبط شراً يرثيه: مطرق يرشح موتا كما أطرق ... أفعى ينفث السم صلُّ وجمعه أصلال فضرب للرجل الداهي في الخصومات وغيرها، كأنه لحية الحيات. قال الشاعر:

إنه لضعيف العصا.

ماذا رزئنا به من حيةٍ ذكرٍ ... نضناضةٍ بالرزايا صلِّ أصلالِ إنّه لضعيف العصا. مثل لقليل الضرب للإبل. قال الراعي: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما اجدب الناس إصبعا إنّه لضل إضلال. مثل للداهي على نحو ما مر أنفا في الصاد، إلاّ إنّه يقال هناك: صل أصلال، بالصاد المهملة وبكسرها لا غير؛ ويقال هنا: ضل إضلال، بالضاد المعجمة المكسورة والمضمومة. ومعناه إنّه يضل خصمه وقرنه فلا يهتدي ولا يعرف من حيث يأتيه ولا يتجه معه إلى وجه يخلصه منه. والضلال ضد الرشاد. قيل: وأصله قولهم: أرض ضل، إذا كانت تضلل أصحابها. وأما قولهم: إنّه ضل بن ضل. بكسر الضادين وضمهما، فمعناه إنّه منهمك في الضلال، أو إنّه لا يعرف له اصل، أو إنّه لا خير فيه. ويقال للباطل: ضل بتضلال. قال عمر بن شاس الأسدي: تذكرت ليلى لات حين أذكارها ... وقد حني الأصلاب ضل بتضلال وقيل في قول امرئ القيس: نواعم يتبعن الهوى سبل الردى ... يقلن لأهل الحلم ضل بتضلال إنّه دعاء بالضلال، أي إذا رأين أهل الحلم قل لهن: أضلكم الله، ودعون عليهم إذ لا يتبعون اللهو، وهو البين. قيل: وأنكر أبو عبيد ضم الضاد في قولهم: ضلا بتضلال، وقال: لم اسمع الضم إلاّ في ضل بن ضل.

إنه لعض.

إنّه لعض. العض بكسر العين المهملة وبضاد معجمة، يضرب للرجل الداهي المنكر البليغ. قال القطامي: أحاديث من أنباء عاد وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل ويروي: أحاديث من عاد وجرهم ضلة. ومعنى ضلة: لا يهتدي إليها، كما قالت السلكة أم السليك: ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك ومعنى يثورها: يحركها من مكانها، ويثيرها من مظانها. ويروي: ينورها بالنون، أي يكشفها ويبين ما استتر منها من النور الكاشف للظلمة. وزيد المذكور أحد بني هلال أبن ربيعة، وكان من اعلم الناس. ودغفل من بني ذهل بن ثعلبة نسابة. قيل: وأصل المثل من العض على النواجذ. يقال: عض الرجل على نواجذه إذا صبر على الأمر. قال علي كرم الله وجهه يحرض الناس يوم صفين: عضوا على النواجذ من الأضراس! فإنه أنبى للسيوف على الهام. وقال الحارث بن وعلة: الآن لمّا ابيض مسربتي ... وعضضت من نابي عجذم والنواجذ بالذال المعجمة: أواخر الأضراس، وأحدها ناجذ. والعرب تسمي الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. قال النمر بن تولب: على إنّها قالت عشية زرتها ... المثل ينبت لذا حلمه بعدي ورجل منجذ، أي مجرب أحكمته الأمور. قال سحيم بن وثيل: أخو خمسين مجتمع اشدي ... ونجذني مداورة الشؤون وقيل: إنه لعض المال، أي شديد القيام عليه، وعض سفر، أي قوي عليه، وعضاض عيش، أي صبور على الشدة، وغلق عض: لا يكاد ينفتح. والعض أيضاً: مال صغر من شجرة الشوك، كالشبرق والقتاد الأصغر؛ يقال: بلد ذو عض، وإبل عاضة: ترعاها؛ وأهلها معضون. فيصح إنَّ يكون أصل المثل من هذا أيضاً.

إنه للين العصا.

إنّه للين العصا. مثل لرقيق الحس السياسة لمّا ولي. قال الشاعر: عليه شريب وادع لين العصا ... يساجلها جماته وتساجله إنّه لنقاب. مثل للرجل العالم الفهم الخبير بغوامض الأمور. قال أوس بن حجر: كريم جواد أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب قيل: واصله من التنقيب في البلاد وتجريب الأمور. ونحوه قولهم في مثل آخر لمجرب الأمور: فلان قد ركب ظهر البر والبحر، وعرف حالتي الخير والشر، وذاق طعمي الحلو والمر. وقال الحكماء: لا ينال أحد الحكمة حتى ينسى الشهوات، ويجرب الفلوات، ويحالف الأسفار، وينتاب القفار، ويصل الليل باليوم، ويعتاض السهر من النوم. قالوا: النظر كالسيف، والتجارب كالمسن. وقالوا: مرآة العواقب، في يد ذي التجارب. وقال أبو تمام يصف بالتنقيب والتجريب: سلي هل عمرت القفر وهي سباسب ... وغادرت ركبي من ركابي سباسبا وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا وقال أيضاً: خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أواني بالشام قومي وبغداد المنى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني أحبة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإنَّ فرقوا في الأرض جيراني وقول أوس المذكور يحدث بالغائب هو من شأن النقاب. والمعنى إنّه ذو ذكاء قوي وفراسة وضن مصيب، كما قالوا: فلان المعي وقول الشاعر:

إنه لنكد الحظيرة.

الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا وقال الآخر: بصير بأعقاب الأمور إذا التوت ... كأن له في اليوم عين على غد وقال ابن الرومي: كمال وإفضال وبأس ونجدة ... وظن يريه الغيب لارجم راجم وقال آخر: تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من لم ينتفع بظنه، لم ينتفع بيقينه. وقال عبد الملك بن مروان: ما فرق بين عمر وعثمان إلاّ اختلاف الضن: ظن عمر فأصاب فتحفظ، وظن عثمان فأخطأ فأمهل. إنّه لنكد الحظيرة. النكد: لشدة والقلة؛ يقال: نكد عيش القوم إذا اشتد، ونكد ماء البئر إذا قل، وناقة نكود قليلة الدر، ورجل نكد: عسير؛ والحظيرة والحظار بالظاء المشالة: ما يجعل للماشية ويحاط بالشجر ونحوه للتأويل إليه ويمنعها من الحر والبرد، لأنها من الحظر وهو المنع. يضرب هذا المثل للرجل القليل الخير وللبخيل مع السعة، فكأن ضيق حضيرته كناية عن ضيق خيره وقلة فضله، كما يقال في المثل الآخر من هذا المعنى: فلان ضيق العطن، وإنّما العطن مبركة الإبل عند الماء؛ لكن جعل كناية عما مر. ويقال في ضده: فلان رحب الفناء، وسابغ الذيل، وغمر الرداء، ونحو ذلك. وقال أبو القاسم بن سلام: أراه سمى أمواله حظيرة لأنّه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وهو بعيد عن صنيع الكلام وأسلوب العرب في هذا النحو كما قررناه. إنّه لهتر اهتار. الهتر بكسر الهاء وسكون المثناة الفوقية: العجب والداهية، فيقال: فلان هتر اهتار

إنه لواقع الطائر.

ويضرب مثلا للرجل الداهي، كما تقدم في قولهم: صل اصلال. قال أوس بن حجر في الهتر بمعنى العجب: المَّ خيال موهنا من تُماضِرا ... هُدُوَّا ولم يطرق من الليل باكرا وكان إذا ما التمَّ منها بحاجةٍ ... يراجع هترا من تماضر هاترا وعن أبن الأعرابي: الهُتر والهِتر، " بالضم والكسر: ذهاب العقل. وفي الصحاح: الهِتر: العجب والداهية، والهِتر " السقط من الكلام، يقال: هتر هاتر، وهو توكيد. ومنه بيت أوس المذكور عنده. إنّه لواقع الطائرِ. مثل للرجل الساكن الأمور. وهو في الأصل أما مشبه بالبعير يقع غليه الطائر وينزع ما عليه من القراد، فيسكن البعير استلذاذاً لذلك ولا يتحرك لئلا ينفر الطائر فيطير عنه، كما يقال في المثل الآتي: كأن على رأسه الطير؛ وأما مشبه بالطائر الواقع في سكونه على ضرب من التجريد، كما مر في ساكن الريح. انك لا تجني من الشوك العنب. يقال: جنى الثمرة، واجتناها، وتجناها، وكل ما يجنى من الثمر فهو جنى بالفتح والقصر وجناة؛ والشوك، بفتح الشين المعجمة، معروف؛ الواحدة: شوكة؛ وشجرة شاكة وشوكة وشائكة: ذات شوك: والعنب معروف. ومعنى المثل أنّ الشر لا تستحصل منه خيرا، والفساد لا تكتسب منه صلاحا، كما إنَّ العنب ليس بخارج من الشوك. فإذا أوقعت شرا أو ظلمت أحدا فقد غرست شوكا، ولا تحصده إلاّ شوكا. وفي الحكمة: من يزرع خير يحصد غبطة، ومن يزرع الشر يحصد الندامة. وما أحسن قول صالح بن عبد القدوس ناطما لهذا المثل بعينه: إذا وترت أمرءا فأحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا

إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع.

إنّما العدو وإنَّ أبداً مجاملة ... إذا رأى منك فرصة وثبا والمثل لأكثم بن صيفي حكيم العرب. إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع. هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قاله للأنصار يصفهم بذلك. والفزع يكون على وجهين: أحدهما الذعر والجزع، وهو كثير الاستعمال، والأخر الاستنجاد والاستصراخ، ومنه قول سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له فرع الظنابيب أي: إذا أتى مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته. يقال: قرع ظنبوبه في هذا الأمر إذا جد فيه. والظنبوب: مقدم عظم الساق. ويشق من هذا المعنى أنَّ يكون فزع بمعنى أغاث. قال هبيرة اليربوعي، المقلب بالكلحبة: فقلت لكاس الجهيما فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا أي لأغيث. وكأس اسم جاريته. والطمع معروف. ومعنى الكلام المذكور وصف الأنصار رضي الله عنهم بالشجاعة والإقدام، وبذل النفوس في نصرة الإسلام، وتجشم المضائق في ذلك والعظائم، والتسارع إلى المكارم مع الزهد التام، ورفع الهمة عن الحطام. وهو معنى قوله: وتقلون عند الطمع، أي عند وجود الطمع في الناس لسبب من أسبابه، ويصح أنَّ يراد بالطمع المال المطموع فيه، أي: تقلون عند حضور الأموال واقتسامها وانتهابها، والقلة على بابها، أو للنفي وهو ابلغ. وناهيك بهذا الكلام مدحا وثناء، وبالأنصار رفعة وسناءً! ومثل هذا المعنى قول عنترة: يخبركم من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المطعم ومن هذا المعنى قول المهاجرين في الأنصار: انهم يكفوننا المؤونة، ويشاركوننا في المهنا. ومن باب المشاركة في الشدة قول أبي بكر الخوارزمي: أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... لزاما وإنَّ أعسرت زرت لماما فما أنت إلاّ البدر إنَّ قل ضوءه ... أغب وإنَّ زاد الضياء أقاما

وأصله قول الأول: فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر وتمثل بهذا البيت علي كرم الله وجهه في طلحة حين رآه مقتولاً يوم الجمل. وورد في ضد هذه الصفة، وهو المشاركة في الرفاهية والخذلان في الشدائد أمثال كثيرة من الشعر كقول الشاعر: إذا ما علوا قالوا: أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أم ولا أب وقول الآخر: موالين إذا افتقروا إلينا ... وإنَّ اثروا فليس لنا موالي وقول الآخر: أبو راشد مولاي ماطل حقه ... فإن كانت الأخرى فمولى بني سهم إنَّ لله جنوداً مِنْهَا

إن في المرنعة لكل قوم مقنعة.

العسل. الجنود جمع جند، بضم فسكون، وهو العسكر. ويطلق عليه السلام الأعوان وعلى المدينة، يقال الشام خمسة أجناد، ويراد مدنها الخمس؛ وعلى الصنف من الخلق على حدة. والعسل معروف. وهذا الكلام وقع لمعاوية، رحمه الله، لمّا بعث عمرو بن العاصي أميراً على مصر، وفيها محمد بن أبي بكر أمير عن علي، كرم الله وجهه. فاقتتلا، فقتل محمّد بن أبي بكر واستولى عمرو على مصر. فبلغ ذلك أمير المؤمنين علياً، كرم الله وجهه، فأنفذ إلى مصر الأشتر النخعي في جيش، فزعموا إنّه لمّا سمعه معاوية دس إلى دهقان كان بالعريش أنَّ يقتل الأشتر، وجعل للدهقان أنَّ يترك له الخراج عشرين سنة. فسأل الدهقان أي الشراب احب إلى الأشتر، فقيل له العسل، فأتاه بعسل مسموم. فما استقر في جوفه إلاّ وقد تلف. فبلغ معاوية ذلك فقال: إنَّ لله جنوداً منها العسل. " ولا ادري اهو أبو عذره أم كان مسبوقا. وظاهر كلام صاحب القاموس أنَّ الجند في هذا المثل أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، وليس بظاهر، إذ لا معنى لأن يقال هذا أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، والقصة أنَّ لله أصنافا من الخلق منها العسل " وإنّما إنّه أعوان، ولا سيما كلامه يحكى تارة بلفظ: إن لله جندا في العسل، وبهذه العبارة رأيته في تاريخ المسعودي، والله اعلم. إنَّ في المرنعة لكل قوم مقنعة. يقال: رنع لون الرجل رنوعا إذا تغير وذبل؛ ورنعت الدابة الذباب: طردته؛ ورنع بالكسر يرنع: إذا لعب. والمرنعة على وزن مرحلة: السعة والدعة، وتطلق أيضاً على الروضة، وعلى الأصوات في اللعب، وعلى القطعة من الطعام ومن الشراب ومن الصيد. ويقال للحمقاء إذا أثرت: وقعت في مرنعة فعيشي، أي: وقعت في خضب. والمقنعة: الغنى، وهي من القناعة، أي: في المرنعة لكل أحد ما يقنع به ويستكفي. والمعنى ظاهر. إنَّ في مض لمطمعا. مض بكسر الميم وكسر الضاد المعجمة المثقلة: كلمة تستعمل بمعنى لا. قال: سألت هل وصل، فقالت: مض، وهي حكاية صوت الشفتين يكون معه نوع استهزاء، وهي مع ذلك مطمعة في الإجابة. ومن ثم قالوا: إنَّ في مض لمطمعا. ويشبه أنَّ يضرب عند التحريض على طلب الشيء وترجيه ما دامت مخائل بلوغه وإن ضعفت. إنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرَّجل الفَاجِر. هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم قاله في شأن قزمان بن الحارث لمّا أعجب المسلمين قتاله وغناؤه، ثم جرح وآلمته الجراحة، فاستعجل وقتل نفسه. وقد كان صلى الله عليه وسلم اخبرهم قبل ذلك إنّه من أهل النار: وهو معنى ما في خبر آخر: إنَّ الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم. وإنّما ذلك لآن كل من دخل في

إن الله لن يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه.

سواد المسلمين فهو قد يجاهد العدو ويدافع عن المسلمين ويقصم ظهور الكافرين، حتى يتأيد بتعزز المؤمنين، ويضعف الكفر بذل الكافرين، طلبا لإعلاء كلمة الله تعالى، وابتغاء لمرضاته، فنفع " وانتفع. وقد يفعل ذلك لغير إعلاء كلمة الله أو يحبط العمل بوجه من الوجوه، فنفع " ولم ينتفع ولم، عياذاً بالله تعالى! وما ذكره الشارع، صلوات الله وسلامه عليه، غير مختص بالجهاد، بل في كل وجه من وجوه التأييد كسياسة الأمة، والحكم بين الناس، وتعليم العلم، وقبض الأموال وتفريقها وبناء المساجد والأسوار والقناطر، ونحو ذلك مما لا ينحصر. وذلك واقع لا محالة، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وسيأتي تشبيه العالم غير العامل بالمصباح يضيء للناس وهو يحترق، نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أنَّ يقينا شر هذه الورطة، ويقينا شر أنفسنا وشر كل ذي شر! إنَّ الله لن يرفع شيئاً من الدنيا إلاّ وضعه. هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قاله في شأن ناقته، وكانت لا تسبق. فجاء أعرابي على قعود فسبقها. فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ز كل ذلك في الصحيح. إنَّ الُّلهَي تفتح الَّلهي. اللهي الأول بضم اللام جمع لهوة بضم اللام، وتفتح أيضاً، وهي العطية أو افضل العطايا؛ وكذا اللهية، وتطلق على الألف من الدنانير والدراهم. قال النابغة: عظام اللهي أولاد عذرة إنهم ... لها ميم يستلهونها بالحناجر وقال الحماسي: لعمري لئن أعمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأه المتثاقل لقد كان يروي المشرفي بكفه ... ويعطي اللهي في كل حق وباطل واللهوة أيضاً ما يرمية الطاحن بيده في فم الرحى، وكان هذا هو الأصل. واللهي الثاني بفتح اللام جمع لهاة، على مثل قناة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق، والجمع بإسقاط الهاء، وقد مده الشاعر ضرورة في قوله:

إنما يجزي الفتى ليس الجمل.

يأكل من تمر ومن شيشاء ... ينشب في المعسل واللهاء! والمعنى المثل أنَّ الإحسان، وتوارد العطايا الحسان، يلطف اللسان، بالثناء والشكران. وهذا المثل وقع في كلام الكميت، وقيل له: لم صارت أشعارك في بني امية أطيب منها من بني هاشم؟ فقال: إنَّ اللهى تفتح اللهى! ومن أظرف ما أتفق في هذا ما حكي شمس الدين بن خلكان أنَّ المعتمد بن عباد الأندلسي ذكر يوما قول أبي الطيب: إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المعطي ورازمه فجعل يردده استحساناً له وفي الخضرة عبد الجليل بن وهبون، فقال ارتجلا: لئن جاد شعر أبن الحسين فإنما ... تجيد العطايا ز اللهى تفتح اللهى تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها إنّما يجزي الفتى ليس الجمل. يضرب هذا المثل في المكافأة وهو للبيد بن ربيعة في شعره يقول فيه: فإذا اقترضت قرضاً فأنجزه ... إنّما يجزى الفتى ليس الجمل وإذا زمت رحيلا فأرتحل ... واعص ما يأمر توخيهم الكسل واكذب النفس إذا حدثتها ... إنَّ صدق النفس يزري بالأمل وهذه كلها أمثال. إنّما سميت هانئاً لتهنأ. التسمية معروفة. وهانئ اسم رجل، والهنأ: الإعطاء؛ يقال هنأته هنئاً إذا أعطيته ورفدته، والاسم الهنئ بالكسر، قيل: وبالفتح أيضاً، وهو العطاء ويقال: هنأه شهراً أو شهرين إذا عاله هنئا وهناءة. قال الشاعر: هنأتهم حتى أعان عليهم ... سوامي السماك ذي السلاح السواجه يضرب هذا المثل في الحضّ على بذل الافضال. وعن الكسائي: وسمعت إعرابياً يقول: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي لتعول وتكفي. قلت: وينبغي أنَّ يضرب عند التحريض كل ذي وصف، أو لقب أو حرفة على فعل ما

إنما اشتريت الغنم حذار العازبة.

يوجب ذلك الوصف، أما حقيقة كان القاضي للقضاء بين الناس والمحتسب للاحتساب والمعلم للتعليم والصائغ للصياغة ونحو ذلك؛ وإما على الاشتقاق فقط كالافضال لمن اسمه فضل والحرث امن اسمه حارث والهنئ لمن اسمه هاني فإنَ ذلك هو أصل المثل. فيقال للذي تسمى بالقاضي وتأبى عن الحكم: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي قيل لكل قاض لتقضي بين الناس ونحو هذا. إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة. الاشتراء والغنم معروف؛ والعزبة: الإبل، والعزوب بالزاي في الأصل: الذهاب والبعد. وعزبت الماشية، وعزب بها ربها: بعد بها في المرعى ولم ترح. ورجل عزيب: بعد عن أهله وماله. والعزيب من الإبل والشاة: ما يبعد عن أهله في المرعى. وكان لرجل إبل فباعها واشترى غنما لئلا تعزب ثم عزبت غنمه فقال: إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة، فذهبت مثلا. ومضربه واضح من هذا. إنّما القرم من الأفيل القرم بالفتح: الفحل من الإبل وكذا الأقرم: والأفيل على مثل أمير: الفصيل وأبن المخاض فما فوقه؛ والجمع إفال، على مثل جبال. قال زهير: فاصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنمٍ وقال آخر: فإني لا تبكي عليَّ إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا والمعذي إنَّ الجمل إنّما يكون قرما بعد ما يكون صغيرا أفيلا. فيضرب في أنَّ الأمر الكبير ينشأ عن الأمر الصغير، على نحو مر في أنَّ السقط يحرق الحرجة، وما يأتي في قولهم: العصا من العصية، ونحوه كثير. إنّما هو كبارح الأروى. البارح من الظباء والطير وغيرها: ما ولاَّك مياسرة، وهو أنَّ يمر من ميمنتك إلى ميسرتك. يقال: برح الظبي ونحوه بفتح الراء، بروحا، فهو بارح؛ وعكسه: السانح. والعرب تتيمن بالسانح، وتتشائم بالبارح. وسنذكر ما في ذلك بعده إن

إن مع اليوم غدا.

شاء الله تعالى. والأروى بفتح الهمزة والواو مقصورا جمع أروية بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء أو اسم جمع لها والأروية: أنثى الأوعال. ويضرب هذا المثل للمر النادر القليل لأن الأروى مسكنها قمم الجبال. فلا يوجد منها بارح في الدهر إلاّ نادرا ولا سانح. إنَّ مع اليوم غدا. يضرب في تنقل الحالات وتبدل الساعات. وذلك لأن الخير والشر لمّا كانا متقاربين وكان زمانهما في علم الله تعالى مقسطين مقدرين علم أنَّ الشر متى حدث في زمن فللخير زمان يقابله يحدث فيه فعبر عن هذين الزمنين باليوم والغد لمّا بين اليوم والغد من التقابل بل كالذي بين الزمنين. فإذا وقع بك شر فذلك بوم الشر وللخير زمان يترقب هو عند ذلك اليوم فتقول تسليا: إنَّ مع اليو غدا. وكذا في العكس كما قيل: يا من يخاف أنَّ يكون ... ما يكون سرمدا أما سمعت قولهم ... إنَّ مع اليوم غدا؟ وقال علي بن الجهم لمّا حبسه المتوكل: صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخليفة لا تطاولها يدُ ولكل خير معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما يحمدُ لا يؤنسنك من تفرج كربتة ... خطبٌ رماك به الزمان الأنكدُ كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوَّدُ وقال معن بن أوس المزني: وأني أخوك الدائم العهد لم أخن ... وإن زال خصمٌ أو نبا بك منزلُ وإن سؤتني يموا صبرت إلى غدٍ ... ليعقب يوما آخرٌ منك أولُ ولمّا خرج المتوكل العباسي إلى دمشق ركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصرها. ثم خرج فرأى ديرا هناك قديما حسن البناء بين مزارع وأشجار

إن من بالنجف من ذي قدرة لقريب.

ورياض وأنهار فدخله. فبينما هو يطوف به إذ رأى رقعة بصدره. فأمر بها فأزيلت وأتوتي بها فإذا فيها: يا منزلا بالدير أصبح خالياً ... يلاعب فيه شمأل ودبورُ كأنك لم يسكنك بيض نواعم ... ولم يتبختر في فنائك حورُ وأبناء أملاك غواشم سادةٌ ... صغيرهم عبد الأنام كبيرُ إذا لبسوا ادرارهم فعوابسٌ ... وإن لبسوا تيجانهم فبدورُ على أنهم يوم اللقاء ضراغمٌ ... وأيديهم يوم العطاء بحورُ ليالي هشام بالرصافة قاطنٌ ... وفيك ابنه يا دير وهو أميرُ إذ الدهر غض والأخلافة لدنٌ ... وعيش بني مروان فيك نضيرُ وروضك مرتاد ولونك مزهرٌ ... وعيش بني مروان فيك قريرُ بلى! فسقاك الله صوب غمامة ... عليك لها لعد الرواح بكورُ تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو ومثلي بالبكاء جديرُ فعزيت نفسي وهي نفسٌ إذا جرى ... لها ذكر قومي أنه وزفيرُ لعل زماناً جار عليهم فلم يكن ... لهم بالذي تهوى النفوس يدورُ فيفرح محزونٌ وينعم بائسٌ ... ويطلق من ضيق الوثاق اسيرُ رويدك إنَّ اليوم يتبعه غدٌ ... وإنَّ صروف الدائرات تدورُ فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير وقال: أعوذ بالله من شر أقداره! واستدعى صاحب الدير وسأله عن الرقعة فقال: لا علم لي بها! ويذكر إنّه رجع حينئذ إلى بغداد فلم يلبث إلاّ أياما قلائل حتى قتله ابنه المنتصر رحمه الله تعالى. وقال الحماسي: عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أنَّ يكون له غدُ والشعر في هذا المعنى كثير. إنَّ من بالنجف من ذي قدرةٍ لقريبٌ. النجف، بفتحتين: الموضع المرتفع لا يعلوه الماء. والنجف هنا: موضع بقرب الكوفة، وكان قوم من أهل الكوفة فروا من الطاعون إلى هذا الموضع فقال شريح: إنَّ

إن من البيان لسحرا.

من بالنجف من ذي قدرة لقريب. يضرب مثلا للأحداث والأقدار وأنَّ لا ملجأ منها لديار. إنَّ من البيان لسحراً. هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم وتقدم شرحه في فضل الشعر. وسببه أنَّ بني تميم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمراً عن الزبرقان بحضوره فقال: مطاع في أدنيه شديد العارضة في قومه مانع لمّا وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله إنّه ليعلم مني اكثر من ذلك ولكنه حسدني. فقال عمرو: أما والله إنّه لزمن المرءة ضيق العطن ائيم الخال أحمق الولد. ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت. فقال صلى الله عليه وسلم: إنَّ من البيان لسحراً! وقد بين أبن الأهتم بكلامه المذكور وجه الأمر في باب المدح والذم: فإنَ العرب كثيرا ما يمدحون الشيء ثم يذمونه بعينه حتى يكاد العقل يحكم بتناقض كلامهم وتهافت مقالهم. وليس فيه مناقضة وإنّما ذلك لاختلاف النظر كما قال عمرو المذكور. وبيان ذلك أنَّ جميع الكائنات التي هي بصدد التغيرات والآفات لا تخلو عن صفة كمال يتجلى الله بها فيها بالوصف الجمالي وصفة نقصان يتجلى الله تعالى بها فيها بالوصف الجلالي. فكل مخلوق مشتمل على محاسن ومساوئ أما تحقيقها كرجل يكون جوادا وحكيما وهو جبان أو شرير أو قبيح المنظر؛ وأما بوجه واعتبار وذلك أيضاً: أما تحقيقا لاختلاف النظر بحسب تعدد الموجب وتباينه أما عادة وشرعا كسفك الدماء ظلما يمدح عادة ويذم شرعا؛ وكالصمت والتعفف يكون غالبا بالعكس أو عادة وعادة ككثير من أوصاف الخلقة وأنواع الزينة والملابس والمراكب ونحو ذلك مما تختلف فيه العادات استحسانا واستقباحا وقد يختلف الأمر بحسب المكان والزمان والأقران والأحوال وذلك أمر لا ينحصر. وإنّما تخيلا وذلك أما بحسب التشبيه كالورد يحسن عندما يشبه بالخدود النواضر، ويقبح عندما يشبه بسرم البغل؛ وأما بحسب النظر

والاعتماد على شبهة كالعسل، بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه قيء زنبور؛ وكبذل المال جودا وسخاءً بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه إتلاف للأموال وإضلعة لها وإفقار محوج إلى التذلل بالسؤال. وهذا تخييل أدى قوما من البخلاء إلى التصريح بالثناء على البخل الذي أجمع العقلاء على ذمه. وألف سهل بن هارون منهم في ذلك تأليف وقال قائلهم: يا رب جودٍ فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الدليل فاشدد على مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل وقد عرفت بهذه الجملة إنّه يمكنك أنَّ تمدح الشيء وتذمه بحسب اختلاف اعتباراته من غير تهافت في الكلام ولا تناقض: فإنَ التناقض غير لازم إلاّ لو أردت حسنا وقبحا ومدحا وذما على محل واحد باعتبار واحد، لكن توارده على محلين؛ أو باعتبارين كما بينا. والتفطن لهذه المحال واستخراج هذه الاعتبارات الدقيقة هو مرمى البلغاء، ومجال فرسان الشعر والخطباء وهو محط البيان والسحر الحلال، كما وقع في القصة السابقة: فليس الكلام بمجرد الجمع والتلفيق، ولا الشعر بمجرد الوزن والتقفية كم قيل: إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزانٌ وما أنا شاعرُ وهذا كلام ليس من غرضنا ولكن الحديث شجون. وسنذكر بعد ما للشعراء في مدح الشيب والهرم وذمه ومدح طول الليل وذمه ونحو ذلك. ولنذكر الآن بعض ما ورد مما يدل على ما ذكرنا زيادة على القصة المذكورة. قال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل وأنت جبان؟ فقال: لأني حليم وأني عفيف. وقالت للحصين بن المنذر امرأته: كيف سدت وأنت دميم بخيل؟ فقال: لأني سديد الرأي شديد الأقدام. وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة أميرا للوليد بن عبد الملك فأثنى على الحجاج خيرا. فلما كانت الجمعة التالية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل ما كانت الملائكة ترى له بها فضلا، وكان الله قد علم من غشه ما خفي عن ملائكته. فلما أراد فضحه ابتلاه بالسجود لآدم

إن من الشعر لحكمة.

فظهر لهم ما خفي عنهم فلعنوه. وإنَّ الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له بها فضلا وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين على غشه أو نحوه فالعنوه لعنه الله! ثم نزل. وكان العباس بن علي عم المنصور يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتتلفين وأما المروءة فتخلقين وأما الدين فتفسدين. ويسكت ساعة ثم يقول: أما النفس فتسحين وأما القلب فتشجعين وأما الهم فتطردين؛ أتراك مني تفلتين؟ ثم يشربها. ويحكى أنَّ عيسى عليه السلام ما عاب شيئا قط فمر بكلب ميت فقال أصحابه: ما أنتن ريحه! فقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنانه! وكتب يزيد بن معاوية في كتاب إلى عبيد الله بن زياد حين ولاه محاربة الحسين رضي الله عنه وأرضاه وأرغم أنوف واتريه، وكان قبل ذلك سيئ الاعتقاد فيه: أما بعد، فإنَ الممدوح مسبوب يوما وإنَّ المسبوب ممدوح يوما. وما ورد من هذا المعنى كثير فلنقتصر لئلا نطيل. إنَّ من الشعر لحكمة. تقدم هذا أيضاً في فضل الشعر مبينا. وقد حكي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، هل تجد للشعر ذكرا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل أنا جيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة ويضربون الأمثال لا نعلمهم إلاّ العرب. إنَّ من الشر خيراً. يضرب عند تفاوت ما بين الشرين حتى يكون الأدنى خيرا بالقياس إلى الأعلى. وهو قريب من قولهم: بعض الشر أهون من بعض. وسيأتي. إنَّ منكم منفَّرين. قد يتمثل به. وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين شكي إليه تطويل أصحابه بالناس في الصلاة، فقيل له: ما كدنا ندرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فغضب وقال ذلك وقال: فمن صلى منكم بالناس فليخفف، فإنَ فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة أو كما قال صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيح.

إن الهدايا على مقدار مهديها.

إنَّ الهدايا على مقدار مهديها. وهو موجود في شعر وهو: جاءت سليمان يوم العرض هدهدةٌ ... أهدت إليه جراداً كان في فيها وأنشدت بلسان الحال قائلةً: ... إنَّ الهدايا على مقدار مهديها لو كان يهدي إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها وهذه القصة تذكر في حرف الميم إن شاء الله تعالى. والمثل ظاهر المعنى. أهل مكة أعرف بشعابها. مكة معروفة، زادها الله شرفا. والشعاب جمع شعب وهو من الأرض بكسر الشين، ومن الناس بفتحها. وهذا مثل مشهور شائع الاستعمال، يضرب للمباشر للشيء والمخالط له إنّه أخبر به وأبصر بحاله وأعرف كقول القائل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. أينما أذهب ألق سعداً. قاله الأضبط بن قريع السعدي وكان غاضب قومه سعد بن مناة بن تميم فتجول في القبائل. فلما لم بجد منهم من يحمد عشرته، رجع وقال: أينما أذهب ألق سعداً، أي أينما ذهب من الأرض ألق قوما ألقى منهم مثل الذي لقيت من سعد. ومضرب المثل واضح وسيأتي أيضاً أيُّ داءٍ أدوى من البخلِ؟ الداء: المرض. يقال: داء الرجل يداء دواء وداء واداواء، فهو داء ومديء وأدأته أيضاً: أصبته بمرض، لازم منعد والبخل معروف. وهذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه نفر من الأنصار فقال: من سيدكم؟ قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الأغر الأبيض عمرو بن الجموح. فقال شاعرهم في ذلك:

إياك أعني واسمعي يا جارة!

وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تعدون سيدا فقلنا له: جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا فتى ما تخطى خطوة لدنيةٍ ... ولا مد في يوم إلى سوءةٍ يدا فسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أنَّ يسودا إذا جاءه السؤال أنهب ماله ... وقال خذوه إنه عائدٌ غدا فلو كنت باجد بن قيس على التي ... على مثلها عمر لكنت المسودا! إياك أعني واسمعي يا جارة! هذا مثل مشهور الاستعمال عند التعريض بإضهارك شيئاً وأنت تريد شيئاً وهو لنهشل بن مالك الفزاري في شعر له. وسببه أنه خرج يريد النعمان بن المنذر فمر ببعض أحياء طيء فسأل من سيد الحي فدل على حارثة بن لأم الطائي فقصد رحله فلم يصبه حاضراً. فقالت له أخت حارثة: انزل على الرحب والسعة حتى يلحق حارثة. فأنزلته وأكرمت مثواه. ثم إنّه رأها وقد خرجت من خباء إلى خباء. فرأى جمالها باهرا، وحسنا فاتنا. وكانت عقيلة قومها وسيدة نساء حيها. فوقعت من قلبه كل موقع وجعل يقول: يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزارة؟ أصبح بهوى حرة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جارة! فعرفت أنه يريدها فقالت: ما هذا بقول ذي عقل أريب ولا مصيبي ولا أنف نجيب.

أقم ما أقمت مكرما وارتحل إذا ارتحلت مسلما! فاستحى وقال: واسوأتاه! فقالت: صدقت! وارتحل وأتى النعمان، فاكرمه وحياه فلما رجع نزل على أخيها حارثة وتبعت نفسه الجارية وكان جميلا محبوبا. فأرسلت إليه الجارية: إن كانت لك حاجة فاخطبني إلى أخي فإني سريعة إلى ذلك. فخطبها وتزوجها فسار بها إلى أهله. ومما ينسج على هذا النمط ويسلك في هذا السفط قولهم: أخذ فلان رمح أبي سعد إذا اتكأ على العصا هرما. وأبو سعد قيل هو لقمان الحكيم وقيل هو كنية الكبر والهرم. وقيل مرثد بن سعيد أحد وفد عاد، وقد تقدم. وقولهم: أخذ بلغب رقبته بفتحتين إذا أدركه. وقولهم: أخذ بحذافيره أي بأجمعه. ويقال بحذاميره، وبأجمعه وجراميزه وجذاميره وبربانه، بفتح الراء وضمها، وبصنابته وسنابته وبجلمته وجلمته وبزغبره ز بزوبره وأنشدوا: وإن قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها حرب عدت عليَّ بزوبرا وبزابره وبصبرته وأصباره وبوأبجه وزأمجه وبأصيلته وبطليقته، وبأزمله. فهذه كلها معناها واحد. ويقال معنى: بربانه وبحداثته: بأوله وابتدائه. وقال: وإنما العيش بربانه ... وأنت من أفنانه مفتقر وقولهم: إذا وجدت الظباء الماء فلا عباب، وإن لم تجده فلا أباب، أي إن وجدته لم تعب فيه وإن لم تجده لم تؤب إليه أي لم تتهيأ لطلبه. وقولهم: إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وأيا الشواب! وقولهم: أكل فلان روقه إذا أسن. والمعنى أنه أكل شبابه وأفناه. يقال: فعله في روق شبابه وريقه، أي أوله. وكأنه ماخوذ من روق البيت ورواقه وهي الشقة في المقدمة. وقولهم: أنك بمحش صدق فلا تبرحه! أي أنك بموضع الخير فالتزمه! والمحش، بالحاء المهملة والشين المعجمة على مثال مرد: الموضع الكثير الحشيش وقولهم:

إنه ابن إحداها

إنه أحد الأحدين، وواحد الأحدين، وإحدى الأحد، أي لا مثل له، وهو ابلغ المدح. قولهم: إنه ابن إحداها أي كريم الأباء والأمهات. وقولهم: إن كذبت فحلبت قاعداً أي ذهبت إبلك، فحلبت الغنم. وقولهم: إن كذبت فشربت عبوقاً بارداً أي ذهبت الماشية فشربت الماء. وقولهم: إنَّ فلاناً لتدب عقاربه أي يتعرض أعراض الناس. وقولهم: إنّه لفي حور بور وبضم الحاء المهملة والباء الموحدة، أي في ضلال أو في غير صنعة قولهم: إنّه لوابصة سمع أي يثق بكل ما يسمع. وقولهم: إنّما فلان هامة اليوم أو غدٍ، إذا كان مسنا، أي يموت في يومه أو غده. والهامة: طائر يخرج من رأس الميت. يزعمون إنّه إذا قتل القتيل خرج من رأسه طائر، فلا يزال يصيح: اسقوني! حتى يقتل قاتله، كما قيل: يا عمرو، إلاّ تدع شيمتي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة: اسقوني! وقال دريد بن الصمة فيما نحن فيه: وهون وجدي إنّما هو فارط ... إمامي وإني هامة اليوم أو غد وقال كثير: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد

إذا امتلأت القربة ترشحت.

وكأنه اعتبر هنا المعنى المقصود فقط دون السن. وتمثل بهذين البيتين يزيد حين ماتت جارية حُبابة في القصة المشهورة. ومن الأمثال العامية في هذا الباب قولهم: " إذا أراد الله إهلاك النملة جعل لها أجنحة تطير بها "، يضرب للمتسبب سببا يعطب به، لأن الطير يصيدها إذا طارت. وإلى هذا المثل أشار أبو العتاهية بقوله: وإذا استوت للنمل أجنحةٌ حتى يطير فقد دنا عطبه وكان الرشيد كثير ما يتمثل به عند نكبة البرامكة. وقولهم: إذا امتلأت القربة ترشحت. يضرب للرجل تكثر ذات يده، فلا بد أنَّ ينال شيء مما عنده. وقول أبي محمّد: أنا عربيد، وأنت رعديد، وبيننا بونٌ بعيد. والعربدة: سوء الخلق؛ والعربيد والمعربد: الموذي نديمة عند السكر. والرعديد، الجبان الفزاع. والبون: الفضل والمقدار. وقولهم: إنَّ لم تجدوا ناراً فاقلوا قلية! يضرب لمن استحمق فطلب أمراً حيت المظنة عدمه. وقولهم: الآن يمد أبو حنيفة رجله! زعموا إنَّ الأمام أبا حنيفة، رحمه الله، كان به ذات مرة ألم في رجله، فكان يمدها في المجلس بين يدي أصحابه. ثم إنّه يوماً حضر مجلسه رجل ذو هيئة كث اللحية لا يعرفه، فتوهمه فقيها وقبض رجله استحياء وصبر على ذلك مدة، والرجل لا يتكلم بشيء فبان له منه خلاف الظن، فمد رجله وقال ذلك. هذا ما تيسر إيراده في هذا الباب من منثور الأمثال، بحمد ذي المن والافضال. وقد كنت أردت إنَّ أقتبس الأمثال المضروبة في الشعر وأجلبها، وأودع كل باب من هذا الكتاب جملة وافرة منها، مشروحة مع التنبيه على شجرتها، واصل ثمرتها. ثم بدا لي أنَّ ذلك بحر لا يدرك غوره، ومنزع لا ينال طوره. فرأيت أنَّ اقتصر على إيراد الأمثال النثرية، وإردافها بالأمثال الشعرية، متضمنة لمّا ضرب فيها إلاّ أنَّ يكون شيء قد انتزع قبل فأذكره. ورأيت

أبى منبت العيد ان أن يتغير.

أنَّ انبه في هذا الباب خصوصا على بعض ذلك ليقيس عليه من احب استعماله مستغنياً بذلك عن إعادة مثله في كل باب، فأقول: أبى منبت العيد اَنِ أنْ يتغير. أخذناه من قول جميل بن عبد الله بن معمر العذاري: بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا أرى كل عودٍ نابتا في أرومةٍ ... أبى منبت العيدان أنَّ يتغيرا وقبل هذين البيتين يخاطب الحجاج: أبوك حبابٌ سارق الضيف رحله ... وجدي يا حجاج فارس شمرا وشمر: اسم فرس أنثى، وآباء الصدق: آباء الخير ز الصلاح والكرم. ومعنى سير أكثر السير. والمعنى أنَّ من كان كريم الأصل، رفيع الحسب، جرى على ذلك حيثما ذهب، وكيفما انقلب. والأرومة، بفتح الهمز، وتضم، الأصل. قال زهير: صبحنا الخزرجية مرهفات ... أبار ذوي أرومتها ذووها والجمع أروم. قال أيضاً: له في الذاهبين أروم صدقٍ ... وكان لكل ذي حسب أروم وقوله: أبى منبت العيدان اَنِ الخ: يريد الناس أصول مختلفة، وأعراق متباينة، كما في حديث: الناس معادن، وكل أحد باق على أصله: فمن كان من أصل كرم لم يتحول منه، ومن كان من أصل لؤم لم ينحرف عنه وجعل الناس أعواداً وأعرقها منابت على طريق التمثيل. إنَّ المحب لمن يهواه زوار. طلع رجل من حجيج المغرب إلى عرفة، فلقي شيخا كبيراً، فقال له الشيخ: من أين أنت؟ قال: من المغرب. قال: كم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: نحو ستّة أشهر فقال الشيخ: اتحجون كل عام؟ قال: ل. فقال: الشيخ لو كنا منكم لم يفتنا الحج أبداً. فقال له الرجل: وممن أنت؟ قال: من كذا بلد، بعيد بمسيرة عام أو نحوه وانشد: زر من تحب وإنَّ شطت بك الدار ... وحال من دونه سهل وأوعار لا يمنعنك بعد عن زيارته ... إنَّ المحب لمن يهواه زوار

إن الحر حر

والهوى: العشق في الخير والشر. يقال: هويته بالكسر يهواه هوى، مقصور. والزوار: الكثير الزيارة. وكان بشر بن مروان شديد على العصاة، وكان إذا ظفر بالعاصي أقامه على كرسي وسمر كفيه بالمسامير على الحائط، ثم نزع الكرسي من تحته، فيبقى معلقا يضطرب حتى يموت. وكان فتى من بني عجل مع المهلب بن صفرة في حروب الازارقة، وكان عاشقا لابنة عم له. فكتب إليه تستزيره فكتب إليها: لولا مخافة بشر أو عقوبته ... وأنَّ يشد على كفي مسمار إذا لعطت ثغري ثم زرتكم ... إنَّ المحب إذا ما اشتاق زوار فكتبت إليه: ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في إلفه النار بل المحب الذي لا شيء ينفعه ... أو يستقر ومن يهوى به الدار فلما كتبها عطل ثغره وجاءها وهو يقول: أستغفر الله إذ أخشى الأمير ولم ... اخش الذي أنا منه غير منتصر فشأن بشر بلحمي فليعذبه ... أو يعف عفو أمير خير مقتدر فما أبالي إذا أمسيت راضية ... يا هند ما نيل من شعري ومن بشري! فلم يلبث إنَّ وشي به إلى بشر فأتي به فقال: يا فاسق، عطلت ثغرك، هلم بالكرسي! فقال: عز الله الأمير! إنَّ لي عذراً فقال: وما عذرك؟ فأنشده الأبيات، فرق له وكتب إلى المهلب أنَّ يثبته في أصحابه. إنَّ الحر حر أخذناه من قول الشاعر: عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال غششتني والنصح مر ومالي أنَّ أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأثواب بر ولكن قد أتانا أنَّ يحيى ... يقال عليه في نقعاء شر فقلت له: تجنب كل شيء ... يعاب عليك إنَّ الحر حر والشاعر هو مخيس بن أرطأة الأعرج يخاطب رجلا من بني حنيفة يسمى يحيى كان

إن الحسان مظنة للحاسد.

يأتي امرأة في قرية من قرى اليمامة، وهي التي سماها في الشعر. وقوله إنَّ الحر حر، أي إنَّ الحر باق على ما عهد في الأحرار من الهمم العلية، والأخلاق الزكية، ومجانبة الريب، والحذر من سوء المنقلب. ومثله قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي شعري هو ذلك المعروف بجزالته وفصاحته وسلاسته. وكذلك قولهم: الناس أي هم على ما عهد فيهم. ومثل ذلك قول العامة: الحر لا يكون إلاّ حراً، والرجل لا يكون إلاّ رجلاً والعبد لا يكون إلاّ عبداً. ونحو هذا يضربونه عند تقصير الإنسان عن بعض ما يحق له أو تعاطيه مالا ينبغي له. وقوله تجنب كل شيء يعاب عليك، هذا من حفظ المروءة. قيل الأحنف بن قيس: بم بلغت ما بلغت؟ فقال: لو عاب الناس الماء ما شربته. وقيل لعبد المالك بن مروان، وقد بالغ في الثناء على المصعب بن الزبير رضي الله عنه يوم قتله: أكان المصعب يشرب الطلا؟ فقال: لو عيب ما شربه. ووصف عمرو بن العاصي بعض الأشراف فقال: إنّه أخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، ويحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف؛ تاركٌ للمراء، تاركٌ لمقاربة اللئيم، تاركٌ لمّا يعتذر منه. وقال أعرابي يوصي صديقاً له: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإنَّ كان عندك اعتذاره: فليس من حكى عندك نكراً، توسعه فيك عذراً. وهذا كما قال الأول: قد قيل ما قيل إنَّ صدقاً أو كذباً، ... فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا؟ إنَّ الحسان مظنة للحاسد. أخذناه من قول الحماسي: بيضاء آنسة الحديث كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد موسومة بالحسن ذات حواسد ... إنَّ الحسان مظنة للحاسد الحسان جمع حسناء. يقال: جارية حسناء وحسنة وحسانة على مثال رمانة، فهم حسان وحسانات، ورجل حاسن وحسن. وحسين وحسان بضم الحاء مع

تشديد السين وتخفيفها، فهم حسان وحسانون. ومظنة الشيء بكسر الظاء: موضع يضن فيه وجوده. والحسد جنع حاسد وحاسدة. والمعنى أنَّ الحسناء مظنة لأن تحسد على حسنها. وكذا كل من له فضيلة ما مزية ما فهو مظنة لأن يحسد كما يقال: كل ذي نعمة محسود. ومن يمتدح بكثرة الحساد ويذم بقلتهم لأن وجود الحساد كناية عن وجود الفضل والنعمة كما قيل: حسدوا مروءتنا فضلل سعيهم ... ولكل بيت مروءة أعداءُ وقال آخر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجدُ أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ وقال أبو الأسود أو غيره: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصومُ كضرائب الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً إنّه لدميمُ وقال عمار بن عقيل بن بلال بن جرير: ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النقصان وقال بشار: لا عشت خلوا من الحساد إنهم ... أعز فقداً من الائي أحبوني أبقى لي الله حسادي برغمهم ... حتى يموتوا بداء غير مكنون وقال محمود: أعطيت كل الناس مني الرضى ... إلاّ الحسود فانه أعياني لا أنَّ لي ذنباً لديه علمته ... إلاّ تظاهر نعمة الرحمنِ وقال أبن أبي الطاهر: ولم يزل ذو النقص من نقصه ... يحسد ذا الفضل على فضله وقال الآخر: ونعمة الله مقرونٌ بها الحسدُ

إن التخلق يأتي دونه الخلق.

وقال الآخر: ولن ترى للئام الناس حساداً إنَّ التخلق يأتي دونه الخلُقُ. أخذناه من قول الحماسي: عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إنَّ التخلق يأتي دونه الخلق والخلق بضم الخاء واللام وتسكن: السجية والطبع؛ وتخلق الرجل بغير خلقه: تكلف ذلك. والمعنى إنَّ السجايا لا تزول، والخلائق القديمة لا تحول كما قيل: يرام من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل ومن كلام العامة: تنتقل الجبال ولا تنتقل الطباع: فمتى تخلق الإنسان بغير خلقه وتكلف ما ليس في طوقه لقى العناء الشديد أو افتضح غير بعيد كما قال حسان: إنَّ لا خلائق فاعلم شرها البدع وسيأتي إتمام المعنى في قولهم: الطبع أملك في حرف الطاء إن شاء الله تعالى. إنَّ السم مشروب. أخذناه من قول الحماسي عبد الله بن عنمة الضبي: ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ... كما تراه بنو زيد ومرهوبُ إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرعُ محقبة والسيفُ مقروبُ وإن أبيتم فإنا معشرٌ أنفٌ ... لا نطعم الخسف إنَّ السم مشروبُ فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذا يرد وقيد العير مكروبُ السيد بالكسر: قبيلة من ضبة؛ وزيد ومرهوب: حيان من ذهل بن شيبان. يقول: إنكم لا تعظمون في نفوسنا كما يعظم بعضكم في نفوس بعض؛ فإنَ طلبتم الحق أعطيناه وكان السلم بيننا حتى تكون الدرع محقبة أي مجعولة في الحقائب وهو مؤخر الرحال وتكون السيوف مقروبة أي مجعولة في قربها لعدم الحاجة إلى استلالها. وقوله:

إن الكريم إذا خادعته انخدع.

أنف جمع أنوف. والخسف: الظلم والذل. والمعنى: إننا نمتنع أن تلمسنا يد الظالم ونعاف أن نطعم الهوان والضيم ويهون علينا في نيل العزة والارتفاع تجشم غمرات الدفاع واصطلاء جحيم القراع حتى نشرب سموم الموت المنقعة بأطراف الأسنة المشرعة. وضرب الطعم لنيل الهوان، وشرب السم للموت والألم مثلا. إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع. هذا في شعر لم أثبته الآن. وقد تمثل بهذا المثل الرشيد وذلك إنّه سخط على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف لتضرب عنقه. فلما أخذ من بين يديه لتضرب عنقه بكى فقال له الرشيد: ما يبكيك؟ أجزعاً من الموت؟ قال: لا ولكن بكيت أن أخرج من الدنيا وأمير المؤمنين عليَّ ساخط. فضحك الرشيد وأنشد: إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع ثم وهبه للحسن بن قحطبة. إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ. أخذناه من قول الحماسي: إنّما مت غير أني حيّ ... يوم بانت بودها الحسناءُ من بني عامرٍ لها شطر قلبي ... قسمةٌ مثل ما يشقُ الرداءُ أشربت لون صفرة في بياضٍ ... وهي في ذاك لدنةٌ غيداءُ كل عينٍ متى تراها من ... الناس أليها مديمة حولاءُ ليت شعري وأين مني ليت ... إنَّ ليتا وإنَّ لوا عناءُ وأراد بالليت الضمني وجعله اسمه كقوله: ليت وهل ينفع شيئا ليت؟ ولو هنا هي التي تكون للتمني نحو: لو تأتينا فتحدثنا. وجعله اسما كقوله: ألامُ على لو ولو كنت عالما ... بأذناب لو لم تفتني أوائله والعناء: المشقة والتعب. يريد أنَّ ما ذكر بعيد المطلب فتمنيه مشقة وتعب. وللبيتين الأولين قصة ظريفة وهي إنّه فيما يزعمون لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضٍ يميل إلى سماع الشعر فطرب لذلك طربا شديدا وقام من مجلسه وأخذ نعاله وعلقهما في أذنيه وجعل يقول: أهدوني فإني هدية! فبلغ ذلك عمر رضي الله

أي الرجال المهذب

عنه فعزله. قال: لم عزلتني؟ امرأته طالق لو سمعها لقال: أركبوني فإني مطية! فلما بلغ خبره عمر أمر أن يؤتى به مع الجارية. فلما جلسا بين يديه قال له: مرها أن تغني بذلك الغناء! فلما غنت اضطرب عمر لذلك اضطرابا شديدا ودخلته الأريحية واستعاد الصوت منها مرارا وبكى وقال للقاضي: قد قاربت يمينك ورده إلى قضائه. أي الرجال المهذبُ؟ أخذناها من قول النابغة يعتذر للنعمان: ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ أي الرجال المهذبُ؟ والتهذيب: التصفية والتنقيح؛ والرجل المهذب: المطهر الأخلاق. والاستفهام للنفي أي لا رجل يكون أبدا حسن الفعال طاهر الخلال محمود الخصال إلاّ من عصم كقول الآخر: من ذا الذي ما ساء قط؟ ... ومن له الحسنى فقط؟ وإذ بينا يقال هذا البيان على تيسر من الأمثال النثرية فلنلم بشيء من الأمثال الشعرية أو ما يكون جاريا على منهاجها وماضيا على أدراجها قال الحماسي أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح عبد الله بن جدعان القريشي التيمي: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إنَّ شيمتك الحياءُ وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناءُ وأرضك كل مكرمةٍ بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماءُ خليلٌ لا يغيره صباحٌ عن الخلق الكريم ولا مساءُ إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناءُ تباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاءُ والذي يتمثل به كثيرا منه قوله: أأذكر حاجتي. . البيت، وقوله خليل لا يغيره. . البيت، مع الذي بعده وقد يقرن بينهما. والمضرب واضح. وكثيرا ما

ينشد السادات الصوفية: كريم ما يغيره صباح، الخ، يتمثلون بذلك عند التنبيه على أنَّ التعرض لمواهب المولى جلة كلمته، ومزيد منحه الجميلة ومنه الجزيلة بطريق الثناء والشكر والذكر وكثرة التحميد والتبجيل والتعبد والمجاهدة، أبلغ من التعرض لذلك بمجرد الدعاء طلبا لنيل حاجة. وهذا ورد في كلام الشارع صلوات الله وسلامه عليه: أفضل الدعاء الحمد لله! وقال تعالى:) لئن شكرتم لأزيدنكم (. وهذا مقام يبين في محله. وقال أبو نواس الحسن بن هانئ: دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراءُ حتى قال: لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تحل بها هندٌ وأسماءُ فقل لمن يدعي في الحب معرفةً ... عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ والذي يتمثل به منها كثيرا الشطر الأول والأخير. أما الأول فقد أخذه أبن قلاقس فقال: فدعي الملامة في التصابي واعلمي ... أنَّ الملامة ربما تغريني واكثر الشعراء في هذا النحو وكلهم مقتبسون منه حائمون عليه. فمن ذلك قول أبن شرف: قل للعذول: لو أطعت على الذي ... عاينته لعناك ما يعنيني أتصدني أم للغرام تردني ... وتلومني في الحب أم تغريني؟ دعني فلست معاقبا بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني وقول الآخر: وما عذولي ناهيا عنكم ... لكنه بالصبر أمارُ قال: اسلهم إن لم تطق هجرهم ... قلت له: النار ولا العارُ وقول الآخر:

يقول لي العاذل في لومه ... وقوله زورٌ وبهتانُ ما وجه من أحببته قبلةٌ ... قلت: ولا قولك قرآنُ وقول الآخر: يا عاذلي ليس مثلي من تفنده ... وليس مثلك مأمونا على عذلي ما دمت خلواً تنفك متهماً ... أعشق وقولك مقبولٌ عليَّ ولي وقوله: من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم لمن لا يخونُ إن قلت: ما نصحك إلاّ أذىً ... قال: وما عشقك إلاّ جنونُ وقوله: إنَّ قوما يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبيثا وقول الآخر: أسرفت في اللوم ولم تقتصر ... وزدت في لومك يا ذا العذول قد رضيت نفسي بمحبوبها ... وإنّما المولى كثير الفضول وقول الآخر: تعرض لي اللاحي وجاء يزورني ... وزجرف لي زور الكلام بمينهِ وقال: اسل عن هذا وعد عن غرامه ... فقلت له: هذا الفضول بعينهِ وقول الآخر: زعموا أنني هويت سواكم ... كذبوا ما عرفت إلاّ هواكم قد علمتم بصدق مرسل دمعي ... فسلوه إن كان قلبي سواكم قال لي عاذلي: متى تبصر الرشد ... وتسلو؟ فقالت: يوم عماكم وقول ابن سناء الملك: أيا عاذلي فيه لمّا رآه ... لئن كنت أعمى فإني أصم وهبك أبا ذر هذا الملام ... فأني أبو جهل ذاك الصمم

وقوله أيضاً: وصفتك واللاحي يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذر وكان أبا جهلِ له شاهدا زور من النهي والنهى ... عليك ومن عينيك لي شاهدا عدلِ وقول آخر: وبي عاذلٌ يغري إلى الجهل لم يخل ... بأني في دعوى الغرام أبو ذرِّ والمراد بهذا الصدق في الهوى. ومن هذا النمط قول آخر: وشادنٍ مبتسمٍ عن حبب ... مورد الخد مليح الشنب يلومني العاذل في حبه ... وما درى شعبان أني رجب وذلك لأن شعبان عند العرب يسمى العاذل ورجب يسمى الأصم. ومما نحن فيه قول الآخر: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصخت إلى الواشي فلج بها الهجرُ أشار بالشطر الأول إلى أن العذل يغريه. وقول البوصيري: محضتني النصح لكن ليس أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ ويقرب منه قول عفيف الدين التلمساني: ولي على عاذلي حقوق هوى ... عليه شكري ببعضما يجبُ لام فلما رآه هام به ... فكنت في عشقه أنا السببُ وقول الآخر: أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآهُ فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواهُ قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواهُ فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاهُ ومن ذلك قول حفص العليمي: أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... وللشيب لا تذعر عليَّ الغوانيا طلبت الهوى العذري حتى وجدته ... وصيرت في نجدٍ به ما كفانيا وقول الخزاعي:

هددت بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودك لا من السلطانِ وقول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذةٌ ... حبا لذكرك فليلمني اللومُ وأما بيته الأخير فينشده المتمثلون اليوم: قل للذي يدعي علما ومعرفة ... عرفت شيئا وغابت عنك اشياءُ عجيبة: حكي أنَّ المفضل الضبي قال له الرشيد - دلني على بيت أوّله أكثم أبن صيفي في أصالة الرأي وجودة الوعظة وآخرها بقراط في معرفة الدواء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد هولت علي. فقال: هذا قول أبي نواس: دع عنك لومي. وسأل حامدبن العباس عليَّ بن عيسى الوزير فقال له: ما دواء الثمل وقد علق به؟ فأعرض عنه الوزير وقال: ما لنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد وإذا بقاضي القضاة أبي عمر قد ورد عليهم فلما قعد سأله حامد عن ذلك فقال القاضي: قال الله تعالى:) وما آتاكمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد فال في ذلك: وكاسٍ شربت على اذة ... وأخرى تداويت منه بها ثم تلاه أبو نواس فقال في ذلك: دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ فأشرق وجه حامد حينئذ وقال للوزير: ما ضرك يا بارد لو أجبت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في الجواب بقول الله تعالى وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الفتيا وأدى المعنى وتبرأ من العهدة؟ فكان خجل الوزير من حامد بهذا الكلام أكثر من حامد منه لمّا ابتدأه بالمسألة. قلت وهذا الكلام من القاضي كان على مجاراة أهل هذه الصنعة وتبيان ما ثبت في نفس الأمر من بعض منافع الخمر ولم يتعرض للحكم الشرعي من حرمة التداوي بها،

لعلمه إن السائل يعرف ذلك، وإلاّ فكان الواجب أن يستدرك عقب كلامه بما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تداوى بالحرام، والله اعلم. واعلم أن التصامم عن العذال قد تقدم في كلام الشعراء كثيراً قبل أبي نواس، كقول زهير في الجود: وأبيض فياضٍ يداه غمامة ... على معتفيه ما تغلب نوافله بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيى فما يدرين أين مخاتله فأقصرن منه عن كريم مرزءٍ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله غير إنَّ أبا نواس لم يكتف العذل ضائعاً، حتى جعله ناجعاً، في عكس المطلوب، ونقيض المرغوب. ولم يحضرني الآن أسبق بهذا أم لا. وقال الشاعر: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له: ... إياك، إياك أن تبتل بالماء! وهو مثل مشهور يضرب عند إلزام الشخص ترك ما لا محيص له عنه عند وجود سببه، أو ارتكاب مالا قدرة عليه. ومنه التكاليف الشرعية عندنا معشر الاشاعرة عند النظر إلى التحقيق وباطن الأمر، إلاّ أنا نجوز في حق الملك الحق تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير قبح في شيء من ذلك، بل حسن جار على وفق الاختيار، وتصرف من له الاقتدار، ولا سيما بحسب الظاهر. ويقرب من هذا المعنى قول بعض الشعراء في امرأة: سكت فقالت: قد سكت عن الحق ... ففهت فقالت ما دعاك إلى النطق؟ فأومأت هل من حالة بين ذا وذا؟ ... فقالت: وذا الإيماء أيضاً من الحمق فلم أرلي إذ حلت الغرب راحةً ... من الشر إلاّ في المسير إلى الشرق فلما أتيت الشرق ألفيتها به ... وقد قعدت بي منه في أضيق الطرق فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟ وقال الآخر: من غص داوى بشراب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟

ومضربه واضح. وفي معناه قول الأول: لو بغير الماء حلقي قد شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري وقول الآخر: إلى الماء يسعى من يغص بأكله ... فقل: أين يسعى من يغص بالماء؟ وقول الآخر: فكيف نجيز غصتنا بشيءٍ ... ونحن نغص بالماء الشروب؟ وقول الآخر: فلو كان هذا الحكم في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربه وقول الآخر: مصاحبة المنى خطر وجهلُ ... وكم شرقٍ تولد من زلالِ! وقول أبن حبوس: مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بما بذلوه عن ذل السؤال وها أنا بعدكم في الناس ابغي ... كريماً يشتري شكري بمالِ أرى الاكدار يشرق شاربوها ... فوا شرقي من الماء الزلال! وقول الآخر: إني لأذكركم وقد بلغ الظمأ ... مني فأشرق بالزلال الباردِ وأقول ليت أحبتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد! وقول الآخر: قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال الباردِ وقول الآخر: كنت من محنتي أفر إليهم ... فهم محنتي فأين الفرار؟ وقول أبن سناء الملك: أموت غراما حين احرم وصل من ... هويت وأحيا فرحة حين ارزق

وإنَّ الفتى يحيا بما قد يميته ... فبالماء يحيا وهو بالماء يشرقُ وقال البحتري: تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماء الربى من بات بالماء يشرقُ وهو مخالف لمّا قبله باعتبار: فإنَ الأول ناظر إلى جنس الماء وإنّه يكون سببا للحياة والموت باعتباري مساغه والشرق به، وتنظير الأحبة بذلك باعتبار وصالهم وفراقهم صحيح. والثاني ناظر إلى من وقع له الشرق بالماء وإنّه لا ينتفع بالماء لمّا مر في الأناشيد وهو صحيح ولكن التنظير خطأ إلاّ أن يريد الأخبار عما وقع له هو من حصول الوحشة ممن يترقب منه الأنس ولم يلاحظ ما قال أبن ذريح: تداويت من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ أخذه من قول الأعشى السابق: وكأس شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها وهذا كله وفق قول أبن سناء الملك. وقال الآخر: يا قوم قلبي عند زهراء ... يسمعه السامع والرائي لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فانه أشرف أسماءِ يتمثل بالبيت الثاني. وقد تمثل به العلماء في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، واختياره أن يكون عبدا وهو أشرف الأمرين وأجل فإنَ الإضافة إلى الشرف تفيد شرفا. وأي شرف ومجد وعظمة وجلال وراء عظمة مالك الملك الحق تعالى! وأي منزلة أعظم من الانتساب إليه؟ وقال الآخر: سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاءُ وقبله: أتهزأ بالدعاء وتزدريه؟ ... تأمل فيك ما صنع العاءُ! وتمثل صاحب التشرف بهذا الشعر حين ذكر أنَّ أبا الفضل أبن النحوي دخل فأساً، فلما ظهر أصلب القاضي أبن دبوس منه غيرة وآذاه. فلما أزمع أبو الفضل الخروج قطع تلك الليلة التي يخرج في صبيحتها بسجدة دعا في آخرها وقال: اللهم عليك بابي دبوس! فأصبح القاضي ميتا. وقال الآخر وهو معنى رشيق، وكان عتب

على الصمت: قالت الضفدعة قولاً ... فسرته الحكماءُ في فمي ماءٌ وهل ينطقُ ... من في فيه ماءُ؟ وقال ذي الرمة: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيلبك ممن يشرب الماءَ قومٌ يرون عما في صدورهم ... حتى إذا استحكموا كانوا هم الداءَ يشمرون إلى انصاف سوقهم ... هم اللصوص وقد يدعون قراءَ ولهذا الشعر قصة وهي أنَّ ذا الرمة اجتمع هو وإسحاق بن سويد العدوي في مجلس. فأتيا بطعام فطعما، وأتيا بنبيذ فشرب ذو الرمة وأبى إسحاق أن يشرب. فقال ذو الرمة: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه الأبيات. وقال إسحاق مجيبا له: أما النبيذ فقد يزري بشاربه ... ولن ترى شاربا أزرى به الماءُ الماء فيه حياة الناس كلهم ... وفي النبيذ إذا عاقرته الداءُ يقال هذا نبيذي يعاقره ... فيه عن البر والخيرات إبطاءُ وفيه إن قيل مهلا عن مصممة ... وفيه عند ركوب الإثم إغضاءُ ومثل قول أبن الرومي قول الآخر وبنسب لابن الرومي في الفقهاء: أذيابا بدت لنا ... في ثياب ملونة إحلالاً وجتم ... أكلنا في المدونه وقوله أيضاً: إلاّ إنّما الدنيا ميتةٍ ... وطلابها مثل الكلاب الموامسِ وأعظمهم ذماً لها وأشدهم ... لها شغفاً قومٌ طوال القلانسِ ومثل قول إسحاق بن سويد في النبيذيين قول الآخر: بلوت النبيذيين في كل بلدةٍ ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظُ إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظُ عكاظية لا قدس الله روحها ... وما ذكرت في الصالحين عكاظُ وسيأتي كل من الأمرين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقال الآخر:

إذا انقطع الرجا من كل حي ... ففي الله الكفاية والرجاءُ سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ وقد جمع بين الممدوح وهو الرجاء وبين مد المقصور وهو الغناء بكسر الأول ضد الفقر. وقال عدي بن الرقاع: وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الفقراءِ بل ما رأيت جبال أرض تستوي ... فيما عسيت ولا نجوم السماءِ كالغيم فيه وابلٌ متتابعٌ ... غدقٌ وآخر لا يجود بماءِ والحر يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياءِ ومثل البيت الأول قول الحماسي: ولمّا أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا اهلِ تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي وقال الآخر: لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلاّ يزيدهم حباً الي همُ وقال الحماسي عدي بن الرعلاء: ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياءِ إنّما الميت من يعيش كئياً ... كاسفا باله قليل الرجاءِ وقال الآخر: يوما بحزوي ويوماً بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري: وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناءُ وبعض خرئق الأقوام داءٌ ... كداء البطن ليس له دواءُ يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلاّ ما يشاءُ وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاءُ

فلا يعطي الحريص غنى لحرصٍ ... وقد ينمى على الجود الثراءُ غني النفس ما عمرت غني ... وفقر النفس ما عمرت شقاءُ وليس بنافع ذا البخل مالٌ ... ولا مزر بصاحبه السخاءُ وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له شفاءُ وقال الآخر من شعراء الحماسة: وأرض عن مطامع قد أراها ... وأتركها وفي بطني انطواءُ فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ يعيش المرء ما استحيى بخير ... ويبقى العود ما بقى اللحاءُ وقلت أنا في أمر حدث: تعلم أنَّ شر الأصدقاء ... صديق لا يدوم على الإخاء متى ما تلقيه أرضاك بشراً ... وليس إذا تغيبت ذا وفاء لعمرك ما الوداد سوى وداد ... يدوم على التداني والتنائي وفي الأتراب والترب المجلي ... أخاك وفي المسرة والبلاء وليس أخوك من يبدي ودادا ... بوجهك طاويا مكنون داء فإن أدبرت أتبعك أعتضاضاً ... بنابيه وعاد من العداء وقال الآخر: إنَّ الذي وهو مثر لا يجود حرٍ ... بفاقة تعتريه بعد إثراء قوله: وهو مثر جملة حالية فصل بها بين الموصول وصلته وذلك قيل؛ والمثري: الغني. وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري: وكنت أمرء لا أسمع الدهر سبه ... أسب بها إلاّ كشفت غطاءها متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلاّ قد قضيت قضاءها يريد: إلاّ قضيتها قضاء فأوقع القلب كما ترى. وقال الآخر: أقول لمقلتي لمّا التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء خذن اليوم من نظري بحظ ... فسوف تكونين إلى البكاء

ومثله قول الآخر: ترفق بدمعك فاستبقه ... فبين يديك بكاءٌ طويل وقال البحتري بن المغيرة بن أبي صفرة وكان المهلب بن أبي صفرة قد استعمل يزيد على حرب خراسان والمغيرة على خراجها ولم يوله هو شيئا. فكتب إليه: أقرأ السلام على الأمير وقل له: ... إنَّ المقام على الهوان بلاءُ أصل الغدو إلى الرواح وإنّما ... أذني وأذن الأبعدين سواءُ أجفى ويدعى من ورائي جالساً ... ما بالكرامة والهوان خفاءُ فلما بلغ المهرب ذلك وجد عليه وألزمه بيته فكتب إليه: جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يريد لي قد أزور جانبه وكلهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى ليسؤم إذا جاع صاحبه فيا عم مهلاً واتخذني لنوبة ... تلوم فإنَ الدهر جم نوائبه أنا السيف إلاّ أنَّ للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه فرضي عنه وعزل المغيرة وولاه. وقال خالد الكاتب: أعان طرفي على جسمي وأحشائي ... بنظرة وقفت جسمي على داءِ وكنت غراً بما يجنى على بدني ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أدواءِ وأخذه من قول إبراهيم بن المهدي: إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر فلم يعلم الواشون ما بيننا ... وقد قضيت حاجاتنا بالضمائر أقاتلتي ظلما بأسهم لحظها ... أما حكم يقضي على طرف جائرِ فلو كان للعشاق قاض من الهوى ... إذا لقضى بين الفؤاد وناظري ومثله قول الآخر: والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئن بدمعي لوعة الحزن ولهذا الشعر قصة طريفة: حكي عن بعض المغنين قال قدم عليَّ فتى حسن الوجه

عليه اثر السقم وقال: لي عندك حاجة! قلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار وقال: اقبلها مني واصنع لي لحنا في بيتين وغنني بها. فقلت: نعم! حبا وكرامة فأنشد البيتين المذكورين. قال: فصنعت لحنا شجيا ثم غنيته إياه. فأغمي عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق وكأنما نشر من قبر. فقال: أعد عليّ! فناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى والله أن تموت. فقال: ليت ذلك قد كان فأستريح! وجعل يتضرع لي حتى رحمته فأعدت الصوت. فصعق صعقة ظننت أن نفسه زهقت فيها. فجعلت أنضح وجهه بالماء. فلما أفاق وضعت دنانيره بين يديه وقلت: انصرف عني فإني لا أحب أن أشرك في دمك. فقال: لا حاجة لي بها ولك عندي مثلها. وأخرج ثلاثمائة أخرى وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى وأنا أنصرف عنك. فشرهت نفسي إلى الدنانير وقلت: أفعل على ثلاث شروط. قال: وما هي؟ قال: الأول أن تأكل من الطعام ما تتقوى به؛ والثاني أن تشرب أقداحا من النبيذ تمسك قلبك والثالث أن تحدثني بقصتك فلعل ذلك ينفعك. فقال: نعم. فدعوت بالطعام فأصاب منه ودعوت بالشراب فشرب أقداحا وأنا أغنيه ما يحضرني. فلما رأيت النبيذ شد قلبه غنيت الصوت فطرب وأعته عليه مرارا رضي وسكن. فقلت: حدثني. فقال. أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها وقد سال العقيق مع أصحاب لي. فخرج فتيات لمثل ما خرجنا إليه. فنظرت إلى فتاة منهن كأنها غصن بان، فعلقتها من وقتي وأطلت إليها وأبصرت هي ذلك مني. فلما تفرق الناس وجدت بقلبي جرحا ولم أعرف لها ولا لصواحبها خبرا. فمرضت لذلك حتى يئس مني أهلي. فخلت بي ظئري وسألتني عن ضري وضمنت لي كتمان السر والسعي فيما يصلح. فأخبرتها خبري، فقالت: لا بأس عليك سيعود المطر ويسيل العقيق فتخرج معك. فإذا رأيتها عرفتني بها فلا أفارقها حتى تقف على موضعها وأوصلك إليها وأسعى في تزوجها. فسكنت نفسي لقولها ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق. فخرجت مع أصحابي ومعي ظئري وجلسنا مجلسنا الأول بعينه وإذا بالنسوة وفيهن صاحبتي. فأومأت إلى ظئري حتى عرفتها وقلت لها: انطلقي وقولي: يقول لك الفتى: والله لقد أحسن الذي يقول: رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا

فمضت وقالت لها ذلك. فقالت: قولي له: لقد احسن القائل واحسن الذي يقول: بنا مثل ما يشكو فصبرا لعلنا ... نرى فرجا يشفي الفؤاد قريبا قال: فلما انصرفنا، تبعتها حتى عرفت مكانها، فتلطفت حتى جمعت بيننا على مخالسة، فظهر ما بيننا فحجبت عني ولم أقدر على لقائها. فبلغ ذلك أبي فخطبها من أبيها فقال: لو كان هذا قبل اشتهار حديثها لأسعفته؛ وأما الآن فلا أحقق مقالة الناس فيها بتزويجها منه. فيئست منها ومن نفسي، فخرجت هائما حتى بلغتك. قال المعني المذكور: ثم إنني حضرت مجلس جعفر بن يحيى، فغنيته بشعر الفتى، فقال: ويحكم! ما هذا الصوت وما قصته؟ فقلت: قصة أظرف منه. ثم حدثته بحديث الفتى، فأمر بإحضاره وسأله، فأعاد عليه الحديث كما حدثته فقال له: أنا ضامن لك تزويجها، فطابت نفسه. ثم ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه الحديث. فاستظرفه وأمر بإحضارنا جميعا، وسأل الفتى عن حديثه فحدثه وقال لي: غن الصوت فغنيته وطرب له وشرب عليه، وأمر بالكتب إلى عامل الحجاز بأشخاص الرجل وأهله وولده مكرمين. فلما حضروا عنده أعطى الرجل ألف دينار وأمره بتزويج الجارية من الفتى، وأعطى الفتى ألفي دينار، وأمر لي بألف دينار. وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من قصيدة: انظر وإياك الهوى لا تمكنن ... شيطانه من مقلةٍ شوشاء وقال أيضاً، من هذه القصيدة، يخاطب خالد بن يزيد: لو سيرت لالتقت الضلوع على أسى ... كلف قليل السلم للأحشاء ولجف نوار الكلام وقلما ... يبقى بهاء الغرس بعد الماء وقال أيضاً، من أخرى: لا تسقيني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ما بكائي وفي إضافة الماء للملام، غرابه أوجبت بعض الهجنة والبرودة في الكلام يحكى إنّه عيب عليه ذلك حتى تحدث أن بعض عصرييه أرسل إليه إنَّ ابعث إلي بشربة من ماء الملام. فقال: حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل. وهذه خطيئة أبشع من الأولى،

فإن الاستعارة في جناح الذل مأنوسة الاستعمال قديما وحديثا، ومدركا حسنها وفصاحتها بالذوق دون ماء الملام. وقد وقع له في هذه القصيدة نفسها ما يقرب من هذا، حيث قال: رأي لو استسقيت ماء نصيحةٍ ... لجعلته رأيا من الآراء غير إنَّ هذا، وإنَّ كان غريبا، يحسنه أن الرأي والنصيحة تحيا بهما النفوس كما تحيا بالماء الأبدان، ولا كذلك الملام. وقال أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي: عذل العواذل حول قلبي التائه ... وهوى الأحبة منه في سودائه وتقدم هذا المنزع وما فيه قبل. وقال أيضاً: أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا انطلقت فأني الجوزاء وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... ألا تراني مقلة عمياء وقال الآخر: إنَّ الحديث جانب من القرى ... ثم المنام بعد ذلك في الذرى وقال الآخر: إذا القوم قالوا من لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى وقال الآخر: ضاع سعيي وخبت وخابت أعاديك ... ومن يبتغي لك الأسواء واحتملت الحرمان والنقص والأبعاد ... والذل والعنا والجفاء وتحملت واصطبرت فلم يبق ... على عوادي الزمان لحاء أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرة صماء ومثله في التشكي قول الآخر: أسجناً وقيد واشتياق وغربة ... ونأي الحبيب إنَّ ذاك عظيم! وإنَّ أمرءاً تبقى مواثيق عقده ... على مثل ما لاقيته لكريم

وقول الآخر: ولقد أردت الصبر عنك فأعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم يبقى على حادث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنّه لكريم وقال الآخر: قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل وقال الآخر: وإذا ما الصديق صار عدوا ... كان في الشر أكبر الأعداء وقال الآخر: لا تعدن للزمان صديقا ... واعد الزمان للأصدقاء ومثله قول الآخر: ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غص شارب بالشراب لا تصيع مودة من صديق ... فانقلاب الصديق شر انقلاب وقول منصور الفقيه: أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق ... فكان أعرف بالمضره وقوله: أحذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوة يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة وقول الآخر: كن من صديقك خائفا فلربما ... حال الصديق فصار غير الصديق وقول أبن الرومي: عدوك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقول الآخر: دار الصديق إذا استشاط تغيظا ... فالغيظ يخرج من كامن الأحقاد

قول أبن الخالدي: وأخٍ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص ما في زمانك ما يعز جوده ... إنَّ رمته إلاّ صديق مخلص وقول المنصور أيضاً: إذا تخلفت عن صديقٍ ... ولم يعاتبك في التخلف فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف وقول الأنصاري: إلاّ رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته ساءك ما يفري لسان له كالشاهد مادت حاضراً ... وبالمغيب مطرور على ثغرة النحر وقول أبي الطيب: ومن نكد الدنيا على المرء إنَّ يرى ... عدوا له ما من صداقته بد وما يحكى إنَّ كسرى قال يوما لمرازبته: من أي شيء انتم اشد حذراً؟ قالوا: من العدو الفاجر، والصديق الغادر. وقول موسى بن جعفر: اتق العدو وكن من الصديق على حذر، فإن القلوب سميت قلوب لتقلبها. وسيأتي كثير من هذا النمط بعد إنَّ شاء الله تعالى. وقال أبو الطيب: وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وقال أيضاً مادحا: وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب وتمطر الادماء والادماء: البحر. وقال أيضاً: إنّما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء وأنا منك لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء وقال أيضاً من هذه القصيدة يمدح كافورا وكان أسود: إنّما الجلد ملبس وابيضاض ... النفس خير من ابيضاض القباء وقال أيضاً: وما كل من قال قولا وفى ... ولا كل من سيم خسفاً أبى

وقال: ولا بد للقلب من آلة ... ورأي يصدع صم الصفا وقال: فكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى وقال: وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا وقال: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى وقال الحماسي محرز الضبي يهجو بني عدي بن جندب، من أبيات: وإني لراجيكم على بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء واخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا وقال القاسم بن حنبل في بني سنان: لهم شمس النهار إذا استقلت ... ونور ما يغيره العماء هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسن العشيرة حيث شاءوا بناة مكارم وأساء كلمٍ ... دماؤهم من الكلب الشفاء وإنّما قال ذلك لمّا يزعمون من أنَّ من أصابه الكلب، وهو شبه جنون يصيب من عضه الكلب، ثم سقي دم ملك أو شريف برئ، ومثله قول زهير: وإنَّ يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... وكانوا قديما من مناياهم القتل وقول الآخر: أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم من الكلب وقال الحسين بن مطير الأسدي يصف برقا وسحابا: مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء فله بلا حزن ولا بمسرةٍ ... ضحك يراوح بيننا وبكاء

كثرت ككثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء وكأن عارضها حريق يلتقي ... أشب عليه وعرفج وآلاء لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لو يبق في لجج السواحل ماء وللعرب فمن بعدهم في وصف السحاب والبرق والرعد إكثار وإطناب لا يأتي عليه الحصر ولكنا نذكر جملة من مستحسن ذلك ومما كان منه حسن إنَّ يتمثل به. فمن ذلك قول امرئ القيس: اصاح ترى برقها وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل يضيء سناه أو مصابيح راهب ... آمال السليط في الذبال المفتل وقوله: اعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتغتاب الكسير المهيض وتخرج منه لامعات كأنها ... اكف تلقى الفوز عند المفيض وقوله: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر تخرج الود إذا ما اشجذت ... وتواريه إذا ما تستكر وهي قطعة أبيات في هذا. وأشجذت: أقلعت. وقوله: يساجل التؤم اليشكري ... وأواخر الأنصاف للتؤم وقوله: أحار ترى بريقا هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا أرقت له ونام أبو شريح ... إذا ما قلت قد هدأ استطارا كأن هزيره بوراء غيب ... عشار وله لاقت عشارا فلما أن دنا لقفا أضاح ... وهت أعجاز ريقه فحارا فلم يترك بذات السر ظبيا ... ولم يترك بجلهتها حمارا وقال عبيد أبن الأبرص:

يا من لبق أبيت الليل ارقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح كأن ريقه لمّا علا شطبا ... اقراب ابلق ينفي الخيل رماح ينزع جلد الحصى أجش مبترك ... كأنه فاحص أو لاعب داح فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح كأن فيه عشار جلة شرفا ... شعثا لهاميم قد همت بارشاح هدلا مشافرها بحا حناجرها ... تزجا مرابعها في صحصح ضاح وقول كثير: فالمستكن ومن يمشي بمروته ... سيان فيه ومن بالسهل والجبل وقول الحماني: دمن كأن رياضها ... يسبيان أعلام المطارف وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف وكأنما أنهارها ... يهتز بالريح العواصف طرر الوصائف يلتقين ... بها إلى طرر الوصائف باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف ثم انبرت سحا ... كباكية بأربعة ذوارف وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقب وقول عبيد: سقى الرباع مجلجل ... الأكناف لمع بروقه جون تكفكفه الصبا ... وهنا تمريه خريقه مري العسيف عشاره ... حتى إذا درت عروقه ودنا يضيء ربابه ... غبا يضرمه حريقه

حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه هبت له من خلفه ... ريح الشماسية تسوقه حلت عزاليه الجنوب ... فثج واهيه خروقه وقال كثير: تسمع الرعد في المخيلة منها ... مثل هزم القرون في الاشوال وترى البرق عارضا مستطيرا ... مرح البلق جلن في الإجلال أو مصابيح راهب في يفاع ... سغم الزيت ساطعات الذبال وقوله: اهاجك برق آخر الليل واصب ... تضمنه فرش الحيا فالمسارب يجر ويستأني نشاطا كأنه ... بغيقه حاد جلجل الصوت جالب تألق واحمومى وخيم بالربى ... احم الذرى ذو هيدب متراكب كما اومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منها جبين وحاجب وقول عبد الله بن المعتز: ومزنة جاد في أجفانها مطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر وقوله أيضاً: كأن رباب الجون والفجر ساطع ... دخان حريق لا يضيء له جمر وقول أبي الغمر: نسجته الجنوب وهو صناع ... فترقى كأنه حبشى وقول الآخر: ما ترى نعمة السماء على الار ... ض وشكر الرياض على الأمطار وقول الآخر: وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح فجاءت ليلها سحا ووبلا ... وهطلا مثل أفواه الجراح

وقول الآخر: بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني ... وكل حجازي له البرق شائق سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... وأعلام أبلى كلها والاسالق وقول الطائي ومنه اخذ: إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على العيس حيات اللصاب النضانض تشيم بروقا من نداك كأنها ... وقد لاح أولاها عروق نوابض وقول الآخر: أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا منها يهب ويهجع سرى كإقتداء الصبر والليل ضارب ... بأوراق والصبح قد كاد يسطع وقول الآخر: أرقت لبرق سرى موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب كأن تألقه في السماء ... يدا حاسب أو يدا كاتب وقول أبن المعتز: رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يجب ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها من البرق كأمثال الشهب تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعة يضرب وتارة تحسبه كأنه ... ابلق مال جله حين وثب حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلاسلا من الذهب ؟؟ وقول الآخر: نار تجدد للعيدان نضرتها ... والنار تلفح عيدان فتحترق وقول الطائي: يا سهم للبرق الذي استطارا ... ثاب على رغم الدجى نهارا آض لنا ماء وكان نارا وقول عبد الله بن عبد الله بن طاهر: أما ترى البرق قد رقت حواشيه ... وقد دعاك إلى اللذات داعيه؟

وجاد بالقطر حتى خلت إنَّ له ... إلفا ناه فما ينفك يبكيه ومثله قول الآخر: كأن سحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقى لهن مدامع وتتبع الشعر في هذا يطيل فلنمسك العنان. وقال أبو الأسود الدؤلي: وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن القي دلوك في الدلاء تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحماة وقليل ماء وسيأتي إتمام هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبن نقطة: لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في الضراء والسراء فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وقال أبو سعيد الخوارزمي في أبي بكر الخوارزمي الشاعر: أبو بكر له أدب فضل ... ولكن لا يدوم على الوفاء مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء وقال عبد الله بن رواحة الأنصاري يوم خرجوا إلى مؤتة وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيد وجعفر رضي الله عنهم أجمعين: إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا ارجع إلى أهلي وراء قوله: فشأنك فانعمي يريد إنّه قضى الوطر من ركوبها ولم تبق له تباعة على ظهرها وهي كناية على إنّه لا يحب المرجع ولا يشتهي مذهبا على ذلك الموضع. ومن ثم قال: ولا ارجع إلى أهلي بجزم الفعل قصدا للدعاء كأنه يقول: اللهم لا ترجعني إلى أهلي وأستشهدني! وما ذكره في الناقة قد تداوله الشعراء كثيرا فمن ذلك قول الشامخ في عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعة لمجد ... تلقاها عرابة باليمين إذا بلغتني وحملت رحلي ... إليه فاشرقي بدم الوتين

ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين وكان الشماخ قدم المدينة فقال له عرابة: ما أقدمك؟ فقال: قدمت لأمتار. فملأ له عرابة رواحله تمرا وبرا وأعطاه غير ذلك فقال فيه ما تقدم. وقول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي رباح: إذا أبن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليكِ جازرُ غي إنّه يعاب على هذين الشاعرين أن جعلا جزاء الراحلة التي بلغتهما ذلك المأمول العظيم والمطلب الخطير شرا، وما كان ينبغي لهما أن ينظرا لها عند الاستغناء عنها ويكافئها خيرا بما قضيا منها كما أشار إليه أبلغ البلغاء وأحكم الحكماء صلى الله عليه وسلم حيث وردت المرأة راكبة على ناقته فقالت: إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما جزيتها! لا نذر في معصية الله ولا نذر للإنسان في غير ماله. أو كما قال صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنزع العجيب النبوي كان قول أبن رواحة السابق. وقول أبي نواس في محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأوضح هذا المعنى: وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرامُ قربننا من خير من وطئ الثرى ... فلها عينا حرمة وذمامُ وقول الفرزدق: متى تردى الرصافة تستريحي ... من التهجيري والدبر الدوامي ولهذا الشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى. والعذر للأولين أن الدعاء عليها في نحو ذلك أبلغ في التنبيه على الاستغناء عنها وعدم الالتفات إليها. وليس هذا المعنى ملحوظا في قصة المرأة فليس يقاس عليه. ومن هذا الباب قول السلامي: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ ولعل السابق إلى هذا المعنى الأعشى القيسي في قصيدته التي توجه بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:

متى ما تناخي عند باب أبن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا فضمن لها عند النزول بابن هاشم صلى الله عليه وسلم أن يخلي عن ظهرها ويريحها من كد الأسفار إذ لا مطلب ورائه ولا حاجة إلى أحد سواه. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورته: والناس كالنبت: فمنهم رائق ... غضٌ نضيرٌ عوده مر الجنى ومنه ما تقتحم العين فإنَ ... ذقت جناه انساغ عذبا في اللهى وهذا المقصورة جلها أمثال وحكم، وهي مشهورة لا حاجة إلى ذكرها. وقال الآخر: يقولون هذه أم عمرو قريبةٌ ... نأت بك ارضٌ نحوها وسماءُ ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواءُ وقال صالح بن جناح: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجهٍ إذا قل ماؤه وقال الآخر: ورب دنيةٍ ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياءُ إذا رزق الفتى وجهاً وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاءُ وتقدم شيء من هذا في قولهم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وقال الآخر: إذا جار الأميرُ وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاءِ فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماءِ! وقال زهير: وإنَّ الحق مقطعه ثلاثٌ ... يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ ويروى أنَّ عمر رضي الله عنه لمّا سمع هذا البيت جعل يردده استحسانا له وتعجبا من معرفته بالحقوق وإبانته أحكامها وإقامته أقسامها. وقال الآخر: خير ما ورث الرجال بينهم ... أدب صالح وحسن ثناءِ وقال سابق البربري:

موت التقي حياة لا انقطاع لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياءُ ومثله قول الآخر: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميمُ وذو الجهل ميتٌ وهو يمشي على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديمُ وقال أبن الرومي: إنَّ لله بالبرية لطفا ... سبق الأمهات والأباءَ وقال أيضاً: أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاءِ وقال لبيد: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والامساءُ وقال عبد الله بن عيينة: كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداءِ ومثله في ذكر الشماتة قول الآخر: إذا ما الدهر جر على أناس ... بكلكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا وقال عدي بن زيد: أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور؟ أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرورُ من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفيرُ وقال منصور الفقيه: يا من يسرُ بموتي ... إذا أتاه البشيرُ أليس من كان بمثلي ... إلى مصيري يصيرُ وتمثل الشافعي رضي الله عنه، حين بلغه دعاء من دعا عليه بالموت ببيتي الشاعر: تمنى رجال أن أموت فإنَ أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدِ وقال الحماس في الملح: وما العيش إلاّ أكلة وتشرق ... وتمر كأكباد الجراد وماءُ التشرق بالراء: القعود للشمس، والتمر الذي كأكباد الجراء: الصيحاني. وقال الآخر: من فاته العلم واخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حدٍ سوا ولنقتصر على هذا القدر من هذا الباب، فإنَ فيه كفاية إن شاء الله تعالى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الباء

باب الباء بحث عن حتفه بظلفه البحث: التفتيش. والحتف: الهلاك. والظلف بكسر الظاء للشاة والبقرة والظبي بمنزلة القدم لنا. واستعاره عمرو بن معدي كرب للخيل في قوله: وخيلٍ تطأكم بأظلافها. يضرب هذا المثل في الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف وجناية الإنسان على نفسه. وأصله أنَّ ما عزة لبعض العرب كانوا أرادوا ذبحها، فلم يجدوا شفرة يذبحونها بها فجعلت تنبش برجلها في الأرض حتى استخرجت بنبشها شفرة كانت ضاعت لهم في الأرض، فذبحوها بها وقالوا: بحثت عن حتفها بظلفها. فذهبت مثلا. وقال الفرزدق في ذلك: وكان يجير الناس من سيف مالكٍ ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها وكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت الثرى تستثيرها وقال أبو الأسود: فلا تكُ مثل التي استخرجت ... بأظلافها مدية أو بفيها فقام إليها بها ذابحٌ ... ومن تدع يوما شعوبٌ يجيها أبخر من الأسد. البخر بفتح الخاء المعجمة: نتن الفم وغيرها. يقال: بخير بالكسر، فهو أبخر وهي بخراء. وعلى هذا فالقياس أن لا يصاغ التفضيل من لفظه، بل يقال: أشد بخرا. فإنَ صح ورود لفظ المثل عنهم كان من الشواذ: وإلاّ فهو لحن. والأسد معروف، وهو مشهور ببخر الفم وبه يضرب المثل فيه ومن ثم قال البلغاء: لو قيل: جاء أسد، وأريد رجل أبخر، كان استعارة صحيحة، غير إنّها لا تكون مقبولة لعدم استعمالها: فإنَ الوجه فيها يشترط أن يكون بينا، ولا يكون بحيث يجعلها كاللغز. ومن الأمثال المشهورة للعامة قولهم: من يستطيع إنَّ يقول للأسد أنت

أبخر من صقر

أبخر الفم؟ يضربونه عندما يرون عيب أو أذى ممن لا يقدر أن يذكر له ذلك وينبهه عليه ويقبح له، أو تصدر كلمة باطلة مما لا يقدر أن ترد عليه. وكان من أصل ذلك مثل آخر لهم وهو قولهم: يبرأ الجرح السوء، ولا يبرأ الكلام السوء. وسيأتي. أبخر من صقر البخر: تقدم. والصقر، بفتح الصاد المهملة وسكون القاف: كل شيء يصيد من البزاة والشواهين. جمعه صقر بالضم، وأصقر وصقور وصقورة وصقار وصقارةٍ. ويقال تصقر الرجل: صاد بالصقر وهو أيضاً مما يوصف ببخر الفم. قال الشاعر: فله لحية تيس ... وله منقار نسر وله نكهة ليثٍ ... خالطت نكهة نسر والنكهة: رائحة الفم. البدل أعور بدل الشيء بفتحتين والدال المهملة، وبدله بالكسر وبديله: خلفه والأعور معروف. يضرب هذا المثل في سوء الخلف والرجل المذموم يخلف بعد الرجل المحمود. وأصله أنَّ يزيد بن المهلب كان على خراسان ثم عزل عنها وولي مكانه قتيبة بن مسلم الباهلي وكان شيخا أعور شحيحا، فقال الناس: هذا بل أعور! فذهب مثلا لكل ما لا يرضى بدلا. وفي ذلك قال بعض الشعراء: كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوحُ حتى أتانا أبو حفص بأسرته ... كأنما وجهه بالخل منضوحُ وفيه قال أبن همام السلولي: أقتيب قد قلنا غداة أتيتنا ... بدل لعمرك من يزيد أعورُ قلت: ويظهر لي أنَّ المثل قديم ويد على ذلك ما نسبه أهل السيرة لدحية بن خليفة إنّه قال حيث أتى قيصر:

برح الخفاء

ألا هل أتاها على نأيها ... بأني قدمت على قيصرِ فغررته بصلاة المسيح ... وكانت من الجوهر الأحمرِ وتدبير ربك أمر السماء ... والأرض فأغضى ولم ينكرِ وقلت تقر ببشرى المسيح ... فقال سأنظر قلت أنظرِ فكاد يقر بأمر الرسول ... فمال إلى البدل الأعورِ فشك وجاشت له نفسه ... وجاشت نفوس بني الأصفرِ على وضعه بيديه الكتاب ... على الرأس والمنخرِ فأصبح قيصر من أمره ... بمنزلة الفرس الأشقرِ والله اعلم. برح الخفاء يقال: برح الرجل مكانه بالكسر إذا زال عنه. وأكثر استعماله مع النفي ونحوه، كقوله: وما برحت أقدامنا من مكاننا ... ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا وقد يحذف لفظا كقول الآخر: وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا والنتطق: ذو السلاح، والمجيد بالضم: صاحب الجواد من الخيل. ومن هذا قولهم لا براح قال: من صد عن نيرانها ... فأنا أبن قيس لا براحُ ويقال للأسد والرجل الشجاع حبيل براح، بمعنى أنَّ كل منهما كأنه شد بالحبال فلا يبرح مكانه ولا يزول. ويقال: برح الخفاء بالكسر ومعناه وضح الأمر. قال بعض اللغويين: معناه ظهر الأمر وصار كأنه في براح وهو المكان المستوي من الأرض. ويقال: البراح من الأرض ما كان ظاهرا مكشوفا؛ ولذا قيل للشمس براح، وهو اسم معدول مكسور قال الراجز: هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح

أبرد من حبقر.

ورباح اسم ساق كان يسقي لإبله. يريد إنّه أقامعاى السقي حتى دلكت الشمس أي مالت. وقيل: برح الخفاء أي ذهب السر وظهر. والخفاء هنا: السر. وقيل: الخفاء المتطأطئ من الأرض والبراح والمرتفع منها الظاهر. فإذا قيل: برح الخفاء فكأنه قيل أرتفع المتطأطئ حتى صار كالمرتفع الظاهر. وقال بعضهم: الخفاء ما غاب عنك. وقال بعض الأئمة: يقال: برح الشيء يبرحه إذا انتحى وذهب وبرح الخفاء: ذهب؛ وأبرحته أنا: أذهبته. قال أبن دريد: وأوّل من قاله شق الكاهن. وقال حسان رضي الله عنه: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاءُ أبرد من حبقر. أبرد: من البرودة وهي معروفة وحبقر أصله حب قر والحب: حب الغمام، والقر: البرد. ويقال: أبرد من حب قر وأبرد من عبقر ومن عب قر. والعب من أسماء البرد. بر الكريم طبعٌ، وبر البخيل دفعٌ. البر: الحسان والفضل. ولا شك أنَّ الكريم ينبعث منه البذل طيبة به نفسه، بل يجد في ذلك أعظم اللذات، والبخيل لا يصدر عنه عطاء إلاّ عناء ومقاساة من نفسه حتى لا يكاد تسمع نفسه بالعطاء إلاّ عن رغبة أو رهبة كتوقي الأذى في النفس والمال والعرض. وهذا المنى بين مشروح في أبواب الكرن والبخل، مشهور لا حاجة إلى ذكره وما قيل فيه. ومن الشديد الصعب في هذا المقام ما ذكره صاحب التشوق رحمه الله تعالى في مناقب الشيخ أبي العباس السبتي رضي الله عنه عن أبي زيد عبد الرحمن بن يوسف الحسني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أريد أن أراك في النوم كل ليلة. فقال: هذا لا يمكن فإني مطلوب في المشرق والمغرب. فشكوت له حالتي فقري، فقال لي: البخل أضر بك. قال: فمر بنا أحمد بن دوناس، وهو رجل صالح من الأولياء الأخفياء من أهل أغمات، لا يمسك شيئاً وربما تجرد عن أثوابه فيؤثر

أبر من هرة.

بها ويستتر بالأبواب. فسلم علينا وانصرف. فقلت: يا رسول الله وهذا؟ فقال: البخل اضر به. فقلت: يا رسول الله بين لي ما هذا البخل. فقال لي: لأقولن لك فيه قولا ينقله إليكم علماؤكم، إذا خطر لأحدكم خاطر بالعطاء ثم عقبه خاطر آخر بالمنع فالتردد في الخاطر الأول بخل. قال: فسألته عن أبي العباس السبتي، وكنت سيئ الاعتقاد فيه فتبسم ثم قال لي: هو من السباق. فقلت له: بين لي. فقال لي: هو ممن يمر على الصراط كالبرق. قال: فأصبحت وخرجت فلقيت أبى العباس السبتي فقال: ما سمعت وما رأيت؟ فقلت له: دعني. فقال: والله لا تركتك حتى تعرفني. فذهبت معه إلى حانوت أبن مساعد، فأنشأت أحدثه إلى أن قلت له: التردد في الخاطر الأول بخل. فصاح وغشي عليه، ثم قال: كلمت الصفا من المصطفى، وصار متى يذكر هذا الكلام يغشى عليه. انتهى ملخصا. فليعتبر العاقل بهذه القصة وهذا الكلام ولينظر في أحوال نفسه وأحوال غيره كيف يلقى من نفسه عندما يهم بخير غاية التردد والمنازعة والعناء، حتى إذا أعطى قليلا واكدى أهمته نفسه أنه جواد كريم رؤوف رحيم. وليته عرف مقامه وتقصيره فيتوب أو يستغفر وينكسر، عسى أن يتخلص مما ورد على البخل من الوعيد الشديد والذم الأكيد! والله المستعان. أبر من هرة. البر يطلق على الخير وعلى الاتساع في الإحسان كما مر، وعلى الصلة وعلى الجنة وعلى الطاعة وعلى الصدق وعلى ضد العقوق وهو المراد هنا. يقال منه: بررته بكسر الراء وفتحها براً ومبرة، أبره، فأنا بار، وهو مبرور. والهرة بكسر الهاء معروفة وهي الأنثى؛ والذكر هر. وإنّما وصفت الهرة بالبر لأنها تؤكل أولادها محبة لهن، كما قال الشاعر: أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها وهي أيضاً توصف بالعقوق، وسيأتي. بالرفاء والبنين. الرفاء بكسر الراء والمد على مثال كساء: الاتفاق والالتئام. ويستعمل عند تهنئة المتزوج والدعاء له بأن يرزق اجتماع الشمل ويرزق الأولاد. والرفاء مأخوذ من

برق لمن لا يعرفك.

قولك: رفأت الثوب ورفوته يهمز ولا يهمز. ومعناه لأمته وضممت بعضه إلى بعض. يقال: من اغتاب خرق، ومن استغفر رفأ؛ وقال أبن هرمة: بدلت من حدّ الشبيبة ... والإبدال ثوب المشيب أردؤها ملاءة غير جد واسعة ... أخيطها مرة وأرفؤها واستعمل الرفاء والمرافات في الموافقة. قال الآخر: ولمّا أن رأيت أبا رويم ... يراعيني ويكره أن يلاما وبعض اللغويين يجعل هذا المعنى أصلا للمثل المذكور. وقيل هو دعاء بالسكون والطمأنينة أخذا من قولهم: رفوت الرجل أي سكنته من الرعب. قال أبو خراش: رفوني وقالوا: يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم همُ ويقال: رفأت الرجل ترفيئا: قلت له بالرفاء والبنين وتزوج عقيل بن أبي طالب امرأة فقيل: بالرفاء والبنين. فقال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رفأ أحدكم أخاه فليقل: بارك الله لك وبارك عليك! برق لمن لا يعرفك. يقال: برق الرجل وبرق وأبرق إذا أوعد وتهدد. ويقال أيضاً: رعد وبرق وأرعد وأبرق. قال أبن أحمر: يا جل ما بعدت عليك بلادنا ... فأبرق بأرضك ما بدا لك وأرعد! وقال الكميت: أبرق وأرعد يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر! وقال المتلمس: إذا جاوزت من

أبرما قرونا.

ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد! وأنكر الأصمعي أبرق وأرعد رباعيا. ذكر القالي في نوادره عن أبي حاتم قال: قلت للأصمعي: أتقول في التهدد أبرق وأرعد؟ قال: لا لست أقول ذلك إلاّ أن أرى البرق أو اسمع الرعد. قلت: فقد قال الكميت أبرق وأرعد، البيت فقال، الكميت جرمقاني من أهل الموصل ليس بحجة؛ والحجة الذي يقول: إذا جاوزت من ذات عرق، البيت. فأتيت أبا يزيد فقلت له: كيف تقول من الرعد والبرق فعلت السماء؟ قال: رعدت وبرقت أو أرعدت وأبرقت من الرعد والبرق قلت: فمن التهدد؟ قال: رعدَ وبرقَ، وأرعد وأبرق، فأجار اللغتين جميعا. وأقبل إعرابي محرم فأردت أن أسأله، فقال لي أبو زيد: دعني فأنا أعرف بسؤاله. فقال أبو زيد: يا إعرابي، كيف تقول: رعدت السماء وبرقت أو أرعدت وأبرقت؟ فقال: رعدت وبرقت. فقال أبو زيد فكيف تقول للرجل من هذا؟ فقال: أمن الجخيف تريد؟ يعني التهدد. قال: نعم. فقال: أقول: رعدَ وبرقَ وأرعد وأبرق. ومعنى المثل: برق وتهدد على من لا يعرف موقع وعيدك ومنتهى تهديدك! وأما أنا فقد عرفتك. يضرب عند جواب الجبان إذا جعل يخوف ويتهدد. قد ذكر في هـ المثل الآخر، وهو قولهم: برق ورعد، فلا حاجة إلى إعادته. أبرما قرونا. البرم بفتحتين: من لا يدخل مع القوم في الميسر وهو ذم عند العرب غاية؛ كما أنَّ الدخول فيه مدح. قال متمم: ولا برم تهدى النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما؟ يقول إنّه يغشى مستوقد القوم ليصيب مما نحروا، لأنه برم لا تسخو نفسه بالأخذ مع القوم والخول معهم؛ وجمعه أبرام. قال دريد بن الصمة: إذا عقب القدور عددن مالا ... أحب حلائل الأبرام عرسي وعقب القدور: ما يبقى في أسفلها فاضلا ولا تعد مالا إلاّ عند اشتداد الأمر؛ وحينئذ تبقى زوجات الأبرام لا مرقة عندهن فيحببن عرسي لمّا عندها من المرق والخير. وبرم الرجل بالكسر، يبرم. قال النابغة: لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... برد الشتاء من الامحال كالأدمِ ويقال في ضده: يسر الرجل ييسر أي ضرب بالقداح. قال علقمة: وقد يسرت إذا ما الجوع كلفه ... معقب من قداح النبع مقروم ورجل يسر والجمع أيسار قال الشاعر:

وراحلة نحرت لشرب صدق ... وما ناديت أيسار الجزورِ وقال الحماسي: هينون لينون أيسارٌ ذوو كرمٍ ... سواسُ مكرمةٍ أبناء أيسارِ من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وقال عنترة في معناه: ومشك سابغةٍ هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلمِ ربذٍ يداه بالقداح إذا شتا ... هناك غايات التاجر ملومِ واربذ المسرع. يريد إنّه يسرع إلى ضرب القداح إذا شتا؛ والتجار: باعة الخمر. ويريد إنّه مع ذلك يشرب الخمر ويسقيها في ثمنها حتى يعطي غاية ما يطلبه التاجر، وهو معنى هتك غاياتهم. وقلت عجوز أعرابية لثلاث بنات لها: لتصف لها كل منكن من تحب من الرجال! فقالت الكبرى: أريده أورع بساما أحذ مجذاما سيد ناديه وثمال عافيه ومحسب راجيه فناؤه رحب وقياده صعب. وقالت الوسطى: أريده عاي السناء، مصمم المضاء، عظيم نار، متمم أيسار، يفيد ويبيد ويبدئ ويعيد، في الأهل صبي وفي الجيش كمي، تستعبده الحليلة وتسوده الفضيلة. وقالت الصغرى: أريده بازل عام، كامهند الصمصام، قرانه حبور، ولقاؤه سرور، إن ضم قضقض، وإن دس أغمض وإن أخل أحمض. فقالت أمها: فض فوك! لقد فررت لي شرة الشباب جذعة. والأورع: الكريم وقيل الجميل. والأحذ: الخفيف السريع. والمجذام: القاطع للأمور من الجذم وهو القطع. والنادي: المجلس. والثمال: الغياث. والعافي والمعتفي: من جاء طالبا للمعروف. والفناء: الرحب الواسع. وصعب القياد من الرجال: العزيز الممتنع، وأصله في الدابة. والسناء بالمد: الشرف؛ والمصمم: الماضي في الأمور لا يثنيه شيء. والأيسار جمع يسر كما مر. والكمي: الشجاع. وحليلة الرجل: زوجه. والفصيلة: رهط الرجال المقربون. وبازل عام: التام الشباب، وأصله في الإبل، وستذكر بعد أسنانها إن شاء الله تعالى. وقضقض: كما يقضقض الأسد

أبصر من عقاب.

فريسته وهو أن يحطمها فيسمع لعظامها صوت؛ ودس الشيء: دفعه؛ والاخلال والأحماض: مثل، وسيأتي تفسير ذلك بعد أن شاء الله تعالى؛ والقرون فعول من قرن للمبالغة: يقال: قرن بين أحدين إذا جمع بينهما، فهو قارن وقرون وقرآن. وأصل المثل أنَّ رجلا كان برما فدخل على امرأته فوجدها تأكل لحما فجعل يأكل بضعتين. فقالت له: أبرما قرونا، فذهبت مثلا. والمعنى أن تكون برما قرونا، فتجمع بين مذمتي البخل والنهم. ولم يذكر في الصحاح أصل هذا المثل وقال: معناه هو برم ويأكل مع ذلك تمرتين انتهى. فجعل القرآن. وهو يحتمل أن يكون أصله أو من مضاربه وهو صحيح. ومثله في القاموس إلاّ إنّه فسر البرم في المثل بالثقل. ولا شك أنَّ البرم يطلق على السأم والضجر. يقال: برم به إذا ضجر وأبرمه: أضجره. قال الشاعر في ثقيل: مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه طوعا لحظة الرامقِ يظل في مجلسنا مبرما ... أثقل من واشٍ على عاشقِ ويقال: كتب الأعمش نقشا في خاتمه: يا مقيت، أبرمت فقم! فإذا استقبل جليسا ناوله إياه. أبصر من عقاب. البصر: حس العين. يقال: بصر بالشيء، بالضم والكسر بصارة وبصرا، صار مبصرا له؛ وتبصره: نظر هل يبصره؛ وهو أبصر منه، أي أقوى إدراكا. والعقاب: الطائر المعروف، جمعه أعقب، لأنه مؤنث. قال امرؤ القيس: كأنَّ دثاراً حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعلِ والعقاب توصف بحدة البصر. أبصر من غراب. البصر معروف. والغراب جمعه غربان وأغربة وغرابين وغرب، ويوصف أيضاً بحدة البصر. وزعموا أنه يرى من تحت الأرض مقدار منقاره. وذكر بعض اللغويين أنَّ العرب تسمي الغراب أعور، ويزعمون أنه يغمض أبدا إحدى عينيه، ويقتصر على النظر بواحدة

أبصر من فرس.

من قوة بصره. وقيل سموه أعور من حدة بصره على طريق التفائل، كما قال بشار بن برد: وقد ظلموه حين سموه سيداً ... كما ظلم الناس الغراب بأعورا وقال أبن اللبانة: لمّا تناهيت علما ظل ينقصني ... عند الكمال خضيب النير السررِ وفي الغراب إذا فكرت مغربة ... من فرط إبصاره يعزى إلى العورِ أبصر من فرس. الفرس معروف للذكر والأنثى. ويوصف أيضاً بحدة البصر، وهو صحيح مجرب، بحيث إنَّ الفارس قد يرخي عنانه في الطريق غير الواضح، والظلام معتكر، فيسير به ويتخطى المهاوي والجراثيم التي لا شعور للراكب بها ولا إحساس. أبصر من المائح باست الماتح. المائح: الذي ينول البئر ليملأ الدلو بيده إذا قلَّ الماء فيها، وقد ماح يميح. قال الراجز: يا أيها المائح داوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا وقال الآخر: فآنس سرب قطا قاربٍ ... جبى منهل لم تمحه الدلا والماتح: المستقي النازع للدلو على جبى البئر. قال علقمة: كأنَّ ذراعيها على الخل بعد ما ... ونين ذراعا ماتحٍ متجردِ وقال ذو الرمة: كأمه دلو بئر جد ما تحها ... حتى إذا ما رآها خانها الكربُ ومن المعلوم أنَّ المائح الذي تحته يبصر عورته ويكون بصيرا باسته إن لم يتسرول؛ فلذلك قالوا ما تقدم. وقال بعض الأدباء: يا مائح العين عدمت الرقى ... من حرص هذي العين لم يستقي من شيمة الماء انحدارٌ فلم ... ما جفوني أباً يرتقي؟

أبصر من هدهد

أبصر من هدهدٍ الهدهد معروف، ويقال له أيضاً هداهد بالضم والجمع هداهد بالفتح، ويوصف بحدة البصر أيضاً. وزعموا أنه يبصر الماء من تحت الأرض، وأنَّ الأرض كانت له كالزجاج. وقالوا إنه كان دليل نبي الله سليمان عليه السلام على الماء، وإنه إنما غضب عليه وحلف ليعذبنه لكونه نزل على غير ماء. وحضرت الصلاة، فسأل الإنس والجن والطير على الماء فلم يجد عندهم علما، فتفقد الهدهد فلم يجده فغضب عليه وفي ذلك قصة طويلة. وتقدم من كلام أبن عبالس وأنَّ نافعا سأل لم اعتنى سليمان مع ما خوله الله تعالى من الملك بالهدهد مع صغره؟ فقال: أنه احتاج إلى الماء والهدهد كانت له الأرض كالزجاج وأنَّ أبن الأزرق قال لابن عباس: قف يا وقاف! كيف يبصر الماء من تحت الأرض ولا يرى الفخ إذا غطي له بمقدار إصبع من تراب؟ فقال أبن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر! أبصر من وطواطٍ بالليل. الوطواط: الخفاش وهو معروف. بصبصن إذ حدين بالأذناب يقال: بصبص الكلب والفحل وغيرهما إذا حرك ذنبه. وحدين: سقن من الحداء الذي يبعث به نشاط الإبل وهو بالدال المهملة. ويروى حذين بالذال المعجمة، من المحاذاة. يضرب هذا المثل في فرار الجبان وخضوعه واستكانته، وكأنه شطر بيت. بضرب خبابٍ وريش المقعدِ خباب: قينٌ بمكة كان يضرب السيوف؛ والمقعد كان يريش السهام. فتكالم الزبير وعثمان فقال الزبير: إن شئت تقاذفنا، قال: أبالبعر، يا أبا عبد الله؟ فقال الزبير: بل بضرب خباب وريش المقعد، أي نتقاذف بالسيف والسهام. أبطأتَ بالجواب، حتى فات الصواب. قاله قصير لجذامة الأبرش في قصة طويلة. وملخصها على ما ذكر

الأخباريون يزيد بعضهم عن بعض ويدخل حديث بعضهم في بعض، إنَّ جذيمة هذا وهو جذيمة بالذال المعجمة المكسورة أبن مالك بن فهم بن الأوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن يشرب بن يعرب بن قحطان. وقد قيل إنه من العرب الأولى من إياد بن أميم وكان بياض. فكرهت العرب أن تقول أبرص فقالت له أبرش والواضح. وقيل: الصواب أنَّ الواضح غير هذا. وقيل: سمي الأبرش لأنه أصابه حر ونار فبقي فيه نقطا سوداء وحمراء. كان ملك الحيرة وما حولها ستين سنة، وكان زمان ملوك الطوائف وكان يغير على من حوله من الملوك حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم. وهو أول من أوقد له الشمع ونصب المجانيق للحرب. ثم إنَّ جذيمة غزا الحضر وهي مدينة بين دخلة والفرات. وإياه عنى عدي بن زيد العبادي بقوله: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابورُ شاده مركراً وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكورُ وكان صاحب الحضر إذ ذاك عمرو بن الظرب، وهو أبو الزباء كان ملك على الحضر، فظفر به جذيمة وقتله. وذهبت بنته الزباء مطرودة نحو الروم، وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان لها شعر إذا أرسلته غطى بدنها وبذلك لقبت بالزباء وهي تأنيث الأزب أي الكثير الشعر. وعلى هذا فاسمها ممدود. وقال البكري: الزباء ألفها مقصورة. قال: وقد رد العلماء فيه المد لأنه تأنيث زبان الاسم المستعمل. فأما الزباء ممدودا فإنما هو تأنيث أزب، لم يستعمل اسما وإنما هو صفة للكثير شعر البدن. قال: والشاهد لمّا قلناه قول عدي بن زيد: فأضحت في مدائنها كأن لم ... تكن زبا لحاملةٍ جنينا قلت: وما أراه إلاّ وهما وغلطا، وذلك إنَّ فعاى بالقصر إنّما تأتي تأنيث فعلان، كعطشان وسكران. وزبان الذي هو اسم إنّما هو فعال أصيل النون من مادة الزبن والمزابنة لا فعلان. ومادة زبب لم يرد منه إلاّ زبان لصاحب الزبيب، وأزب للكثير الشعر. والأول لا يرد منه فعلى بالقصر كما من عشاب وبقال وحمَّار. وكذا الثاني، إنّما يرد منه فعلاء بالمد كأحمر وأشهب وأوطف وأجرد ومؤنثه حمراء

ووطفاء وجرداء وكذا أزب وزباء وهذا أمر واضح. وأما قوله: إنَّ الأزب لم يستعمل اسما فغير بين فإنَ الأزب من أسماء الشياطين. وفي حديث العقبة هو شيطان اسمه أزب العقبة. والزباء اسم لبلد على الفرات ولفرس الأصيدف الطائي ولماء لبني سليط وآخر لطهية ولعين باليمامة. والزباء أيضاً اسم من أسماء الأست، والدهية الشديدة. فلم يصح قوله إنّه لم يستعمل اسما. ولم يمتنع أن يكون اسما للملكة المذكورة وإن كان وصفها في أصله بل لو لم يكن اسما في غيرها لم يمتنع أن يكون اسما فيها على أنه ليس اسما لها بادئ بدء. وإنّما لقبت به لكثرة شعرها كما قلنا أوّلاً فغلب عليها. واسمها فارعة وقيل نائلة وقيل ميسور. وأما البيت الذي استشهد به، فليس وحده بناهض في الاحتجاج لصحة قصر الممدود. والمعروف عند اللغويين إنَّ الزباء بالمد كما نطق به الإمام أبو بكر بن دريد في مقصورته حيث قال: فاستنزل الزباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجو أعلى منتهى وهو الموافق للقياس. ومد المقصور أضعف من قصر الممدود. ثم إنَّ الزباء جمعت الأموال والأجناد وتوقفت وكانت نبيلة علقلة. فعادت إلى دياره أبيها وأزالت جذيمة عنها وملكت. فكانت تعد من ملوك الطوائف وحرمت الرجال على نفسها فهي بتول. وكان بينها وبين جذيمة مهادنة بعد حروب جرت. فلما همت بالقيام بثأر أبيها أرسلت إليه تخطبه على نفسها وترغبه في أن يتصل ملكه بملكها، فأحب ذلك. وقيل هو الذي حدثته نفسه بخطبتها فشاور خاصته فوافقوه كلهم إلاّ قصيرا. وهو قصير بكسر الصاد أبن سعد وكان عاقلا نبيلا وهو أبن عم جذيمة وصاحب أمره وعهده. قالوا ولم يكن قصيرا وإنّما سمي به فقط. قال له: أبيت اللعن أيها الملك! إنَّ الزباء حرمت الرجال فهي بتول عذراء لا ترغب في مال ولا جمال ولها عندك ثأر والدم لا ينام؛ وإنّما هي تاركتك رهبة وحذاراً والحقد دفين في سويداء القلب له كمون ككمون النار في الحجر إن اقتدحته أورى إن تركته توارى وللملك في بنات الملوك متسع. وقد رفع الله قدرك عن الطمع فيما هو دونك وعظم الرب شأنك فما أحد فوقك. فقال جذيمة: يا قصير الرأي ما رأيت ولكن النفس تواقة وإلى ما تحب مشتاقة ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر! ثم وجه جذيمة إليها خاطبا وأمره أن يظهر لها

ما ترغب به وتميل فلما جاءها الخاطب أجابت وأظهرت فرحا كبيرا وغبطة عظيمة وقالت: لولا أنَّ المسير في هذا أجمل بالرجال سرت إليه فوجهت الخاطب وبعثت معه إلى جذيمة بهدية سنية فيها من الإماء والكراع والسلاح والأموال والبقر والغنم وغير ذلك من الجواهر الرفيعة والطرف العجيبة ما يبهر الناظرين. فلما بصر جذيمة بذلك أعجبه مع ما بلغه من حسن جوابها وطيب كلامها وظن أنَّ ذلك كان رغبة منه فيه زوجا. فخرج إليها من فوره مع خاصته وفيهم قصير واستخلف على مملكته أبن أخيه عمرو بن عدي اللخمي وسيأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى. فسار حتى بلغ موضعا يقال بقعة فأكل وشرب وأعاد المشوار فاستصوبوا أيضاً ما أراد إلاّ قيصرا فانه قال: أيه الملك كل عزم لا يؤيد بجزم فإلى أفن يكون كونه. فلا تثق بزخرف قول لا محصول له ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد لا الحزم بالمنى فيبعد! والرأي عندي للملك أن يتعقب أمره بالتثبت ويأخذ حذره بالتيقظ. ولولا أنَّ الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزما بتا أن لا يفعل. فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة. فقال قصير: أرى القدر سائق الحذر لا يطاع لقصير أمر أو رأي. فأرسلها مثلا. ثم سار جذيم حتى قرب من ديار الزباء فأرسل إليها يعلمها بمجيئه. فلما جاءها الرسول أظهرت السرور والرغبة، وأمرت بحمل الضيافة إليه وقالت لأجنادها وخاصتها: تلقوا سيدكم ومالك دولتكم! وعاد الرسول بالجواب إليه وأخبره بما رأى وسمع. فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصيرا فقال له: أنت على رأيك؟ قال: نعم! وقد زادت بصيرتي فيه. أف أنت على عزمك؟ قال: نعم! وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير: ليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب. فأرسلها مثلا. ثم قال له: وقد نذرتك الأمر قبل فواته وفي يد الملك بقية هو بها قادر على استدراك الصواب؛ فإنَ وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة فقد نزعت يدك من سلطانك وفارقت عشيرتك وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره. فإن كنت فاعلا ولا بد فإنهم غدا يلقونك ويقومون لك صفين حتى إذا توسطهم أحدقوا بك؛ فهذه العصا لا يشق غبارها وهو أول من قاله. وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تدرك فهي ناجية بك إن ملكت ظهرها وناصيتها. ويروى أنه قال له: انهم غدا إنَّ لقولك فترجلوا وحيوك فتقدموا، فقد كذب ظني، وإنَّ رأيتهم حيوك فطافوا بك، فإني اعرض لك العصا. فسمع جذيمة كلامه فلم يرد عليه جوابا. ثم سار جذيمة، وقصير عن يمينه، فقامت الزباء وبعث وقالت لهم: سيروا حتى إذا لقيتموه فقوموا صفين عن يمينه وشماله، فإذا توسطكم فانقضوا عليه اجمع، وإياكم أن يفوتكم! فلما أحاطوا به وعلم أنهم ملكوه أقبل على قصير، وكان مسايره، فقال له: صدقت يا قصير! فقال قصير: أبطأت بالجواب، حتى فات الصواب! فأرسلها مثلا. فقال جذيمة: فكيف الرأي؟ فقال: تركت الرأي ببقة! فأرسلها مثلا. ويروى إنّه

قال له: هذه العصا فدونكها لعلك تنجو عليها! فأنك من ذلك. وقيل إنه عرضها له فشغل عنها، فركبها قصير فنجا. فلما نظر إليه جذيمة وهو عليها ينقطع دونه السراب قال: ما ذل من جرت به العصا! فأرسلها مثلا. ويروى إنّه قال، حين نظر إليه على ظهرها: ويل أمه حزما على ظهر العصا! فأرسلها مثلاً. ثم سارت الجيوش بجذيمة، فتطلعت عليه الزباء من قصرها فقالت: ما احسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي! حتى دخلوا به عليها في قصرها وحولها جواريها. وكانت قد ربت شعر عانتها سنة وضفرته. فلما دخل عليها تكشفت له فقالت: أَشوار عروسٍ ترى؟ فقال: بل شوار أمةٍ بظراء. فقالت: أما إنه ليس من عدم المواسي، ولا من قلة الأواسي، ولكنه شيمة ما أقاسي فأمرت به فأجلس على نطعٍ وقطعت رواهشه. ويروى في طست من ذهب تفاؤلاً أن يذهب دمه هدراً. وكان قد قيل لها: تحفظي بدمه، فإنه إنَّ وقعت قطرة منه على الأرض طلبت بثأره. فلما صعفت يده سقطت، فقطر منه في غير الطست شيء، فقالت: لا تضيعوا دم الملك! فقال: دعوا دما ضيعه أهله! ومات. وقيل إنّه قد قال: لا يحزنكم دم أراقه أهله! فقالت: والله ما وفى دمك، ولا شفى قتلك، ولكنه غيض من فيض فأرسلها مثلا. فلما قضى أمرت به فدفن. وكان عمرو بن عدي يخرج إلى ظهر الحيرة يستشرف خبر خاله. فبينما هو ذات يوم ينظر إذ رأى العصا تهوي بقصير، فقال عمرو: أما الفرس ففرس جذيمة، وأما الراكب فكالبهية، لأمر جاءت العصا. فأرسلها مثلاً. فإذا هو بقصير قد اقبل، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: سعى القدر بالملك إلى حتفه، على

أبطأ من غراب نوح.

الرغم من انفي وانفه! وسيأتي تتمة القصة بعد هذا في خير فصير حيث قام بثأر جذيمة إنَّ شاء الله تعالى. وفي تقل جذيمة قال الشاعر: وقددت الأديم لراهشيه ... وألفي قولها كذبا ومينا وقال سويد بن أبي كاهل: وأبو ملك الملك الذي ... قتلته بنت عمرو بالخذع أبطأ من غراب نوح. زعموا أنَّ نبي الله نوح عليه السلام بعث الغراب لينظر له هل غرقت البلاد ويأتيه بخبرها. فذهب فوجد جيفة طافية على وجه الماء، فأشتغل بها وبقي ولم يأته بالخبر. فدعا عليه فغلت رجلاه وخاف من الناس. وأعلم أنَّ البطء ثلاثي ورباعي: يقال بطؤ بضم الطاء، وبطئا وبطاء بالكسر، وأبطأ: ضد أسرع. ويقال: هو أبطأ منه. وهو إنَّ كان صوغه من الثلاثي فمقيس اتفاقا؛ وإنَّ كان من الرباعي فهو جائز أيضاً عند سيبويه في هذا الوزن. أبطأ من فندٍ. البطء: مر. وفند بكسر الفاء وسكون النون بعدها دال مهملة: اسم رجل. وهو مولى لعائشة بنت سعد بن أبي وقاص، بعثته يأتيها بنار. فلما خرج وجد قوما يريدون مصر، فصحبهم وأقام بمصر سنة، ثم رجع فأتاها بالنار؛ وجاء يشتد فعثر وتبدد الجمر فقال: تعست العجلة! فضرب به المثل في البطء. البطنة، تذهب الفطنة. هذا من الأمثال الحكيمة. والبطنة بالكسر: امتلاء البطن طعاماً. والفطنة بكسر الفاء: الذكاء والحذق. يقال: فطن إليه، وفطن له، بضم الطاء وكسرها وفتحها، يفطن بالضم والفتح فطنا وفطانة. وفي الأثر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما احل الله حلالا أبغض من بطن يملأ طعاماً ". وقال عليه الصلاة والسلام: " ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب أبن آدم أكل أو لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلثٌ للنفس ". وعن عمر رضي الله عنه: أيها الناس، إياكم والبطنة، فأنها

مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسد، مورثة للسقم. وعن علي كرم الله وجهه: إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للقلب. وقال الحارث بن كلدة: أربعة أشياء يهرمن البدن: الغشيان عن البطنة، ودخول الحمام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز. ويقال أقلل طعاما، تقلل سقاما. ويقال: النهم لؤم، والرغب شؤم. وقيل: أكبر الدواء، تقليل الغذاء. وجمع الرشيد أربعة من الأطباء العارفين: هندياً ورومياً وفارسياً وعربياً، وقال لهم: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه الأهليلج الأسود. وقال الرومي: هو حب الرشاد الأبيض. وقال الفارسي: هو عندي الماء الحار. فقال العربي، وكان أعلمهم: الأهليلج يعفص المعدة وذلك داء، وحب الرشاد يرق المعدة وذلك داء؛ والماء الحار يرخي المعدة، وذلك داء. فقالوا له: وما الدواء الذي لا داء فيه عندك؟ قال: إنَّ تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه، وترفع يدك منه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت! وسلموا له. ويروى حديثا: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة: والبردة: النخمة. ويقال إن مالكا، رضي الله عنه، لمّا وادع يحيى بن يحيى قال له: أوصيكم بأربع كلمات: الأولى أجمع لك فيها فقه الفقهاء، إذا سئلت عن شيء لا تعرفه فقل لا ادري، والثانية أجمع لك فيها حكمة الحكماء، إذا جالست قوما فكن أصمتهم، فإن أصابوا أصبت معهم، وإنَّ أخطئوا سلمت، والثالثة أجمع لك فيها طب الأطباء، أنَّ تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه، وترفع يدك وأنت تشتهيه؛ فإنك إذا فعلت ذلك لم يصبك مرض إلاّ مرض الموت. وفي الحكمة: إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، ورقدت الأعضاء عن العبادة. وقال حاتم بن عبد الله الطائي: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صحابي حين حاجتنا معا أبيت هضيم الكشح منطوي الحشا ... من الجوع أخشى الذم أنَّ أتضلعا وإني لأستحيي رفيقي أنَّ يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وانك إنَّ أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

بطني وعطري، وسائري ذري!

وقد اكثر الحكماء من هذا النمط نثراً وشعراً، وفيما ذكرناه كفاية إنَّ شاء الله تعالى. بطني وعطري، وسائري ذري! البطن: خلاف الظهر، وهو مذكر، جمعه أبطن، وبطون، وبطنان؛ ويقال أيضاً لمّا دون القبيلة من الناس بطن كما قيل: وإنَّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر والمراد هنا الأول: والعطر، بكسر العين: الطيب. ويقال: منه عطرت المرأة، بالكسر، فهي عطرة؛ ويقال عطرت الرجل تعطيرا: طيبته والسائر: الباقي، وهو من السؤر، وهو البقية مهموز. يقال: أسأر الشيء وسأره إذا أبقاه، فهو سئار، وقياسه مسئر، وهو جائز أيضاً. وذهب كثير من الناس إلى أنَّ السائر يكون أيضاً بمعنى الجميع، وأنكره آخرون: وذري معناه اتركي يقال: ذره أي أتركه. وأصل الماضي منه. وذره بالكسر يذره كوسعه يسع، لكن لم يستعمل منه ماضٍ ولا مصدر. وأصل المثل أنَّ أعرابياً ضاف قوما، فأمروه جارية لهم أن تطيبه فقال: بطني عطري، وسائري ذري! ومعناه ظاهر. وإضافة التعطير إلى البطن في نحو هذا يكون من المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، كقوله: قالوا: أقترح شيئاً نجد لك طبخه ... فقلت: اطبخوا أي جبة وقميصا! أراد أنَّ يقول: خيطوا لي جبة! فقال: اطبخوا! لصحبته للطبخ تحقيقاً. وكقوله تعالى:) وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها (، وقوله تعالى:) فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (. أطلقت السيئة والاعتداء على جزاء السيئة وجزاء الاعتداء عدلا لأجل المصاحبة، وإنَّ لم يكن الجزاء سيئة ولا اعتداء. وقوله تعالى:) تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك (. وهو كثير. وكقول أبن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا، ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقد يتقدم المشاكل فتراعى صحبة المتأخر، كقول أبي تمام: من مبلغ أفناء يعرب كلها ... إني ابتنيت الجار قبل المنزل؟ والافناء بالفاء: جماعة من الناس. ومن هذا أيضاً عند بعضهم قولهم: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي

أبعد من بيض الأنوق.

ومن هذا القسم لفظ المثل، لأن المراعي هو قوله: وسائري ذري! أي لا تعطري شيئاً من سائر بدني: ويحتمل إنَّ يكون قائله لم يعتبر هذا، وإنّما اعتبر قولهم للجارية عطريه، فيكون من القسم الأول. ويحتمل أنَّ يكون راعي فعل الجارية وما همت به من التعطير، فتكون المصاحبة إنّما وقعت تقديراً، كقوله تعالى:) صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة (عبر الله عن تطهير الله بالإيمان، لوقوع ذلك في صحبة الصبغ الواقع للنصارى بغمسهم أولادهم في ماء اصفر تقديراً، لأن سبب النزول دل على ذلك. ومثله لمن يغرس أشجاراً: غرس كما يغرس فلان! تريد رجلاً يصطنع المعروف إلى الكرام. تتمة: وقع في اللفظ الوارد على المشاكلة إشكال من حيث إنه لا يكون حقيقة، إذ ليس موضوعاً لذلك المعنى، ولا مجاز أيضاً لعدم العلاقة، فإن إطلاق اللفظ على المعنى لأجل الصحبة في المشاكلة صحيح، سواء وجد هنالك شيء مما يكون من العلاقات، كإطلاق السيئة على الجزاء المتسبب عنها في الآية السابقة، أو لم يوجد كإطلاق طبخ الجبة على خياطتها. قال سعد الدين التفتازاني في شرح المفتاح: ولا محيص سوى التزام قسم ثالث في الاستعمال الصحيح بأن يجعل نفس الوقوع في الصحبة مصححاً لاستعمال لفظ المصاحب عليه، أو القول بأن هذا النوع من العلاقة فيكون مجازاً. انتهى. أبعد من بيض الأنوق. البعد معروف؛ يقال: بعد بالضم والكسر؛ وقد يستعمل البعد بمعنى الموت والهلاك. قالت الشاعرة: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر والأنوق بفتح الهمزة، على مثال صبور: الرخمة، وهو طائر أسود أصلع الرأس أصفر المنقار. وهي تجعل بيضها حيث لا ينال، فتتخذ أوكارها في قنن الجبال الصعبة، فيضرب المثل ببيضها في البعد وعزة المنال، كما قيل: وكنت إذا استودعت سراً كتمته ... كبيض الأنوق لا ينال لها وكر وقال الآخر:

وأجازها قذفات كل تنوفة ... وكر العقاب بها وبيت الأعصم فوطئن أوكار الأنوق ... وروعت منها وبات المهر ضيف الهيثمِ وزعموا أنَّ رجلا أتى معاوية رضي الله عنه فقال له: زوجني هند! يعني أمه. فقال: لا أرب لها في زوج. قال: فولني كذا! فأنشد معاوية: طلب الأباق العقوق ... فلما لم يجده أراد بيض الأنوقِ والأبلق العقوق: الذكر الحامل وسيأتي وهو محال. فكأنه يقول طلب أمرا محالا، فلما أعجزه طلب أمرا بعيدا لا يناله. واعترضت الحكاية بأن أم معاوية ماتت سنة أربع عشرة، فكيف يطلب تزويجها يوم الولاية؟ وحكيت على وجه آخر يصح وهو أنَّ رجلا أتاه فقال له: افرض لي شيئا! قال: نعم! فقال: ولولدي؟ قال: لا! قال: ولعشيرتي؟ فأنشد البيت. قلت: وعلى كلا الوجهين لم يقع الانتقال موقعه لأنه إنما يحسن عندما يكون من الأضعف إلى الأقوى ولم يوجد ذلك في البيت على شيء من المجهين: فانه في أحدهما من المحال إلى الممكن البعيد وفي الآخر: من البعيد إلى البعد ضرورة أن الفرض للعشيرة أبعد من الفرض للولد وإن كان السائل يغتر بشبهة أنه لمّا فرض له أغنى ذلك عن الولد فلم يبق له استحقاق الفرض وكانت العشيرة أولى منه ولذا سأل لها بعده. ومن اللغويين من قال: إنَّ الأنوق الذكر من الرخم ووجدان البض له محال. ولا إشكال حينئذ إذ القصد النداء على ضلال السائل وحيويته حيث جعل ينتقل من محال إلى محال. ومنهم من قال: الأنوق يطلق على الذكر والأنثى والله أعلم. فائدة: قيل وفي الرخمة عشر خصال: تحضن بيضها وتمنع فرخها ولا تمكن من نفسها غير زوجها وتقطع في أول القواطع وترجع في أول الرواجع وتألف ولدها. هي مع ذلك تحمق كما قيل: وذات اسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويلِ أي الحيلة. والرخمة أحد لئام الطير وهي: الرخمة والغراب والبوم.

أبعدي عني ظلك، أحمل حملي وحملك!

أبعدي عني ظلك، أحمل حملي وحملك! هذا من الأمثال الموضوعات على ألسنة العجماوات. زعموا أنَّ النخلة قالت ذلك لجارتها بمعنى أنها إذا تباعدتا حملت كل واحدة منها مثل ما تحملان معا. والحمل إذا أطلق على ما يحمل من الأمتعة على ظهر أو رأس فهو بكسر الحاء؛ وإذا أطلق على ما في بطن الأنثى فهو بالفتح؛ وإذا أطلق على ثمر الشجر فهو بالوجهين لمّا له من الشبه بالأمرين. هكذا قال بعض اللغويين وقال: ما بطن من الثمار فبالفتح وما ظهر فبالكسر. وقيل إنَّ الثمر كله بالفتح كما في البطن. وقيل إنَّ الثمر بالكسر ما لم يكثر ويعظم فإذا كثر فبالفتح. وجمع الحمل حمال ومنه: هذا الحمال لا حمال خيبر. بعض الشر أهون من بعضٍ. هذا مثل مشهور وظاهر المعنى. ويوافق من أمثال العامة قولهم: نصف الخسارة ولا الخسارة كلها. وقال طرفة بن العبد لمّا حبس: أبا منذرٍ كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطيك في الطوع مالى ولا عرضي أبا منذرٍ أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعضِ وقال أبو خراش الهذلي: حمدت إلا هي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعضِ وبعده: فوا لله ما أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسيما مشيت على الأرض على أنها تعفو الكلوم وإتما ... نوكل بالأذى وإن جل ما يمضي ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجدٍ محضِ ولم يك مثلوج الفؤاد مبهجا ... أضاع الشباب في الريبة والخفضِ ولكنه قد لوحته مخامص ... على أنه ذو مرة صادق النهضِ كأنهم يشبثون بطائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض يبادر قرب الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبضِ

بعلة الورشان يأكل رطب المشان.

وذكر صاحب القلائد أنَّ الظافر بن المعتمد لمّا قام عليه أبن عكاشة وأتباعه بقرطبة ودافعهم حتى قتل وجرد من ثيابه وكان ليلا مر به أحد المغلسين إلى الجامع فألقى ثوبا ولم يعرف من فعل ذلك. فكان أبوه المعتمد بن عباد إذا تذكر ذلك رفع عقيرته وأنشد: ولم أدار من ألقى عليه رداءه. ومن أظرف الاتفاق ما يحكى أبن الخطيب من قول بعضهم في طبيب يسمى نعمان ويكنى أبا المنذر: أقول لنعمان وقد ساق طبه ... نفوسا نفيسات إلى باطن الأرض أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض ومما قيل في الطبيب الجاهل قول الآخر: يا ملك الموت وأن زهر ... جاوزتما الحكمة والنهاية! ترفقا بالورى قليلا ... في واحدٍ منكما الكفاية! وقوله: أعمى وأفنى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأحياء والبصراء فإذا نظرت رأيت من عميانها ... أمما على أمواته قراء وقول الآخر: قال حمار الطبيب تومي ... لم أنصفوني لكنت أركب لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب بعلة الورشان يأكل رطب المشان. الورشان بفتحتين: طائر وهو ساق حر. وأنشدوا عن الأصمعي: أيها البلبل المغرد في النخل ... غريبا من أهله حيرانا أفراقا تشكوه أم ظلت تدعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا؟ هاج لي شجوك الغرد شجواً ... رب صوت يهيج الأحزانا والمشان بضم الميم وكسرها على مثال غراب وكتاب والشين معجمة: نوع من الرطب طيب؛ ورطب المشان في لفظ المثل بالإضافة ولا يقال الرطب المشان وأصل المثل أن قوما استحفوا غلاما لهم رطب نخلهم فكان يأكله وإذا سئل عن ذلك

البغاث بأرضنا يستنسر.

وعوتب عليه قال: أكله الورشان، فقالوا ذلك. يضرب ذلك لمن يظهر شيئا والقصد شيء آخر. البغاث بأرضنا يستنسر. تقدم معنى هذا المثل في الباب الأول. أبلعني ريقي. يقال: بلعت الشيء بكسر اللام وابتلعته بمعنى وأبلعته غيري: أمكنته أن يبلعه: والريق: ماء الفم ما دام لم ينفصل عنه فإذا انفصل فهو بزاق؛ والبعض منه ريقة. قال النابغة: زعم الهمام ولم أذقه أنه ... يشفي برياً ريقها العطش الصدي وقال الآخر: يسقي امتياحا ندى المسواك ريقها ... كما تضمن ماء المزنة الرصف ويقال: أبلغني ريقي أي أمهلني ساعة مقدار ما أبلعه ولا تعجل عليَّ! يضرب عند الاستمهال في مقام المحاورة والإكثار من السؤال واستدعاء الجواب حتى يعوق الاشتغال بالجواب عن بلع الريق. والقصد التأخير والتنفيس. قال شاس بن عبدة: حلفت بما ضم الحجيج إلى منى ... وما ثج من نحر الهدى المقلد لئن أنت عافيت الذنوب التي ترى ... وأبلغت ريقي وأنظرتني غدي لأستعتبن مما يسؤك بعدها ... وإن سبني ذو لكنة بين أعبِ ويحكى أنَّ عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى قال يوما لحاجبه: هات بدرة! فأتى بها، فوضعها بين يديه وقال لمن حضر من وجوه العرب: أيكم أنشدني صدر هذا البيت: والعود أحمد، فله هذه البدرة! فلم يكن فيهم من يعرفه. فقال للحاجب: اخرج وانظر من بالباب من العرب، وقل: من ينشدني صدر البيت: والعود أحمد، فله جائزة! فخرج الحاجب وقال ذلك. فقام فتى من القوم فقال: أنا. قال الحاجب: فأنشدني! قال: لا! إلاّ أن أشافه أمير المؤمنين. فدخل الحاجب فأخبره فقال عبد الملك: هذا رجل طال مقامه بالباب وله حاجة. والله لئن دخل عليَّ ولم ينشدني لأعاقبنه. أدخله! فلما دخل وسلم قال له عبد الملك أنشدنا صدر بيتنا! فقال: يا أمير المؤمنين،

حاجتي! قال: وما هي؟ قال: بنو عم لي باعوا ضيعتهم بالسواد فأدخلوا ضيعتي في ضيعتهم فقال عبد الملك: فإن أمير المؤمنين قد رد عليك ضيعتك فأنشدنا صدر بينتا! قال: نعم يا أمير المؤمنين! قالت تميم إنه بيتها. قال أوس بن حجر: جزينا بني شيبان صاعا بصاعهم ... وعدنا بمثل البدء والعود أحمد قال: أخطأت! قال: يا أمير المؤمنين، أبلعني ريقي! قال: قد أبلعتك قال: قالت اليمن أنه بيتها. قال امرؤ القيس: فإنَ كنت قد ساءتك مني خليقة ... فعودي كما نهواك والعود أحمدُ قال: أخطأت! قال: يا أمير المؤمنين، قالت ربيعة إنّه بيتها. قال المرقش: وأحسن فيما كان بيني وبينها ... وإن عاد بالإحسان فالعود أحمدُ قال: أصبت، وإنك لظريف. فمن أنت؟ قال أنا زيد بن عمرو. قال: ممن؟ قال من حي جانب عجرفية قيس، وعنعنة تميم، وكسكسة ربيعة وصأصأة اليمن وتأنيث كنانة: أنا امرؤ من عذرة. فأمر له بالبدرة. وكان بين أبي العباس بن سريج الفقيه الشافعي، وبين أبي بكر محمد بن داود الظاهري مناظرات. فقال له أبو بكر يوما: أبلعني ريقي! قال أبلعتك دجلة! وقال له مرة أخرى أمهلني ساعة! قال: أمهلتك إلى قيام الساعة! وقال له أخرى: أجيئك من الرجل، وتجيئني من الرأس، قال: هكذا شأن البقر: إذا حفيت أظلافها، دهنت قرونها. واجتمعا في مجلس الوزير أبي الحسن بن الجراح فتناظرا في مسألة من الأبلاء، فقال له أبن سريج: أنت بكتاب الزهرة اعرف منك بهذا الفن، حيث تقول فيه: ومن كثرت لحظاته، دامت مسراته. فقال أبو بكر: والله انك لا تحسن أن تقرأه، وإنّه لأحد مناقبي حيث أقول: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... ولو اختلاسي رده لتكلما رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى حبا صحيحا مسلما فقال أبن سريج: أو علي تفخر بهذا وأنا القائل، ولو شئت لقلت:

يبلغ الخضم بالقضم.

ومسافر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناتهِ صبا بحسن حديثه وغنائه ... وأردد اللحظات في وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراتهِ فقال أبو بكر: يا وزير، إنه قد أقر: فعليه إقامة البينة أنه بخاتم ربه وبراته، وإلاّ أقمنا عليه الحد! فقال أبن سريج: هذا لا يلزمني: فإن مذهبي أنَّ من أقر بأمر وناطه بصفة، فان إقراره لا يلزمه إلاّ منوطاً بتلك الصفة. وقيل: بل قال له: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك: أنزل في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما أو ملئتما علما وظرفا ولطفا! ويحكى أيضاً أنَّ الحجاج لمّا قال لأبي عمرو بن العلاء البصري ما وجه بياض. يبلغ الخضم بالقضم. بلوغ الشيء معروف. والخضم، بالخاء والضاد المعجمتين الأكل بجميع الفم، أو بأقصى الأضراس. وقيل خاص بالشيء الرطب كالقثاء؛ يقال منه: خضمت الشيء بكسر الضاد وفتحها أخضمه كذلك بالكسر والفتح. والقضم، بالقاف والضاد المعجمة: الأكل بأطراف الأسنان؛ يقال قضمت الشيء بكسر الضاد أقضمه. وفي الحديث أيترك يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟ ودخل إعرابي على أبن عم له بمكة فقال: إن هذه بلاد مقضم، وليست ببلاد مخضم. وقلت أنا زمن الصبا، من أبيات: لو كان لي تجارة غيرها ... أو كنت بين الخال والعمِ أو كنت في وسع لقيل اكتفى ... من ذاك بالقضم عن الخضمِ ومعنى المثل أنَّ الخضم الذي هو الآكل الكثير يدرك وينال بسبب القضم الذي هو الأكل الضعيف، فالشبعة قد تدرك بالأكل بأطراف الفم. والمقصود من ذلك أنَّ الغاية البعيدة تدرك بالرفق. قال الشاعر: تبلغ بإخلاف الثياب جديدها ... وبالقضم حتى تدرك الخضم بالقضم

بلغ السكين العظم.

وللعامة في نحو هذا المعنى أمثال كثيرة، منها قولهم: المهمل يبلغ وقولهم: الراحة تنزل شيئاً فشيئاً. واصله في المريض. وقولهم: لا يجيء دفعة إلاّ الموت؛ وقولهم: قطرة إلى قطرة فيسيل النهر؛ وقولهم: امش بالنعلين حتى تجد السباط، أي الخفين. بلغ السكين العظم. السكين بفتح السين وتشديدها معروف يذكر ويؤنث. قال في الصحاح: والغالب عليه التذكير. وأنشد: يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا ... فذلك سكين على الحلق حاذق ويقال: سكين وسكينة والعظم معروف وبلوغ السكين العظم في القطع كناية عن بلوغ الأمر في الشدة نهاية وفي الصعوبة غاية كما قيل: وكم ذدت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم بلغ السيل الزبى. السيل مصدر يقال: سال الماء يسيل سيلا وسيلانا. فإذا قيل للماء سيل فمعناه سائل وضع المصدر مكان الصفة. ويستعمل السيل في الماء الكثير السائل والزبى بالزاي جمع زبية وهي حفرة تتخذ للأسد في الموضع العالي ويغطى بشيء ويجعل عليها لحم. فإذا تناوله الأسد سقط فيه. هكذا ذكر بعضهم. ويقال تزبيتها: اتخذتها. قال الراجز: وكنت بالأمر الذي قد كيدا ... كالذي تزبى زبية فاصطيدا وهي في كتابة اللغة: إنَّ الزبية تطلق على المكان المرتفع لا يصل إليه الماء ومنه المثل وعلى حفرة الأسد. وقال الطرماح: ياطيء السهل والأجبال موعدكم ... كمبتغي الصيد أعلى زبية الأسد نعم قال في الصحاح: إنّما سميت حفرة الأسد بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في الموضع العالي. فأصل الزبية الموضع العالي. والسيل لا يصل إليه وإن وصله كان جارفا مفراطا مجحفا. فإذا قيل: بلغ السيل الزبى، فمعناه أن الأمر قد بلغ غايته

بلغ الشظاظ الوركين.

والهول أدرك نهايته كما قال الراجز: قد بلغ السيل الزبى فلا غير. أي قد عظم الأمر عن أن يغير ويصلح. وكتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أيام حصير إلى أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وطمع في من لا يدفع عن نفسه ولم يفخر عليك كضعيف ولم يغلبك مثل مغلب فأقبل إلي على أي أمريك أحببت: فأما كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلاّ فداركني ولمّا أمزق وهذه أمثال أخرى سيأتي كل منها في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال أبو بكر بن دريد رحمه الله: لست إذا ما بهضتني غمرة ... ممن يقول: بلغ السيل الزبى ومن أبلغ ما جاء في وصف قوة السيل قول امرئ القيس: كأن ذرى رأس المجيمر غدمة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل والقى بصحراء الغبيط بعاه ... نزول اليماني ذي العياب المخول كأن اسودا فيها غرقى غدية ... بأرجائها القصوى أنابيش عنصل والمحيمر: جبل وذراه أعالي وفلكة المغزل التي يدور بها معرفة. يريد إنَّ السيل قد أحاط بهذا الجبل، فكأنه يدور فلذا شبهه بفلك المغزل فهو من التخيلات. والغرقى جمع غرق والأرجاء: النواحي والقصوى: البعيدة والعنصل: البصل البري المعروف. والأنالبيش جمع انباش والأنباش جمع نبش وهو أصل المنبوش. يريد إنَّ هذا السيل لكثر أغراق السياع فصارت طافية فوق الماء كأنها انبش العنصل يقتلعها السيل. بلغ الشظاظ الوركين. الشظاظ بكسر الشين وبظاءين مشالتين بينهما ألف: عويد يجعل في عروة الجوالق. قال الراجز: أين الشظاظين وأين المربعة ... وأين سقف الناقة الجلنفعة يقال شظظت الجوالق: شددت عليه شظاظه وأشظظته: جعلت له

بلغ الله بك اكلا العمر.

شظاظا والورك على وزن كتف: ما فوق الفخذين ويقال أيضاً ورك بسكون الراء مع فتح الواو وكسرها. قال الراجز: ما بين وركيها ذراعا عرضا. وبلوغ الشظاظ الوركين كناية عن اشتداد الأمر: من معنى الذي قبله. بلغ الله بك اكلا العمر. يقال: كلات الرجل بالهمز كمنعته أكلؤه كلاء وكلاءة بالكسر: حرسته وحفظته؛ وكلا الدين: تأخر والكالئ النسيئة. قال الراجز: وعينه كالكالئ المضمار. وفي الحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. وهو يصح من كلأ إذا تأخر أو من كلاته: حفظته أي بيع المكلؤ لأن كلأ لصاحب شيئا. قيل وكان الأصمعي لا يهز الكالئ وينشد: إذا تباشرك الهموم ... فإنها كال وناجز وه المثل يقال في الدعاء فقيل: معناه بلغ الله بك أحفظ العمر كما يقال: كلأه الله أي حفظه. قال الشاعر: كلاك الله حيث عزمت وجها ... وحاطك في المبيت وفي الرحيل وقيل: الصواب أن معناه الدعاء بطول العمر أي بلغ الله بك أنسأ العمر أي أبعده من كلأ بمعنى تأخر كما مر. بلغ من العلم اطوريه. الطور بفتح فسكون: الحد ومنه قولهم: تعدى فلان طوره وملك الدار بطورها وطورها وأطوارها بمعنى. ويقال: هذا الدار أطور من هذه أي أوسع حدودا. فإذا قيل: بلغ من الأمر أطوريه فهو بكسر الراء جمع أطور أي بلغ منه أي أقصى حدوده. هكذا قاله أبو زيد بكسر الراء. وقال غيره: بلغ أطوريه بفتح الراء وهو تثنيه أطور أي بلغ منه حدّثني الطول والعرض. فيضرب في الانتهاء إلى غاية العلم. ابله من ضب. يقال: بله بكسر اللام يبله أو بلاهة فهو أبله والبلة: الغفلة وقيل: الغفلة عن الشر خاصة وقيل: الحمق بلا تمييز. وقيل الأبله: المأمون الشر؛

ابنك أبن ايرك، ليس بذي أب غيرك.

وقيل: من غلبت عليه سلامة الصدر. والضب بالضاد المعجمة: الدويبة المعروفة والأنثى: ضبة وهو يضرب به المثل في أمور كثيرة مثل البله والعوق والخديعة وغير ذلك. وسيأتي الكل إن شاء الله تعالى. وإنّما ضرب به المثل في البله والذهول لمّا يزعمون من أن في طبعه الحيرة والنسيان وعدم الهداية. قالوا: ولذلك يحفر بيته في كدية وموضع مرتفع لئلا يضل عنه إذا خرج لابتغاء الطعم ورجع والله اعلم. ابنك أبن ايرك، ليس بذي أب غيرك. الأير بفتح الهمزة وسكون الياء: الذكر. والمعنى أن ابنك الذي يكون لاحقا بك وناصرا ومعينا هو الذي نشأ من نطفتك ولم ينتسب إلى غيرك. يضرب في تبني الرجل أو المرأة غير ولديهما. ابنك أبن بوحك. هذا كالذي قبله في المعنى والمضروب. وبوح في هذا المثل بضم الباء الموحدة قيل هو الذكر وقيل النفس وقيل الوطء. وهو يطلق على الكل في اللغة ومرجعها إلى معنى واحد. ويقال أيضاً في هذا المثل: ابنك أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك. قيل: وأول من نطق بهذا المثل الأحزن بن عوف العبدي وذلك إنّه كانت عنده امرأة فطلقها وذهبت بولد فتزوجها عجل بن لجيم بن بكر بن وائل فقالت لعجل حين تزوجها: أحفظ علي ولدي! وسماه عجل سعدا. وشب الغلام فخرج به عجل ليدفعه إلى الأحزن بن عوف أبيه. وأقبل حنيفة بن لجم أخو عجل فتلقاه بنو أخيه فلم ير فيهم سعدا فسألهم فقالوا: انطلق به أبونا إلى أبيه. فذهب حنيفة في طلبه فلقيه راجعا قد وضع الغلام في يد أبيه. فجمع حنيفة بني أخيه إليه وسار إلى الأحزن ليأخذ سعدا فوجده مع أبيه ومولى له فاقتتلوا. فقال الأحزن لسعد: يا بني! إلاّ تعينني على حنيفة؟ فكع الغلام عنه، فقال الأحزن حينئذ: ابنك أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك فذهبت مثلا. وضرب حنيفة الأحزن بالسيف فجذمه فسمي جذيمة. وضرب الأحزن حنيف على رجله فحنفها فسمي حنيف وكان اسمه اثال بن لجيم. فأخذ حنيف سعدا فرده إلى عجل. وقال بعضهم: الباحة وسط الدار وجمعها بوح. ومن كلامهم: ابنك

ابنك من دمى عقبيك

أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك. انتهى. فجعله في باحة الدار. ابنك من دمى عقبيك الدم اصله الدمي. تقول: دمي الشيء بالكسر يدمى فهو دم ودام وأدميته أنا ودميته تدمية. وهذا المثل كالذي قبله. قيل: وقائله امرأة الطفيل بن ملك بن جعفر بن كلاب. وكانت من بلقين وولدت للطفيل عقيل بن الطفيل فتبنته ضرتها كبش بنت عروة بن جعفر بن كلاب. ثم إنَّ عقيلا ذات يوم ضربته أمه فجاءت كبشة فمنعتها وقالت أبني! أبني! فقالت لها البلقينية ابنك من دمي عقبيك وهو بكسر الكافين مخطبة بها أي: ابنك هو الذي نفست به حتى ادمى النفاس عقبيك لا الذي تتبنينه ولم تلديه. ولمّا قالت البلقينية هذا الكلام لكبشة انقلبت عنها مغمومة منكسرة إذ لم يكن لها ولد وتعظمت عليها ضرتها بولدها فأشتملت كبشة على عامر بن الطفيل في تلك الليلة فجاءت اسود أهل زمانه وأنجد أهل زمانه وأفرس أهل زمانه حتى كان مناديه ينادي بعكاظ: هل من راجل فأحمله أو من خائف فأؤمنه؟. به لا بظبي. الظبي معروف جمعه ظباء وأظبي وظبي. وهذا المثل يقال عند الدعاء على أحد المصائب والموبقات وأن لا يعدلن عنه عند الشماتة به. والمعنى: جعل الله ما أصابت لازماله! قال الفرزدق لمّا مات زياد وكان مسكين الدرامي رثاه بقوله: رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهارا حين فارقها زياد فقال الفرزدق يرد على مسكين: امسكين أبكى الله عبنه إنّما ... جرى في ضلال دمعها فتحدرا فبكيت امرءا فظا غليظا مبغضا ... ككسرى على أعدائه وكقيصرا أقول له لمّا أتاني نعيته ... به لا بظبي بالصريمة اعفرا وقال أبو تمام في قصيدة له: قتلته سرا ثم قالت جهرة ... قول الفرزدق لا بظبي اعفرا

باءت عرار بكحل.

باءت عرار بكحلٍ. يقال: باء إليه يبوء إذا رجع إليه وانقطع؛ وباء بذنبه بواء إذا احتمله أو اعترف به؛ وباء دمه بدمه: عدل به؛ وباء فلان بفلان إذا قتل به فقاومه. ومنه قول مهلهل البكري الذي قتله: بؤ بشسع نعل كليب! وقول الشاعر: فقلت له: بؤ بامرئ لست مثله ... وإن منت قنعانا لمن يطلب الدما! وعرار على وزن رقاش. وكحل بفتح الكاف وسكون الحاء: بقرتان وكانتا قد انتطحتا فماتتا معا فقيل: باءت عرار بكحل أي باءت هذه بهذه. يضرب إذا قتل القاتل بمقتوله. ويضرب لكل متكافئين متساويين. بال حمارٌ فاستبال أحمرة. البول معروف. يقال: بال، يبول، بولا. والحمار معروف. ومعنى استبال أحمرة: حملهن على البول لمّا بال. وأما قول الفرزدق: وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشري يستبيلها فقالوا: معناها في يده. ولا يبعد أن يكون معناه: يحملها أن تبول عليه، ويتعرض لذلك أي يتعرض لهجومي كما قال الآخر: تعرضت بياض لأهجوها ... كما تعرض لاست الخاريء الحجرُ والمثل المذكور يضرب في تعاون القوم على المكروه وتنافسهم في الشر. بالت عليه الثعالب. الثعالب جمع ثعلب. يضرب هذا المثل للشر الواقع بين القوم وفساد ما بينهم. فقط حميد بن ثور: ألم تر ما بيني وبين محاربٍ ... من الود قد بالت عليه الثعالبُ وأصبح باقي الود بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب بات فلان بليلةٍ ابن المنذر. هو النعمان بن المنذر أي بليلة شديدة.

باتت المرأة بليلة حرة.

باتت المرأة بليلةٍ حرةٍ. أي إذا لم يقدر الزوج على افتضاضها ليلة هدائها. ويقال ليلة حرة بالوصف وهي أوّل ليلة من الشهر. قال النابغة: شمسٌ موانع كل ليلة حرةٍ ... يخلقن ظن الفاحش المغيار باتت بليلة شيباء. يقال: ليلة شيباء بالإضافة وليلة الشيباء وهي آخر ليلة من الشهر. ويقال ذلك إذا غلبت على نفسها عكس الذي قبله. باتت بليلة أنقد. الأنقد بالدال المهملة على مثل أحمر: القنقذ وهو يبيت الليل كله لا ينام، فيقال لمن بات غير نائم: بات بليل أنقد. وذكر في الصحاح أنَّ لفظ أنقد معروفة كأسامة للأسد. وجوز غيره أن تدخل عليه الألف واللام. بيدي لا بيد عمرو. قالته الزباء الملكة السابق ذكرها. وعمرو هذا هو عمرو بن عدي بن نصر اللخمي ابن أخت جذيمة. وسبب ذلك أنَّ الزباء لمّا قتلت جذيمة كما مر رجع قصير إلى عمرو بن عدي فقال له: قم بثأر خالك من الزباء! فقال عمرو: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فأرسلها مثلا. فقال قصير: اطلب الأثر وخلاك ذم! فذهبت مثلا. فقال له إني والله لا أنام على طلب دمه ما لاح نجم أو طلعت شمس حتى أدركه أو تخترم نفسي دونه! ثم قال قصير لعمرو: اجدع أنفي، واقطع أذني واضرب ظهري حتى تؤثر فيه، وخلني وإياها! ففعل عمرو ذلك. وقيل إنَّ عمرا أبى عليه ففعل هو ذلك بنفسه فقالت العرب: لأمر ما جدع قصير أنفه فذهبت مثلا. قال المتلمس: ومن طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس ثم إنَّ قصيرا ذهب فلحق الزباء فقالت له: ما أتى بك إلينا يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر؟ فقال لها: يا ابنة الملوك العظام قد كان دم الملك يعني أباها يطلب جذيمة حتى أدركه؛ وقد أتيتك فيما فيه مثلي مثلك مستجيرا من عمرو،

فانه اتهمني بقتل خاله وفعل بي ما ترين. وقد حال بيني وبين أهلي وولدي وخشيت على نفسي فأتيتك. فأعطته الجوار وأنزلته مكرما مخدما. فأقام مدة لا يكلمها وهو يتطلب لها الحيل ويتأمل الفرص. ثم قال لها يوما: إنَّ لي بالعراق أموالا كثيرة وذخائر نفيسة مما يصلح بالملوك. فإنَ أذنت لي في الخروج إلى العراق وأعطيتني شيئا اتعلل به تجارة وأتخذه وصلة إليها أتيتك بما أمكنني منها. فأعطته مالا، فرجع إليها بأرباح كثيرة وطرائف خطيرة. فلما رأت ذلك أعجبها وعظمت منزلته عندها ورغبت فيه. ولم يزل يتلطف إليها ويتقرب حتى أعادته مرة أخرى إلى العراق، فأضعف لها الأموال، وأتاها من الجواهر والخز والبز والديباج بشيء عظيم، فازدادت منزلته عندها. ويقال إنّه رجع مرة ثالثة فأتاها بأكثر من الأوليين. فبلغ منها مكانة عظيمة حتى إنها كانت تستعين به في مهماتها. وكان لبيبا أديبا. وكانت ابتنت على الفرات مدينتين عظيمتين واتخذت بينهما نفقا. فإذا أوجست شرا دخلت النفق. فلما بلغ قصير من مدخلها ما بلغ، عرف النفق وعرف الطريق إليه. فعند ذلك رجع مرة أخرى للتجارة. ويقال إنّها هي التي قالت له: أريد أن أغزو بلد كذا من أرض الشام، فاخرج إلى العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب! فقال قصير: ولي في بلد عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا وما لعمرو به علم. ولو قد علمه لاستعان به على حرب الملكة وقد كنت أتربص به المنون وها أنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم فأتي الملكة بذلك مع الذي سألت فأعطته من المال ما أراد. ويذكر أنها قالت له إذ ذاك: يا قيصر! الملك يصلح لمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره. ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليك. وما يقصر بك عن شيء تناله يدي ولا يقعد بك حال ينهض بي فسمع كلامها رجل من خاصة قومها فقال: أسد خادر وليث ثائر قد تحفز للوثوب! فلما سمع قصير كلامها وعلم ما بلغ من قلبها قال: الآن تمكن الخداع! وخرج من عندها فأتى عمرا فقال له: قد أصبحت الفرصة. قال له عمرو: قل أسمع ومر أقبل فأنت طبيب هذه القرحة! قال: الرجال والأموال فقال عمرو: حكمك مسلط فينا عندي! فعمدا إلى ألفي رجل من فتاك قومه فحملهم على ألفي بعير في الغرائر السود. ويقال

بيدين ما أوردها زائدة.

انه اتخذ الجوالق وهو أوّل من اتخذها وحمل فيها الرجال وجعل ربطها من داخل. فأتى بها وأخذ غير الطريق وجعل يسير الليل ويكمن النهار. وجاء عمرو معه. وكان عمرو قد صور للزباء قاعدا وقائما وراكبا. فلما عمي عنها خبر قصير سألت عنه فقيل لها إنّه أخذ على طريق الغور فقالت: عسى الغوير أبؤسا. فذهبت مثلا، وسيأتي. فلما قربوا تقدم قصير ودخل على الزباء فقال لها: قفي فانظري إلى العير! فرقبت سطحا وجعلت تنظر إلى الإبل تحمل الرجال. فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا؟ أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثما قعودا؟ ويقال إنَّ الزباء كان وشي لها بقصير فلما رأت مشية الأجمال ازدادت الريبة في قلبها فقالت ذلك. فلما دخلت العير القصر وعلى الباب بوابون من النبط وفيهم رجل بيده مخصرة فطعن بها جوالقا فأصابت المخصرة رجلا فضرط فقال البواب بالنبطية: بشتا! بشتا! أى الشر! الشر! فاستل قصير السيف فقتل النبطي فدخل عمرو وكان وراء الإبل. فبركت الإبل وخرج الرجال وذهب عمرو فوقف على فم النفق وكان قد وصفه له قصير وعرفه به. فجاءت الزباء نحو النفق. فلما رأت عمرا عرفته بما صور لها فمصت خاتما كان في يدها مسموما وقالت: بيدي لا بيد عمرو فماتت. ويقال إنّه هو قتلها بالسيف واستباح بلادها. ومعنى المثل ومضربه واضح. بيدين ما أوردها زائدة. اليد تطلق على الجارحة وعلى القوة الناشئة عنها. ويثنى بالمعنى الثاني أيضاً كما يثنى بالمعنى الأول الحقيقي. قال تعالى:) لمّا خلقتُ بيديَّ (. وقال عروة بن حزام: فقالوا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدانِ واليد في المثل إن كانت بالمعنى الحقيقي فهي كناية عن الجد والشدة والقوة لأن العامل عملا بكلتا يديه يكون عليه أقوى وأشد من الذي يعمله بيد واحدة؛ وإن كان بالمعنى الثاني فواضح وثنيت للمبالغة. والمثل يضرب للجلادة والقوة في العمل

بيض القطا يحضنه الأجدل.

بيض القطا يحضنه الأجدلُ. القطا: الطير المعروف، واحدته قطاة، وتقدم إنّها تعد في الحمام. وتبيض ولا تزيد غالبا على ثلاث بيضات، ومن ثم يقال للقطا أم ثلاث. قال الشاعر: وأم ثلاثٍ شببن عققنها ... وإنَّ متن كان الصبر منها على صبر وحضانة الأولاد معروفة، وأصل الحضن جعل الشيء تحت الإبط. والاجدل هو الصقر، مشتق من جدل وهو القوة، وغلبت عليه الصفة. وهذا المثل يضرب في الضعيف يستند إلى القوي ويأوي إليه. بين الصبح لذي عينين. معناه أنَّ الليل لا ظلامه يستوي فيه البصير والأعمى، فإذا أقبل الصبح تبينت الأشياء لكل ذي بصر فأدركها. أو معناه أنَّ الصبح لظهوره يدركه كل ذي بصر لا يمتري فيه ولا يلتبس عليه. يضرب في الشيء يتضح وينجلي بحيث لا يتطرق إليه التباس. ويقال أيضاً: وضح الصبح لذي عينين. وأصل المثل لقيس بن زهير العبسي صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين داحس والغبراء. وسنشرح ذلك في موضوعه إن شاء الله تعالى. وكان قيس داهية من دهاة العرب، يضرب به المثل في ذلك كما سيأتي. فحكي أنَّ رجلاً مر بحي الاحوص، فلما دنا من الحي نزل عن راحلته فعمد إلى شجرة فعلق عليها سقاء من لبن، وجعل بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أستوى على راحلته وانطلق. فنظر القوم إلى ذلك فعمي عليهم أمره، فأرسلوا إلى قيس بن زهير، فلما جاءهم قال له الأحوص: المثل تخبرني أنه لا يرد عليك أمر إلاّ عرفت مأتاه؟ قال: ما ذلك؟ فأراه ذلك، فقال: وضح الصبح لذي عينين. فأرسلها مثلا، ثم قال: هذا رجل أسره جيش " قاصد " إليكم، ثم أنطلق بعد أن أخذ عليه العهد والميثاق أن لا ينذركم، فعرض لكم بما ترون. أما الصرة من التراب فأنه يزعم أنه أتاكم عدد كثير؛ وأما الحنظلة فإنه يزعم أن بني حنظلة قد غزتكم، وأما الشوك فيخبر إنَّ لهم شوكة، وأما اللبن فإنه دليل على قرب القوم أو بعدهم إنَّ كان حلواً أو حامضاً. فأشتد القوم فكان كما قال.

وقولهم: بفلان تقرن الصعبة.

ومما يتلحق بهذا الباب قولك مثلا. أبرد من الثلج، وابرد من قرة، ونحو ذلك وهذا النحو من الأمثال لا يختص بنوع ولا ينحصر في شيء، إذ ما من شيء اتصف بصفة وامتاز بميزة من برودة أو بله أو بطئ أو إبصار أو غير ذلك من الأوصاف، إلاّ ولك أنَّ تضرب به المثل، إما تفصيلاً أو تشبيها. وهكذا في باب؛ غير إنَّ ما اشتهر من ذلك يثبت في الكتاب، وما سواه فسائغ استعماله، غير محذور ارتكابه. وقولهم: بفلان تقرن الصعبة. يقال للرجل إذا كان نافذا في أمور قويا عليها ناهضا بها. وقولهم: بعد اللتيا والتي. في الأمر يكون بعد معاناة الكد ورؤية الشدة. وقولهم: هو ابن زوملتها أي عالم بها. وقولهم: هو بين سمع الأرض وبصرها إذا لم يدرك أين توجه. أو يراد به إنّه بأرض خالية لا يسمعه ولا يبصره إلاّ الأرض. وقيل أريد بسمع الأرض وبصرها طولها وعرضها. وضمن هذا المثل أبو محمّد بن عبدون رحمه الله! في قصيدته التي يرثي بها بني المظفر، فقال: وانفذ في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر ومن أمثال العامة في هذا الباب قولهم: يبر الجرح السوء، ولا يبرا الكلام السوء. وأصله يزعمون أنَّ شخصاً أداة تطوافه إلى إنَّ سقط في مغارة الأسد منكسراً، فوجد أشباله فلاذ بها. فلما دخل عليه الأسد ورآه على تلك الحال، رق له وجعل يأتيه باللحم ويقدمه إليه ويرفق به حتى برئ وذهب إلى أهله. فبينما هو يحدثهم ذات يوم بقصته مع الأسد، إذ جاء الأسد فأستمع من وراء البيت، وسمعه يقول لهام: ما رأيت في الأسد من عيب إلاّ بخراً في فيه، يدنو مني فيؤذيني غاية الإيذاء. فلما سمع الأسد كلامه أحفظه. فبينما ذلك الشخص يوما في موضع إذ وجده ذلك الأسد وعرفه، فقال له الأسد: أما كان لي عليك حق وجزاء لنعمتي ورفقي وإحساني بك؟ أو نحو هذا. قال نعم! قال له: فإني أسألك أن تضربني بهذا الفأس ضربة بين عيني منكرة، فأبى عليه، وألح عليه الأسد حتى ضربه. فذهب، ومكث زمانا حتى برئت تلك الضرب وذهب أثرها. فرجع إليه

وقولهم: البركات في الحركات.

حتى لقيه فقال له: أنظر هل ترى لضربتك التي ضربتني أثراً! قال: لا! فقال له حينئذ: يبرؤ جرح السوء، ولا يبرؤ كلام السوء. يعني قوله فيه إنّه كان أبخر، وافترسه. ولنحو هذا يقول العامة في مثل آخر: من ذا يقدر إنَّ يقول للأسد: فوك أبخر؟ وقولهم: البركات في الحركات. وقد ورد في مدح السفر والحضر على التحول والتحرك لنيل الأوطار كلام كثير. قال صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا، وأغزو تستغنموا! ". ويروى: " سافروا تصحوا وتغنموا! ". وقال: " الأرض أرض الله والعباد عباد الله: فحيث وجد أحدكم رزقه، فليتق الله وليقم ". وقال: " ما مات ميت بأرض غربةٍ إلاّ قيس به من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة ". وقال: " موت الغريب شهادة ". وقال: " من مات غريباً مات شهيداً ". وفي التوراة: أبن أدم، احدث سفرا احدث لك رزقا. وفيها أيضاً: ابد آدم، خلقت من الحركة إلى الحركة: فتحرك وأنا معك!. وفي بعض الكتب: امدد يدك إلى باب من العمل، أفتح لك باباً من الرزق! وقال صلى الله عليه وسلم لوفد من قيس: ما المروءة فيكم؟ قالوا: العفة والحرفة. وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تلوموا السفر! فإني أدركت فيه ما لم يدرك أحد، يريد أنَّ الله كلمه. ونظمه أبو تمام بقوله: فإن موسى صلى على روحه ... الله صلاة كثيرة القدس صار نبياً وعظم بغيته ... في جذوة للصلاة أو قبس قيل: وقد قال رجل لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ، أتحرك لطلب الرزق أمثال اجلس؟ قال: بل تحرك، فإنه أصلح لكّ! فقال له: أتقول هذا؟ قال: ما أنا قلته، ولكن عز وجل أمر به حين قال:) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (، ولو شاء أن ينزله عليها فعل. وفي هذا أنشد الثعالبي:

ألم تر أنَّ الله أوحى لمريم ... فهزي إليك الجذع تساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب وقال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية، لأنك تحل يوم محلة لم تحللها، وتعاشر قوماً لم تعاشرهم. وقالوا: ربما أسفر السفر، عن الظفر. وقالوا: إنَّ من فضائل السفر أنَّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومحاسن الآثار، وأمثال يزيد علما بقدرة الله، ويدعو إلى شكر نعمته. وقالوا: السفر يشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الثكلان، ويشهي الطعام، إذ ليس بينك وبين بلدٍ نسب، فخير البلاد ما حمل. وكتب أبن رشيق إلى بعض إخوانه: مثل الرجل القاعد، أعزك الله! كمثل الماء الراكد، وإنَّ ترك تغير، وإنَّ حرك تكدر؛ ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه نقمة، وهؤلاء يدعونه نعمة. فإذا اتصلت أيامه، ثقل مقامة، وكثر لوامه. فاجمع لنفسك فرجة الغيبة، وفرحة الأوبة! وقالوا: المسافر يسمع العجائب، ويكشف التجارب، ويحلب المكاسب. أوحش أهلك إذا كان انسك في إيحاشهم، واهجر وطنك إذا نبت عنك نفسك! وقيل لأعشى بكر: إلى كم ذا الاغتراب؟ أما ترضى بالدعة؟ فقال: لو دامت الشمس يوماً عليكم لمللتموها. وأخذ أبو تمام فقال: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجته فأغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أنَّ ليست عليهم بسرمد وقال الحكماء: لا تنال الراحة إلاّ بالتعب، ولا تدرك الدعة إلاّ بالنصب. وقال أبو تمام: ولكني لم أحو وفراً مجمعا ... ففزت به إلاّ بشمل مبدد ولم تعطني الأيام يوماً مسكنا ... ألذ به إلاّ بنوم مشرد وقال لنابغة الجعدي في هذا المعنى الذي نحن فيه: إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا الديار أو تموت فتعذرا وقال أبن صارة:

سافر فأن الفتى من بات مفتتحا ... قفل النجاح بمفتاح من السفر إنَّ شئت خضرتها يا أبن الرجاء فكن ... في طي غبر الفيافي ثاني الخضر ولا يصدنك عن وجه تصعبه ... قد ينبغ الكوثر السلسال من حجر وقال الآخر: تخوفي طول السفار وإنني ... لتقبيل كف العامري سفير ذريني أرد ماء المفاوز آجنا ... إلى حيث ماء المكرمات نمير وإنَّ خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير وقال الآخر: لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أهلا بأهلٍ وجيرانا بجيران وقال البحتري: وإذا الزمان كساك حلة معدمً ... فليس له حلل النوى وتغرب وقال الآخر: ليس ارتحالك ترداد لغنى سفرا ... بك المقام على خسف هو السفر وقال أبو الفتح البستي: فالحر حر عزيز النفس حيث ثوى ... والشمس في كل برج ذات أنوار وقال ديك الجن: وليس المرء ذو العزمات إلاّ ... فتى تلقاه كل غد بلاد وقال الآخر: يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترنين المراميا وقال البحتري: وإذا ما تنكرت لي بلاد ... أو صديق فإنني بالخيار وقال أبو الطيب: إذا لم أجد في بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب وقال:

ما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق وقال الآخر: غب عن بلادك وارج حسن مغبة ... إنَّ كنت حقا تشتكي الإقلالا فالبدر لم يحجب به إبداره ... إلاّ بغير يطلب الإقبالا وقلت أنا من جملة قصيدة: لا يكسك الوطن الأليف مذلة ... أن كنت تكتسب العلى بتغرب فالجار من يدنو إليك مواتياً ... في كل أرض بالجوار الأطيب ومن احتبك مودة ونصيحةً ... في حالتيك فذاك خير الأقرب وهذا باب لا يحصى. وقد أكثروا في عكس هذا المقصد، وهو مدح الإقامة والإخلاد إلى الراحة وانتظار الفرج واستمطار الرجاء. قال الأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإنَّ يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا وقال زهير: فقري في بلادك إنَّ قوما ... متى يدعوا بلادهم يهنوا وقال الآخر: لقرب الدار في الاقتدار خير ... من العيش الموسع في اغتراب وقال الآخر: وما زلت أقطع عرض البلا ... د من المشرقين إلى المغربين وأدرع الخوف تحت الرجا ... واستصحب الجدي والفرقدين واطوي وانشر ثوب الهمو ... م إلى أنَّ رجغت بخفي حنين وقال الآخر: يعطي الفتى فينال في دعةٍ ... ما لم ينل بالكد والتعب فأطلب لنفسك فضل راحتها ... إذ ليست الأشياء بالطلب إنَّ كان لأرزق بلا سبب ... فرجاء ربك أعظم السبب

وقال الآخر: قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد لعنس رحلا ولا قتبا ويحرم المال ذو المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا وقال الآخر: قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرزق بالأسفار والتعب إني وعمرك لا أحصي ذوي حمق ... الرزق اغرى بهم من لاصق الجرب وقال الآخر: إلاّ رب باغي حاجة لا ينالها ... وآخر قد تقضى له وهو جالس وقال الآخر: قد يرزق المرء لا من حسن حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي ما مسني من غنى يوم ولا عدم ... إلاّ وقولي فيه الحمد لله وقلت أنا من جملة قصيدة: لا ولا بالحجى تنال الأماني ... لا ولا الجهل رائد الحرمان فالغنى بالحظاء لا بالتعني ... والثمى بالقضاء لا بالتواني كم لبيب ذي نجدة مات هزلا ... وغبي يحفه ألف هان وكريم اذيل بعد اعتزاز ... ووضيع يسمو على كيوان قسمة قدرات وأحكم مبن ... اها قضاء المهيمن الديان ولنرجع إلى المقصود خشية الطول. وقولهم: بأضدادها تتبين الأشياء. ونظمه أبو الطيب حيث قال: من يظلم اللؤماء في تكليفهم ... إنَّ يصبحوا وهم له أكفاء ويذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتبين الأشياء ونحوه قول أبي تمام: كثرة السفر يمنة وشمالا ... أضعفت في نفيسة العقيان ونحوه قول المعري:

والشيء لا يكثر مداحه ... إلاّ إذا قيس إلى ضدهِ لولا غضا نجدي وقلامه ... لم يئن بالطيب على رندهِ وقد يعاب الامتداح بنحو هذا بتبه امتداح بكمال إضافي، وقلما يخلو شيء من نحو هذا الكمال. والجواب أنَّ القصد إلى بيان كون الكمال إضافي لا حقيقيا، بل إلى بيان أنَّ الكمال اتضح غاية الاتضاح وإنَّ سبب اتضاحه كذا. والشيء قد يكون في غاية الكمال والفضل ويخفى لشدة ظهوره ولا يعرف إلى بالقياس لغيره. فلو لم يخلق الله المرض لم يعرف حسن الصحة؛ وكذا الفقر والغنى والمرارة والحلاوة ونحو ذلك. ولو لم يخلق الليل لمّا عرفت فائدة النهار كما قال حبيب: بين البين فقدها قلما ... تعرف فقدا للشمس حتى تغيبا ولهذا ورد في الخير إنّه يرى المؤمن النار وما أبدله به الجنة؛ وكذا الكافر بالعكس. وشاع في ألسنة العامة قولهم: لا تمدحني حتى تجرب غيري، كما قال حبيب: وإساءات ذي الإساءة يذكر ... نك يوماً إحسان ذي الإحسانِ وقال أيضاً: إساءة دهر اذكرت حسن فعله ... إليَّ ولولا الشري لم يعرف الشهدُ وأما قول أبي الطيب: زانت الليل غرة القمر الطا ... لع فيه ولم يشنها سوادهُ فمراده به المبالغة في الثناء، وإنَّ طلعة الممدوح تكشف الظلماء مع غلبتها الأنوار، وأو أضاف إشراق طلعته إلى النهار لم يكن لذلك كبير فضل، من حيث إنَّ الشيء يظهر بالنهار ولو ضعيفا. ولم يعتبر هو ما مر، وإنّما اعتبر ما اعتبره النابغة حيث اعترض على حسان قوله: يلمعن بالضحى. وكان النابغة تضرب له قبة بسوق عكاظ، فيعرض عليه الشعراء أشعارهم. فدخل عليه يوما حسان بن ثابت وعنده الأعشى، وقد كان أنشده شعرا له فاستحسنه، وإذا بالخنساء فأنشدت: يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عارُ مشي السبنتى إلى هيجاء معضلة ... لها سلاحان: أنياب وأظفارُ فما عجول على بوٍّ تحن له ... لها حنينان: إعلان وإسرارُ

ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبارُ يوماً بأوجع مني يوم فارقني ... صخرٌ والدهر إحلاء وإمرارُ وإنَّ صخراً لوالينا وسيدنا ... وإنَّ صخرا إذا نشتو لنحَّارُ وإنَّ صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ جوابُ قاصيةٍ جزارُ ناصيةٍ ... عقاد ألويةٍ للعيش جرارُ حامي الحقيقة محمود الخليقة ... مهدي الطريقة نقاع وضرارُ لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجارُ فقال لها النابغة: لولا أنَّ أبا بصير يعني الأعشى أنشدني قبلك لقلت أنك أشعر الإنس والجن فقال حسان: أنا اشعر منك ومنها ومن أبي بصير، حيث أقول: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نسجه دما وليدنا بني العنقاء وأبن محرق ... فاكرم بنا خالا واكرم بنا أبنما! فقال له النابغة: انك لشاعر لولا انك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان كان اكثر؛ وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يشرقن بالدجى كان ابلغ وقلت يقطرن ولو قلت يجرين كان ابلغ؛ وفخرت بما ولدت ولم تفغر بمن ولدك على انك يا بني لا تحسن أن تقول: فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنَّ المنتآى عنك واسعُ فقام حسان خجلا منكسرا. فائدتان: الأولى قول النابغة: أشعر الإنس والجن أو الجن والإنس خطأ في العربية. فإن المعطوف في حكم المعطوف عليه واسم التفضيل إنّما يضاف على ما هم بعض منه، غير إنّه إن كانت الرواية تأخير الجن أمكن أن يستسهل في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. الثاني: بيت النابغة الذي تبجح به وفخر به على حسان هو من جيد الشعر، وقد اعترضه الأصمعي في انتصاره للرشيد على البرامكة. فإنَ النهار سواء هو والليل في الإدراك واللحاق ولا مزية لليل حتى يخص بالذكر. وقصة محاضرتهم مشهورة. قلت: وأنت إذا علمت وأنصفت عرفت أن ليس لحاق النهار كلحاق الليل الذي تنقطع

الحركات لإقباله ويستكن كل أحد لغشيانه، ويخضع تحت أطنابه: فتشبيه الملك به أحق. وليتنبه الأديب إلى كلام النابغة وانتقاداته ليعرف مبلغ شعراء الجاهلية في معرفة الشعر والغوص على المعاني ويقدرهم حق قدرهم في هذا الباب ويعرف أنَّ البلاغة طوع إيمانهم وإنها تدب على ألسنتهم دبيب النمل، وتجري منهم مجرى الدم وتسري في أفكارهم سريان العذب السلسال، حتى يعرف مقدار من تحداهم رب العزة بكلامه فأعجزهم، وأنهم لأمر ما عجزوا وأذعنوا. فلا يغتر الفتى الجاهل اليوم ويتوهم إذا سمع شقاشق أهل إعصاره أنَّ أولائك أغمار. وقولهم للإنسان غير المستوطن: بيته على ظهره. وأصله في السلحفاة. ومثله قول الشاعر: حيثما كنت لا أخلف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي وقد آن أن أذكر ما يتيسر من الأمثال الشعرية في هذا الباب وما يجري على نمطها. وينخرط في سفطها. قالوا: ومن يكن الغراب له دليلا ... يدل به على جيف الكلابِ يريدون أنَّ من اتخذ الدنيء مرتادا واللئيم قوادا فهو يسوقه إلى سخفه أو يقع به إلى حتفه. وقال الآخر: ومن لم يكن عقربا يتقى ... مشت بين أثوابه العقربُ وهو مثل قول العامة: من لم يكن ذئبا أكلته الذئاب. وقول أبن دريد: من ظلم الناس تحاموا ظلمه ... وعز فيهم جانباه واحتمى وهم لمن لان جانبه ... أظلم من حيات أنباث السفا وقال مسكين الدارمي: رب مهزولٍ سمينٌ عرضه ... وسمين الجسم مهزول النسب أي رب وهزول البدن والجسم كريم الأب رفيع النسب صين الحسب، وبالعكس. وقال رجل من مذحج: إنَّ السوية إن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا البعيد الأجنبُ وإذا تكون كريهة ادعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندبُ

هذا وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي إنَّ كان ذاك ولا أبُ! والمثل هو البيت الوسط وفي معناه مثل من أمثال النساء يقلن: الطرية للهاتي، والقسية لأخواتي. وقال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟ ومثله قول الآخر: وإن كنت لم تصحب سوى ذي كمالة ... فأين من الأخوان من هو كاملُ؟ وقولي من قصيدة: وإذا تبتغي صديقا بلا ذا ... مر فعش مفردا عن الخلانِ وقال أبو عبد الله بن شرف في معنى بيت النابغة: ولا تعتب على نقص الطباع أخا ... فإنَ بدر الدجى لم يعط تكميلا وقال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجربِ وقال أبن شرف في معناه: كم خانني الدهر في أوفى الورى فمضى ... به وخلف مرذولا فمرذولا وقال الآخر: ألا إنّما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانبُ الغضارة: الطين اللازب الأخضر وتطلق أيضاً على الخصب والنعمة. وقال أبن شرف في معنى البيت: ولم يزل ثمر الدنيا لقاطفه ... رطبا ويبسا وماجوجا ومعسولا وقال الآخر: وإنَّ امرئ قد سار تسعين حجة ... على منهلٍ من ورده لقريبُ وقال الآخر: وأجرا من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوبِ وقال أبن شرف في معناه: ولم تجد قط عيابا ومفتخرا ... إلاّ على العيب والعوراء مجبولا

وقيل للأحنف بن قيس: دلني على رجل كثير العيوب! فقال: اطلبه عيابا فانه لا يعيب الناس إلاّ بفضل ما فيه! وقال امروء القيس: وانك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب وفي البيت مثلان سيأتيان إن شاء الله تعالى. ومثله أبي تمام: وضعيفة فإذا أصابت قدرة ... قتلت: كذلك قدرة الضعفاء وقال الآخر: راحت مشرقة ورحت مغرباً: ... شتان بين مشرق ومغرب! ومثله ما انشد الأصمعي من قول الشاعر: أذكرك مجالس بني أسد ... بعدوان فنحن إليهم القلب الشرق منزلهم ومنزلنا ... غرب: وأين الشرق والغرب؟ من كل أبيض جل زينته ... مسك أحم وصارم عضب مدجج يدعى بشكته ... وعقيره بفنائه تحبو وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي: السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين في السبعة الشهب وقال أيضاً: إذا المرء لم يستخلص الحزم نفسه ... فذروته للحادثات وغاربه أعذلتنا ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه في الملمات راكبه دعيني وأهوال الزمان أفانها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه فإن نحن الحسام الهندواني إنّما ... خشونته ما لم تفلل مضاربه وقال: لأمر عليهم أنَّ تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال أيضاً:

سلي هل عمرت القفر وهو سباسب ... وأدرت ربعي من ركابي سباسبا وغربت حتى لم أجد ذكر مشرقٍ ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا خطوب إذا لاقيتهم رددني ... جريحا كأني قد لقيت الكتائبا ومن لم يسلم للذنوب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا وقد يكهم السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا فآفة ذا ألا يصادف مضربا ... وآفة ذا ألا يصادف ضاربا وقال أيضاً: كانت لنا ملعب نلهو بزخرفه ... وقد ينفس عن جد الفتى اللعب وعاذل هاج لي بالعذل مأربة ... باتت عليه هموم الصدر تصطخب لمّا أطال ارتجال العذل قلت له: ... الحزم يثني خطوب الدهر لا الخطب وقال: مالي أرى جلبا فعما وليست أرى ... سوقا ومالي أرى سوقا ولا جلب؟ أرض بها عشب جرف وليس بها ... ماء وأخرى بها ماء ولا عشب وقال أيضاً في أبي دلف: يرى اقبح الأشياء أوبة آملٍ ... كسته يد المأمول حلة خائب وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المآرب وقال: ولو كان يفني الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقال أيضاً: وما الأسد الضرغام يوما بعاكسٍ ... ريمته إن أن أو بصبص الكلب وقال أيضاً: لو رأى الله أنَّ للشبيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا وقال أيضاً:

والحظ يعطاه غير طالبه ... ويحز الدر غير محتلبه وقال أيضاً: فاض اللئام وغاضت الاحساب ... واجتثت العلياء والآداب فكأن يوم البعث فاجأهم فلا ... أنسب بينهم ولا أسباب وقال: ما إن سمعت ولا أراني سامعا ... أبداً بصحراء عليها باب من كل مفقود الحياء فوجه ... من غير بواب له بواب ما زال وسواسي لعقلي خادعا ... حتى رجا مطرا وليس سحاب ما كنت ادري لا دريت بأنه ... يجري بأفنية البيوت سراب وقال أيضاً يهجو يوسف السراج: سمعت بكل داهية نآد ... ولم اسمع بسراج أديب أما لو إنَّ جهلك عاد علما ... إذا لنفذت في علم الغيوب ومالك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب فلو نشر المقابر عن زهير ... لصرح بالعويل وبالنحيب متى كانت قوافيه عيالا ... على تسفير بقراط الطبيب؟ وقال أيضاً: هو الدهر لا يشوي وهن المصائب ... واكثر آمال الرجال كواذب وقال: وقلت: أخي قالوا: أخ ذو قرابة ... فقلت لهم: إنَّ الشكول اقرب نسيبي في عزمي ورأيي ومذهبي ... وإنَّ باعدتنا في الأصول المناسب وقال: على إنّها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب وقال أيضاً: إنَّ ريب الزمان يحسن إنَّ يهدي ... الرزايا إلى ذوي الاحساب

فلهذا يجف بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الروابي وقال أيضاً: ومن يكن طيبا فلا عجب ... إنَّ يأكل الناس من أطيابه وقال أيضاً: غير مستأنس بشيء إذا غبت ... سوى ذكرك الذي لا يغيب أنت دون الجلاس انسي وإنَّ كنت ... بعيدا فالأنس منك قريب وقال أيضاً: لعمر مع الرمضاء والنار تلتظي ... ارق وأحفى منك في ساعة الكرب متى ابتغي النصف من قلب صاحب ... إذا لم يكن قلبي شفيقا على قلب وقال أيضاً يعاتب أبا دلف: أقمت شهورا في فنائك خمسة ... لقى حيث لا تهمي علي جنوب فإنَ نلت ما أملت فيك فإنني ... جدير وإلاّ فالرحيل قادب وقال أيضاً: يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنَّ السماء ترجى حين تحتجب وقال أيضاً: لعمرك لليأس غير المريب ... خير من الطعم الكاذب وللريث تحفزه بالنجاح ... خير من الأمل الخائب وقال أيضاً يصف غيثا: لم أر عيرا جمة الدؤوب ... تواصل التهجير بالنأويب ابعد من أين ومن لغوب ... منها غداة الشار والمهضوب نجائب ولين من نجيب ... شبائه الأعناق بالعجوب كالليل أو كاللوب أو كالنوب ... منقادة لعارض غريب كالشمعة التفت على النقيب ... آخذة بطاعة الجنوب ناقصة لمرر الخطوب ... تكف غرب الزمان العصيب

كأنها تهفي على القلوب.

محاءة للأزمة اللزوب ... محو استلام الركن للذنوب لمّا دنت الأرض من قريب ... تشوفت لوبلها السكوب تشوف المريض للطبيب ... وطرب المحب للحبيب وفرحة الأديب بالأديب ... وخيمت صادقة الشؤبوب وقالم فيها الرعد كالخطيب ... وحنت الريح حنين النيب فالشمس ذات حاجب محجوب ... قد أغربت من غير ما غروب والأرض في ردائها القشيب ... في زاهر من نبتها رطيب بعد اشتهاب الثلج والضريب ... كالكهل بعد السن والتنحيب تبدل الشباب بالمشيب ... كم أنست من جانب غريب وغلبت من الثرى المغلوب ... ونفست من بأرض مكرب وسكنت من نافر الجبوب ... وأقنعت من بلد رغيب يحفظ عهد الغيث بالمغيب ... لذيذة الريق والصبيب كأنها تهفي على القلوب. وتقدم استيفاء هذا المعنى في الباب الأول. وقال أيضاً: الصبر كاس وبطن الكف عارية ... والعقل عار إذا لم يكس بالنشب وما أضيع العقل إنَّ لم يرع ضيعته ... وفر وأي رحى دارت بلا قطب وقال: بأي وخد قلاص واجتناب فلا ... إدراك رزق إذا ما كان في هرب وقال: إذا قصدت لشلو خلت إني قد ... أدركته ادركتني حرفة الأدب وإنّما قال ذلك لمّا يزعم من إنَّ حرفة الأدب مشؤومة حليفة الفقر حتى قال قائلهم: الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... ولا يرجى اجتماع المال والأدب وستأتي في هذا الباب حكايات ظريفة في هذا المعنى للأدباء. وقال أيضاً:

إنَّ الأسود اسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب السلب وكانوا يرون الفضيلة عند اللقاء إنّما هي في الاهتمام بضرب الهام دون جمع الحطام. ومنه قول عنترة: هلا سألت القوم يا أبنت معبد ... إنَّ كنت جاهل بما لم تعلم إذ لا أزال على رحالت سابح ... نهد تعاوره الكماة معلم طورا يعرض للطعان وتارة ... يأوي إلى حصد القسي عرمرم يخبرك من شهد الوقيعة إنني ... أغشى الوغى واعف عند المغنم وهذا المعنى هو الذي نبه عليه الأول وأوضحه. وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى. ولمّا سيق إلى المعتصم المازيار أسيرا فأمر بصلبه قال له: من علي ولك أموال جليلة الخطر! فأبى وانشد: إنَّ الأسود اسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب السلب وقال أيضاً: إذا ما شبت حسن الدين ... منك بصالح الأدب فمن شئت كن فلقد ... فلجت بأكرم النسب فنفسك قط أصلحها ... ودعني من قديم آب اصله قوله تعالى: إنَّ أكرمكم عند الله اتقاكم. وقال أبو الطيب: ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرها وقلوب وقال: وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيى دواء الموت كل طبيب سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب تملكها الآتي تملك سالب ... وفارقها الماضي قراق سليب ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب وأوفى حياة الغابرين لصاحب ... حياة امرئ خانته بعد مشيب

وقال: وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ... ولا كل جفنٍ ضيقٍ بنجيبِ وقال: كأنَّ الردى عادٍ على كل ماجدٍ ... إذا لم يعوذ مجده بعيوبِ وأولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوبِ وللتركُ للاحسان خيرٌ لمحسنِ ... إذا جعل الإحسان غير ربيبِ وقلا: فربَّ كئيبٍ ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيبِ وقال: إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبثٍ ثنت فاستدبرته بطيبِ وللواحد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوبِ وقال: وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريبِ وقال أيضاً يمدح سيف الدولة: وكيف عرفنا رسم من يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا؟ نزلنا عن الأوكار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا وتمثل به أحد الفضلاء حيث أقبل على المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام! وقال: ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا وقال: ومن تكن الأس الضواري جدوده ... يكن ليله صباحاً ومطعمه غصبا ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا

وقال: تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا؟ ويرهب ناب الليث والليث وحده ... فكيف إذا كان الليوث له صحبا؟ ويخشى عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبا؟ وقال: أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس اورده الحربا ويختلف الرزقان والفعل واحدٌ ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا وقال أيضاً: وإن كان ذنبي كل ذنبٍ فانه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا وقال أيضاً يستعطف سيف الدولة على بني كلاب: ترفق أيها المولى عليهم ... فإنَ الرفق بالجاني عتابُ وانهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لنائبة أجابوا وكأنه من قول أبن أبي عيينة: جلبنا الخيل من بغداد شعثا ... عرائس تحمل الأسد الغضابا بكل فتى أغر مُهلبي ... تخال بضوء صوته شهابا ومن قحطان كل أخي حفاظٍ ... إذا يدعي لنائبةٍ أجابا وقال أيضاً: بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريش ملكها وبها تهابُ متى ما أذاع أخوالي لحربٍ ... وأعمامي لنائبةٍ أجابوا وقال: وعين المخطئين هم وليسوا ... بأول معشرٍ خطئوا فتابوا وكم ذنبٍ مولده دلال ... وكم بعد مولده اقترابُ وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذابُ

وقال: ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم جضابُ وهو معنى قول الآخر: فلا يمنعك من أرب لحاهم ... سواءٌ ذو العمامة والخمارِ وقال أيضاً: وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإنَ في الخمر معنى ليس في العنبِ وقال: فلا تنلك الليالي إنَّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بلالغربِ ولا يعن عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخربِ وإن سررن بمحبوبٍ فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجبِ وربما احتسب الإحسان غايتها ... وفاجأته بأمر غير محتسبِ وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب إلاّ إلى أربِ تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلاّ على شجب والخلف في الشجبِ فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشك جسم المرء في العطبِ ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعبِ وقال أيضاً: ومن ركب الثور بعد الجواد ... أنكر أظلافه والغبب وقال: ويستنصران الذي يعبدان ... وعندهما أنه قد صلب ويدفع ما ناله عنهما ... فيا للرجال لهذا العجب وقال أيضاً: لأي صروف الدهر فيه نعاتبُ ... وأي رزاياه بوترٍ نطالبُ؟ وقال أيضاً: فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي ... والبر أوسع والدنيا لمن غلبا

وقوله: والدنيا لمن غلبا هو مثل مشهور ووقع في قول الآخر: والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا. وأنشد أبن الخطيب لبعض الأعراب: من كان أبصر شيئا أو رأى عجبا ... فإنني عشت دهرا لا أرى عجبا الناس كالناس والأيام واحدٌ ... والهر كالهر والدنيا لمن غلبا فلا أدري لأوارده فيه أبو الطيب أم أخذه منه وهو في بيت الأعرابي أقعد وبسياقه أنسب. وتمام البيت المذكور ما أنشده المصعب الزبيري في أنساب قريش لبعض الشعراء في معاوية بن يزيد وهو: إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... فالملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وأراد بابي ليلى معاوية بن يزيد المذكور وفيه يقول عبد الله بن همام السلولي: تلقفها يزيد عن أبيه ... فخذها يا معاوية عن يزيدا فإنَ دنياكم لكم اطمأنت ... فأولوا أهلها خلقا سديدا وقال أيضاً: أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقياً مطرت عليَّ مصائبا وقال في وصف علي بن المنصور: كالبدر من حيث التفت وجته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جودا ويبعث للبعيد سحائبا كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا وقال أيضاً: ليس بالمنكر إن برزت سبقاً ... غير مدفوعٍ عن السيف الغرابُ وقال أيضاً: إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي تغني كرام المناصب؟ وما قريب أشباه قومٍ أباعدٍ ... ولا بعدت أشباه قومٍ أقاربِ إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلاّ حجةٌ للنواصبِ وقال أيضاً:

ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب وقال: أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب وقال: فما الحادثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب وقال أيضاً: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر إنَّ المانوية تكذب وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب وقال: وما الخيل إلاّ كل الصديق قليلة ... وإنَّ كثرت في عين من لا يجرب إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عندك مغيب لحا الله ذي الدنيا منخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب إلاّ ليت شعري هل أقول قصيدة ... فلا اشتكي فيها ولا اتعب وقال يخاطب كافورا: وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب وقال: يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وابكي من احب واندب احن إلى أهلي وأهوى لقائهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب وقال: كل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب وقال: واظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب

قال صاحب الرسالة الحكيمة وهو قول ارسطوطاليس: اقبح الظلم حسدك لعبدك ومن تنعم عليه. قلت: وهو غلط. إنَّ كانت رواية هذه الحكمة هكذا فإنَ أبا الطيب إنّما أراد عكسها وهو إنَّ اقبح الظلم إنَّ يحسدك من تنعم عليه وتحسن إليه بدليل سياق كلامه. وقال: وقد يترك النفس التي لا تهابه ... ويحترم النفس التي تتهيب وقال أيضاً: وما العشق إلاّ غرة وطماعة ... يعرض كل نفس فتصاب وقال: اعز مكان في الدنيا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب وقال يخاطب كافورا: وهل نافعي إنَّ ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب وقال: وفي نفسي حاجات وفيك فطانة ... سكوتي جواب عندها وخطاب وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب وقال يخاطبه: إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب وينشد العارفون رضوان الله عليهم والخطاب للملك الحق هكذا: فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب واذكرني هذا المعنى حكاية عن الأصمعي قال: بينما أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف في الطريق في اذنيه قراط في كل جوهرة يضيء وجهه من ضوء الجوهرة وهو ربه بأبيات من الشعر وهي:

يا فاطر الخلق البديع وكافلا ... رزق جميع سحاب جودك هاطل يا مسبغ البر الجزيل ومسبل ... الستر الجميل عميم طولك طائل يا عالم السر الخفي ومنجز ... الوعد الوفي قصاء حكمك عادل عظمت صفاتك يا عظيم فجل إنَّ ... يحصى الثناء عليك فيها قائل الذنب أنت له بمنكب غافر ... ولتوبة العاصي بحلمك قابل تعصيه وهو يسوق نحوك دائما ... مالا تكون لبعضه تستأهل متصدق أبداً وأنت لجوده ... بقبائح العصيان منك تقابل وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت ... سبل الخلاص وخاب فيه الأمل وايست من وجه النجاة فما لها ... سبب وما يدنو بها متناول يأتيك من الطافه الفرج الذي ... لم تحتسبه وأنت عنه غافل يا موجد الأشياء من القي إلى ... أبواب غيرك فهو غر جاهل ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... أحدا سواك فذاك ظل زائل رأي يلم إذا عرته ملمة ... بسوى جنابك فهو رأي فائل عمل أريد به سواك فأنه ... عمل وإن زعم المرائي باطل وإذا رضيت فكل شيء هين ... وإذا حصلت فكل شيء حاصل أنا عبد سوء ابق كل على ... مولاه أوزار الكبائر حامل قد أثقلت ظهري الذنوب وسودت ... صحفي العيوب وستر عفوك شامل ها قد أتيتك حسن ظني شافع ... ووسائلي ندم ودمع سائل فأغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو ... فيقا لمّا ترضى ففضلك كامل فافعل به ما أنت أهل جميله ... والظن كل الظن انك فاعل قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب عليك. قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على دين إبراهيم الخليل عليه السلام لا أتغدى كل يوم ولا أتعشى حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته

فرحب بي وسرت معه حتى وافينا الخيمة فصاح: يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة: يا لبيكاه! فقال: قومي إلى ضيفنا فقالت الجارية: حتى ابدأ بشكر المولى الذي ساقه إلينا. فصليت ركعتين لله تعالى. قال: فأدخلني الشاب الخيمة وأجلسني وأخذ شفرة فقام إلى عناق فذبحها. قال: فلما جلست في الخيمة نظرت إلى الجارية فإذا هي احسن الناس وجها. فكنت اسارقها النظر ثم فطنت لي فقالت لي: مم! أنا علمت انه نقل عن صاحب طيبة عليه الصلاة والسلام إنّه قال: زنى العينين النظر. أما إني ما أردت بهذا إنَّ أوبخك ولكني أردت أن أؤدبك لئلا تعود إلى مثل هذا. فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة وباتت الجارية داخلها. فكنت اسمع دوي القرآن إلى السحر بأحسن صوت وارقه. ثم سمعت أبيات من الشعر بأعذب لفظ وأشجى نغمة وهي: أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عندي قد أناخ وطنبا إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قربا من حبيبي تقربا ويبدو فأفنى ثم أحيا به له ... ويسعدني حتى ألذ واطربا فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من سمعت؟ قال صوت أختي وذلك دأبها كل ليلة. فقلت: أنت أحق بهذا منها إذ أنت رجل وهي امرأة. فتبسم ثم قال: أما علمت إنّه موفق ومخذول ومقرب ومبعد؟ فودعتها وانصرفت. ولا يخفى إنَّ محل الاستشهاد قوله: وإذا رضيت فكل شيء هين ... وإذا حصلت فكل شيء حاصل وهذا الشعر يتمثل به الصوفية كثيرا. وقال أيضاً: وما يشق على الكلب ... أن يكون أبن كلبة وقال أيضاً: لابد للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع على جنبه ينسى بها ما مر من عجبه ... وما أذاق الموت من ركبه نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه؟

تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمن هي من كسبه فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه وهو معنى قول ارسطوطاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهد في حقائقها والعشق عمى النفس عن درك رؤية المعشوق. والذي قبله هو معنى قوله أيضاً: اللطائف سماوية والكثائف أرضية وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول. وقال: يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه ونحوه قول بعضهم في أبن سينا: وكان أبن سينا يداوي الرجال ... وفي السجن مات أخس الممات فلم يشف ما قاله في الشفا ... ولم ينج ما قاله بالنجات وقال: وغاية اللمفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه وهو قريب من قول ارسطوطاليس: آخر افراط التوقي أوّل موارد الحذر. وقال: يدخل صبر المرء من مدحه ... ويدخل الإشفاق في ثلبه ولم اقل مثلك اعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه وقال أيضاً: إذا اكتسب الإنسان من هن عرسه ... فيل لؤم إنسان ويا لؤم مكسب وقال الحماسي سعد بن ناشب: سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالب واذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من ياقي المذلة حاجب ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالب

وقال: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا وقال موسى أبن جابر: لا اشتهي يا قوم إلاّ كارها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب ومن الرجال أسنة مذروبة ... ومزندون شهودهم كالغائب منهم ليوث ما ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب وقال بعض بني مازن: وما قتل جار غائب عن نصيره ... لطالب أوتار بمسلك مطلب وقال: وقد ذقتمونا مرة بعد مرة ... وعلم بيان الأمر عند المجرب وقال القتال الكلابي: نعرض للطعان إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للسباب ومثله قول الهمداني: لقد علمت نسوان همدان إنني ... لهن غداة الروع غير خذول وابذل الهيجاء وجهي وأنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول ومن هذا قول أبي مخزوم النهشلي الدارمي من شعراء الحماسة: أنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن اغلينا وقال بعض الفقعسيين: رأيت بني عمي إلاّ لي يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوقا شجاع وعقرب وقال: كأنهم لم تسبق من الليل ليلة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب وقال ربيعة بن مقروم الضبي:

إذا ما المرء لم يحببك إلاّ ... مغالبا نفسه سئم الغلابا ومن لا يعط إلاّ في عتاب ... يخاف يدع به الناس العتابا أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا يواسي في كريهته أخاه ... إذا ما مضلع الحدثان نابا وقال قراد بن عتاب الحماسي أيضاً: إذا المرء لم تغضب له حين يغضب ... فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبون ولم يحبه بالنصر قوم اعزه ... مقاحيم في الأمر الذي يتهيب تهضمه أدنى العدو ولم يزل ... وإنَّ كان عضا بالظلامة يضرب المقاحيم جمع مقحام وهو المقتحم في الأمور الجريء عليها ويتهيب يتخوف وتهضمه تنقصه وأدنى العدو اخسهم والعض بالكسر الرجل الداهية كما تقدم في الهمزة والظلامة الظلم. أي لا يزال يضرب أي يقابل ويرمي بالظلم وإن كان عضا إذا لم يكن له أنصار. وقال الاخنس بن شهاب: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى القوم الذين نضارب يقول: إذا ضاق مجال الحرب عن مضاربة الأقران بالسيوف خطونا إليهم وأقدمنا عليهم جرأة حتى نصل إليهم فنضربهم. ومثله قول الآخر: نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدمنا ونلحقها إذا لم تلحق وقال محمد بن بشير: وكل امرئ يوما سيركب كارها ... على النعش أعناق العدى والأقارب وقال نهشل الدارسي:

وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا شئت لاقيت امرؤا مات صاحبه ومن ير بالأقوام يوما يروا به ... معرة قوم لا توارى كواكبه ومثل بيته الأول قول الخنساء: لولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وقال الغطمش الضبي: إلاّ رب من يغتابني ود إنني ... أبوه الذي يعزى إليه وينسب على رشدة من أمه ولغية ... فيغلبها فحل على النسل منجب فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... وأي امرئ يغتال منه الترهب؟ أقول وقد فاضت من العين عبرة ... أرى الأرض تبقى والإخلاء تذهب اخلاي لو غير الحمام أصابهم ... عتبنا ولكن ما على الدهر معتب الرشدة: النكاح والغية: الزنى. ويقال: انجب الرجل إذا ولد نجيبا. وقال الحكم بن عبدل الأسدي: اطلب ما يطلب الكريم من ... الرزق لنفسي واجمل الطلبا واحلب الثرة الصفي ولا ... اجهد إخلاف غيرها حلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا والعبد لا يطلب العلاء ولا يعطيك شيئا إلاّ إذا رهبا مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشيا إلاّ إذا ضربا ولم أجد الخلائق إلاّ ... الدين لمّا اعتبرت والحسبا قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلا ولا قتبا ويحرم المال ذو المطية ... والرحل ومن لا يزال مغتربا الثرة: الناقة الغزيرة اللبن ومثلها الصفين ولذا وصفها بها. والإخلاف جمع خلف وهو حلمة الضرع. يقول: إني احلب الكثيرة الدر وآخذ منه عفوا ولا اجهد غيرها لاستخراج النزر واستنزل العسير وهذا تمثيل. والمراد إني اجمل في الطلب ولا أكد نفسي في استحصال الرزق علما مني بان ما قدر من الرزق ألي واصل وما قسم لا

محالة حاصل. وقالت أم ثواب الهزانية في أبن لها عاق: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا حتى إذا آض كالفحل شذبه ... آباره ونفى عن متنه الكربا انشا يمزق أثوابي ويضربني ... ابعد شيبى عندي يبتغي الأدبا؟ أم الطعام: الحوصلة والفحال: ذكر النحل وهي أطولها وتشذيبه: تجريده وتنقيته من فضول الشوك والسعف وبذلك يطول في السماء والكرب: أصول السعف تبقى متصلة بالجذع. وقال حاتم: وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لابعثها خفا واترك صاحبي إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفا غير راكب وقال الاحوص وقد ضرب بنو عم له مولاه: لئن كنت لا ارمي وترمي كنانتي ... تصب جانحات النبل كحشي ومنكبي وهو مثل اصله إنَّ رجلا رمى آخر متقلد كنانة فقال له المرمي: ما هذا؟ فقال له: لم أرمك إنّما رميت كنانتك. فيضرب مثلا لمن نيل وليه بسوء. وقال أبو النشناش: إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح ... سواما ولم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من قعوده ... عديما ومن مولى تدب عقاربه وقال: فلم أر مثل الهم ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفقت صاحبه فعش معدوما أو مت كريما فإنني ... أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه وقال قيس بن المغيرة:

جفاني الأمير والمغيرة بعده ... وأمسى يزيد لي قد ازور جانبيه كلهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه وتقدم هذا الشعر وقصته قبل. وقال بعض بني أسد: وما أنا بالنكس الدني ولا الذي ... إذا صدعني ذو المودة احرب ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذنب عني فلي عنه مذنب إلاّ إنَّ خير الود ود تطوعت ... به النفس لا ود آتى وهو متعب ومعنى احرب اغضب ومعنى إن دمت دام أي إن دمت فقد دام إذ لو لم يدم ما دمت بديل ما بعده وإن شئت جعلته في القلب. وتقدم هذا المعنى مستوفى. وقال خالد بن نضلة الأسدي: لعمري لرهط المرء خير بقية ... عليه وإنَّ عالوا به كل مركب من الأبعد النائي وإن كان ذاغني ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب إذا كنت في قوم عدى لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب وإن حدثتك النفس انك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب وتقدم في الاغتراب ولزوم الأوطان من الشعر ما لا بد منه. وقال عبد الله بن الدمينة: وإني لأستحيك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب وقال قيس بن ذريح: وكل مصيبات الزمان وجدتها ... سمى فرقة الأحبة هينة الخطب وقال اياس بن الارت: إذا ما تراخت ساعة فاجعلنها ... بخير فإن الدهر أعصل ذو شغب فإنَ يك خير أو يكن بعض راحة ... فانك لاق من غموم ومن كرب

الأعصل: المعوج الملتوي، وأصل العصل اعوجاج في أنياب البعير إذا أسن؛ والشغب: الشر: وقال أيضاً: وما دهري بحب تراب أرضٍ ... ولكن من يحل بها حبيب وهو مثل قول قيس: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سن الديارا وقال أبن مفرغ: يقولون: هل بعد الثلاثين ملعب؟ فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعب؟ لقد جل قدر الشيب إنَّ كان كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب وسيأتي فصل في مدح الشيب ومذمة بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبن ميادة: فو الله ما ادري أيبلغني الهوى ... إذا جد البين أم أنا غالبه فإن أستطع أغلب وإنَّ يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه وقال فرعان بن الأعرف في أبن له عاق ويسمى منازلا: جزت رحم بيني وبين منازلٍ ... جزاءاً كما يستنزل الدين طالبه لربيته حتى إذا أض شيظما ... يكاد يساوي غارب النخل غاربه وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً ... قريب وذا الشخص البعيد أقاربه تغمد حقي ظالما ولوى يدي ... ولوى يده الله الذي هو غالبه وكان له عندي إذا جاع أو بكى ... من الزاد أحلى زادنا وأطايبه وجمعتها دهما جلادا كأنها ... أشاء نخيل لم تقطع جوانبه فأخرجني منها سليبا كأنني ... حسام يمان فارقته مضاربه أيظلمني مالي ويحنث ألوتي؟ ... فسوف يلاقي ربه فيحاسبه الدهم: الإبل الوتر تضرب إلى السواد. والأشاء: صغار النخل، شبه بها الإبل في

عظمها؛ والالوة: اليمين. فقال منازل ابنه يجيبه: وكنت كمن ولى بأمر كتيبة ... فعي بها فارفض عنه كتائبه وماذا من جرى عقوق تعده ... ولا خلق مني بدا أنت عائبه ويقول: انك أضررتني ففارقتك كمن تولى أمر جيش فأساء فيهم السيرة فتفرقوا عنه، وما ذاك مني من جرى عقوق، أي من أجله. ومن عجيب الاتفاق ما ذكر الشنتمري في شرحه على هذا المحل من الحماسة أنَّ منازلا هذا ولد له أبن يقال له خليع فعقه كما كان هو فعل بأبيه، فأستعدي إليه الوالي. فلما حضر ليضربه قال قائل للوالي: أتعرف أصلحك الله من هذا؟ قال: لا. قال: هذا منازل الذي يقول فيه أبوه، وانشد الأبيات السوابق. فقال الوالي: يا هذا: فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ من يسيرها ثم أمر بإطلاق ابنه خليع. وفي نواد العامة أنَّ رجلا كان له أبن، ولمّا أسن وعجز عن العمل أخذه ابنه ذاك وذهب به إلى الفلاة من الأرض، فطرحه تحت شجرة وتركه هناك حتى هلك. فلما كبر هذا الابن وبلغ مبلغ أبيه كان له أبن له وهو لا يعلم بالقصة، فأخذ أيضاً وذهب به إلى الفلاة وطرحه تحت شجرة كما فعل هو بابيه. فلما تولى عنه التفت إليه فرآه يبتسم. فتعجب من ذلك ورجع إليه وقال له: مم تضحك، وقد أيقنت بالهلاك؟ فقال له أبوه: والله ما ضحكت إلاّ إنني تذكرت ما فعلت بأبي، وقص عليه القصة. فقال الولد حينئذ: لئن أنا تركته حتى مات ليفعلن بي عقبي مثل هذا. فأذه ورده إلى بيته. ومثل هذا ما قيل في آخر الرؤوس المحمولة إلى الولاة التي أولاها رأس الحسين، جمع الله شمله في الفردوس الأعلى، وجمع أعداءه في مصب الحميم المغلى! والقصة مشهورة وستأتي. وقال الآخر: إنَّ يعلموا الخير وإنَّ علموا ... شراً أذيع وإنَّ لم يعلموا كذبوا

وقال أبو مسلم الخراساني: محا سيف اسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب وكان أبو مسلم لمّا آثار على بني أمية كتب إليه مروان، وكاتبه إذ ذاك عبد الحميد، فلم يو شيئاً أطنب فيه عبد الحميد مثل ذلك الكتاب، حتى قيل إنَّ الكتاب من عظم جرمه حمل على بعير. فلم يلتفت أبو مسلم إلى ذلك وأجابهم بالبيت المذكور. وقال بعض الأعراب: إذا كان الطباع طبع سوءٍ فليس بنافع فيها الأديب حكى الأصمعي قال: دخلت البادية فأتيت على عجوز، فإذا بين يديها جرو ذئب مقطع وشاه مقتولة. فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه في بيتنا. فلما كبر قتل شاتنا، وقلت في ذلك شعراً. قلت: ما هو؟ فأنشدت: بقرت شويهتي وفجعت قومي ... وأنت لشاتنا أبدا ربيب غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك إنَّ أباك ذيب؟ إذا كان الطباع البيت وقال الآخر: لا تمدحن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمنه من غير تجريب فرب خدن وإنَّ أبدى بشاشته ... يضحي على خدنه أعدى من الذيب وقال الآخر: وإنَّ مدحك من لم تلبه صلف ... وإنَّ مدحك بعد الذم تكذيب وقال الآخر: كل يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب ليت شعري فهل خصصت بهذا ... أنا وحدي أم هكذا الأحباب؟ وما احسن قول بشار: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرةٍ ومجانبه

إذا أنت ليس تشرب مراراً على القذا ... ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه؟ وقول الآخر: البس الناس ما استطعت على ... النقض وإلاّ لم تستقم لك خله عش وحيداً إنَّ كنت لا تقبل العذر ... وإنَّ كنت لا تجاوز زله وتقدم هذا المعنى، ويأتي كلام مما يتعلق بالعتاب بعد إن شاء الله تعالى. وقال الأعشى: وهن شر غالب لمن غلب، يعني النساء. وزعموا إنّه ذهب يمتار لأهله في شهر رجب فهربت امرأته معاذة ناشزاً، ولاذت برجل عزيز قومه. فلما رجع الأعشى طلبها فتمنعت منه وأبى الذي لاذت به أنَّ يدفعها إليه وكان أعز منه. فأتى الأعشى النبي صلى الله عليه وسلم فأشتكى إليه وانشأ يقول: يا سيد الناس وديان العرب ... أشكو إليك ذربة من الذرب كذائبة الغبشاء في ظل السرب ... خرجت ابغيها الطعام في رجب فخلفتني بنزاع وهرب ... وقذفتني بين عيصٍ مؤتشب أخلفت الواعد ولطت بالذنب ... وهن شر غالب لمن غلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: هن شر غالب لمن غلب فكتب له إنَّ ترد إليه. الذربة: السليطة اللسان؛ والعيص: أصل الشجرة؛ والمؤتشب: المتلف. وقوله: لطت بالذب به على فرجها فسدت به على نفسها وامتنعت من الفحل. وقال الآخر: احب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى إنَّ يصوب سحابها بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأوّل أرض مس جلدي ترابها ذكر بعض الأدباء عن بعض أهل نصيبين قال: أتاني أبن الرومي بقصيدة التي يمدح بها سليمان بن عبد الله بن طاهر وقال: انصفني! أيّها احسن: قولي في الموطن:

ولي وطن أليت ألاّ أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهر مالكا عمرت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا وحبب أوطان الرجال إليهم ... ومأرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا أم قول الأعرابي: احب بلاد الله الأبيات؟ قال. فقلت: بل قولك، لأنّه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت العلة في ذلك. ومثل هذا قول أبن الرومي أيضاً: بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد ومثله قول آخر: ذكرت بلادي فاستهلت مدامعي ... يشوق إلى عهد الصبا المتقادم حننت إلى أرض بها اخضر جانبي ... وقطعتم عني فيها عقد التمائم وقال أبن غالب الرصافي: بلادي التي رشيت قويدمتي بها ... فريخا وآتوني قرارتها وكرا مبادئ لين العيش في ريق الصبا ... أبى الله إنَّ أنسى اغتراري بها غرا لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولكن عرينا من حلاه ولم نعرا وقال العسكري: إذا أنا لا أشتاق أرض عشيرتي ... فليس مكاني في النهى بمكين من العاقل أن اشتاق أول منزل ... غنيت بخفض في ذراه ولين وروض رعاه بالأصائل ناظري ... وغصن ثناه بالغداه يميني وإني لا أنسى العهود إذا أتت ... بنات النوى دون الخليط ودوني إذا أنا لم أرع العهود على النوى ... فلست بمأمون ولا بأمين وقال رجاء بن هارون: احن إلى وادي الأراك صبابة ... بعهد الصبا فيه وتذكار أول

كأن نسيم الريح في جنباته ... نسيم حبيبٍ أو لقاء مؤملِ ومثل قول الأعرابي قول أبن ميادة: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بحرة ليلى حيث ربينني أهلي بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ... وقطعن عني حيث أدركني عقلي ومن الحنين إلى الوطن على الجملة قول الطائي: سقى الله أطلالاً بأخيلة الحمى ... وإن كنَّ قد أبدين للناس ما بيا منازل لو مرت بهن جنازتي ... لقال صداي: حامليَّ انزل بيا وق الآخر: طيب الهواء ببغدادٍ يؤرقني ... شوقاً إليها وإن عاقت مقاديرُ فكيف أصبر عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهوائين: ممدود ومقصورُ وقولي: سقى الله أطلالاً بأكثبة الحمى ... من العارض الهتان صوب عهاد بلاد بها حلت سليمى ودارها ... فحل فؤادي عنها وودادي وأني بها أسقيتها أو بكيتها ... هياما فما أسقيت غير فؤادي وما أعلم أحدا سبقني إلى هذا المعنى مع تداول هذا الغرض بين الشعراء كثيرا. وسيأتي في أمثال الحنين إلى الوطن زيادة على ما ذكرنا. إن شاء الله تعالى. وقال راشد بن عبد ربه رضي الله عنه: لقد هان من بالت عليه الثعالب. وكان اسمه في الجاهلية غاوي بن عبد العزى، وكان سادن صبم لقومه بني سليم فبينما هو عنده ذات يوم إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى طلعا عليه فبالا عليه، فقال: أنَّ ربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟ ... لقد هان من بالت عليه الثعالبُ؟ ثم كسره وقال: يا معشر سليم، والله ما يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع! ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى. قال: بل أنت راشد بن عبد ربه، والثعلبان في البيت، بضم الثاء واللام، وهو ذكر الثعالب. هذا قول جماعة من اللغويين منهم الجوهري. وقال آخرون ومنهم صاحب

القاموس: ذاك غلط، وإنّما هو بفتحهما على أنه تثنية ثعلب. وتمسكوا بالقصة السابقة وأنه أقبل ثعلبان وبالا معا على الصنم. وقال بعضهم: كان لرجل صنم وكان يأتي بالخبز والزبد فيضعه على رأسه ويقول أطعم! فجاء ثعلبان فأكلا الخبز والزبد. وقال آخرون: هذا خطأ في التفسير والرواية، وإنّما الحديث: فجاء ثعلبان وهو الذكر من الثعالب لا مثنى فأكل الخبز والزبد ثم فعل. فقام الرجل إلى الصنم فكسره وقال في ذلك شعره. قلت: والحق أنَّ القصة بعد صحتها على ما قال أهل التثنية من أنها ثعلبان لا تفيد أنَّ الواقع في البيت مثنى على التعيين إذ لا يلزم من وقوع البول من الثعلبين أن يذكرهما الشاعر، وإنّما المعول الرواية: فإنَ وردت بالإفراد كان حسنا وكان المقصود الجنس والنداء على هوان الصنم ببول الثعلب عليه لا شرح القصة. وإذا رد الأمر إلى النفس وجد فيها للفرد حلاوة، وعن التثنية كزازة والله أعلم. وقال الآخر: فقعدت كالمهريق فضلة مائه ... في ظل هاجرةٍ للمع سرابِ ومثله قول الآخر: وكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلدِ وهذان البيتان يضمنا معنى المثل السابق في صاحب النعامة. وقال أبو الغريب: إنَّ اللئيم الأرس غير نازعٍ ... عن وذء جارة الغريب والجنب الأرس هو الأصل أي اللئيم الأصل والوذء: الشتم. والجنب: الأجنبي الغريب، وقال أعرابي: كلاب الناس أن فكرت فيهم ... أضر عليك من كلب الكلابِ لأن الكلب لا يؤذي صديقا ... وإنَّ صديق هذا في عذابِ ويأتي حين يأتي في ثيابٍ ... وقد جزمت على رجلٍ مصابِ فأخزى الله أثوابا عليه ... وأخزى الله ما تحت الثيابِ ومثل هذا يحكى عن بعضهم قال: وجدت إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أو غيره من

نظرائه مضطجعا وعند رأسه كلب نائم. فأردت أن أقيم الكلب فقال: دعه فانه خيرٌ من جليس السوء. وقال الشيخ القطب العارف أبو محمد عبد القادر الجيلاني فيما ينسب إليه وكان ينشده على الكرسي: أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء بازٌ أشهبُ وقال الآخر: أتطلب صاحبا لا عيب فيه ... وأي الناس ليس له عيوبُ؟ وتقدم نحو هذا قبل. وقال الآخر: إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي ... إذاً فالأعادي واحدٌ والحبائبُ وقال الآخر: إذا الخل لم يهجرك إلاّ ملامهً ... فليس له إلاّ الفراق عتابُ وقال الآخر: إذا أنت جازيت المسيء بفعله ... ففعلك من فعل المسيء قريبُ وقال الآخر: إذا الغضب لم يثمر وإن كان أصله ... من المثمرات اعتاده الناس للحطبِ وقال الآخر: إذا المرء لم يحببك إلاّ تكلفاً ... فذلك من أفعاله ما يغالبُ ومثله قول الحماسي السابق: إذا ما المرء لم يحببك إلاّ ... مغالب نفسه سئم الغلابا وقال الآخر: إذا جفاني بنو الدنيا وضقت بهم ... طالعت كتبي ونادمت الألى ذهبوا ومثله قول الآخر: لنا جلساءٌ لا يمل حديثهم ... ألبَّاءُ مأمونون غيباً ومشهدا

وقال علي بن الجهم: أعاتب ذا المروءة من صديق ... إذا ما رابني نته اجتنابُ إذا ذهب العتاب فليس ودٌ ... ويبقى الود ما بقي العتابُ ومثله من هذا الباب قول الآخر: أعاتب من أحببت في كل زلةٍ ... ليحتمي الأمر الذي معه العتبُ فإني أرى التأديب عند وجوبه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدبُ وسيأتي في الحكم تمام هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وقال الآخر: إذا شئت أن تلقي فزر متواترا ... وإن شئت أن تزداد حباً فزد غبا وسيأتي تمامه وقال الآخر: إذا عبت أمراً فلا تأته ... فذو اللب مجتنب ما يعيبُ وقال الآخر: إذا قلت للعذال: لست بعاشقٍ ... يقول لهم فيض المدامع: يكذبُ وقال الآخر: تعالوا نصطلح وتكون منا ... مصافاةٌ بلا عد الذنوبِ وقال الآخر: تقاربت الجسوم وأي نفعٍ ... يكون إذا تباعدت القلوبُ؟ وقال الآخر: تكلفت لي هذا الوداد فلم يدم ... وكل ودادٍ بالتكلف يصعبُ وتقدم نحوه. وقال الآخر: تيهٌ بلا نسبٍ كبرٌ حسب ... فخرٌ بلا أدب هذا من العجبِ وقال الآخر:

جهل الشريف يشين منصبه ... وأبن الوضيع يزينه أدبه وسيأتي تمام هذا المعنى. وقال الآخر: حبيبٌ غاب عن نظري وسمعي ... ولكن عن فؤادي ما يغيبُ وقال الآخر: طبع الفتى يسرق من طبع من ... يصحبه فانظر لمن تصحبُ ومثله قول المراكشي في أرجوزته في الطريق: أختر لصحبتك من أطاعا ... أنَّ الطباع تسرق الطباعا وقال الآخر: قد قنعنا منكم برد جواب ... دون إسعافنا بما في الكتابِ وقال الآخر: قد يلام البريء من غير ذنبٍ ... ويغطى على المريب ذنوبُ وقال الآخر: كأنك لم تتعب وإن كنت متعباً ... إذا أنت لاقيت الذي فيه تتعبُ وقال الآخر: كعصفورة في كف طفلٍ يسومها ... حياض المنايا وهو يلهو ويلعبُ وقال الآخر: كل امرئ لا بد يقضي نحبه ... إن كره الموت وإن أحبهُ وقال الآخر: كن للغريب إذا رأيت مساعداً ... فعساك يوماً أن تصير غريبُ وقال الآخر: لئن غاب عن إنسان عيني شخصه ... فما هو عن فكري وقلبي بغائبِ وقال الآخر: لحى الله دنيا ألجأتنا لمعسرٍ ... فراقهم أشهى الأمور إلى قلبي

وقال الآخر: لحوم أهل العلم مسمومةٌ ... ومن يعاديها سريع العطبِ وقال الآخر: ليس الرزية في أيامن عجباً ... بل السلامة فيها أعجب العجبُ ومثله قول أبي بكر بن دريد: لا تعجبن من هالكٍ كيف هوى ... بل فاعجبن من سالمٍ كيف نجا وقال الآخر: ليس التقي بمتقٍ في دينه ... حتى يطلب طعامه وشرابهُ وقال الآخر: ليست الأحلام في حال الرضى ... إنّما الأحلام في حال الغضب وقال الآخر: ليس يصفو إلاّ بقربك عيشي ... كيف لي أن تكون مني قريبا؟ وقال الآخر: ما أصعب الشيء ترجوه فتحرمه ... لا سيما بعد طول الجهد والتعبُ! وقال الآخر: ما صاحبي من ودني حاضراً ... بل صاحبي من ودني غائبا ومثله قول الحماسي من هذا الباب: وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب وقال الآخر: ما يفتح الله باب الرزق من أحدٍ ... إلاّ ويفتح غير الباب أبوابُ وقال الآخر: متى تكن مع صديقٍ أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوبِ وقال الآخر: من الناس من يغشى الأباعد نفعه ... ويحرم منه صحبه وأقاربه

وقال الآخر: من ذم من كان كل الناس يحمده ... فإنما يربح التكذيب والكذبا وقال الآخر: من عوَّد الناس إحساناً ومكرمةً ... لا يعتبنَّ على من لج في الطلبِ وقال الآخر: نحن ندعو الإله في كل كربٍ ... ثم ننساه عند كشف الحروبُ وقال الآخر: نفسك لا تعطيك كل الرضى ... فكيف ترجو ذاك من صاحبِ؟ وقال الآخر: نوئاب هذا الدهر شتى وإنني ... أرى فرقة الأحباب أدهى النوائب وهو من قول قيس السابق. وقال الآخر: وأحزم الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يدبرها يجني عواقبه وقال الآخر: وإذا الزمان كساك حلة معدمٍ ... فالبس له حلل النوى وتغرب وتقدم مع ما يشاكله. وقال الآخر: وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يهب الرغائب فارغب وقال الآخر: واطلب قربي من حماكم وانتم ... إلى ناظري والقلب في غاية القرب وقال الآخر: وإنَّ كنت مسترعي ونحن رعية ... فكل سيلقى ربه فيحاسبه وقال الآخر: وانك إنَّ أهديت لي عيب صاحب ... امهدٍ إلى غيري جميع عيوبي وقال الآخر: وإني بكم في كل حالٍ لواثق ... ولكن سوء الظن من شدة الحب

وقال الآخر: وبالناس عاش الناس قدما ولم يزل ... من الناس مرغوب إليه وراغب وقال الآخر: وتشتت الأعداء في آرائهم ... سبب لجمع خواطر الأحباب وقال الآخر: وخير عمر الفتى عمر يعيش به ... مقسم الحال بين الجد واللعب وقال الآخر: وعد العتاب إذا استربت بصاحب ... ليست تنال مودة بعتاب وقال الآخر: ورث النجابة كابراً عن كابرٍ ... كالرمح أنبوبا على أنبوب وقال الآخر: وسائل: ما الملك؟ قيل: الغنى ... فقلت: لا بل راحة القلب وقال الآخر: وعهد المشيب كأني به ... يمر كما مر عصر الصبا وقال الآخر: وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة ... وقد صرت أخشاها ومالي من ذنب وقال الآخر: وقد نثر التوديع من كل مقلةٍ ... على كل خد لؤلؤا لم يثقب وقال الآخر: وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا جدار يخرب وقال الآخر: وكنا نستطب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب وتقدم ما يشكل هذا في حرف الهمزة، فيمن يغص بالماء. وقال الآخر: وكنت أرى أنَّ التجاريب عدة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب

وقال الآخر: ولا خير في قربٍ لغيرك نفعه ... ولا في صديق لا تزال تعاتبه وقال الآخر: ولا خير فيمن لا يوطن نفسهُ ... على نائبات الدهر حين تنوبُ وقال الآخر: ولربما بخل الكريم وما به ... بخل ولكن سوء جظ الطالبُ وقال الآخر: ولو أنَّ ما بي بالحصا فلق الحصا ... وبالريح لم يسمع لهن هبوبُ وقال الآخر: ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوبُ وقال الآخر: وليس بتقدير الكواكب ما ترى ... ولكنه تقدير رب الكواكب وقال الآخر: وليس بحاكم من لا يبالي ... أأخطأ في الحكومة أم أصابا وقال الآخر: وليس عتاب الناس للمرء نافعاً ... إذا لم يكن للمرء لبٌ يعاتبه وقال الآخر: وليلٍ أردنا أن يدب عذاره ... فما اختط حتى صار بالصبح شائبا وقال الآخر: وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... فكن طالباً للنفس أعلى المراتبِ وقال الآخر: وما شرف الإنسان إلاّ بنفسه ... وإن عد أباءً كراماً ذوي حسب وقال الآخر: وما كان لي ذنب فأخشى جزاءه ... ز عفوك مرجو وإن كان لي ذنبُ

وقال الآخر: وما لقلوب العاشقين مزية ... إذا نظرت أفكارها في العواقبِ وقال الكميت: ومالي إلاّ أحمد شيعةٌ ... ومالي إلاّ مذهب الحق مذهبُ وقال الآخر: ومالي ذنب أستحق به الجفا ... وإن كان أي ذنب فإني تائبُ وقال الآخر: وما هي إلاّ غاطةٌ قد غلطتها ... وقد يغلط الإنسان ثم يتوبُ وقال الآخر: ومن عادة الأيام أنَّ صروفها ... إذا ساء منها جانبٌ سر جانبُ وقال الآخر: ومن مذهبي حب الديار وأهلها ... وللناس فيما يعيشون مذاهبُ وقال الآخر: ومن ربط الكلب العقور ببابه ... فعقر جميع الناس من رابط الكاب وقال الآخر: ويوهمني أنه ناصحٌ ... وفي نصحه حمة العقربِ وقال الآخر: هنيئا لكم ماء الفرات وطيبه ... إذا لم يكن لي في الفرات نصيبُ وقال الآخر: لا تجزعن من المداد ولطخه ... إنَّ المداد خلوف ثوب الكاتبِ وقال الآخر: لا تكونن للأمور هيوبا ... فإلى خيبةٍ يصير الهيوبُ! وقال الآخر: لا تنكحن لئيمة لمحاسنٍ ... فاللؤم يبقى والمحاسن تذهبُ

ومصداقه قوله صلى الله عليه وسلم: إياكم وخضراء الدمن، وسيأتي. وقال الآخر: لا تيأسن وإن عز الوصال فقد ... تجفو أناسٌ وهم في الغيب أحبابُ وقال الآخر: لا يقبل الصدق من الكذب ... ولو أتى بمنطق عجابُ وقال الآخر: يا بصيراً إلاّ بإبصار كتبي ... وجواداً إلاّ بردِّ جوابِ وقال الآخر: يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه وقال الآخر: يذمون دنياهم وهم يطلبونها ... ولم ير كالدنيا تذمُ وتطلبُ وهو مثل قول الآخر: قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا وهذا من توهيمات الخيال وأغاليط الشعراء وإلاّ فليس لهذا التعجب موقع ولا للألغاز محل، إذ العقول السليمة كلها ذامة للدنيا وليست بطالبة لها ومتى وقع منها طلب فمكلوبها غير مذموم كما أنَّ مذمومها غير المطلوب. فإنَ الدنيا من حيث إنّها مزرعة للآخرة وقنطرة يعبر منها إليها وزاد يبلغ إليها لا بد منها وهي محمودة غير مذمومة ومن حيث إنّها فتنة وعائقة عن الفوز ومبعدة عن النجاح وموجبة للعقاب أو العتاب، مذمومة عند كل بصير غير مطلوبة بل مهروب منها غاية الهرب ومنفور منها غاية النفور ولا يطلبها على هذا الوجه إلاّ أعمى البصيرة وهذا الله تعالى بذمها. وقد يذمها بلسانه وهو يحبها سراً، وهو غير ذام لها بالحقيقة. وعلى مثل هذا الذي خالف قوله فعله يحسن من جهة الظاهر إنشاد الشعر السابق، ولا يصح الاتفاق ولكن الأكثر والأغلب هذا نسأل الله السلامة من فتنة المحيا والممات.

وقال الآخر: يرحم الله صديقا ... جاء يهدي لي عيوبي وقال الآخر: دع المزاح فقد يزري بصاحبه ... وربما آل في العقبى إلى الغضب وقال الآخر: رأيت تباعد الإخوان قربا ... إذا اشتملت على الود القلوبُ وقال الآخر: رأيت الود ليس يكاد يبقي ... إذا كثر التعصب والعتابُ وقال الآخر: رب لحظ يكون أبلغ من لفظٍ ... وأبى لمضمرات القلوب وقال الآخر: سأرعاك في البعد المفرق بيننا ... كما كنت أرعى والمزار قريبُ وقال الآخر: سأصفيك الهوى من كل وحهٍ ... وأمنحك الرضى من لك بابِ وقال الآخر: ستعلم هل ربحنا أم خسرنا ... إذا فكرت في أمر الحسابِ وقال الآخر: سقى الله أيام التواصل بيننا ... ورد إلى الأوطان كل غريبِ وقال الآخر: سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتى ذاق طعم العيش منذ قريبِ وقال الآخر: سمعت عتاباً يستطاب فليتني ... أطلت ذنزبي كي يطول عتابُ وقال الآخر: سيغني الله عن بقرات زيدٍ ... ويأتي الله باللبن الحليبِ

وقال الآخر: شهدنا وجربنا أموراً كثيرة ... فلا تهملوا نصح الصديق المجرب وقال أحد القدماء: صاح أبصرت أو سمعت بارعٍ ... رد في ضرع ما قرأ في الحلاب؟ وقال الآخر: صروف الليالي أحوجتنا إليهم ... كما أحتاج صياد إلى صحبة الكلب وقال أبو العلاء المعري: وسمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها عن غابه والغضب لا يشفي أمرءاً من ثأره ... إلاّ يفقد نجاده وقرابه والله يرعى سرح كل فضيلة ... حتى يروحه إلى أربابه وقال أيضاً: وهجيرة كالهجر عودي منبر ... للظهر إلاّ إنّه لم يخطب فكأنه رام الكلام فيسمه ... عي فأسعده لسان الجندب وقال الآخر: وما رحم الأهلين إنَّ سالموا العدى ... بمجدية إلا مضاعفة الكرب ولكن أخو المرء الذي إذا دعا ... أجابوا بما يرضيه في السلم والحرب وقال الآخر: ما المرء أخوك أم لم تلفه وزرا ... عند الكريهة معوانا على النوب وأعلم أنَّ لفظ الأخ فيه لغات كثيرة: يقال أخ، وهي اللغة المشهورة، وأخو بسكون الخاء على مثال فرو، وهو الواقع في البيت المذكور ويقال في الجمع اخوة وأخون، وهذا الثاني هو الواقع في البيت الثاني من البيتين قبل هذا، وحذفت نونه للإضافة إلى المرء، وليس مفردا بدليل الإخبار عنه بالذين.

وقال الآخر: لعمرك ما حق امرئ لا يعدلي ... على نفسه حقا علي بجواب وما أنا النائي علي بوده ... بودي وصافي خلتي بمقارب ولكنه إنَّ مال يوما بجانبٍ ... من الصدق والهجران ملت بجانب وتقدم نحو هذا. ويقال جرير، كان اشترى جارية من رجل من أهل اليمامة يقال له زيد، ففركته وحنت إلى بائعها: تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب؟ وقالت: لا تضم كضم زيد، ... وما ضمني وليس معي شبابي؟ فقال الفرزدق: وإنَّ تفركك عاجلة آل زيدٍ ... ويعوزك المرقق والصناب فقدما كان عيش أبيك مرا ... يعيش بما يعيش به الكلاب والصناب، بكسر الصاد. قال المبرد: هو صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنابي إذا كان في ذلك اللون. وقال الآخر: ويأخذ عيب المر من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب قيل وهذا البيت مبني على كلام الأحنف، وقد قال له رجل: دلني على رجل كثير العيوب! فقال: أطلبه عيابا، فإنما يعيب الناس بفضل ما فيه! وقال الآخر: لن المنابر من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لمّا جد في الهرب وألحن كل الناس قطابة ... وكان يوله بالتشديق في الخطب وهذا الشعر قاله بعض الشعراء في خالد بن عبد الله القسري، وكان من الخطباء البلغاء؛ فصعد المنبر ذات يوم فخرج عليه المغيرة بن سعد بالكوفة في عشرين رجلا، فعطعطوا به، فعيي خالد وقال: اطعموني الماء! وهو على المنبر، فعير

بذلك، وكتب هشام إليه رسالة وبخه فيها، وقيل فيه ما تقدم وقال فيه أيضاً يحيى بن نوفل: لأعلاجٍ ثمانية وعبدٍ ... لئيم الأصل في عدد يسير هتفت بكل صوتك أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير! وسيأتي في الحكم إن شاء الله ذكر كثير ممن أرتج عليه الكلام. وقال محمّد بن أبي عيينة يعاتب بعض الأشراف: أتيتك زائرا لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب وليست بساقط في قدر قوم ... وإنَّ كرهوا كما يقع الذباب ورائي مذهب عن كان ناء ... بجانبه إذا عز الذهاب وقال الآخر: فلله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والبطالة جانب وقال الآخر: ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبها وقال الآخر: أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلون أحيان علي خطوبها إذا عبت منه خلة فهجرته ... دعتني إليه خلة لا أعيبها وقال الآخر: مالي عقلي منتم إلى أحد ... فأنني منتم إلى أدبي وهذا مثل قول عامر بن الطفيل: وإني وإنَّ كنت أبن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر عن وراثةٍ ... أبى الله إنَّ أسموا بأم ولا أب

ولكني أحمي حماها واتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب وقول بعض الأشراف الطالبيين: لسنا وإنَّ أحسابنا كرمت ... يوما على الاحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقول الحسين رضي الله عنه، وقد أجزل صلة شاعر فليم على ذلك فقال: أتراني خفت أن يقول لست من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ولا علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ ولكنني خفت أنَّ لست كمثلهما فيصدق ويحمل عنه، ويبقي مخلداً في الكتاب على ألسنة الرواة. فقال ذلك الشاعر حينئذ: وأنت والله يا أبن الرسول الله أعرف بالمدح والذم مني! ويحكى أنَّ رجلاً تكلم بين يدي عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب. فقال له وقد أعجبه: أبن من أنت يا غلام؟ قال: أبن نفسي، يا أمير المؤمنين: والتي نلت بها هذا المقام منكم. وأخذه بعض الشعراء فقال: كن أبن من شئت واتخذ أدبا ... يغنيك مأثوره عن الحسب إنَّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي وآخر في قوله: كن أبن من شئت وكن مؤدبا ... فإنما المرء بفضل حسه وليس من تكرمه لغيره ... مثل الذي تكرمه بنفسه ويحكى عن يحيى بن أكثم قال: بينما أنا يوما جالس مع المأمون إذ دخل الدار. فتى أبرع الناس زياً وهيبة ووقاراً، وهو لا يلتفت إعجابا بنفسه. فنظر إليه المأمون فقال: يا يحيى، هذا لا يخلوا إنَّ يكون هاشميا أو نحوياُ. ثم بعث من يتعرف ذلك منه، فإذا هو نحوي. فقال المأمون: يا يحيى، أن علم النحو قد بلغ بأهله من عزة النفس وعلو الهمة منزلة بني هاشم في شرفهم؟ يا يحيى، من قعد به نسبه، نهض به أدبه! ومثله يقول أبي العلاء المعري:

لو يعلم الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في لحده ومجدة أفعاله لا الذي ... من قبله كان ولا بعده وقال أبي محمد الحريري رحمه الله: لعمرك ما الإنسان إلاّ أبن يومه ... على ما تجلى يومه لا أبن أمسه وما الفخر بالعظم الرميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وقول أبي الطيب: ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي والشعر في هذا المعنى كثير، وأصل هذا كله قوله تعالى وجلت كلمته:) إنما المؤمنونَ اخوةٌ (وقوله تعالى:) إنَّ أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم (وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أيّها الناس إنّما الناس اخوة وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى. أيّها الناس إنَّ ربكم واحد وإنَّ أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. وهو قطع لمّا كانت فيه العرب من الافتخار بالآباء. ولعلي كرم الله وجهه: الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواءُ وينسب إليه: ما الفخر إلاّ لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاءُ وقدر كل امرئ ما كان يحسبه ... والجاهلون لأهل العلم أعداءُ وقال الآخر: لئن فخرت بآباءٍ لهم كرمٌ ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا وقال الكميت: وما استنزلت في غيرها قدر جارنا ... ولا ثفئت إلاّ بنا حين تنصبُ

وقال أبو الطمحان: وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم ميت قام صاحبه نجوم سماء كلما انفض كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه وما زال منهم حيث كان مسودٌ ... تصير المنايا حيث صارت كتائبه قوله: نظم الجزع ثاقبه، يريد أنهم لو استضاء بضيائهم في غياهب الظلام من يثقب الخرز الذي هو أشد شيء لأبصر ذلك فكيف بما هو أظهر؟ وهذه غاية المبالغة في تنزيل المعقول منزلة المحسوس. وقال الآخر: شربنا طيباً عند طيبٍ ... كذاك شراب الطيبين يطيبُ شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة ... فالأرض من كأس الكرم نصيبُ وقال السلامي: تبسطنا على الآثام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوبِ وهو كقول المأمون: لو علم أرباب الجرائم تلذذنا ... بالعفو لتقربوا ألينا بالذنوبِ وهو مأخوذ من قول أبي نواس: تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا وقال ضابئ بن الحارث: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فأني وقيار بها لغريبُ وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيبُ ورب أمور لا تضير ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب وقال الغنوي:

وهلك الفتى أنَّ لا يراح على الندى ... وأنَّ يرى شيئاً عجيبا فيعجبا وقال جرير بن الخطفى: فعض الطرف أنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا! وبعده: ولو وضعت شيوخ بني نمير ... على الميزان ما عدلتا ذبابا وكانت بنو نمير من جمرات العرب، لم يخالفوا أحد لعزتهم وقوتهم. فكان الواحد منهم إذا سئل يقول: من بني نمير، ويفخم صوته إدلالاً بعزته، حتى هجا جرير عبيد بن حصين منهم بما قدم من قصيدة، فوقعت فيهم الموقع، ولم يرفعوا، ولم يرفعوا بعدها رأساً، حتى كانوا يفرون من الانتساب إلى نمير لمّا وسم به. فكان أحدهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من عامر بن صعصعة وهو الجد الأكبر. ومما يحكى أن مولى لبعض بأهله كان يرد سوق البصرة، فسخر منه بنو نمير، فذكر ذلك لمواليه فقالوا له: إذا نبزك أحد منه فقل له: فعض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فلما رجع، سخروا منه ونبزوه، فأراد أن يقول البيت فنسيه فقال: غمض وإلاّ جاءك ما تكره! فكفوا عنه عند ذلك وعلموا إنّه عرف قول جرير فيهم. وروي أن امرأة مرت بقوم من بني نمير، فأخذوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فقالت: قبحكم الله يا بني نمير! ما امتثلتم واحدة من اثنين: لا قول الله تعالى حيث يقول:) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (ولا قول جرير حيث يقول: فغض الطرف " البيت ". فأجمعوا بذلك وذهبوا. وأحاب بعض بني نمير جريرا عن شعره فقال: نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا وإني إذ أسب بها كليبا ... فتحت عليهم للسخف بابا ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولو نسمع لشاعرهم جوابا ؟ رغبنا عن هجاء بني كليبٍ وكيف يشتم الناس الكلابا؟

فما ضر ذلك كليبا ولا جريرا ولا نفع نميرا. وقصيدة جرير مذكورة هي التي سماها الدامغة. ولاستمرار الضعة في بني نمير بهجاء جرير قال أبن مناذر يهجو ثقيفا: وسوف يزيدكم ضعة هجاني ... كما وضع الهجاء بني نمير وقال عنترة العبسي يخاطب امرأته: لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إنَّ الغبوق له وأنت مسودة ... فتأوي ما شئت ثم تحوبي كذب العتيق وما شن بارد ... إنَّ كنت سائلتي غبوقا فاذهبي! قوله العتيق، يجوز نصبه ورفعه، ومعناه على الجملة الإغراء، أي عليك بالعتيق، وهو التمر القديم، ولإعرابه تحقيق في علم النحو مشهور. وقال الآخر: خذ من أخيك العفو ذنوبه ... ولا تك في كل الأمور تعاتبه فإنك لن تلقى أخاك مهذبا ... وأي امرئ ينجو من العيب صاحبه؟ أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه وليس الذي يلقاك بالبشر والرضى ... وإنَّ غبت يوما لسعتك عقاربه وقال رجل من بني ضبة لعبد الملك: والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب فلقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب فأصبر لعادتنا التي عودتنا ... أولا فأرشد إلى من نذهب فقال له عبد الملك: إلي! إلي! وأكرمه وحباه. وقال ضمرة بن ضمرة: بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي! ولقد علمت تظني غيره ... أنَّ سوف تخلجني سبيل صاحبي أأصرنا وبني عمي ساغب؟ ... فكفاك من إبة علي وعاب أنَّ رأيت إن صرخت منها هامتي ... وخرجت منها بالي الأثواب

هل تخمشن إبلي عليَّ وجوهها ... لم تعصبن رؤوسها بسلابِ؟ قوله بسل، أي حرام، كقول زهير: بلاد بها نادمتهم وألفتهم ... فإنَ تقويا منهم فانهم بسلُ وقوله تخلجني، أي تجذبني، والخلج الجذب، ومنه خليج الماء لا تجاذبه إلى ناحية؛ والساغب الجائع؛ والأبة: الحياء. وقال الآخر: تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إنَّ الرأي منك لعازبُ وليس أخي من ودني رأي عينه ... وكان أخي من ودني وهو غائبُ وقال الآخر: إذا ما علوا قالوا أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أمٍ ولا أبُ أي إذا غلبوا انتسبوا وتحببوا وتقربوا، وإن كانوا هم الغالبين تعثلموا وتبرؤوا وتبرموا وهذا فعل اللئيم. ذكر أبو علي البغدادي عن أبي الكلبي عن أبيه قال: كان مرثد الخير بن ينكف قيلاً من أقيال اليمن وكان حدباً على عشيرته محباً لصالحها. وكان سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب بن ذي رعين تنازعا الشرف حتى تشاحنا، وخيف أن يقع بين حييهما شرٌ فيتفانيا. فبعث إليهما مرثد فأحضرهما ليصلح بينهما فقال لهما: إنَّ التخفط وامتطاء الهجاج، واستحقاب اللجاج، سيقفكما على هوةٍ في توردها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة. فتلاقيا أمركما قبل انتكاث العقد، وانحلال العهد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة! وأنتما في فسحة رافهة، وقدم واطدة والمودة مثرية والبقيا معرضة. فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد وأصغى إلى التقاطع. ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم وكيف كان صيور أمرهم قبلا، فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثاني واستفحال الداء وإعواز الدواء! فانه إذا سفكت الدماء،

استحكمت الشحناء وإذا استحكمت الشحناء تقصبت عرى الإبقاء، وشمل البلاء. فقال سبيع: أيّها الملك إنَّ عداوة بني العلات، لا تبرئها الأساة، ولا تشفيها الرقاة ولا تستقل بها الكفأة والحسد الكامن هو الداء الباطن. وقد علم بنو أبينا هؤلاء أنا لهم ردء إذا رهبوا وغيث إذا اجدبوا، وعضد إذا حاربوا، ومفزع إذا نكبوا؛ وأنا وإياهم كما قال الأول: إذا ما علوا قلوا أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أم ولا أبُ فقال ميثم: أيّها الملك إنَّ من نفس على أبن أبيه الزعامة وجدبه في المقامة، واستكثر له قليل الكرامة كان قرفاً بالملامة ومؤنباً على ترك الاستقامة. وإنَّا والله ما نعتد لهم بيد إلاّ وقد نالهم منا كفاؤها ولا نذكر لهم حسنة إلاّ وقد تطلع إليهم منا جزاؤها، ولا تفيا لهم علينا ظل نعمة إلاّ وقد قوبلوا بشرواها. ونحن بنو فحل مقرم لم تغد بنا الأمهات ولا بهم، ولم تنزعنا أعراق السوء ولا إياهم. فعلام مط الخدود وخزر العيون والجخيف والتصعر والبأو والتكبر؟ ألكثرة عدد أم لفضل جلد أم لطول معتقد؟ وإنا وإياهم لكما قال الأول: لاه أبن عمك لا أفصلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني ومقاطع الأمور ثلاثة: حرب مبيرة أو سلم قريرة أو مداجاة غفيرة. فقال الملك: لا تنشط عقل الشوادر ولا تلقحوا العون القواعد، ولا تورثوا نيران الأحقاد! ففيها التلفة المستأصلة والجائحة والأليلة؛ وعفو بالحلم، أبلاد الكلم، وأنيبوا إلى السبيل الأرشد، والمنهج المقصد! فإنَ الحرب تقبل بزبرج الغرور وتدبر بالويل والثبور. ثم قال الملك: ألا هل أتى الأقوال بذلي نصيحة ... حبوت بها مني سبيع وميثما؟ وقلت اعلما أنَّ التدابر غادرت ... عواقبه للذل والقل جرهما فلا تقدحا زند العقوق وابقيا ... على العزة القعساء أن تتهدما ولا تجنيا حربا تجر عليكما ... عواقبها يوما من الشر أشأما

فإنَ جنات الحرب للحين عرضة ... تفوقهم منها الزعاف المقسما حذار فلا تستنبثوها فإنها ... تغادر ذا الأنف الأشم مكشما فقالا: أيها الملك بل نقبل نصحك ونطيع أمرك ونطفئ النائرة ونحل الضغائن ونثوب إلى السلم. قال أبو بكر بن دريد: التحفظ ركوب الرجل رأسه في الشر خاصة. قال أبو علي: ولم أسمع هذه الكلمة من غيره. فأما التخمط بالميم فالتكبر. انتهى. وكذا من رأينا من اللغويين لم يذكروا تلك المادة أصلا. وركب الرجل هجاجة: لج ومحك. قاله أبن دريد. وفي الصحاح: ركب هجاج غير منصرف، وركب هجاج كقطام: ركب رأسه، وأنشد: وقد ركبوا عاى لومي هجاج واستحقاب اللجاج استفعال، إما من حقيبة الرجل، وهو ما يكون وراء الرجل يملأ حشيشا أو تبنا وإما من الحقاب وهو بريم تشد به المرأة وسطها. وعلى الأول يكون استحقاب اللجاج معناه جعله في الوعاء؛ وعلى الثاني يكون معناه الأضرار به على المجاز فيهما؛ والهوة: الحفرة. والبوار: الهلاك؛ والأصيلة: الأصل: والانتكاث: الانتقاض. ورافة: ناعمة. وواطدة: ثابتة. ومثرية: متصلة، من الثرى وهو التراب الندي. والمعرضة: الممكنة، من أعراض الصيد إذا أمكن من عرضه أي جنيه ليرمى. وصيور الأمر: ما يؤول إليه. واستفحال الداء: اشتداده. وتقصبت: تقطعت. والأساة: الأطباء. والزعامة: الرئاسة: وجدبه في المقامة، أي عابه، والمقامة: المجلس وقد يراد به الجلاي، ويحتملهما قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعلُ وقرفاً بالملامة أي خليقا لها. وشرواها: مثلها. والخزر: النظر بمؤخرة العين، وهو معروف عند العامة اليوم. والجخيف: التكبر. والمداجات: المساترة والغفيرة: الغفران. ولا تنشطوا: لا تحملوا. ولا تلحقوا العون: لا تسرعوا الحرب، وأصله في الإبل؛ يقال: لقحت الناقة إذا حملت وألقحها الفحل. والعون جمع عوان وهي الثيب

وتستعار للحرب التي قوتل فيها مرة أخرى. وتورثوا: تذكوا. والاليلة: الثكل. والابلاد: الآثار، وأحدها بلد. والقعساء: الثابتة. وتفوقهم: تسقيهم الفواق أي ما بين الحلبتين. وتستنبثوها: تستخرجوا نبيثها والنبيثة في الأصل ما يخرج من البئر إذا حفرت. ومكشم: مقطوع. وقال الآخر: يرى الحاضر الشاهد المطوئن ... من الأمر ما لا يرى الغلئبُ وقال الأحوص: قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ بوصالكم صبُ صاحب إذا بعلي فقلت لها ... الغدر شيء ليس من ضربي ثنتان لا أدنو لوصلهما: ... عرس الخليل وجارة الجنبِ أما الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصاني به ربي عوجا كذا نذكر لغانيةٍ ... بعض الحديث مطيكم صحبي ونقل لها فيهم الصدود ولم ... أذنب بل أنت بدأت بالذنبِ إن تقبلي نقبل وننزلكم ... من بدار السهل والرحبِ أو تدبري يكدر معيشنا ... وتصدي متلائم الشعبِ ولمّا سمع أبو السائب هذا الشعر قال: هذا المحب عيناً لا الذي يقول: وكنت إذا حبيبٌ رام صرمي ... وجدت وراي منفسحاً عريضا اذهب فلا صحبك الله ولا وسع عليك! قلت: واتما قال ذلك لأنهم يرون أنَّ فضيلة المحب وكمال العاشق أن يتطبع بلواعج البلبال، ويستديم الصبابة على كل حال. وحدث بعض الأدباء قال: قال عروة بن عبد الله: نزل أبن أذينة في دارنا بالعقيق فسمعته ينشد: إنَّ التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها كيف الذي زعمت به وكلاهما ... أبدى بصاحبه الصبابة كلها؟

ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوما وقد ضحيت إذا لأظلها! وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلطافة فأدقها وأجلها لمّا عرضت مسلما لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها! فدنا وقال لعلها معذورةٌ ... في بعض رقبتها فقلت لعلها قال وبلغ ذلك أبا السائب المخزومي فأتاني وقال: أنشدني ما سمعت من عروة أذينة، فأنشدته إياها فلما بلغت البيت الأخير طرب وقال: والله الدائم الصبابة الصادق لا الذي يقول: إن كان أهلك يمنعونك رغبةً ... عني فأهلي بي أضن وأرغبُ ثم قلت: هلم الذي الطعام! فقال: والله ما كنت لأخلط بلذة هذه الأبيات طعاما إلى الليل! وأنصرف. قلت: ووقع ما يشبه العيب الذكور في قول امرئ القيس: أأسماء أمسى ودها قد تغيرا ... سنبدل إن أبدلت بالود آخرا ومن نمط المحمود في استدامة الحب والصبابة قول بعضهم: إذا ما صديق أسا مرةً ... وقد كان فيما مضى مجملا ذكرت المقدم من فعلهِ ... فلا ينقض الآخر الأولا وقال الآخر، وينسب للمجنون أو إبراهيم بن العباس: تطلع من نفسي إليك نوازعٌ ... عوارف أنَّ اليأس منك نصيبها وأزالت زوال النفس عن مستقرها ... فمن مخبري في أي أرضٍ غروبه؟ حلالٌ لليلى أن تروع فؤادهُ ... بهجرٍ ومغفورٌ لليلى ذنوبها وقال الآخر: ومن شغفي فيكم ووجدي أنني ... أهون ما ألقاه وهو هوانُ ويحسن قبح الفعل إن جاء منكم ... كما طاب ريح العود وهو دخانُ

وقال الآخر: إن أمت وجداً فلي قدمٌ ... بي إلى حتف الهوى سعتِ أو ترق يلك اللحاظ دمي ... فهي في حلٍّ وفي سعةِ وقال الآخر: أبدا أزيدُ مع الوصال تلهفاً ... كالعقد في جيد المليحة يقلقُ ويزيدني كلفا فأذكر فعلهُ ... كالمسك تسحقه الأكف فيعبقُ وقال الآخر: فرقت بيننا الحوادث لكن ... في نفسٌ إليكم أدنيها وكأني في الود فأرة مسكٍ ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها وقال الآخر: وإذا المليح أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءت محاسنه بألف شفيعِ وقال بعضهم فيه: ما ذلتي في حبكم وخضوعي ... عارٌ ولا شغفي بكم ببديعِ دين الهوى ذلٌ وجسمٌ ناحلٌ ... وسهاد أجفانٍ وفيض دموعِ كم قد لحاني في هواكم لائمٌ ... وثنيت عطفي عنه غير سميعِ ما يحدث التقبيح عندي سلوةً ... لكم ولو جئتم بكل فظيعِ وإذا المليح أتى بذنبٍ واحدٍ ... جائت محاسنه بألف شفيعِ وقال الحكيم: مستقبل بالذي بهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذورٌ بما صنعا في وجهه شافعٌ يمحو أساءته ... من القلب وجيهٌ حيثما شفعا وقول أبي فراس الحمداني: أساء فزادته الإساءة حظوةً ... حبيبع ما كان منه حبيبُ تعدُ عليَّ الوشيات ذنوبه ... وأين من الوجه المليح ذنوبُ؟ وقال الآخر:

وكلما رمتُ أن أقابله ... على تماديه في تعديهِ جاءت على غفلةٍ محاسنه ... تلزمني الصفح عن مساويهِ وقال الآخر: كلما أذنب أبدى وجهه ... حجةً فهو مليٌ بالحججِ كيف لا يفرط في إجرامه ... من متى شاء من الذنب خرج وقال الآخر: عفت محاسنه عندي إساءته ... حتى لقد حسنت عني مساويهِ وقال الآخر: لي حبيبٌ كالظبي غرٍّو لكن ... بعذابي في الحب ما أغراهُ! وإذا كرر الذنوب فيكفيه ... اعتذاراً مما جنى أن أراهُ وقال الآخر: ومستنصٍ في العذر مستعجل القلى ... بعيدٍ من العتبى قريبٍ من الهجرِ له شافعٌ في القلب مع كلِّ زلةٍ ... فليس بمحتاج الذنوب إلى العذرِ وقال أبي الطيب: فأن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائى سررن ألوفُ وقال حاتم أو عمرو بن الأهتم: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديبُ وما الخصب للأضيافِ أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيبُ وسنذكر ما في هذا النزع من الشعر بعد إن شاء الله تعالى. وقال رجل من عبس: إذا راح ركبٌ مسرعون فقلبه ... مع الرائحين المسرعين جنيبُ وإن هبَّ علويُّ الرياح رأيتني ... كأني لعلو يأتهن نسيبُ فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيبُ وقال الآخر: من كان يزعم أن سيكتم حبه ... حتى يشكك فيه فهو كذوبُ

الحب أغلبُ للفؤاد بقهره ... من أن يرى للستر فيه نصيبُ وإذا بدا سر اللبيب فإنه ... لم يبد إلاّ أنه مغلوبُ إني لأبغض عاشقاً متستراً ... لم تتهمه أعينٌ وقلوبُ وقال ذو الرمة: إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميٍّ هاج لبي هبوبها هوى تذوف العينان منه وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث حل حبيبها وقال المجنون: يقولون لي يوماً وقد جئت حيهم ... وفي كبدي نارٌ يشب لهيبها أما تخشى من أسدنا؟ فأجبتهم ... هوى كلً نفسٍ حيث حل حبيبها وقال بعض الأعراب: شكوت فقالت كل هذا تبرماً ... بحبي أراح الله قلبك من حبي! فلما كتمت الحب قالت لشدما ... صبرت وما هذا يفعل شجي القلبِ وأدنو فتقصيني وأبعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي فشكواي يؤذيها وصبري سيوؤها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي فيا قوم هل من حيلةٍ تعرفونها؟ ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي! وتقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقريب منه وإن عاكسه في الترديد قول امرئ القيس: وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك يدربِ وقال الإمام العارف بالله تعالى أبو بكر الشبلي رضي الله عنه وقد دخل على شيخه الإمام أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه فوقف بين يديه وصفق بيده وقال: عودوني الوصال والوصل عذبُ ... ورموني بالصد والصدُ صعبُ زعموا حين أزمعوا أنَّ ذنبي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنبُ لا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب إلاّ يُحَبُ فأجابه الشيخ فقال:

وتمنيت أن أراك ... فلما رأيتكا غلبت دهشة السرور ... فلم أملك البكا وقال أبو علي الفارسي النحوي: خضبت الشيب لمّا كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعابا ولم أخضب مخافة هجر خلٍ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا ولكن المشيب بدا دميما ... فصيرت الخضاب له عقابا وسيأتي ذكر ما في الشيب والخضاب مستوفي إن شاء الله تعالى. وقال عبد الله بن سعيد الموصلي الشافعي: قالوا سلا، صدقوا عن ... السلوان ليس عن الحبيبِ قالوا: فلم ترك الزيارة؟ ... قلت: من خوف الرقيبِ قالوا: فكيف يعيش مع ... هذا؟ فقلت: من العجيبِ وقال انو العرب الصقلي: لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسىً ... وأعجب لأسود عيني كيف لم يشب البحر للروم لا تجري السفين به ... إلاّ على خطرٍ والبر للعرب وسبب قوله ذلك إنَّ المعتمد بن عباد بعث إليه بخمسمائة دينار وأمره أن يتجهز بها ويقدم عليه، فكتب إليه الحصري: أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري لك الخير فاخصصه بذي الداء ما أنت نوحٌ فتنجيني سفينته ... ولا أنا أمشي على الماءِ وقال أبو الوفاء: ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طالبه وقال يحيى بن خالد بن برمك: أنصب نهاراً في طلاب العلى ... وأصير على فقد الحبيب القريب حتى إذا الليل أتى مقبلا ... واستترت فيه وجوه الغيوبُ

فكابد الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب كم من فتى تحسبه ناكساً ... يستقبل الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو رقيب وسبب هذا الشعر أن ابنه الفضل بن يحيى كان الرشيد قد ولاه عمل خراسان فأقام بها مدة ثم وصل كتاب صاحب البريد إلى الرشيد، ويحيى بين يديه جالس، مضمنه أن الفضل أشتغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية. فلما قرأ الرشيد الكتاب رمى به إلى يحيى وقال له: يا أبي! اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه ما يرده عن هذا. فكتب إليه يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك! قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه شاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية فأنكره، فعاود ما هو زين بك، فانه من عاد إلى ما يريبه ويشينه لم يعرفه أهل دهره إلاّ به، والسلام. وكتب في أسفله الأبيات المذكورة، والرشيد ينظر إلى ما يكتب. فلما فرغ قال: أبلغت يا أبي! فلما ورد الكتاب على الفضل، لم يفارق المسجد نهاراً إلى إنَّ انصرف عن عمله. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: تزوجت امرأة بمكة من قريش، وكنت أمازحها فأقول: ومن البليلة أنَّ تحب ... فلا يحبك من تحبه فتقول هي: ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه وقال الشريف الرضي: ولقد وقفت على طلولهم ... وربوعهم بيد البلى نهب ومن أعجب الاتفاق أن بعض الأدباء مر بدار الشريف هذا التي ببغداد، وقد خربت وذهبت بهجتها، ولم يبق منها إلاّ آثار تشهد لها بالحسن والنظارة. وفوقف وتمثل بالبيت المذكور وهو لا يعرف لمن الدار. فمر به شخص وسمعه ينشد البيت فقال له: أتعرف هذه الدار؟ قال: لا. قال: هي دار الشريف صاحب البيت. وهذه تشبه حكاية

عبيد الجرهمي، وكان دخل على معاوية فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت. فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم، فاغرورقت عيناي بالدموع، وتمثل بقول الشاعر: يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر، وهل ينفعنك اليوم تذكير؟ فاستدر الله خيرا من وراضين به ... فبينما العسر إذ جاءت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر؟ فقلت: لا. فقال: إنَّ قائله هو الذي دفناه الساعون وأنت الغريب الذي تبكي عليه، وهذا الخارج من قبره أمس الناس رحما وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجبا! وقال صر در: إنَّ الهلال يرتجي طلوعه ... بعد السرار ليله احتجابه والشمس لا يويس من طلوعها ... وإنَّ طولها الليل في جنابه وقال: كم عودة دلت على دوامها ... والخلد للإنسان في مآبه! ولو قرب الدر على جالبه ... ما لجج الغائض في طلابه ولو أقام لازما أصدافه ... لم تكن التيجان في حاسبه ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلاّ وراء الهول من عبابه وقال الآخر: جروح الليالي ما لهن طبيب ... وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب وحسبك أنَّ المرء في حال فقره ... تحمقه الأقوام وهو مصيب ومن تعتوره الحادثات بصرفها ... يمت وهو مغلوب الفؤاد سليب وما ضرني أنَّ قال أخطأت جاهل ... إذا قال كل الناس أنت مصيب وقال علي بن الجهم: سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة ... ودنى فؤادا من فؤاد معذب

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب وهذا معنى بليغ في العناق، أخذه من قول بشار: فبتنا معا لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور وأبلغ منه في هذا المعنى قول عبد الله من المعتز: ما اقصر الليل على الراقد ... وأهون السقم على العائد ويفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لمّا أوليت بالحاجد كأني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبنا من جسد واحد وهو مأخوذ من قول الآخر: خلوت فناداها ساعة ... على مثلها يحسد الحاسد كإنا وثوب الدجى مسبل ... علينا لمبصرنا واحد وابلغ من هذا عندي قول أبن الرومي: أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان؟ وألثم فاها كي تموت حرارتي ... فيشد ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذي بي من الهوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان فإن الامتزاج أخص مطلق الوحدة وأصرح في قطع العدة، وذلك في الأرواح أبلغ وأبدع منه في الأجسام، غير إنّه في الشعرين السابقين إخبار عن أمر هو واقع أو كالواقع، بخلاف هذا. ولابن عبدوس الفارسي في العناق أيضاً: لا والمنازل من نجد وليلتنا ... يفيد إذ جسدانا بيننا جسد كم رام فينا الكرى من لطف مسلكه ... نوما فما أنفك لا خد ولا عضد! وهو نحو ما للأولين وابلغ من حيث الجزم

واصلح بن موسى: لي سيدٌ ما مثله سيدٌ ... تصدت الحمى له فاشتكا عانقته عند موافاتها ... والأفق بالليل قد أحلو لكا فجاءت الحمى لعادتها ... فلم تجد ما بيننا مسلكا وهو نحو ما لابن الجهم وأبلغ منه لأن عدم نفوذ المعنى أغرب من عدم نفوذ الجسم. ولابن رشيق أيضاً: ومهفهفٍ يحميه عن نظر الورى ... غيران سكنى الموت تحت قبابه فلثمت خداً منه ضرم لوعتي ... وجعلت أطفئ حرها برضابه وضممته للصدر حتى استوهبت ... مني ثيابي بعض طيب ثيابه فكأن قلبي من وراء ضلوعه ... طرباً يخبر قلبه عما به ولابن معتز: يا رب إخوان صحبتهم ... لا يرفعون لسلوة قلبا لو تستطيع قلوبهم خرقت ... أجسامهم فتعانقت حبا وهذا أبلغ ما سمعنا في الباب وتركنا ما قيل في مطلق العناق. وهو كثير خشية الإطناب. وقال أبو قتبان المصري في باب المدح: رغبت لنفسي أن أكون مصاحباً ... أناساً قيدوا إلى الذل أصحبوا فجاورت ملكا تستهل يمينه ... ندى حين يرضى أو ردى حين يغضبُ تدور كؤوس الحمد طوراً فينتشي ... وطوراً تعني المرهبات فيطربُ عرفت فكان الانتساب زيادة ... وغيرك يخفيه الخمول فينسبُ وفي بعض ذا المجد الذي ظفرت به ... يدرك غنى عما بنى الجد والأبُ قضى الله أن يزداد بينك رفعة ... على أنه فوق النجوم مطنبُ وقال أبو العلاء: ردت لطافتة وحدة ذهنه ... وحش اللغات أو إنساً يخاطبه

كالنحل يجني المر من نور الربى ... فيعود شهداً في طريف رضابه وقال أبو المظفر: يا من يساجلني وليس بمدرك ... شأوي وأين له جلاله منصبي؟ وسيأتي تمام هذا الشعر بعد، إن شاء الله تعالى. وقال مالك بن المرحل: وبيداء كانت لي ضلوعاً تكنني ... كأني فيها لوعةٌ ووجيبُ وتحت قميص الليل مني مجمر ... وفوق رداء الصبح مني طيبُ وفي مقلة الظلماء مني موردٌ ... له بين أهداب السحاب دبيبُ وفي مبسم الإصباح مسواك إسحلٍ ... ولكنه مهما عجمت صليبُ فيقضي علي والليل أدعجٌ ... ويفصم عني الصبح وهو شنيبُ وقال الآخر يرثي صديقا له نصرانياً: أخي بوداد لا أخي بديانتي ... ورب أخٍ في الود مثل نسيبِ وقالوا أتبكي اليوم من لست صاحباً ... غداً؟ إنَّ هذا فعل غير لبيبِ ومن أين لا أبكي حبيبا فقدته ... إذا خاب منه في المعاد نصيبي؟ وقال بعض الأعراب: أحجاج بيت الله في أي هودجٍ ... وفي أي بيت من بيتوكم حبي؟ يقولون هذا آخر العهد منكم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي وقال الآخر: ليس ليوم البين عندي سوى ... مدامعٍ يجمعها سكبُ كأنما فض بأجفانها ... رمانةٌ فانتثر الحبُ وقال الآخر: والغصن قد مال نحو النهر فالتقيا ... على هوى حين غنى الطائر الطربُ فقبل النهر غصناً ثغره زهر ... وقبل الغصن نهراً ثغره حببُ وقال الآخر: قم أدرها فالليل رق دجاه ... وبدا طيلسانه ينجابُ

وكأن الصباح في الأفق بازٌ ... والدجى بين مخلبيه غرابُ وكأن السماء لجة بحر ... وكأن النجوم فيه عبابُ وسيأتي ما قيل في هذا المعنى من مختار الشعر. وقال محمد بن حسام الدين: ألا إنَّ أرض الغرب أفضل موطنٍ ... تساق إليه الواخذات النجائبُ ولو لم تكن في الغرب كل فضيلة ... لمّا حركت شوقا إليه الكواكبُ وقال الآخر: قوض خيامك عن أرض يهان بها ... وجانب الذل إنَّ الذل مجتنبُ وارحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطبُ وتقدم هذا المعنى مستوفي. وفي معناه أيضاً قول سهل بن مالك: منغص العيش لا يأمي إلى دعةٍ ... من كان ذا ولدٍ أو كان ذا بلدِ والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسن إلى أحدِ وقال لبن الخطيب: وإذا تنغصك الزمان ببلدةٍ ... فاطو المراحل كي تحوز كمالا لمّا توغل في السرى بدر الدجى ... أبصرته بدراً وكان هلالا وقال الآخر: مللت حمص وملتني فلو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدرِ وسولت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدرِ وقول القاضي عبد الوهاب لن نصر: بغداد دار لأهل المال والسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيقِ أصبحت أمشي مضاعاً في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديقِ وقال الآخر في ضده: لا يعدم المرء ركنا يستكن به ... وشعبه بين أهليه وأصحابهِ ومن نأى عنهم قلت مهابته ... كالليث يحقر لمّا غاب عن غابِ

ومثله قول الآخر: إنَّ الهزير إذا نأى عن غيضه ... ضربت له الأيدي على ترقيصه وكذا الغريب إذا نأى عن داره ... أدته غربته إلى تنقيصه ومثله قول الآخر: وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسعٌ ... فقلت ولكن مسلك الرزق ضيقُ إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم أك ذا مالٍ فمن أين أنفقُ؟ وقال أبن المهدي: واحن أيام الهوى يومك الذي ... يروع بالهجران فيه وبالعتبُ إذا لم يكن في الحب بسخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب؟ وقال الآخر: شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى تؤذنا بذهابِ لم تبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحبابِ وسيأتي ما في هذا المنزع من الشعر بعد إن شاء الله تعالى. وقال مالك بن المرحل: مذهبي تقبيل خد مذهب ... سيدي ماذا ترى في مذهبي؟ لا تخالف مالكا في رأيه ... فيه يأخذ أهل الغربِ وسيأتي ما قيل في التوجيه بعد إن شاء الله تعالى وقال عبد الجليل المرسي: ما للعذار وكان وجهك قبله ... قد خط فيه من الدجى محرابا؟ وأرى الشباب وكان ليس بخاشعٍ ... قد خر فيه راكعا وأنابا ولقد علمت بكون ثغرك بارقاً ... أن سوف يرمي للعذار سحابا وقال نجم الدين بن بطريق: أعاذك الله من همٍّ ومن نصب ... ولا لقيت الذي ألقى من الحربِ هذا زماني أبو جقلٍ وذا حربي ... أبو معيط وذا قلبي أبو لهبِ

وقال الآخر: قال حمار الطبيب قومي ... لو أنصفوني لكنت أركبُ لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي مركب وقال أبو الفتح البستي: إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فالحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان ساقطة لمّا غدا وهو بيت اللهو والطرب؟ قال أبو الحسن الوارد: يقولون: لاح الشيب فاله عن الصبا ... وعن قهوة تصبو لها وتنيب! فقلت: دعوني نصطبحها سلافة ... على صبح شيبي فالصبوح عجيب ومثله قول الآخر: وقالوا: أنَّ تلهو والشباب قد انقضى ... وعمرك قد ولى يبق طائل؟ وقال الآخر: وقائله: خل الهوى لرجاله ... فإن الهوى بعد المشيب جنون فقلت لها: إنَّ الهوى فيه راحة ... ألذ الكرى عند الصباح يكون وقال الآخر: ولائمة لي إذ رأتني مشمراً ... أهرول في سبل الصبا خالع العذر تقول: انتبه من رقدة اللهو والصبا ... فقد دب صبح الشيب في غسق الشعر فقلت لها: كفي عن اللوم واعلمي ... بأن ألذ النوم إغفاء الفجر! وقول أبن الساعاتي في ضده: لا تعجبين لطالب نال العلى ... كاهلا واخفق في الزمان المقبل! فالخمر تحكم في العقول مسنة ... وتدلس أوّل عصرها بالأرجل وقال كاشح في نتف الشيب: إذا ما مضى المنقاش يأتي بها أتت ... وقد أخذت من دونها جارة الجنب

كجان على السلطان يجزى بذنبه ... تعلق بالجيران من شدة الرعب ومثله قول أبن النبيه: اقتطف البيضاء من لمتي ... دأبا مع السوداء إذ تشرف فتخلف البيض بأمثالها ... وتعضب السودا فما تخلف حمامة السودان معروفة ... يعرفها من كان لا يعرف وقال أبن الخطيب: إني لمثلي من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب؟ لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالي الواعظ فعل خطيب وقال أيضاً: وقد كنت يهوى الروض طيب شمائلي ... ويمرح غص البان بين قبابي فمذ كتب الوخط الملم بعارضي ... حروفا أتى فيها بمحض عتابي نسخت بما قد خطه سنة الهوى ... وكم سنة منسوخة بكتاب! وقال أيضاً: وما كان إلاّ إنَّ جنى الطرف نظرة ... غدا لقلب رهنا في عقوبة ذنبه وما العدل أنَّ يأتي امروء بجريرة ... فيؤخذ في أوزارها جار جنبه وقال الآخر: قد قلت إذا سار السفين بهم ... والبين ينهب مهجتي نهبا: لو أن لي ملكا أصول به ... لأخذت كل سفينة غضبا وقال الآخر: رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب كأنك من كل النفوس مركب ... فأتت إلى كل النفوس حبيب وقال أبن أبي العافية: ودعتها ووداعها متضمن ... لوداع لذات الحياة وطيبها واصفر منها وجهها ففهمت ما ... معنى اصفرار الشمس عند غروبها

وسيأتي ما في هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال الآخر: عجبت لطيف زار في الليل مضجعي ... وآب ولم يشف الفؤاد المعذبا فأوهمني أمراً وقلت لعله ... رأى حالة لم يرضها فتجنبا وما ذاك من أمر يريب وإنّما ... رآني قتيلا في الدجى فتهيبا وسيأتي هذا أيضاً بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبو محمّد المصري: سلام على الشيب الذي لا أريده ... ولا قلت أهلاً حين جلى ومرحبا ولكنه ضيف كرهت قدومه ... وأكرمته إذ لم أجد عنه مذهبا وقال الميكالي: عيرتني ترك المدام وقالت: ... هل جفاها من الكرام أديب؟ هي تحت الظلام نور وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب قلت: يا هذه عدلت عن النصح ... وما للرشاد منك نصيب إنها للستور هتك وللألباب ... قتل وفي المعاد ذنوب وقال الآخر: دعتني إلى لهو التصابي وما درت ... بأن زمان اللهو عني ذاهب فقلت لها: مالي وللهو بعد ما ... تولى الصبا وازور للغيد جانب وقد وخطت بيض من الشعر لمتي ... تخبر إنَّ البيض عني رواغب أألهو وفجر الشيب قد لاح نوره ... بفودي، فقالت: أوّل الفجر كاذب وقال الآخر: أن استحسنت مقلتي غيركم ... أمرت السهاد بتعذيبها وعاقبتها بالبكا دائما ... لمّا استحسنت غير محبوبها فلما تنظر العين إلاّ إليك ... لأنك غاية مطلوبها وقال أبو محمّد بن عبد البر رحمه الله:

قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري فكان السجن منه ثوابي لم تعد في أمري الصواب موفقا ... هذا جزاء الشاعر الكاذب! وقال بعض الأدباء في طريق التورية: ومعطر الأنفاس يبسم دائما ... عن در ثغر زانه ترتيب من لم يشاهد منه عقد جواهر ... لم يدر ما التنقيح والتهديب ومثله أيضاً في هذا المعنى: قلت والشعر يشي في خده ... لام حسن سهلت لومي علي بحياة الحب كوني للرضى ... لام جر لا تكوني لام كي! وقال الآخر على هذا الطريق: هبت مع لفجر لميعادها ... فافتضح الشارق والغارب فجران ذلك الوجه أسناهما ... هل يستوي الصادق والكاذب؟ وقال آخر على قريب من هذا: دهر يمر وآمال مخيمة ... ولا أحتقاب يسوي وزر على الحقب تمضى الفروع على حكم الأصول ولا ... استذكار قلب ولا تمهيد منقلب خط المشيب على فوديك تذكرة ... بأن تنيب وحتى لأن لم تنب وقد نضى سيفه فأحذر صرامته ... فالسيف أصدق أنباء من الكتب! سلت عليك الليالي منه ذا شطبٍ ... في حده الحد بين الجد واللعب وكتب المستعصم بالله إلى أبن عمار على وجه العتب فيما بلغه عنه: وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحبا بعد صاحب فلم تراني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلاّ ساءني في العواقب ولا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب فأجابه أبن عمار بقطعة منها: فديتك لا تزهد وثم بقية ... سيرغب فيها عن وقوع النوائب! وابق على الخلصان إنَّ لديهم ... على البدء كراتٍ بحسن العواقب

وقال بعضهم، وقد زاره إخوان له: أهلاً وسهلاً بسادات لنا نجب ... كالذبل السمر أو كالأنجم الشهب! أجملتم وتفضلتم بزورتكم ... وليس ينكر فضل من ذوي حسب أضاء منزلنا من نور أوجهكم ... وطاب من عيشا ما كان لم يطب وقال أبن الرومي: أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب؟ هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه كالضرورة أوجب هو المهرب المنجى لمن أحدقت له ... مكاره دهر ليس عنهن مهرب وقال القاضي الفاضل في معناه: لا تلن للخطوب الحديد ما كان إلاّ ... حين أبدى لينا لحر اللهيب إنَّ ضرب الحديد ما كان إلاّ ... حين أبدى لينا لحر اللهيب وتقدم ما في هذا المنزع وهو كثير. وقال بعض الأعراب: لا يقنع الجارية الخضاب ... ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تلتقي الأركاب ... ويقعد الأير لعاب الأركاب جمع ركب بفتحتين، وهو ظاهر الفرج أو العانة أو منبتها؛ ويقعد معناها هنا يصير، أي يصير الأير وهو الذكر ذا لعاب. وقال الآخر: عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنياه سواه فهو من ذين أخيب وقال الحماسي: وإنَّ أتوك فقالوا إنّها نصف ... فإنَ أطيب نصفيها الذي ذهبا وينشد هذا الشعر على ضر آخر وهو: لا تنكحن عجوزا أو مطلقة ... ولا يسوقنها في حبلك القدر وإنَّ أتوك وقالوا إنّها نصف ... فإنَ أطيب نصفيها الذي غبرا وفيه عيب القافية. والنصف من النساء بفتحتين: المتوسطة. وقوله أخلع

ثيابك يحتمل أنَّ يريد به: انزع محبتك منها وتسل عنها ولا تلتفت إليها والثياب تطلق على لقلوب، فتطلق على المحبة باعتبار إنّها فيها. ومن الأول قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي شققت قلبه. ويصحان معا وفي قول امرئ القيس: وإنَّ كنت قد ساءتك مني خليفة ... فسلي ثيابك من ثيابك تنسل أي سلي قلبي من قلبك، أو محبتي من قلبك. وقيل في قوله تعالى:) وثيابك فطهر (، أي قلبك، ويكنى بالثياب عن الأعمال أيضاً. ورد إنَّ الميت يبعث في أثوابه أي أعماله. فائدة: ذكر أبو العباس أحمد بن عطاء الله أنَّ الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنهما بات ليلة، وضنها ليلة سبع وعشرين، بالمسجد الجامع وافتتح الصلاة، فجعل الأولياء يتساقطون عليه من كل ناحية، فلما اصبح قال: ما كانت البارحة إلاّ ليلة مباركة! سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا علي طهر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس في كل نفس! فقلت يا رسول الله، ما ثيابي؟ قال: كذا، وفسرها له بأخلاق قلبه ومقاماته؛ ونسيت اللفظ لطول العهد به. قال أبو الحسن: فعرفت حينئذ معنى قوله تعالى) وثيابك فطهر (. وقال الآخر: فإنَ تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب وهذا البيت من قصيدة، أضطرب في القائها، رثي بها رجل يقال له أبو المغوار، ورأيت أن أثبتها هنا مع طولها، لحسنها واشتمالها على الأمثال وهي: تقول سليمى: ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب؟ فقلت، ولم يعي الجواب لقولها ... للدهر في صمم الإسلام نصيب: تتابع أحداث تخر من اخوتي ... وشيبن رأسي والخطوب تشيب لعمري لئن كانت أصابت منية ... أخي والمنايا للرجال شعوب لقد عمجت منا الحوادث ماجداً ... عروفا لريب الدهر حين يريب

وقد كان أما حلمه فمروح ... علينا وأما جهله فعيزب فتى الحرب إنَّ حاربت كأنَّ سهامها ... وفي السلم مفضال الدين وهوب هوت أمه ماذا تضمن قبره ... من الجود والمعروف حين يؤوب؟ جموع خلا الخير من كل جانب ... إذا جاء جياء بهن ذهوب مفيد مفيت الفائدات معود ... لفعل الندى والمكرمات كسيب فتى لا يبالي إنَّ يكون بجسمه ... إذا نال خلات الكرام شحوب غنينا بخير حقبة ثم جلحت ... علينا التي كل الأنام تصيب فأبقت قليلاً ذاهبا وتجهزت ... لأخر والراجي الخلود كذوب واعلم أنَّ الباقي الحي منهما ... إلى أجل أقصى مداه قريب فلو كان حي يفتدى لفديته ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب بعيني أو يمنى يدي وإنني ... ببذل فداه جاهدا لمصيب فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب أخي كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدهر حين تنوب عظيم رماد النار رحب فناؤه ... إلى سند لم يحتجنه غبوب قريب ثراه ما ينال عدوه ... له نبطا أبي الهوان قطوب لقد افسد الموت الحياة أتى ... على يومه علق إلي حبيب حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب إذا ما تراه أه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب على خير ما كان الرجال نباته ... وما الحظ إلاّ طعمة ونصيب ويروى: على خير ما كان الرجال خلاله ... وما الخير إلاّ قسمة ونصيب حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... ويدعوه الندى فيجيب هو العسل الماذي لينا وشيمة ... وليث إذا يلقى العدو غضوب

حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب؟ كعالية الرمح الرديني لم يكن ... إذا ابتدر الخير الرجال يخيب أخو شتوات يعلم الحي إنّه ... سيكثر ما في قدره ويطيب ليبكك عار لم يجد من يعينه ... وطاوي الحشى نائي المزار غريب تروح تزهاه صبى مستطيفة ... بكل ذرى والمستزاد جذيب كأن أبا المغمور لم يوف مرقبا ... إذا ربا القوم الغزاة رقيب ولم يدع الفتيان كرامة لميسر ... إذا هب من ريح الشتاء هبوب إذا حل لم تقصر مقامة بيته ... ولكنه الأدنى بحيث يجيب حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيى شب وهو أديب يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب كأن بيوت الحي ما لم يكن بها ... بسابس لا يفنى بهن غريب إذا شهيد الايسار أو غاب بعضهم ... كفى ذاك وضاح الجبين نجيب ويروى: وإن شهدوا أو غاب بعض حماتهم ... كفى ذاك وضاح الجبين أريب وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى؟ ... فلم يستجيه عند ذاك مجيب فقلت: ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب! ويروى: يجبك كما قد كان يفعل إنّه ... نجيب لابواب العلاء طلوب فاني لباكيه وإني لصادق ... عليه وبعض القائلين كذوب فتى اريحي كان يهتز للندى ... كما اهتز ماضي الشفرتين قضيب وخبرتماني إنّما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا روضة وكثيب؟ وقال جميل بن معمر بن عبد الله العذاري: وقالوا: يا جميل أتى أخوها ... فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب

احبك إنَّ نزلت جبال حسمى ... وإنَّ ناسبت بثنة من قريب وكانت حفصة بنت عمران مات عنها زوجها فخاطبها عبد الله بن الحسين بن حسن بن علي وإبراهيم بن هشام. فكان أخوها محمد بن عمران إذا دخل على إبراهيم أنشدت إبراهيم متمثلا: وقالوا: يا جميل أتى أخوها البيت وقال أبو محمد الحريري رحمه الله: وقع الشوائب شيب ... والدهر بالناس قلب إنَّ دان يوما لشخص ... ففي غد يتقلب فلا تثق بوميض ... من برقه فهو خلب وإذا هو أضرى ... بك الخطوب وألب فما على التبر عار ... في النار حين يقلب وقال أيضاً: لجوب البلاد مع المتربة ... احب ألي من المرتبة لأن الولاة لهم نبوة ... ومعتبة يا لها معتبة وما فيهم من يرب الصنيع ... ولا من يشيد ما رببه فلا يخدعنك لموع السراب ... ولا تأت أمرا إذا ما اشتبه فكم حالم سره حلمه ... وأدركه الروع لمّا انتبه وقال أيضاً: فاليوم من يعلق الرجاء به ... اكسد شيء في سوقه الأدب لا عرض أبنائه يصان ولا ... يرقب فيهم آل ولا نسب كأنهم في عراصهم جيف ... يبعد من نتنا ويجتنب وهذا منزع سيأتي ذكر ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أيضاً: سل الزمان علي عضبه ... ليروعني وأحد غربه واستل من جفني كراه ... مراغما وأساله غربه وأجالني في الأفق اطوي ... شرقه وأجوب غربه

فبكل جو طلعه ... في كل يوم لي وغربه وكذا المغرب شخصه ... متغرب ومواه غربه الغرب الأول حدّثني السيف والغرب الثاني مجرى الدمع والثالث ضد الشرق والرابع فعلة من الغروب يقال: غرب غربة وطلع طلعة والخامس البعد يقال: نوى غربة أي بعيده. قال طرفة: أخبرك إنَّ الحي فرق بينهم ... نوى غربة ضرابة لي كذلك وفسرت هنا أيضاً بالحدة وهي من معانيها وغربة النوى بعدها. وقال أيضاً: لا تيأسن عند النوب ... من فرجة تجلو الكرب فلكم سموم هب ثم ... جرى نسيما وانقلب وسحاب مكروه تنشى ... فاضمحل وما سكب ودخان خطب خيف منه ... فما استبان له لهب ولطالما طلع الأسى ... وعلى تفيئته غرب فاصبر إذا ما ناب رو ... على فالزمان أبو العجب وترج من زوح الإله ... لطائف لا تحتسب وقال أيضاً: لعمرك ما تغني المغاني ولا الغنا ... إذا سكن المرء الثرى وثوى به فجد في مراضيه الله بالمال راضيا ... بما تقتني من اجره وثوابه وبادر به صرف الزمان فانه ... بمخلبه الاشقى يصول ونابه ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره ... فكم خامل أخفى عليه ونابه وعاص هوى النفس الذي ما أطاعه ... أخو ضلة إلاّ هوى من عاقبه ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يضاهي الوبل حال مصابه ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقاه ومعظم صابه

وإنَّ قصارى مسكن الحي حفرة ... سينزلها مستنزلا عن قبابه فواها لعبد ساءه سوء فعله ... وأبدى التلافي قبل إغلاق بابه وقال أيضاً: اصرف بصرف الراح عنك الأسى ... وروح القلب ولاتكتئب وقل لمن لامك فيما به ... تدفع عنك الهم: قدك اتئب! وهذا مما يتمثل به أهل المجون لكنه بصدد أن يستعمل في الجد وخمر المحبة والعرفتن والأنس الرحماني، يعرف ذلك ذوو البصائر. وقال أيضاً: فإنَ فطنتم للحن القول بان لكم ... صديقي ودلكم طلعي على رطبي وإن شهدتم فإنَ العار فيه على ... من لا يميز بين العود والخشب وقال الآخر: ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتبُ ومن يتتبع حاهداً كل عثرةٍ ... يجدها ولا يبقى له الدهر صاحبُ وتقدم هذا المعنى وما فيه. ويحكى أنَّ يزيد بن عبد الملك بلغه أيام خلافته أنَّ أخاه هشاماً ينتقصه. فكتب إليه معاتبا له: مثلي ومثلك كما قال الأول: تمنى رجالٌ أن أموت فإن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ لعل الذي يبغي ردائي ويرتجي ... به قبل موتي أن يكون هو الردي فكتب إليه هشام إنّما مثلي ومثلك كما قال الأول: ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب فكتب إليه يزيد: نحن مغتفرون لك ما كان منك، حفظا لوصية أبينا فينا، وحضه إيانا على إصلاح ذات البين، وأنا أعلم كما قال معن بن أوس: لعمرك ما أدري لأوجل ... على أينا تعدو المنية أولُ وإني على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفحٍ على ذاك مجماُ

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تبدلُ! إذا سؤتني يوما رجعت إلى غدٍ ... ليعقب يوماً منك آخر مقبلُ ويركب حدّثني السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحلُ وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحولُ إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبلُ فلما جاء الكتاب هشاما رحل إليه فلم يزل في جواره حتى مات خوفا من شر الوشاة. وقال المولى أبو حمو موسى بن يوسف الملك الزياني: الحب اضعف جسمي فوق ما وجبا ... والشوق رد خيالي بالسقام هبا والبين أشعل نار الوجد في كبدي ... والدمع يضرمها في القلب واعجبا! وماءٌ ونارٌ وأكبادي لها حطبٌ ... لكن عذابي به للحب قد عذبا ما كنت أدريهما حتى صحبتهما ... كرهاً وقد يكره الإنسان من صحبا وقال الآخر: كل يومٍ قطيعةٌ وعتابٌ ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب ليت شعري فهل خصصت بهذا ... أنا وحدي أم هكذا الأحبابُ؟ وتقدم هذا الشعر إلاّ أنَّ له حكاية تذكر. قال الجاحظ: بعث إلي المتوكل لتأديب ولده. فلما رآني استبشع منظري وأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. فلما خرجت من عنده لقيت محمد بن إبراهيم يريد الانحدار في سفينة إلى مدينة السلام، فركبت معه. فأمر يوما بنصب أستاره وأمر عوادة عنده أن تغني، فأخذت العود وغنت: كل يوم قطيعة وعتاب البيتين ثم سكتت. فأمر طنبورية كانت عنده أن تغني فأخذت الطنبور وغنت: وارحمة للعاشقين ... ما أرى لهم معينا! كم يظلمون ويهجرو ... ن ويقطعون فيصبرون! فقالت العوادة: وماذا يصنعون؟ فقالت: يصنعون هكذا! فهتكت الستارة ورمت بنفسها في الماء. وكان على رأس محمد غلام مثلها في الجمال، بيده مدية. فلما رأى ما

صنعت ألقى المدية وجاء إلى الموضع الذي رمت بنفسها منه فقال: أنت الذي غرقتني ... بعد القضا لو تعلمين لا خير بعدك في البقا ... والموت زين العاشقين ثم رمى بنفسه في أثرها وعانقها في الماء، فكان آخر العهد بهما. فعظم الأمر على محمد والتفت إلي وقال: يا عمرو، حدثني بحديث تسليني به عن هذين، وإلاّ لحقت بهما! فقالت: جلس سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم فعرضت عليه بطاقة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يخرج ألي جاريته فلانه حتى تغني لي ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ وأمر بإحضاره. فلما حضر قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك. فسري عنه وأمره بالجلوس وأمر الناس بالانصراف. ثم أمر بإخراج الجارية فجاءت بعودها وجلست. فقال لها الفتى: غني لي: تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهدِ وزاد كما زدنا وأصبح ناميا ... وليس وإن متنا بمنتقض العهدِ ولكنه باقٍ على حاله كذا ... وزائد ما في ظلمة القبر واللحدِ فلما غنته طرب طربا شديدا وقال: فداؤك أبي وأمي! قال: غني لي: إذا قلت: مابي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابتٌ ويزيدُ وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيدُ يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها ويعودُ فلما غنت طرب طربا أعظم من الأول وقال: فدتك نفسي! ثم قال: غني لي: مني الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهرُ والله لا أنساكم أبداً ... ما لاح نجم أو بدا بدرُ فما أتمتها حتى زج بنفسه في الهواء ثم انعكس على دماغه وسقط بالأرض فإذا هو ميت. فقال سليمان: عجل على نفسه. والله ما أخرتها إلاّ على ملكه! يا غلام خذ بيدها وانطلق بها فإن كان له أهل وإلاّ بيعت وتصدق بثمنها عليه. فانطلق بها، فلما توسطت الدار رأت حفرة أعدت لماء المطر فقالت:

من مات عشقا فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت! ثم جذبت بيدها من يد الغلام، وألقت بنفسها في الحفرة على دماغها فماتت. قال: فسيري عن محمّد ووصلني وكساني. قال ثم حدثت بهذا الحديث محمّد بن جعفر الأخباري فقال: كان محمّد بن حميد الطوسي يوما مع ندمائه، فغنت جارية له: يا قمر القصر متى تطلع؟ ... أشقى وغيري بك يستمتع إنَّ كان ربي قد قضى ما أرى ... منك على رأسي فما أصنع؟ وكان على رأس محمّد بن حميد غلام بيده قدح يسقيه به. فرما بالقدح من يده وقال: تصنعين هكذا! ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة. فلما رأت ذلك الجارية قامت ورمت بنفسها على أثره، فكان آخر العهد بهما. وقال آخر من الطفيليين: كل يوم أدور في عرصة الدار ... أشم القتار شم الذباب فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أرهب ... شتما ولكزة البواب مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هياب ذاك أهنا من التكلف والعز ... م وشتم البقال والقصاب وكان هذا الطفيلي أتى وليمة فأقتحم الدار وأخذ مجلسه من الناس فأنكره صاحب المنزل وقال له: لو صبرت حتى يؤذن لك لكان أحسن لأدبك فقال: إنّما واطراحها صلة. وجاء في الأثر: صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك! ثم إني أجمع فيها خلالا: أدخل مجالسا، وآكل موانسا، وأبسط رب دار وإنَّ كان عابسا وانشد ما تقدم. وقال الآخر: كنا نعاتبكم ليالي ... عودكم حلو المذاق وفيكم مستعتب

فالآن حين بدا التنكر منكم ... ذهب العتاب وليس عنكم مذهب يحكى أنَّ قينة أجتمع عند أربعة من عشاقها، وكل يخفي أمره عن الآخرين. وكان أحدهم غائبا فقدم، والثاني عزم على السفر، والثالث قد انقضت أيامه، والرابع كما ابتدأ. فضحكت إلى الأول، وبكت إلى الثاني، وأبعدت الثالث، وأطمعت الرابع. وانشدها كل منهم ما يشاكل حاله، وأجابته بمثل ذلك. فقال لها القادم: جعلت فداك أتستحسنين: ومن ينأ عن دار الهوى يكثر البكا ... وقول لعل أو عسى ويكون وما اخترت نأي الدار عنك لسلوة ... ولكن مقادير لهن شجون فقالت: نعم! وأنا أحذق بقول مطارحه، ثم غنت: وما زلت مذ شطت بك الدار باكيا ... أو مل منك العطف حين تؤوب؟ فأضعف ما بي حين أبت وزدتني ... عذابا وإعراضا وأنت قريب وقال الذي عزم على السفر: جعلت فداك! أتحسنين: أزف الفراق فأعلني جزعا ... ودع العتاب فإنما سفر إنَّ المحب يصد مقتربا ... فإذا تباعد شفه الذكر فقالت: نعم! وأحسن من شكله. ثم غنت: لأقيمن مأتما عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النحيب ربما أوجع النوى للقلوب ... ثم لا سيما فراق الحبيب وقال الذي انقضت أيامه: جعلت فداك! أتحسنين: كنا نعاتبكم ليالي عودكم البيتين السابقين. فقالت: ولكن أحسن في معناه، ثم غنت: وصلتك لمّا كان ودك خالصا ... وأعرضت لمّا صرت نهبا مقسما ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... على كثرة الوراد أنَّ يتهدما وقال الذي أقبلت أيامه جعلت فداك! أتحسنين: إني لأعظم أنَّ أبوح بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتفهمي وعليك عهد الله إنَّ أثبته ... أحدا وإنَّ آذنته بتكلم

فقالت: نعم! واحسن في معناه. ثم غنت: لعمرك ما استودعت سري وسرها ... سوانا حذار أنَّ تذاع السرائر! أكاتم ما بالقلب بقيى على الهوى ... مخالفة أنَّ يغرى بذلك ذاكر فانصرفوا، وكل قد لوح بحاجته، واخذ جوابه. وقالت امرأة كان زوجها غائبا عنها فذكرته: تطاول هذا الليل وأسود جانبه ... وأرقني ألا خليل ألاعبه فو الله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه وبت إلا هي غير بدع منعما ... لطيف الخشا لا يحتويه مصاحبه يلاعبني فوق الحشايا وتارة ... يعاتبني في حبه وأعاتبه ولكنني أخشى رقيبا موكلا ... بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه مخافة ربي والحياء يصونني ... وحفظا لبعلي أنَّ تنال مراكبه ويروى أنَّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه خرج ليلا فسمع هذا المرأة تنشد، فلما فرغت من الشعر المذكور، تنفست الصعداء وقالت لهان على أبن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني. فتأوه عمر لذلك ووجه في إقبال زوجها، وسأل النساء كم تصبر المرأة عن الزوج، فقلن أربعة اشهر، فجعل ذلك غاية الغيبة في المغازي كما في الايلاء وقيل ستة اشهر. وفي الشعر المذكور اختلافات كثيرة. وقال الآخر: رب ليل أمد من نفس العا ... شق طولا قطعته بانتحاب وحديث ألذ من نظر الوا ... مق بدلته بسوء العتاب يحكى عن خالد الكاتب قال: دخلت دير فإذا أنا بشاب جميل موثق، فسلمت عليه فرد علي وقال: ومن أنت: فقلت خالد بن يزيد. وقال: صاحب الشعر الرقيق؟ فقلت: نعم! قال: إنَّ رأيت أنَّ تفرج عني بعض ما أنا فيه بإنشاد شيء من شعرك ففعل! فأنشده:

ترشفتُ من شفتيها عقاراً ... وقبلت من خدها جلنارا وعانتفت منها كثيباً مهيلاً ... وغصناً رطيباً وبدراً أنارا وأبصرت من نورها في الظلا ... م ثال بكل مكان بليلٍ نهارا فقال: أحسنت لا فضض الله فاك! ثم قال: أجزاي هذين البيتين وأنشد: ربَّ ليلٍ أمد من نفس العاشق البيتين. قال خالد: فو الله لقد أعملت فكري وحاولت في الزيادة عليها فلم أقدر! وقال أبن بسام الورد: أما ترى الورد يدعو للورود على ... حمراء صافيةٍ في لونها صهبُ؟ مداهنٌ من يواقيت مركبةٍ ... على الزبرجد في أجوفها ذهبُ خاف الملالة إذ طالت إقامته ... فصار يظهر حيناً ثم يحتجبُ وسيأتي ذكر ما في هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال الآخر: إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه أي إذا لم يكن صاحب هبة وعطية فدولته ذاهبة لا بقاء لها. وقال التنسي: غن أهل العلم قوم سادة ... ما على نور سناهم من حجاب من عداً يجحد جهلا حقهم ... حاق في الأخرى به سوء العذاب وقال أيضاً: من يكن بأبيه والأم براً ... فهو من ربه بوصف اقترابِ وقال إبراهيم بن حسان: يشين الفتى في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه وقال الآخر: ألم تر أنَّ العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التحاربِ وقال الآخر:

وما سمى الإنسان إلاّ لأنسه ... ولا القلب إلاّ أنه يتقلبُ وقال الآخر: عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولا ولا صعبا! وسيأتي هذا المعنى. وقال أبن المعتز: لحومهم لحمي وهم يأكلونه ... وما داهيات المرء إلاّ أقاربه ومن كلام الكندي في هذا: الأب رب، والجد كد والولد كمد والأخ فخ والعم غم والخال وبال والأقارب عقارب وإنّما المرء بصديقه. ولبعضهم فيه: أقاربك العقارب في أذاها ... فلا تركن إلى عم وخال فكم عم أتاك الغم منه ... وكم خالٍ من الخيرات خالِ وقال أبن الرومي: عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرن من الصحاب! فإنَ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وهذا منزع يتسع فيه القول أستوفي في غير هذا الموضع. وقال الآخر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلا أن تعد معليبه وقال أبن الرومي: ومن قلة الإنصاف أنك تبتغي ... مهذب أخلاقٍ ولست مهذبا وقال إبراهيم بن هرمة: فإنك وأطرا حك وصل سلمى ... لأخرى في مودتها نكوبُ كثاقبةٍ لحلي مستعارٍ ... لأذنيها فشانها الثقوبُ فأدت حلي جارتها إليها ... وقد بقيت بأذنيها ندوبُ وحاصل هذا الشعر وفحواه أنه لا ينبغي لك أن تطرح صاحبك إلى صاحب آخر وأنت تجد فيه إلاّ مثل ما في الأول أو شراً منه. فعليك بالصفح والغفران والاستبقاء على

الخلان. وقال صالح بن عبد القدوس: إذا وترت امرؤا فأحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا إنَّ العدو وإنَّ أبدى مسالمة ... إذا رأى منك يوما فرصة وثبا وتقدم هذا في الباب الأول. وقال الآخر:: قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع بعد الكبر الأدب إنَّ الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب وقال الآخر: فما خلق الله مثل العقول ... ولا اكتسب المرء مثل الأدب وما كرم النفس إلاّ التقى ... ولا حسب المرء إلاّ النسب وفي العلم زين لأهل الحجى ... وآفة ذي الحلم طيش الغضب وقال كشاجم: لم أرض عن نفسي مخافة سخطها ... ورضى الفتى عن نفسه إغضابها ولو إنني عنها رضيت لقصرت ... عما تزيد بمثله آدابها وتبينت آثار ذاك فأكثرت ... عذلي عليه وطال فيه عتابها وقال الآخر: احب مكارم الأخلاق جهدي ... واكره إنَّ أعيب وإنَّ اعابا واصفح عن يباب الناس حلما ... وشر الناس من يهوى السبابا ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا وقال الآخر: فيا رب السنة كالسيوف ... تقطع أعناق أربابها! وقال عبد الله بن سليمان بن وهب: نوائب الدهر أدبتني ... وإنّما يوعظ الأديب فذقت حلوا وذقت مرا ... كذاك عيش الفتى ضروب

لم يمض بؤس ولا نعيم ... إلاّ ولي منهما نصيب كذاك من صاحب الليالي ... تعروه في أمرها الخطوب وقال أبو الأسود: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب وقال الفضل بن العباس بن عتبة: وقد ترفع الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب ويحمد في الأمر الفتى وهو مخطئٌ ... ويذل في الإحسان وهو مصيب وقال النمر بني تولب: ولا تغضبن على امرئ في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فأغضب وقال النابغة: فإنَ يك عامر قد قال جاهلاً ... فإنَ مظنة الجاهل الشباب وقال عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب وقال الآخر: لمعرك ما ود اللسان بنافعٍ ... إذا لم يكن أصل المودة في القلب وقال الآخر: وما الدهر والأيام إلاّ كما ترى: ... رزية مال أو فراق حبيب وقال الآخر: ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب وقال الكميت: إذا لم يكن إلاّ الأسنة مركب ... فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها وقال أيضاً: أيا موقد ناراً لغيرك ضوءها ... وياحاطبا في حبل غيرك تحطب! وقال أبن المعتز:

وإنَّ فرصة أمكنت من العدى ... فلا تبد فعلك إلاّ بها وقال محمود: كم من حريص على شيء ليدركه ... وإنَّ إدراكه يدني إلى عطبه وقال السري الموصلي: إذا الحمل الثقيل توزعته ... اكف القوم خف على الرقاب وقال أعرابي يهجو بنيه: إنَّ بني كلهم كالكلب ... إبرهم أولاهم بنسب لم يغني عنهم أدبي وضربي ... ولا أتساعي لهم وحربي فليتني بت بغير عقب ... أو ليتني كنت عقيم الصلب وقال النابغة يمدح غسان: ولا عيب فيهم غير إنَّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ويروى إنَّ عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال لعبد الملك بن مروان: أريد إنَّ تعطيني سيف أخي عبد الله بن الزبير. فقال له: هو بين السيوف ولا أميزه. فقال: إذا أحضرت ميزته أنا. فأمر عبد الملك بن مروان بإحضاره. فلما أحضره اخذ عروة سيفا مفلول الحد وقال: هذا سيف أخي. فقال عبد الملك: أكنت عرفته قبل اليوم؟ قال: لا قال: فكيف عرفته؟ قال: عرفته بقول النابغة: ولا عيب فيهم غير إنَّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقال بعض المتأخرين قبل عصرنا بقريب: وهبني جهلت النحو يزري بقسطه ... ففيم ارزق في المعاني الغرائب؟ وكان هذا القائل مزجى البضاعة في النحو وله قريحة لا بأس بها. يحكى إنّه مدح بعض ملوك مراكش بقصيدة فكأنه رأى غضاضة من قبل الأعراب فقال ذلك. وهذا البيت مما يتعلق به في وقتنا البطالون عند الاعتذار عن التقصير في درك الأشياء. وكان هذا الرجل شبيها بالمعمار في زمنه وكان المعمار أحد الأدباء له شعر رائق ذكر كثير منه أبو بكر بن حجة الحموي في كتابه تقديم أبي بكر غير إنّه يقع في شعره أمور لا تساعدها العربية.

وقال سحيم الفقعسي: وأكتم الأسرار لكن ابنها ... ولا ادع الأسرار تلغي على قلد وإنَّ قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جانبا إلى جند وهذه سخافة وسقاطة. ولولا أنَّ الكتاب بصدد أنَّ يذكر فيه ما يتمثل به إنَّ كان ما عجز على مثل هذا الكلام، لمنافاته الخلق الجميل. وقلت أنا معارضا له على هذا الأسلوب: لعمرك ما من بث سرا بذي لب ... ولا حاشاه منه أمسى على كرب ولكن أخو الحلم الذي ما أذعته ... تنساه حتى ليس يهجس بالقلب وفي الخبر: من أسر إلى أخيه سراً لم يحل له أنَّ يشفيه. وقال عمر رضي الله عنه: من كتم سره كان خياره بيده. وقال أكثم بن صيفي: سرك من دمك، فأنظر أين تريقه! وقال بعضهم: ولو قدرت على نسيان مثال أشتملت ... مني الضلوع من الأسرار والخبر لكنت أوّل من ينسى سرائره ... إذ كنت من نثرها يوما على خطر ويقال: من ضاق صدره، اتسع لسانه. وسيأتي ما قيل في كتمان السر مستوفي. وقال آخر في طبيب: لأبي العيص ألف قتيل ... كان يوم وليس ذا بعجيب أيّها الناس إنَّ ذا لغريبٌ ... ملك الموت في ثياب طبيب وقال آخر: عد عني لست من أربي ... كان هذا حين كنت صبي وجنة كانت أبا لهب ... فغدت حمالة الحطب وقال أبن المعتز: شهر الصيام مبارك ... لو لم يكن في شهر آب

خفت العذاب فصمته ... فوقعت في عين العذاب وقلت أنا معارضا على هذا الأسلوب: شهر الصيام مارك ... ولا سيما في شهر آب إنَّ الصدى في حره ... يشفي صدى يوم الحساب وينيل ورد السلسبيل ... ورشف معسول الرضاب وقال أبو الغريب: سقيا لعهد خليل كان يأدم لي ... زادي ويذهب عن زوجاتي الغضب كان الخليل فأضحى قد تخونه ... مر الزمان وتطيعني به الثقب يا صاح بلغ ذوي لزوجات كلهم ... أنَّ ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب! كان أبو الغريب هذا شيخا، فتزوج ولو يولم. فاجتمع الفتيان ول خبائه، فصاحوا به: أولم ولو بيربوع، ولو بقدرٍ، مجدوع، قتلتنا من الجوع! فأولم. فلما عرس غدوا عليه فقالوا: يا ليت شعري عن أبي غريب ... إذ بات في مساحب وطيب معانقا للرشا والربيب ... أأجمد المحفار في القليب أم كان رخوا يابس القضيب؟ فصاح: يابس القضيب والله! ثم انشأ يقول: سقيا لعهد الخليل " الأبيات ". يريد قضيبه. وقوله عرى الذنب يريد عرى الذكر، وهو العصب. وقال الحماسي أنخ فاصطنع قرصا إذا اعتادك الهوى ... بزيت لكي يكفيك فقد الحبائب إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... نسيت وصال الغنيات والكواعب فدع عنك أمر الحب لا تذكرنه ... وبادر إلى تمر معد ورائب وفي هذا الكلام خلل وتدافع يغتفر في جانب الهزل والتلميح. ومن معنى هذا ما روي أنَّ حميد المهلبي، وكان من النعماء، جلس يوما إلى

قينة كاز يهواها، فجعلت تحدثه. فلما طال المجلس وغلب عليه الجوع قال لها: مالي لا أسمع للغداء ذكراً؟ فقالت له: أما تستحي؟ أليس في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها جعلت فداك! لو أنَّ جميلاً وبثينة جلسا ساعة يتحدثان ولم يأكلا فيها شيئاً لبصق كل منهما في وجه صاحبه وافترقا! ولعل هذا القد يكفي من الباب، فلنمسك العنان خشية الطول،) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (.

باب التاء والمثناة

باب التاء والمثناة تتابعي بقر! يقال بعت الرجل بالكسر أتبعه إذا مشيت وراءه؛ وكذا أتبعته، وتتابعوا: اتبع بعضهم بعضا، والبقر معروف يطلق على الإنسية المعروفة وعلى الوحشية، كقول الشاعر يصف نساء: أشبهن من بقر الخلساء أعينها ... وهن أحسن من صيرانها صورا وهن أربع أصناف: المها والأيل واليحمور والتيثلز وأصل المثل أنَّ بشر بن الحارث الأسدي خرج في سنة جهد وجدب، فمروا ببقر فنفرت منهم، فقام على راس الجبل ورماها بقوسه، فجعلت تلقي نفسها وهو يقول: تتابع بقر!، حتى تكسرت ثم رجع إلى قومه فأعلمهم بها فأخذوها. يضرب عند تتابع الأمر وسرعته. وعلى هذا فبقر منادى، تتابعي يا بقر. وحذف منه حرف النداء وإنَّ كان اسم جنس، وهو جائز على قلة، كقوله: ثوبي حجر! وقال الشاعر: فقلت له: عطار هلا أتينا ... بريح الخزامى أو بخوضة عفرج؟ أتبع الفرس لجامها، والناقة زمامها، والدلو رشاءها. ويقال أيضاً: أتبع المهرة لجامها الخ. وتقول اتبعت زيداً إذا سبقك فلحته، واتبعته كذا إذا جعلت ذلك تابعا له: والفرس معروف، يقع على الذكر والأنثى والمهر ولد الفرس، وقيل أوّل ما ينتج منه ومن غيره؛ والأنثى مهرة. قال عنترة: لمّا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب! وقال حميدة بنت النعمان بن بشير: وما أنا إلاّ مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل

والناقة معروفة، جمعها ناق ونوق وانوق ويهمز واونق واينق على القلب وانواق والزمام بكسر الزاي: ما يشد به جمعه أزمة والدلو معروف مؤنث وقد يذكر جمعه أدل ودلاء ودلي والرشاء بكسر الراء والمد: الحبل وهمزته مقلوبة عن واو جمعه ارشية وقال زهير: فشج به الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء أي شج هذا الحمار المذكور يعني علا بها أي بالأتان الاماعز وهي الأمكنة الغليظة وهي تهوي أي تسرع إسراع الدلو أسلمها الرشاء أي انقطع عنها حبلها فهوت إلى قعر البئر ولا أسرع منها حينئذ ومعنى جملة المثل ظاهر وهي عند التفصيل ثلاثة أمثال ومقصدها واحد تضرب عند الأمر باستكمال المعروف وإتمام الصنع. وسببه إنَّ ضرار بن عمرو أغار على حي عمرو بن ثعلبة وعمرو غير حاضر. فلما حضر تبعه فلحقه قبل أن يصل إلى أرضه فقال له: " رد علي أهلي ومالي! " فردهما عليه فقال له: " رد علي قياني! " فرد عليه القينة الرابعة وحبس ابنتها سلمى. فقال له حينئذ: " يا أبا قبيضة اتبع الفرس! " الخ. وفي معنى الجملة الأخيرة قول الحماسي قيس بن الخطيم: إذا ما شربت أربعا خط مأرزي ... واتبعت دلوي في السماح رشاءها يقول إذا شربت من الراح أربعا: يعني أربع اكؤس خط مأرزي أي جررت ردائي خيلاء واتبعت دلوي في السماح رشاءها أي تخلقت بالسماحة والفضل فأعطيت البذل وأوسعت الطول. وهم يفتخرون بالسماح حال السكر لأن ذلك من مكارم الأخلاق التي يحركها الثمل والنشوة كما قال طرفة: لا تعز الخمر إن طافوا بها ... بسباء الشول والكوم البكر فإذا ما شربوها وانتشروا ... وهبوا كل آمون وطمر ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر والآمون كصبور التي يؤمن عثارها من النوق والطمر الوثاب من الخيل. يقول: إذا سكروا جادوا بالنجائب من الإبل والعتاق من الخيل. وقوله يلحفون الأرض هداب

اتبع من الظل.

الأزر أي يجرون هداب الأزر على الأرض. هو كصدر بيت أبن الخطيم. وابلغ من هذا في الافتخار واشمل للوصف بالسماح حالتي السكر والصحو معا قول عنترة: فإذا انتشيت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما اقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي وكقول امرئ القيس يمدح أخاه سعد بن الضباب: وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله من يزيد ومن حجر سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر وهذا من الشعر الذي يوضع على كرائم الإحداق وترصع به نفائس الأطواق غير أن فيه ثلبا خفيفا هو توالي القبض! ومن ذا الذي يسلم من الاعتراض عند العرض؟ وقول طرفة " لا تعز الخمر إن طافوا بها " يريد: لا يعجزون عن شرائها لغلائها إنَّ جاءوا مريدين لها بل يبذلون فيها الشول والكوم البكر أي التي بكرت بالنتاج وهي احب أموالهم وهو كقول عنترة: بذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم وتقدم تفسيره. وهذا الوصف مدح عندهم لكن ما دام باقيا على سنن الاقتصاد والعدل وقد يمتدحون بإنفاق المال في النوائب واقتناء المحامد وترك أنفاقه في الشهوات كقول زهير في حصن بن حذيفة: أخ ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله ومحتمل لأن يكون نفيا للوصف الخاص وهو الإتلاف في الخمر أو الفعل من اصله وهو الأنفاق فيها المؤدي إلى ذلك. اتبع من الظل. الاتباع تقدم والظل معروف قيل وهو الفيء وقيل الظل بالغداة والفيء بالعشي وقد يستعمل في سواد الليل. قال ذو الرمة:

اتجر من عقرب.

قد اعرف النازح المجهول معسفه ... في ظل اخضر يدعو هامه البوم قال في الصحاح: وهو استعارة لأن الظل في الحقيق إنّما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع. فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل. والمقصود من المثل إنَّ ظل الحيوان ونحوه تابع له أينما تحرك وملاصق له أينما تقلب لا يفارقه ولا يتلكأ عنه فضرب به المثل لذلك في كل تابع. ويسمى الظل تبعا على مثال سكر أما لهذا المعنى وأما لأنّه يتبع الشمس كما قيل. واحسن بعض الشعراء في ذكر الظل حيث قال: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا ... فإذا ما ملت عنه اتبعك اتجر من عقرب. يقال: تجر في الشيء يتجر على مثال كتب يكتب فهو تاجر والتاجر من يبيع ويشتري في كل شيء وجمعه تجار وتجر. وقد يطلق على بائع الخمر خاصة وهو الكثير الاستعمال عند الأعراب في الجاهلية. قال امرؤ القيس: كأن التجار اصعد بسبيئه ... من الخص حتى أنزلوها على يسر وقال أيضاً: إذا ذقت فاها قالت طعم مدامة ... معتقة مما تجيء به التجر والعقرب معروف يذكر ويؤنث وعقرب في المثل اسم رجل كان بالمدينة وكان من اكثر الناس تجارة وأشدهم مطلا وتسويقا حتى ضربوا بمطله النثل ويحكى إنّه اتفقت له معاملة مع الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وكان هو من اشد الناس اقضاء. فقال الناس: ننظر الآن ما يصنعان. فلما حل الأجل لزم الفضل باب عقرب وقيد حماره بالباب وقعد يقرأ القرآن. فأقام عقرب على المطل غير مكترث به. ثم إنَّ الفضل ترك ملازمة بابه واشتغ بهجائه. فمما اشتهر عنه فيه قوله:

تحفة المؤمن الموت.

قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب التاجره كل عدو كيده في أسته ... فغير مخشي ولا ضائره كل عدو يتقلى مقبلا ... وعقرب يخشى من الدابره إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره وحكي إنَّ الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد كان في صباه هو وزوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين يلعبان الشطرنج فأذن العشاء فقاما فصليا فقال الشيخ تقيي الدين: أما نعود؟ فقال صهره: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة فانف الشيخ من ذلك ولم يعد إلى إنَّ مات رحمه الله تعالى. تحفة المؤمن الموت. وهو حديث والتحفة البر والصلة والبرة من الفاكهة ونحوها وتاؤه أصلية. يقال أتحفته. وحكى أبى أبن الأثير عن الأزهري إنَّ أصل التحفة وحفة فأبدلت الواو تاء. وعليه يكون موضعه الواو. والمعنى إنَّ المؤمن إنما ينجو من أذى الدنيا وأهوالها وأحزانها أدارها ويصل إلى ما اعد له عند الله من الخير وهيئ له من الكرامة بالموت. كما قيل: قد قلت إذا مدح الحياة وأسرفوا: ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان عذابه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف أتخم من الفصيل. التخمة بفتح الخاء كهمزة وتسكن في الشعر: داء يصيب من أكل الطعام معروف الجمع تخم وتخمات. يقال: تخم بفتح الخاء وكسرها وأتخم: أصابه ذلك وأتخمه الطعام. وهذا الطعام متخمة يتخم به. وأصل التخمة وخمة من قولك: وخم الطعام والنبات فهو وخيم إذا لم يوافق. وتوخمه واستوخمه إذا لم يستمره. وذكرناه في هذا الباب نظرا إلى ظاهر اللفظ: فإنَ الواو مستهلكة بالإبدال حتى وقع تصرف الفعل. والفصيل، بصاد مهملة: ولد الناقة إذا فصل عن

أمه ويوصف بالتخمة. وقالوا لأنه يفرط في الرضاع أكثر مما يطيق. فائدة في ذكر أسنان الإبل. قال أهل اللغة: إذا وضعت الناقة، فقبل إنَّ يعلم أذكر ولدها أم أنثى، ولدها سليل، فإذا علم، فإن كان ذكرا فهو سقب، بفتح السين المهملة وسكون القاف، وأمه مسقب؛ وإنَّ كانت أنثى فهي حائل، وأمها أم حائل، كما قال الهذلي: فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل ومتى جاءت الناقة بذكر قيل أنَّ ذكرت، فهي مذكر؛ وإنَّ جاءت بأنثى قيل أنثت، فهي مؤنث. فإنَ كان من دأبها أن تلد الذكور قليل هي مذكار. قال النابغة على وجه التمثيل: لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار وإنَّ كان دأبها الإناث فهي مئناث؛ فإذا اشتد ولدها ومشى معها فهو راشح وهي مرشح؛ فإذا حمل في سنامه شحما فهو مجد ومكعد، ثم هو ربع، على وزن صرد. والذي يقوله الكثيرون إنَّ الربع ما نتج في أوّل الناتج كما إنَّ الهبع - بوزنه - ما نتج في أخره؛ ثم هو حوار، بضم الأول؛ فإذا فصل عن أمه، أي فطم عنها، فهو فصيل؛ فإذا أتى عليه حول فأبن مخاض، ولذلك قيل: وجدنا جعفر فضلت فقيما ... كفضل أبن المخاض على الفيصل والأنثى بنت مخاض. وسمي أبن مخاض لأن أمه لحق بالمخاض من النوق، أي الحوامل وإنَّ لم تكن حاملا، فإذا استكملت السنة الثانية ودخل في الثالثة فصار لأمه لبن وكانت لبونا، فهو أبن اللبون، فإذا دخل في الرابعة فهو حق والأنثى حقة. وسمي بذلك لاستحقاقه أنَّ يحمل عليه ويركب؛ فإذا دخل في الخامس فهو جذع والأنثى جذعة؛ فإذا دخل في السادسة فهو ثني والأنثى ثنية؛ فإذا دخل في السابعة فهو رباع والأنثى رباعية؛ فإذا دخل الثامنة فهو سديس وسدس بفتح الدال للذكر والأنثى، وقد يقال الأنثى سديسة؛ فإذا دخل في التاسعة فهو بازل للذكر والأنثى؛ فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف. ولاسن بعد هذا، وإنما يقال بازل عام، وبازل عامين، ومخلف عام وعامين. وما ذكرنا في أوائل الأوصاف هو طريقة بعض

تركت الرأي ببقة.

اللغويين، وليس هذا محل بسط اللغة. تركت الرأي ببقة. ويروى: ببقة تركت الرأي. وهو مثل قاله قصير بن سعد لجذيمة لمّا صار في بلد الزباء. وتقدم هذا مستوفى. وفيه قال عدي بن الرقاع: دعا بالبقة الأمناء يوما ... جذيمة ينتحي عصبا ثمينا فطاوع نفسه وعصى قصيراً ... وكان يقول: لو نفع اليقينا! وقال نهشل بن ضمرة: ومولي عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع باليقين قصير ترك الخداع من أجرى من المائة. الترك معروف، والخداع: الختل والمكر، والخداع والمخادعة المخاتلة؛ والمائة حذف مميزة أي مائة غلوة، والغلوة بالفتح: ما بين موقف الرامي ومسقط سهمه. يقال: غلوت بالسهم غلوا وغلوا، وغاليته، وغاليت به: رفعت به إلى أقصى الغاية. وكل مرماة فهي غلوة وكان أصل المثل إنَّ الرهان، لمّا وقع بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر الفزاري أو أخيه حمل بن بدر، قال حذيفة: خدعتك يا قيس، ترك الخداع من أجرى من المائة! يريد أن أجرى فرسه وأرسله من مائة غلوة، فقد كشف أمره ولم يبق خداع. وقيل إنَّ أحد المتخاطرين في الرهان المذكور قال لصاحبه: الغاية على حكمي. فقال: الغاية مائة غلوة. قال: أتخدعني؟ فقال: ترك الخداع من أجرى من المائة. يضرب للرجل الذي قد حنكه السن مع العقل والحزم. تركت فلانا بملاحس البقر أولادها. ويقال: تركته بملحس البقر. والملاحس جمع ملحس، وهو مفعل من اللحس. يقال: لحس القضعة ونحوها بالكسر، يلحسها لحسا؛ والملحس يكون مصدراً

تركته ترك الظبي ظله.

بمعنى اللحس ومكانا له كما في النظارة. والمعنى: تركته بمكان ملحس البقر أولادها أي بحيث تلحس البقر أولادها يعنون به مكان البقر. تركته ترك الظبي ظله. الظبي معروف وجمعه اظب وظباء وظبي وظله بكسر الظاء المشالة: ما يأوي إليه ويستظل به من حر الشمس. وهو إذا تركه لا يعود إليه أبداً. فيضرب للرجل عند نفوره. وعبارة صاحب القاموس: اتركه ترك الظبي ظله وهو نحو مما كتبنا نحن. وفعل ذلك لبيان إنَّ الراء في ترك ساكنه وهو مصدر أضيف إلى فاعله وكمل بمفعول أي تركا يشبه ترك الظبي لظله وقال: إنَّ فتح الراء من ترك كما عند الجوهري وهم. قلت: وهو كذلك في صحاح الجوهري مضبوطا بالقلم مفتوح في النسخة. ولعل الرواية كذلك عنه وإلاّ فهو محتمل لأن يكون مسكنا. وهو مصدر عاملة مقدرة وهو الذي أظهرناه أو ما يشبهه. ثم على الفتح لا مانع من صحته إنَّ تكلمت به العرب كذلك. ويكون فعلا ماضيا والظبي فاعله. فإذا نفر أحد من شيء نفرة عزما حسن إنَّ يقال: ترك الظبي ظله أي إنّه ذهب مذهبا لا مرجع فيه كأنه ظبي ترك ظله. تركته كجوف الحمار. ويقال: هو كجوف حمار ويقال كجوف عير ومعناه خال لا خير فيه. واختلف العلماء فيه فقيل: المراد الحمار المعروف وجوفه ليس فيه شيء ينتفع به فلا خير فيه. وقيل: المراد حمار أبن مويلع وهو رجل من عاد وله موضع يقال له جوف كان يزدرعه احرقه الله تعالى واحرق ما فيه لمّا كفر بالله تعالى. وفيه يقال اكفر من حمار كما سيأتي. قال امرؤ القيس: وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعة بسام ساهم الوجه حسان قال شارح ديوان عاصم بن أيوب: قول كجوف العير قال أبن الكلبي: هو واد باليمن

تركتهم لحما على وضم.

قفر لا شيء به. قال: وقال القتبي: أراد كجوف الحمار. والحمار وإنَّ كان ذكيا لا ينتفع به ولا بشيء من حشاه فكأنه خال من كل خير. وقيل: وهو رجل من بقايا عاد كان يقال له حمار بن مويلع وكان على التوحيد فأصابت بنين به عشرة صاعقة فأحرقتهم فغضب وقال: لا اعبد ربا فعل بي هذا! ومال إلى عبادة الأوثان ومنع الضيفة. فأرسل الله عليه نارا فأحرقته وأحرقت جوفه وهو موضع كان يزدرعه من جميع ما كان فيه وجميع من دخل معه في عبادة الأوثان فاصبح الجوف كأنه الليل المظلم. فضربت العرب المثل قالوا: وادي الحمار وجوف العير. وقال أبن دريد: إذا قالت العرب: كأنه جوف حمار فأنهم يريدون وصف الموضع الخريب الوحش. وقال: أما جوف حمار فكان لحمار بن مالك أبن نصير بن أسد وكان جبارا عاتيا. فبعث الله عليه نارا فأحرقت الوادي بما فيه وصار مثلا. تركتهم لحما على وضم. اللحم معروف بسكون الحاء ويجوز فتحها والوضم بفتحتين: ما وقي به اللحم من خشب وحصير ونحوهما. قال الشاعر: ليس براعي ابل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم جمعه اوضام واوضمة. تقول وضمت اللحم بفتح الضاد إذا عملت له وضما أو وضعته على الوضم واوضمته واوضمت له إذا عملت وضما وتقول: تركتهم لحما على وضم أي مثل اللحم المجعول أي مثل اللحم المجعول على الاوضام وذلك إذا أوقعت بهم وأوجعت فيهم. قال الحماسي: وتركتنا لحما على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم وقال البوصيري في معناه: ما زال يلقاهم في كل معترك ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم وقال صفي الدين الحلي: أبيت والدمع هام هامل سرب ... والجسم في أضم لحما على وضم

ترك الوطن أحد السباءين.

ترك الوطن أحد السباءين. الوطن بالفتحتين معروف والسباء بالكسر والمد: الأسر. يقال: سبى عدوه يسبيه سبيا سباء واستباه إذ أسره. والمعنى إنَّ الخروج من الوطن ومفارقة الأهل والسكن شبيه بالسباء نوعان: أحدهما الأسر والآخر: السفر فسار السفر أحد السباءين وهذا ذم له. وتقدم في ذم السفر ومدحه من الآثار والأشعار ما أغنى عن الإعادة. وسيأتي ذكر ما في هذه التثنية الواقعة في السباء إن شاء الله تعالى. اتق مأثور القول! التقوى معروف والمأثور: المروي المحكي. والمثل لحمل بن بدر قاله يوم الهباءة وهو اكبر أيام حرب داحس بين عبس وذبيان وسبب الحرب كلها. وصدور المثل على ضرب من الإيجاز والاختصار إنَّ قيس بن زهير فيما يزعمون وهو من بني عبس كان اشترى من مكة درعا تسمى ذات الفضول فاغتصبها منه عمه الربيع بن زياد وكان سيد عبس. فغضب قيس وتحل عنهم ونزل على بني ذبيان وسيدهم إذ ذاك حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر فأكرموه واحسنوا جواره. ثم إنَّ قيس بن زهير وحذيفة بن بدر تراهنا يوما على خطر عشرين بعيرا وجعلا الغاية مائة غلوة والمضمار أربعين ليلة والمجرى من ذات الاصاد. فاجرى قيس داحس والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء. فوضعت بنو فزارة رهط حذيفة كمينا في الطريق. فلما جاءت الغبراء وكانت سابقة لطموها وردوها. فقال قيس: سبقت فدفعوه عن ذلك حتى وقع بينهم الشر. فطلب منهم قيس بعيرا واحدا فقال جذيمة: ما كنا لنقر لكم بالسبق فلما رأى قيس ذلك ترحل عنهم وفارقهم. ثم إنّه أغار فلقي عوف بن بدر أخا حذيفة فقتله ووداه مائة ناقة عشراء. ثم خرج مالك بن زهير أخو قيس فلقيه حمل بن بدر فقتله. فأرسل قيس إلى حذيفة إنَّ اردد علينا ابلنا فقد قتلت مالك بن زهير بعوف بن

بدر. وكانت الإبل قد تناجت عند حذيفة فدفعها دون أولادها. وامتنعت عبس إلاّ إنَّ يقابلهم ابلهم بأولادهم فهاجت الحرب بين الفريقين ودامت أربعين سنة فيما يزعمون إلى إنَّ اصلح بينهم الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريان كما سنذكر. وكانت بنو عبس وتروهم فاجتمعت القبائل وحلفاؤها وتعاقدوا وتحالفوا فسار حذيفة إلى عبس في جموع لا تحصى. فلما رأت عبس ذلك اجتمعوا إلى قيس بن زهير فقالوا له " ما الرأي؟ فقال: خلوا الأموال والظغن وادخلوا في الشعب فإنَ الجموع إذا رأت الظعائن لا رجال فيها أمنوا فغنموا وتفرقوا فتدركوا منهم حاجتكم! فلما أشرفت جموع حذيفة على أموال بني عبس ظنوا انهم فروا فأمنوا وغنموا وجعل الجل يطرد ما قدر عليه من الأموال. فلما تفرقوا كرت عليهم خيل عبس فوضعت فيهم السلاح وانهزموا. وأسرفت في القتال حتى ناشدهم بنو ذبيان البقية وكان يوم شديد الحر. فمضى حذيفة وأخوه حمل حتى استغاثا بجفر الهباءة فنزلا ومعهما ورقاء بن بلال ونزعوا سلاحهم وسرجهم واقعدوا ربيئة يتطلع ولم يكن لعبس هم إلاّ في حذيفة. فبعثوا الخيل تقص أثره. فنظر الربيئة فقال: إني أرى شخصا كالنعامة فلم يكترثوا به وجعلوا يتحدثون فأذاهم بخيل عبس قد لحقهم وحالت بينهم وبين خيلهم. فلما حملوا عليهم وهم في الجفر قال حذيفة: يا بني عبس فأين الأحلام؟ فضرب أخوه حمل بين كتفيه وقال: اتق مأثور القول فأرسلها مثلا. يريد: انك تقول قولا تتذلل فيه وتخضع وتقتل ولا ينفع فتشتهر عنك أخباره ويبقى عليك عاره. فقتلوا حذيفة ومن معه وتمزقت بنو ذبيان. ولا يخفى إنَّ هذا المثل حقه إنَّ يذكر في غير هذا الباب لكن الواو لمّا استهلكت بالإبدال اعتبرنا الظاهر تقريبا. وداحس بالدال المهملة على وزن فاعل من الدحس وهو الدفع. وسنئتي بذلك لأن أباه ذا العقال وهو فرس كان لرجل يسمى حوطا خرجت به جاريتان له يومان تقودانه فمرتا به على فرس أنثى لقرواش تسمى جلواء وهي إذ ذاك وديق والو الديق بالدال المهملة: المشتهية الفحل ومنه المثل الآتي: ودق العير إلى الماء فلما رآها ذو العقال ودق. فضحك شباب منهم فاستحيت الجاريتان فأرسلتا مقوده فزنا عليه. فلما جاء حوط وكان رجلا سيئ الخلق عرف النزو

في عين ذي العقال فغضب وقال: أعطوني ماء فحلي فلما رأوا الخطب قد عظم قالوا: دونك وماء فحلك فأخذ الفرس وجعل يده في الماء والتراب وادخل اليد في رحمها حتى إنّه استخرج الماء. وقد اشتملت الرحم على ما فيها فنتجت قروش مهرا اسمه داحسا لدحس حوط إياه وخرج كأنه ذو العقال أبوه. ثم إنَّ قيس بن زهير أغار على بني يربوع فغنم فرأى داحس قد ركبه فتيان فقطعها الخيل ونجوا. فاعجب به قيس ودعا إلى إنَّ يجعله فداء المغنم كله. فأطوه إياه وكان سبب الحروب حتى قيل: أشأم من داحس وسيأتي. والخطار بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة بعدها ألف فراء وهم فرس لحذيفة والحنفاء: فرس له أيضاً تأنيث الأحنف. والحنف قيل هو الاعوجاج في الرجل وقيل أن يقبل إحدى إبهامي الرجل على الأخرى وقيل ميل في صدور القدم وقيل المشي على ظهر القدمين من شق الخنصر. ويذكر في هذه القصة أيضاً أن حذيفة أجرى قرزلا والقرزل بالقاف والراء والزاي على وزن جحذب وهو فرس لحذيفة أيضاً ويحتمل إنّه الخطار المذكور. وقد قيل في هذه القصة إنَّ الصحيح إنَّ الرهان إنّما وقع بين قيس وحمل بن بدر لا حذيفة وإنَّ فرس قيس داحس وفرس حمل الغرباء. وفي القصة اضطرابات كثيرة اضربنا عنها. والهباء بفتح الهاء ثم باء موحدة وبعد الألف همزة مقلوبة عن واو ثم هاء التأنيث وهي أرض لغطفان فيها ماء. وفي الفرسين يقول عنترة بن معاوية بن شداد العبسي يرثي مالك بن زهير: لله عين من رأى مثل مالك ... عقير قوم إنَّ جرى فرسان فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان وليتها ماتا جميعا ببلدة ... وأخطاهما قيس فلا يريان وكان لهى الهيجاء يحمى ذماره ... ويضرب عند الكرب كل بنان لقد جلبا حينا وحربا عظيمة ... تبيد سراة الحي من غطفان وقال الربيع بن زياد أيضاً عم مالك المذكور يرثيه: إني أرقت فلم اغمض حار ... من سيء النبل الجليل الساري

من مثله يمشي النساء حواسرا ... وتقوم معولة مع الأسحار أبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجوا النساء عواقب الأطهار؟ ما أن أرى في قتله لذوي النهى ... إلاّ المطي تشد والاكوار ومجنبات ما يذقن عذوقة ... يقذفن بالمهرات والامهار ومسارعا صدأ الحديد عليهم ... فكأنما طلب الموجوه يقار من كل سرور بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسر يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدون للنظار يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار قوله: حار أراد يا حارث قوله: ترجوا النساء عواقب الأطهار يريد إنَّ النساء لا يأتين بمثله وفي عروض هذا البيت عيب القطع وهو لا يجوز إلاّ مع التصريع. والمنجبات: خيل يركبون الإبل فيقودونها هي لا يركبونها إلى موضع الغارة لتجم. ويقال ما ذقت عذوفا بالذال المعجمة وتهمل في لغة ربيعة وبالفاء أي شيء. ويقال عذوقا وعذوقة فإنَ كانت الرواية بغير هاء التأنيث ففي هذا العروض أيضاً عيب السابق. والمساعر جمع مسعر وهو الذي يسعر الحرب. قوله: قد قمن قبل تبلج الأسحار هكذا في الرواية. والجملة حال أي بجد النساء عند وصوله يندبنه وقد كن قمن إلى ذلك من الليل قبل تبلج الأسحار واستمررن على البكاء إلى وقت مجيئه. ويروى: يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار. وقالوا يعني بالصبح هنا الحق والأمر الجلي وليس بظرف. ولا بد فيه مع ذلك من التقدير الذي في الرواية الأولى. ويصح إنَّ يكون الصبح أطلق على آخر الليل لقربه منه مجازا أو يكون على بابه. وقوله قبل تبلج الأسحار معمول لفعل مقدر كما في الرواية الأولى أو معمول ليندبه. ويكون بالصبح معمولا لحواسر على الألف والنشر مع تكلف. وأفاد بالبيتين انهم أدركوا ثأرهم لأن القتيل عند العرب لا يبكى حتى يؤخذ بثأره. وقال قيس بن زهير يرثي حمل بن بدر وهو أوّل من رثى مقتوله:

تعلم إنَّ خير الناس ميت ... على جفر الهباء لا يريم ولولا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما بدت النجوم ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغنى والبغي مرتعه وخيم أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم ومارست الرجال ومارسوني: ... فمعوج علي ومستقيم وفي ذلك قال أيضاً: شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني قتلت باخوتي سادات قومي ... وهم كانوا لنا حلي الزمان فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم اقطع بهم إلاّ بناني فائدة: حمل بن بدر المذكور بفتح الحاء المهملة وفتح الميم على لفظ ولد الضان. وفيه قال الشاعر: ليت شعري يلحق الهيجا حمل ... ما احسن الموت إذا حان الأجل وتمثل بهذا الشعر فيما ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق. قال البكري: وفي همدان حمل بن زياد بن حسان بفتح الحاء وضم الميم وقي مدحج جمل كنانة بفتح الجيم والميم كلفظ واحد الجمال وفي كنانة خمل بن شق يعني بالخاء المعجمة مضمومة وتسكين الميم والله اعلم. وأما سبب الصلح بينهم على الحارث بن عوف فهو إنَّ الحارث قال يوما لخارجة بن سنان: أتراني اخطب إلى أحد من العرب فيردني؟ قال: ومن هو؟ أوس بن حارثة في بلاده. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حار قال: ويك! قال: وما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبا. قال: ليست هناك فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس إلى امرأته مغصبا وكانت من عبس فقالت: من الرجل الذي وقف عليك؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف. قالت: فما لك لم تستنزله؟ قال إنّه استمحق. قالت: وكيف؟ قال: جاءني

خاطبا. قالت: أف تريد تزويج بناتك؟ قال: نعم! قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذاك. قالت: فتدرك ما كان منك! قال بماذا؟ قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه؟ قالت: تقول انك لقيتني مغضبا بأمر. فانصرف ولك عندي ما تحب فانه سيفعل فركب حارة في أثره. قال خارجة: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث وما يكلمني غنا. فقالت: هذا أوس بن حارثة قال: وما نصنع به؟ امض فلما رآنا لا نلتفت صاح: يا حار أربع علي فوقفنا له فكلمه بذاك الكلام فرجع مسرورا. ودخل أوس فقال لامرأته: ادعي لي فلانة كبرى بناته. فأتته فقال: يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب وقد جاء خاطبا. فأردت إنَّ أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض الحدة ولست بابنة عمه فيرعى رحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن إنَّ يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وصمة. قال: قومي بارك الله فيك ثم دعى الوسطى فأجابته بنحو ذلك ثم دعى الصغرى فقال لها قالت: أنت وذلك. قال: إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. قالت: لكني الجميلة وجها الصناع يدا الحسيبة أبا. فإنَ طلقني فلا أخاف الله عليه. قال: بارك الله عليك ثم خرج إلينا قال: قد زوجتك بهنسة بنت أوس. قال: قد قبلت. أمر أمها إنَّ تهيئها وتصلح من شأنها. ثم أمر ببيت فضرب له وادخله إياه. فلما أدخلت إليه لبث هنيئة ثم خرج ألي فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله لمّا مددت يدي إليها قالت مه اعند أبي واخوتي؟ هذا لا يكون قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا بها معنا فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدم فتقدمت فعدل بها عن الطريق فما لبث إنَّ لحقني فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قالت لي: اكما يفعل بالأمة الجليبة والسبية الأخيذة؟ لا والله حتى تنحر الجزور وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قال خارجة: فقلت: والله لأري هيئة عقل وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. ثم سرنا حتى دخلنا بلادنا. فأحضر الإبل والغنم ثم

تلك التجارة لا انتقاد الدرهم.

دخل إليه وخرج. فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قلت: ولم ذلك؟ قال: دخلت عليها أريدها فقلت: قد أحضرنا من المال ما ترين. قالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك قلت: كيف؟ قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا؟ تعني عبسا وذبيان قلت: فتقولين ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى اهلك فلن يفوتك قلت: والله إني لأرى عقل وهمة ولقد قالت قولا فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على إنَّ يحسبوا القتلى من الفريقين ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه. فحملنا عنهم الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير. وفي هذا الصلح يقول زهير يمدحهما: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم يموينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم تداركتما عبس وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم وعاش الحارث حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم رحمه الله تعالى. تلك التجارة لا انتقاد الدرهم. هذا في قول القائل: وإذا شكا مهري الي حرارة ... عند اختلاف الطعن قلت له: اقدم إنني بنفسي في الحروب لتاجر ... تلك التجارة لا انتقاد الدرهم ومعناه ظاهر. تمرة خير من جرادة. التمر بالمثناة الفوقانية وسكون الميم معروف وهو ما يبس من حمل النخيل. الواحدة تمرة والجمع تمرات وتمور وتمران والتمار بائع التمر والتمري من يحبه. وأما الثمر بالمثلثة وفتح الميم فهو حمل الأشجار كلها. والجراد معروف الواحدة جرادة والمثل ظاهر مشهور.

التمر في البئر على ظهر الجمل.

التمر في البئر على ظهر الجمل. التمر تقدم والبئر معروف وكذا الجمل. وأصل المثل إنَّ المنادي كان يقوم في الجاهلية على اطم من اطام المدينة فينادي بذلك الكلام حتى يدرك التمر أي: من سقى نخيله بمياه الآبار على ظهور الجمال بالسواني وجد التمر وحمد عاقبة الأمر وأدرك غاية السقي ونجاح الرأي. وهذا كما تقول: الزرع في تحريك الأرض وتزبيلها والعنب في زبر الكرم وسقياه. وهذا كله تحضيض على أحكام الأسباب والاعتناء بالسوائل وتنبيه على إنَّ المقاصد منوطة بها ومرتبط صلاحها بصلاحها. وقريب منه المثل الآخر: وهو قولهم: عند الصبح يحمد القوم السرى وقول القائل: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع اتميميا مرة وقيسيا أخرى؟ يضرب لمن يتلون ويختلف كلامهم يقف على حال أي: أتنتسب إلى تميم مرة وإلى قيس مرة أخرى؟ وتميم وقيس قبيلتان عظيمتان من قبائل العرب. أما تميم فهو تميم بم مر بم آد بن طابخة بالباء الموحدة والخاء المعجمة بن الياس بن مضر بن نزار وأما قيس فهو قيس بن عيلان بفتح العين المهملة واسمه الياس بن مضر بن نزار وقيس لقب له. وقد قيل إنَّ عيلان هو أبو قيس. ويدل لصحته قول الحماسي: لحى الله قيسا عيلان إنّها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت فشاول بقيس في الطعان ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت إلاّ إنّما قيس بن عيلان بقة ... إذا شربت الماء العصير تغنت فصرخ بأنه أبن عيلان. وبين القبيلتين أبداً منافرات ومكافحات ومقاتلات. ومن ثم اشتهر بينهما التقابل كما في هذا المثل وشاع عند البيانيين في باب القصر التمثيلي بقولهم: فلان تميمي مراعاة لهذا الأمر. وفي بعض الأخبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء إذا فاخرت ففاخر بقريش وإذا كاثر فكاثر بتميم وإذا حاربت فحارب بقيس إلاّ إنَّ مجوهها كنانة

ولسانها أسد وفرسانها قيس إلاّ إنَّ لله فرسانا في سمائه وهم الملائكة وفرسان في الأرض وهم قيس وإنَّ آخر من يقاتل عن الإسلام حين لا يبقى إلاّ ذكره ومن القرآن إلاّ اسمه لرجل من قيس. قلت: يا رسول الله من أي قيس؟ قال: من سليم. وسار معاوية يوما فإذا هو براكب فقال لبعض أصحابه: علي به من غير ترويع فاتاه وقال: اجب أمير المؤمنين فقال: إياه أدرت. فلما دنا حسر اللثام وانشد: معاوية لم أزل آتيك تهوي ... برحلي نحو ساحتك الركاب تجوب الأرض نحوك ما تأبى ... إذا ما الاكم قنعها السراب وكنت المرتجى وبك استغثت ... لتنعشها إذا بخل السحاب فإذا ليلى الاخيلية فهش لها معاوية وأمر لخها بخمسين بعيرا. ثم سألها عن مضر فقالت: فاخر بقريش وحارب بقيس وكاثر بتمبم وناطق بأسد وتقدم إنَّ هذا في الحديث وسيأتي تمام حديث ليلى في الأعيان. ويسمى أولاد الياس خندفا وهي اسم أمها ومضر كلها راجعة إلى خندف وقيس. ومن اظرف من يتفق في هذا النسب ويزيد بصيرة في هذا المقام. ما ذكر أبو علي البغدادي يرفع إلى أبي عبيدة أن يزيد بن شيبان بن علقمة خرج حاجا فرأى حين شارف البلد شيخ يحفه ركب على ابل عتاق برحال ميس ملبسة ادما. قال: فعدلت فسلمت عليهم وبدأت به فقلت: من الرجل ومن القوم؟ فإنَ القوم ينظرون إلى الشيخ هيبة له فقال الشيخ: رجل من مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف من قضاضة. فقلت: حياكم الله وانصرفت. فقال الشيخ: قف أيّها الرجل استنسبتنا فانتسبنا لك ثم انصرفت ولم تكلمنا ويروى: شاممتنا مشامة الذئب للغنم ثم انصرفت قال. قلت: ما أنكرت سوءا ولكنني ظننتكم من عشيرتي فانسبكم فانتسبتم نسبا لا اعرفه ولا أراه يعرفني. قال: فامال الشيخ لثامه وحسر عمامته وقال: لعمري لئن كنت من جذم من اجذام العرب لاعرفنك. قلت: فاني من اكرم اجذامها. قال: فإذا العرب بنيت على أربعة أركان: مضر وربيعة واليمن وقضاعة فمن أيهم أنت؟ قلت: من مضر. قال: أمن

الأرجاء أمن الفرسان؟ فعلمت إنَّ الأرجاء خندف وإنَّ الفرسان قيس. قلت: من الأرجاء. قال: أنت إذا من خندف؟ قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم الجمجمة؟ فعلمت إنَّ الأرنبة مدركة وإنَّ الجمجمة طابخة. فقلت: من الجمجمة. قال: فأنت إذن من طابخة؟ قلت: اجل قال: افمن الصميم أم من الشويط؟ فعلمت إنَّ الصميم تميم وإنَّ الشويط الرباب فقلت: من الصميم. قال: فأنت إذا من تميم؟ قلت: اجل قال: افمن الاكرمين أم من الاحلمين أم من الاقلين؟ علمت إنَّ الاكرمين زيد مناة وإنَّ الاحلمين عمرو بن تميم وإنَّ الاقلين الحارث بن تميم. قلت من الاكرمين. قال: فأنت إذا من زيد مناة؟ قلت: اجل قال: افمن الجدود أم من البحور أم من الثماد؟ فعلمت إنَّ الجدود مالك وإنَّ البحور سعد بن زيد مناة وإنَّ الثماد بنو امرئ القيس بن زيد بن مناة. قلت: من الجدود. قال: فأنت إذا من بني مالك؟ قلت: اجل قال: افمن الذرى أنت أم من الارداف؟ فعلمت إنَّ الذرى حنظلة وإنَّ الارداف ربيعة ومعاوية وهما الكرد وسان. قلت: من الذرى. قال: فأنت إذا من بني حنظلة؟ قلت: اجل قال: افمن البدور أم من الفرسان أم من الجراثيم؟ فعمت إنَّ البدور مالك وإنَّ الفرسان يربوع وإنَّ الجراثيم البراجم. قلت: من البدور. قال: فأنت إذا من بني مالك بن حنظلة؟ قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم من اللحيين أم من القفا؟ فعلمت إنَّ الأرنبة دارم وإنَّ اللحيين طهي والعدرية وإنَّ القفا ربيعة بن حنظلة قلت من الأرنبة قال: فأنت إذا من دارم؟ قلت اجل قال: افمن اللباب أم من الهضاب أم من الشهاب؟ علمت إنَّ اللباب عبد الله وإنَّ الهضاب مجاشع وإنَّ الشهاب نهشل. قلت: من اللباب. قال: فأنت إذا من عبد الله؟ قلت اجل قال: افمن البيت أم من الزوافر؟ فعلمت إنَّ البيت بنو زرارة وإنَّ الزوافر الاحلاف. قلت: من البيت. قال: فأنت إذا من بني زرارة؟ قلت: اجل قال: فإنَ زرارة ولد عشرة: حاجيا ولقيطا وعلقمة ومعبدا وخزيمة ولبيد وأبا الحارث وعمرا وعبد مناة ومالك فمن أيهم أنت؟ قلت: من بني علقمة ولد شيبان لم يلد غيره فتزوج ثلاثة نسوة: مهدد بنت حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد فولدت له يزيد وتزوج عكرشة بنت حاجب بن زرارة بن عدس فولدت له المأمور وتزوج عمرة بنت بشر بن عمرو بن عدس فولدت

تيسي جعار.

له المقعد. فلأيهم أنت؟ قلت: لمهدد. قال: يا أبن أخي ما افترقت فرقتان بعد مدركة إلاّ كنت في أفضلها حتى زاحمك أخزك فانهما إنَّ تلدني أما هما احب ألي من إنَّ تلدني أمك. يا أبن أخي أتراني عرفتك؟ قلت: أي وأبيك أتم معرفة قال: الميس ضرب من الشجر تعمل منه الرحال وارم القوم: سكنوا والوشيط الخسيس من الرجال والصميم الخالص. وفي معنى هذا المثل الذي نحن فيه قول زفر ابن الحارث لعمران بن حطان: ازدينا مرة واوزعيا أخرى؟ ومن التلون قول عمران المذكور: فاعذر أخاك أبن زنباع فإنَ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان يوما يمان إذا لا قيت ذا يمن ... وإنَّ لقيت معديا فعداني وقول الآخر: أفي الولائم أولاد لواحدة ... وفي المفاخر أولاد لعلات؟ تيسي جعار. تيسي بكسر التاء الفوقانية المثناة بعدها مثناة تحتانية ساكنة بعدها سين مهملة. وجعار على مثال حذام وهي الضبع ويقال لها جعار وأم جعار وأم جعور ويقال أيضاً: عيثي جعار. أما تيسي فهي من مادة التيس ولم يذكروا لها فعلا بل قالوا إنّها كلمة تقال في معنى إبطال الشيء وأما عيثي وهو الإفساد واصله عيثي يا جعار قال الشاعر: فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره وسيأتي تمامه في محله ومما يلتحق بهذا الباب قولهم: تحت طريقتك عنداوة. والطريقة على مثال السكينة الرخاوة واللين والعنداوة: الخديعة والمكر أي تحت إطراق مكر. وهو مثل المثل الآتي: مخرنبق لينباع وسيأتي قولهم:

تركته باست الأرض.

تركته باست الأرض. أي تركته عديما فقيرا. وقولهم: تركته على أنقى من الراحة. ومما يتمثل به تارة قوله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. ومن أمثال العامة الحكيمة في هذا الباب قولهم: اترك الحب تحب أي لا تطمع فيما أيدي الناس يحبونك وإنَّ تكثر غشيانهم يملونك. قال زهير: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يغنها يوما من الدهر يسام وفي الأثر المروي: أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. ويشبه هذا المثل مسألة الطائر، إنَّ ترك الحبة المعلقة في الفخ نجا، وإنَّ وإنَّ اقتحمها هلك. ومن أمثالهم أيضاً قولهم: اترك صاحب الغاسول يسكت! زعموا إنَّ شخصين اصطحبا في طريق، لأحدهما حمل من حديد أو أشبه، وللأخر حمل من الغاسول، وهو طين يغتسل به الرؤوس، فأصابهما مطر في منزل، فجعل صاحب الحديد يتوجه ويتخوف على سلعته من البلل. فقال له صاحب الغاسول ما ذكر. ومعلوم أنَّ الحديد وشبهه لا يضره البلل، وأما الغاسول المذكور فأدنى شيء من البلل خلص إليه يحله ويفسده. فيضرب فيمن يتوجع ويتألم، أو يشتكي ويتظلم، أو يتأسف ويتندم، وثم من هو اجدر منه. وقد حان أن نذكر من الشعر ما يتيسر. قال الشاعر: كم من فتى تحمد أخلاقه ... ويسكن العافون في ذمته! قد كثر الحاجب أعداءه ... واحقد الناس على نعمته وسبب هذا الشعر أنَّ أعرابياً دخل البصرة، فسأل عن دار عبد الله بن عامر بن كريز، وكان عبد الله من فتيان قريش جوداً وسخاء، وكرماً وحياء، فدل على الدار، فأناخ راحلته بالباب. فاشتغل عنه الحاجب والعبيد وبات طاويا. فلما أصبح ركب راحلته ووقف على الحاجب فأنشأ يقول:

كأني ونضوي عند باب أبن عامرٍ ... من الجود ذئبا قفرة هلعان وقفت وصنبور الشتاء يلفني ... وقد مس برد ساعدي وبناني فلما أوقدوا ناراً ولا بذلوا قرى ... ولا اعتذروا عن عسرة بلسان فقال بعض شعراء البصرة ما تقدم. فلما بلغ أبن عامر، عاقب الحاجب وأمر أنَّ لا يغلق بابه ليلا ولا نهاراً. وقال الأخر: لا تنظرن إلى عقلٍ ولا أدبٍ ... إنَّ الحدود قرنات الحماقات واسترزق الله مما في خزائنه ... فكل ما هو آت مرة آت ومثله قول الصابئ: إذا جمعت بين أمراين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو احذق فلا تتأمل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرق: فحيث يكون النوك فالرزق واسع ... وحيث يكون الحذق فالرزق ضيق وقال صالح ب عبد القدوس: وليس رزق الفتى من حين حيلته ... ولكن جدود بأرزاق وأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامي وقال الأخر: متى ما يرى الناس الغني وجاره ... فقير يقولون: عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسمت وجدود وقولي، من قصيدة: والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر وإذا نظرت رأيت في قرن ... عمر الغني وجهالة الغمر وترى اللبيب يبيت في ضعف ... بهمومه متقسم الفكر ليكون فضل حجى الفتى عوضا ... عن فضل مل الأنوك الكثر

وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلب وعن قسر وسيأتي ذكر ما في هذا المعنى من الشعر عند ذكر الجد، إنَّ شاء الله تعالى. وقال الحماسي عمرو بن معدي كرب: وجاشت إلي نفسي أوّل مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت ومنه قول الآخر: صبرت على اللذات حي تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستقلت وكانت مدى الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت والسادات الصوفية، رضوان الله عليهم، يتمثلون به كثيراً في نجح الرياضة. وقول الحماسي أيضاً سيار بن قصير الطائي: عشية أرمي جمعهم بلبانها ... ونفسي قد وطنتها فاطمأنت وقول كثير: فقلت لها: غز كل مصيبة ... إذا وطئت يوماً لها النفس ذلت قال المبرد: وكان عبد الملك يقول: لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس. وقوله أيضاً: فيا عجب للقب كيف اعتزامه ... والنفس لمّا وطئت كيف ذلت! وقول ضابئ بن الحارث: ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب! وقال الأخر: تمتع إذا ما أمكن الدهر واغتنم ... زمانك واعلم إنّه سيفوت! وقال الأخر: داء قديم وأمر غير مبتدع: ... جور الزمان على أهل المروآت وقال الأخر: سكت عن السفيه فظن إني ... عييت عن الجواب، وما عييت وقال الأخر: سروران ما لهما ثالث: حياة البنين وموت البنات

وهذا من قول الأعراب: موت البنات، من المكرمات. وقال الأخر: كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبت! وقال الأخر: كلام الناس أشتات ... ومعنى كله: هاتوا! وقال الأخر: كم عائد رجلا وليس بعائد ... إلاّ ليعلم هل يراه يموت! وقال الأخر: كم مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات! وقال الأخر: وأنطقت الدراهم بعد عي ... أناس بعد ما كانوا سكوتا! وقال الأخر: وما تنفع الآداب والحلم والحجى ... وصاحبها عند الكمال يموت! وقال الأخر: ويحسن إظهار التجلد للعدى ... ويقبح غير العجز عند الأحبة وقال الأخر: لا تتهم من شف فاك فانه ... أعطى الحياة وقدر الأقواتا وقال أبو الطيب: إنَّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها وقال: أبو العلاء المعري: فالأرض تعلم أنني من فوقها ... متصرف وكأنني من تحتها غدرت بني الدنيا وكل مصاحب ... صاحبته غدر الشمال بأختها شغفت بوامقها الحريص وأظفرت ... مقتي لمّا أظهرته من مقتها لابد للحسناء من ذامٍ ولا ... ذام لنفسي سيئ بختها وقال الأخر:

إنَّ الصروف كما علمت صوامت ... عنها وكل عبارة في صمتها متفقه للدهر إنَّ تستفتيه ... نفس عن جرمه لم يفتها وتكون كالورق الذنوب على الفتى ... ومصابه ريح تهب لحتها وقال أيضاً: رويدا عليها إنّها مهجات ... وفي الدهر محيى لامرئ وممات أرى غمرات ينجلن عن الفتى ... ولكن توافي بعدها غمرات ولابد للإنسان من سكر ساعة ... تهون عله بعدها السكرات إلاّ إنّما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات فلا تطلب من عند يوم وليلة ... خلاف الذي مرت به السنوات وقال أيضاً: والموت احسن بالنفس التي الفت ... عز القناعة من إنَّ تسال القوتا بت الزمان حبالي من حبالكم ... اعزز علي بكون الوصل مبتوتا وقال: أحسنت ما شئت في إيناس مغترب ... ولو بلغت المنى أحسنت ما شيتا وقال القاضي التنوخي: القرآن العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات فأحزم الناس من يلقي أعاديه ... في جسم حقد وأثواب المودات وقال الآخر: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت وهو مثل قول الآخر: أو كلما ظن الذباب طردته ... إنَّ الذباب إذا علي كريم يحكى إنَّ رجلا اسمع أبن هبيرة وهو معرض عنه فقال له الرجل: إياك اعني فقال: وعنك أنا اعرض! وقال الآخر وينسب لعثمان بن عفان رضي الله عنه:

خليلي لا والله ما من ملمة ... تدوم على حي وإنَّ هي جلت فإنَ نزلت يوما فلا تخضعن لها ... ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت فكم من كريم قد بلى بنوائب ... فصابرها حتى انجلت واضمحلت وقال أبو محمّد الحريري: يا من تظن السراب ماء ... لمّا رويت الذي رويت وقال: فمهد العذر أو فسامح ... إنَّ كنت أجرمت أو جنيت وقال أيضاً: لا تحقرن أبيت اللعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السربال سبروتا ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكيتا وانفح بعرفك من وافك مختطبا ... وأنعش بغوبك من ألفيت منكوتا فخير مال الفتى مال اشد له ... ذكر تناقله الركبان أو صيتا وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأب إلى ما جاوز القوتا لكنه لابتناء المجد جد ومن ... حب السماح ثنى نحو الغنى ليتا وما تنشق نشر الشكر ذو كرم ... إلاّ وأزرى بنشر المسك مفتوتا والحمد والبخل لم يقض اجتماعها ... حتى لقد ذا ضبا وذا حوتا السمح في الناس محمود خلائقه ... والجامد الكف ما ينفك ممقوتا وللشحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبداً ذما وتبكيتا فجد بما جمعت كفاك من نشب ... حتى يرى مجتدي جدواك مبهوتا وخذ نصيبك من قبل رائعة ... من الزمان تريك العود منحوتا فالدهر أنكر من إنَّ تستمر به ... حال تكرهت تلك الحال أم شيتا

قوله: أشاد له ذكرا أي رفعه وهذا محمود مطلوب. ففي الحديث: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ما يتبعه من الذكر الحسن وقيل لبعض الحكماء: ما أحمد الأشياء؟ قال: أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة وقال اكثم بن صيفي: إنّما انتم خبر فطيبوا أخباركم وآخذه حبيب فقال: وما أبن آدم الاذكر صالحة ... وذكر سيئة تسري بها الكلم أما سمعت بدهر ... جاءت بأخبارها من بعدها الأمم وأبو بكر بن دريد حيث قال: وإنّما المرء حديث بعده: ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال الأحنف بن قيس: وما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء افضل من اصطناع المعروف عند ذوي الاحساب. وقيل لمعاوية: أي الناس احب إليك؟ فقال: من كانت له عندي يد صالحة. وقيل: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها فإنّها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى. واخذ هذا المعنى الشاعر فقال: ولا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف فإنَ تولت فأحرى أن تجود بها ... والحد منها إذا ما أدبرت خلف وقال الآخر: إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنقلت فلا الجود يقنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي ولت قوله: فكن البيت مثله قول الآخر: لولا توقع معتر فأرضيه ... ما كنت أوثر أترابا على تربي وقال الآخر: لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... وأن أنال بنفع من يرجيني لمّا خطبته إلى الدنيا مطايبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني

قوله: وما تنشق نشر الشكر ذو كرم البيت نحوه ما يحكى عن بعضهم قال: رأيت رجلا من وجوه أهل مكة لا يزال دائبا في طلب حوائج الناس وادخل الرفق على الضعفاء. فقلت له: اخبرني عن الحال التي أوجبت لك هذا التعب. فقال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار من فروع الأشجار وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طلابت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل قد احسن ومن شكر حر لرجل حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر وفي مدح الكرم وذم البخل قول الله تعالى: ومن يوق شح نفسه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويكره سفسافها ". وقوله صلى الله عليه وسلم: أي داء أدوا من البخل؟ كما مر في قصته. وقيل لمحمود بن عياد: أنت متلاف! فقال: منع الجود، سوء الظن بالمعبود. أخذه محمود الوراق فقال: من ظن بالله خيراً جاد مبتدياً ... والبخل من سوء ظن المرء بالله وخوف بعض البخلاء بعض الأسخياء الإملاق، فرد عليه السخي وقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا. وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: إنَّ الله تعالى عودني أنَّ يتفضل علي، ودعوته أنَّ أتفضل على عبيده؛ فأخاف أنَّ أقطع العادة، فيقطع عني عادته. وقال أيضاً: إنَّ الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت؟ لكنه ما يشين الحر موجعة: ... فالمسك يسحق والكافور مفتوت وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ... ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت وقال أيضاً: أستغفر الله من ذنوب ... أسرفت فيهن واعتديت كم خضت بحر الضلال جهرا ... ورحت في الغي واغتديت!

وكم أطلعت الهوى اغتراراً ... واختلت واغتلت وافتريت! وكم خلعت العذار ركضا ... إلى المعاصي وما ونيت! وكم تناهت في التخطي ... إلى الخطايا وما انتهيت! فليتني كنت قبل هذا ... نسيا ولم أجد ما جنيت! فالموت للمجرمين خير ... من المساعي التي سعيت وقال طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفراً حينما أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت أبوا أنَّ يلمونا ولو أنَّ أمنا ... تلاقي الذي يقولون منا لملت وهم أسكنوا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت ويروى أنَّ مالا جاء من البحرين فقسمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالسوية، فغضبت الأنصار وقالوا: لنا فضل. فقال: صدقتم! إنَّ أردتم أنَّ أفضلكم ذهب عملكم للدنيا، وإنَّ صبرتم كان ذلك لله. فقالوا: والله ما عملنا إلاّ لله! وانصرفوا. فخطب أبو بكر وقال أثناء خطبته: يا معشر الأنصار! لو شئتم لقلتم: أنا آويناكم في ظلالنا، ونشاطركم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا. يا معشر الأنصار! لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإنَّ طال به الأمد. فنحن وأنتم كما قيل طفيل الغنوي وأنشد الأبيات، متمثلا. وقال كثير: هنيئا مريئا غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من إعراضنا ما استحلت حكي أنَّ الشعبي أتى المسجد يوما فصادف فيه قوما يغتابونه، فأخذ بعضادتي الباب وقال: هنيئا مريئا " البيت ". وهذا البيت من قصيدة كثير التائية المشهورة التي أولها: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قولوا صيكما ثم أبكيا حيث حلت! ومنها: وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت وكانت كذات الضلع لمّا تحاملت ... على ضلعها بعد العثار استقلت

أريد الثواء عندها وظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت ومنها. وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت لك المرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوا منها للمقيل اضمحلت كأني وإياها سحابه ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت وذكر أبو علي البغدادي إنّه قيل لكثير: من أشعر؟ أنت أم جميل؟ قال: أنا. فقيل له: كيف، وأنت راويته؟ فقال جميل الذي يقول: رمى الله في عيني بثينة بالقذا ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح! وأنا أقول: هنيئا مريئا غير داءٍ مخامر، الخ. قلت: وقد وقع له بعد هذا البيت نحو ما لجميل، حيث قال: فإن تكن العتبي فأهلا ومرحبا ... وحقت لها التعبسي لدينا وقلت وإنَّ تكن الأخرى فإن وراءنا ... منادح لو سارت بها العيس كلت فقوله: وراءنا مناديح أضر على قلب عزة من القذى في العين، غير إنّه قال أيضاً: أسيئي بنا أو احسني لا ملومة ... لدينا ولا ملقية إنَّ تقلت وقال الأخر: سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت ذكروا أنَّ فتى أتي به بعض الخلفاء ثملا، فسأله. فأنشد ذلك، وقال آخرون: أتي بفتى من قريش إلى عبد الملك بن مروان، فقال له: أين شربت؟ فقال: شربت مع الجوزاء كأسا روية ... وأخرى مع الشعري إذا ما استقلت معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلت قتل عثمان حلت فاستظرفه وأمر بإطلاقه، وأعطاه عشره آلاف درهم. والسادات الصوفية، أسبل الله رضوانه عليهم، وحشرنا إليهم، يتمثلون بالبيت السابق في شرابهم المستطاب، الذي كل شراب

دونه سراب أو عذاب؛ وفي ذلك قال الإمام المقدسي، مضمنا للبيت المذكور: أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها ... وحل لها في حكمها ما استحلت وما كنت ممن يظهر السر إنّما ... عروس هواها في ضميري تجلت فشاهدتها فاستغرقتني فكرة ... أغيب بها عن كل كلي وجملتي وحلت محل الكل مني بكلها ... فإياي إياها إذا ما تبدت ونمت على سري فكانت هي التي ... عليها بها بين البرية نمت إذا سألت من أنت؟ قلت أنا الذي ... بقائي إذا أفنيت قيل هويتي أنا الحق في عشقي كما أن سيهي ... هو الحق في حسني لغير معية فإن أك في سكري فإنني ... حكمت بتمزيق الفؤاد المفتت ولا غرو إنَّ أصليت نار تحرقي ... ونار الهوى للعاشقين أعدت ومن عجبي أنَّ الذين أحبهم ... وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني، لغنت وقال الأخر: لقد بخلت حتى لو إني سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنت فإنَ بخلت فالبخل منها سجية ... وإنَّ بذلت أعطت قليلا وأكدت وسيأتي في هذا المعنى ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى. وقال أعرابي: شر قرين للكبير بعلته ... تولغ كلبا سؤره أو تكفته البعلة: الزوجة، والرجل بعل. والمعنى أن الرجل إذا كبر تقذرته امرأته: فلا تشرب فضلة شرابه، بل تسقيه كلبا أو تكفته على الأرض. وقال الأخر: أقول إذ حوقلت أو دنوت، ... وبعض حيقال الرجال الموت: مالي إذا أنزعتها صأيت ... أكبر غيري أم بيت؟ والبيت: الزوجة أيضاً.

فائدة: الزوجة لها أسماء عدة: منه البعلة والبيت وتقدم ومنها الشهلة. قال الشاعر: له شهلة شابت ومامس جيبها ... ولا راحتيها الشثنتين عبير وتطلق الشهلة على العجوز كقول الآخر: باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا وهذا أيضاً محتمل. ومنها الحليلة وجمعها حلائل. قال الله تعالى: وحلائل آبائكم. ومنها العرس بكسر العين. قال امرؤ القيس: كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وامنع عرسي أن يزن بها الخالي ويقال للرجل أيضاً عرس وكذا العروس يستويان فيه غير إنّه إنّما يوصفان به ما دام في إعراسهما بخلاف العرس. وأما العرس بضم العين فاسم الوليمة ومنها الحنة. قال الشاعر: ما أنت بالحنة الودود ولا ... عندك خير يرجى لملتمس ومنها الطلة قال الشاعر: وإنَّ امرؤا في الناس كنت أبن أمه ... تبدل مني طلة لغبين دعتك إلى هجري فطاوعت أمرها ... فنفسك لا نفسي بذاك تهين ومنها الربض ويقال الربض أيضاً لكل ما أويت إليه. قال الشاعر: جاء الشتاء ولمّا اتخذ ربضا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص ومنها القعيدة. قال الحطيئة: أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدة لكاع ومنها الزوج ويطلق على الذكر والأنثى. وقد بقال الزوجة على قلة كقول الفرزدق: وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقال سليمان العدوي أو الخزاعي في مرثيته للحسين رضي الله عنه: إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وقتلنا قيس إذا النعل زلت وهو مثل قول اللحيص بيض:

ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم ابطح وقرئ على قبر بالمدينة: يا مفردا سكن الثرى وبقيت لو ... كنت اصدق إذ بليت بليت الحي يكذب: لا صديق لميت ... لو صح ذاك ومت كنت أموت ومثله قول الآخر: ومن عجب أن بت مستشعر الثرا ... وبت بما زودتني متمتعا ولم إنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى تنطوي في الثر معا وقول الآخر: ما وفي العباد حي لميت ... بعد ياس منه له في الإياب وقول الآخر: نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن وارى التراب نسيب وقال أبو محمّد الحريري رحمه الله تعالى في غلام ابقل عذاره: قال العواذل ما هذا الغلام به: ... أما ترى الشعر في خديه نبتا فقلت والله لو إنَّ المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى؟ وقال أبن زهر الاشبيلي إذ غلب عليه الشيب: إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا رأيت فيها شيوخا لست اعرفه ... وكنت اعهده من قبل ذاك فتى فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟ فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... أتى الذي أنكرته مقلتاه أتى كانت سليمة تنادي: يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم: يا أبتا وتقدم بعضه قبل هذا الباب. وقال الآخر: الصبر محمود إلى غاية ... وهذه الغاية حتى متى؟ ما احسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى

وهو مأخوذ من قول بعض الحكماء: ما احسن الصبر لولا إنَّ النفقة عليه من العمر. وقال الآخر: ألم تر إنَّ الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت؟ فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... وقل لاجتماع العيش: لابد من شت وقال الآخر: إذا لم يكن مني تصامم ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... وإنَّ قلت إني صمت يوما فما صمت وفيه الجناس التام. وقال الآخر وقد قدم على المواريث: وما نلت من شغل المواريث غير إنَّ ... اسرح نعشا كلما مات ميت واكتب بالأموات صك كأنهم ... يخاف عليهم من الحساب التفلت كأني لعزرائيل صرت مناقضا: ... فهاهو يمحو كل يوم واثبت وقال الفرزدق: بنو دارم إكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح في اكفائها الحبطات وكان بلغه إنَّ رجلا من الحبطات يخطب امرأة من دارم فقال ذلك. ودارم هو مالك بن حنضلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وآل مسمع كمنبر من بني قيس بن ثعلبة وهم بيت بكر بن وائل في الإسلام. والحبطات بنو الحارث بن عمرو بن تميم وكان أبوهم الحارث يلقب بالحبط بكسر الباء الموحدة والحبط هو الذي يصبه الحبط بفتحتين وهو انتفاخ بطون الماشية من أكل النبات كما مر. وأصاب ذلك الحارث في بعض أسفاره فقيل له الحبط وقيل لأولاده الحبطات. ويضرب هذا البيت مثلا لمن طمح إلى فوق قدره في هذا المعنى. وقال بعض الأعراب: وسائلي عن خبري لويت ... فقلت: لا ادري وقد دريت وقبله:

ومنهل في الغراب ميت ... كأنه من الأجوان زيت سقيت منه القوم واستقيت ... وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت ... ولم تضرني كنة وبيت وجمة تسألني أعطيت ... وسائلي عن خبري لبيت والبيت هنا أيضاً الزوجة والجمة القوم يسألون في الديات. وقال الآخر: خليلي هذي زفارة اليوم قد مضت ... فمن لغد من زفرة قد أظلت ومن زفارات لو قصدن قتلنني ... تقص التي تبقى التي قد تولت وقال الآخر: القني في لظى: فإن أحرقتني ... فيقين أن لست بالياقوت جمع النسيج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت وهذا الشعر معروف مشهور ولم يعرف قائله ويتمثل به على نحو قولهم: ما كل سوداء تمرة وقولهم: مرعى ولا كالسعدان. وتقدم معنى البيت الأول في قول الحريري: وربما أصيل الياقوت جمر لطى ... ثم أنطفى الجمر والياقوت ياقوت وقال بعضهم في مناقضة البيتين المذكورين: أيّها المدعي الفخار دع الف ... خر لذي الكبرياء والجبروت نسيج داود لم يفد ليلة ... الغار وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند في لهب ... النار مزيل فضيلة الياقوت وكذاك النعمام يلتقم الجزيرة ... مر وما الجمر للنعام بقوت وأراد إنَّ للعنكبوت شرف عظيما بنسيجها على فم الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وذلك مشهور. وقد قيل إنّها أيضاً نسجت على نبي الله داود عليه السلام حين طلبه طالوت وعلى عبد الله بن انس حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل خالد الهذلي وعلى عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي

طالب رضي الله عنهم حين صلب عريان والله اعلم. والسمند الذي ذكره هو السمندل بالام وهو طائر يكون في أرض الهند لا يحترق بالنار تصنع منه المناديل فإذا اتسخت ألقيت في النار فأكلت النار ما عليها من الأوساخ وبقيت نظيفة فكان ذلك لها غسلا وإذا غمس شيء منها في الزيت وجعل في المصباح اشتعل بما فيه من الزيت ولم يحترق منه شيء أصلا ولو بقي ما بقي. وبعد كتابي هذا وجدت في بعض الدواوين أصل هذا الشعر وهوان بعض الملوك كان له وزير فعتب عليه شيئاً وحلف ليستبدلنه بمن لقي. فلقي أعرابي رث الهيئة فاستوزره فقال الوزير الأول وكان اسمه ياقوت يعرض للثاني: احكم النسيج كل من حاك لكن ... نسيج داود ليس كالعنكبوت القني في لظا البيت. فأجابه الثاني بقوله: نسج داود ما حمى صاحب الغار ... وكان الغار للعنكبوت وفراخ السمند في لهب النار ... أزالت فضيلة الياقوت وقالت امامة العامرية من شعراء الحماسة: وحرب يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات وقال جحدر: قد علمت والدتيي ما ضمت ... ولففت خرق وشمت إذا الكماة بالكماة التفت ... امخدج اليدين أم أتمت أي قد علمت مخائل الكرم في منذ ولدتني وعلمت إني تام الخلق غير ناقص لإقدامي وجراتي. وقال سنان بن فحل الطائي:

وقالوا قد جننت فقلت كلا ... وربي ما جننت ولا انتشيت ولكني ظلمت فكدت ابكي ... من الظلم المبرح أو بكيت فإنَ الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرة وذو طويت وقبلك رب خصم قد تمالوا ... علي فما جزعت ولا نيت ولكني نصبت لهم جبيني ... وألة فارس حتى قريت وقال تأبط شرا: ألم تعلم بأني لا كبير ... فتهونه ولا ضرع شخيت وإنَّ على وداعي كل خير ... وإنَّ قذافي الموت المميت الضرع: الضعيف والشخيت: الضئيل الحقير والوداع: المودعة والمسالمة والقذاف: المقاذفة اللسان وقال المأمون العباسي: وما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته إلاّ وما ينقص من عقله ... اكثر مما زاد في لحيته وكان يوما جالسا مع ندمائه يذكرون أخبار الناس فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلاّ نقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته وما رأيت عاقلا قط طويل اللحية فلم يسلم له جلساؤه ذلك. فبينما هم كذلك إذ اقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة حسن الثياب. فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هو رجل عاقل وقال آخر: يجب إنَّ يكون هذا قاضيا. فقال المأمون: علي به فلم يلبث أن صعد إليه فسلم وأجاد السلام واستنطقه بأحسن المنطق. فقال المأمون: أبو حمدوية. قال: ما الكنية؟ قال: علوية. فضحك المأمون واقبل على جلسائه فغمزهم عليه ثم قال: ما صنعتك؟ قال: أنا فقيه أجيد الشرح للسائل. فقال المأمون: نسألك عن مسألة؟ قال: سل عما بدا لك! فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل فلما سلمها المشتري ومضى خرجت من أستها بعرة ففقأت عين رجل. على من تجب دية

العين؟ قال: تجب على البائع دون المشتري. فقال المأمون: وما العلة التي أوجبت الدية على البائع دون المشتري؟ قال: لأنّه لمّا باعها لم يشترط إنَّ في أستها منجنيقا. قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه وضحك كل من حضر من الندماء وأنشأ المأمون يقول: ما أحد طالت لحيته البيتين ومثله قول الآخر: إذا عظمت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته فنقص عقل الفتى فاعلمن ... بمقدار ما زاد من لحيته وقول الآخر: لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة تهوي بها هوج الرياح ... كأنها ذنب السحلية قد يدرك الشرف الفتى ... يوما ولحيته قليلة السحلية: ولد البقرة والجمع حسيل. وقول الآخر: وكل امرئ ذي لحية عثولية ... يقوم عليها ظن إنَّ له فشلا وما الفضل من طول السبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا وقال الحسن بن المثنى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء. وسيأتي من هذا المعنى ما في الكفاية إن شاء الله تعالى. وقول الآخر: إذا لم يكن فيك ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات وقال الآخر: يقوا أناس: لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما ادري لهم كيف انعت فليس لشيء منه حدّثني أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت إذا اشتد مابي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي واصمت وانضح وجه الأرض طورا بعبرتي ... واقرعها طورا بظفري وانكت وقد زعم الواشون إني سلوتها: ... فما لي أراها من بعيد فأهبت؟ وقال دعبل بن علي الخزعلي:

أحببت ومي ولم اعدل بحبهم ... قالوا: تعصب جهلا قول ذي بهت دعني أصل رحمي إنَّ كانت قاطعها: ... لا بد للرحيم الدنيا من الصلة فاحفظ عشيرتك الادنين إنَّ لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة وقال الأخر: ليس أعرابي من بالحارث: رئمت لسلمى فضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أبات فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافا على الشبهات وقال الحامسي: إذا ما يد لم تعط مما تخولت ... من المال في المعروف يوم فشلت فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم احفل حتى متى ما أظلت فمنهن أن ألقى الصليب وأهله ... واقدم فوق القارح المتفلت ومنهن أن أعطي الكريم بسؤله ... إذا شعب المعروف في الناس قلت ومنهن إبراز الفتاة بنانها ... وقد أعطيت من صورة ما تمنت اصاح تروح نترك الجهل والصبا ... ونمح بقيا فتنة قد أظلت فما لك من ليلى ساء تحية ... تكون وداعا للفرق وقلت وزفرة مجزون وذكر مصيبة ... سلوت ولو عزت علي وجلت لم احفل: لم أبال وأظلت: أقبلت وغشيت وشعب المعروف: طرقه وأسبابه. وهذا التقسيم كأنه آخذه من قول طرفة بن العبد: فلولا ثلاث هن من عيش الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تجعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطرف المعمد

وسيأتي مع بيانه في محله إن شاء الله تعالى. وقال الشيخ أبي الفارض رضي الله عنه: كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي وسيأتي إنشاد ما قيل في النحول إن شاء الله تعالى. وقال: أروم وقد طال المدى منك نظرة ... وكم من دماء دون مرامي طلت وقال: وجنبني حبيبك وصل معاشري ... وحببني ما عشت قطع عشيرتي وأبعدني عن أربعي بعد أربع ... شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا ... وبالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي وما ظفرت بالود روح مراحة ... ولا بالولا نفس صفا العيش ودت وأين الصفا؟ هيهات من عيش عاشق ... وجنة عدن بالمكاره حفت وحسن به تسبي النهى دلني على ... هوى حسنت فيه لعزك ذلتي وقال أبو الفرج بن هند: لا يرد الردى لزوم بيوت ... لا ولا يقتضيه جوب فلاة مولد الدر حماة فإذا سا ... فر حل التيجان واللماتسة وتقدم في هذا المعنى شعر كثير. ولنذكر هنا شيئا من غير ما مر من ذلك قول أبن الساعاتي: اهلك والليل منضيا جملك ... شمر فخير البلاد ما حملك لا خير في بقعة تروى من الأ ... رض إذا لم تنل بها املك حتام لا تعمل الجياد ولا ... تعمل في كل غاية جملك لقد تربص خيفة الأجل ... المحتوم لو كان دافعا أجلك وحبذا ذاك لو وجدت فتى ... افضل يوما عليك أو فضلك قال أبن قلاقس:

سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا والماء يسكب إن جرى ... طيبا ويخبث ما استقرا وبنقلة الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا وله أيضاً: شرفي جاوز الغنى ومن العا ... رضما انحط عن رؤوس الجبال كيف لا أسرع التنقل والمشهر ... للبدر سرعة الانتقال وقوله أيضاً: إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده وقول أبن الغنائم: سر طالبا غاياتها: أما ترى ... فوق الثريا أو ترى تحت الثرى لا تخلدن إلى المقام فإنما ... سير الهلال قضا له أن يقمرا لا تبك دارا فالفتى من إن دعا ... دمعا عصاه وإن دعاه ما جرى أين الكنائس من العرين وغزلا ... ن اللوى في المجد من أسد الشرى لو ينتج الوطن العلا ما سار عن ... غمدان سيد حمير مستنصرا والليث لو وجد الفريسة رابضا ... أو ناهضا في خيسة ما اصحرا لا عار في بيع النفوس على الردى ... عندي إذا كان العلاء المشترى حتام حظي في الوهاد وأصحاب ... الدناءة في الشواهق والذرى؟ ما الجبن يحميني الحمام ولا أرى ... الأقدام يجلب لي سوى ما قدرا لا بد منها وثبة تسعى الظبى ... فيها وتكسو الجو فيها العيثرا أشكو إلى الأيام ما ألقى لها ... وجها على تلوينها مستبشرا

ما عذر من لم يلق وجها ابيضا ... منهن إن لم يلق وجها احمرا وقال أبو الفضل التميمي: دعني اسر في البلاد متلمسا ... فضل مال إن لم يفر زانا فبيدق الرخ وهو ايسر ما ... في الدست إن سار صار فرزانا وقال أبن صردر: قلقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني للقصور لولا التغرب ما ارتقى ... در البحور إلى النحور وقول الآخر: دعي عزمات المستضام تسير ... فتنجد في عرض الفلا وتغور اللم تعلمي إنَّ الثواء هو التوى ... وإنَّ بيوت العاجزين قبور وقول أبي إسحاق الغزي: يا حليا عاطل البيد ... بوجه النجيبة الشملال زحل اكبر الكواكب لا ... يحمل إلاّ من قلة الانتقال وقول أبن قلاقس أيضاً: إن كنت تبغي وطنا ... من العلى فاغترب فالسمر في غاباتها ... معدودة في القصب والشمس لا ترقب في ... المشرق لو لم تغرب وقول أبن الساعاتي أيضاً: وكن غنيا عن كل أرض بأختها ... وإنَّ حل مغناها كواعب عين فلولا فراق الدر أصداف بحره ... لأنكره تاج وصد جبين وقوله أيضاً: ولا يصدنك عن شيء ترفعه ... فربما صار وردا نازح السحب لم يشرق الدر لولا هجر موطنه ... والبدر ما تم حتى جد في الطلب

وقول الآخر: فالتبر كالتراب ملقى في موطنه ... والعود في أرضه نوع من الحطب ومثله قول الآخر: أضيع في معشري وكم بلد ... يعود الكباء من حطبه وقول أبن السكن: قالوا نراك كثير السير مجتهداً ... في الأرض طوراً وترتحل فقلت لو لم يكن في السير فائدة ... ما كانت السبع في الأبراج تنتقل وقال الأخر: أقول لجارتي والدمع جرٍ ... ولي عزم الرحيل من الديار ذريني أنَّ أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري وقال أبن سناء الملك: وأسعد الناس من لاقى بلا تعب ... مبدأ السعادة في مبدأ شبيبته وهذا البيت من أبيات يمدح بها والده الرشيد، وهي: إني لأرثي لدمعي من تزاحمه ... كما رثيت لشملي من تشتته أنا القوي بعزمي والرشيد أبي ... هو الرئيس على الدنيا بهمته أبني وأنشر بيت المجد مجتهداً ... في لم لمته أو رم رمته أصبحت أحتال في حال ونضرتها ... به وارتع في عيشي وخضرته واسعد الناس " البيت " ومما مدحه به أيضاً قوله: يكفيك أني بك يا سيدي ... قد طاب أصلي وزكا محتدي جاوزت حدّثني البر بي صاعداً ... فقف: فما أبقيت من مصعد! وقوله أيضاً من قصيدة: أني لي النقص إنَّ مجد أبي ... سام كما أنَّ قدره سابق هو الرشيد الذي رياسته ... سارت، فلا زاجر ولا سائق

يكنى أبا الفضل وهو يعشق ... نفس الفضل، والمرء لابنه عاشق وأين هذا من أبن الرومي، حيث يقول في هجو أبيه، وبئس ما قال!: لو كان مثلك في زمان محمّدً ... ما جاء في القرآن بر الوالد! وأبن عنين في قوله: وجبتني أن أفعل الخير والد ... قليل إذا عد أهل المناسب! بعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المثالب إذا رمت أنَّ أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي ومثل هذا البيت قول الآخر في خالد بن عبد الله القسري، أو في غيره: إذا نبهته نخوة عربية ... إلى المجد قالت إرمنيته نم وممن هجا والده أبن بسام، حتى قال: فيه بعض الشعراء: من شاء يهجو عليا ... فشعره قد كفاه لو إنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه وقال الأخر: لا تخف للخطوب في كل وقتٍ ... لا ولا تخشاها وإنَّ هي جلت! فحقيق دوامها ليس يبقى ... كثرت في الزمان أو هي قلت واردع للهموم صبرا جميلاً ... فالرزايا إذا توالت تولت وقال الأخر في هذا المعنى: اصبر إذا نائبه حلت ... فهي سواء والتي ولت واستنهض العزم فليس الظبا ... تربي وتفري كالتي كلت وفي هذا المعنى شعر كثير تقدم بعضه، وسيأتي في محل أخر، إن شاء الله تعالى. وقال الأخر: القبر أخفى سترة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات أما رأيت الله جل اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات؟ وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.

وقال الأخر: اقنع بأسير شيء أنت نائله ... واصبر ولا تتعرض للولايات! فما صفا النيل إلاّ وهو منتقص ... ولا تكدر إلاّ في الزيادات ومثله قول أبن طباطبا: كن بما اوتيته مغتبطا ... تستدم عمر القنوع المكتفي! إنَّ في النيل المنى وشك الردى ... وقياس عند السرف كسراج دهنه قوته ... فإذا أغرقته فيه طفي وقال الأخر: خذ من العيش ما كفى كسراج منور ... إن طفا دهنته انطفا وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى. وقال البحتري: إنَّ أبق أو اهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي وغنيت ندمان الخلائف نابها ... ذكري وناعمة بهم نشواتي وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل فأنجحوا طلباتي ووضعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة وقال دعبل الخزاعي: لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت إني إذا قلت بيتا ماتب قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت ونحوه قول الآخر: فللشعراء ألسنه حداد ... على العورات موفية دليله

ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... ودارهم مدارة جميلة إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإنَّ كذبوا فليس لهن حيله وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.

وقال الأخر يتشوق إلى أهله: ولي كبد مكلومة لفراقكم ... أطمئنها صبراً على ما أجنت تمنتكم شوقا إليكم وصبوة ... عسى الله أنَّ يدني لها ما تمنت وعين جفاها النوم واعتادها البكا ... إذا عن ذكر القيروان استهلت وقال تميم بن جميل بين يدي المعتصم، وقد قدم السيف والنطع ليقتله: أرى الموت بين النطع والسيف كامنا ... يلاحظني من حيث ما أتلفت واكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئٍ مما قضى الله يفلت؟ وأي امرئ يدلي بعذر وحجةٍ ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت؟ يعز على الأوس بن تغلي موقف ... يهز علي السيف فيه وأسكت فما حزني إني أموت وإنني ... لأعلم أنَّ لموت شيء موقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت! كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بنعمةٍ ... أذوذ الردى عنهم وإنَّ من موتوا فكم قائل لا يعبد الله داره ... وآخر جذلان يسير ويشمت! فعفا عنه المعتصم، واحسن إليه، وقلده عملا. ونحو البيت الأخير قول الأول: إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع وقال أبن رشيق: أيّها الموحي إلينا ... نفثه الصل الصموت ما سكتنا عنك عيا ... رب نطقٍ في السكوت لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت إنَّ يهن وهنا ففيه ... حيلتا سكنى وقوت!

ومثل هذا قوله أيضاً: واحرق أكال للحم صديقه ... وليس لجاري ريقه بمسيغ لست له ظنا بعرضي فلم أجب ... ورب جواب في السكوت بليغ وقول الآخر: واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا وقول الآخر: أيا رب إنَّ الناس لا ينصفوني ... ولم يحسنوا قرضي على حسنات إذا ما رأوني في رخاء توددوا ... إلي وأعداء لدى الأزمات ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدتي جذلات ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... وإنَّ عنهم أخرتهم فعداتي سأمنع قلبي إنَّ يحن إليهم ... واصرف عن قاليا لحظاتي والزم نفسي الصبر دائبا لعلني ... أعين ما أملت قبل مماتي ألا إنّما الدنيا كفاف وصحة ... وأمن ثلاث طيب كل حياة وقال الأخر: وما النفس إلاّ حيث يجعلها الفتى: ... فإن توقت تاقت وإلاّ تسلت وقال الأخر: إذا ما مددت النفس التمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشلت سأصبر جهدي إنَّ في الصبر عزة ... وأرضى بدنياي وإنَّ هي قلت وقال الأخر: من لي بذكري كلما أوحشته ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت؟ وقد كنت قلت معنى البيت الأخير، قبل إنَّ أراه، وهو مطلع قصيدة: طرقت من بعد الهدو بلابل ... تمهى كما طرق الخميلة وابل سحب متى تحلل بأكناف الحشى ... ينبت به منها القتاد الراعل

إلاّ إنّه جعله في مطر الدموع، وأنا جعلته في مطر الأحزان؛ وجعله في المضجع، وأنا جعلته في وسط الفؤاد، وإليك ارتياد الإبلاغ! تقسم منك الترب قومي وجيرتي: ففي الظاهر إحيائي وفي البطن أمواتي وتقدم كثير مما قيل في ذكر الوطن، وسيأتي مزيد فيه، إن شاء الله تعالى. وقلت أنا في قوم غشوا لئيما فجعل جائزتهم الازدراء: لأن تهملوا أو يزدرى بوجوهكم ... فذوا ورطات خاضها الطين بابته ومن يستبل يوما حميراً ينلنه ... فلا يشجعه من بولهن إصابته ولو كان حلم لأدري المرء إنّه ... من النوك أنَّ تمتد للصخر راحته إلاّ إنَّ برقا خلبا غير ممطر ... وشائمة الحرمان والغم غايته! ودخلت يوما عليه للتسليم عليه، فرأيت من لقياه ما أكره، فقلت في نفسي ارتجالا أو شبه ارتجال: أتكبر يا أبن اللؤم بالكبر والخنا ... ولؤم لديه ما درى كرم الخلق؟ وتلتمس ركن المعالي براحة ... مغللة منها البنان إلى العنق؟ وتستقبلن وجه السيادة مسفراً ... بوجه كوجه الضفدع التف في سحق؟ وترقى سرير الملك يوما بأحمصٍ ... لو أعتسفت خضر الصوح بالمحق؟ ولو خاضت العذاب الفرات غدابها ... زعاقا يغص الشاربين وذا رنقِ وتجري تصريف الرعايا جميعها ... على مسكة العصفور ذي الطيش الخرق وتقدم في دفع الملمات عنهم ... بقلب هيوب يستفز من الوق فهيهات منك المجد إنَّ كنت عاقلاً ... فدعه وإنَّ كنت المهوس فأسترق! فلا خير فيه غير أن لقاءه ... يعلمك الهجو البليغ على صدق وإن هجا الناس ليس يسوؤه ... وهل ساء من على العرض يستبقي؟ دخلت عليه زائرا فإذا أنا ... بكلب مطير عابس مائل الشدق واحسن إذا أخطأت إن زرت مثله ... فيعاقبني بالتيه أو سيئ الخلق وأنا أستغفر الله العظيم من هجو المسلمين، وثلب أعراض الغافلين. ولولا أن اغتياب

البخيل، ورد فيه ترخيص وتسهيل، مع إبتناء الكتاب، على قصد الإمتاع من كل باب، ما مضمضت بالهجو لساني، وسطرته ببناني. وهيهفاء يحكيها القضيب تأوداً ... إذا ما انثنت في الريط أو حبراتها يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... يضيق بها الأحشاء عن زفراتها وما ظبية أدماء تألف وحدة ... تزيد ظلال الضال أو أثلاتها بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها وقال أبن النبيه: من لي بسلمى وفي أجفان مقلتها ... للحرب بيض حداد قط ما صحفت يهتز بين وشاحيها قضيب نقى ... حمائم في أفنانه صدحت وأسود الخال في محمر وجنتها ... كمسكة نفحت في جمرة لفحت وقال الحماسي في غير هذا المعنى: لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت تجود برجليها وتمنع درها ... وإنَّ طلبت منها المحبة هرت وقوله تحك قفاها: يريد إنّها لا تحسن احتكاكا، فضلا عن غيره. وقوله تجود برجليها، الخ: يريد إنّها تتأتى لمن يريد غشيانها، ولا تصلح للولادة، لأنها قعدت عنها فلا در لها. وتقدم هذا المعنى. وقال الحماسي أيضاً في لتلميح: إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت وفي هذا القدر كفاية من هذا الباب، والله يقول الحق ويهدي السبيل.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم باب الثاء الثابت يكسر الوثبات. الثابت: الرزانة والحلم، وهو ضد الخفة والطيش. والوثبات: جمع وثبة، وهي الصولة والانتقام. وهذا مثل ظاهر المعنى، وهو مصنوع فيما أظن. أثقف من سنورٍ. يقال ثقف الرجل، بضم القاف، يثقف ثقافة، فهو ثقف وثقيف؛ وثقف، بكسرها، يثقف ثقفا، فهو ثقف وثقف، كندس وندسٍ، إذا كان حاذقا فطنا خفيفا. ومنه، حديث أنس: وكان غلاما ثقفا. والسنور، على وزن جردحل: الهر المعروف، والأنثى سنورة، وله أسماء كثيرة، حتى حكي أنَّ أعرابياً صاده ولم يعرفه. فلقيه إنسان، فقال له: ما هذا السنور؟ ثم لقيه أخر، فقال: ما هذا القط؟ ثم آخر، ثم آخر. فلما رأى كثرة أسمائه ظن أن ذلك لخير عظيم فيه، فقال: أبيعه، لعل الله تعالى يرزقني مالاً كثيراً. فلما وقفه في السوق قيل له: بكم تبيعه؟ قال: بمائة دينار. فقيل له إنّه لا يساوي إلا نصف درهم. فرمى به وقال: لعنه الله! ما اكثر أسمائه، وأقل بركته! وهو في الخفة وسرعة الاختطاف النهاية. فمن ثم ضرب به المثل. أثقل رأساً من فهدٍ. الفهد، بفتح الفاء وسكون الهاء بعدها دال مهملة، الحيوان المعروف الذي يتصيد به، وهو سبع، ويزعمون إنّه متولد من بين الأسد والنمر. وفهد الرجل، بالكسر تشبه بالفهد في نومه وتمدده، كما في حديث أم زرع: إنَّ دخل فهد وإنَّ خرج أسد. ويقال فهد أيضاً إذا نام وتغافل عما يجب تعهده. والفهد كثير النوم ثقيله، ومن ثم قالوا: أنوم من فهد، وأثقل رأساً من فهد.

مثقل استعان بذقنه.

مثقل استعان بذقنه. المثقل، من الثقل المذكور، وهو ضد الخفة. ويقال: ثقل الشيء بالضم، يثقل، ثقلاً، على مقال عنب، فهو ثقيل؛ وثقله تثقيلا؛ وأثقله تثقيلا؛ وأثقله. والاستعانة: طلب العون. والذقن، بفتحتين والذال معجمة: معجم اللحيين من اسفل. يضرب هذا المثل للذليل يستعين بمثله أو أذل منه. وأصله في البعير يحمل عليه الثقل فلا يستطيع إنَّ ينهض به، فيضرب بذقنه على الأرض، معتمدا عليه ليقوم. أثقل من حديث معادٍ. الثقل تقدم؛ والحديث: الخبر؛ والمعاد: الذي سمعته ثم أعيد عليك مرة أخرى فهو يثقل على السماع كثيرا لعدم الداعي إلى سماعه، مع الملل الحاصل للنفس من تكراره. والنفس للطافتها وروحانيتها اكثر من البدن تألما بالاذاية واقل صبرا واحتمالا، فلا تكاد ترتاح إلاّ إلى ما فيه غذاؤها، من علوم تستحصلها، أو غرائب ولطائف تتفكه بها. فإذا عمدت ذلك غلبها الضجر، ونفرت غاية النفر؛ ومن ثم تستثقل الكلام المعاد وتمل منه، ولو كان في نفسه بليغا عجيبا، إذ لم يبق لها حظ فيه. وكان عدم الملل في كتاب الله تعالى، مع معاودته على مرور الليلي والأيام، معجزة ظاهرة للعيان؛ ومن ثم قيل: كل مكرر مملول إلاّ القرآن. ومما قيل في ثقيل: يا ثقيلاُ على القلوب إذا عن ... لها أيقنت بطول الجهاد! يا قذى في العيون يا غلة بين ... تراقي حرارة في الفؤاد! يا طلوع العذول يا بين ألف ... يا غريما أتى على الميعاد! يا ركوما في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم الكساد! خل عنا فإنما أنت فينا ... وأو عمرو وكالحديث المعاد! وامض في غير صحبة الله ما عشت ... ملقى من كل فج وواد يتخطى بك المهامه والبيد ... دليل أعمى كثير الرقاد

وقال بعضهم في صفة ثقيل: هو أثقل من دواء بلا علة، وأبغض من خراج بلا غلة؛ قد خرج عن حدّثني الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشمال؛ يحكي ثقل الحديث المعاد، ويمشي على القلوب والأكباد؛ إذا نظرت إلى مشيته أنشدت: مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... وقال: إلاهي زيدت الأرض ثامنه! وقد يستحسن إعادة الحديث، لا لذاته بل لأمر عارض فيه للنفس أرب أما رغبة في كلام المتكلم خصوصا، أو في نغمته، أو في النظر إليه، أو في دوام جلوسه، أو عدم قضاء الوطر من ذلك الكلام أو نحو ذلك، ومن ثم يستعدا حديث المحبين والمغنين، كما قيل: وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها ولهذا الشعر حديث عجيب: ذكروا إنَّ رجلاً خرج في طلب إبل له أضلها. قال: فبينما أنا في واد إذ سمعت صوت منشد ينشد: وكنت إذا ما جئت سعدي أزورها " البيتين ". فدنوت من الصوت، فإذا أنا براعٍ قد ضم غنما له تحت شجرة وهو يترنم، فسلمت عليه، فرد علي السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع مه المسالك، أتاك يستعين بك ويستجير. فقال: أهلاً ومرحبا، انزل على الرحب! فعندي وطاء وطي وطعام غير بطي. فنزلت فنزع شملته، فبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز، ثم قال: اعذرني في هذا الوقت! فقلت: والله إنَّ هذا لخير كثير! فمال إلى فرسي فربطه وساقه وعلق عليه. وفلما أكلت صليت واستندت فبينما أنا بين النائم واليقظان، إذ أقبلت من فوق الوادي جارية أطلعت الشمس في غير أوان طلوعها، فوثب الفتى إليها، وجعل يقبل الأرض حتى وصل إليها. فأخذ في حديث مستلذ، مع شكوى وزفرات، وأنا متناوم، وهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح. ولم يزالا كذلك حتى طلع الفجر، فعانقها وتنفس الصعداء وبكيا، ثم قال لها: يا ابنة العم، بالله لا تبطئي علي كما أبطأت الليلة! فقالت يا أبن العم، ما علمت أني أنتظر الرقباء والوشاة حتى يناموا؟ فودعها وافترقا، وكل منهما ينظر لصاحبه ويبكي. فبكيت رحمة لهما ثم قلت في نفسي: أستضيفه الليلة الأخرى حتى أنظر ما يكون من أمرهما. فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداك الأعمال بخواتمها، وقد نالني أمس تعب، واحب إنَّ أستريح عندك اليوم. فقال:

على الرحب والسعة! لو بقيت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلاّ كما تحب. فعمد إلى شاه فذبحها وشواها، فقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلاّ إنّه أكل، أكل من لا يريد أكلا. فلما أزل معه نهاري ذلك، ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما منه؛ إلاّ إنّه كالولهان، ولم أعلمه بشيء مما رأيت. فلما أقبل الليل وطأ وطائي، وصليت وأعلمته إني أريد الهجوع لتعبي. فقال: نم هنيئا! فتناومت فقام ينتظرها إلى هنيئة من الليل وأبطأت. فلما حان وقت مجيئها قلق قلقاً شديداً، فبكى ثم جاء فحركني فأوهمته إني كنت نائما، فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني ز جاءتني البارحة؟ قلت: قد رأيتها. قال تلك ابنة عمي واعز الناس علي، وإني لها محب وعاشق، وهي كذلك وأكثر. ومنعني أبوها من تزويجها لفقري وفاقتي، وتكبر علي، فصرت راعيا بسببها، فكانت تزورني كل ليلة. وقد حان وقت مجيئها، واشتغل قلبي عليها، وتحدثني نفسي إنَّ الأسد قد افترسها، ثم انشأ يقول: ما بال مية لا تأتي لعادتها؟ ... أعاقها طرب أم شدها شغل؟ نفسي فداؤك قد أحللت بي سقما ... تكاد كم حره الأعضاء تنفصل! ثم ذهب فغاب عني ساعة، ثم أتى بشيء فطرحة بين يدي، فإذا بالجارية قتلها الأسد وأكل أعضائها وشوه خلقتها. ثم اخذ السيف وانطلق. فغاب عني ساعة، فإذا هو قد جاء برأس الأسد، فطرحه ناحية ثم قال: ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد جريت حقا لك الشرا! أخلفتني فرداً وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها صفرا ثم قال: بالله يا أخي إلاّ ما سمعت مني، فإني ميت لا محالة! فإذا أنا مت فكفني في عباتي، وضم إلي ما بقي من أعضائها، وادفنا في قبر واحد. وخذ شويهاتي هؤلاء وعصاي وثيابي، فسوف تأتيك عجوز، فأعطها ذلك فهي والدتي. وقال لها: مات ولدك كمداً، فإنها تموت عند ذلك، فادفنها إلى جانب قبرنا، وعلى الدنيا منا السلام! فلم يكن إلاّ قليلا حتى صاح صيحة، ووضع يده على صدره فمات من ساعته. ففعلت به جميع ما أوصاني وبت حزينا باكيا فلما أصبحنا، أقبلت عجوز ولهى، فسألتني عنه، فأخبرته خبره، فجعلت تبكي حتى إذا أقبل الليل شهقت شهقة فارقت

أثقل من حمل الدهيم.

الدنيا. فدفنتها إليه وبت الليلة الرابعة. فلما أصبحت ركبت فرسي وسقت الغنم وإذا أنا بهاتف يقول: كنا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن ففرق الدهر بالتفريق ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن قال: فأتيت الحي ودفعت الغنم لبني عمهم وانصرفت. أثقل من حمل الدهيم. الثقل تقدم؛ والحمل معروف والدهيم على وزن زبير: اسم ناقة عمرو بن الريان الهذلي قتل هو واخوته فحملت رؤوسهم عليها. وتقدمت هذه القصة في حرف الهمزة فقالوا: أشأم من دهيم، وأثقل من حمل دهيم. وظهر كلام الصحاح أنَّ قولهم للداهية الدهيم وأم الدهيم مأخوذ من هذا. أثقل من الزواقي. الثقل مر؛ والزقاء: الصياح. ثقال: زقا الصدا، ويزقو ويزقي زقاء وزقيا إذا صاح. قال: ولو أنَّ ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي جندل وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها الصدى من جانب القبر صائح الزواقي في المثل: الديكة وجمع زاق وزاقية. وكانوا يسمرون بالليل، فإذا صاحت الديكة تفرقوا، فيستثقلونها بذلك فقالوا: أثقل من الزواقي. أثقل من مغن وسطٍ. الثقل مر، والمغني اسم فاعل من الغناء، وبالمد، وهو الصوت. والوسط يكون تارة اسماً غير وصف. فإن كان بالتحريك، فاسم صريح لمّا بين طرفي الشيء، وإنَّ كان بالسكون فظرف، كقول عنترة: ما راعني إلاّ حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم ويقال: كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين، وإلاّ فبالفتح. وقيل: هما جاريان فيما

كان مصمتا كالحلقة؛ فإنَ كان متبادلين الأجزاء فبالسكون فقط. قال صاحب الفصيح فيما يثقل ويخفف باختلاف المعنى: تقول جلس وسط القوم يعني بينهم أي بالتسكين وجلس وسط الدار، وأحتجم وسط رأسه، أي بالتحريك وهذا الذي قلنا أولاً. وقد يكون الوسط وصفا، أما بمعنى الأعدال كقوله تعالى:) وكذلك جعلناكم أمة وسطا (. وأما بمعنى التوسط بين أمرين، ومنه المثل. قال السهيلي: الوسط من أوصاف المدح والتفضيل، ولكن في موضعين: في ذكر النسب وفي ذكر الشهادة. أما النسب فلأن أوسط القبيلة أعرقها وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف وأجدر ألا تضاف إليه الدعوة، لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط، من أجل هذا، مدحا في النسب بهذا السبب. وأما الشهادة فنحو قوله سبحانه قال:) أوسطهم. وجعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (فكان هذا مدحا في الشهادة، لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا كالميزان لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميما، لا يجذبه هوى ولا تميل به الرغبة ولا رهبة من هاهنا ولا من هاهنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل. وظن كثير من الناس أنَّ معنى الأوساط الأفضل على الإطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى الفضلى. وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضيه لفظ التوسط. فإذا كان وسطا في السمن فهو بين الممخة والعجفاء، والوسط في الجمال بين الحسناء والشوهاء إلى غير ذلك من الأوصاف، لا تعطي مدحا ولا ذما. غير انهم قالوا في المثل: أثقل من مغن وسط على الذم، لأنه إنَّ كان مجيداً جدا أمتع وأطرب؛ وإنَّ كان بارد جداً أضحك وألهى، وذلك أيضاً مما يمتع. قال الجاحظ: " وإنّما الكرب الذي يجثم على القلوب ويأخذ بالأنفاس الغناء البارد الذي لا يمتع لحسن ولا يضحك بلهو " انتهى. وقال أبن رشيق: " قال بعضهم: الشعر شعران: جيد محكك، ورديء مضحك. ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط ". وقد قال أبن الرومي يهجو أبن طيفور: عدمتك يا أبي الطاهر ... وأطعمت ثكلك من شاعر فما أنت سخن ولا بارد ... وما بين هذا سوى الفاتر وأنت كذاك تغثي النفوس ... تغثية الفاتر الخاثر

أثقل من الفيل.

ونحو هذا قول الآخر: مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر! وسيأتي هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى. أثقل من الفيل. الثقل مر؛ والفيل بالكسر الحيوان المعروف وثقله معروف. ومما قال بعض الثقلاء يخاطب ثقيلا: أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل وثقيل أنت في المنظر إنسان ... وفي المخبر فيل ولو تعرضت لظل ... فسد الظل الظليل! وقال الأخر: فما الفيل تحمله ميتا ... بأثقل من بعض جلاسنا! ويحكى إنَّ الأعمش كان ينشد هذا البيت عندما يستثقل جليسا، وزعموا إنّه قال: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء! وإنّه نقش على خاتمه: يا مقيت، أبرمت فقم!، فإذا أستثقل جليسا ناوله إياه؛ وإنّه قال له رجل يوما: مم عمشت عيناك؟ فقال: من النظر إلى الثقلاء!. وفي حق الثقلاء قال: جالينوس: لكل شيء حمى، وحمى الروح النظر إلى الثقيل. وقيل له: لم صار الرجل ثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ فقال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب عليه بالجوارح. وقال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح؟ قال: نعم، من ظل الثقلاء. قال: فمررت به يوما وهو بين ثقلين، فقلت له: كيف الروح؟ فقال: في النزع! كان بعضهم إذا رأى ثقيلاً يقول: قد جاءكم جبل. فإذا جلس قال: قد وقع عليكم! قيل لبعض الظرفاء، وكان له ثلاثة بنين ثقلاء: أي بنيك أثقل؟ فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلاّ الوسط. وكان بشار يأتيه ثقيل يقال له أبو سفيان. فسئل عنه بشار

يوما فقال: لا ادري لم لا تحمل الأمانة أرض حملته، ولا كيف احتاجت إلى الجبال بعدما أقلته! كأن قربه أيام المصائب وليالي النوائب؛ وكأن عشرته فقد الحبائب، وسوء العواقب. ثم أنشد: ربما يثقل الجليس وإنَّ كان ... خفيفا في كفة الميزان ولقد قلت حين وتد في البيت ... ثقيل أربى على ثهلان كيف لا تحمل الأمانة ارضٌ ... حملت فوقها أبا سفيان؟ وكان لبشار أيضاً صديق يقال له هلال، فقال لبشار يوما: يا أبا معاذ! إنَّ الله لم يذهب بصر أحد إلاّ عوضه منه شيئاً، فما عوضك؟ قال: الطويل العريض. قال: وما هو؟ قال: إلاّ أراك ولا أرى الثقلاء أمثالك! ثم قال: يا هلال، أتطيعني في نصيحة أخصك بها؟ قال: نعم! قال: انك كنت تسرق الحمير زمانا، ثم تبت وصرت رافضيا؛ فعد إلى سرقة الحمير، فهي والله خير لك من الرفض! وفي هلال هـ يقول بشار: وكيف يحق لي بصري وسمعي ... وحولي عسكران من الثقال قعودا عند دسكرتي وداري ... كأن لهم علي فضول مال؟ إذا ما شئت صبحني هلال ... وأي الناس أثقل من هلال؟ واستأذن بعض الثقلاء على أبن المبارك، فلم يأذن له. فكتب إليه ذلك الثقيل: هل لذي حاجة إليك سبيل؟ ... لا طويل قعوده بل قليل! فأجابه أبن مبارك: أنت يا صاحب الكتاب ثقيل! ... وقليل من الثقيل طويل! ووصف بعض الأذكياء ثقيلاً فقال: هو ثقيل السكون بغيض الحركة، كثير الشؤم قليل البركة، كأنه ثقل الدين، ووجع العين. وما أحقه بقول القائل: ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سره رغم انفي ألم لنظرته وخزة في القلوب ... كوخز المحاجم في الملتزم أقول له إذ أتى: لا أتى ... ولا حملته إلينا قدم عدمت خيالك لا من عمى ... وسمع كلامك لا من صمم!

ووصف أخر ثقيلاً فقال: هو بين الجفن والعين قذاة، وبين القدم والنعل حصاة. ما أشبه طلعته إلاّ بغداة الفراق أو كتاب طلاق أو طلعة الرقيب أو موت الحبيب! مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه طوعا لحظة الرامق يظل في مجلسنا مبرما ... أثقل من واشٍ علىالعاشق وذكر عند العباس بن الحسن العلوي ثقيل يقال له أبو عمار، فقال: ما الحمام على الأصرار، وحول الدين على الأقدار، وشدة السقم في الأسفار، بأثقل على النفس من طلعة أبي عمار. وانشد: تحمل منه الأرض أضعاف ما ... يحمله الحوت من الأرض وقال الأخر: إلمام كل ثقيل قد أضر بنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد ومن يخف علينا لا يلم بنا ... وللثقيل مع الساعات تزداد وقال الأخر: وثقيل أشد من ثقل الموت ... ومن شدة العذاب الأليم ولو عصت ربها الجحيم لمّا كان ... سواه عقوبة للجحيم وقال جحظة البرمكي في صفة ثقيل: يا لفظة النعي بموت الخليل ... يا وقفة التوديع بين الحمول يا شربة اليارج يا أجرة المنزل ... يا وجه العدو الثقيل يا طلعة النعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول يا نهضة المحبوب من غضبةٍ ... يا نعمة قد آذنت بالرحيل ويا كتابا جاء من مخلف ... للوعد مملوء بعذر طويل يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول يا وثبة الحافظ مستعجلا ... بصرفه القينات عند الأصيل

ويا طبيب قد أتى باكراً ... على أخي سقم بماء البقول يا شوكة في قدم رخصةٍ ... ليس إلى إخراجها من سبيل يا عشرة المجذوم في رحله ... ويا صعود السعر عند المعيل يا ردة الحاجب عن قسوة ... يا نكسة بعد برء العليل! وقال آخر في ثقيل: ليس من الناس ولكنه ... يحسبه الناس من الناس أثقل في انفس أصحابه ... من جبل رأسي على رأسِ وقال أخر: يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهدِ إني لأذكره حينا فأحسبه ... من ثقله جالسا مني على كبدي وقال الآخر: نظر العين نحوه ... علم الله يمرض فإذا ما أردتم ... أن تروه فغمضوا لا تصبكم ملمة ... والملمات تعرض وقال الآخر: شخصك من مقلة النديم ... أوحش من نحسة النجوم يا رجلا وجهه علينا ... أثقل من منة اللئيم إني لأرجو بما أقاسي ... منك خلاصي من الجحيم والشعر في هذا المعنى كثير. وقد قال المفسرون نزلت آية في الثقلاء: فإذا طعمتم فانتشروا. أد بهم الله بذلك. وكان حماد بن سلمة إذا رأى ثقيلا قال: ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون. وذكر الأعمش ثقيلا كان يجلس إلى جانبه فقال: والله إني لأبغض شقي الذي يليه مني. وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه وأغمك بحديثه أو سؤاله فأعره عينا عمياء أذنا صماء. وأنشد أيضاً في ذلك: هذا فتى أثقل من أحد ... يصبح من يلقاه في جهد علامة البغض على وجهه ... بينة مذ كان في المهد

ثكل أرأمها ولدا.

لو دخل النار طفا حرها ... ومات من فيها من برد وفي الاستبراد قال آخر في قينة: ولو مازج النار في حرها ... حديثك اخمد منها اللهب وقال كشاجم: غناء بريح بأرض الحجاز ... يطيب وأما بحمص فلا لبرد الغناء وبرد الهواء ... فإنَ جمعا خفت أن يقتلا ولقي برد الخيار المغنى أبا العباس المبرد على الجسر في يوم ثلج فقال له: أنت المبرد وأنا برد الخيار واليوم كما ترى اعتزلنا لا يهلك الناس الفالج بسببنا. وأذكرني هذا قول أبن الخطيب: بياض بمقدار نصف صفحة في النسخ كلها. ثكل أرأمها ولدا. الثكل بضم الثاء: الهلاك والموت وفقد الأحبة وفقد الأولاد وهذا هو الكثير الاستعمال. يقال: ثكله بكسر الكاف ثكلا فهو ثكلان وهي ثكلى مثل سكرى. قالت الحماسية: سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات ويحكى إنَّ عمير بن جندب مات قبيل الإسلام. فجهزوه ثم كشف القناع عن رأسه فقال: أين القصل؟ والقصل بالقاف على الصحيح وبالصاد المهملة واللام على مثال صرد وهو أحد بني عمه. فقالوا: سبحان الله مر آنفا فما حاجتك إليه؟ فقال: أتيت فقيل لي: لامك الهبل إلاّ ترى إلى حفرتك تنثل وقد كادت أمك تثكل؟ أنَّ رأيت إنَّ حولناك إلى محول ثم غيب في حفرتك القصل الذي مشى فاحزأل ثم ملأناها من الجندل؟ أنَّ تعبد ربك وتصل وتترك سبيل من أشرك وضل؟ فقلت: نعم فأفاق عمير وتزوج وولد له الأولاد. ولبث القصل ثلاثا ثم مات ودفن في قبر عمير.

وقال أسماء المرية: أيا جبلي وادي عريعرة التي ... نأت عن ثوى قومي وحق قدومها ألا خليا مجرى الجنوب لعله ... يداوي فؤادي من جواه نسيمها وكيف تداوي الريح شوقا مماطلا ... وعينا طويلا بالدموع سجومها وقولا لركبان تميمية غدت ... إلى البيت ترجو أن تحط جرومها بأن بأكناف الرغام غريبة ... مولهة ثكلى طويلا نئيمها مفجعة أحشاؤها من جوى الهوى ... وتبريح شوق عاكف ما يريمها والإرآم: التحبيب والتعطيف. يقال: رئم فلان كذا بالكسر يرأمه: احبه وألفه ورئمت الناقة ولدها رئما: عطفت عليه وأرأمتها: عطفتها على غير ولدها أو على البو وهو الجلد يحشى لها لتدر عليه. قال: رئمت لسلمى بوضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أباة وقال الحماسي: ومولى جلت عنه الموالي كأنه ... من البؤس مطلي به القار أجرب رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للمبسين محلب وقال الآخر: أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن والولد معروف. والمثل لبيهس المعروف بنعامة. وكان من حديثه أنه خرج مع أخوة له سبعة فلقيهم قوم في موضع يقال له الأثلاث فقتلوهم إلاّ بيهسا وكان أصغرهم. فاستحقروه واستبقوه ثم احتملوه معهم حتى إذا قام قائم الظهيرة نزلوا فنحروا ناقة من وسيقتهم فأكلوا منها ثم قال قائلهم: ظلموا لحم جزوركم فقال بيهس: لكن على الأثلاث لحم لا يظلل يعني لحوم إخوانه المقتولين فأرسلها مثلا. فقال أحدهم: إني لأسمع من هذا الإنسان أمر يوشك أن يكون وراءه شر: فاقتلوه فقال زعيمهم: أيعد علينا هذا بقتيل؟ خلوه لصغر سنه فهو أحقر من ذلك فاحتملوه حتى إذا بلغوا به سمت الحي قالوا له: ائت أهلك وانع إخوانك فانطلق

حتى دخل على أمه فقالت له: أين اخوتك؟ قال: قتلوا. فقالت: وما الذي أتى بك دونهم؟ فقال لها: لو خيرتك القوم لاخترت! فأرسلها مثلا. وكانت تبغضه لكثرة شره، وتحب اخوته. فلما فقدتهم أحبته ورئمته. فقال حينئذ: ثكل أرأمها ولداً، أي عطفها على هذا الولد - يعني نفسه - ولا رققها عليه ولا آلفها إياه إلاّ ثكلها أولادها الباقين، وفقدها أولادها المحبوبين. ومضرب المثل من هذا المعنى ظاهر. ثم جمعت له أمه تراث اخوته وأعطته إياه. فجعل يدير فيه وكان يقول: يا حبذا التراث لولا الذلة! فسارت مثلا. وصنع بعض أهل الحواء عرسا وحضره صبيان الحي، فلما رآهم بيهس يلعبون تجرد عن ثيابه وجعل يرقص معهم. فأتته أمه فقال له: ما هذا يا بيهس؟ فقال: البس لكل حالةٍ لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها! فذهبت مثلا. فبينما هو ذات يوم يرعى غنما له إذ ألجأه الحر إلى غار يستظل فيه. فرأى قتلة اخوته وهم عشرة قد عقلوا إبلهم على طرف الغار وقالوا. فخلى غنمه وبادر إلى الحي فأخذ سلاحه وأتى خالاً له يقال له أبو حنش وكان جبانا. فقال له: أبا حنش هل لك في ظباء تصطادهن ألجئهن الحر إلى عار؟ قال: نعم. فتنكب قوسك وحيهلاً ورائي! فأقبل به حتى هجم على فم الغار. وخاف بيهس أن يهرب خاله، فصاح على القوم حتى ثاروا. فتقدم بيهس وتبعه خاله علماً منه إنّه غير ناج إن فر وقتلا القوم ورجعا بسلاحهم إلى الحي، وقد ثأر بيهس باخوته. فكان من لقي خاله يقول له: ما اشجعك أبا حنش! فيقول له: مكره أخاك لا بطل! فذهبت مثلا. ويقال إنَّ مدركي الأوتار في الجاهلية ثلاثة: قيصر بن سعد - تقدم أمره - وسيف بن ذي يزن الحميري - وسنذكره - وبيهس هذا. قال الشاعر: من يطلب الأوتار ما أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهسُ وإنّما لقب بنعامة لطول رجليه فرأته أمه يوما فقالت: نعامة والله! فقال: نعامة عرفتني، نسأها الله! أي أخر في أجلها. وقيل لصممه، وكان أصم أصلع، والعرب، والعرب

الثور يحمي أنفه بروقه.

تصف النعامة بذلك، يزعمون إنّه مصلمٌ لا أذن له ولا يسمع الأصوات أما حقيقة أو إنّه لا يلتفت إليها. قال علقمة يصف الظليم: فوهٌ كشف العصا لأياً تبينه ... أسك ما يسمع الأصوات مصلومُ وقال زهير: كأن الرجل منها فوق صعلٍ ... من الظلماء جؤجؤهُ هواءُ أسكن مصلمُ الأذنين أجنى ... له بالسيِّ تنومٌ وآء وقال عنترة:؟ فكأنني أطس الإكام عشيةً بقريب بين المنسمين مصلمِ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الثور يحمي أنفه بروقه. الثور بفتح الثاء وسون الواو، معروف يطلق على الانسي والوحشي. والحماية: المنع والحفظ، يقال: حماه من كذا يحميه منعه وحفظه. والروق بالفتح القرن. والمعنى أنَّ الثور يدافع عن نفسه بقرنه، فيضرب فقط الحث على حفظ الحريم، والدب بما أمكن. وتقدم في كلام عمرو بن أمامة حيث قال: لقد عرفت الموت قبل ذوقه: ... إنَّ الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مقاتلٌ عن طوفه ... كالثور يحمي أنفه بروقه وفي خبر أبن إسحاق عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوباً أرض الله من الحمى. فأصاب أصحابه منها بلاء، وصرف ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى. فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلاّ الله من شدة الوعك. فدنوت من أبي بكر فقالت له: كيف تجدك يا أبتِ؟ قال:

كل امرئ مصبحٌ في أهله ... والموت أدنى من شراك نعلهِ قالت: فقلت والله ما يدري أبي ما يقول! قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنَّ الجبان حتفه من فوقهِ كل امرئ مجاهٌ بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقهِ قالت: فقلت والله ما يدري عامر ما يقول! قال: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي أذخرٌ وجليلُ؟ وهل أردن يوما مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ؟ قالت: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت. إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة. ومهيعة الجحفة. والظاهر أنَّ عامرا رضي الله عنه تمثل بالشعر وإن كان فيه بعض مخالفة. وبعد كتبي هذا رأيت السهيلي قال: يذكر قول عامر: لقد وجدت الموت قبل ذوقه أنه لعمرو بن أمامة. انتهى. وهو ما استظهرناه قبل. وقول بلال: بوادٍ يروى بفخٍّ أيضاً وفخ موضع بمكة فيه ماء وفيه اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم لدخول مكة وفيه قال الشاعر: ماذا بفخ من الإشراق والطيبِ ... ومن جوار نقياتٍ رعابيبِ ومجنة سوق من أسواق العرب؛ وشامة وطفيل عينان من الماء وقيل جبلان. قال السهيلي: وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إلية وما كانوا عليه من الحنين إلى الاوطان الذي هو جبلة في البشر كما روي في حديث أصيل الغفاري ويقال فيه الهذلي حين قدم مكة فسألته عائشة: كيف تركت مكة يا أصيل؟ فقال: تركتها د ابيضت أباطحها وأحجر ثمامها وأعذق إذخرها وأمشر سلمها فاغرورقت عين رسول الله صلى الله عليه

ثار حابلهم على نابلهم

وسلم وقال: لا تشوقنا يا أصيل! ويروى أيضاً أنه قال له: دع القلوب تقر! وفي هذا المعنى قول الآخر:: إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلهٌ ... بوادي الخزامي حيث ربتني أهلي بلادٌ بها نيطت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي انتهى كلام السهيلي. وهذا المعنى مستوفي في هذا الكتاب في غير هذا الموضع. ثار حَابِلُهُم على نَابِلِهِم الثور: الهيجان والوثب: ثار يثور ثوراً فهو ثائر وأثرته وثورته واستثرته. والحابل يطلق على من شد الشيء بحبل، ومنه المثل الآتي: يا حابل اذكر حلاًّ! وعلى من نصب الحبالة للصيد أو أخذه فيها. يقال: حبل الصيد واحتبله: إذا أخذه أو نصب له. والنابل والنبل: صاحب النبل وصانعه. والنبل: السهم قال امرؤ القيس: نطعتهم سلكي ومخلوجة ... كرك لأمين على نابلِ أي نطعنهم طعنا مستقيما وطعنا معوجا من كل وجه. كرك لأمين أي كردك لأمين أي سهمين على نابل أي على رامٍ في السرعة. وقال أيضاً: وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال ويقال إنَّ الحابل في هذا المثل السدى والنابل الطعمة: فإذا قيل في القوم إنهم ثار حابلهم على نابلهم كان معناه أنهم أشتجروا وأوقدوا الشر فيما بينهم. ومما يلتحق بهذا الباب قولك: أثقل من الحديد ومن الرصاص ومن حلول الدين مع الاقتار، ونحو ذلك وهو مطرد. وقولهم: ثل عرش فلان إذا هوى أمره وتضعضع عزه وذهب ملكه. قال زهير: تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم ... وذبيان قد زلت بأقدامهم النعلُ وثلَّ اللهُ عرشه: فعل به ذلك. وقال الأخر:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب والعرش سرير الملك، وسقف البيت، والعز وقوام الأمر ومنه ما ذكر. ولنذكر بعض ما تيسر من الشعر. قال أبن الرومي: يا مادح الحقد محتالا له شبه ... لقد سلكت إليه مسلكا وعثا يا دافن الحقد في ضعفي حنوانحه ... ساء الدفين الذي أضحت له جدثا الحقد داء دوي لا دواء له ... يدوي الصدور إذا ما جمره حرثا فأستشفينه بصفح أو معاتبة ... فإنما يبرئ المصدور ما نفثا إنَّ القبيح وإنَّ ضيعت ظاهره ... يعود ما لم منه مرة شعثا كم زخرف القول ذو زور ولبسه ... على القلوب ولكن قل ما لبثا وإنّما قال ذلك لأنّه قال: أيضاً في مدح الحقد: لئن كنت في حفظي لمّا أنا مودع ... من الخير والشر انتحيت على عرضي لمّا عبتني إلاّ بفضل أمانة ... ورب امرئ يزري على خلقٍ محض ولولا الحقود المستكنات لم يكن ... لينقض وتراً آخر الدهر ذو نقض وما الحقد إلاّ توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرا على حسن القرض واخذ ذلك من قول أبن صالح، حين أتي به الرشيد وهو في قيوده، فقال له يحيى بن خالد وأراد أنَّ يسكته: بلغني انك حقود! فقال له: أيها الوزير، إنَّ كان الحقد هو بقاء الخير والشر، انهما لباقيان في قلبي! ويروى إنّه قال له: إنّما صدري خزانة لحفظ ما استودعت من خير وشر. فقال الرشيد: تالله ما رأيت أحداً احتج للحقد بمثل ما احتج به! وقال الأخر: ما طلب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث وقال الأخر: إنَّ قوما يلحون في حب سعدي ... لا يكادون يفقهون حديثاً سمعوا وصفها فلاموا عليها ... وأخذوا طيبا وأعطوا خبيثا

وتقدم هذا المعنى قبل مستوفي. وقال أبو دلامة: إنَّ الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإنَّ بحثوا عني ففيهم مباحث وكانت لرجل عنده شهادة في الحق، فلما طلبه بالأداء قال له: إنَّ شهادتي لا تنفعك عند القاضي. فقال له الرجل: لابد من شهادتك! فشهد أبو دلامة وانصرف وهو يقول الشعر المذكور. فحكم القاضي بشهادته وغرم المشهود عليه المال حتى قبضه المشهود له، فغرمه القاضي للمشهود عليه خوفا من ظلمه ليجمع المصلحتين. وقيل إنَّ أبا دلامة استأجر طبيبا ليعالج ابناً له مبلغ من الأجرة، فلما داواه قال للطبيب: إنّه ليس عندي ما أعطيك، ولكن أذهب وادع بهذا المبلغ على من شئت! وقيل إنّه قال له ادع على فلان اليهودي به، وإني وأبني نشهد لك! فأدعى الطبيب على اليهودي، فجاء أبو دلامة وابنه يشهدان له عند القاضي أبن أبي ليلى أو أبن أبي شبرقة فلما علم أبو دلامة أن القاضي لا يجيز شهادتهما أنشد بحيث يسمعه القاضي ما مر. فلما سمع القاضي ذلك حكم بشهادتهما خوفا من أذاه، وغرم ذلك المبلغ للمحكوم عليه، والله اعلم. ومن هذا المعنى ما ذكر أبن رشيق عن العتبي من أن رجلا من أهل المدينة ادعى حقاً على رجل، فدعاه إلى أبن حنظب، القاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة فلما ولى قال القاضي: ما شهادته له إلاّ كشهادته عليه. فلما جاء زنقطة أقبل على القاضي وقال له: فداك أبي وأمي! أحسن والله الشاعر حيث يقول: من الحنظبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا فأقبل القاضي على الكاتب وقال: كبير ورب السماء! ما أحسبه شهد إلاّ بالحق. أجز شهادته! وقال الصفدي: صبري الذي اقتسمته غربة ونوى ... كأنما لهما في ذاك ميراث وكل يومٍ على ما فيه من هرمٍ ... يلقى صروف الليالي وهي أحداث وقال أبن الحداد يرثي:

شمس الظهيرة هل تدرين ما حدثا؟ ... شمس العشيرة حلت مغربا حدثا انظر ثبيراً هل أنهدت جوانبه ... لحادث في ثبير الحلم قد حدثا ومن المستحسن في باب الرثاء قول أبي الفرج الجوزي، وقد ليم على اكتحاله يوم عاشوراء: ولائم لي على اكتحالي ... يوم أراقوا دم الحسين فقلت: كفوا! أحق شيءٍ ... فيه بلبس السواد عبني وقال الأخر يرثي بعض الأمراء: كان الأمير نظام الدين لؤلؤة ... قد صاغها الله من مجد ومن شرف عزت فلم تقدر الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف وقمل الآخر في غلام له يلقب بالسيف: ستذرف أجفاني عليك دموعها ... ولا غرو أن تبكي على السيف أجفان بكتك عيون الشهب إذ كنت بدرها ... وغالك من قبل التتمة نقصان وشقت يمين الصبح فيك عن الدجا ... قميصا فأضحى وهو للحزن عريان وقال الزمخشري يرثي شيخه: وقائلةٍ: ما هذه الدرر التي ... تناثر من عينيك سمطين سمطين؟ فقلت: هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني وقول أبن الحداد: شقيقك غيب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده! فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟ وقول أبن المعتز: لم تمت أنت إنّما مات من لم ... يبق للمجد والسماحة ذكرا لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟ وقول العطوي في رجل كان يعول أناسا كثيرين فمات: وليس صرير النعش ما تسمونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف وليس فتيت المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف

وقال أبن عبدون الوراق: قبرٌ بسوسة قد قبرت به الفتى ... أدرجت قلبي في مدارج لحده أسكنته سكنى ورحت كأنني ... في الأرض لا بشراً أرى من بعده صمت عليَّ مسامعي في وجهه ... ز صعقت من صعق الصراخ ورعده وجهدت أن أبكي فلم أجد البكا ... فسكت سكتة صارمٍ في غمده هبني بكيت له وما يجدي البكا؟ ... ماءٌ بخدي والتراب بخده! وهذا الباب كثير لا يأتي عليه الحصر. ومن أشهر المراثي وأحسنها مرثية أبي الحسن الأنباري في أبي بقية حين قتله عضد الدولة وصلبه وأولها: علوٌّفي الحياة وفي الممات: ... لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ! وهي مشهورة معروفة. ولمّا اشتهرت ووصلت إلى عضد الدولة وأنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب! وقال أبن نباتة في النسيب: يا رب خالٍ على خدِّ الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبثُ أورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عندي أنَّ الخال لا يرثُ! وفي الخال قول الحاجري: عجبت لخالٍ يعبد النار دائماً ... بخدك لم يحق بها وهو كافرُ وأعجب من ذا الله تعالى طرفك منذرٌ ... يصدق في آياته وهو ساحرُ وما أخضر ذاك الخد نبتاً وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائرُ ومذ أخبروني أنَّ قدك بانةٌ ... تيقنت أنَّ القلب مني طائرُ وفي القد قول الآخر:: بروحي معشوق الجمال فما له ... شبيه ولا في حبه لي لائمُ تثنى فمات الغصن من حسد من حسدٍ له ... ألم تره ناحت عليه الحمائمُ؟ وقول الآخر:

قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى على غصن أن يستميلك ويشبه هذا ما حكي أنَّ رجلا دخل دارا ينظرها ليشتريها فسمع في بعض خشبها صوتا فقال: ما هذا؟ فقال صاحب الدار: أعزك الله! هذا السقف يسبح لله عز وجل. فقال: أخشى أن يلحقه الخشوع فيسجد. وقال لبن خفاجة: وعشيِّ أنسٍ أضجعتني نشوةٌ ... فيه تمهد مضجعي وتدمثُ خلعت عليَّ بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدثُ والشمس تجنح للغروب مريضةً ... والرعد يرقي والغمامة تنفثُ ومما يستلذ في هذا المعنى قول الآخر: عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثرِ ولتغتبقها قهوةٌ ذهبيةٌ ... من راحتي أحوى المدامع أحوارِ وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد يعذرِ نلنا بها آمالنا في روضةٍ ... تهدي لناشقها نسيم العنبرِ والورق يشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميصٍ أصفرِ والروض بين مفضض ومذهبٍ ... والزهور بين مدرهم ومدنرِ والنهر مصقول الأبطاح والربا ... والشط بين مزعفرٍ ومعصفرِ وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضرِ وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهرِ وكأنه وجهاته محفوفةٌ ... بالورد والريحان خد معذرِ نهرٌ اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلاّ لفرقة حسن هذا المنظرِ وقول مالك بن المرحل:

وعشيةٍ سبق الصباح عشاءها ... قصراً فما أمست حتى أسفرا مسكينةٍ لبست خلى ذهبيةً ... وجلا تبسمها نقاباً أحمرا وكأن شهب الجم بعض حليها ... عثرت به من سعةٍ فتكسرا وقال أبو النصر عبد الجبار: عليك بأغباب الوصال فضده ... يعيد حبال الوصل منك رثاثا فلو كلف الإنسان رؤية وجهه ... لطلقه بعد الثلاث ثلاثا ومثله قول الآخر: عليك بإغباب الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا وسيأتي هذا المعنى إن شاء الله تعالى وقال الحموي: أنَّ قوماً يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيباً وأعطوا خبيثا وهذا من الاقتباس وهو أن يؤتى في الكلام المنثور أو المنظوم بلفظ يشبه لفظ القرآن أو الحديث غير منوي به إنّه قرآن أو حديث. ولا بد من هذا القيد الآخر: ولذلك ساغ سوق اللفظ مع تغيير فيه أو في معناه ولا يلزم فيه كفر تبديل القرآن ولا خلاف نقل الحديث بالمعنى. ولنذكر طرفا من ذلك هاهنا: فمن الاقتباس من القرآن في النثر قول الحريري: فلم يكن إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب. وهو في الشعر أكثر. ثم إنّه قد يكون اللفظ المقتبس بيتا كاملا كقول أبي محمد بن السيد البطليوسي في بعض مواضعه: خففوا ثقل الخطايا ... أفلح القوم المخففون! كيف تعطون من الباقي ... وبالفاني تضنون؟ لن ينالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون! وقول أبن العفيف: يا عاشقين حاذروا ... مبتسما من ثغره!

فطرفه الساحر قد ... شككتم في أمره يريد أن يخرجكم ... من أرضكم بسحره وقد يكون شطر البيت كقول أبي فراس: قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبه سواءُ لا تعجبوا! ربما قديرٌ ... يزيد في الخلق ما يشاءُ وقول محيي الدين البغدادي: إن لا مني من رلا رآه فقد ... جار على الغائب في الحكمِ وإن لحاني من رآه فقد ... أضله الله على علمِ وقول أبن الدماميني وقد رأى جرة خمر كسرت فساحت الخمر على الأرض: كسروا الجرة عمداً ... ملؤوا الأرض شرابا قلت والإسلام ديني: ... ليتني كنت ترابا! وقلت أنا في نحو هذا أخذا منه: عثرت هيفاء تحكي ... بدر تمٍّ حين غابا قبَّلَ التراب لماها ... ونضا عنها النقابا وجنى ورداً ونداً ... وارتوى منها رضابا قلت لمّا عانقته: ليتني كنت ترابا! وقد يكون أقل من الشطر الثاني كقول أبن النبيه: قل لراسي الجفون إنَّ لجفني ... في بحار الدموع سبحا طويلا وهي قصيدة على هذا النمط، أخذ قوافيها من سورة المزمل. ولابن سهل الإسرائيلي قصيدة أخرى مثلها، اخذ قوافيها من سورة مريم، وكلتاهما مشورة. ومن ذلك قول بعضهم: إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر سيبقى لها في مضمر القلب والحشى ... سرائر ود يوم تبلى السرائر وقولنا: في ظيبة هيفاء من أجفانها ... سحر الجفون البابلي تواتراً

فإذا انتضت من جفنها غضبين من ... جفنين قلنا: ساحران تظاهراً وفي التورية في الجفنين. وهذا الاقتباس هنا مما اختلف فيه الأصل والفرع معنى من جهة الحقيقة والمجاز. ومثله قول أبن الرومي يخاطب رجلا مدحه ولم يثبه: لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي: لقد أنزلت حاجتي ... بوادٍ غير ذي زرعٍ فأنه جعل مجازا عن الرجل الذي لا خير فيه وهو في الآية حقيقة. ومن الاقتباس في الحديث قول بعضهم: قال لي إنَّ رقيبي ... سيئ الخلق فداره قلت: دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره أخذ من الحديث: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وقول بعضهم في غلام اسمه بدر فيه تورية: يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر! اخذ من الحديث: لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم! وقول بعضهم: ومهفهفٍ يزري على القمر ... وجناته روض في الزهر خالسته نوار وجنته ... وأخذ منها على حذر فأخافني قوم فقلت لهم: ... لا قطع في ثمر ولا كثر فقوله: لا قطعتم في ثمر ولا كثر هو لفظ حديث. والكثر جمار النخل. وقد زاد بعضهم الاقتباس من الفقه، وزاد أخرون الاقتباس من سائر العلوم. فمن الاقتباس من علم الفقه قول أبي تمام: إنَّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصفد مثل الدنانير بالدراهم في ... الصرف حرام إلاّ يدا بيدِ

شرطت عليهم عند تسليم مهجتي ... وعند انعقاد البيع قربا يواصل فلما أردت الأخذ بالشرط عرضوا ... وقالوا يصح البيع والشرط باطل وقول مالك بن المرحل موريا: مذهبي تقبيل خد مذهبٍ ... صاحبي ماذا ترى في مذهبي؟ لا تخالف مالكا في رأيه ... فيه يأخذ أهل المغرب! وقول أبن العفيف: قضاة الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشا الربيب؟ رمى فأصاب قلبي باجتهادٍ ... صدقتم: كل مجتهد مصيب! وقول أبي عبد الله الشران، وقد كان عند أبن جماعة إعذار، فدعا البلد، ولم يدع الشران فكتب إليه الشران: ماذا أعد المجد من أعذاره ... في ترك دعوتنا إلى إعذاره؟ إنَّ كان رسم دون محضرنا اكتفى ... لا بد إنَّ يبقى على إعذاره ومن الاقتباس من علم قول أبي بكر بن حجة الحموي: أيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي به خيموا رفعتم قبابا نصب عيني نحوها ... تجر ذيول النوق والقلب يجزم منعتم تحيات السلام لموتنا ... غراما وقد متنا فصلوا وسلموا! وقول البوصيري: خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم وقول بهاء الدين زهير: يقولون لي أنت الذي طار ذكره ... فمن صادر يثنى عليك ووارد هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوائدي؟ ومرض شرف الدين بن عنين، فكتب إلى الملك المعظم بن المكل العادل: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلاف أنا كالذي يحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي فلما بلغه البيتان، نهض إلى زيارته واستصحب ألف دينار. فلما دخل عليه وعاينه قال له: أنت كالذي هو موصول، يحتاج إلى صلة وعائد، فهذه الصلة وأنا العائد.

وقول السليماني: وإني الذي أقصيته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي؟ وقولنا من أبيات: فلم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر وفولنا من أخرى: قصر الهناء أسى لغير ضرورةٍ ... لولا نواكم، والهوى ممدود ومن أظرف ما وقع في ذلك قول أبن جابر يخاطب معزولا عن ولاية: فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه! ومن الاقتباس من علم الحديث قول أبن جابر: نقل المسواك فيما قد روى ... أنَّ ذاك الريق مسك وعسل قلت: عن من؟ قال: عن مبسمها ... قلت: هذا خبر صح وجل مذ تبدى جوهر الثغر لنا ... صح في حسن لدينا ما نقل وقولنا في هذا المعنى: نقل النسيم عن الأرائك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الواضح وحديثه المروي أنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح يفتر العقدين من برد صفا ... ولآلئٍ منضودة وأقاح صدقا أحاديث الصحيحين اعتلت ... عن ريبة تغزى لها من لاح ومن الاقتباس من علم أصول الفقه قول أبن جابر: جئتها طالبا لسالف وعد ... فأجابت: لقد جهلت الطريقه إنّما موعدي مجاز فقلت: الأصل ... في سائر الكلام الحقيقه وقوله أيضاً: لا تعجبوا من عموم الحب في الرشإٍ ... كل الجمال له في الناس مخصوص بدر ولكن إلى الغزلان منتسب ... قد نص ذلك جيد منه منصوص! وقول آخر:

كيف لي بالسلو عنها وقلبي ... قد هوى حمله بمهوى الخرص؟ ما تعصيت ظاهر الصبر إلاّ ... ردني جيدها بأوضح نص وقول أبي بكر بن حجة، رحمه الله تعالى، وهو في الفنين معاً. بوادي حماة الشام أيمن الشط ... وحقك تطوى شقة الهم بالبسط بلاد إذا ما ذقت كوثر مائها ... أهيم كأني قد ثملت بإسفنط فمن يجتهد في أنَّ بالأرض بقعة ... تماثلها قل: أنت مجتهد مخطي وصوب حديثي مائها وهوائها ... فإن أحاديث الصحيحين ما تخطي ومن الاقتباس من علم الكلام قول أبن جابر: عرض الحب دون جوهر ذاك ... الثغر من أكبر المحال بجود: أجمع الناظرون في ذاك أنَّ لا ... عرض دون جوهر في الوجود وقولنا من أبيات: فالجسم بالٍ ذو وبالٍ بعدكم ... أبدا به عرض الشحوب جديد وفي هذا البيت الجناس بين بالٍ وبالٍ، والاقتباس في الجسم والعرض، ومراعاة النظير بذلك الاعتبار، والطباق بين البلى والجدة. ومن الاقتباس من علم المنطق قول أبن جابر: مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصله تمنعا الجمع والخلو معا ... وإنّما ذاك حكم منفصله وقول أبن الخطيب: حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب وإذا توسط حد سيفك عندها ... جزئي قياسك فزت بالمطلوب وقول الآخر: يا دمع أجفاني أطرد يا حر ... أضلاعي أتقد يا قرح اكبادي أنتك

ويقل إتلاف النفوس تلفها ... لفوات حظ منك لم يستدرك أملي يشك وعفوكم متواطئ ... فأصار من متواطئ لمشكك مالي سواك لمن أمد يد الرجا ... متمسكا يا ملجأ المتمسك! ومن الاقتباس من علم العروض قول الآخر: له جيش نصر قد نضى السعد دونه ... صوارم روع لا تلقيها القوانس إذا ما قوافي الخيل فيه تداركت ... فأبشر بنصر بحره متكاوس! وقولنا من قصيدة: سلام طويل الحب فيكم مديده ... فليس بذي نهك وليس بذي شطر وقولنا أيضاً في التغزل: يا شادنا يصيد أساد غيل ... بقوس صدغين وسهم كحيل بم استبحت دمي الحرم في ... قتلي وحرمت وصالي الحليل؟ وقطع سببي من ودا ... دك وذا لا يرضينه الخليل وفي الخليل التورية وفي الأبيات أنواع أخرى من البديع ظاهرة. ومن الاقتباس من علم الهيئة قول الغزالي: يا حسن ليلتنا التي قد زارنا ... فيها فأنجز ما مضى من وعده! قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده وقوله أيضاً: حلت عقارب صدغه من خده ... قمرا يجل به عن التشبيه ولقد عهدناه يحل ببرجها ... ومن العجائب كيف حلت فيه! ومن الاقتباس من علم الهندسة قول أبن جابر: محيط بشكل الملاحة حسنه ... كأن به أقليدسا يتحدث فعارضه خط استواءٍ وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث ومن الاقتباس من علم الخط قول أبن جابر أيضاً:

فوق خديه للعذار طريق ... قد بدا تحته بياض وحمره قيل ماذا؟ فقلت: أشكال حسنٍ ... تقتضني أنَّ أبيع قلبي بنظره واعلم أنَّ معظم ما نشدنا، لك إنَّ تجعله من باب الإيهام تورية أو توجهها لا من باب الاقتباس والخطب سهل. ومما جمع ثلاثة فنون مما مر قول بعضهم: دارست قلبي الصبر أعتده ... عن عاصم لي منك أو نافع فلم يكن يرفع ما حل بي ... ورب فعل ليس بالرافع ضل بي المذهب يا مالكي ... فهل لذلك الوجه من شافع؟ ومثل هذا قول الآخر: من شافع لي عند مالك مهجتي؟ ... مالي سوى حبي وليس بنافعي فمن المحقق أن مذهب مالكٍ ... لا تستقيم لديه حجه شافعي وهذا الباب أكثر من أن يأتي عليه الحصر. وقال أبن العربي، وقد وقف عليه مليح وهو في مجلس فهز ومحا بيده، ارتجالا: يهز علي الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث فلو كان رمحا واحدا لا تقينه ... ولكنه رمح وثان وثالث! وهذا غاية في القوة العارضة أنسجاما وحسن سبك وصحة معنى، الارتجال وصعوبة القافية. وقد وقع إشكال لجماعة من الأدباء في الشعر وما أريد فيه، وذلك من حيث لم يعتد استعمال الرمح في العيون؛ وإلاّ فهو بين واضح. وقلت أنا: لا يلهينك من فتى سرباله ... وبهاء منظره ورونق نفثه أو تقتحمه من رثاثة زيه ... فتجول في إطرائه أو مغثه حتى تبين قدره عن فره ... ولجينه عن بحثه وتميز عن طول الزمان هشيمه ... من غضه وسمينه من غثه ونفاذه غرض النوائب إنَّ دجت ... من طيشه ووفاء من ملثه ومقام ما أستودعه من كامن ... الأسرار في كتمانه أو نثه

وترى إذا ما شمت بارق وعده ... أن قد مطرت بوبله أو دثه وترى جلية قوله إما روى ... نبا لدى تهذيبه أو مقثه وترى بمرجاس البصيرة غوره ... في وده للأصدقاء ودعثه فهناك إن احمدته فلتصفه ... ودا وإلاّ فلتحد عن وعثه فلرب ذي ورم يروق رواؤه ... حسنا وسوف تمجه في دأثه ولرب مرعى مونق في دمنة ... وإذا شممت صددت عنه لخبثه ولرب حسي ترتوي من عذبه ... عفوا وتكدي أو تشوب بنبثه ومهند ذكر حسام باتر ... خلق الجفير من الحوادث رثه أزرت به مرآته وإذا انتضي ... أرضاك مشهده ومرأى جثه هذا وإنَّ المرء ليس بحاصد ... أبدا سوى ما قد أتى من حرثه ولسوف يجني كل ما هو غارس ... في دهره من كرمه أو رمثه ويرى مغبة سعيه مذخورة ... لمآبه من رمثه أو عيثه النفث: المراد به الكلام. والإطراء: المبالغ في المدح والمغث ضده واللجين مصغرا: الفضة واللجين مثل أمير زبد أفواه الإبل وما سقط من الورق عند الخبط. وأطلق اللجين واللجين على محمود الأخلاق ومذمومها كما يقولون: إنَّ فلان لا يفرق بين لجين الكلام ولجينه أي بين جيده ورديئه؟ والنفاذ والطيش أصلها في السهام وذكرهما مع ذكر الغرض في النوائب استعارة وفي الغرض مع ذلك توجيه. والملث: الوعد بلا نية الوفاء. والدث: المطر الضعيف. والمرجاس: حجر يرمى في البئر ليعلم به عمقها وفيه أقوال أخرى. واحمدت الرجل: وجدته محمودا وكذا اذممته: فإنَ قلته بلا همزة كان بمعنى الثناء والمناسب هنا الأول. والدأث بفتح الدال المهملة وسكون الهمزة: الأكل والحسي: بئر غير غارقة بمستنقع فيها الماء وينبع منها واكدى الحافر: بلغ كديه في حفره. والرمث بكسر الراء: شجرة معروفة من أشجار البادية وليس لها من الثمرة ما للكرم وهو ضجر العنب فكني بالكرم والرمث عن السعي الذي يجدى نفعا والذي لا نفع فيه كغارس

الرمث المذكور. والمث بفتح الراء: الأصلاح وضده العيث وهو الإفساد. وقول الآخر: ليل البراغيث داء لا دواء له ... لا بارك الله في ليل البراغيث كأنهن بجسمي إذ علقن به ... أيدي الشهود على مال المواريث وقال أبن شرف في معناه: لك منزل كملت ستارته ... للهو لكن تحت ذاك حديث غنى الذباب وظل يزهو حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث ومثله قول الآخر: ليل البراغيث والبعوض ... ليل طويل بلا غموض فذاك ينزو بغير رقص ... وذا يغني بلا عروض وقول أعرابي بات بمصر فآذاه البرغوث: تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيل وقول الكناني ملغزا فيه: ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم إذا سفكت دما منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي وقول أبن سكرة في مليح يعرف بابن برغوث: بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قلت من هو يعشقوه حبيبي قد نفى عني رقادي ... فإنَ غمضت أيقضني أبوه وقال البستي: لا در در نوازل الأحداث ... نقلت احبتنا إلى الأجداث فغدت مآنسنا وهن مقابر ... وغدت مدائحنا وهن مراث وفي هذا القدر من الباب كفاية. والله يقول الحق وهذا يهدي السبيل.

باب الجيم

باب الجيم أجبن من صافر. الجبن: الخور وهيبة الأقدام على الأمور. يقال: جبن بالضم يجبن جبنا بالضم وبضمتين وجبانة بالفتح فهو جبان بوزن سحاب وجبان كشداد وجبين كأمير والجمع جبناء. وهي جبان وجبانة وجبين. والصافر: المصوت يقال: صفر يصفر صفيرا إذا صوت فهو صافر وصفار. قال: خلا لكِ الجو فبيضي واصفري ويقال الصافر للخشاش والبغاث من الطير وهو ما يصيد منها. واختلف في المراد من الصافر في هذا المثل فقيل أريد كل صافر من الطير ولا يكون الصفير إلاّ في ضعافها وجشاشها ويوصف بالجبن لكثرة ما يتقي من جوارح الجو ومصايد الأرض. وقيل الصافر طائر بعينه إذ أمسى تعلق بالشجرة برجليه ونكس رأسه خوفا من أن ينام فيؤخذ فيبيت منكوسا ولا يزال يصيح حتى يصبح. وقيل: الصافر هنا بمعنى المصفور به وهو الذي ينذر بالصفير فيفزع ويهرب كما قالوا: ما بالدار صافر أي مصفور به قال الشاعر: خلت الديار فما بها ... ممن عهدت بهن صافر وعليه يكون فاعلا بمعنى مفعول كما في دافق أي مدفوق وراحلة أي مرحولة وذلك في المثال المذكور. والبيت محتمل غير متعين. وقيل: الصافر هو الذي يصفر للمرأة بالريبة وهو موصف بالجبن ساعتئذ لوجله وحذره أن يطلع عليه. قال الكميت:

أجبن من الكروان.

أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلبا كورهاء تقلى كل صفار لمّا أجابت صفيرا كان آتيها ... من قابس شيط الوجعاء بالنار وهذه المرأة التي ذكرها الكميت وضرب بها المثل امرأة من العرب كان من حديثها إنَّ رجلا كان يعتادها فكان يأتيها وهي جالسة مع زوجها وبنيها فيصفر لها فإذا سمعت صفيره أخرجت إليه عجيزتها من وراء البيت وهي تحدث ولدها فيقضي منها وطره ويرجع. ثم إنَّ بعض بنيها فطن للأمر فلما جاء صاحبها وصفر بها فأخرجت عجيزتها على العادة فأخذ مسمارا محمى كان معه فكوى به صدغها حتى أحست بالموت وتجلدت. فلما جاء الخدن بعد ذلك وصفر بها قالت: لقد قلينا صفيركم فضرب بها الكميت المثل. أجبن من الكروان. الجبن تقدم. والكروان بفتحتين طائر يشبه البط لا ينام الليل. وقيل هو الحجل. وانشد الجوهري: يا كروان صك فاكبأنا ... فشن بالسلح فلما شنا بل الذنابي عبسا مبنا ويقال: أراد به الحبارى يصكه النازي فيتقيه بسلحه ويقال هو الكركي. ويقال للأنثى كروانة. ويقال للذكر الكرا ومنه المثل الآتي: أطرق كرا. وثقال إنّه سمي بالكرا وبالنعاس ضد ما كان عليه لمّا مر من إنّه لا ينام وهو أيضاً موصف بالجبن الكثير والفزع من سباع الطير كما قال الشاعر في خالد بن صوفان: ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين اجدلا والكروان بالكسر فالسكون جمع الكروان السابق. وقال الآخر: أمير أبو موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان ابصرن بازيا وسيأتي الكلام عن قولهم: أطرق كرا إن شاء الله تعالى. أجبن من المنزوف ضرطا. الجبن مر والنزف: النزح. يقال نزفت ماء العين انزفه أي نزحته

أجبن من النعامة.

كله ونزفت البئر فهي منزوفة. ويقال: نزفة عبرة الرجل بكسر الزاي إذا فنيت وانزفها الشوق. ويقال: نزف فلان دمه بالبناء للمجهول إذا سال عليه سيلانا مفرطا ونزف الدم فهو منزوف فيها. والضرط بالفتح والضراط بالضم صوت الريح. يقال: ضرط بالكسر ضراطا وضرطا فهو ضراط كشداد وضروط كصبور وضروط كسنور. واختلف في المنزوف ضرطا فقيل إنَّ نسوة كن لم يكن لهن أزواج فزوج إحداهن رجلا فكان ينام الصبحة فإذا آتيته بالصبوح ونبهنه قال: لو نبهتني لعادية أي الخيل فلما اكثر من ذلك قلن بينهن: إنَّ صاحبنا لشجاع فتعالين فآتينه بالصبوح على العادة فقال: لو لعادية نبهتنني كما كان يقول. فقلن له: هذا نواصي الخيل فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط حتى مات. وقيل إنَّ المنزوف ضرطا دابة بالبادية إذا صيح عليها وقع عليها الضراط فلا تزال تضرط حتى تموت. وقيل إنّه رجل خرج مع رفيق له. فبينما هما في فلاة إذ لاحت لهما شجرة فقال: أرى قوما رصدونا. فقال رفيقه: إنّما هي عشرة أي شجرة والعشر بضم العين وفتح الشين شجر يحشى في المخاد وهو أجود ما يقتدح به. فظنه يقول عشرة بالفتح. فجعل يقول: وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات. أجبن من النعامة. الجبن مر والنعامة: واحدة النعام وهو معروف اسم جنس مثل حمام وحمامة وجراد وجرادة والذكر منه يقال له ظليم. والنعام يوصف بالجبن كثيرا. ويقال إنَّ النعامة إذا خافت من موضع لا ترجع إليه أبداً. وقال الشاعر في الحجاج: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى؟ ... بل كان قلبك في جناحي طائر وللشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى.

الجحش لما بذك الأعيار!

الجحش لمّا بذك الأعيار! الجحش ولد الحمار اهليا كان أو وحشيا والأنثى جحشة والجمع جحاش. قال زهير يصف حمار وحش: وقد خرم الطراد عنه جحاشه ... فلم يبق إلاّ نفسه وحلاله والبذ بالذال المعجمة الغلبة. يقال بذك هذا الأمر أي غلبك. قال علقمة يصف بقرة وحشية: تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب والأعيار جمع عير بفتح العين وهو الحمار أهليا كان أو وحشيا. قال امرؤ القيس في الوحشي: كأني وردفي والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وادر الخبرات وقال الآخر في الأهلي: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلاّ الأذلان عير الحي والوتد ويجمع أيضاً على معيورات. ومعنى المثل إنّه إذا غلبتك الاعيار ولم تدركها فعليك بالجحاش. وذلك إنَّ الصائد إذا أثار طريدة من الوحش فإنَ الكبار القوية منها تسبق وتتأخر الصغار. فإذا اعجزته الكبار السوابق فمن حقه إنَّ يظفر بالصغار ولا يفرط فيها. فيضرب في الرجل يطلب الأمر العظيم الخطير فيفوته فيقال له: اطلب ما دون ذلك أمالا وترجع خائب كما قيل: إذا حاجة ولتك لا تستطيعها ... فخذ طرفا من غيرها حين تسبق ولفظ الجحش في المثل يكون منصوبا على الأغراء أي: عليك بالجحش ويجوز أن يرفع على الابتداء أو الخبر أي: الجحش حسبك أو حسبك الجحش. جدك كدك. الجد بالفتح: الرزق والحظ. ورجل مجدود: ذو حظ. والكد بالفتح: الشدة والإلحاح. ومعنى المثل انك إنّما تعيش وتنال بمالك من الحظوة والبخت لا بتعبك وكدك فإنَ الكد لا ينفع مع الحرمان كما قيل:

جدع مازن انفه بكفه.

عش بجد ولا يضرنك نوك ... إنّما عيش من ترى بالجدود وكما قلت أنا: كم لبيب ذي نجدة مالت هزلا ... وغبي تحتفه ألف هان وتقدم في هذا المعنى مستوفى وسيأتي أيضاً. قيل: وأول من قال في هذا المثل حاتم بن عميرة الهمداني. وكان بعث ابنيه: الحسل وعاجية في تجارة لوجهتين مختلفتين. فذهب الحسل حتى لقيه قوم من بني أسد فأسروه واخذوا ماله. وسار أخوه أياما حتى وقع على مال الحسل فاتبعه حتى بلغ نجران فنادى في قومه همدان فأخذه من أيدي سالبيه قبل إنَّ يبلغ إلى موضع متجره. وكانت الإبل موسومة بسمة ابيهما وعرفوا إنَّ ما كان من المتاع له فأخذه ورجع إلى أهله. وقال في ذلك: كفاني الله بعد السير إني ... رأيت الخير في السفر القريب وهذا القرب نلنا خيرا ... ولم نلق الخسارة في الدؤوب فلما رجع تباشر به أهله وانتظروا الحسل. فلما ابطأ عنهم بعث أبوه أخا له يقال له شاكر في طلبه والبحث عنه. فلما دنا شاكر من الأرض التي فيها الحسل وكان الحسل علئفا يجزر الطير فقال الحسل: تبشرني بالنجاة القطاة ... وقول الغراب لها شاهد تقول: أل قد دنا نارح ... فداء له الطارف التالد أخا لم تكن أمنا أمه ... ولكن أبونا أب واحد تداركني زلفة حاتم ... فنعم المرب الوالد تداركني بك يا شاكر ... ومن بك الملك الماجد فسأل عنه شاكر حتى عرف مكانه فاشتراه منهم بأربعين بازلا. فلما رجع به واخبر بما لقي من بلاء قال أبوه: اسع بجدك لا بكدك وهذا المثل قولهم: عارك بجد أودع وسيأتي: جدع مازن انفه بكفه. يأتي هذا في الكاف وهو هناك البق.

أجرأ من خاصي خصاف.

أجرأ من خاصي خصاف. الجراة على وزن الجرعة الشجاعة والأقدام. تقول: جرؤ بالضم، جرأة وجراءة، فهو جريء. وجرأته على الأمر تجرئة، فأتجر عليه. وتقول: خصيت الفحل أخصيه خصاء، وبالكسر والمد إذا سللت خصييه، فهو خصي. وخصاف على وزن كتاب أو وزن قطام: اسم فرس كان لحمل بن بدر بن عوف بن بكر بن وائل، طلبه منه المنذر بن امرئ القيس ليستحلفه، فخصاه بين يديه لجرأته ومنعه منه، فسمي خاصي خصاف وقيل من خاصي خصافٍ. أجرأ من خاصي الأسد. الأسد معروف. وخاصي الأسد تزعم العرب إنّه رجل مر به الاسد، فوجده يحرث بثورين بادنين، فقال له: يا حراث ما اسمن ثوريك! فبم أسمنتهما وما أطعمتهما؟ فقال له الحارث: إني خصيتهما فسمنا لأجل ذلك. فقال الأسد: فهل لك إنَّ تخصيني عسى إنَّ اسمن سمنهما؟ فقال له: نعم! وأمكنه الأسد من نفسه، فخصاه الحراث وزعموا إنّه مر عنه الأسد ودمه يسيل، حتى رقى ربوة فأقعى فيها حزينا ينظر إلى الحراث. فبينما هو كذلك إذا بثعلب مر به، قال له: مالي أراك حزينا يا أبا الحارث؟ فذكر له ما فعل به الحراث، وما دهمه من المثل الخصاء. فقال له الثعلب: هل لك في أنَّ آتي الحراث واستدبره، عسى أن تمكنني منه فرصة فأثئر لك؟ قال: نعم! فداك أبي وأمي. فمضى الثعلب وجعل يراوغ الحراث ويطيف به. فتناول الحراث حجرا وقذفه به فدق فخذه. فأتى الأسد وهو على ثلاث قوائم، فأقعى معه على الرابية يشكوان بثهما وما دهيا به من ذلك الحراث حتى مرت بهما نغرة فقالت لهما: ما لكما على هذه الحال؟ فأخبراها خبرهما، فقال لهما: أنا أتيه، فأستدبره حتى أدخل في أنفه. فجاءت إليه، وتغافل الحراث عنها حتى دنت منه قبص عليها واخذ عودا فدسه في آستها وأرسلها، فجاءت إلى الأسد والثعلب وهي شر من حالهما، قد سد العود دبرها

أجرأ من فارس خصاف.

ومنعها وأثقلها عن الطيران، فبينما الثلاثة جلوس على الربوة يتشاكون، جاءت امرأة الحراث بغذائه. فتقدم إليها، ورفع رجليها، وجعل يطؤها، وهي بمرأى من تلك الحيوانات. فقال الأسد: ما ترون هذا المشؤوم يفعل بهذه المرأة المسكينة، والله إني لأظنه يخصيها. فقال الثعلب: ما أظنه إلا يكسر فخذها، فقالت لا والله! بل يدخل في آستها عودا. فكانت النغرة أقربهن إلى الصدق ظنا. وقيل إنَّ خاصي الأسد هو الإصبع التي يفرس بها من براثينه. حكاه البكري عن القاسم بن ثابت، والله اعلم. أجرأ من فارس خصاف. خصاف، بفتح الخاء على مثال قطام، وهي كانت لملك بن عمرو الغساني. وخصاف بوزن كتاب: حصان كان لشهير بن ربيعة الباهلي جرب ثم باعد أو قرب. هذا مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر: ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد فإذا ظفرت بذي اللبابة والعلى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد يجري بليق ويذم. الجريان: العدو، وهو معروف؛ وبليق مصغر اسم فرس كان سباقا، وكان مع ذلك يذم، فيضرب به المثل في المحسن يذم. جري المذكي حسرات عنه الحمر. الجري تقدم؛ والمذكي من الخيل المسن. يقال: ذكى الفرس، تذكية بذال معجمة إذا أسن. والمذاكي من الخيل: التي أتى على قروحها سنة أو سنتان. والحمر جمع حمار. والمعنى أنَّ الحمار لا يستطيع أنَّ يسابق القارح من الخيل، بل

جري المذكيات غلاب.

والبرذون، كما قال زهير يمدح هرم بن سنان: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... مضارب حتى إذا ما ضربوا اعتنقا فضل الجياد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوقا ولا نزقا يضرب هذا المثل في الرجل البارع المبرز على غيره في الفضل. جري المذكيات غلاب. المثل من معنى ما قبله. والجري تقدم؛ وكذا المذكيات من الخيل. والغلاب: المغالبة، كأنها تغالب الجري. ويروى غلاء أي مغالاة في السير. والغلاء، بكسر الغين أيضاً، جمع غلوة، وقد روي المثل بذلك. والغلوة من كل غاية مقدار رمية السهم. وهذا المثل قاله قيس بن زهير، وذلك إنّه لمّا تراهن هو وحمل بن بدر على ما مر في هذه القصة، فأرسلا فرسيهما: فرس قيس وهو داحس، وفرس حمل وهو الغبراء، على ما في ذلك من الاضطراب، ظهرت الغبراء على داحس. فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس! فقال قيس: رويدا! يعدوان الجدد، فأرسلها مثلا. فلما خرجا عن الجدد وصار في الوعث، برز على الغبراء. فقال قيس حينئذ: جري المذكيات غلاب أو غلاء كما مر فذهبت مثلا. جروا له الخطير ما أنجز لكم! الجر: السحب على الأرض مثلا. وجرت الفرس بمقوده، والجمل بزمامه، فانجر؛ والخطير، بالخاء المعجمة والطاء المهملة على مثال أمير زمام الناقة وجديلها. يسمى بذلك لأنّه يخطر أي يهتز عند مشيها. وبذلك يمس الرمح خطارا. والجديل ما كان من جلود، وقد يقال لغيره. والحبل إذا كان من خوص سمي شريطاٍ، وإذا كان من كتان سمي مرسا، كما قال امروء القيس: كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل وإذا كان من ليف فهو مسد. وهذا المثل يروى عن عمار بن ياسر، رضي الله عنه إنّه قاله في عثمان، رضي الله عنه، حين أنكر عليه الناس ما أنكروا، أي أتبعوه ما كان فيه

اجر الأمور على إذلالها!

موضع متبع. اجر الأمور على إذلالها! الأمور جمع أمر؛ والإذلال، بالذال المعجمة، جمع ذال بالكسر وذل الطريق: محجته. والمعنى: أجر الأمور على مجاريها ومسالكها. ويضرب في الأمر بحسن التدبير ويقال أيضاً: إنَّ أمور الله جارية إذلالها وعلى إذلالها، أي على مجاريها. ويقال: دعه على إذلاله أي حاله؛ وجاء على إذلاله، أي على وجهه. ؟ التجريد لغير نكاح مثله. التجريد معروف. تقول: جردت زيدا من ثيابه، وتجرد هو من ثيابه؛ وكذا النكاح. ومثله: النقص والمثلة: النقص والعيب والشين. والمعنى أنَّ تجريد العورة لغير النكاح عيب. ويضرب في وضع الأشياء في غير موضعها. وذكروا أن المثل لرقاش بنت عمرو بن ثعلب بن وائل وكانت شريفة عاقلة. فتزوجها كعب بن مالك بن تيم الله، فقال لها: اخلعي درعك؟ فقالت: خلع الدرع بيد الزوجز فقال: اخلعي درعك لأنظر إليك؟! فقالت: يا أبن عم: إنَّ التجريد لغير نكاح مثلةٌ! فأرسلها مثلا. فطلقها مكانها، فحملت إلى أهلها، فمرت بذهل أبن شيبان بن ثعلبة، فسلم عليها وخطبها إلى نفسها، فقالت لخادمها: انظري أيبعثر أم يقعر إذا بال؟ فنظرت الأمة فقالت لمولاتها: يقعر. فتزوجته. ويحكى أيضاً إنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، لمّا تزوج نائلة بنت الفرافصة بن الاحوص الكلبية، وساقها إليه أخوها، فأدخلت عليه، وخلا بها وقال لها: تقومين إلي أم أقوم إليك؟ فقالت: ما قطعت إليك عرض السمواة وأنا احب إنَّ تقطع إلي عرض البساط. فقامت وجلست إليه، فقال لها: لا يسؤنك ما ترين من شيبي، فإن وراءه ما تحبين. قالت: إني لمن نسوة أحب رجالهن السيد الكهل. إلى أن قال لها: ضعي الخمار! فوضعته. فقال لها: اخلعي الدرع! فخلعته. فقال لها: اخلعي الإزار!

أجرى من ذباب.

قالت: ذلك إليك! فلما دخل على عثمان، رضي الله عنه، يوم الدار، أكبت عليه وجعلت تنافحح بيدها حتى أصيبت بجراحات. فلما قتل رحمه الله، رثته فقالت: إلاّ إنَّ خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التحبي الذي جاء من مصر ومالي لا تبكين وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمر؟ ويروى هذا الشعر أيضاً للوليد بن عقبة، وللكميت. والتحبي هو كنانة أبن بشر قاتل عثمان، رضي الله عنه. وهو منسوب إلى تجيب، بضم التاء وفتحها، بطن من كندة. فلما انقضت عدتها خطبها معاوية، فقالت لنسائها: ما يعجب الرجال مني؟ قلن لها: ثناياك. فعمدت إلى فهرٍ فدقت به ثنيتها وبعثت بهما إلى معاوية، فكف. ولم تزل محداً بعد قتل عثمان حتى لحقت به. أجرى من ذبابٍ. الجريان مر، والذباب معروف، والواحدة ذبابة، وجمع القلة أذبةٌ. قال الشاعر: ضرابة بالمشفر الأذبة وجمع الكثرة ذبان، بالكسر كغربان قال امرؤ القيس: عصافير وذبان ودودٌ ... وأجرا من مجلحة الذئاب ولا يخفى ماله من الجريان وسرعة الدوران وخفة الطيران. جزاه جزاء سنمار. الجزاء: المكافأة. وثقول: جزيت فلانا، أجزيه؛ وجازيته مجازاة وسنمار بكسر السين المهملة والنون، وشد والميم بعدها ألف فراء: اسم رجل، وهو إسكاف كان النعمان الأكبر، لمّا أراد أن يبني الخورنق لسابور، ليكون ولده فيها معه، اتخذ هذا الإسكاف، فبناه له وأحسن رصفه، وأبدع وصفها، وأكملها في عشرين حولا. فلما أتم بنائها، وأعجب الناس بحسنها، قال الأسكاف: إني لو شئت جعلت القصر يدور مع الشمس حيثما دارت. فقال الملك: انك لتحسن أنَّ تبني أجمل منه؟ فطرحه من أعلاه. فضرب به المثل لمن يجزي الإحسان بالإساءة. قال الشاعر:

تجشى لقيم من غير شبع.

جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رصفه البنيان عشرين حجة ... يعل عليه بالقرامد والسكب فلما انتهى البنيان يوم تمامه ... وأض كمثل الطود والباذخ الصعب رمى بسنمار على حق رأسه ... وذاك لعمر الله من أعظم الذنب! وقال الأخر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ... وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار وقيل إنَّ سنمار هو غلام لأحيحة بنى أطما فلما فرغ قال: أحكمته! فقال: إني لأعرف حجرا لو انتزع لتقوض من آخره. فسأله عن الحجر، فأراه إياه، فدفعه احيحة من الأطم فخر ميتا. وفي النوادر إنّه إنسان عمل أطما لبعض الملوك، فقال له إنَّ نزع هذا الحجر تداعى البناء كله. فرمي من فوقه لئلا يعلم به أحد غيره وأنشد: جزاء سنمار بما كان يفعل. تجشى لقيم من غير شبعٍ. التجشي: تنفس المعدة، ويكون عند الشبع. ولقيم اسم رجل؛ والشبع بوزن عنب معروف. والمثل ظاهر المعنى، يضرب في التشبع بما لم يعط. وهو كقولهم: عاطٍ بغير نوطٍ وقولهم: كالحادي وليس له بعير؛ وسيأتيان. أجلسته عندي فاتكأ. الجلوس معروف، وكذا الاتكاء. هذا المثل يضرب في عادة السوء يعتادها صاحبها. وهو كقولهم: أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا. جلى محباً نظره. التجلية: الإبداء والإظهار؛ والمحب خلاف المبغض؛ والنظر البصر. والمعنى إنّ نظر الإنسان يظهر ما انطوى عليه من محبة أو بغض. ومثله قولهم: شاهد

جمع بين الأروى والنعام.

البغض اللحظ؛ وقول الشاعر: فإنَ تك في عدو أو صديقٍ ... تخبرك العيون عن القلوب وقول الآخر: خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا عين من لا يريد وصلك ... تبدي لك الجفا وقول الآخر: تخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح وقالوا: إنَّ يعبر عن الإنسان اللسان، وعن المودة والبغض العيان جمع بين الأروى والنعام. الجمع ضد التفريق؛ وتقدم تفسير كل من الأروى والنعام في هذا الكتاب. وهذا المثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين. يقال: تكلم زيد فجمع بين الأروى والنعام، وذلك لأن الأروى مسكنها قنن الجبال، كما قال امرؤ القيس: تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل والنعام مسكنها السهل من الأرض، فلا يجتمعان؛ وكذا الأروى والبقر. وسئل أعرابي عن صفة مطر فقال: استقل سد مع انتشار الطفل فشط واحزال؛ ثم أكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وارتقت حؤبه، وارتعن هيدبه، وحشكت أخلاقه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه؛ مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس فأترع الغدر وانتبث الوجر وخلط الأوعال وبالآجال، وقرن الصيران بالرئال: فالأودية هدير والشراج خرير، والتلاع زفير؛ وحط النبع العتم، والقلل الشم، إلى القيعان الصحم. فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحص مجرجم، وذلك من فضل رب العالمين، على عباده المذنبين!

قوله استقل سد: السد بضم السين: السحاب المظلم؛ وكذا الجراد لأنّه يسد الأفق. واستقل: ارتفع؛ والطفل بفتحتين، والعشي إلى المغرب؛ وشصا ارتفاع، يقال: شصا الزق إذا امتلأ فارتفعت قوائمه؛ واحزأل: ارتفع أيضاً، وهو بالحاء المهملة والزاي؛ واكفهرت تراكم؛ أرجاؤه: نواحيه، وأحموت: اسودت؛ أرحاؤه: جمع رحى، وهي الوسيط. وابذعرت بذال معجمة: تفرقت؛ فوارقه: جمع فارق، وهي القطعة من السحاب الخارجة عن معظمه. والفارق في الأصل: الناقة تند عن الإبل عند نتاجها. واستطار: انتشر؛ وادقه: الوادق الذي كثر ماؤه، أو الذي دنا من الأرض. وارتتقت: التأمت؛ حؤبه: فرجه. وارتعن: استرخى؛ هيدبه: ما تدلى منه إلى الأرض، كهدب القيظفة. وحشكت: امتلأت؛ أخلاقه: ضروعه، جمع خلف وهو ما يقبض عليه الحالب من ضرع الناقة والبقرة. واستقلت: ارتفعت؛ أردافه: مآخره. هذه كلها استعارات. وأكنافه: نواحيه. ومرتجس: مصوت ومختلس: كأنه لشدة لمعانه يختلس الأبصار، ومنحبس: منفجر واترع: ملأ والغدر، بضمتين، جمع غدير والواجر، بضمتين جمع وجار وهو الحجر يلجه الثعلب والضبع وانتبثها بالثاء المثلثة، اخرج نباتها وأصل النبيثة تراب البئر؛ والأوعال جمع وعل وهو التيس الجبلي، والآجال جمع أجل، بكسر فسكون وهو القطيع من بقر الوحش. يقول: أن هذا المطر لشدته جمع بين الأوعال التي مساكنها قنن الجبال، وبين البقر التي مساكنها القيعان. والصيران جمع صوار، وهو القطيع من بفر الوحش، والرئال: فراخ النعام، جمع رأل، بفتح فسكون، وهي تسكن الجلد من الأرض، والصيران تسكن الرمال والقيعان فجمع بينهما أيضا لشدته والهدير: الصوت؛ والشراج مجاري الماء من الحرار، واحدها شرج، والتلاع: الشعاب التي يجري بها الماء من الجبال، وأحدها تلعة بفتح السكون والنبع شجر تتخذ منه القسي؛ والعتم بعين مهملة وتاء مثناة على مثال جرف: الزيتون الجبلي؛ والقلل أعالي الجبال، والشم المرتفعة؛ والقيعان جمع قاع وهو الأرض المطمئنة والصحم: التي تعلوها حمرة، جمع أصحم والمعصم: الذي استمسك بالجبال وتمنع فيها من الأوعال. يقال: فارس معتصم إذا أخذ بعرف فرسه، والمجرنثم: المنقبض، والداحص الذي يفحص برجليه عند الموت. قال علقمة:

جمع بين الضب والنون.

رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليب والمجرم مصدوع. جمع بين الضب والنون. الضب حيوان معروف، وجمعه ضباب وأضب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده، كما سيأتي، والنون: الحوت، وجمعه نينان. وهذا المثل كالذي قبله في المعنى، لأن الضب حيوان بري، ولا يرد الماء ويلازم الصحراء، واكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد أبن علقمة: ترى الشر قد أفنى دواءر وهجه ... كضب الكدى أفنى براثنيه الحفر وقال الأخر: فلله أرض يعلم الضب إنّها ... بعيد من الآفات طيبة البقل بنى بيته فيها على رأس كدية ... وكل امرئٍ في حرفة العيش ذو عقل ومن عجيب أمره إنّه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن، وهو لا يشرب الماء. ويقال إنّه يبول في كل أربعين يوماً مرة. ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب. ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماوات، قالت السمكة: رد يا ضب! فقال: أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي إنَّ يردا والنون حيوان بحري لا يفارق الماء أبداً، فلا يجتمعان. قال الصابئ: الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب وقال الأخر: ولو انهم جاءوا بشيء مقارب ... لقلت: هو الشكل الموافق للشكل ولكنهم جاءوا بحيتان لجة ... تقامس والمدعو فينا أبا الحسل ولمّا بين الضب والنون من التنافي والتقابل، قال حاتم الأصم أو غيره:

أجمل من المذهب.

وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر؟ تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر ولوضوح ذلك يقال، عند التجهيل: فلان لا يفترق بين الضب والنون. أجمل من المذهب. الجمال: الحسن؛ حمل الشخص، بالضم، ويجمل فهو جميل، والمذهب هو أبن عدنان، كان فائقا في الجمال والبهاء. فضربت العرب بجماله المثل. الجمل من جوفه يجتز. الجمل بفتحتين من الإبل معروف، والجرة بكسر الجيم وتفتح، ما يخرجه البعير من جوفه، فيأكله ثانية. ويقال: اجتر الجمل فعل ذلك، يجتر اجترارا. وهذا المثل يضرب لمن يأكل من كسبه، أو ينتفع بشيء يعود منه الضرر. تجنب روضة وأحال يعدو. التجنب معروف، والإحالة هنا الإقبال. يقال: أحال عليه بالسوط، أي أقبل عليه. قال الشاعر: وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... يصاحبه يوما أحال على الدم ومعناه: تجنب الخصب واختار الضيق. يضرب في الرجل تعرض عليه الكرامة فيختار الهوان. أجن من دقة. الجنون معروف. يقال: جن الرجل، بالبناء للمفعول، فهو مجنون، وأجن من كذا، بنوه من فعل المفعول شذوذاً، كما قالوا: أشغل من ذات النحيين، وأزهى من ديك، وسيأتيان، ودقة، بضم الدال المهملة وتشديد القاف، اسم رجل، وهو دقة بن عبابة يضرب بجنونه المثل.

أجود من لافظة.

أجود من لافظة. الجود معروف، ضد البخل. ويقال أيضاً: أسمح من لافظة؛ والسماح هو الجود. واختلف في اللافظة، فقيل: البحر لأنها تلفظ بالدرة الجليلة التي لا قيمة لها والهاء للمبالغة. قال الشاعر: يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرها لأعدائها غائظه فأما التي خيرها يرتجى ... فأجود جوداً من اللافظه وأما التي شرها يتقى ... فنفس العدو بها فائظه وقال الأخر: تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك اسمح من لافظه وقيل: اللافظة الرحى، لأنها تلفظ ما تطحنه ولا تبقي. وقيل إنّها العنز، وجودها إنّها تدعى إلى الحلب، وهي تعلف، فتلقي ما فيها. وتقبل إلى الحالب. وقيل إنّها الحمامة لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها. وقيل هي الديك، لأنّه يأخذ الحبة بمنقاره، فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، إلاّ المسن منها، فإنه لاستغنائه عن الدجاج يأكل الحب دونها ويمنعها منه. الجواد يكبو. الجواد هو الكريم من الخيل يجود بما في طاقته من الجري. والكبو: العثار. يقال: كبا، يكبو كبوا وكبوا. ويقال في هذا المثل أيضاً: لكل جواد كبوة، وهو إنَّ الكامل لا ينبغي إنَّ بذم إذا وقعت منه هفوة، كقولهم في المثل الآخر: لا تدعم الحسناء ذاما. وسيأتي جميع ذلك. وقال أبو بكر بن دريد رحمه الله تعالى: والطرف يجتاز المدى وربما ... عن لمعداه عثار فكبا وقلت أنا: وكريم الجياد يكبو وما في ... كبوة للجواد من نقصان

أجناؤها أبناؤها.

أجناؤها أبناؤها. الأجناء جمع جان. يقال: جنى فلان على فلان، يجني عليه فهو جان وهو جناء وأجناء. وهذا الثاني نادر إذ لا يجمع فاعل على أفعال والبناء جمع بان وهو نادر والمعنى أنَّ الذي جنوا على هذه الدار مثلا بالهدم هم الذين كانوا بنوها. ومضرب المثل من هذا واضح. قال الجوهري: وأنا أضن أنَّ أصل المثل: جناتها بناتها لأن فاعلا لا يجمع على أفعال؛ أما الأشهاد والأصحاب فإنما هو جمع شهد وصحب إلاّ أن يكون هذا من النوادر لأنّه يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها. انتهى. وهو ظاهر. يجني من الشوك الثمر. تقدم تفسير هذه الألفاظ في الباب الأول. والمعنى أنك إذا ظلمت فأحذر الانتصار والانتقام! تجمع الحرة ولا تأكل بثدييها. الجوع ضد الشبع. والحرة ضد الأمة والأكل معروف؛ وكذا الثدي وجمعه ثديّ. قال الشاعر: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورها ويحكى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ومعناه أنَّ الحرة قد يصيبها ألم الجوع وشدة الاضطراب ولا تؤجر نفسها على الإرضاع لتأكل أجر رضاعتها، فتلزم نفسها الاصطبار صونا لنفسها عن الهوان ة الابتذال. فيضرب في الحر يصون نفسه عن قبيح المكاسب ولا تمنعه شدة فقره وحاجته أن يلزم صيانته ويحفظ مروءته. وأصل المثل للحارث الأزدي أو الأسدي وكان خطب إلى علقمة بن حفص الطائي بنته

ريا بنت علقمة وكان الحارث شيخا. فقال علقمة لامرأته: اختبري ما عند ابنتك! فقالت لابنتها: أي بنية أي الرجال أحب إليك: الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح الذهول الطماح؟ قالت: بل الفتى. قالت: إنَّ الفتى يغريك وإنَّ الشيخ يمريك. قالت: يا أمتاه إنَّ الفتاة يحب الفتى كحب الرعاء أنق الكلا. قالت: يا بنية إنَّ الفتى شديد الحجاب كثير العتاب. قالت: يا أمتاه أخاف من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابي! فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث وأرتحل إلى أهله. فبينما هو ذات يوم بفنائه وهي إلى جنبه إذ أقبل شاب من بني أسد. فتنفست الصعداء ثم بكت. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ من كل حقول فنيخ؟ فقال: ثكلتك أمك! تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ثم قال: وأبيك! لرب غارة شهدتها وسبيئة أرفدتها وخمرة شربتها فلحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك! وقال أبو عبيد في هذا المثل إنّه من أمثال أكثم بن صيفي. قال: وهو مثل قديم لكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: ولا تأكل ثدييها يعني بإسقاط حرف الجر. قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء إنّما بثدييها ومعناه عندهم الرضاع. يقال لا تكون ظئر القوم على جعل تأخذه منهم. انتهى. وقال بعض الأمة: إنَّ العرب كانوا يعدون أخذ الأجر على الرضاع سبة ولذلك قيل: تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وقال العلماء: بثدييها. والقولان صحيحان لأنها إذا أكلت ثمن لبنها فكأنها قد أكلت ثدييها. قال الراجز: إنَّ لنا أحمرة عجافاً ... يأكلن كل ليلةٍ أكافا أي: نبيع كل ليلة أكافاً من أكفتها ونعلفها ثمنه. قال: وكذلك قول الآخر في وصف إبل: نطعمها إذا شتت أولادها أي أثمان أولادها. انتهى. وقال السهيلي في الروض: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء العرب حتى جرى المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وكان عند بعضهم لا بأس به فكانت حليمة وسيطة في بني سعد كريمة من كرائم قومها بدليل اختارها الله إياها لرضاع نبيه صلى الله عليه وسلم كما اختار أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنّه يغير الطباع.

جوع كلبك يتبعك!

وفي المسند عن عائشة ترفعه: لا تسترضعوا الحمى فإنَ اللبن يورث! ويحتمل أن تكون حليمة وقومها طلبن الرضعاء للأزمة التي أصابتهم والسند الشهباء التي أقحمتهم اضطرارا. قال: وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه: أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت لبي سليمة فقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد يكون ذلك منهم أيضاً لينشأ الطفل في الأعراب فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسده وأجدر أن لا يفارق الهئة المعدية كما قال عمر: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا! وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد؟ فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى الأعرابيات. وقد ذكر أنَّ عبد الملك بن مروان كان يقل: أضر بنا حب الوليد! لأن الوليد كان لحانا وكان سليمان فصيحا لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من أخوته أسكنوا البادية فتعربوا ثم أدبوا فتأدبوا. انتهى. وقد قلت في نظم المثل المذكور من قصيدة: يعرى الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ والحرة الشماء ربتما ... جاعت ولم ترضع على أحرِ جوع كلبك يتبعك! الجوع تقدم. وجوعت فلانا وأجوعته: تركته بلا طعام حتى جاع؛ والكلب معروف؛ وكذا الاتباع. والمثل ظاهر المعنى. قيل: وأوّل من قاله ملك من ملوك حمير كان جبارا عنيفا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم وما في أيديهم. وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه وهو لا يبالي بذلك. وسمعت امرأة له أصوات السؤال فقالت له: إني لأرحم هؤلاء لمّا يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد وإني أخاف أن يكونوا عليك سباعاً بعد أم كانوا لك أتباعا! فرد عليها: جوع كلبك يتبعك! فأرسلها مثلا. ثم إنّه لبث كذلك زمانا ثم أغزاهم مع أخيه فغنموا ولم يقسم فيهم شيئا. فقالوا

أجوع من ذئب.

لأخي: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك منكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك وأجلس مكانه! وعرف أخوه بغيه واعتداءه فأجابهم إلى ذلك فوثبوا عليه وقتلوه. فيقال إنّه مر به رجل يقال له عامر بن جذيمة وهو مقتول وقد سمع قوله: جوع كلبك يتبعك! فقال: ربما أكل الكلب مجوعه إذا لم ينل شبعه! وقال لبو جعفر المنصور يوما لقواده: صدق الإعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعك! فقال له أبو العباس الطوسي منهم: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوح له رجل برغيف فيتبعه ويدعك! أجوع من ذئب. الذئب معروف يهمز ويخفف والأنثى ذئبية. قال الشاعر: فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تردد بين أخبث ذئبين والذئب يوصفل بالجوع المفرط ومن ثم يقال للجوع داء الذئب. يقال: رماه الله بداء الذئب أي الجوع. وهو مع ذلك شديد الصبر عليه وربما اكتفى بالنسيم. ويقال إنّه إذا ألح عليه الجوع عوى فتجتمع عليه الذئاب فتحمل على إنسان حملة واحدة وكل منها حريص عليه؛ إلاّ إنّه إذا أدمي منها واحد وثبت عليه البواقي وتركت الإنسان. ومن ثم قال الشاعر يعاتب صديقا له أعان عليه في أمر نزل به: وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ وقال العجير السلولي: تركنا أبا الأضياف في ليلة الدجى ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لماته وبآدله إذا القوم أموا بيته فهو عامرٌ ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله جوادٌ بدنياه بخيلٌ بعرضه ... عطوفٌ على المولى قليلٌ غوائله

أجوع من كلبة حومل.

فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دماً فهو آكله إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله أجوع من كلبة حومل. الكلبة الأنثى من الكلاب معروفة؛ وحوامله بالحاء المهملة على مثل جوهر امرأة من العرب كانت لها كلبة تجوعها بالنهار وهي تحرسها بالليل. فكانت تربطها بالليل للحراسة وتطردها بالنهار وتقول: التمسي لا ملتمس لك! حتى طال عليها الأمر فأكلت ذنبها جوعا. قال الشاعر: كما رضيت جوعا وسوء ولاية ... لكلبتها في أول الدهر حومل أجوع من لقوةٍ. اللقوة بفتح اللام: الكلبة. وفيها يقال: أجوع من لقوة قاله بعض الناس. والمعروف في كتب اللغة أنَّ اللقوة بالفتح وتكسر المرأة السريعة اللقاح كالناقة. ومنه المثل الآتي: لقوة صادقت قبيساً؛ وكذا العقاب الأنثى. قال امرؤ القيس: كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي وقال أبو عبيدة: سميت العقاب لشدة لسعة أشداقها. وكأنه عنده مأخوذ من اللقوة، وهو الداء المعروف الذي يصيب في الجه. يقال لقي الرجل بالبناء للمفعول، فهو ملقو. أجول من قطربٍ. يقال: جال جولانا فهو جائل وجوال؛ والقطرب طائر يبيت سائراً لا ينام الليل كله. ويقال دويبة. ويقال إنّه دويبة لا تستريح نهارها سعيا. وكان محمد بن المستنير النحوي يبكر إلى مجلس سيبويه فلا يفتح الباب إلاّ وجده فقال له: ما أنت إلاّ قطرب ليل! فبقي عليه قطرب لقبا. ويطلق القطرب أيضاً على الذئب الأمعط وعلى الفأر وعلى

الجار قبل الدار.

اللص وعلى ذكر الغيلان وغير ذلك من المعاني. وذكر أبن ظفر أنَّ القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر يظهر للمنفرد من الناس فربما صده عن نفسه إن كان شجاعا وإلاّ لم يزل به حتى ينكحه فإذا نكحه داد دبره فهلك. وهو إذا رأوا من ظهر له قطرب قالوا: امنكوح أم مروع؟ فإن قال منكوح أيسوا وإن قال مروع عالجوه والله اعلم. وسيأتي ذكر نحو هذا الحيوان في قولهم ألوط من عدار في حرف اللام، إن شاء الله تعالى. الجار قبل الدار. روي هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق. ويروى: الجار والرفيق مرفوعين والنصب فيهما حسن، أي: التمس الجار قبل الدار والتمس الرفيق قبل الطريق. وقال أبو تمام في هذا المعنى: من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أني أبتنيت الجار قبل المنزلِ؟ ووقال الأخر: يقولون: قبل الدار جارٌ موافقٌ ... وقبل الطريق النهج أنس طريق فقالت: وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث كأس الخمر مثل صديق وقال الأخر في المعنى: يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغصُ فقالت لهم: بعض الملام! فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخصُ جاء بالضح والريح المجيء معروف والضح بكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة مشددة يطلق على الشمس وما طلعت عليه الشمس. وفي الحديث: لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل فانه مقعد الشيطان. ذكره في الصحاح وأنشد لذي الرمة: غدا أكهب الأعلى وراح: إنّه ... من الضح واستقباله الشمس أخضرُ أي استقباله عين الشمس. وقال علقمة: أبيض أبرزه للضحى راقبه. والريح معروفة. ومعنى جاء بالضح والريح: جاء بما طلعت عليه الشمس وما جرت

جاء بالحظر الرطب.

عليه الريح. يقال ذلك عندما يجيء بالشيء الكثير. قال في الصحاح: والعامة تقول: جاء بالضيح والريح يعني الضيح بالياء المثناة من تحت. قال: وليس بشيء. انتهى. ومثله لصاحب القاموس. جاء بالحظر الرطب. الحظر بالظاء المشالة على مثال كتف الشجر المحتظر به والشوك الرطب. والرطب خلاف اليابس فيقال: جاء فلان بالحظر الرطب أي بكثرة من المال والناس وقيل بالكذب المستبشع. ويقال أيضاً: أوقد فلان في الحظر الرطب إذا بم ووقع في الحظر الرطب إذا وقع فيما لا طاقة له به. وذلك كله ظاهر. جاء بالطم والرم. الطم بكسر الطاء المهملة قيل الماء وقيل ما على وجه الماء وقيل ما ساقه من الغثاء ويطلق أيضاً على البحر وعلى العدد الكثير وعلى العجب وغير ذلك من المعاني. والرم بكسر الراء: ما يحمله من الغثاء أو ما على وجه الأرض من فتات الحشيش. ومعنى جاء بالطم والرم: جاء بالمال الكثير. وقيل: بالرطب واليابس أو بالتراب والماء أو بالبحر والثرى. وقال بعض الناس: الطم بالكسر إذا كان مع الرم؛ فإذا أفرد فتح فقيل: جاء بالطم مفتوحا كما قالوا: هنأني بالطعام ومراني؛ فإذا أفردوا لم يقولوا إلاّ أمراني. جاء بما صأى وصمت. يقال: صأى الفرخ وغيره يصأى كسعى يسعى صئيا على مثل فعيل إذا صوَّت. قال: مالي إذا أنزعها صأيت؟ ... أكبرٌ غيرني أم بيتُ؟ وصمت يصمت ككتب يكتب صكتا وصموتا إذا سكت. فيقال: جاء بما صأى وبما صمت بحذف الموصول الثاني اختصارا كقول حسان رضي الله عنه:

جاء صريم سحر

أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء؟ أي: من يهجوه ومن يمدحه لاستحالة اجتماع الوصفين في موصوف واحد، وكذا الصئي والصمت لا يجتمعان. والصامت من المال: الذهب والفضة، والناطق: الإبل مثلا. ومنه قولهم: حصل الناطق والصامت، وهلك الحاسد والشامت. وقد يقال: جاء بما صاء وصمت. وصاء مقلوب صأي، كما قالوا: راء في رأي. ومنه قولهم في المثل الآخر في العقرب: تلدغ وتضيء. جاء صريم سحرٍ أي خائبا آيسا. جاء يضرب أسدريه. ويقال أيضاً: جاء يضرب اصدريه بالصاد وازدريه بالزاي والمعنى في الجميع واحد. والإصدران عرقان تحت الصدغين، وقيل المنكبان، وقيل العطفان، ويقال: جاء يضرب اصدريه، أو اسدريه، أي يضرب عطفيه ومنكبيه. ومعناه: جاء فارغا ليس بيديه شيء ولم يقض حاجة. فإذا قضاها قيل: جاء ثانياً من عنانه. ويروى أنَّ الحسن البصري، رضي الله عنه، رأى الناس يوم عيد يضحكون فقال: تلقى أحدكم أبيض بضا، يلمح في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هاأنا ذا فاعرفوني! قد عرفناك، فمقتك الله ومقت الصالحون! ومعنى يلمح في الباطل يلج فيه؛ وقيل يتثنى. جاء يفري ويقد. الفري: القطع. تقول: فريت الشيء، أفريه، فريا إذا قطعته على

جاء بأم الربيق، على أريق.

وجه الإصلاح. وأفريته إذا قطعته على وجه الإفساد. قال زهير: ولانت تفري ما خلقت، وبعض ... القوم يخلف ثم لا يفري أصله أنَّ الرجل يخلق الأديم أي يتهيأ لإصلاحه ويقدره، ثم يفري أي يقطعه. لذلك يقول: انك إذا تهيأت لأمر أنفذته وأمضيته، وكثير من الناس يهم ولا يفعل. وقيل: إنَّ فرى وأفرى، بمعنى واحد، وكل ذلك يكون في القطع للإصلاح والإفساد وتقول: فريت المزادة إذا خلقتها وصنعتها. قال الراجز: شلت يدا فارية فرتها ... مسك شبوب ثم وفرتها لو كانت الساقي صغرتها والقد: القطع طولاً. يقال الأديم إذا شقه طولا. ومعنى: جاء يفري ويقد: جاء يعمل عملا محكما. ويقال أيضاً: هو يفري ويقد. ويقال: يفري الفري، بمعناه. جاء بأم الربيق، على أريق. أم الربيق: الداهية؛ والأريق أصله وريق بالواو فقبلت همزة. والوريق تصغير أورق، تصغير الترخيم، كما يقال في أسود سويد، وفي أحمر حمير، وفي أدرد دريد. والأورق من الأبل ما في لونه بياض إلى سواد. وقيل: كان أصله أن يقول أوريق على أصله، فحذفت الواو ليزدوج الكلام. ويقال إنّه من أطيب لحما لا حملاً وسيراً. وقيل لابنه الخس: أي الجمال شر؟ فقالت: الأورق. وزعموا أن رجلا رأى غولا على جمل أورق فقال: جاء بأم الربيق على أريق، أي الغول على جمل أورق، فضرب مثلا في جناية عظيم الدواهي. جاءوا مخلين فلاقوا حمضاً. يقال: أخل الرجل إذا رعى إبلى في الخلة والخلة، بضم الخاء المعجمة: كل ما فيه حلاوة من النبات. مقابله الحمض، بفتح الحاء المهملة. ويقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها أو لحمها. وجاءوا مخلين: جاءوا وقد أكلت إبلهم الخلة.

جاءوا على بكرة أبيهم.

وهذا المثل يضرب لكل من جاء متهددا فصادف ما يقمع تهدده. وسنزيده بيانا بعد في محلة من الشعر إن شاء الله تعالى. جاءوا على بكرة أبيهم. البكرة بالفتح فالسكون: الفتية من الإبل والفتى منها بكر. وكان يقال البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس؛ والبكرة بمنزلة الفتاة؛ والقلوص بمنزلة الجارية الشابة؛ والبعير بمنزلة الإنسان؛ والجمل بمنزلة الرجل؛ والناقة بمنزلة المرأة. والبكرة أيضا بكرة الدلو التي يستقى منها. واختلف في معنى هذا المثل فقيل: معنى جاءوا على بكرة ابيهم: جاءوا مجتمعين لم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة على الحقيقة. وفي الحديث جاءت هوازن على بكرة أبيها. وقيل هو وصف بالقلة والذلة أي جاءوا بحيث تكفيهم واحدة يركبون عليها وذكر الأب احتقارا. وقيل إنَّ أصل هذا المثل أنَّ قوما قتلوا فحملوا على بكرة أبيهم فقيل فيهم ذلك ثم صار مثلا للقوم يجيئون معا. وقيل إنَّ البكرة هاهنا هي بكرة الدلو والمعنى: جاءوا بعضهم في اثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقيل: لأريد بالبكرة الطريقة أي: جاءوا على طريقة أبيهم يقتفون أثره. جاء ينفض مذرويه. النفض معروف؛ والمذرى الخشبة التي ينقى بها الزرع؛ والمذروان جانبا الرأس، وما يقع عليه الوتر في القوس من أعلى وأسفل. قال بعض هذيل: على كل هتافة المذروين ... صفراء مضجعة في الشمالِ والمذروان أيضاً طرفا الأليتين. قال عنترة لعمار بن زياد: أحولي تنفض أستك مذريها؟ ... لتقتلي فها أنذا عمارا! أي: يا عمارة! ولا واحد للمذروين في شيء من من هذه المعاني. وقيل إنَّ واحده مذرى ورد بأنه لو كان كذلك لقيل في التثنية مذريان بالياء لا بالواو. وهذا بحسب الظهور

جاء على غبيراء الظهر.

والرجحان؛ وإلاّ فلا مانع من أن يكون هذا من الشواذ. ومعنى جاء ينفض مذرويه: جاء ينفض طرفيه. ويقال ذلك إذا وصف بالخيلاء. وأكثر أهل اللغة يقولون: معناه إنّه جاء متهددا، وهذا المفهوم من قول عنترة السابق؛ والخيلاء هو المفهوم من كلام البصري السابق. جاء على غبيراء الظهر. الغبيراء تصغير الغبراء مؤنث الأغبر. والمراد هنا الأرض ذات الغبرة. والظهر جلاف البطن. ويقال أيضاً: ترك فلان أباه على غبيراء الظهر. ومعناه أنه لم ينجح سعيه ولا ظفر بحاجته بمنزلة الرجل الطالب المرعى فصادف أرضا مغبرة الظهر مجدبة لا كلأ فيها ولا ماء. والتصغير في المثل للتعظيم كقوله: وكأنَّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهيةٌ تصفر منها الأناملُ جاء وقد لفظ لجامه. اللفظ الرمي؛ واللجام معروف. فقيل: جاء فلان من حاجته وقد لفظ لجامه إذا رجع منها وهو مجهود من الأعياء والعطش. ويقال أيضاً: جاء وقد دلق لجامه. جاء وقد قرض رباطه. هذا كالذي قبله قاله أبو غبيد. وقال غيره: اكثر ما يقال ذلك في الموت. يقال: فلان قد قرض رباطه ولعق إصبعه وعطست به اللجم وضحا ظله. كل ذلك يقال إذا مات. جاءوا قضهم بقضيهم. معناه جاءوا جميعا. يقال بنصب قضهم على نية المصدر أو الحال؛ وبرفعه.

أجدك تقول هذا

ويقال أيضاً بفتح القاف وكسرها. قال حصين بن الحمام المري: وجاءت جحاش قضها بقضيضها ... وجمع عوال ما أدق والأما وجحاش على مثل كتاب أبو حي من غطفان وهو جحاش بن ثعلبة بن سع بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان رهط الشماخ. وقال الآخر: أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حواي بالبقيع سبالها ويقال أيضاً جاءوا قضهم وقضيضهم بالواو وقد قيل: القض: هو الصغير من الحصان، والقضيض: الكبير منه. والمعنى: جاءوا صغيرهم وكبيرهم. وقيل القض بمعنى القاض، والقضيض بمعنى المقضوض. ومما يلتحق بهذا الباب قولهم في الرجل: جحيش وحده وهو ذم؛ والجحيش تصغير جحش، وقد تقدم. وقولهم أجد فلان بها أمراً! أي أجد أمره بها، بنصب أمر على التمييز كما قالوا: قررت بها عينا أي قرت بها عيني. وقولهم: أجدك تقول هذا؟ بنصب جد أي أيجد منك؟ فانتصب على طرح الباء؛ أو أتجد جدك؟ فانتصب على المصدر. قال الشاعر: أجدك ما لعينك لا تنام؟ ... كأن جفونها فيها كلامُ! وقولهم: أجدت من هذا الأمر قروني أي تركته. وقولهم: جعلوا الأرض عليه حيص بيص، وحيصا بيصا. أي ضيقوا عليه ومنعوه من التصرف. وقولهم للرجل:

جعد القفا. أي لئيم الحسب وجعد البنان، أي بخيل، وقولهم: جاء بالأمر على قناديده، أي من وجهه. وقولهم: جاء بذات الرعد والصليل، أي جاء بالحرب لأن هديرها يشبه الرعد، وفيها صليل السلاح كما قال مهلهل: فلولا الريح أسمع من بنجدٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور وقولهم: جاء بالصقر والبقر على مثال زفر فيها وبالصقارى والبقارى بفتح الراء فيها مع ضم الأول أي بالكذب الصراح وهو اسم لمّا لا يعرف. وقولهم: جاء به من حسه وبسه، مثلثي الأول أي من جهده وطاقته. وقولهم: جاء مضطرب العنان، أي منهزما منفرداً. وقولهم:

جاء ولكن لم يجيء لعصره.

جاء ولكن لم يجيء لعصره. بضم العين أي لم يجيء حين المجيء. ومن الأمثال المحدثة: الجواب ما ترى لا ما تسمع! واصله إنَّ أبا يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أحد الملوك الموحدين بمراكش كان بينه وبين الادفونش النصراني صاحب طليطلة لعنه الله مكاتبات. فكان منها رسالة كتب بها الادفونش إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده ويطلب منه بعض الحصون من إنشاء وزيره أبن النجار وهي: " باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض وصلى الله على السيد المسيح وروح الله وكلمته الفصيح. أما بعد فانه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب انك أمير الملة الحنيفة كما أنا أمير الملة النصرانية. وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل والتكاسل وإهمالهم أمر الرعية وإخلادهم إلى الأمنية. وأنا أسموهم بحكم القهر إخلاء الديار وإسباء الذراري وأمثل بالرجال وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال. ولا عذر في لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة وساعدك وعسا كرك وجنودك رأي وخبرة. وانتم تزعمون إنَّ الله تعالى قد رفض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم الآن خفف الله عنكم وعلم إنَّ فيكم ضعفا رحمة منه ومنا ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا إذ لا تستطيعون دفاعا ولا تملكون امتناعا. وقد حكي عنك انك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال وتماطل نفسك سنة بعد أخرى وتقدم رجلا وتؤخر أخرى. فلا ادري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعدك به ربك إلى آخر الرسالة وفيها طول فلما وصل الكتاب إلى أمير المسلمين مزقه وكتب على قطعة منه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم أذلة وهم صاغرون. الجواب ما ترى لا ما تسمع وتمثل ببيت أبي الطيب في مدح سيف الدولة:

ولا كتب إلاّ المشرفية عنده ... ولا رسل إلاّ الخميس العرمرم ثم ضرب السرادقات من يومه بظاهر البلد وأمر باستنفار الجيوش من الأمصار وعبر من زقاق سبتة ودخل بلاد الإفرج فكسرهم كسرة شنيعة وعاد بغنائمهم رحمه الله تعالى ثم رأيت الحصري ذكر هذا الكلام عن المعتصم العباسي قال: كتب إليه ملك الروم كتابا يتهدده فيه فأمر بجوابه. فلما قرء عليه لم يرض بما فيه فقال لبعض الكتاب: اكتب: أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما تضمنه خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع. وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار. قال: وهذا نظير قول قطري بن الفجاءة إلى الحجاج وقد كتب إليه كتابا يتهدده فيه فأجاب: أما بعد، فالحمد لله الذي لو شاء لجمع بين شخصينا فعلمت مثاقفة الرجال، من تسطير المقال والسلام. انتهى. ومن معنى هذا المثل قول عنترة: ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيصل لمّا دعاني دعاني دعوة والخيل تردي ... فما أدري أباسمي أم كناني؟ فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ... ولكن قد أبان له لساني فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنانِ بأسمر من الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمانِ أي: كان جوابه له حين دعاني واستغاث بي أن عطفت عليه فرسا خوارا العنان أي سهل العنان يعني مرتاضا قد اعتاد الخول في الحرب والولوج في المضايق وذلك بأسمر ألخ. .، أي برمح وسيف صفتهما ما ذكر. ومنه قول الحماسي: وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم وقول الآخر: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيبِ أي الاجتهاد في نصرته. وقرع الظنبوب كناية عن ذلك وقد تقدم. ومن أمثال العامة قولهم:

جزاؤه على حماره. وقولهم: جاء يعينه في قبر أمه فهرب بالفارس. ومعناه ظاهر. ولنذكر في هذا الباب ما تيسر من الشعر. قال الحماسي محمد بن بشير: كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا! إنَّ الأمر إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا! أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأباب أن يلجا! قدر لرجلك قبل الخطو موضعها: ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا! وقال عبد الله بن الزبير الأسدي: لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلاّ وثقت بأن ألقى لها فرجا وحز الودج: قطعه. وضربه مثلا للغم على ما فات من عرض الدنيا. وقال أبو تمام الطائي: اصبري أيتها النفس: ... فإنَ الصبر أحجا نهنهي الحزن فإنَ ... الحزن إن لم ينه لجا والبسي اليأس من الناس ... فإنَ اليأس ملجا ربما خاب رجاء ... وأتى ما ليس يرجى وقال أيضاً يهجو يوسف السراج: ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو، فكيف إذا يموجُ؟ وقال الأخر:

وإني لأغضي مقلتي على الأذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا وإني لادعوا الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك إنَّ يتفرجا وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا! وقال الأخر: إذا تضايق أمر فأنتظر فرجا: ... فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج! وقال الأخر: رب أمر عز مطالبه ... قربته ساعة الفرج وقال الأخر: ديار عليها من بشاشة أهلها ... جمال تسر الناظرين وتبهج وقال الأخر: رأى البيت يدعى بالحرام فحجه ... ولو كان يدعى بالحلال لمّا حجا وقال الأخر: علي إني وإنَّ لاقيت شرا ... لخيرك بعد ذاك الشر راج وقال الأخر: كم عالم لم يلج بالعام باب غنى ... وجاهل قبل طرق الباب ولجا! وقال الأخر: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج ومثله قول الآخر: من راقب الناس مات عما ... وفاز باللذة الجسور وقال الأخر: يا نفس صبراً فعقبى الصبر صالحة ... لابد إنَّ يأتي الرحمان بالفرج! وقال الأخر: ولي فرس بالحلم للحلم ملجم ... ولي فرس بالجهل للجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج

وينسب هذا لصالح بن جناح. وقبله: لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني ... إلى الجاهل في بعض الأحايين أحوج وما كنت أرضى الجاهل خدنا وصاحبا ... ولكني أرضى به حين أحرج ولي فرس بالخير للخير ملجم ... وإلي فرس بالشر للشر مسرج وبعده: فإن قال بعض الناس في سماجة ... فقد صدقوا، والذل بالحر أسمج ونحوه قول النابغة الجعدي: ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... أريب إذا ما أورد الأمر أصدرا وقول الآخر: إذا أغضبت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أفعال اللئيم وقول الآخر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقول الآخر: ولا خير في حلم إذا ذل جانبه وقول الآخر: والعاقل النحرير محتاج إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه وقول الآخر: ولربما أعتضد الحليم بجاهل: ... لا خير في يمنى بغير يسار! وقال الإمام أبو الفضل يوسف بن النحوي، قدس الله سره!: والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج وقال: خيار الخلق هداتهم ... وسواهم من همج الهمج

ومن أظرف ما يحكى فيما يناسب هذا المعنى ما حدث به عن الزهري قال: دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين أقبلت يا زهري؟ قال قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت؟ عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي قال: وبم سادهم؟ قلت بالديانة والرواية. فقال أن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أنَّ يسود الناس. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي. فقال كما قال في الأولين. قال فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول الدمشقي. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نبوي أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال: قمن يسود أهل لجزيرة؟ قلت ميمون بن مهران. قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي. فقال كما قال. ثم قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي قال: ويلك! فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب. فقال: ويلك يا زهري! فرجت عني الله! : تسودون الموالي على العرب حتى يخطب بها على المنابر وإن العرب تحتها! قال قلت: يا أمير المؤمنين، أمر الله ودينه. فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط! وقالت جارية من العرب ماتت أمها وأضرت بها زوجة أبيها: ولو يأتي رسولي أم سعدٍ ... أتى أمي ومن يعينه حاج ولكن قد أتى من بيني ودي ... وبين وداده غلق الرتاج ومن لا يؤذه ألم برأسي ... وما الرئمان إلاّ بالنتاج وقال أم الضحاك المحاربية: حديث لو أنَّ اللحم يصلى بحره ... طريا، إذا أضحى به وهو منضج وكانت تحت رجل من الضباب وهي تحبه حبا شديدا، ثم طلقها فقالت:

هل القلب إنَّ لاقى الضبابي خاليا ... لدى الركن أو عند الصفا متحرج؟ وأعجلنا قرب المزار وبيننا ... حديث كتشنيج المريض مزعج وقال الأخر: لقد علمت أم الصبيين إنني ... إلى الضيف قوام السنان خروج إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو توءمين لوهج وإني لأغلي اللحم نيا وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج يريد: إني آخذها جيدة غالية الثمن، فأنحرها وأخلي بينها وبين الناس تهاونا بها، كما قال الآخر: وإني لأغلي لحما وهي نية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح وقال الحارث اليشكري: قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد حبا من دونها عالج: لا تكسع الشول بأغبارها: ... إنك لا تدري من الناتج وأصيب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج! يقول: لا يبق اللبن في الضروع هذه النوق! والأغبار جمع غبر وهو بقية اللبن في الضرع، كانت العرب تفعل ذلك لسمن الأولاد التي في بطونها. وأصببه للناس، فإنك لا تدري من ينتجها، ولعلك تموت فيبقى ذلك للوارث! ومثله قول الآخر: وإن درت نياقك فاحتلبها ... فما تدري الفصيل لمن يكون وهذا كما في الحديث: يقول أبن آدم مالي مالي، ومالك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت. ومنه قول النمر أبن تولب: أعاذل إنَّ يصبح صداي بقفرة ... بعيد نآني صاحبي وقريبي تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وإنَّ الذي أنفقت كان نصيبي وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب غدت وغد رب سواه يقودها ... وبدل أحجارا وجال قليب

قوله: جال قليب، جال: الناحية، كما قال مهلهل: كأن رماحه أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور ومنه قول الآخر أيضاً: قأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعال إنَّ الثناء هو الخلد! وقول حاتم: أماوي إنَّ يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر وقال أبن فارس اللغوي: وقالوا: كيف أنت؟ فقلت خير: ... تقضى حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا: ... عسى يوما يكون لها انفراج نديمي هرتي وسروور قلبي ... دفاتري ومعشوقي السراج وقال أبو محمّد الحريري: تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرج وألقي حبلي على غاربي ... وأسلكت مسلك من قد مرج فإن لامني القوم قلت: أعذروا ... فليس على أعرج من حرج! وقال أيضاً: ما الحج سيرك تأويبا وإدلاجا ... ولا اعتيامك اجمالا واحداجا الحج إنَّ تقصد البيت الحرام على ... تجريد الحج لا تقضي به حاجا وتمتطي كاهل الإنصاف متخذاً ... ردع الهوى هاديا والحق منهاجا وإنَّ تواسي ما أوتيت مقدرة ... من مد كفا إلى جدواك محتاجا فهذه إنَّ حوتها حجه كملت ... وإنَّ خلا الحج منها كان إخداجا حسب المرائين غبنا غرسوا ... وما جنوا ولقوا كدا وإزعاجا وإنهم حرموا أجرا ومحمدة ... وألحموا عرضهم من عاب أو هاجى أخي فأبغ بما تبديه من قربٍ ... وجه المهيمن ولاجا وخراجا

فليس تخفى على الرحمان خافية ... إنَّ اخلص العبد في الطاعات أو داجى وبادر الموت بالحسنى تقدمها: ... فما ينهه داعي الموت إن فاجا واقن التواضع خلقا لا تزايله ... عنك الليالي ولو ألبسنك التاجا ولا تشم كل خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السكب ثجاجا ما كل داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصم بنعي بعض من ناجى وما اللبيب سوى من بات مقتنعا ... ببلغة تدرج الأيام إدراجا فكل كثرة إلى قل مغبته ... وكل ناز إلى لين وإن هاجا وقال أيضاً في وصف سروج: بلدة يوجد فيها ... كل شيء ويروج ووردها من سلسبيل ... وصحاريها مروج وبنوها ومغانيهم ... نجوم وبروج حبذا نفحة ريا ... ها ومرآها البهيج وأزاهير رباها ... حين تنجاب الثلوج وقال الآخر: لو ركبت البحور صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا ولو إني وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي صارت زجاجا ولو إني ردت عذبا فراتا ... عاد لا شك فيه ملحا أجاجا ومثله قول الآخر: لو وردت البحار أطلب ماء ... جف قبل الورود ماء البحار أو لمست العود النضير بكفي ... لذوى بعد نضرة واخضرار أو رمى باسمي النجوم الدراري ... لا نزوى ضوؤها عن الأبصار ولو إني بعت القناديل يوما ... لبدا الليل في ضياء النهار

وقال الآخر: ولمل التمست الرزق فانجذ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... فزوجنيها الفقر إذ جئت أخطب فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جنا حيه لمّا لاح كوكب ولو جفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث يغرب ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لعدت إلى رحلي وفي الكف عقرب ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب وأن يقترف ذنبا ببرقة مذهب ... فإنَ برأسي ذلك الذنب يعصب وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرا فهو مني مقرب أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب وقول الآخر: أحمد الله لو أقل قط يابدر ... ويا موسى ويا كافور لا ولا قيل قد أتاك من ... الضيعة بر موفر وشعير أنا خلو من الممالك والأملاك ... جلد على البلايا صبور ليس إلاّ كسيرة وقديح ... وقميص أتت عليه الدهور وقول الآخر: سل عن الرزق يا أبا العباس ... وجماح الزمن بالأكياس لو من الناس ساعدتي الدهر ... ولكنني من النسناس لو هوت صخرة من الجو جاءت ... تتخطى الأنام تطلب رأسي لا وحق الإله ما ابصر الشمس ... بعيني من شدة الإفلاس وقول الآخر: برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد طلابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع سحاب فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... علي مسلما من غير باب لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السماء إلى التراب ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن اشد به ثيابي

ولا خفت الأباق على عبدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي وقول الآخر: قد أراح الله من هم ... طويل وعذاب فاسترحنا من عيال ... وعبيد ودواب وغدو ورواح ... وهجاء وعتاب وقول الآخر: كسدت شواشينا وقل معاشنا ... فسعودنا مقرونة بنحوس فكأنما قطعت رؤوس الناس أو ... خلقوا لشقوتنا بغير رؤوس وقول الآخر: أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال: ليس لي شيء إذا قيل ... لمن ذا قلت: ذالي فأرضي الله فرشي ... والسماوات ظلالي ولقد اهزلت حتى ... محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى ... حل أكلي بعيالي من رأى شيئاً محالا ... فأنا نفس المحال لو بقي في الناس حر ... لم اكن في مثل حالي وقول الآخر: ليس إغلاقي لبابي إنَّ لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا إنّما أغلقه كي لا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا وقيل لبعض أجلاف المشايم: كيف المعاش؟ فقال: يوما يرزق ويوما لا يرزق. وليته هو مضروب ألف سوط وإنَّ الله لم يخلقه وقيل له: فلعل الله قد ذخر لك بهذا أجرا في الآخرة. فقال: أيهما اكرم على الله الدنيا أم الآخرة؟ فقيل له: الآخرة. فقال: هو لم يعطني الهينة عليه فيعطيني تلك الكريمة عليه!

وقيل لآخر: أتعرف ربك؟ فقال: وكيف لا اعرف من أجاعني واعراني؟ وقيل لآخر وقد رئي مغتنما: ما غمك؟ فقال: سوء الحال وكثرة العيال. فقال له: لا تغتنم فإنهم عيال الله. فقال: صدقتم ولكن كنت أحب أن يكون الوكيل عليهم غيري! وقال بعضهم: كان لآدم عليه السلام غلام يخدمه فنحن معاشر المحارفين من نسل ذلك الغلام ولا نسب بيننا وبين آدم فإنَ الله يقول: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات. وليس فينا ولا عندنا شيء من هذه الخصال فلو كنا بني آدم لكان لنا حظ من هذه الأشياء! واستقى قوم يوم الخميس فمطروا. فنظر إليهم بعض المشائيم وهم منصرفون فرحين بالسقايا فقال: والله ما بي إلاّ انهم يظنون إنَّ الله استجاب لهم. والله ما مطروا إلاّ أني غسلت ثيابي اليوم والله ما غسلتها قط إلاّ تغيمت السماء ومطرة ولا بأس فليرجعوا إلى خميس آخر: فإنَ مطروا فليحلقوا لحيتي! وقال أبو العباس أحمد المقري الفاسي يخاطب التاج التونسي: والله ما انصفتنا يا تاج: ... فسقامنا لدوائكم مجتاج فقضية قد ركبت بشروطها ... أفممكن أن يخلف الإنتاج وقال الآخر: ولم أر شيئاً بعد ليلى ألذه ... ولا منهلا أروى به فأعيج يقال: ما عجت بالدواء أي لم انتفع به. ويزعم كثير من اللغويين والنحويين إنّه لا يستعمل إلاّ في النفي كما مثلنا وكما في قول كثير: قلما نفعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجبت من أقاويلهم بفتيل والبيت المذكور يرده إلاّ إنَّ يتأول إنّه لمّا كان الموصوف منفيا كانت الصفة وما عطف عليها أيضاً في معنى النفي والله اعلم. وقال الآخر في الأوصاف: في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدى مثل وقوف العاج والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجا بسراج ومثله قول الآخر: يا رب ليل رقبناه وقد طلعت ... بقية البدر في أولى بشائره كأنما ادهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح خلى نعل حافره

وقول الآخر: فكأن الليل حين لوى ... هاربا والصبح قد لاحا كلة سوداء احرقها ... عامد أوقد مصباحا وقول الآخر: سرى والصبح تحت الليل باد ... كطرف أبلق تحت الجلال بكأس من زجاج فيه أسد ... فرائسهن الباب الرجال وقول الآخر: وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح مهتم الطلوع كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع وقال الآخر: لفتاة تسرنا في المثاني ... وعجوز تسرنا في المزاج أخذت من رؤوس قوم كرام ... ثأرها بين أرجل الأعلاج ومثله قول أبي بكر بن زهير: وموسدين على الأكتاف خدودهم ... قد غالهم ضوء الصباح وغالني ما زلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالي وخمر تحسن كيف تأخذ ثأرها: ... إني أملت إناءها فأمالني وقال الآخر: ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره في فتية جعلوا الزقاق وكاءهم ... متضارعين تخشعا لكثيره يهدي إلينا الراح كل مصفق ... كالخشف خفرة التماح خفيره وإلى علي بطرفه وبكفه ... فأمال من رأسي لعب كبيره وتزنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره والشعر في أوصاف الخمر كثيرة وأكثره يتنزه عن ذكره وسيأتي كثير منه. وقال أبو الفرج جعفر اليماني:

عارض أقبل في ليل الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجا بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى بوقد عنه سرجا ومثله قول أبن الخطيب: أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا وكأنَّ صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا وتقدم استيفاء هذا المعنى في الباب الأول. وقال الأخر: قالوا: تبدى شعره فأجبتهم: ... لابد من علم على الديباج! والبدر أبهر ما يكون ضياؤه ... إن كان ملتحفا بليلٍ داجِ ومن هذا المعنى قول الآخر: ومهفهفٍ علق السقام بطرفه ... وسرى فعرس في معاقد خصره مزقت أستار الظلام بثغره ... ثم أنثنيت أحوكها من شعره وقال أبن صارة: ومهفهفٍ أبصرت في أطرافه ... قمرا بآفاق الملاحة يشرقُ يقضي على المهجات منه صعدة ... متألق فيها سنان أزرقُ وقول الآخر: ومعذرٍ عبث العذار بخده ... ظلماً فشان ضياءه بظلامه كسفت محاسنه لأربع عشرة ... وكذا كسوف البدر عند تمامه وقال أبن رشيق: همت عذاراه بتقبيله ... فاستل من عينيه سيفينِ وقامت الحرب على ساقها ... بين أميرين قتولين: فذلك المحمر من خده ... دماءُ ما بين الفريقينِ وقال الأخر: وأغيد من أبناء لمطة شادنٍ ... ينوء كما يعطو بخطوته البانُ ذؤابته مهراقةٌ خلف ظهره ... كما التف بالغصن المنعم ثعبانُ

وقول الآخر: ومهفهفٍ كالغصن إلاّ أنه ... سلب التثني النوم عن أثنائه أضحى ينام وقد تورد خده ... عرقا فقلت: الورد رش بمائه! وقول الآخر: غزال إنسٍ كم استدنيته فنأى ... عني وأعرض مزوراً بجانبه! طالت علي ليلٍ من هواه كما ... طالت عليه ليالٍ من ذوائبه وقال الصنوبري: ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً ولا ألفاته من قده فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من خده وهذا المعنى كثير. وقال الأخر: كأنَّ الثريا راحةٌ تشبر الدجى ... لتخبر طال الليل أم قد تعرضا عجبت لليلٍ بين شرقٍ ومغربٍ ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا وقول الآخر: كأنَّ بهرام وقد عارضت ... منه الثريا نظر المشتري ياقوتةٌ يعرضها بائعٌ ... في كفه والمشتري مشتري وقول الآخر: وقد لاح من الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا وقال الأخر: وغريبتة الإنشاء صرنا فوقها ... والبحر يسكن تارة ويموجُ عجبا تؤم بها معاهدنا التي ... كرمت فعاج الأنس حيث نعوجُ! وقد استطال النور فوق الماء من ... شمس الأصيل فلاح وهو بهيجُ فكأنَّ متن البحر ذائب فضةٍ ... قد سال فيه من النضار خليجُ

ومثله قول الآخر: لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... يبدي لهم لمح السرور مراحه وقد استداروا تحت ظل شعاعه ... كلٌ يمد بكأس راحٍ راحهُ لحسبته خوف العواصف طائراً ... مد الحنان على بنيه جناحهُ وقال أبن الخطيب: إنَّ الهوى لشكايةٌ معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... يوما ضمنت لها صلاح خراجها وقال السبتي: يا ساءلاً عن مذهبي عامداً ... ليقتدي فيه بمنهاجي منهاجي العدل وقمع الهوى: ... فهل لمنهاجي من هاجِ؟ وقال أبو الحسن بن رشيق: ولقد ذكرتك في السفينة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواجِ والجو يهطل والرياح عواصفٌ ... والليل مسود الذوائب داجِ وعلى السواحل للأعادي غارةٌ ... يتوقفون لغارة وهياجِ وعلت لأصحاب السفينة ضجةٌ ... وأنا وذكرك في أل تناجِ ومثله وهو أصله قول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ ... مني وبيض الهند تقطر بالدمِ وقول الأرجاني: وإني لأرعاكم على القرب والنوى ... وأذكركم بين القنا والقنابلِ وقول الآخر: إلاّ من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبا حولي صليلُ وأني جلت في جيش الأعادي ... برمح وهو في ذكري يجولُ؟ وقول الآخر: أرسلتها والعوالي في الطلا ترد ... في موقفٍ فيه ينسى الوالد الولدُ وما نسيتك والأرواح سائلةٌ ... على السيف ونار الحرب تتقدُ

وقوله: ولقد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية شرع وعلى مكفاحة والعدو ففي الحشا ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد فيف عنه أرجع؟ وقول الصفي الحلي: ولقد ذكرتك والعجاج كأنه ... منا وبين معفر في معفر والشمس بين مجدل في جندلٍ ... منا وبين وجهك أو مساء مقمر وتعطرت أرض الكفاح كأنما ... فتقت لنا ريح الجلاد بعنبر وقوله أيضاً: ولقد ذكرتك والسيوف مواطر ... كالسحب من وبل النجيع وطله فوجدت أنسا عند ذكرك كاملا ... في موقف يخشى الفتى من ظله وقلوه أيضاً: ولقد ذكرتك والجماجم وقع ... تحت السنابك والأكف تطير والهام في أفق العجاجة حوم ... فكأنها فوق النسور نسور فأعتادتني من طيب ذكرك نشوة ... وبدت علي بشاشة وسرور فظننت أني في مجالس لذتي ... والراح تجلى والكؤوس تدور وقول أثير الدين بن حيان: لقد ذكرتك والبحر الخضم طغت ... أمواجه والورى منه على سفر في ليلة أسدلت جلباب ظلمتها ... وغار كوكبها عن أعين البشر والماء تحت وفوق المزن وأكفه ... والبرق يستل أسيافا من الشرر والروح من حزن راحت وقد وردت ... صدري فيالك من ورد بلا صدر! هذا وشخصك لا ينفك في خلدي ... ولا في فؤادي وفي سمعي وفي بصري

ويقرب من هذا قولي: إلاّ ليت شعري هل أرى من ثنية ... عضها كموصوف الكتائب تشرف؟ وهل أردن من سلسبيل مواردٍ ... هناك كالمعسول المباسم تشرف؟ وهل أرين مغنى الدلاء عيشة ... كأن بنياه بجاد مفوف؟ ذكرتكم وهنا وإني لمدلج ... بأجواز أقطار الصحاري أطوف فقلت وقلبي ضمن شجو ولوعة ... وجفني بمنثور الجمان يكفكف: أدار سقيك الوبل غير مبرحٍ ... ولا برحت عنك الحوادث تصرف لقد هجت للقلب العميد صبابة ... تكاد لها صم الجبال تقصف! وقول الصفدي: ولقد ذكرتكم بحرب ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب والصافنات بركضها قد أنشأت ... ليلا وكل سنا سنان كوكب والبيض تنثر كل ما نظم القنا ... والنبل يترب والعجاج يترب وحشاشة الأبطال قد تلفت ظما ... ودم الفوارس مستهل صيب والنفس قد سالت على حد الظبا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب وقول الآخر يصف الشمس في الغيم: وتنقبت بخفيف غيم أبيضٍ ... هي فيه بين تخفر وتغنج كتنفس الحسناء في المرأة إذ ... كلمت ولم تتزوج ومن هذا المعنى قول أبن طباطبا العلوي: متى أبصرت شمسا تحت غيمٍ ... ترى المرآة في كف الحسود تقابلها فتلبسها غشاء ... بأنفاس تزايد في الصعود وقال الوزير المهلبي: أما ترى الشمس وهي طالعة ... تمنع منا إدامة النظر؟ حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر

وقوله: والشمس خيراً خلف غيم عارض ... فكأنها في ضوء ليل مقمر وقوله: الشمس من مشرقها قد بدت ... نيرة ليس لها حاجب كأنها فوهية أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب وقول أبن المعتز: والشمس كالمرآة في كف الأشل وقول أبي حفص بن برد، ومنه أخذ: كأن شعاع الشمس في كل غدوةٍ ... على ورق الأشجار أوّل طالع دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوي من فروج الأصابع ونحو هذا قول الآخر في الخمر: كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور تهتز في الكأس من ضعف ومن هرمٍ ... كأنها قبس في كف مقرور وقول أبن الرومي في الشمس: كأن جنوح الشمس عند غروبها ... وقد جنحت في مجنح الليل تمرض محاجر عين مس أجفانا الكرى ... ترنق فيها النوم وهي تغمض وقال أبن خفاجة: والنقع يكسر من سنى شمس الضح: ... فكأنه صدا على دينار وقال إبراهيم بن العباس الصولي: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج كملت فلما استكملت حلقاتها ... فخرجت وكان يضنها لا تفرج وكان يقال: ما رددهما من نزلت به نازلة به إلاّ فرج الله عنه. وقال الأخر: رويدك! فالهموم لها رتاج ... وعن كثب يكون لها انفراج ألم تر أنَّ طول الليل لمّا ... تناهى حان للصبح انبلاج؟

وقال أبو فراس: ألا، ربما ضاق بأهله ... وأمكن من بيت الأسنة مخرج ومثله قوله أيضاً: خفض عليك ولا تكن قلق الحشا ... مما يكون وعله وعساه! فالدهر أقصر مدة مما ترى ... وعساك أنَّ تكفى الذي تخشاه وقول الآخر: تربص بيومك ما في غدٍ ... فإن العواقيب قد تعقب لعل غدا من أخيه حمى ... يلم لك الصداع أو يرأب وقال الحجاج: دعها سماوية تجري على قدرٍ ... لا تفسد برأي منك أرضي وقول أبن حميدس: ما أغفل الفيلسوف عن طرقٍ ... ليس لأهل العقول منسلكه! من سلم الأمر للإله نجا ... ومن عدا القصد واقع الهلكه وقول الآخر: لا تضف في الأمور ذرعا فقد ... يكشف عنها بغير احتيال ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال وقصة أبي عمرو بن لعلاء في هذا الشعر، حيث ألزمه الحجاج أنَّ يأتي بشاهد على قراءته غرفة فسمع هذا الشعر مقرونا بنعي الحجاج، معروفة. وقال الأخر: إذا دجا خطب وأيقنت من ... صعب بأن الأمر يأتي عسير ينعكس الأمر ويأتي كما ... شئت: فسبحان اللطيف الخبير! وقول الآخر: لا تشك! فالأيام حبلى ربما ... جاءتك من أعجوبة بجنين فكذا تصاريف الزمان: مشقة ... في راحةٍ وخشونة في اللين! ما ضاع يونس بالعراء مجرداً ... في ظل نابتة من اليقطين

وقول الآخر: والليالي كما علمت حبالى ... مقربات يلدن كل عجيب وقول الآخر: الدهر لا ينفك عن حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه فدع الزمان فانه لم يعتمد ... لجلالة أحد ولا لهوانه! كالمزن لم يخصص بنافع صوبه ... أفقا ولم يخش أذى طوفانه لكن لباريه بواطن حكمةٍ ... في ظاهر الأضداد من أكوانه وقول الآخر: دع المنى! ربما نيلت بلا طلبٍ ... وربما وقع الحرمان من المهن! وقول الآخر: الدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... من غير قصد: فلا تمدح ولا تذم لا تسأل الدهر في غماء يكشفها: ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم! وقوله: ولا تذم، إنَّ كان بكسر الذال من قولك ذامه يذمه ذيما وذاما أي عابه فهو صحيح؛ وإنَّ كان بضمها من قولك ذمه يذمه فهو مذموم فلحن أو ضرورة بشيعة. وقول أبي بكر الخوارزمي: ما أثقل الدهر على من ركبه ... حدثني عنه لسان التجربه! لا تحمدن الدهر لشيء سببه ... فانه لم يعتمد بالهبه وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذ يسقي مكاناً أخربه! والسم يستشفي به من شربه قلت: وشعر هذين الشاعرين ينحو منحى زهير إذ يقول: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم لا سيما الشاعر الأول. ولا شك إنَّ ما ذكره زهير خطأ وجهل بالتدبير الرباني، والتصريف الاختياري، وأنَّ كل ذلك واقع عن علم وسبق مشيئة. وإنَّ كان يمكن أنَّ يتأول الكلام لو صدر من موحد بأن ذلك بحسب الصورة الظاهرة. ومثل المنايا صروف الدهر وحوادثه سواء.

ويشبه قول الخوارزمي: لا تمدحن أبن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود حتى أخجل الديما! فإنها خطراتٌ من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما وكتب البيتين فوضعهما حيث يجلس الصاحب ثم ارتحل من وقته. فلما وقف الصاحب عليهما فال: أقول لركبٍ من خراسان أقبلوا ... أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم! فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره: ... إلاّ لعن الرحمن من يكفر النعم! ومثل ما تقدم قول الآخر: من يصحب الدهر لا يعدم تقلبه ... والشوك ينبت فيه الورد والآسُ تمر حينا وتحلو لي حوادثه ... فقلما جرحت إلاّ انثنت تأسو وقول الآخر: لا تجزعن لعسرةٍ من بعدها ... يسران وعد ليس فيه خلافُ! كم عسرة ضاق الفتى لنزولها ... لله في أعطافها ألطف! وقول الآخر: تصبر للعواقب واحتسبها ... فأنت من العواقب قافي اثنتينِ تريحك بالمنى أو بالمنايا ... فإنَ الموت إحدى الراحتين! وقول الأبيوردي: تنكر لي دهري ولم يدر إنني ... أعز وأنَّ الحادثات تهونُ فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكونُ وقولنا من قصيدة: فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمرِ واصبر لروح الله مرتجيا ... فلتحمدن عواقب الصبرِ إنَّ اصطبار المرء مفتتحٌ ... متغلق البأساء والعسرُ ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدرِ كم من حزين بات مكتئباً ... متعسر الأحشاء ذا زفرِ

ما يرتجى جلباب ليلته ... أن ينزوي طرفاه بالسفرِ فاتته ألطافٌ منفسةٌ ... لفؤاده من حيث لا يدري ولكم بعيد الضيق من سعةٍ ... ولكم بعيد العسر من يسرِ! هل بعد معتكر الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجرِ أو بعد ظمأة هجمةٍ وردت ... إلاّ ارتواء جانب الغدرِ أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهرِ؟ وقول الآخر: أمقتولة الأجفان مالك والهاً ... ألم ترك الأيام نجما هوى قبلي؟ أقلي بكاءً: لستِ أول حرةٍ ... طوت بالأسى كشحا على مضض الثكلِ وفي أم موسى عبرةٌ إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي ولله فينا علم غيبٍ وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدلِ والشعر في هذا المعنى اكثر من أن يحصى. وقال الغري: قالوا: بعدت ولم تقرب فقلت لهم: ... بعدي عن الناس في هذا الزمان حجا لولا التباعد بين الحاجبين به ... بان افتراقهما لم نعرف البلجا ومثله قول الارجاني: أسفت على عمرٍ تصرم ضائعاً ... وجدت بدمعٍ يستهل هتونِ وآنسني بعدي من الناس جانباً ... وإن هم على أحداقهو حملوني ولمّا غدا عنا على جفن ناظري ... لقاء الورى من صاحبٍ وخدينِ ألفت الفضا مستوطناً ظهر ناقةٍ ... تلف سهولاً دائماً بحزونِ وما سرت إلاّ في الهواجر وحدها ... كراهة ظل أن يكون قريني وقول أبي العلاء المعري: فظم بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سرٍ فؤادا: فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا! وقوله أيضاً: جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودِّ امرئ غرضا

وقول أبن القلاقس: اعلق بأطراف الوداد فانه ... من دافع الأمواج مات غريقا وإذا انتهى الإخلاص أوجب 1ده: إنَّ التجمع ينتج التفريقا! وقول أبن الرومي، وهو المثل المشهور في هذا: عدوك من صديقك مستفادٌ: ... فلا تستكثرن من الصحابِ فإنَ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشرابِ! وقول الآخر: جزى الله خيراً كل من ليس بيننا ... ولا بينه ودٌ ولا متعارفُ فما نالني ضيمٌ ولا مسني أذى ... من الناس إلاّ من فتى كنت آلفُ! وقول الآخر: أحذر عدوك مرةً ... وأحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الزمان ... فكان أعرف بالمضرة! وقول أبن سناء الملك: أبى الهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ: ... فيا ليت مني مكن الله ضده! يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدى له من خوفه من أعده وقولي من قصيدة: وبنو دهرك العضال من الداء ... العديم الأساة ذو الأزمانِ وأضر الأدواء من تتولاه ... وتحجوه أقرب الإخوانِ إنما الأقرباء في الناس جساسٌ ... عليك في السر والإعلانِ يخبرون العورات حفظاً وإعداداً ... ليوم البأساء والشنآنِ وقول الأنصاري الأول: ألا رب من تحجو صديقاً ولو ترى ... مقاتله بالغيب ساءك ما يفري: لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... وبالغيب مطرورٌ على ثعرة النحرِ وقولي من قصيدة: فتوخ في الناس الوفي إذا ... عاشرتهم وحذار الله تعالى الغدرِ! واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الإخوان بالسبرِ!

كم من أخٍ مذق الوداد على ... ما فيه من إجنٍ ومن سبرِ إن تلقه فالشهد مقولته ... وإذا تعيب يكون كالصبرِ يسمى بوجهك تستميل وإن ... أدبرت عنه فكية الظهرِ وإذا الزمان دعاك نائبه ... العازي إليه ترجى البرِ فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوبٍ جنى التمرِ وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري وإذا تصادف ذا الصفا فكن ... منه ولو صافحك ذا حذرِ وأسم سوائم سمعه طرقاً ... مطروقةً من مسرح السرِ وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشرِ فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبص فيك بالضرِ وقول الآخر: فاقت بيوسفها الدنيا وفاح لها ... طيب طوى المسك في نشر لها أرجِ فإنَ يشاركه في اسم الملك طائفةٌ ... فإنَ شمس الضحى من جملة السرجِ ويتمثل بالبيت الثاني. ومثله في المعنى قول الآخر: وفي البساتين أفنانٌ منوعةٌ ... وليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ ... وليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ وقول أبي الطيب: فإنَ تفق الأنام وأنت منهم ... فأن المسك بعض دم الغزال وقول الآخر: وقد يسمى سماء كل مرتفعٍ ... وإنّما الفضل حيث الشمس والقمرُ وقول الآخر: الناس كالناس إلاّ تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصرِ والأيك مشتبهاتٌ في منابتها ... وإنّما يقع التفضل في الثمرِ وقول الآخر: وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدانِ

وقول الآخر: قد يبعد الشيء من شيء يناسبه ... إنَّ السماء نظير الماء في الزرقِ وقول الآخر: دع ما تناسب في الأبصار ظاهره ... ولا تقل بقياس غير مطردِ فصدمه المتنافي لا اعتداد بها ... شتان ما بين مهتزٍّ ومرتعدِ وقول الآخر: قد تشبه الحالة الأخرى وبينهما ... إذا تأملت فرقٌ عن سواك خفي فربما صفق المسرور من طربٍ ... وربما صفق المحزون من أسفِ وقول الآخر: لقد عرض الحمام لنا بسجعٍ ... إذا أصغى له ركبٌ تلاحى شجا قلب الخلي فقال غني ... وبرَّحَ بالشجي فقال ناحا وقال الشيخ عمر بن الفارض: لا كان وجدٌ به الأماق جامدةٌ ... ولا غرامٌ به الأشواق لم تهجِ وقال الراعي: ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاجِ طاوعته بعدما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاجِ ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني وأفتح باباً بعد إرتاجِ حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عين طرفها ساجِ يا نعمها ليلةٌ حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح سحاجِ لمّا دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي وأستمررت أدراجي وقال الأخر: ما زلت ابغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودجِ قالت: وعيش أبي وحرمة أخوتي ... لأنبهن الحي إن أم تخرجِ فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت أنَّ يمينها لم تحرجِ

فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرجِ قوله ماء الحشرج أي الماء الجاري على الحجارة. وقال عمر بن أبي ربيعة: قد كنت حملتني عيظا أعالجه ... فإنَ تقدني فقد عنيتني حججا حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا ... أكلت لحمك من غيظٍ وما نضجا وقبل هذين البيتين: يا ربة البغلة الشهباء هل لكم ... أن ترحمي عمراً لا ترهقي حرجا؟ قلت: بدائك مت أو عش تعالجه ... فما نرى لك فيما عندنا فرجل! وبعدهما: فقلت: لا والذي حج الحجيج له ... ما مج قلبك من قلبي وما مهجا ولا رأى القلب من شيء يسر به ... مذبان منزلكم منا وما ثلجا كالشمس صورتها غراء واضحةٌ ... تعشي إذا برزت من حسنها السرجا ضنت بنائلها عنه فقد تركت ... من غير جرم أبا الخطاب مختلجا وقال بعض المجان: إذا مررت بوادٍ لا أنس به ... فاضرب عميرة لا عارٌ ولا حرجُ ضرب العميرة هي الخضخضة وهي الاستمناء باليد وشبهه. وكذب هذا القائل: فإنَ في الخضخضة لحرجا وعاراً وإنما محرمة عند جماهير الناس وفيها قول بعض الأعراب: إن تبخلي بالركب المحلوق ... فإنَ عندي راحتي وريقي والركب بفتحتين وتقدم تفسيره. وقول الآخر: كفي ورجلي لا عدمت كليهما ... أصبحت أغنى من يروح ويغتدي أمشي على هذه وأنكح هذه ... فمطيتي رجلي وجاريتي يدي! وقول الآخر: خطبت إلى ساعدي راحتي ... وما كنت من شر خاطفيها وما إن تكلفت من مهرها ... سوى ريقةٍ أجتزي بها

فإن شئت أوتى بها ثيباً ... وبكراً إذا شئت أوتى بها وقال بعضهم: مررت على برذعة الموسوس، وقد أدخل رأسه في جيبه يتخضض. فضربته برجلي، فانكشف فإذا هم منعض، فقلت: ما هذا؟ فقال: أما ترى في ذلك الروشن؟ وأشار إلى باب في علية فإذا جارية جميلة تتطلع. فقال: إني دعوتها فلما لم تجبني أجبتها. فقلت: قبحك الله! ووليت عنه. فلم ألبث أن لحق فقال: قضيت الحاجة على رغم أنفك وأنشد: أأنكرت ما عاينت من كف دالك ... وهل ينكر التداليك في قول مالك؟ لقد أمن الدلاك من أن تنالهم ... حدود الزنى في واضحات المسالك وأني قد سكنت غربة غلمتي ... بحسن العيون والثدي الفوالك وكذب هذا الأحمق على مالك رضي الله عنه: فإنَ حرمة الاستمناء هي مذهبه وكذا مذهب الشافعي وغيره. وإنّما رويت رخصة عن عمر بن دينار إن صحت الحكاية عنه. وروى عن أبن عباس إنّه فال في الخضخضة: هي خير من الزنا. قلت: وليس في هذا الكلام ما يقضي حليتها، إذ ليست المحرمات كلها في درجة واحدة بل مقطوع بتفاوت ما بينها: فإنَ الزنى نفسه وهو محرم إجماعا على درجات بعضها أشد من بعض. ألا ترى إنَّ الزنا بحرة مطاوعة لا زوج لها ولا أهل يسبون بفعلها ة لا ترجو ولدا أخف من الزنى بغيرها وإن كان الكل حراما لأن الحق إذا انفرد وتمحض لله تعالى أخف مما إذا انضم إليه حق المزني بها المكره أو حق الزوج أو حق الأهل أو حق السيد في الأضرار بهم، ونحو ذلك من الحقوق. وهو أيضاً في الآيسة أخف منه في الولود، لمّا في الثانية من مزيد المفسدة باختلاط الأنساب وهو الحكمة الأصلية في التحريم. والمعلوم أنَّ الخضخضة ليست بمحل لهذه المفسدة لا تحقيقا ولا مظنة؛ ولكن فيها تضييع البذر وهو ماء النسل في وجهه فلتكن هي أخف. ولهذا المبحث محل يليق به وليس من غرضنا الآن التعرض له. وقلت أنا: إذا لحظتك عين المرء يوماً ... بدا منه صفاءٌ أو ضجاجُ وأنبت فيه عن حبٍّ ورغضٍ ... كما ينبي عن الماء الزجاجُ الصفاء بالكسر: المصفاة؛ والضجاج بالكسر: المضاجة، وهي المشاوره.

وقلت أيضاً: لكل أخي داء دواءٌ يعده ... وأعيت دواء الضغن كل معالجِ إذا آنس النعمى تضاعفت داؤه ... وآض بغيظ للجوانح زامجِ وإن آنس البأساء اصبح شامتاً ... بقلبٍ من الشحناء والهزء رامجِ تقول: زمجت القربة إذا ملأتها وزمج الغيظ للجوانح مجاز. والمراج: الممتلئ الريان وهو هنا مجاز أيضاً. وقلت أيضاً: أرى الورى وصروف الدهر تخضمها ... مثل السفين تداعت فوقها اللججُ وهم رمايا مناياها فلا وزرٌ ... عنها ولا ملجأٌ منها ولا وحجُ كأنما هي حوض والورى وردٌ ... عطشى أناخوا عليه دائما وحجوا أو مثل هيمٍ لخمسٍ تغتشيه فلم ... يعن الياد لها عنه ولا العنجُ الخضم: الأكل ويستعمل في ملء الفم بالمأكول وهو مجاز هنا عن الاستئصال والوحج: الملجأ وهو عطف تفسير. والورد بضمتين جمع ورود؛ وحجوا: أقاموا. يقال: حجي به أي أولع به ولزمه. وبينه وبين الوحج الأول جناس تام بين الاسم والفعل. والهيم: الإبل يصيبها الهيام. والخمس بالكسر: زمان ورودها. والذياد: الطرد؛ والهنج بالتحريك: اسم من العنج بالسكون وهو أن يشد الراكب خطام البعير فيرده على رجليه.

باب الحاء المهملة

باب الحاء المهملة أحب الحديث أصدقه. الحب معروف. تقول: أحببت الرجل فهو محبوب على غير قياس. وقد يقال محب وهو قليل. قال عنترة: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرمِ وقد يقال حببته ثلاثيا أحبه بالكسر فهو محبوب. أنشد الجوهري في الصحاح: أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أنَّ الرفق بالمرء أرفقُ ووالله لولا تمره ما حببته ... ولو كان أدنى من عبيدٍ ومشرقِ وليس عندهم مضعف متعد يتمحض فيه الكسر غير هذا. والحديث معروف أيضاً. والصدق ضد الكذب. وهذا كلام يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءته هوازن تطلب منه أن يرد إليها ما أخذ منها من السبايا والأموال يوم حنين. فقال: أحب الحديث إلى الله أصدقه، أو: خير الحديث، إنَّ معي من يرون فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال. فاختاروا السبي وقالوا: لا نعدل بالأحساب شيئا. والقصة مشهورة في المغازي. وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوي الألباب مقبولُ حبك الشيء يعمي ويصم. الحب مر؛ والعمى معروف وأعميته: فعلت به ذلك. وكذا الصمم وأصممته.

حبل فلان يفتل.

وهذا أيضاً يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعمى هنا يحتمل أن يكون عمى البصر وهو ظاهر أو عمى البصيرة وهو أدق وأليق. والمعنى أنَّ المرء إذا أحب شيئا غلبت محبته على قلبه فلا يرى رشده ولا ينظر عاقبته ولا يسمع عاذله. والصمم هنا مجاز أيضاً عن عدم الإصغاء إلى المسموع وعدم الاهتبال به والانتفاع به. فكأنه أصم لا يسمع كما قال تعالى:) صمٌ بكمٌ عميٌ (. وقال الشاغر: صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بشرٍّ عنهم أذنوا وقال الأخر: فأصممت عمراً وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار وفي معنى المثل قال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى: محضتني النصح لكن لست أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ وهذا المثل يضرب في الحذر من اتباع الهوى وما يؤمر به من اجتنابه. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم! وقال الشاعر: إذا طالبتك النفس يوماً بشهوةٍ ... وكان عليها للخلاف طريقُ فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوٌ والخلاف صديقُ وقال الأخر: وفي الحلم والإسلام للمرء وازعٌ ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيمِ بصائر رشدٍ للفتى مستبينةٌ ... وأخلاق صدق علمها في التعلمِ وفي هذا المعنى ما لا يحصى من الشعر والنثر يأتي في الحكم إن شاء الله تعالى حبل فلان يفتل. الحبل بالفتح فالسكون: الرباط وهو معروف. وجمعه حبال وأحبال. قال الشاعر:

حتفها تحمل ضأن بأظلافها.

أمن أجل حبلٍ لا أباك ضربته ... بمنسأةٍ؟ قد جر حبلك أحبالا وفتل الحبل معروف. قال امرؤ القيس: فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل! أي بكل حبل أحكم فتله. ويقال: حبله يفتل إذا كان مقبلا على أمر. حتفها تحمل ضأنٌ بأظلافها. الحتف: الموت. والأظلاف جمع ظلف بالكسر وتقدم تفسيره. وهذا المثل يضرب في الهلاك يجتلبه القدر غمدان الإنسان أو يجره على نفسه. وأصله أنَّ النعمان بن المنذر عمد إلى كبش فعلق في عنقه مدية وأرسله يرعى ونذر أن يقتل من تعرض له. فكان الكبش يخرج ولا يمس. ثم مر على أرقم بن علباء اليشكري وقيل على علباء بن أرقم اليشكري فقال: كبش يحمل حتفه بأظلافه! ووثب عليه فذبحه وأشتواه. فقال في ذلك شعرا طويلا منه: أخوف بالنعمان حتى كأنني ... ذبحت له خالاً كريما أو أبن عمُ وقال أبو عبيد إنَّ هذا المثل تمثل به حريث بن حسان الشيباني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة التميمية وكان قدم بها الذي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قصة طويلة حتى قالت قيلة: فقدمنا تعني مع حريث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصليت معه الغداة حتى إذا طلعت الشمس دنوت. فقال رجل: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله: وعليك السلام! وهو قاعد القرفصاء. فقالت: فتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام فقال: يا رسول الله اكتب لي بالدهناء. فقال: يا غلام اكتب له. قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري. فقلت: يا رسول الله الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. قال: صدقت المسكينة! المسلم أخو المسلم يسمعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان. وقال رسول الله صلى

حتام تكرع ولا تنفع؟

الله عليه وسلم: أيلام أبن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجر؟ انتهى. وهذا المثل هم مثل قولهم: بحث عن حتفه بظلفه وتقدم. حتَّام تكرع ولا تنفع؟ حتى هنا حرف جر دخلت على ما الأستفهامية. ويقال كرع في الماء وفي الإناء بفتح الراء وكسرها كروعا وكرعا إذا تناول بفيه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. والكرع بفتحتين: الماء يكرع فيه يجتمع من ماء السماء في غدير أو نحوه. قال عدي أبن الرقاع يصف راعي الإبل: يسنها ابلٌ ما إن يجزئها ... جزءاً شديداً وما أن ترتوي كرعا ويقال: نقع الرجل بالشراب وبالخبز بفتح القاف إذا استشفى به من غليله. قال كثير: فما نقعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجت من أقوالهم بفتيلِ والمثل ظاهر معنى ومضرباً. المحاجزة قبل المنازلة. ويقال أيضاً: أن أردت المحاجزة فقبل النازلة. يقال حجزه عن الأمر إذا كفه عنه وصرفه فأنحجز هو. وحجز بين الناس فصل بينهم. وتحاجز القوم كف بعضهم عن بعضا. والحجز بفتحتين الذين يمنعون بعض الناس عن بعض ويفصلون بينهم جمع حاجز. ويقال: نجز حاجته وأنجزها: قضاها. والمناجزة المقابلة. وتناجز القوم تلاحموا وتقاتلوا. والمعنى إنَّ المحاجزة والمسالمة إنّما تكون قبل المناجزة والوقوع. فيضرب عند الحزم والفرار ممن لا يطاق أو عند طلب الصلح بعد القتال.

حدأ حدأ وراءك بندقة.

حدأ حدأ وراءك بندقةٌ. الحداأة بكسر الحاء وفتح الدال المهملة بعدها همزة: الطائر المعروف جمعه حدأٌ مثل عنبة وعنب. قال الراجز: كما تدانى الحدأ الأوي. وقال الأخر: وتباىالألى يستلئمون على الألى ... تراهن يوم الروع كالحدأ القبلِ وضمير تبلي للمنون في البيت قبله. يقول: إنَّ المنية تبلي الين يستلئمون أي يلبسون اللأمات للقتال على الألى أي على النساء اللأئي تراهن يوم الروع أي يوم الفزع كالحدأ القبل جمع قبلاء وهي الناظرة بمقدمة العين. يصفهن بالإشفاق على أزواجهن فهن ينظرن إليهم هل سلموا. والبندقة بالضم هي التي يرمى بها. وحدأ في المثل أصله: يا حدأة وراءك بندقة! أي أحذري بندقة الرامي تصبك! وقيل إنَّ حدأ هي حدأ بن نمرة وبندقة هي بندقة بن مظلة وهما قبيلتان من سعد العشيرة. وكانت حدأ تنزل الكوفة فأغاروا على بندقة وكانوا ينزلون باليمن فنالوا منهم ثم كرت بندقة على حدأة فانحوا عليهم فصار يضرب لمن يفزع بعدوه أو يبلى بنظيره. ومن الناس من يرويه: حدا حدا بفتح الحاء غير مهموز على مثل عصا ويقول هو اسم القبيلة. ويروى: حدث حديثين المرأة فإنَ أبت فعشرة. والحديثان والأربعة والعشرة أعداد معروفة. والمرأة فيها أربع لغات. يقال امرأة ومرأة ومرة ومراة. ويروى: حدث المرأة حديثين فإن لم تفهم فأربع. يقال: يربع إذا وقف وحبس. والمعنى: حدث حتى إذا كررت الحديث فلم يفهم عنك فأمسك ولا تتعب نفسك!

حديث خرافة يا أم عمرو!

يضرب في سوء السمع والإجابة. وهذا المعنى ظاهر في الرواية الأخيرة. وأما الروايتان الأوليتان فأولهما رواية أبي عبيد. قال البكري: وتصح على حذف يريد حدث حديثين المرأة فإن لم تفهم فأربعة لا تفهمها. وعلى الرواية الأخرى: فعشرة لا تفهمها. انتهى. قلت: وهذا المثل من الأمثال الموضوعة على ألسنة العجماوات. زعموا أنَّ الأرنب التقطت ثمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب يختصمان. فقالت الأرنب: يا أبا الحسل! فقال: سميعا دعوت. قالت: أتيناك انختصم إليك فأخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت: إني وجدت ثمرة. قال: حلوة فكليها. فقالت: فاختلسها مني الثعلب. قال: لنفسه سعى. قالت: فلطمته. قال: حقك أخذت. قالت فلطمني. قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا! قال: حدث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة! وهذه المقالة المنسوبة إلى الضب كلها أمثال سائرة. حديث خرافة يا أم عمرو! الحديث معروف. وخرافة على مثل أسامة، رجل من عذرة استهوته الجن ثم نجا. فكان يخبر بأمور غريبة فكذبوه وقالوا: حديث خرافة ثم ضربوا به المثل وجعلوه لكل حديث مستملح أو لكل حديث لا حقيقة له. وهو مثل سائر قديما وحديثا. وقيل إنَّ خرافة كان له تابع من الجن فكان يخبره بأشياء عجيبة فيتحدث بها فتكون كما ذكر فنسبوه إليه الأحاديث الصادقة المعجبة الصادقة. قال الجوهري: ويروى عنه صلى الله عليه وسلم إنّه قال: وخرافة حق. انتهى. وذكر بعض الأدباء إنّه روي بسند متصل إلى عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني بحديث خرافة! فقال: رحم الله خرافة! كان رجلا صالحا فأخبرني أنه خرج ذات ليلة فلقي ثلاثة نفر من الجن فأسروه فقال أحدهم: نعفو عنه. وقال آخر: نقتله. وقال آخر: نستعبده. فبينما هم يتشاورون في أمره ورد عليهم رجل فقال: السلام عليكم! فقالوا وعليكم السلام! قال: وما أنتم عليه؟ قالوا: نفر من الجن أسرنا هذا فنحن نتآمر في

أمره. قال: إن حدثتكم حديثا عجبا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا: نعم! قال: إني كنت ذا نعمة فزالت وركبني دين فخرجت هاربا. فأصابني عطش شديد فصرت إلى بئر فسبرت لأشرب فصاح بي صائح منها ولم أشرب. فغلبني العطش فعدت فصاح بي ثم عدت الثالثة فصاح بي فشربت ولم ألتفته. فقال: اللهم إن كان رجلا فحوله امرأة وإن كان امرأة فحولها رجلا. فإذا أنا امرأة فأتيت مدينة فتزوجني رجل فولدت منه ولدين. ثم تقت إلى بلدي فمررت بالبئر التي شربت منها فصاح بي كما صاح أولا. فشربت ولم ألتفت. فدعا كالأول فعدت رجلا كما كنت. فأتيت بلدي فتزوجت امرأة فولدت لي منها ولدان: فلي اثنان من ظهري واثنان من بطني. فقالوا: إنَّ هذا لعجب! أنت شريكنا فيه. فبينما هم يتشاورون ورد عليهم ثور يطير. فلما جاوزهم إذا برجل بيده خشبة يحضر في أثره. فوقف عليهم فسألهم فردوا عليه مثل مردهم على صاحبهم فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا: نعم! قال: كان لي عم وكان لعمي عجل يربيه فأفلت فقال: أيكم رده فابنتي له. فأخذت خشبتي هذه وائتزرت ثم أحضرت في أثره وأنا غلام. وقد شبت فلا أنا ألحقه ولا هو ينكل. فقالوا: إنَّ هذا لعجب! أنت شريكنا فيه. فبينما هم كذلك ورد عليهم رجل على فرس له أنثى وغلام له على فرس. فسلم كما سلم صاحباه فردوا عليه كردهم على صاحبيه. فسألهم فأخبروه فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا نعم! قال: كانت لي أم خبيثة. ثم قال للفرس الأنثى التي تحته: أنَّ كذلك؟ فقالت: نعم! وكنا نتهمها بهذا العبد وأشار إلى الفرس تحت غلامه: أنَّ هكذا؟ فقال برأسه نعم! فوجهت غلامي هذا الراكب على هذا الفرس في بعض حاجاتي فحبسه عندها فأغفى فرأى في منامه

الحديث شجون.

كأنها صاحت صائحة فإذا هو بجرذ قد خرج فقالت: أسجد! فسجد. ثم قالت: اكرب! فكرب. ثم قالت: ازرع! فزرع. ثم قالت: ادرس! فدرس. ثم دعت برحى فطحنت قدح سويق فأتت به الغلام وقالت له: ائت به مولاك! فأتاني به. فاحتلت عليها حتى سقيتها القدح فإذا هي فرس أنثى وإذا هو فرس ذكر. أكذلك؟ فقالت الفرس الأنثى برأسها: نعم! وقال الفرس برأسه: نعم! فقالوا: إنَّ هذا أعجب شيء سمعناه أنت شريكنا! فاجتمع رأيهم فأعتقوا خرافة. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بهذا الحديث. فما جاء من الأحاديث المحالية نسب إلى خرافة صاحب الحديث. انتهى. وقال في الصحاح: الراء في خرافة خفيفة ولا يدخله الألف واللام لأنه معرفة علم؛ إلاّ أن تريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل. انتهى. وقد استعمل اليوم في عرفنا اسما للحديث المستملح. يقول الرجل لصاحبه: اذكر لي خرافة أي حديثا من ذلك النوع ويحلى بالألف واللام لذلك. الحديث شجون. ويقال أيضاً ذو شجون. والشجون بضم الشين جمع شجن بفتح فسكون وهو الطريق في الوادي. والشواجن والشجون أيضاً: الأودية الكثيرة الشجر. قال: لمّا رأيت عدي القوم يسلبهم ... طلح الشواجن والطرفاء والسلم أو جمع شجنة بكسر الشين وهي الصدع في الجبل. والشجن بفتحتين غصن الشجرة المشتبك والشعبة في كل شيء والحاجة حيثما كانت. يقال لي بموضع كذا شجن. قال الراجز: إني سأبدي لك فيما ابدي ... لي شجنان: شجن بنجد وشجن لي في بلاد السند

حدث عن البحر ولا حرج!

والجمع أيضاً شجون. والشجنة أيضاً مثلثة الشين والعروق المشتبكة. يقال: بيني وبين فلان شجنة رحم أي قرابة مشتبكة. وفي الحديث: الرحم شجنة من الله أي مشتبكة اشتباك العروق. ومعنى المثل إنَّ الحديث ذو فنون وأغراض وطرق يدخل بعضها في بعض ويتشعب بعضها من بعض كالطرق المشتبكة المتقاطعة أو الأغصان والعروق. يضرب في الحديث سيذكر به حديث غيره. ومن ثم يضربه القصاص والأئمة عند استطراد المسائل والخروج من غرض إلى آخر. وقال الفرزدق: وإن كنت قد سألت دوني فلا تقم ... بأرض بها بنت الهوى تكون فلا تأمنن الحرب إذا استعارها ... كضبة إذ قال: الحديث شجون والاستعارة بالسين والعين المهملتين من استعار النار. وروي اشتغار بالشين والغين المعجمتين أي هيجانها وثورانها وانتشارها ومن قولك: شغر برجله. يقول: إنَّ الحرب سببها الكلام كما قال الآخر: فإنَّ النار بالزندين تورى ... وإنَّ الحرب أولها كلام ويقال الحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى. وقلت مضمنا لهذا المثل في غرض: تمنى بأوباش فتوح مدائن ... وذاك لعمري ضلة وجنون فأضحى كعمر إذ ترجى مراده ... بجيش مراد والحديث شجون وتقدم خبر عمرو بن أمامة مع مراد في الباب الأول. حدث عن البحر ولا حرج! البحر معروف والحرج بفتحتين الضيق والاثم. وهذا يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّه قال: حدثوا عن البحر ولا حرج أي حديث لا حرج عليكم في التحديث عنه فتكون الجملة حالية. وقد جعل هذا مثلا في الشيء الكثير الذي لا ينحصر أو لا يكاد بمعنى إنَّ المحدث عنه لا يضيق عليه المجال ولا يعزوه مقال.

حدث عن معن ولا حرج!

وورد من هذا النحو أيضاً حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وفي ذلك تأويلات ذكرها المحدثون ولا حاجة إلى التعرض لها. والمقصود من التمثيل واضح. وقال أبن اللبانة: وألغوا حديث البحر عند حديثه ... فكم بين ذي مد وكم بين ذي جزر حدث عن معن ولا حرج! وهو معن بن زائدة الشيباني الجواد المعورف. الحديد بالحديد يفل. الحديد معروف وكذا الفل. وهذا المثل يضرب في الرجل القوي يلقى قرينه في البسالة والنجدة. وكان الوليد بن طريف الشيباني لمّا خرج على الرشيد اشتدت شوكته فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فقتله. فقال بكر بن النطاح: وائل بعضها يقتل بعضا ... لا يفل الحديد إلاّ الحديد لو تلقى الوليد غير يزيد ... لغدا ظاهرا عليه الوليد ولمّا قتل الوليد رثته أخته الفارعة بنت طريف بشعرها المعروف منه: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على أبن دريف؟ فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا المال إلاّ من قنى وسيوف وهي قصيد معروفة. الحذر قبل إرسال السهم. الحذر بفتحتين والحذر بكسر فسكون الاحتراز. يقال حذر بالكسر يحذر فهو حذر والإرسال: الإطلاق والمراد هنا الرمي والسهم معروف. وهذا من الأمثال العجماوية أيضاً. زعموا إنَّ غرابا رأى رجلا فوق سهما ليضرب به. فأراد ابنه أن يطير فقال له: يا بني اثبت حتى تعلم ما يريد الرجل. فقال له ابنه: يا أبت الحذر قبل إرسال السهم

أحذر من ضب حرشته.

فذهبت مثلا. وهو يحسن أن يضرب عند الأمر بالاحتراز والاستعداد للمحذور قبل وقوعه وقبل فوات محل الحذر. وذلك ظاهر. أحذر من ضب حرشته. الحذر مر والضب الحيوان المعروف والحرش صيادته. يقال: حرش الضب يحرشه حرشا فهو حارش وذلك أن يحرك يده في فم جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضرب بها فيقبض على ذنبه ويمتلخه من الجحر قال الشاعر: وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا ومن هذا المثل الآتي: هذا اجل من الحرش. أحذر من غراب. الحذر تقدم والغراب معروف وتقدم أيضاً ويضرب به المثل في شدة الحذر وذلك معروف مشهور. وقد قال بعض الحكماء: أخذت من كل شيء أحسنه حتى انتهى بي الأمر إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. فقيل له: ما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله وذبه عن صاحبه. فقيل له: ما أخذت من الهرة؟ قال: حسن تأنيها وتملقاها عن المسألة. فقيل: ما أخذت من الخنزير؟ قال: بكوره من حوائجه. فقيل: ما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره. حذو النعل بالنعل. تقول: حذوت النعل أحذوها حذوا إذا قطعتها وقدرتها وحذوت النعل بالنعل إذا قدرتها وقطعتها عليها. والنعل معروفة. والمثل يضرب في التساوي والتشابه. تقول في الشيئين يستويان: هما حذو النعل وذلك لأن كلا من النعلين تقدر بالأخرى وتقاس بقالبها. ومن ذلك قول الهذلي:

الحرب خدعة.

وتأملت السبت الذي أحذوله ... فأنظر بمثل حذائه أخذولي ويقال أيضاً: احتذيت حذو فلان أي فعلت فعله. الحرب خدعة. الحرب معروف مؤنث وقد يذكر. ويقال رجل حرب ومحرب أي شديد الحرب شجاع ورجل حرب أي عدو للواحد والجميع وللأنثى أيضاً. قال نصيب: وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... اسلم لنا في حبنا أنت أم حرب؟ والخدع الختل. يقال: خدعه يخدعه أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم. ولفظ خدعة هاهنا روي مثلثا والذي في الصحاح الفتح والضم مع سكون الدال. قال والفتح افصح. وروي أيضاً خدعة على مثال همزة. والمعنى إنّها تنقضي بخدعة. والذي يقتضيه الاتقاق لغة في هذا الضبط إنَّ الخدعة بضم الخاء وصف. فإن كان بفتح الدال كهمزة فهو وصف للرجل يكون كثير الخدع للناس. وإن كان بسكونها فهو وصف للذي يخدع. والخدعة بفتح فسكون مصدر وهو المرة من الخدع وبالكسر للهيئة من ذلك. وهذا الكلام يروى حديثا. الحرب سجال. الحرب مر والسجال يكون جمع سجل بفتح السين وسكون المعجمة وهو الدلو فيها ماء. ولا يقال لها سجل إلاّ وفيها ماء والمساجلة: المفاخرة والمباراة في السقي بالسجال. قال الفضل بن عباس بن عتيبة بن أبي لهب وقد وقف على زمزم: من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب ثم استعملت المساجلة في المعارضة والمباراة في كل شيء من سبق أو رمي أو غير ذلك. وتساجلا: تباريا. ومعنى المثل إنَّ الحوب دول بين الناس: سجل منها على هؤلاء وسجل على هؤلاء كما قال أبو سفيان لهرقل لمّا قال له: كيف الحرب بينكم وبينه؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه جال: يدال علينا مرة وندال عليهم أخرى. وقال زهير:

حرب عوان.

تهامون نجديون كيدا ونجعة لك ... ليس أناس من وقائعهم سجل وقد يضرب في غير الحروب من كل ما يشبهها من نزاع وجدال مثلا. ولفظ السجال في المثل جمع كما فسرنا أوّلاً. ولا يصح أن يكون مصدرا أي الحرب هو مساجلة. وحاصل الأمر واحد. حرب عوان. اعلم إنَّ العرب ضربوا للحرب المثل بأوصاف شتى: فمن السائر من ذلك العوان واللأقح والرباعية. يقولون: حرب عوان وحرب لاقح وحرب رباعية. أما العوان فاصلها في النساء وهي النصف في سنها وكذا في سائر الحيوانات. قال تعالى: لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك. ويقال العوان التي لها زوج. قال النابغة: ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر وهذا أيضاً نحتمل. والجمع عون بالضم. واشتقاق العوان من العون وهو القوة لأنها عرضة للأعانة إن استعينت. وأما العوان من الحروب فهي التي كانت قوتل فيها مأخوذ من عوان النساء كأنهم جعلوها في المرة الأولى بكرا ثم تصير ثيبا. قال أبو جهل يرتجز يوم بدر: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سن لمثل هذا ولدتني أمي وقال زهير: إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل وقال الحماسي موسى بن جابر: وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي ومعلوم انهم ما وصفوها بالعوان إلاّ للمبالغة وإرادة إنّها شديدة لا مجرد إنّها قوتل فيها مرة. وكان ذلك لأجل إنَّ المبتكرة يخف أمرها لعدم استحكام الضغائن فيها بعد بخلاف التي تقدمها قتلا غرس في القلوب الضغائن وأحفظها وأكثر الأوتار. فذلك مظنة

الاشتداد مع عظم العود إلى الحروب على النفس ونفور النفوس منه وكراهيتها له كما قال الآخر: الحرب أوّل ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوز غير ذات حليل شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل وأما تشبيه الأولى بالبكر والثانية بالعوان فذلك يكون لثلاثة اوجه: الوجه الأول إنَّ البكر من النساء هي التي لم تتقدم ممارستها ومخالطتها بخلاف العوان. وهذا بين وإليه أشار حبيب في التعبير عنها بالثيب حيث قال: ولا اجتلبت بكر من الحرب ناهد ... ولا ثيب إلاّ منهم لها خطب الثاني إنَّ البكر لصغر سنها وجسمها في الحملة تشبه المرة الأولى لخفتها والعوان لعظم جسمها في الجملة وسنها تشبه الثانية لقوتها واشتدادها. وهذا من التوهم الخيالي. الثالث إنَّ البكر اسهل لغرتها وقناعتها بما تجد ولا كذلك العوان: فإنّها لاحتكاكها وتجربتها وطموح عينها اصعب محاورة واشد معاشرة وأدهى نكرا واعظم مكرا وهذا واضح. وقد يوصف بالعوان الأرض التي أصيبت بالمطر مرة بعد أخرى تشبيها كالذي مر. قال الحميد بن ثور الهلالي: ولقد نظرت إلى أغر مشهر ... بكر توسن بالخميلة عونا متسنم سنمتها متفجس ... بالدهر يملأ أنفسا وعيونا لقح العجاف له لخامس خمسة ... وشربن بعد تحلئ فروينا أراد بالأعر سحابا أبيض وبكونه بكرا أنه لم يمطر قبل ذلك وأراد بالخميلة الرمل ذات الشجر والعون جمع عوان وهي الأرض التي أصابها المطر مرة. ومعنى توسنها طرقها هذا السحاب ليلا عند الوسن أي النوم تقول: توسنت الرجل إذ أتيته وهو وسنان. والسنمات العظام الأسنمة من الإبل وأطلقها هنا على التلال والأكم. وقوله متنسم يريد يتسنمها أي يعلوها كالفحل الذي يتسنم الاينق. وقوله:

متفجس أي متبكر بالدهر، أي رعده، تشبيها بهدر البعير؛ والعجاف أراد بها الأرضين المجدبة مجازاً؛ ومعنى لقحت حملت؛ أي أنبت عشبها. وقوله بعد تجلئ أي شربت بعد امتناع من الماء زمانا، من قولك: حلأته، أي دفعته وطردته. وأما اللاقح فأصلها في الحيوان أيضاً. يقال: لقحت الناقة بالكسر إذا حملت وألقحها الفحل، فهي لاقح ولقوح ولقحة بالكسرو يفتح. وحمع اللاقح لواقح ويجمع اللقوح لقح، وجمع اللقحة لقح، كقربة وقرب ولقح. وثم ضربوها مثلاً للحرب إذا عظمت واشتدت تشبيها لها بالناقة إذا جملت فعظم بطنها. قالت الفارغة بنت طريف: ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكزنها بأنوف ومنه قول زهير السابق: إذا لقحت حرب عوان مضرة. ومن أبلغ ما ورد في هذا المعنى قوله أيضاً في ميميته، حيث وصف الحرب فقال: وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم فتعكرتم عرك الرحا بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم فتنتج لكم غلمان أشام كلهم ... كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم فتغلغل لكم مالا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم قوله تبعثوها ذميمة أي مذمومة، وكان الأفصح أن يقول ذميما، بغير هاء. ويروى بالدال المهملة، أي حقيرة، إشارة إلى معنى ما تقدم في قول الآخر: الحرب أول ما تكون فتية. وقوله عرك الرحا بثفالها، أي وهي على ثفالها. والثفال بالثاء المثلثة مكسورة ما يجعل تحت الرحا حال الطحن، يريد: تعرككم عرك الرحا إذا كانت طاحنة. وقوله تلقح كشافا: الكشاف إنَّ يحمل الفحل على الناقة سنتين ولاء أو كل سنة، أو أن تلقح حين تنتج، أو أن يضربها وهي حامل. وهي ناقة كشوفة، وقد كشفت تكشف، كشفا. وأراد أن هذه الحرب كلما خمدت عاجت. وقوله فتتئم، أي تأتي من حملها بتوءمين، وهذا تهويل وتعظيم لامر الحرب، وإيهام أنَّ شرها متكرر وهولها متضاعف. وشبهها بالناقة لما تقدم، ولأنها أيضاً يطول أمرها فتكون بمنزلة الناقة التي تضرب، ثم تحمل، ثم تنتج، ثم تفطم. وقيل لأنها يتحلب منها من الدماء مثل ما يتحلب من الناقة من اللبن. وقوله فتنتج لكم غلمان أشأم، فوضع أشأم

الحر إذا خودع تخادع، وإذا عظم تواضع.

موضع المصدر، أو غلمان شؤم أشأم على المبالغة، ونحو شغل شاغل، وليل أليل؛ أو غلمان امرئ أشأم. وقوله كلهم كأحمر عاد يعني عاقر الناقة، وهو يضرب به المثل في الشؤم، وأراد أحمر ثمود، فأضافه إلى عاد غلطا، كما قال الآخر: مثل النصارى قتلوا المسيحا وقيل ليس بغلط، لأن ثمود يقال لها عاد الآخرة، وهو دهم عاد الأولى. قال: تعالى:) وإنّه أهلك عاداً الأولى (. وأما الرباعية بياء مخففة فهي أيضاً في الإبل، وهي في السن التي بين الناب والثنية. ويقال للذي ألقى رباعية ربع، وجمعه ربع، كقذال وقذل. ويقال للغنم في السنة الرابعة أربعت، وللبقر وذات الحافر في الخامسة، ولذات الخف في السابعة. وتقدم ذكر أسنان الإبل إنَّ الرباعي منها والرباعية بين الثني والسدس. ويقال: جمل وفرس رباع ورباع، ونظيره ثمانٍ وثمانٌ، ونشاحٍ وناشحٌ، وجوارٍ وجوارٌ؛ والأنثى رباعية، وتوصف الحرب بالرباعية لشدتها وقوتها. قال الشاعر: إنها حرب رباعية ... مثلها آتي الفتى عبره وقيل لأمرأة من العرب الحر إذا خودع تخادع، وإذا عظم تواضع. هذا مثل مصنوع، فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر: إذا مدح الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ مدح اللئيم فلا يزيد حرة تحت قرة. يقال: حر الرجل يحر، كظل يظل، حراراً وحرة، فهو حران وهي حرى، إذا عطش. الحرة في المثل مكسورة للازدواج. والقر بضم القاف البرد، أو برد الشتاء خاصة؛ والقرة بالكسر ما أصابك منه. وهذا المثل يضرب للأمر يظهر وبعده أمر خفي. وأصل الحرة تحت القرة إنّها العطش مع البرد وهو إذ ذاك ينحاز إلى الجوف فيكون سعيرا ومع ذلك لا يظهر من حال صاحبه لمّا هو فيه من البرد إنّه عطشان.

احر من دمع المقلات.

ويقال: اشد العطش حرة تحتب قرة ويقال أجد حرة تحت قرة ورماه الله بالحيرة تحت القرة. وفي الأمثال العامة قولهم: الشتاء على قرني والعطش قتلني. وهذا يضرب لأمر آخر. احر من دمع المقلات. الحرارة ضد البرد كالحر والحرورة. يقال: حر اليوم يحر كمل يمل وحر يحر كفر يفر حرارة فهو حار والدمع معروف والمقلات من النساء التي لا يعيش لها ولد ومن النوق التي تضع ولدا تم لا تحمل مشتق من القلت بفتحتين وهو الهلاك. يقال قلت يقلت كفرح يفرح قلتا إذا هلك. وفي الخبر: المسافر ومتاعه على قلت إلاّ ما وقى الله تعالى. والمقلتة: المهلكة والقلات على وزن مفعال والجمع مقاليت كمقياس ومقاييس ومصباح ومصابيح قال طرفة: لا تلمني إنّها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر الرقد جمع رقود يعني أنهن مكفيات فهن يرقدن ولا يخدمن ولا يسعين وهن مقاليت لا تعيش أولادهن فيتحملن مؤنتهم وهن نزر أي قلائل الأولاد بالأصلة جمع نزور: فهن بذلك نعمات الأجسام نظائف الأذيال فائقات الكمال. وقال جرير في المفرد: خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور ووصف دمعه المقلات بالحرارة لأنها تبكي حزنا على أولادها وهم يصفون دمعة الحزن بالحرارة ومن ثم يقولون في الدعاء على الرجل اسخن الله عينه ويصفون دمعة الفرح بالبرد ومن ثم يقولون: قرت عين فلان في السرور والفرح وأقر الله عينه!

أحر من القرع

أحر من القرع الحرارة تقدمت والقرع بفتحتين بثر أبيض يخرج من أعناق الفصلان وقوائمها ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل. فإذا لم يجدوا ملحا نتفوا أوبارها ونضحوا جلودها بالماء ومنه المثل. قال في الصحاح: وربما قالوا أحر من القرع بالتسكين يعنون به قرع الميسم وهو المكواة. قال: كأن على كبدي قرعة ... حذارا من البين ما تبرد قال: والعامة تريد به هذا القرع الذي يؤكل. انتهى. قلت: وإنّما توهموا المأكول لأنّه تشتد حرارته إذا طبخ وتطول ولا يبرد بعد زمن حتى قالوا في زعاماتهم وأمثالهم: قال الذئب: لا آمنك يا قرع ولو كنت في الماء. حر انتصر. الحر بالضم خلاف العبد وحر كل شيء خياره والحر الجيد. يقال: ما هذا من فلان بحر أي جيد. قال طرفة بن العبد: لا يكن حبك حبا قاتلا: ... ليس هذا منك ماوي بجر وقال امرؤ القيس: لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوما فيأتيني بقر والنصر الإعانة نصره على عدوه ينصره نصرا: أعانه وأستنصر: طلب النصر وانتصر منه: انتقم. وتقدم هذا المثل وإنّه من الأمثال التي نسبت إلى الضب في تحاكم الثعلب والأرنب إليه. يضرب للرجل يظلم فينتقم. أحرس من الكركي. يقال: حرس الشيء بالفتح يحرسه حراسة حفظه والكركي على مثال الجندي طائر معروف جمعه كراكي يوصف بالحذر والحراسة. ويزعمون إنَّ الكركي تحرس مداولة فيبقى الذي يحرس منها لا ينام. ويهتف بصوت

محترس من مثله وهو حارس.

خفي ينذر إنّه حارس حتى إذ قضى نوبته قام الذي كان نائما. ويقال إنّه لا يطأ الأرض أبداً إلاّ بأحدى رجليه ويعلق الأخرى ولا يضعها على الأرض وإن وضعها وضعها وضعا خفيفا مخافة أن تخسف به. محترس من مثله وهو حارس. الحرس والحراسة تقدم. وتقول: احترست منه وتحرست إذا تحفظت. وهذا المثل يضرب لمن يعيب الخبيث وهذا أخبث منه. واصله شعر عبد الله بن همام يقول لرجل كان على شرط الكوفة للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي يقال له الحمارس وهو: أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... وذمي زمانا ساد فيه الحمارس فساع من السلطان يسعى عليهم ... ومحترس ومن مثله وهو حارس وكم قائل: ما بال مثلك راجلا؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس ويروى: وذمي زمانا ساد فيه الفلاقس وهو جمع فلنقس. والفلنقس من أمة عربية وأبوه مولى. وقيل من أبواه عربيان وجدتاه أمتان. وقيل من أبواه موليان معا. أحرص من نملة. الحرص: الجشع يقال حرص يحرص كضرب يضرب وحرص يحرص كسمع يسمع حرصا. والنملة واحدة النمل وهو معروف. يقال إنّه ليس في الحيوانات من يحتكر الإنسان والعقعق والنمل والفأر. والنمل عظيم الاحتياط في الاحتكار. يقال إنّه إذا احتكر ما يخاف عليه أن ينبت قسمه نصفين وإذا خاف العفن على الحبوب أخرجه إلى ظاهر الأرض فنشره. وأكثر ما يفعل ذلك ليلا بضوء القمر.

حرق عليه الأرم.

حرق عليه الأرم. الحرق: البرد. يقال: حرق الشيء يحرقه كقتله يقتله إذ برده وحك بعضه ببعض وحرق نابه يحرقه: حكه بأسنانه حتى سمع له صريف والأرم بضم الهمزة وفتح الراء المشدد على مثال ركع الأسنان أو أطراف الأصابع. والأرم أيضاً الحصا فيقال: فلان يحرق عليك الأرم أي تغيظ وأشتد غيظه. قال الراجز: نبئت أحماء سليمى إنّما ... باتوا غضابا يحرقون الأرما وقال زهير في معناه: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله وقال الآخر: يلوك من حرد عليك الأرما أي يعلك أسنانه أو أصابعه. وقد قيل: الأرم هنا الشفاه ويحتمل الحصى وكل ذلك صحيح لأنّه يكون من شأن المتغيظ كما كان عد الحصى شأن الهموم في قول امرئ القيس: ظلت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي وسميت الاسنان أرما من الأرم وهو الأكل إذ بها يكون. يقال: أرم ما على المائدة إذا اكله فلم يبق منه شيئاً. وهذا المثل هو مثل المثل الآتي: فلان يكسر عليك الفوق والأرعاظ. حرك خشاشه. التحريك معروف والخشاش بكسر الخاء المعجمة ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب وهو إذا حرك تضرر البعير بذلك فيقال: حركت خشاش فلان أي

حرك لها حوارها تحن.

فعلت به فعلا يؤذيه ويغضبه. ويطلق الخشاش أيضاً على الغضب نفسه وعلى معان أخرى لا تناسب المحل. وأما الخشاش بمعنى الحشرات فمثلث الأول. حرك لها حوارها تحن. الحوار بضم الحاء على وزن أوار ولد الناقة قبل أن يفصل وتقدم الحنين الشوق. يقال: حن إليه يحن بالكسر فهو حان وحنان إذا تاقت إليه نفسه. وهذا المثل قاله عمرو بن العاصي لمعاوية رحمهما الله حين أراد أن يستنصر بأهل الشام. وهو مثل المثل السابق: الإيناس قبل الابساس. وفي كلام أبي الوليد بن زيدون يخاطب أبن جهور: فما أبسست بك إلاّ لتدر وحركت لك الحور إلاّ لتحن. حزت حازة من كوعها. يضرب في اشتغال القوم بأمرهم عن غيره. ولم اقف له على أصل. أحزم من الحرباء. الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة. حزم الرجل بالضم يحزم حرامة فهو حازم وهم حزمة وحزماء والحرباء على مثال علباء والأنثى حرباءة والألف للإلحاق بالقرطاس: دويبة برية لها سنام يشبه سنام البعير وهي تستقبل الشمس أبداً بعينها وتدور معها كيف ما دارت قال كعب بن زهير رضي الله عنه: يوم يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول وقال أبن الرومي: ما ذاك إلاّ إنّها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء قيل: ويتلون بألوان من صفرة وحمرة وخضرة كما قال الشاعر: وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... ويخضر من لفح الهجير غباغبه

أحزم من عقاب.

ويوصف بالحزم والتحفظ، وذلك إنّه لا يزال متمسكا بأصل الشجرة، فلا يرسله حتى يستمسك بآخر. قال الشاعر: إني أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلاّ ممسكا ساقا أي لا يرسل ساقا من شجرة إلاّ في حالة إمساكه ساقاً آخر. والتنضبة شجر يتعلق به الحرباء. فهو مضاف إليه، كما تقول ذئب غضا. ويروى أنَّ رجلا خاصم أبن عمه إلى معاوية، رضي الله عنه، فلما سمع حججه قال له: أنت كما قال الشاعر، وانشد البيت المذكور، وضربه مثلا لمّا هو فيه من اللدد والاحتجاج، بحيث لا يرسل حجة إلاّ متمسك بأخرى. أحزم من عقابٍ. الحزم مر؛ والعقاب تقدم في حرب الباء أيضاً، وهو يوصف بالحزم. وقالوا: من حزمه إنّه يخرج من بيضته على جبل عال، ولا يتحرك من مكانه ذلك حتى ينبت ريشه جميعا ويتكامل ولو تحرك قبل ذلك سقط. أذكر في هذا المعنى ما أخبر صاحب التشوف في ترجمة الشيخ أبي مهدي الدغوغي، رحمهما الله ونفعنا بهما، قال: حدثني داود بن الخالق حدثني وين الخير قال: كنت بمسجد أبي مهدي ادرس القرآن. فكان يقعد عندي ويدلني على طريق الآخرة. فجاءه ليلة بعض إخوانه. فلما صلينا العتمة تأخرا في المسجد إلى إنَّ انصرف الناس. فخرجنا من أحد أبواب المسجد، فشدا على أنفسهما أثوابهما وتلثما. فرأيتهما وثبا من الأرض كهيئة الغرانيق الثقيلة تطير على وجه الأرض. ومازالا يعلوان في الهواء إلى أنَّ غابا عني، فانكسرت انكسارا عظيما ونالتني حسرة القصور عن أحوال الرجال، وتكاسلت عن القرآن، وبقيت مفكرا طول ليلتي. فلما كان وقت صلاة الصبح صلى معنا أبو مهدي مع صاحبه صلاة الصبح. ثم جاء وقعد عندي على عادته، فرآني منكسرا متكاسلا عن القرآن، فقال: مالك لا تقرأ؟ فسكت. فقال: لعلك رأيتني البارحة؟ فهملت عيناي بالدموع، فقلت له: رأيتكما وأريد أن أصحبكما إذا ذهبتما. فقال لي: يا بني إنَّ الفرخ إذا نبت رغبه لم يطر مع الطير حتى يكمل نبات ريشه! قال. فلما كان ذات ليلة قال لي:

أحزم من قرلى.

اذهب إلى فلان في بلد تانوريت وهو بلد بني سمائل وقل له يأتيني لأصلي معه الصبح الآن، وبينهما مسيرة يومين، وقد قرب طلوع الفجر! قال. قلت في نفسي: كيف يمكن هذا؟ ثم تذكرت أحواله، فمشيت وتبعني ووادعني ورجع. فمشيت قليلا وأدركني شبه السنة، فما شعرت إلاّ وأنا أعاين مسجد تانوريت. فخرج إلي منه رجل فقال: بعثك إلي شيخ أبو مهدي؟ فقلت له نعم: وامرني أن أعلمك أن تصلي معه بمسجده الآن صلاة الصبح. فقال لي: تقدم! ودار حول المسجد، وغاب عني، وانقلبت راجعا. فأصابني أيضاً شبه السنة، فإذا أنا على قرب من مسجد أبي مهدي. فدخلت المسجد، فوجدت أبا مهدي وصاحبه يتحدثان وقد صليا صلاة الصبح. فصليت وظننت أني قد لحقت بالشيخ فأتيته. فقال لي: يا بني! أرأيت بعض ما يرى الرجال؟ فقلت له: يا سيدي، عسى أنَّ أصحبك في مسيرك إذ سرت طار الطائر الصغير قبل استكمال نبات ريشه مع الطائر الوافر الريش، فإنما يسير ميلين ويسقط في القفر، فيلتقطه الرعيان. وإنَّ جاء الرجال ليصلون إلى موضع لو طار الطائر إلى إنَّ يسقط ريشه وينبت آخر فطار حتى يسقط فينبت آخر، فطار حتى يسقط فينبت آخر، وما وصل موصل عباد الله الصالحين في طرفة عين. أحزم من قرلى. ويقال أيضاً: أحذر من قرلى؛ ويقال أيضاً: احزم أو أحذر من قرلى، إنَّ رأى خيرا تدلى، وإنَّ رأى شراً تولى أو تعلى. الحزم تقدم، وكذا الحذر. والقرلى بكسر القاف والراء، وبعد اللام ألف مقصورة، ويحكى أيضاً في القاف التثليث، طائر شديد الحذر، ولا يرى إلاّ على وجه الماء على جانب يهوي بإحدى عينيه إلى الماء طعماً ويرفع الأخرى حذراً. فإنَّ رأى في الماء ما يصاد من السمك، أنقض عليه انقضاض السهم؛ وإنَّ رأى جارحا ذهب. ومن ثم: يقال: إنَّ رأى خيراً تدلى أي إلى الماء، وإنَّ رأى شرا أي ما يخافه تولى فراراً منه. وقيل: إنَّ قرلى في هذا المثل رجل من العرب كان لا يفوته طعام أحد، فحيثما كان الطعام

حسبك من شر سماعه.

في ناحية توجه إليه؛ غير إنّه إنَّ صادف في طريقه خصوما مثلا ترك ذلك الطريق ولم يمر به. ومن ثم قالوا: اطمع من قرلي، والمراد به هذا الرجل. قيل: ويمكن إنَّ يكون هذا الرجل شبه بهذا الطائر، وسمي باسمه. حسبك من شر سماعه. يقال: احسبني الشيء يحسبني إحسابا، فهو محسب، أي كفاني. قال الشاعر: إذا ما رأى في الناس حسنا يفوقها ... وفيهن حسن لو تأملت محسب وقال الأخر: وتقفي وليد الحي إنَّ كان جائعا ... وتحسبه إنَّ كان ليس بجائع وقالت الخنساء: يكبون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تحسب المائة الوليدا وهذا الشيء حساب، أي كافٍ. قال تعالى:) عطاء حسابنا (. وحسبك درهم، أي يكفيك. قال تعالى:) حسبك الله (. وقال الشاعر: إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحك سيف مهند! أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقال امرؤ القيس: فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري وهذا الشعر ينسبه الناس لامرئ القيس، وهو في ديوانه وقبله: ألا إلاّ تكن ابل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي وجاد لها الربيع بواقصاتٍ ... فآرام وجاد لها الولي إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن القوم صبحهم نعي فتوسع أهلها أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى وشبع وري

وسبب قوله ذلك أنَّ بني النبهان، لمّا لم يقدروا أنَّ يفتكوا له إبله التي أخذتها جذيلة وأخذت منهم رواحله التي ركبوها في رد الإبل، استحيوا من ذلك فوهبوا له المعزى التي وصفها. وكان الأصمعي ينكر نسبة هذا الشعر لامرئ القيس ويقول: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، واحسبه للحطيئة. وسبب إنكاره قوله: وحسبك من غنى شبع وري، فإن هذا مناف لحال امرئ القيس ولمّا كان يقول في شعره من أنَّ مطلوبه الملك، لا ما دونه، كقوله: ولو إنّما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي قلت: وأنت خبير بأنه، مع حالته هذه، لا بعد في أنَّ يقول لوجهين: أحدهما أنَّ يقوله استهزاء ببني نبهان، حيث أغير عليه في جوارهم، ثم ركبوا رواحله في رد إبله، فانتزعت منهم زيادة على ما ذهب من الإبل، فوقعوا في هوان عظيم وذله وصغار. ثم لم ينتصروا وجعلوا يعطونه معزى عن الإبل العكر والرواحل النجب، فعظم أمر المعزى ضحكا منهم، وذلك هجاهم حيث يقول: فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل! كأن دثار حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل وأعجبني مشي الخزقة خالدٍ ... كمشي أتان حلئت في المناهل خالد هذا هو الذي مشى في ردها فانتزعت منه الرواحل. الثاني إنَّ يريد ظاهره، وهو إنّها كافية، قائمة مقام الإبل الذاهبة شبعا وريا. ولا يعني إنَّ ذلك منيته وبغيته من الدنيا، وإنَّ ذلك كاف من يطلب العيش، ولا يعني نفسه. وقال نصيب: وقال رجال: حسبه من طلابها ... فقلت: كذبتم ليس لي دونها حسب! وقبل هذا البيت قوله: بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إنَّ تمثيلنا ملك القلب وقل: إنَّ ننل بالود منك محبة ... فلا مثل ما لاقيت في حبكم حب وقل في تجنيها: لك الذنب إنّما ... عتابك من عاتبت فيما له عتب فمن شاء رام الصرم أوقال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب

خليلي من كعب ألما هيتما ... بزينب لا تفقدكما أبدا كعب من اليوم زوارها فإن ركبنا ... غداة غدٍ عنها وعن أهلها نكب وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... أسلم لنا في حبنا أنت أم حرب؟ وقال رجال: حسبه من طلابها " البيت " وكان جرير يقول: " وددت أني سبقت أبن السوداء إلى هذه الأبيات! " يعني نصيبا. وقال الأعرابي: وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر! ولهذا الشعر حطاية ظريفة عن بعض أصحاب الأصمعي قال: ما رأيت كأعرابي وقف علينا وسلم وقال: أيكم الأصمعي؟ فقال له: هاأنا ذا! قال: أنت الذي يزعم هؤلاء انك أعرفهم بالشعر؟ قال: فمن هو اعلم مني؟ قال: أنشدوني من شعر أهل الحضر حتى أريه من شعرنا، فأنشده شعراً قيل في مسلمة بن عبد الملك: أمسلم أنت البحر إنَّ جاء واردٌ ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها وأنت كسيف الهندواني إنَّ غدت ... حوادث من حرب يعب عبابها ولا خلقت أكرومة في امرئ له ... ولا غاية إلاّ إليك مآبها كأنك ديدان عليها موكل ... بها وعلى كفيك يجري حسابها إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخاثقةٍ يجرى لديه ثوابها فتبسم الأعرابي وهز رأسه، فظننا إنّه استحسن الشعر، ثم قال: هذا شعر مهلهل النسج، خطؤه من صوابه: تشبهون الملك بالأسد، والأسد أبخر قبيح المنظر، وبالبحر، والبحر مر صعب، وبالسيف، وربما خان ونبا. هلا أنشدتموني كما قال صبي منا؟ فقال له الأصمعي: ما قال؟ فأنشد: إذا سألت الورى عن كل مكرمةٍ ... لم يعز أكرمها إلاّ إلى الهول فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنيل يشكوا لديه كثرة النيل والموت يكره إنَّ يلقى منيته ... في كره عند لف الخيل بالخيل لو زاحم الشمس أبقى كاسفة ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل

أمضى من النجم إنَّ نابته نائبةٌ ... وعند أعدائه أجرى من السيلِ يقصر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصر عن أفعاله قولي قال اللراوي: فبهتنا والله بما رأينا. فتأنى قليلا ثم قال: ألا تنشدني يا أصمعي شعرا ترتاح إليه النفس؟ فأنشدته قول عدي بن الرقاع: وناعمةٍ تجلو بعود أراكةٍ ... مؤشرةٍ يسبي المعانق طيبها كأن بها خمراً بماء غمامةٍ ... إذا ارتشفت بعد المنام غروبها أراك إلى نجد تحن وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث كان حبيبها فتبسم الأعرابي وقال: هذا قريب من الأول. ألا أنشدتني كما قلت: تعلقتها بكراً وعلقت حبها ... وقلبي من كل الورى فارغٌ بكرُ إذا احتجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن حجب البدرُ وما الصبر عنها إن صبرت وجدته ... جميلاً ولا في مثلها يحسن الصبرُ وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمرُ ولو أنَّ جلد الذر لامس جلدها ... لكان للمس الذر في جلها أثرُ ولو لم يكن للبدر ضداً جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدرُ قال: الراوي: فقال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكباد! انتهى. ويقال أيضاً: حسبك بكذا. قال أبو تمام: نامت همومي عني حين قات لها: ... حسبي أبو دلفٍ حبي به وكفى! وقال العباس بن الأحنف: إن كان يرضيكم عذابي وأن ... أموت بالهجران والكربِ فالسمع والطاعة مني لكم ... حسبي بما ترضون لي حسبي والشر ضد الخير؛ أنَّ الشر يكفيك منه سماعه وإن لم تعاينه إما على معنى أنَّ الشر من

تحسبها حمقاء وهي باخس.

شناعته وقبحه يتبين بسماعه وإن لم تعانيه؛ أو أنه يحصل لك اتهام ما به من مجرد سماعه وإن لم تقدم عليه ولا انتسبت إليه؛ أو يكفي فيما انتسب إليك من الشر سماع الناس له وإن لم يعانوه. وهذا ما ذكر أبو عبيد أنَّ هذا المثل يضرب فيما يحذر من العار والعيب والمقالة السوء وإن كانت باطلا كقول الآخر: قد فيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟ وإما على معنى الأمر أي: اكتف من الشر بسماعه ولا تعانيه والله أعلم. والمثل لأم الربيع بن زياد العبسي وكان ابنها الربيع أخذ من قيس بن زهير درعا فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في طريق فأراد أن يقبضها في الدرع فقالت: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا؟ إنَّ حسبك من شر سماعه. فذهبت كلمتها مثلا. وقالت عاتكة بنت عبد المطلب من شعراء الحماسة: سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمع باقٍ شناعه وبعده: فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه بعكاظ يعيش الناظر ... ين إذا هم لمحوا شعاعه فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه ومجندلاً غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه تصف بهذا الكلام حرب الفجار بين قريش بعكاظ. وأرادت بقولها: وليكف من شر سماعه: أنا أوقعنا بهم من الشر ما ظاهر غني عن السؤال عنه والأخبار به. تحسبها حمقاء وهي باخسٌ. تقول: حسبت زيدا عالما بالكسر أحسبه وأحسبه محسبة ومحسبه وحسباناً بالكسر إذا ظننته؛ والحمقاء مؤنث الأحمق؛ والباخس من البخس وهو النقص والظلم. يقال: بخسه حقه يبخسه بخسا فهو باخس

أحس وذق!

وهي باخسة وباخس أيضاً. وورد به المثل وهو جائز كما قالوا: ناقة بازل ومغذ في السير وحائل. ومن شاء أن يؤنث في المثل أنث وهو الأصل. وأصل هذا المثل أنَّ رجلا خلط بماله مال امرأة يظنها حمقاء فطمع فيها. فلما تقاسما أخذت جميع حقها ثم لم ترض بذلك فشكته حتى افتدى منها من المال بما أحبت. ثم إنَّ الناس ظنوا إنّه يغبنها فلاموه وقالوا له: كيف تخدع امرأة؟ فقال عند ذلك: تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة فذهبت مثلا يضرب في الرجل يتباله أو يطيل الصمت حتى يظن به التغفل وهو ذو دهاء ومكر. ونحوه قولهم: مخرنبق لينباع كما يأتي: أحس وذق! الحسو الشربي. تقول: حسا الرجل المرق يحسوه إذا شربه شيئا بعد شيء. وكذا تحساه. وحسا الطائر الماء يحسوه. قيل: ولا يقال شربه؛ والذوق معروف. والمثل يقال لمن تعرض للمكروه فوقع فيه ومعناه ظاهر. الحسن أحمر. الحسن: الجمال وهو معروف؛ والحمرة معروفة. ويريد بهذا المثل أنَّ من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها. محسنةٌ فهيلي! الإحسان في الفعل ونحوه ضد الإساءة؛ والهيل التفريغ والصب. يقال: هال عليه التراب يهيله هيلا وأهاله إهالة إذا صبه. وكل شيء صبه من غير كيل فقد هاله. قيل: وأصل المثل أنَّ الهائلة بنت منقذ من بني عمرو بن سعد بن زيد مناة أم جساس بن مرة وهي أخت البسوس بنت منقذ التي كانت الحرب عليها بين وائل أربعين سنة ورد عليها ضيف ومعه جراب فيه دقيق. فقامت الهائلة وأخذت وعاء عندها كان فيه دقيق لتأخذ

محسنة فهيلي!

من وعاء الضيف دقيقا. فجاء الضيف فلما بصرت به جعلت تأخذ من وعائها فتهيل في وعاء الضيف. فقال: ما تصنعين؟ فقالت: أهيل من هذا في هذا. فقال: محسنة فهيلي! فسميت الهائلة بذلك وذهب قوله مثلا يضرب في استقامة الأمر قاله أبو عبيد. وقال غيره: يضرب للرجل يسيء في فعل فعله فيؤمر بذلك على سبيل الهزء به وهذا أظهر وأنسب بالأصل المذكور. نعم! يمكن أن ينقل إلى الجد حتى يقال للرجل يحسن حقيقة على وجه الاستزادة من فعله. أحسن من طاووس. الحسن مر؛ والطاووس على وزن قابوس طائر معروف بديع الشكل رائق الحسن وفي طبعه مع ذلك الزهو والخيلاء والإعجاب بريشه. وكان يقال: إنَّ الطاووس في الطير كالفرس في الدواب عزا وحسنا. وقال بعض الرجاز في وصفه: سبحان من مِن خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيسُ! كأنه في نفسه عروس ... في الريش منه ركبت فلوسُ تشرق في داراتها شموس ... في الرأس منه شجر مغروسُ كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر جرم ينوسُ أحشك وتروثني! الحشيش ما يبس من الكلأ؛ وحششته أنا: قطعته؛ وحششت الفرس: ألقيت إليه الحشيش؛ والروث معروف. يقال: راثت الدابة تروث روثا. وهذا المثل يضرب لمن أحسنت إليه فأساء إليك. فانه قد صار بمنزلة الفرس إذا ألقيت إليه الحشيش فلطخك بروثه. وهذا ظاهر. أحشفاً وسوء كيلةٍ؟ الحشف بفتحتين أردأ التمر. قال امرؤ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

الحفائظ تحلل الأحقاد.

وكليلة بكسر الكاف الهيئة من الكيل. يقال: كال له الطعام، وكاله إياه كيلا؛ وكال كيلة واحدة بالفتح وكيلة حسنة أو قبيحة بالكسر ومعنى المثل: أتجمع على أنَّ تعطيني حشفا وتكيل لي سيئة؟ ويضرب للأمر يكره من جهتين. وكان أصله إنَّ رجلاص اشترى تمرا من عند آخر فأتاه بتمر رديء، ثم أساء له الكيل مع ذلك، فقال له ذلك. احطط عن راحلتك فقد بلغت! الحفائظ تحلل الأحقاد. الحفائظ جمع حفيظة، وهو الغضب والحمية، والأحقاد جمع حقود والمعنى انك إذا رأيت حميك وقريب يظلم، وفي قلبك عليه ضغن، دعتك الحمية إلى نصره وزال عن قلبك ما فيه من بغضه، كما قال الشاعر: أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف وسيأتي زيادة في هذا المعنى. الحق أبلج، والباطل لجلج. الحق خلاف الباطل؛ والأبلج الواضح، ويقال الصبح بالفتح يبلج بالضم بلوجاء، وبلجت الشيء فتحته وأوضحته؛ وصبح أبلج: مشرق ومضيء. قال الراجز: حتى بدت أعناق صبح أبلجا. وكذا الحق أبلج أي واضح ظاهر لا التباس به؛ واللجلجة والتلجيج: التردد في الكلام. ويقال: تلجلجت اللقمة في حلقه، أي ترددت ولم تنسغ. قال زهير: تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي تحت الكشح داء

تحقره وينتأ!

والمعنى إنَّ الباطل يردد من غير إنَّ ينفذ، وهو ظاهر. تحقره وينتأ! الحقر: الإذلال تقول: حقرت الرجل حقرا كضربته ضربا وحقرته تحقيرا، واحتقرته واستحقرته؛ وتقول: حقر الرجل كجلس وحقر يحقر ككرم إذا ذل والنتوء: الارتفاع، وتقول: نتأ الشيء ينتأ وتنوءاً إذا انتفخ وارتفع وقد تقول: نتأ ينتو، بغير همز. ومعنى المثل انك تحقره وتزدريه لسكونه، وهو يرتفع ويخادعك. وهذا مثل المثل السابق: تحسبها حمقاء وهي باخس. حقك أخذت. تقدم في كلام الضب مع الأرنب والثعلب وهو ظاهر المعنى. تحككت العقرب بالأفعى. الحك معروف، حككت الشيء، وحككن الشيء بالشيء، وتحاك الشيئان: حك كل منهما صاحبه، واحتككت بهذا الشيء: حككت نفسي عليه، وفلان يتحكك بي: يتعرض لشري؛ والعقرب معروف، يذكر ويؤنث، والأنثى منه عقرباء بالمد غير مصروف وعقربة والذكر عقربان. قال الشاعر: كأن مرعى أمكم إذ غدت ... عقربة يكومها عقربان ومرعى اسم الأم ويكومها ينزو عليها. والأفعى حية خبيثة. قال الراجز: كأن صوت شخبها المرفض ... كشيش أفعى أجمعت لعض والذكر افعوان بضم الهمزة والعين قال الراجز: قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما

احتك حكم الصبي على أهله!

ومغنى تحكك العقرب بالأفعى لصقت بها وحلقت حواليها أو تعرضت لشرها. يضرب لمن يصارع أو ينازع أو يخاصم من هو أقوى منه أو يتشبه بغيره ويحكي فعله ولا يقوى قوته. احتك حكم الصبي على أهله! الحكم: القضاء، ويقال: حكمت عليه بكذا حكما. وتقول: حكمته تحكيما إذا أذنت له أنَّ يحكم، فتحتم هو واحتكم. ولما كان الصبي مقبولا ما حكم به على أهله، ومسموعا ما طلب منهم، ومغتفرا ما تحامل به عليهم، ضرب الناس بحمه المثل في الناس كل من تسمع مقالته، ويتحمل انبساطه عليك، وتغفر دالته. كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: انك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك على دونك، فإن جنت يد فأحتكم علي حكم الصبي على أهله! وقال الشاعر: ولا تحكما حكم الصبي فأنه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله ومن كلام أبي بكر بن القبرطانة يحق لي أنَّ أذهب شططا، وأتكلم منبسطا، وأبين غرضي كله ومذهبي، وأحتكم على مكارمه تحكم الصبي، وأبلغ بك كل أمل وأرب، وأملأ دلوي في رجائك إلى عقد الكرب. وأشار بهذا الأخير إلى قول القائل: من يساجلني ماجداً ... يملا الدلو إلى عقد الكرب أحكى من قردٍ. يقال: حكيت الحديث وحكوته بالياء والواو ذكرته وحكيته عن فلان: نقلته عنه، وحاكيت قلانا وفعلت مثل فعله؛ والقرد بكسر القاف وسكون الراء معروف جمعه أقراد وقرود وقرد. وهذا الحيوان مع قبحه في الغاية من الإلهام والحذق بمحاكاة غيره وبالحرف وغيرها: فهو يعلم الخياطة والصياغة

حلأت حالئه عن كوعها.

وغير ذلك؛ ويعلم حفظ الأمتعة وحراسة الحوانيت ونحوها؛ ويحاكي الإنسان في جميع أفعاله ما خلا النطق كما قال أبو الطيب: يريدون شأوي في كلام وإنّما ... يحاكي الفتى في ما خلا المنطق القرد حلأت حالئه عن كوعها. يقال: خلا الجلد، بالفتح يحلؤه إذا قشرته أو إذا نزع تحليئه، والتحليء ما أفسده السكين من الجلد أو ما يبقى من الصفاق على باطنه عند السلخ؛ والكوع: رأس الزند الذي يلي الإبهام؛ والكرسوع: رأس الزند الذي يلي الخنصر. ومعنى المثل أنَّ المرأة إذا حلأت الأديم، فإنَّ رفقت سلمت وإنَّ خرقت قطعت بالشفرة كوعها. فيضرب غي حذر الإنسان على نفسه. أحلبت أم أجلبت؟ يقال: أحلب الرجل بالحاء المهملة إذا ولدت إبله إناثا لأنها تحلب، وأجلب بالجيم إذا ولدت ابله ذكوراً لأن أولادها تجلب إلى السوق فتباع. حلبت صرام. الحلب بالتسكين استخراج ما في الضرع من اللبن حلب الشاة بالفتح يحلبها حلبا؛ وصرام على مثال غراب آخر اللبن بعد التغريز يحتاج إليه الرجل فيحلبه ضرورة. فضرب ذلك مثلا لاستخراج آخر ما في النفس، فإذا قيل: حلبت صرام، فكأنه قيل: بلغ العر آخره. قال الشاعر: ألا أبلغ بني سعد رسولا ... ومولاهم فقد حلبت صرام والصرام أيضاً اسم من أسماء الحرب والداهية.

لتحلبنها مصرا!

لتحلبنها مصرا! الحلب تقدم؛ والمصر بالفتح والسكون حلب جميع ما في الضرع حتى لا يبقى شيء. والتمضر حلب بقايا اللبن. وشاة أو الناقة مصور بطيئة خروج اللبن. وهذا المثل يضرب في توعد العدو، وكأنك تقول له: انك لا تنال مني شيئاً، وإنّما أنت بمنزله من يحلب الشاه الممصورة فوضعت المصدر موضع المفعول أي: لتحلبنها ممصورة لا لبن فيها كما يقال: ضرب الأمير. حلف له بالمحرجات. الحلف معروف يقال: حلف بالفتح يحلف حلفا بالكسر ككذب؛ والمحرجات: الأيمان الموقعة في الحرج وهو الإثم والضيق. ويقال: المحرجات الثلاث وهي الطلاق والعتاق والمشي إلى مكةز وقيل: هي الطلاق ثلاثا. حلم الأديم الأديم الجلد. ويقال: حلم الأديم بالكسر يحلم إذا فسد ووقع فيه دود. ثم يضرب للأمر يتناهى فساده. قال الوليد بن عقبة يخاطب معاوية رحمه الله تعالى: فإنك والكتاب إلي علي ... كدباغة وقد حلم الأديم وسيأتي تتمة هذا الشعر. وأول من قال هذا المثل خالد بن معاوية بن سنان السعدي، وذلك إنه استب، وهو بنو تميم، عند النعمان بن المنذر، فقال خالد يرتجز فيهم: دوما بني غنم ولن تدوما ... لنا ولا سيدكم مرحوم غنا سراة وسطنا قروم ... قد حملت أحسابنا تدوم في الحرب حتى حلم الأديم فذهب قوله حلم الأديم مثلاً. وقال لهم أيضاً:

أحلم من فرخ الطائر.

إنَّ لنا يا أهل غنم علما ... أفواه أفراس أكلن هشما استاه أم يغتدين لحما ... تركتم خير قويس سهما فذهب هذا أيضاً مثلا وسيأتي. ثم أنَّ شاعر غنم رجز بخالد أيضاً ومع خالد أخ له. فاستعدوا عليه النعمان فقال خالد: أبيت العن! إذا أركب أنا وأخي ناقة ثم نتعرض لهم فإن استطاعوا فليعقروا بنا! فأعجب النعمان ذلك وقال: قد أعطوكم بحقكم. قالوا: قد رضينا. فقال النعمان: أما والله لتجدنه ألوى بعيد المستمر! فأرسلها مثلا وسيأتي. ثم إنَّ خالدا وأخاه أكتفلا ناقتهما بكفل وتأخر أحدهما إلى العجز وجعل وجهه مما يلي الذنب وتقدم الآخر إلى الكتف وجعل كل واحد منهما يذبب بسيفه فلم يخلصوا إلى أن يعقروا بهما. أحلم من فرخ الطائر. الحلم بالكسر الأنات والعقل. يقال: حلم بالضم يحلم حلما فهو حليم وهم حلماء وأحلام؛ وجمع الحلم حلوم وأحلام؛ وافرخ معروف جمعه أفراخ وفراخ. ونسب الحلم إلى فرخ الطائر لأنّه يخرج من البيضة على قنة الجبل ثم لا يتحرك حتى يتم نبات ريشه؛ ولو تحرك سقط. وتقدم في قولهم: أحزم من عقاب ومن فرخ العقاب وهو المقصود هنا. الحمد مغنم والمذمة مغرم. هذا المثل ظاهر المعنى إفرادا وتركيبا يضرب عند اكتساب المحامد واجتناب المذام. ومثله قول مالك بن جرير: وإنَّ قليل الذم غير قليل وقبله: أجود على العافي وأحذر ذمه ... إذا ضن بالمعروف كل بخيلِ ومثله قول عبيد: الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت في زادِ

أحمق ما يتوجه.

وقول الحماسي: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد! إذا ما صنعت الزاد فلتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحداث من بعدي وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد؟ وللموت خيرٌ من زيادة باخل ... يلاحظ أطراف الأكل على عمدِ وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلاّ يلك من شيمة العبدِ وقول حاتم: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صاحبي حين حاجاتنا معا أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقول عمرو بن الأهتم: وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريقُ لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيقُ وقول الآخر: ألا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصولُ ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقولُ إذا قد رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم يحيهن أصولُ ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وإما وجهه فجميلُ والشعر في هذا المعنى لا يحصر. أحمق ما يتوجه. الحمق قلة العقل. حمق الرجل بالضم وحماقة وانحمق واستحمق فهو أحمق وهم حماق وحمق بضمتين وحمقى

أحمق من جهبر.

وحماقى؛ وتوجه: أقبل وولى وكبر. ويقال: أحمق ما يتوجه أي ما يحسن أن يأتي الغائط لحمقه. أحمق من جهبر. الحمق مر؛ والجهبر أنثى الدب وهو دويبة معروفة يصطاد بها يزعمون أنها تترك ولدها وترضع ولد الضبع فوصفت بالحمق. واعلم أنهم بنوا صيغة التفضيل من حمق وهو من الخارج عن القياس: فإنَّ نحو هذه المادة لا يبنى منها قياس كما قرر في محله. أحمق من جهيزة. جهيزة بالجيم أوله والزاي آخره على وزن صحيفة هي أم شبيب بن زيد الشيباني الخارجي. كان أبوه يزيد اشتراها من السبي فقال لها: أسلمي! فأبت فضربها فلم تسلم فواقعها فحملت فلما أحست بالولد تحرك في بطنها قالت: إنَّ في بطني شيئا ينفر. فقال الناس حينئذ: أحمق من جهيزة وضرب بها المثل في الحمق. وقيل إنَّ جهيزة هي عرس الذئب تدع ولدها وترضع ولد الضبع. وفيها أو في مثلها ورد قول الشاعر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال على قصد! وجهيزة أيضاً امرأة حمقاء. واجمع قوم يخطبون في الصلح بين حيين في دم لكي يرضوا بالدية. فبينما هم كذلك قالت جهيزة: ظفر بالقاتل ولي المقتول فقتله فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب! أحمق من أبي غبشان. أبو غبشان بفتح الغين المعجمة وتضم أيضاً وبسكون الباء الموحدة رجل من خزاعة كان يلي سدانة الكعبة قبل قريش. فاجتمع هو وقصي في شرب بالطائف فأسكره قصي ثم اشترى منه المفاتيح بزق خمر وأشهد عليه. ودفعها قصي لابنه عبد

أحمق من حبارى.

الدار وأرسله في الحين إلى مكة. ثم أفاق أبو غباشة من سكره وهو أندم من الكسعي فضرب به المثل في الحمق وفي الندم وخسارة الصفقة كما يأتي. أحمق من حبارى. الحبارى بضم الحاء وبألف مقصورة للتأنيث طائر معروف يقع على الذكر والأنثى ويوصف بالحمق. وفي كلام عثمان رضي الله عنه: كل شيء يحفظ ولده حتى الحبارى! وإنّما خصها بالذكر لأنها مشهورة بالحمق ومع ذلك تحب ولدها وتطعمه وتعلمه الطيران كسائر الحيوانات. أحمق من دغة. الحمق مر ودغة بدال مهملة وغين معجمة مخففة على مثال ثبة وكرة والأصل دغي أو دغو. وهي امرأة من بني عجل وهي مارية بنت مغنج ومغنج هو ربيعة بن عجل. ودغة حمقاء مشتهرة بذلك ولذلك ضرب بها المثل. وكان من حمقها إنّها تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم. فلما أخذها الطلق ظنت إنّها تريد الخلاء فانطلقت إلى بعض الغيطان تتبرز فولدت واستهل الولد ورجعت إلى بيتها تقدر إنّها أحدثت. فقالت لضرتها: يا هنتاه هل يفتح الجعرافة؟ قالت: نعم ويدعو أباه فمضت ضرتها وأخذت الولد. فبنو العبير يدعون بذلك بني الجعراء وصار ذلك لقبا لهم. ونظرت يوما إلى زوجها يقبل بنته ويقول: بأبي درادرك والدرادرك مغارز الأسنان. فذهبت هي ودقت أسنانها بفهر حتى بدت درادراها فجاءت زوجها وقالت له: كيف ترى درادري؟ فقال لها: أعييتني بأشر فكيف بدردر؟ وهو مثل سيأتي. وقال أبو نواس: وما لبكر بن وائل عصم ... إلاّ بحمقائها وكاذبها وقد خطأ أبو العباس المبرد أبا نواس في هذا وقال إنّه أراد بالحمقاء هبنقة القيسي ولا يقال للرجل حمقاء. ورد عليه بانه أراد دغة العجلية وعجل في بكر بن وائل.

أحمق من رجلة.

قال شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: وقد رأيت المبرد في المنام وأنا بالاسكندرية وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وعندي الله تعالى ذاك الكامل للمبرد وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربة. فرأيت في العقد في ترجمة ما غلط فيه على الشعراء وذكر أبياتا نسبوا أصحابها إلى الغلط ولم يغلطوا وإنّما وقع الغلط ممن غلطهم منها ما ذكر المبرد في الروضة من تغليط أبي نواس في البيت السابق والغلط إنّما هو من المبرد كما قررنا. قال: فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة رأيت كأني بمدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين وكأننا صلينا الظهر جماعة. فلما فرغنا أردت الخروج فرأيت في أخريات الموضع رجلا واقفا يصلي فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد. فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه. فلما فرغ سلمت عليه فقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع كتابك الكامل. فقال لي: رأيت كتابي الروضة؟ فقلت: لا. وما كنت رأيتها قبل ذلك. فقال لي: قم حتى أريك إياه فقمت وصعد بي إلى بيته. فدخلنا ورأيت فيه كتب كثيرة. فقعد يفتش عليه وقعدت أنا ناحية. فأخرج مجلدا ودفعه لي ففتحته وتركته في حجري فقلت له: قد أخذوا عليك. فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت له: انك نسبت أبا نواس إلى الغلط في بيت كذا وأنشدته إياه. فقال: نعم غلط في هذا. فقلت؟ إنّه لم يغلط بل هو على صواب ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه. فقال: وكيف هذا؟ فعرفته ما قاله صاحب العقد. فعض على رأس سبابته وبقي ساعة ينظر إلي وهو في صورة خجلان حتى استيقظت من منامي وهو على تلك الحال. انتهى ملخصا. أحمق من رجلة. الرجلة بكسر الراء وسكون الجيم: ضرب من النبات معروف ينبت في حميل السيل فيقتلعه فيوصف لذلك بالحمق. ويقال له بقلة الحمقاء والبقلة اللينة والبقلة المباركة. وقيل إنَّ البقلة المباركة هي الهندباء. وقولهم بقلة الحمقاء أضيف منه الموصوف إلى الصفة في الظاهر كقولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى.

أحمق من رخمة.

أحمق من رخمة. الرخمة بفتح الراء والخاء المعجمة طائر معروف جمعه رخم ويقال له الانوق كما مر. ومن تم يقال لها ذات الاسمين. وهي تتمنع في قلل الجبال كما تقدم وتتحرز ومع ذلك تحمق. قال الكميت: وذات أسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل وذكر الروافض عند الشعبي فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ومن الطير لكانوا رخما. والرخمة من لئام الطير ولئام الطير فيما يزعمون ثلاثة: الرخمة والغراب والبومة. أحمق من صاحب ضأن ثمانين. الضأن بسكون الهمزة وفتحها جمع ضائن مثل ركب لراكب وحرس لحارس والضائن خلاف الماعز من الغنم والأنثى ضائنة. ويقال: أضأن الرجل كثرت عند الضأن وثمانون عقد معلوم من العدد وصاحب ضأن ثمانين قالوا هو رجل بشر كسرى فقال له كسرى: سل مني ما شئت فقال: أسألك ضأنا ثمانين فقال: أحمق من صاحب ضأن ثمانين. وقيل إنّه رجل حكمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أيما أحب إليك: ثمانون من الضأن أو أدعو الله تعالى أن يجمعك معي في الجنة. فقال: بل ثمانون من الضأن. فقال صلى الله عليه وسلم: أعطوه إياه ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ صاحبة موسى كانت أعقل منك. وذلك إنَّ عجوزا دلته على عظام يوسف عليه السلام فقال لها موسى عليه السلام: أيما احب إليك: أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم؟ فقالت: الجنة. ويروى أيضاً إنَّ رجلا وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين فقال: إنَّ لي عندك موعدا يا رسول الله قال: صدقت فاحتكم ما شئت قال: إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها.

أحمق من ضبع.

فقال صلى الله عليه وسلم: هي لك وقد احتكمت يسيرا. ولصاحبة موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف عليه السلام كانت أحزم منك حين حكمها موسى فقالت: حكمي أن تردني شابة وأدخل مع الجنة. وفي هذا الرجل يقال: أقنع من صاحب الثمانين وراعيها كما سيأتي. أحمق من ضبع. الضبع على مثال سبع معروف يقع على الذر والأنثى وهو مؤنث اللفظ. والذكر بخصوصه ضبعان بالكسر والأنثى ضبعانة ولا يقال ضبعة. وقيل يقال. ويقال للذكر منه أيضاً ذريح بكسر الذال المعجمة. والضبع توصف بالحمق. ومن حمقها فيما يزعمون أن الصائد إذا أراد أن يصيدها رمى بحجر في وجارها فتحسبه شيئاً فتخرج إليه. وإنّها أيضاً يقال لها وهي في الوجار: خامري أم عامر أي أسترى كما سيأتي. فتبقى حتى يدخل إليها ويقيدها برجلها ويخرجها. ويقال لها أيضاً وهي في الوجار: اطرحي أم طريف خامري أم عامر أبشري: بجراد عظلى وشاة هزلي فتبقى حتى تقبض. ومن الناس من يرى إنَّ هذه من خرافات العرب فقط. وأهل زمانا أيضاً يزعمون إنَّ الصيادين إذا اجتمعوا حول وجاره وجعل بعضها يقول: ما هي هما وما هنا شيء فتتلبث هي حتى تقبض وإنّهم أيضاً قد يرونها فيعظمونها ويهولون أمرها ويقولون: ما هذا السبع؟ وما هذه الداهية؟ ونحو ذلك. فتبقى تنتفخ وتتعظم في نفسها ولا تفر حتى يقبضوها. ومن شهرة حمقها على سائر الدواب يقول العرب يقال المثال الآخر في الشيء يدعى وضوحه جدا: ما يخفى هذا الأمر على الضبع. أحمق من ناطح الصخرة. النطح دفع الشيء بالقرون والصخرة واحد الصخور المعروفة وناطح الصخرة هو الوعل والوعل هو التيس الجبلي كما مر جمعه أوعال ووعول. قال

أحمق من نعامة.

امرؤ القيس: تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل وقال أمية بن أبي الصلت: كل حي وإن تطاول دهرا ... آئل أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا يحكى إنَّ أمية لمّا احتضر غشي عليه ثم أفاق فقال: لبيكما لبيكما أنا إذا لديكما: لا عشيرتي تحميني ولا مالي يفديني ثم غشي عليه. فلما أفاق قال: كل حي...... البيتين ففاظت نفسه. وهما من شعره الحكيم. ويروى إنَّ عمرو بن العاصي تمثل بهما. وكان لمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه! انك كنت تقول: يا ليتني ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت به حتى يصف لي ما يجد وأنت ذلك الرجل: فصف لي الموت! فقال: يا بني كأن السماء قد انطبقت على الأرض وكأني بينهما أتنفس من سم إبرة وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. ثم أنشأ يقول: ليتني كنت......البيت. ومثل هذا عن عبد الملك بن مروان لمّا احتضر وكان في قصره مشرفا على الناس. فنظر فرأى بعض الغسالين يغسل الثياب فقال: ليتني كنت نثل هذا الغسال أكتسب قوتي يوم بيوم ولم أكن وليت الخلافة ثم تمثل بالبيتين السابقين فمات. ويحكى إنّه لمّا بلغت قصته هذه بعض أهل زمانه قال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يعني الرؤساء يتمنون ما نحن فيه ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه. وقالوا في الوعل ناطح الصخرة لقول الأعشى: كناطح صخرة يوما ليقلعها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وقول الآخر: فرشني لا أكونن ومدحتني ... كناطح يوما صخرة بعسيل أحمق من نعامة. النعامة معروف وتقدم ما فيه. والنعامة توصف بالحمق وذلك إنّها تخرج طلبا

أحمق من هبنقة.

للطعم وتدع بيضها. فمتى وجدت بيض نعامة أخرى حضنتها ونسيت بيضها. وفي ذلك يقول أبن هرمة: وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحا كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملحقة بيض أخرى جناحا ومن حمقها إنَّ الصائد إذا أدركها أدخلت رأسها في كثيب رمل تقدر أنها اختفت عنه بذلك وهي بادية له. ومع ذلك فكان لها في بيضها أمر عجيب، وذلك إنّها تبيضها زوحا وتضعها فتقسمها قسمين: فقسما تحضنه وقسما تتركه يكون غذاء لمّا يكون من الأفراخ، على ترتيب في ذلك ووضع عجيب. فسبحان القادر على ما يشاء والملهم كل حي منافعه. وأما قول علقمة: حتى تلافى وقرن مرتفع ... أدحي عريسين فيه البيض مركوم فقد قيل إنّه غلط لأن بيض النعام لا يكون مركوما، أي بعضه على بعض، كما قلنا. أحمق من هبنقة. ويقال أيضا أحمق من ذي الودعات؛ وهبنقة بالفتحات مع تشديد النون. هو يزيد بن ثروان القيسي. ويقال له ذو الودعات ولقب بذلك لأنه كان يتقلد الودع، والودع بفتحتين خرز أبيض يستخرج من البحر، الواحد ودعة والجمع ودع وتسكن الدال أيضاً وودعات. وقال الشاعر في المفرد: أسن من جلفزيز عوزم خلقٍ ... والحلم حلم صبي يمرس الودعه والجلفزيزي العجوز والناقة الهرمة؛ والعوزم العجوز والناقة المسنة فيها بقية. ومعنى يمرس الودعة: يمصها. ويقول إنه كبير الجسم، صغير العقل. وقال: الآخر في الجمع، مسكنا ومحركا: إنَّ الرواة بلا فهم لمّا حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع: لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع

يحمل شن ويفدي لكيز.

قيل: الودع أشتق له من الودع وهو الترك، لمّا قالوا من البحر يتركه، وذلك إنّه يقذفه حيوانا فيموت ويصلب صلابة الحجر، ويعلق للعين. فكان هبنقة أتخذ قلادة من ودع وعظام خزف يجعلها في عنقه، وكان طويل اللحية. فقيل له: لم تعلق هذا؟ فقال: لئلا أضل. ثم إنَّ أخا له سرقها ذات ليلة وتقلدها. فلما صبح هبنقة ورآها في عنق أخيه فقال له: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا؟ فضرب به المثل في الحمق. وقد حكيت عنه أخبار كثيرة في الحمق: منها أنه أشترى له أخوة بقرة بأربع أعنز. فلما ركبها وأعجبه عدوها، التفت إلى أخيه فقال له: زدهم عنزاً! فضرب به مثلا للمعطي بعد وجوب البيع. ثم إنّه سار بالبقرة حتى مر بأرنب تحت شجرة، ففزع منها، وركض البقرة حتى تجاوزها فقال: الله نجاني ونجى البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجرة ومنها إنّه مان إذا رعى الإبل رد السمان منها إلى المرعى، ونحى المهازيل وقال: لا اصلح ما افسد الله! ومنها إنّه اختصم إليه بنو راسب والطفاوة في غلام تنازعه الفريقان، فقال: اذهبوا فاطرحوه في النهر: فإنَّ طفا فوق الماء فهو للطفاوة، وإنَّ رسب فيه فهو لبني راسب. وهذه أيضاً تحكى عن غير هبنقة، كما سيأتي، والله اعلم. ومنها إنّه ضل له بعير فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال انكم لا تعرفون حلاوة الوجدان! وقال اليزيدي: عش بجد ولا يضرنك نوك: ... إنّما عيش من ترى بالجدود رب ذي إربة مقل من المال ... وذي عنجهية مجدود عش بجد وكن هبنقة القيسي ... أو مثل شيبة بن الوليد! وسبب قول اليزيدي هذا الشعر إنّه تناظر، هو والكسائي، في مجلس المهدي، وكان شيبة أبن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه. يحمل شن ويفدي لكيز. الحمل معروف، تقول: حملت الشيء أحمله حملا كضربته أضربه

الحمى أضرعتني إليك!

ضربا؛ وشن اسم رجل وهو شن بن أفصى بن عبد القيس بن جديلة؛ وتقول فديت الرجل تفديه إذا قلت له: جعلت فداءك. قال امرؤ القيس: فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعانٍ فككت الغل عنه ففداني والعرب تقول في التفدية: فدتك نفسي، وأبي وأمي، وطارفي وتالدي. وتقول: فديت الرجل ثلاثيا، وفاديته إذا فككته؛ ولكيز بالزاي، على مثل زبير هو أبن أفصى، أخو شن المذكور. وكان شن وأخو لكيز مع أمهما ليلى بنت قرآن في سفره، فنزلا بموضع يقال له ذو طوى. فلما أرادت الرحيل فدت لكيز، ثم دعت شناً ليحملها. فحملها وهو غضبان حتى إذا كانا بالثنية رمى بها عن بعيرها وقال: يحمل شن ويفدى لكيز! فذهبت ويضرب في وضع الشيء غير موضعه. ثم فقط عليك بجعرات أمك يا لكيز!. ومثل هذا المثل، المثل الآتي: هيل خير حالبيك تنطحين، وقول الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب! كما مر. وكل ذلك يضرب في الخطأ في مكافئة المحسن بالإساءة والمسيء بالاحسان. الحمى أضرعتني إليك! الحمي مرض معروف. يقال: حم الرجل بضم الأول وأحمته الله، فهو محموم؛ والاضراع: الإذلال. يقال: ضرع إليه بالفتح يضرع ضراعة: ذل وخضع، وأضرعة الغير. وهذا المثل يضرب عند الذل للحاجة. قال: أبو علي القالي: إنّما قيل هذا لأن صاب الحاجة تأخذه رعشة، من الحرص على حاجته. ويقول: فهذا الذي في من القل هو الذي أضرعني؛ والقل الرعدة. انتهى. وقوله: القل الرعدة، يعني بكسر القاف. وحصل ما ذكر أنَّ ما طلبه من الحرص المزعج له إزعاج الحمى هو الذي أضر وأذله، كما قال الآخر: أذل الحرص أعناق الرجال وهو ظاهر

الحمى أضرعتني للنوم.

الحمى أضرعتني للنوم. هذا المثل كالذي قبله في المعنى، وهو هو بعينه. وأوّل من قاله قرين بن مصاد الكلبي. وكان لصا مبيراً حتى إنّه كان يقال له الذئب لشدة لصوصيته. وكان له أخوان: مرارة ومرة؛ وإنَّ مرارة خرج يتصيد الأروى في جبل يقال له أبلق، فأختطفه الجن. فانطلق مرة أخوه بأثره حتى إذا كان بذلك المكان اختطف أيضاً. وكان قرين غائبا فلما قدم وعلم بأمر أخويه أقسم لا يشرب خمراً ولا يمس رأسه غسلا حتى يطلب أخويه. فتكتب قوسه وانطلق إلى ذلك المكان. فمكث فيه سبعة أيام لا ينام ولا يرى شيئاً حتى كان اليوم الثامن، فإذا هو بظليم فرماه وأصابه، واستقبل الظليم حتى صار في أسفل الجبل. فلما وجبت الشمس بصر بشخص قام على صخرة ينادي: يا أيها الرامي الظليم الأسود ... ثبت مراميك ولمّا ترشد! فأجابه قرين: يا أيها الهاتف فوق الصخرة ... كم عبرة هجيتها وعبرة بقتلكم مرارة ومرة ... فرقت جمعا وتركت صخرة! فذهب الجني وتوارى عنه هونا من الليل. فأصابت قرينا حمى فغلبته عينه فنام. فأتاه الجني فاحتمله وقال: ما أنامك، وقد كنت حذرا؟ فقال قرين: الحمى أضرعتني للنوم. ثم أنطلق به حتى أتى حاضر الجن. فلما كان في وجه الصبح، خلى سبيله، فقال قرين عند ذلك: ألا من بلغ فتيان قومي ... بما لاقيت بعدهم جميعا؟ غزوت الجن أطالبهم بثأري ... لأسقيهم به سما نقيعا فيرض لي ظليم بعد سبعٍ ... فأرميه فأتركه صريعا وكنت إذا القروم تعاورني ... جريء الصدر معتز منيعا بنى لي معشري وجدود صدق ... بذروة شامخ بيتا منيعا وعزا سامعا ثبت الرواسي ... ترى شم الجبال خضوعا

حمي الوطيس.

حمي الوطيس. تقدم في باب الهمزة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في الأمثال الحديثة. أحمى من مجير الجراد. الحماية: المنع. وتقول: حميت الشيء أحميه حماية إذا حفظته ومنعته. قال جرير: حميت حمى تهامة بعد نجدٍ ... وما شيء حميت بمستباح وتقول: أجرت الرجال أخيره إذا منعته من أن يظلم، فهو جار. وقال الشاعر: وكنت إذا جاري دعا لمضيفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري وجار الرجل واستجار: طلب أنَّ يجار؛ والجراد معروف، واحده جرادة للذكر والأنثى، ومجير الجراد هو مدلج بن سويد الطائي. وذكروا إنّه بينما هو ذات يوم في ظل خيمة إذ رأى قوما من طيء قد أقبلوا ومعهم الأوعية، فقال: ما شأنكم فقالوا: جراد بات بفنائك، فجئنا نأخذه. فلما سمع ذلك، قام إلى فرسه فركبه وتسلح وقال لهم: أيكون الجراد بفنائي وتريدون أخذه؟ والله لا يعرض له أحد منكم إلاّ قتلته! فلم يزل يحرسه حتى طلعت عليه الشمس وطار، فقال: شأنكم الآن به، فقد تحول الآن عن جواري! فضرب به المثل. حن حنين الثكلى تقدم معنى الحنين: التي فقدت ولدها وتقدم أيضاً. وحنين الثكلى شديد، كما تقدم في قولهم: أحر من دمع المقلات. وقالت أسماء المرية: فإن بأكناف الرغام غريبه ... مولهة ثكلى طويلا نئيمها وقال الخنساء في الثكلى من الإبل وحنينها: فما عجول على من تحن له ... لها حنينان: إعلان وإسرار

حن قدح ليس منها.

ترتع ما غفلت إذا أذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر وللدهر إحلاءٌ وإمرار ونحوه قول عبد الله بن الزبير الأسدي: رمى الحدثان نسوة آل زيدٍ ... بمقدارٍ سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا فإنك لو سمعت دعاء باكيةٍ حزينٍ ... أبان الهر وأحدها الفقيدا حنَّ قدحٌ ليس منها. هذا المثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم أو يمتدح بالشيء ليس من أهله. يروى أنَّ عقبة بن أبي معيط لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله قال: أأقتل من بين قريش؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حن قدح ليس منها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل أنت إلاّ يهودي من صفورية؟ وذلك أنهم ذكروا أنَّ أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. فوقع على أمة يهودية للخم من صفورية يقال لها ترنى فولدت له ذكرا فاستلحقه أمية وكناه أبا عمرو وهو أبو أبي معيط. حنت ولا تهنت. هذا المثل لمازن بم مالك بن عمرو بن تميم وذلك أنَّ الهيجمانة بنت العنبر بن عمرو بن تميم بن مر كان عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها. فنهاه قومها عن ذلك فأبى حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها. فأغار عليهم عبد شمس في جيشه فعلمت به الهيلمانة فأخبرت أباها. وكانوا يعرفون إعجاب الهيلمانة به كإعجابه بها. فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك: حنت ولا تهنت! وأنى لها مقروع؟ ومقروع عبد شمس كان يلقب به، لأن القريع والمقروع في كلام العرب هو المختار

حور في محارة

فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية اصدقيني! كذلك هو؟ فانه لا رأي لمكذوب. فقالت: ثكلتك إن أكن صدقتك فانج لا أخالك ناجيا! فذهبت كلمة مازن وكلمته وكلومتها أمثالا. فقال مازن: حنت ولا تهنت أراد أنها إنما كان غرضها أن تذكر عبد شمس ليجري اسمه على لسانها حبينا إليه وشوقا لا شفقة على قومها ولا نصحا لأبيها ولا تحذيرا. وقوله: ولا تهنت دعاء عليها أي: لا هناها الله بذلك! وأراد: لا تهنأت بالهمز من الهناء ثم خفف الهمزة وقلبها ألفاً ثم حذف الألف لملاقاة التاء الساكنة كما في نظائره. قيل: ويحتمل أن يريد: ولات هنا أي ليس هذا الوقت أو: أنَّ ذلك ولا حينه كما قال الأعشى: لات هنا ذكرى جبيرة أم من ... جاء منها بطائف الأهوال! أي ليس هذا حين ذكرها يأسا منها. وكما قال الراعي: أفي أثر الأظعان عينك تطمح؟ ... نعم! لات هنا إنَّ قلبك متيح! وكما قال جحل بن نضلة الباهلي: حنت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أحنت لمّا رأت ماء السلى شربا لها ... والفرث يعصر في الإناء أرنت وفي إعرابه كلام مبين في علم النحو. والتاء في لات لتأنيث الكلمة كما قيل في رب وثم ربت وثمت. وقيل إنها بدل من الألف لأن التاء تبدل من الألف عند الوقف وعند السجع كما قيل: من بعدما وبعدما وبعدمت ... صارت نفوس القوم عند الغلصمت حورٌ في محارةٍ الحور بضم الحاء وفتحها وهو مضموما: الهلاك والنقصان ومفتوحا النقصان أيضاً والرجوع. يقال: حار إليه بحور حورا: رجع. قال مهلهل بن ربيعة التغلبي:

حيل بين العير والنزوان.

أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري! أي: لا ترجعي! والمحاورة النقصان أيضاً. ومعنى المثل: نقصان في نقصان. يقال للرجل يكون أمره في إدبار أو للرجل ينقص بعد الزيادة ويكون صالحا فيفسد ولمن لا يصلح. ومن ورود الحور بمعنى النقصان قول الشاعر: واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدروا ... والذم يبقى وزاد القوم في حورِ حيل بين العير والنزوان. تقول: حال الشيء بيني وبين كذا يحول حيلولة: منعني منه؛ وحيل بين زيد وبين كذا. قال تعالى) وحيلَ بينهم وبينَ ما يشتهونِ (؛ والعير بالفتح الحمار وسيد القوم أيضاً؛ والنزوان مصدر قولك: نزا الفحل على الأنثى ينزو عليها نزوا ونزوانا. والمثل يضرب للرجل يعوقه عن مطلبه عائق. وهو قول صخر بن عمرو بن الشريد: أهم بفعل الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان وسنذكره وما يتعلق به في الأمثال الشعرية إن شاء الله تعالى. حال الجريض دون القريض. الجرض الريق يغص به. يقال: جرض الرجل بريقه يجرض كفرح يفرح إذا ابتلعه بجهد على هم وحزن؛ والجريض الاختناق بالريق على الموت. قال امرؤ القيس: كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريضِ ويقال: هو يجرض على نفسه أي يكاد يقضي ومن ذلك قول امرئ القيس أيضاً: وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب والقريض: الشعر. ومعنى المثل أنَّ الاختناق بالريق منع من قول الشعر فيضرب في كل أمر يعوق عنه عائق.

حول حابله على نابله.

وأوّل من قاله جوشن الكلابي. وكان أبوه منعه من قول الشعر فمرض حزنا فرق له أبوه وقد أشرف فقال له يا بني انطق بما أحببت! فقال: هيهات! حال الجريض دون القريض. قيل: وأنشد: عذريك من أبيك بضيق صدري ... فما تغني بيوت الشعر عني! وقيل أول من قاله عبيد بن الأبرص حين وفد على النعمان في يوم بؤسه وأيقن بالموت وقال له النعمان: أنشدني! فقد كان يعجبني شعرك فقال عبيد: حال الجرض دون القريض! وقد تقدمت قصته في حرف الهمزة مستوفاة. وقال أبو محمد الحريري رحمه الله تعالى: ما بات جارٌ لهم ساغباً ... ولا لروع قال: حال الجريض حوَّل حابله على نابله. الحابل هنا السدى؛ والنابل اللحمة وقد تقدما. ومعنى حول حابله على نابله جعل أعلاه أسفله وهو ظاهر. حوالينا لا علينا. يتمثل به كثيرا وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين استصحى فقال: اللهم حوالينا ولا علينا! أي أنزل المطر حوالينا ولا تنزله علينا! والحديث مشهور. وقال مشيرا إلى ذلك على طريق الاقتباس الصاحب بن عباد: أقول وقد رأيت لها سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا وقد سحت عزاليها يهطل: ... حوالينا الصدود ولا علينا! وتقول: جلست حول الرجل وحوليه وحواليه وأحواله مفتوحات الأول وكلها بمعنى واحد.

حيث لا يضع الراقي أنفه.

حيث لا يضع الراقي أنفه. حيث من ظروف المكان؛ والوضع: الطرح والجعل. تقول: وضعت الشيء أضعه بفتح الضاد فيهما؛ والرقية بضم الراء العوذة رقاه يرقيه رقيا فهو له نفث في عوذته. قال عروة بن حزم: فما تركا من رقية يعلمونها ... ولا شربة إلاّ بها سقياني وهذا المثل يضرب في الأمر لا يدنى ولا يقرب منه. قال أبو علي القالي: وكأنهم يرون أنَّ أصل ذلك ملسوعا لسعا في آستة فلم يقدر الراقي أن يقرب أنفه مما هناك. انتهى. قالت: وأورده أبو عبيد في أمثاله بلفظ جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه وقال إنّه يضرب في الجناية لا دواء لها. فقال البكري عن أبن الكلبي: أوّل من نطق بهذا المثل امرأة من العرب وأظنها زوجة حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم أو بنته وكان حنظلة شيخا كبيرا. فأصابتهم ليلة ريح ومطر وبرق. فخرجت تصلح طنب بيتها وعليها صدار. فأكبت على الطنب وبرقت السماء برقة فأبصرها مالك بن عمرو بن تميم وهي مجيبة فشد عليها حتى خالطها فقالت: يا حنظل بن مالك لحرها ... يشفى بها من ليلةٍ وقرها! فأقبل بنوها وزوجها فقالوا لها: مالك؟ فقالت: لدغت. قالوا: أينه؟ فقالت: حيث لا يضع الراقي أنفه. فذهبت مثلا. ومات حنظلة بن مالك فتزوجها مالك بن تميم صاحب اللدغة فولدت له نفرا. أحير من برغوث. تقول: حار الرجل يحار حَيرة وحِيرة وتحيرا: إذا نظر فلم يهتد؛ والبرغوث بضم الباء معروف. قال الأعرابي: إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيلُ؟ وهو يطير إلى وراء وذلك من لطف الله تعالى به ليرى من يكيده.

أحير من ضب.

أحير من ضب. الحيرة تقدمت، والضب معروف يوصف بالحيرة، وذلك انهم يزعمون إنَّ في طبعه النسيان وعدم الهداية، ولذلك يحفر حجره عند صخرة، أو في أكمة ليلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، وذلك توجد براثينه كليلة من حفرة الكدى والأماكن الصلبة، كما قال خالد بن علقمة: ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى براثينه الحفر وتقدم شيء من هذا في الباء. الحية من الحيية. الحية معروف يقع على الذكر والأنثى، والتاء فيه للوحدة من الجنس، كالبطة والدجاجة وحكى بعض الأقدمين: رأيت حيا على حية، أي ذكر على أنثى. ومعنى المثل أنَّ الأمر العظيم ينشأ عن الأمر الصغير، وهو كقولهم: العصا من العصية، وسيأتي. وقريب من قولهم: إنَّ السقط يحرق الحرجة، وقد تقدم. وقد جعل بعضهم نظير هذا المعنى من كتاب الله قوله تعالى:) ولا يلدوا إلاّ فاجرا كفارا (. أحيى من ضب. يقال: حيي الشيء بالكسر يحيى حياة فهو حي؛ والضب معروف ووصف بكثرة الحياة وطول عمره. فقد ذكر إنّه يعيش سبعمائة سنة أو أكثر، ولا تسقط له سن، ويبول كل أربعين يوما مرة واحدة. قال الشاعر: إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل والصخر مبتل كطين الوحل والحسل بالكسر ولد الضب ومن ثم يقال للضب أبو حسل؛ والفطحل على مثال هزبر فيما يزعمون: زمان كانت الصخر فيه رطبة.

حبا وكرامة.

ومما يلحق بهذا الكتاب قولهم: حبا وكرامة. يقول الرجل لآجر إذا طلبه شيئاً: نعم وحبا وكرامة. ويقال أيضاً: حبة وكرامة. والحبة بضم الحاء بمعنى الحب؛ والكرامة من الإكرام، ويقال أيضاً: حبا وكرامة، وحبا وكرمانا بضمها وقيل المراد بالحب هنا الحب الذي هو الجرة العظيمة وهي الخابية والكرامة غطاء الجرة. وقد يقال: أفعل كذا حبا وكرامة لك بالفتح وكرما وكرمة وكرمى وكرمة عين بضم الكل وليس له فعل ظاهر. وقولهم: حطني القصا. أي تباعد عني، والقصا البعد، ويقال قصا الشيء يقصو قصوا، وقصي الرجل عن جواري بالكسر يقصي قصى أي تباعد. والقصا أيضاً فناء الدار ويمد والناحية. يقال. ذهبت قصا فلان، أي ناحيته. وقال الشاعر: فحاطونا القصا ولقد رأونا ... قريبا حيث يستمع السرار قال في الصحاح، عن الأصمعي: معنى حاطونا القصى أي تباعدوا عنا وهم حولنا وما كنا بالبعد منهم لو أرادوا أنَّ يدنوا منا. انتهى. وقولهم: تحللت عقد فلانٍ. أي سكن غضبه. ومن الأمثال المشتهرة في هذا الباب على ألسنه الناس قولهم: أحسن من نار القرى. كانت خولة بنت منظور بن زيان أجمل نساء قومها، فقدمت المدينة لزيارة أختها زوجة عبد الله بن الزبير، فسمع الناس بها فخطبوها وفيهم الحسن بن علي رضي الله عنه. فجعلت

أحقر من ذباب وأحقر من قلامة.

أمرها بيدي أختها، فوكلت أبن الزبير فزوجها من الحسن. فلما بلغ الخبر أباها جاء المدينة فركز رأيته عند المسجد ونادى: يا آل قيس! فلم يبقى قيسي إلاّ دخل تحت رايته. فبلغ ذلك الحسن فجاء إليه فقال له: شأنك بابنتك! فجاءها فحملها معه. فلما خرجا قالت له: أو يرضى أحد بمثل فعلك؟ الحسن بن علي وفاطمة، وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، أين تجد مثله؟ فقال: صدقت، ولكن تعالي ننزل بقبا. فإن كان له غرض فيك فسيلحقنا! فبينما هم هنالك اقبل الحسن والحسن وأبن جعفر وأبن العباس، فردها إليه. فولدت للحسن الحسن المثنى، أكبر ولده. ولم تزل عنده حتى مات. فكثر خطابها، فقالت: والله لا كان لي حمء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكشفت القناع وبرزت للرجال في هيئة المتجالات، فيئسوا منها عند ذلك. وكانت معروفة بفعل الخير والتفضل ويقصدها الناس في حوائجهم فتقضيها. وعاشت كثيراً. فحكي عن معبد المغني قال: جئتها ألتمس معروفا، وهي عجوز، وغنيتها شعراً قاله فيها بعض من أراد تزويجها وهي شابة فلم تنكحه ومنه: قفا في دار خولة فاسألاها ... تقادم عهدها وهجرتماها بمحلال كأن المسك فيه ... إذا فاحت بأبطحه صباها فطربت وأهتزت وقالت: يا عبد بني قطن، أنا والله يومئذ أحسن من نار القرى في عين التائه الصدي! وقولهم: أحقر من ذباب وأحقر من قلامة. وهو ما يزال من الظفر. وهذا باب مطرد. وقولهم: أحير من طير في شبكة. يريدون الطير المقنوص في شبكة الشديد الاضطراب والموجان؛ وقولهم: أحير من بقة في حقة. ونحو هذا.

حل عبستك، ما أردت خبزتك!

ومن الأمثال العامية قولهم: حل عبستك، ما أردت خبزتك! يضربون للرجل يعجز إنَّ يجامل الناس بحسن خلقه فضلا عن إنَّ يسامح بنداه. وقولهم: الحمار حماري وأنا أركب من وراء! وقد آن أنَّ نذكر في هذا الباب ما يتيسر من الشعر. قال الشاعر: أخاك أخاك، إنَّ من لا أخاله ... مساع إلى الهيجا بغير سلاح وإنَّ أبن عم المرء فأعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟ وقال الآخر: وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا يريد النعامة، وقد تقدم ذلك فيها. وقال عروة بن الورد: وقلت بقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا وإنَّ رزح تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح وسيأتي ما يناسب هذا المعنى، إن شاء الله. ومن يكن مثلي ذا عيال ومقترا ... يغرر ويطرح نفسه كل مطرح ويبلغ عذرا أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس مثل منجح والكنيف حظيرة تعمل للماشية تحفظ فيها؛ والرزح جمع رازح وهو الساقط المعيي هزالا، وهو نعت القوم؛ والحمام بكسر الحاء الموت وجعله مبرحا أي شاقا لطوله لأنهم يبقون حتى يموتوا جوعا. وذلك أنَّ عروة مر بقوم من أهله قد جهدوا على أنفسهم حظيرة، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنا جهدنا وخفنا على أنفسنا السباع، فعملنا هذا نبقى فيه حتى نموت. فلامهم على ذلك واستنهضهم لطلب الرزق. فسار بهم حتى نزلوا ماء يقال له ماوان لبنى فزارة. فمر بهم راكب معه ظعينة على بعير ومائة ناقة. فقام إليه عروة فقاتله حتى قتله.

فأخذ ذلك وقسمه على أصحابه. وقوله: ومبلغ نفس عذرها مثل منجح: مثل سائر عند القوم: ويريد به أنَّ من جد في الطلب، عانى المشقة والتعب، فهو إنَّ ظفر فذلك ما يسعى إليه، وإنَّ لم يظفر فلا ملامة عليه، كما قال امرؤ القيس: نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال أبن هرمة: يحب المديح أبو ثابتٍ ... ويفرق من صلة المادح كبكر تشهى لذيذ النكاح ... وتجزع من صولة الناكح وقال الحماسي عمرو بن الاطنابة الأنصاري: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح الإجشام: الإكراه على تحمل المشقة؛ والمشيح والشائح: الجاد في الأمر؛ وجشأت نفس الرجل: تحركت واضطربت من جزع أو حزن؛ وجاشت: ماجت واضطربت، ومنه الجيش، لموجانه بعضه في بعض؛ والمآثر ما يذكر عن الإنسان ويؤثر عنه؛ والعرض الصحيح: الذي لم يتعلق به عيب فيمرضه. وقال جميل بن معمر: أريد صلاحها وتريد قتلي ... فشتى بين قتلي والصلاح! وقبله: تنادى آل بثنة بالرواح ... وقد تركوا فؤادك غير صاح فيا لك منظرا ومسير ركبٍ ... شجاني حين أمعن في الفياحي ويا لك خلة ظفرت بعقلي ... كما ظفر المقامر بالقداح! وبعده أريد صلاحها " البيت " لعمر أبيك لا تجدن عهدي ... كعهدك في المودة والسماح

ولو أرسلت تستهدين نفسي ... أتاك بها رسول في سراح وقال أبو الطيب: وما ترك الشعر إلاّ إنّه ... تقصر على نفسي وصف الأمير المدائح قلت: وما أحق أنَّ يتمثل بك بهذا عند ترك الاشتغال بمديح النبي صلى الله عليه وسلم! فإن أكثر الفحول تركوه واشتغلوا بمديح غيره. وما ذلك إلاّ عجزاً: فإن نباهة مكانه صلى الله عليه وسلم، وجلالة جانبه تبهر العقل وتحير الفكر، فلا يستطيع إنَّ يجول فيه، ولو جال لقصر. وقد ذكر أبن الخطيب رحمه الله هذا المعنى في صدر كتاب السحر والشعر له، بعد إنَّ ذكر مقطعات لبعض الأدباء في مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال وكما أنَّ الشعر لم يتعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي له لئلا يرتاب المبطلون، وذلك في حقه الكامل، بخلاف غيره، كذلك يبعد أو يمتنع أنَّ وجد قسم السحر في مدحه، إذ أصله الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجين، حتى قال: ووقار جانبه صلى الله عليه وسلم يبهر النفس ويمنع من استرسالها في ذلك. فالمجيد فيه من عول على نصاعة اللفظ، وقصد الحق، وقرب المعنى، وإيثار الجد. انتهى. قلت: ومن أسباب ذلك إنَّ المديح إنّما يحسن لاشتماله على المحاسن وأوصاف كمال للممدوح، ويتفطن لها الشاعر دون غيره، ويبالغ فيها أكثر مما يستحق الممدوح ويظن به. وقد علم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل ما يتخيله الشاعر من المحاسن والكمالات، فالنبي صلى الله عليه وسلم زائد على ذلك وارفع منه إذ لا يبقى فوق كماله صلى الله عليه وسلم إلاّ كمال الألوهية، وليس لأحد أنَّ يثبته له، فلم يبق للشاعر إلاّ إنَّ يبين ما هو عليه أو أنقص، وكلاهما لا طائل فيه، مع أن إتيان قدره صلى الله عليه وسلم نتعذر عادة، إذ لا تصل إليه العقول فليس إلاّ القصور. ولله در القائل: ما قصر الشعراء فيك تعمدا ... بل دق في أفكارهم معناكا نعم! يمكن الإتيان بشيء من حلاه صلى الله عليه وسلم وأوصفه على نوع من الغرابة وضرب من المبالغة، بحسب ما يرى الناس من حاله صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضاً: أيكون الهجان غير هجان؟ ... أيكون الصراح غير صراح؟ جهلوني وإنَّ عمرت قليلاً ... نسبتي لهم رؤوس الرماح وقال أيضاً: تخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح وقال أيضاً: فقلت لكل حي يوم سوء ... وإنَّ حرص النفوس على الفلاح وقال أبو العلاء المعري: وأمراض المواعد أعلمتني ... بأن وراءها سقما صحيحا وقال: أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا وقال: وما للمسك في أنَّ فاح حظ ... ولكن حظنا في أنَّ يفوحا وقال: وذلك إنَّ شعرك طال شعري: ... فما نلت النسيب ولا المديحا ومن لم يستطع علام رضوى ... لينزل بعضها نزل السفوحا وهذا في معنى ما مر لأبي الطيب: وقال الشاعر: إذا أبطا رسولك فارج يسرا: ... ففي إبطائه أثر النجاح! وهذا يشبه قول أبي الطيب: ومن الخير بطئ سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام وقال الآخر: إذا أنت لم تصلح لنفسك لم تجد ... لها أحداً من سائر الناس يصلح وقال الآخر: جبينك والعمامة والثنايا ... صباح في صباح في صباحٍ

وقال الآخر: دع الناس طرا واهجر الناس كلهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح! وقال الآخر: صديق بلا عيب قليل وجوده ... وذكر عيوب الأصدقاء قبيح وقال الآخر: طلبت بك التكثير قلة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الربح وقال الآخر: كأنني الجزار في فعله: ... ما قال بسم الله إلاّ ذبح وقال الآخر: كن في أمان الله من خاطر: ... مثلك لا يهجى ولا يمدح وقال الآخر: ليس عاراً بان يقال مقل: ... إنّما العار أنَّ يقال شحيح ومثله قول الآخر: ألم تعلمني يا عمرك الله إنني ... كريم على حين الكرام قليل وإني لا أخزى إذا قيل مملق ... كريم وأخزى أنَّ يقال بخيل قول الآخر من شعراء الحماسة: أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل وليس الغنى إلاّ غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل وقال إحسان بن حنظلة: تلك ابنة العدوي قالت باطلا ... أزرى بقومك قلة الأموال أنا لعمرك أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال وقول الآخر: لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح وقول الآخر: بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلا يقلن: ألا ترى ما صنع؟ فأتيت مالك في السفاه، وإنما ... أمر السفاهة ما أمرنك أجمع

وقتود ناجية وضعت بقفرة ... والطير عاشية العوافي وقع بمهند ذي حليةٍ جردته ... يبرى الأصم من الكعوب ويقطع لتنوب نائبة فيعلم إنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخره ودنيا تنفع وقول أبي زياد الأعرابي: له نار تشب على يفاعٍ ... إذا النيران ألبست القناعا ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا وقول الآخر: وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع وقال الآخر: وتبا لمن بخلت نفسه ... بشيء يؤول إلى المستراح أي: المرحاض: وقال الآخر: وشيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال، وخل في الحقيقة ناصح وقال الآخر: ويؤلمني جميل لا أكافا ... عليه كأنه عندي قبيح وقال الآخر: هجوت زهيرا ثم أني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح وقال الآخر: لا يصحب الإنسان في قبره ... غير التقى والعمل الصالح وقال الآخر: وما العيش إلاّ في خمول مع الغنى ... وعافية تغدوا بها وتروح وقال الآخر: وما كل حين يصدق المرء ظنه ... ولا كل أصحاب التجارة يربح وقال معن بن أوس: رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح

وقال الآخر: ولا تفش سري إلاّ إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا! فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا وقيل: وكان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يتمثل بهذين البيتين كثيرا، وقيل انهما له. والأديم: الجلد، استعير هنا للعرض، وجعل لام الوشاة سهاما يرما بها الأعراض حتى تهتكها. ومثله قول أبن الخياط: فلا تعدل إلى الواشين سمعا ... فإنَّ كلام أكثرهم كلام وإنَّ الود عندهم نفاق ... إذا طاوعتهم والحمد ذام وأقوال إذا سمعت سهام ... تقصر عن موقعها السهام فلما نصحوا لمجدك بل مراداً ... لمّا قد ساءني قعودا وقاموا فليتك تسمع القولين حتى ... تبين في من الحق الخصام! وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية ترثي أخاها وقيل ليلى بنت يزيد بن الصعق ترثي ابنها قيس بن زياد: لقد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد مات خير فوارس ورماح وإذا دعت قمرية شجبنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحي وتمثلت بها فاطمة أم السبطين رضي الله عنها يوم وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. ومعنى: دعوت صباحي أي قلت: وأسوء صباحاه! لعدم ناصري فيه. وفي معنى الأول قول أبي الوفاء يرثي غازي: أيا تاركي ألقى العدو مسلما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه وقال سعد بن قيس: كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح فالهم بيضات الخدور ... هناك لا النعم المراح

والضمير في كشفت للحرب في قوله: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا وكشف الساق كناية عن اشتدادها، أخذ من كشف الرجل عن ساقه وتشميره إذا جد في الأمر، كما قيل: وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... اشمر حتى ينصف الساق مئزري والصارح: الخالص أصله اللبن الذي ذهبت رغوته، كما مر؛ فالهم بيضات الخدور الخ. . فيه وجهان: أحدهما إنّه يقول: أما حينئذ لا نبالي بأموالنا أن تذهب، وإنّما همنا الدفع عن حريمنا؛ والآخر: إنَّ يريد: أنا ظهرنا على العدو ولم نلتفت إلى أموالهم وأخذها، وإنما همنا منهم القتل والسباء وهو أفخر. وقال أحد بني يشكر: إلاّ أبلغ بني ذهل رسولا ... وخص إلى سراة بني البطاح بأنا قد فتلنا بالمعلى ... عتيبة منكم وأبا الجلاح فإن ترضوا فأنا قد رضينا ... وإنَّ تأبوا فأطراف الرماح مقومة وبيض مرهفات ... تبين جماجما وبنان راح وقال الحيض بيض: ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح ويحكى عن بعضهم قال: رأيت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يؤثم على ولدك الحسين مآثم؟ فقال لي: أسمعت أبيات الصيفي في هذا، وهو الحيص بيض؟ فقلت: لا. قال: اسمعنا منه! قال: فانتبهت، فلما أصبحت بادرت إلى دار الحيص بيص فأخبرته بالقصة فبكى وحلف بالله ما خرجت من فيه إلى أحد وما نظمها إلاّ في ليلته، فأنشدني: ملكنا فكان العفو منا البيتين. وقال الحماسي أحد بني الحارث بن كعب: لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح

وقال مالك بن أسماء، من شعراء الحماسة أيضاً: وحسبك تهمة ببرئ قومهم ... يضم على أخي سقم جناحا وقبله: هجوت الأدعياء فنا صبتني ... معاشر خلتها عربا صحاحا فقلت لهم وقد نجوت طويلا ... إلى وما أجبت لهم نباحا أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا؟ وحسبك " البيت " والمناصبة: المعاداة. ويقول: إنَّ عاديتموني بسببهم وذهبتم عنهم، فأنتم منهم ولا أهجوكم للؤمكم، وكفى بكم ريبة إنَّ تضموا الجناح على المريبين. وقال الآخر: وإني لأغلي لحمها وهي حية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح بذا فآندبيني فإنني ... فتى تعتريني هزة حين امدح وتقدم هذا الشعر وما كان بمعناه. وقال الآخر: ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومة للمرء ذي الطعم فاضح وقبله: دعاني أبو نصر وأهدى نصيحة ... إلي ومما أنَّ تعز النصائح لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح أو البرجمي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح ورأي أبي سعد وإنَّ كان حازما ... بصير وإنَّ ضاقت عليه المسارح أعان به ملعون نبهان سيفه ... على قومه والقول عاق وجارح ونصر الفتى في الحرب " البيت " وقوله: لأجزر لحمي أي: أصير نفسي جزرة، والجزرة البدنة تنحر. قال: عنترة: إنَّ يعفرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم

والقاسطي الذي ذكره هو أحد القارضين الهالكين، وسيأتي فيهما المثل؛ والبرجمي هو وافد البراجم المتقدم؛ وقوله: للمرء ذي العقل والمعرفة. وقال الحماسي أشجع السلمي: مضى أبن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلاّ له فيه مادح وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح فاصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح فما أنا من رزء، وإنَّ جل، جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلاّ عليك النوائح! وقال أبن المعتز: كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون الطوامح ومن هذا قولهم: طول المجالسة يخلق: وقد قال أزدشير لأبنه: لا تمكن الناس من نفسك: فإن أجرا الناس على الأسود أكثرهم لها معاينة! وقال أبو بكر بن النطاحي في المدح: يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنى يوجه وقاح هكذا هكذا، المعالي: ... طرق الجد غير طرق المازح! والبيت الثاني ذهب مثلا سائرا. وقال مجد الدين الاربلي: طرفي وقلبي: ذا يسيل دما، وذا ... بين الورى أنت العليم بقرحه وهما بحبك شاهدان وإنّما ... تعديل كل منهما في جرحه ونحو هذا من التوجيه قول الآخر: زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... يوما زيارة قبره بالتارك فوجدت مولاي الحبيب يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك وقول الآخر: وعاطيته علم البديع وخده ... يعلمني تلوينه علم جابر وصفحت من شوقي مدونة الرضى ... لثغر فأفتاني بنص الجواهر وقول الآخر: لا غزو إنَّ يصلي الفؤاد ببعدكم ... نارا تؤججها يد التذكار:

قلبي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار! وقال الآخر في هذا المعنى: إلاّ إنَّ حالي في هواك خفيفة ... ولكن لعيني بالصبابة تبريح عجبت لدمع لا يزال مرويا ... فيقبل في آثاره وهو مطروح وأعجب من ذا أن خدي شاهد ... يصادق في أقواله وهو مجروح وقال أيضاً: ومحكم اللحطات في مهج الورى ... تحكيم نار هواه بين جوانحي جريح الفؤاد فطار من ولع به ... فكيف الخلاص لطائر من جارح؟ ومثله أيضا قوله: أحادثه بالفكر فهو منادمي ... على الدهر لا أبغي عليه بديلا تملك قلبي فهو رهن اعتقاله ... فمن شاء يبصر مالكا وعقيلا وتقدم لنا هذا المعنى في حرف الثاء، مستوفى، وسنعيد منه كثيرا. وقال القاضي أبو الفضل عايض رحمه الله: انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح كتبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح ومثله قوا الآخر: فتح الشقائق جرحها ومغنمها ... وشيء الربيع، وقلاها من الثمر لأجل هذا إذا هبت طلائعه ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر ونحو هذا من حسن التعليل في هذا المعنى قولي: إنَّ بين الغمام والزهر الغض ... لرحما قديمة وإخاء بان إلف عن إلفه فتوارى ... في الثرى ذا وذاك حل السماء فإذا ما لغمام زارت جانبا ... أذنت فيه بالحبيب اللقاء ذكرت عهده القديم فحنت ... عند لقياه فاستهلت بكاء فترى الزهر بارزا من خباياه ... يحيى الوفود والأصدقاء بادي البشر والبشاشة جذلا ... ن لبوسا من كل لون رداء ثملا من شموس شمس الضحى ... وهو على بسط سندس خضراء

راقصات والصبا تهنيه والو ... رق غواني القيان تشدو غناء وما رأيت أحدا ولا أظنه سيبقي إلى هذا المعنى، ولا تصريحا ولا تلويحا. وقال الحسن بن هانئ: مازلت أشرب روح الزق في لطفٍ ... وأستميح دما من غير مجروح حتى أغديت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح وقال أيضاً في هذا المعنى: أذكى السراج وساقي القوم يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح كدنا على علمنا للشك نسأله: ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح؟ وسيأتي هذا المعنى مستوف في بعد. وقال أبن الخياط في صفحة الحساب: أخفى مسالكها الظلام فأوقدت من برقها كي تهدي مصباحا وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا وتقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقال عبد الله بن المعتز: كأن سماءنا لمّا تجلت ... خلال نجومها عند الصباح رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتح بينه نور الأقاح وقال أبن الزقاق: فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... تعانقني حتى الصباح صباح على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح وقال إدريس بن اليماني: ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح حفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح وقال الآخر في وصف الروض: ورياض من الشقائق أضحت ... تتهادى بها نسيم الرياح زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيبا: ... سرقت حمرة الخدود الملاح! وقال الآخر في زورق: لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... بيدي لهم لمح السرور مراحة

وقد استداروا تحت ظل شراعه ... كل يمد بكأس راح راحه لحسبته خوف العواصف طائرا ... مد الحنان على بنيه جناحه وقال أبن الرومي: قالت: علا الناس إلاّ أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان مارجحا وقال أبو إسحاق بن الحاج: يا مالكي بصبيح وجهٍ حسنه ... أربى على فلق الصباح الأوضح ما شك قلبي فيك أنك مالك ... لمّا عرفت وسامة بالإصباحِ وقال سيف الدولة: لا أواخذك بالجفاء فإني ... واثقٌ منك بالوفاء الصريحِ فجميل العدو غير جميلٍ ... وقبيح الصديق غير قبيحي! وقال مهيار: اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا وقال شرف الدين الحموي شيخ الشيوخ: حديثي في المحبة ليس يبرح: ... فدعني من حديث اللوم واسرح فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح فكم من لائم ألحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح! له طرفٌ يقول: الحرب أحرى ... ولي قلبٌ يقول: الصلح أصلح سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه: الله يفتح وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح وحياني بألحاظٍ مراضٍ ... صحيحاتٍ فأمرضني وصحح أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فأتركه وأربح وقال عبد المحسن الصوري: وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثل ما مسني من الجوع قرحُ

بت ضيفاً له كما حكم الد ... هر وفي حكمه على الحر قبحُ فابتداني يقول وهو من السكر ... ة بالهم طافحٌ ليس يصحو: لم تغربت؟ قلت: قال رسول ... الله والقول منه نصح ونجح: سافروا تغنموا. فقال: وقد قال ... تمام الحديث: صوموا تصحوا! وقال أبن الوردي: قد عجبنا لأميرٍ ... ظلم الناس وسبح فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح وقال شهاب الدين الخفاجي وهو من باب التورية اللطيفة: وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجحُ قالوا: وصف جبينه ... فقالت: ذاك واضح! وقال أيضاً وفيه نحو ما في الذي قبله من التورية: لله أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح! ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت منه بحبيب وراح وقال أبو محمد الحريري: لزمان السفار وجبت القفار ... وعفت النفار لأجنبي الفرح وخصت السيول ورضت الخيول ... لجر ذيول الصبا والمرح ومطت الوقار وبعت العقار ... لحسو العقار ورشف القدح ولولا الطماح إلى شرب راح ... لمّا كان باح فميبالملح ولا كان ساق دهئي الرفاق ... لأرض العراق بحملي السبح فلا تغضبن ولا تصخبن ... ولا تعتبن فعذري وضح ولا تعجبن لشيخ أبن ... بمغنى أغن ودن طفح: فإنَّ المدام تقوي العظام ... وتشفي السقام وتنفي الترح وأصفى السرور إذا ما الوقور ... أماط ستور الحيا وأطرح وأحلى الغرام إذا المستهام ... أزال اكتتام الهوى وافتضح فبح بهواك وبرد حشاك ... فزند أساك به قد قدح وداوي الكلوم وسل الهموم ... ببنت الكروم التي تقترح

وخص العبوق بساق ... بلاء المشوق إذا ما طمح وشاد يشيد بصوت تميد ... جبال الحديد له إن صدح وعاص النصح الذي لا يبيح ... وصال المليح إذا ما سمح وجل في المحال ولو بالمحال ... وجع ما يقال وخذ ما صلح وفارق أباك إذا ما أباك ... ومد الشباك وصد من سنح وصاف الخليل وناف البخيل ... وأول الجميل ووال المنح ولذلك بالمتاب أمام الذهاب ... فمن دق باب كريم فتح وقال أيضاً: نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراحِ؟ وهل يجوز اصطباحٌ من معتقةٍ ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي أنَّ ليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاحي ولا اكتست لي بكاسات السلاف يدٌ ... ولا أجلت قداحي بين أقداح ولا صرفت إلى صرفٍ مشعشعة ... همي ولا رحت مرتاحا إلى راح ولا نظمت على مشمولة أبداً ... شملي ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي محا المشيب مراحي حين خط على ... رأسي: فأبغض به من كتاب ماح! ولاح يلحى على جري العنان إلى ... ملهى: فسحقاً له من لائح لاح! ولو لهوت وفودي شائب لخفى ... بين المصابيح من غسان مصباحي قومٌ سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيفٌ له التوقير يا صاح! وقال أيضاً: أعدد لحسادك حدّثني السلاح ... وأورد الأمل ورد السماح وصارم اللهو ووصل المهى ... وأعمل الكوم وسمر الرماح واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لادراع المراح والله ما السؤدد حسنو الطلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح واها لحر صده واسع ... وهمه ما سر أهل الصلاح

مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح ما اسمع للآمل ؤداً ولا ما طله والمطل لؤم صراح ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح سوده إصلاحه سرة ... وردعه أهواءه والطماح وحصل المدح له علمه ... ما مهر الحور مهور الملاح وقال عوف بن محلم: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميادٌ ففيم تنوحُ؟ أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيحُ ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريحُ وزعموا إنّه خرج مع عبد الله بن طاهر في بعض غزواته فسمع عبد الله يوما وهما يتسايران صوت حمامة فأنشد أبيات عوف ثم التفت إلى عوف وقال له: هل حضرك شيء في هذا المعنى وهذه القافية؟ فقال عوف: أفي كل عامٍ غربةٌ ونزوح؟ ... أما للنوى من ونيةٍ فتروحُ؟ لقد ظلم البين القذوف ركائبي: ... فهل أرين البين وهو طليحُ؟ وأرقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوحُ على أنها ناحت ولم تدر عبرةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوحُ وناحت جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التسيار وهي طريحُ فإنَّ الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالقترين نزوحُ فرق له عبد الله وصرفه إلى أهله بعطاء جزيل وقال: يصلك عطاؤك كل سنة لموضعك. وللشعراء قديما وحديثا الإكثار من ذكر الحمام والفواخت والورشان في أشعارهم واستحسان أصواتها. فمن مستحسن ما للأولين في ذلك قول الشاعر: سيغنيك عن مزمار آل مخارق ... وبربطهم تغريد تلك الحمائمِ بأيكة ناظر تجاوبن بالضحى ... على شاهقات آفلاتٍ نواعمِ

قول الآخر: أحن إلى حوائط ذات عرقٍ ... لتغريد الفواخت والحمامِ ألم بها بكل فتى كريمٍ ... من الفتيان مخلوع الزمامِ إذا غنت على الأغصان ورقٌ ... أجبناها بإعمال المدامِ وقول أبي صخر: ولمّا دعت غورية الأيك سجعت ... فسجع دموعي يستهل ويستشري يذكرني شجي دعاء حمامةٍ ... ويبعث لوعات الصبابة في صدري بكت حزناً رزء الهديل وشفني ... فراق حبيب ضاق عن فقده صبري وقول الآخر: أيها البلبل المغرد في النخ ... ليس غريبا من أهله حيرانا أفراقا تشكوه أم ظلت تعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا؟ هاج لي شجوك المغرد شجواً ... رب صوتٍ يهيج الأحزانا وقول حميد بن ثور: وما هاج هذا الصوت إلاّ حمامةٌ ... دعت ساق حر ترحةً وترنما محلاة طوقٍ لم يكن بتميمةٍ ... ولا ضرب صواغٍ بكفيه درهما تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع ... لنائحةٍ في نوحها متلوما إذا حركته الريح أو مال ميلةً ... تغنت عليه مائلاً ومقوما عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما! وقول الآخر: ومن بستان إبراهيم حنت ... حمائم بينها فننٌ رطيبُ وقول عدي بن الرقاع: ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسمِ إلى أن دعوت ورقاء في غصن أيكةٍ ... تردد مبكاها بحسن الترنمِ

فلو قيل مبكاها بكيت صبابةً ... بسعي شفيت النفس قبل التندمِ ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ وقال المجنون: وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطحِ تجافيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وخلفت ما خلفت بين الجوانحِ وزعموا أنَّ رجلا دخل بني عامر يسأل عن المجنون فقيل له إنّه في هذه لبصحراء قد استوحش وإنّه إذا رآك نفر منك؛ ولكن إذا رأيته فاجلس كأنك لا تقصده فانه يجلس إليك. فإذا جلس إليك فإن كان عندك شيء من شعرا بن ذريح فاذكره فانه يصغي إليك. قال: ففعلت ذلك. فلما جلس إلي قالت: ما أشعر قيس بن ذريح حيث يقول: وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذاراً لمّا قد كان أو هو كائنُ وقالوا: غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ بان أو هو بائنُ وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلاّ الله تعالى ما حان حائنُ قال: فبكى طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول: أبى القلب إلاّ حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرُ تكاد يدي تندى إذا لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضرُ عجبت لسعي الهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الهرُ ثم أوغل في الصحراء وتركني فانصرفت. فلما كان الغد رجعت فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول: يبيت ويضحى كل يومٍ وليلةٍ ... على منهج تبكي عليه القبائلُ قتيلٌ للبنى صدع الحب قلبه ... وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغلُ فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول: سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصرُ وأخيلتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذرُ ثم قام هاربا وتركني. فانصرفت ثم عدت في الغد فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول: هبوني امرءاً إن تحسنوا فهو شكرٌ ... لذاك وإن لم تحسنوا فهو صافحُ

فأن يك قومٌ قد أساؤوا بهجرنا ... فإنَّ الذي بيني وبينك صالحُ فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أما والله أشعر منه حيث أقول: وأدنيني حتى إذا ما سبيتني " البيتين ". ثم فر عني وانصرف. وعدت من الغد فلم أجده فأخبرت قومه فانطلقوا يطلبونه فوجدوه بعد يومين ميتا في شعراء بين حجرين. قلت: وفي البيتين المذكورين قال جرير لمّا أنشده إياها بعض أصحابه وهما متوجهان إلى الشام: لو كان النخير يصلح لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره من هاهنا! وقال أبن الدمينة: إلاّ يا حمى وادي المياه قتلتني ... أباحك لي قبل الممات مبيحي ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ أبى الناس ريب الناس لا يشترونها ... ومن ذا الذي يشتري دوى بصحيحِ؟ والدوى: المريض الشديد المرض والمرض الشديد أيضاً والأحمق. وينشد هذا الشعلا أيضاً على إسقاط البيت الأول وزيادة آخر وهو: أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب جريحِ ويحكى عن إبراهيم الموصلي المغني المشهور أنه قال: سألت الرشيد أن يهب لي يوما أخلو فيه بنفسي وكان أمره أن لا يتغيب عنه يوما أصلا قال: فقال لي إني أستثقل يوم السبت فآله فيه بما شئت! قال: فأعددت يوما شرابا وأطعمة منتخبة وأصبحت عازما على أن لا آذن لأحد. فأمرت البواب بإغلاق الأبواب وجلست وحولي جواري والخدم يترددون بين يدي فإذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال حسن الثياب بيده عكازة مقمعة بفضة وقد سطع منه ريح المسك حتى ملأ البيت. قال: فامتلأت غيظا على البوابو عزمت على غقوبته. فسلم علي الشيخ بأحسن السلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس. فجلس فأخذ في أحاديث العرب وذكر أيامها وأشعارها حتى أذهب ما بقلبي. وقلت: لعل البواب عرف أدبه فأراد مسرتي به فقلت له: هل لك في الطعام؟ فأبى. فقلت: هل لك في الشراب؟ فقال: ما أكرهه. فشربت وسقيته فقال: يا أبا إسحاق وهل لك أن تغني لنا من صنعك؟ فقد نبغت فيها عند الخاص والعام وأحسن فيها ما استطعت حتى نكافئك بمثلها! فأخذت العود وغنيته أصواتا حسانا في كلها يقول: أحسنت يا سيدي! ويطرب ويستزيدني. ثم وضعت العود فقال: أتأذن لعبدك في الغناء؟

فاستصعبت لكني أذنت له. فلما أخذ العود وجسه خلته والله ينطق بلسان عربي. ثم اندفع يغني: ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمه. فو الله لقد ظننت أنَّ الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يغني معه حتى خلت عظامي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام لمّا خالط قلبي. ثم غنى: ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبينُ دعون بترديد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنونُ فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيونُ فكاد والله عقلي يذهب طربا وارتياحا لمّا سمعت. ثم غنى: ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد. ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدِ لقد زعموا أنَّ المحب إذا دنا ... يمل وأنَّ النأي يشفي من المجدِ بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعدِ على أنَّ قرب الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان من تهواه ليس بذي ودِ ثم قال: يا إبراهيم هذا الشعر الماخوري فانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك! فقلت: أعده علي! فقال: لست تحتاج إلى إعادته. فغاب عن بصري فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو الباب فوجدته مغلقا. فسألت البواب عن الشيخ فقال: والله ما دخل علي اليوم أحد! فرجعت متحيرا فإذا هو هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك أبا إسحاق! فقال هو إبليس اخترت مندمتك اليوم فلا ترع! فال إبراهيم: فركبت من فوري إلى الرشيد وقلت: لا أطرفه بطرفة أحسن من هذه! فلما دخلت حدثته الحديث فقال: ويحك غن لي ما غناك! فأخذت العود وغنيته إياها كأنها من محفوظاتي. فطرب الرشيد وجلس للشرب ولم يكن عزم عليه وأمر لي بصلة وقال: الشيخ كان أعلم حيث قال إنك أخذتها. فليته متعنا بنفسه يوما كما أمتعك! انتهى. قوله الماخوري: هو نسبة إلى الماخور وهو بيت الريبة معرب. وقيل إنّه عربي من مخرت السفينة الماء لتردد الناس إليه. وقال أبن عبد المنان:

صبحته عند المساء فقال لي: ... ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا فأجبته: إشراق وجهك غرني ... حتى توهمت المساء صباحا وسبب قوله هذا الشعر إنّه دخل وهو ثمل على السلطان أحمد المريني عشية فصبحه. فنظر السلطان إليه نظر منكر، وقال له: أي وقت هذا؟ وأي معنى للصباح فيه؟ فأفاق من سكره وانشد ما مر ارتجالا، وهذه بديهة لا بأس بها. ومثله ما يحكى إنّه وقع ليحيى بن أكثم، وكان الأمين بن الرشيد شرب يوما مع عبد الله بن ظاهر، ومعهما يحيى. فتغامزا عليه، وأمر الساقي فأكثر له حتى أسكره. وكان بين أيديهم ردم من رياحين. فأمر يحيى فدفن فيه، وأمر قينة أنَّ تغني عند رأسه بيتين علمهما. فغنت: ناديته وهو ميت لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين فقلت: قم؟ قال: رجلي لا تطاوعني ... وقلت: خذ! قال: كفي لا تواتيني فأنتبه يحيى لصوت العود وصوت الجارية، فأخذ العود منها وغنى: يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما رأيت سليب العقل والدين لا أستطيع نهوضا قد وهى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني! وقال أبو الفتح البستي: أفد طبعك المكدود بالجد راحة ... يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بقدر الذي يعطى الطعام من الملح وقال آخر في معناه: ممازحة الصديق تزيد ودا ... إذا كانت تضاف إلى الملاحه فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديق في راحه وقال الآخر في المدح: إذا نزل الضيف ليلا بهم ... رأى أوجها لاح منها الصباح كرام الوجوه لمن أمهم ... وعند وجوه الكرام السماح وهذا من العكس، وهو عند أهل البديع قسمان: تعاكس الكلم وتعاكس الحروف. فمن الأول في النثر قولهم: عادات السادات سادات العادات: وقولهم عقول الملوك

ملوك العقول؛ وكلام الملوك ملوك الكلام؛ وفول بعضهم، وقد قيل له لا خير في السرف، لا سرف في الخير، ونحو هذا. وفي الشعر ما مر وقول صاحب الحلية: خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم وقول أبي الطيب: فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وقول أبن جابر: عطفت قدها النضير فقالت: ... هل رأيتم لحسن هذا نظيرا؟ بذلت للمحب يوم وصالٍ ... فرأينا وصال يوم كثيرا ونحوه وهو كثير. ومن التالي في النثر كقوله تعالى:) كل في فلك (وقوله تعالى:) وربك فكبر (وقول العماد الاصبهاني للقاضي الفاضل: سر، فلا كبا بك الفرس! وقول بعضهم: سرو حماة بربها محروس؛ وقولك أرض خضراء ورمح أحمر، ونحو ذلك وهو كثير. ومن الشعر قول الشاعر: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟ ومن النوع الأول قولي في أبيات: نتائج أبناء كرام غطارفٍ ... كرام بنين ماجدين كبار وقول الآخر: إذا المرء لم يمدح بحسن فعاله ... فمادحه يهذي وإنَّ كان يفصح وقول الآخر في معناه: وما شرف أنَّ يمدح المرء نفسه ... ولكن أعمالاً تذم وتمدح وقول الآخر يروي لأبن الفارض، رضي الله عنه: خليلي إنَّ زرتما منزلي ... ولم ترياه فسيحا فسيحا، وإنَّ رمتا منطقي من فمي ... ولم ترياه فصيحا فصيحا، وقول أبي بكر بن عمار في الاستعطاف: سجاياك إنَّ عافيت واسمح ... وعذرك إنَّ عاقبت أجلى وأوضح وإنَّ كان بين الخطيتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح

وقال أبو عيسى بن لبون في النسيب: سقى أرضا نووها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنته جماح وقال أيضاً: يا رب ليل شربنا فيه صافية ... حمراء في لونها تنفي التباريحا ترى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنها أبصرت منها مصابيحا وقال أبو محمّد بن عبدون: سقاها الحيا من مغان فساح ... فكم لي بها من معان فصاح؟ وحلى أكاليل تلك الربى ... ووشى معاطف تلك البطاح فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجري فيها ذيول المراح ونومي على حبرات الرياض ... يجاذب بردي مر الرياح ولم أعط أمرا النهى طاعة ... ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح وليل كراجعة طرف المريب ... لم أدرله شفقا من صباح وقلت أنا: أم والمهيمن إنني من بعدكم ... لكطائر قد قُدَّ منه جناح أوديتم بمحبكم من بعدكم ... أو ليس على المضر جناح؟ قد كان فيهم أعصرا بوصالهم ... قد طبن روح للنفوس وراح فكأنني صبرا سقيت فكيف لي ... صبر وقد زموا المطي وراحوا؟ وقلت أيضاً: نقل النسيم عن الأراك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الوضاح وحديثه المروي إنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح صدقا أحاديث الصحيح قد اعتلت ... عن ريبة تعزى لها من لاح وقال بعض السادات الصوفية رضي الله عنهم: قد كنت أحسب إنَّ وصلك يشترى ... بنفائس الأموال والأرواح حتى رأيتك تجتبي وتخص من ... تختاره بنفائس الأرباح

فعلمت انك لا تزال بحيلة ... ولويت رأسي تحت طي جناح وجعلت في عشق الغرام إقامتي ... أبدا وفيه تحويلي ورواحي وقال الآخر: أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح وارحمة للعاشقين تحملوا ... ألم المحبة والهوى فضاح بالسير إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح وقال الآخر: راحوا فبانت راحتي ... صفرا وأضحى حبهم لي راحا فتحوا على القلب الغموم وأغلقوا ... باب السرور وضيعوا المفتاحا وقال بشار: خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما لعمود الصباح لا يتوضح؟ أضل النهار المستنير طريقه؟ ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح؟ وطال علي الليل حتى كأنه ... بليلين موصول فما يتزحزح واعلم إنَّ الشعراء في الليل قديما وحديثا مقصدين مختلفين لباعثين متباينين: فتارة يستطيلونه ويستبطئون الإصباح وذلك لأجل الاختناق بتباريح الأشواق عند احتساء كأس الفراق المر المذاق وتارة يستقصرونه ويودون أن لو دام وذلك عند اجتناء ثمرات الوصال والاشتغال بلذات الإقبال. فمن الأول قول مهلهل: أليلتنا بذي حسم أنبري ... إذا أنت أنقضيت فلا تحوري ولم يحضرني لمن قبله شيء في هذا الباب. وقول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لمّا تمطا بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل إلاّ أيّها الليل الطويل إلاّ أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل

وقوله أيضاً: أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقياسة أيامها نكرات وهو أوّل من أبدع في هذا الباب فيما علمنا. وقول النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا وطورا تراجع وقوله أيضاً: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنص ... وليس الذي يرعى النجوم بآءب وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف في الحزن من كل جانب وقوله أيضاً: كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا أحاديث نفس تشتكي ما يربها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا وقوله أيضاً: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب فبت كأن العائدات فرشنني ... هراسا به يعلى فراشي ويقشب وقول جندح: في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصل لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرة منه وتحجيل لساهر طال في صول تململه ... كأنه حية بالسوط مفتول حتى أرى الصبح قد لاحت مخائله ... والليل قد مزقت عنه السراويل ليل تحير ما ينطح في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول

وقول الحصري: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟ وقول الآخر: إلاّ هل على الليل الطويل معين ... إذا نزحت دار وحن حزين؟ أكابد هذا الليل حتى كأنما ... على نجمه إلاّ يغور يمين وتالله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضي فسوف يكون وقول الآخر: ما لنجوم الليل لا تغرب ... كأنها من خلفها تجذب؟ روادك ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب وقول العباس بن الأحنف: أيّها الراقدون حولي أعينوني ... على الليل حسبه وآئتجارا حدثوني عن النهار حديثا ... أوصفوه فقد نسيت النهارا وقال السويد بن أبي كاهل: وإذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها بطيآت التبع ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا الليل انقشع وقول أبن الرومي: رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد ذي نجوم كأنهن نجوم الشيب ... ليست لكن تزيد وقول سعيد بن حميد: يا ليل بل يا أبد ... أنام عندك غد؟ يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد أشكو إلى ظالمة ... تشكو الذي لا تجد وقف عندها ناظري ... وقف عنها السهد

وقول الآخر: يخيل إلي إنَّ الشهب في الدجى ... وشدت بأهداب إليهن أجفان وقول الآخر: رب ليل أمد من نفس العاشق ... طولا قطعته بآنتحاب وحديث ألذ ممن نظر الوامق ... بدلته بسوء العتاب وقول أبن شهيد: وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجن شيب الصبح في فزعه وخطا تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا مطلا على الآفاق تاجه ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا وقال بعضهم: كان علي بن الجهم يستنشدني شعر خالد الكاتب فأنشده فيقول: ما صنع شيئاً حتى أنشدته يوما له: رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما صنع الدمع من ناظري فقال: قاتله الله لقد أدمن الرمي حتى أصاب الغرة. ومن الاعتبار الثاني قول الأعرابي: وليل لم يقصره رقاد ... وقصر طوله وصل الحبيب وقول أبن المستوفي: حسد الليل الصباح لمّا ضمنا ... غيظا ففرق بيننا داعيه وقول الآخر: رأيت في المنام أقل بخلا ... وأطوع منك في غير المنام فليت الصبح زال فلا نراه ... وليت الليل يبقى ألف عام ولو إنَّ النعاس يباع حينا ... لأغليت التعاس على النيام وقول القاضي الفاضل وهو السحر حقا: بتنا جميعا كيف شاء الهوى ... وربما لا يمكن الشرح بوابنا الليل وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح

وقول أبن الصمد بن المعذل: أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يدُ ونحن ضجيعان في مسجدٍ ... فلله ما ضمنا المسجدُ: قيا ليلة الوصل لا تبعدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غدُ! وقول الآخر: شباب المرء ثوبٌ مستعار ... وأيام الصبا أبداً قصارُ ولأجل الاعتبالرين كان قول الأعرابي: تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطولُ وقول أبي الوليد بن زيدون: أجل إنَّ ليلي فوق شاطئ بيطة ... لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا وقول عمر بن أبي ربيعة: فيالك من ليلٍ تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصرُ ومن الثاني أيضاً قال الآخر: لله أيام الشباب وعصره ... لو يستعار جديده فيعارُ ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذاك أيام السرور قصارُ! وقول أبي بكر بن دريد: يا رب يومٍ جمعت قطريه لي ... بنت ثمانين عروساً تجتلى وقد شرح الاعتبارين الوليد بن يزيد في قوله: لا أسأل الله تغييراً لمّا فعلت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها والآخر في قوله: أخو الهوى يستطيل الليل من أرقٍ ... والليل في طوله جارٍ على قدر ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سِنةٌ في الوصل من قصر والآخر في قوله: ليلي وليلى سواءٌ في اختلافهما ... قد صيراني جميعاً في الهوى مثلا

يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا وقول جميل: وقالوا: لا يضرك نأي شهرٍ ... فقالت صاحبي: فمن يضيرُ؟ يطول اليوم إن شحطت نواها ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ وقول بشار: لا أظلم الليل ولا أدعي ... أنَّ نجوم الليل ليست تغيورُ ليلي كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصيرُ تصرف الليل على حكمها ... فهو على ما صرفته يدورُ وقول الآخر: تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عينٍ لا تنام طويل! وقول الآخر: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم وقول الفرزدق: يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يبكي من الشوق يسهرُ وهذا المعنى أكثر من أن يستقصى. وترقى عن الاعتبارات قول بعض العارفين المحبين: لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا إنَّ للعاشقين عن قصر الليل ... وعن طوله من الهم شغلا وقال أبن حمديس الصقلي في مجونه: قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الاقاح! وقال أيضاً: بت منها مستعيراً قبلاً ... كن لي منها على الهر اقتراح وأروى غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح

وقال الآخر: سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاء جناحُ فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراحُ والمعنى هنا بالمفتي هو عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه المشهور أحد الكبراء من التابعين. وكان بمكة مفتيا. قال شمس الدين بن خلكان في تأريخه: لمّا بلغه هذان البيتان قال: والله ما قلت شيئا من هذا! وقال فخر الدين التكريتي: وما ذات طوق في فروع أراكةٍ ... لها رنةٌ تحت الدجى وصدوحُ ترامت بها أيدي النوى وتمكنت ... لها فرقةٌ من أهلها ونزوحُ فحلت بزوراء العراق وزغبها ... بعسفان ثار منهم وطليحُ تحن إليهم كلما ذر شارقٌ ... وتسجع في جنح الدجا وتنوحُ إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل ... وكادت بمكتوم الغرام تبوحُ بأبرح من وجدي بذكراكم متى ... تألق برقٌ أو تنسم ريحُ وقال أبن الزيات: سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاحِ فإنَّ الحب آخره المنايا ... وآخره يهيج بالمزاحِ وقالوا: دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناحِ فقلت: وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباحِ؟ وقال مؤيد الدين الموصلي: يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلاّ من النصحِ فقد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمورٌ طويلة الشرحِ وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وجوها في غاية القبحِ وتطلبون السماح من رجلٍ ... قد طبعت نفسه على الشحِّ

من هاهنا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدحِ صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء بالنجاحِ فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمحِ! ونحو هذا البيت في المعنى ما حكي أنَّ بعض ظرفاء السؤال مر بقوم يأكلون فقال لهم: يا بخلاء! فأنكروا عليه. فلما سمع إنكارهم قال لهم: كذبوني بلقمة! وقال أبن ميادة: فنظرن من خلل الحجال بأعينٍ ... مرضى يخالطها السقام صحاحِ وأرشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداحِ وقال آخر يخاطب الناس: تبعتم السابح في لجه ... ورعتم في الجو ذات الجناح هذا وأنتم غرضٌ للردى ... فكيف لو خلدتم يا قباحِ؟ وقال أبن الساعاتي: وكم فيك من عذراء زفت ... لفهمك في غدو أو رواحِ من الغيد الحسان بلا شبيهٍ ... فكيف يفوتها حظ القباحِ؟ وقال الآخر: وإذا الفتى من دهره كملت له ... خمسون وهو إلى التفى لم يجنحِ طلعت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فكذاك كن لا تبرحِ وإذا رأى إبليس صورته بدت ... حيى وقال: فديت من لم يفلحِ ومثله قول التهامي: إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... وأعجزه الفخار فلا اعتذارُ إذا ما أوّل الخطي أعطى ... فما يرجى لآخره انتظارُ وقول الآخر: وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قدرُ أتاني بها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غابت الشعرى وقد طلع النسرُ فقالت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب ويحك والخمرُ إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... ولو جر أسباب الحياة له الهرُ وقال الآخر: وقولوا: في الهجاء عليك إثمٌ ... وليس الإثم إلاّ في المديح لأني إن مدحت كذباً ... وأهجو حين أهجو بالصحيحِ وقال الآخر: قالوا: تعشقها عمياء قلت لهم: ... ما شأنها ذاك في عيني ولا قدحا بل زاد وجدي فيها أنها أبداً ... لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا إن يجرح السيف مسلولا فلا عجبٌ ... وإنّما العجب سيفٌ مغمدٌ جرحا كأنما هي بستان خلوت به ... ونام حارسه سكران قد طفحا تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا ومثله قول أبن سناء الملك: فتنتني مكفوفةٌ ناظرها ... كتبا لي من الجراح أمانا فهي لم تسلل الجفون حساماً ... لا ولم تحمل الفتور سنانا وهي بكر العينين محصنة الأجفان ... ما افتض ميلها الأجفانا قصرت عشقها علي فلم تع ... شق فلاناً إذ لم تعلين فلانا عميت من الهوى وأرتحل الانسا ... ن من عينها وأخلى المكانا علمت غيرتي عليها فخافت ... أن تسمي غيري لها إنسانا وقال أبن قاضي ميلة: وكيف لا تدركه نشوةٌ ... واللحظ راح وجنى الريق راح؟ لو لم تكن ريقه خمرةً ... لمّا تثنى عطفه وهو صاح وقال أبن نباتة السعدي: وغانية هذه الدنيا فسادٌ ... فكيف نكون منها في صلاحِ؟ هي الخرقاء تنقص بعد نسجٍ ... فما فيها لحيي من فلاحِ وسيأتي هذا المعنى مستوفي في الحكم إن شاء الله تعالى. وقال الآخر وكان أبو بكر بن دريد يتمثل به كثيرا أو هو قائله: فواحزناً إنَّ الحياة لذيذةٌ ... ولا عملٌ يرضي به الله صالحُ

وقلت أنا: تصبر إن أصابك نبل عوض ... وضاق عليك متسع البراح فإنَّ الدهر ليس بذي اصطبار ... عليك بل التول والبراح وإنَّ الخطب أسرع من ذناب ... بمنسجم يسيل إلى سراحي وما أمر يضيق عليك إلاّ ... بآخره يصير إلى سراح فكم أمسيت ذا حزن وأصبحت ... تصبح مسرور كؤوس راح العوض: الدهر كما قال الحماسي: ولولا نبل عوض في ... خضماتي وأوصالي لطاعنت صدور الخيل ... طعنا ليس بالآلي والبراح: المتسع من الأرض لا زرع فيها ولا شجر والبراح في البيت الثاني: الزوال مصدر برح مكانه أي زال عنه والذناب مسيل بين التلعتين والسراحي بالياء الكثمانية جمع سرحان وهو هنا وسط الحوض والسراح في البيت بعده الانسراح والانفراج وتصبح تستقي تقول: صبحت زيدا إذا سقيته الصبوح فهو مصبوح وقولي مسرور فحذفت نون من وهو جائز فصيح. ولنكتف بهذا القدر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الخاء المعجمة

باب الخاء المعجمة خبأة خير من يفعة سوء. الخبأ الستر تقول: خبأت الشيء خبأ وخبيئة إذا سترته والخبأة على مثال همزة المرأة تلازم بيتها. وفي الصحاح: الخبأ المرأة تطلع ثم تختبئ. واليفع التل والمرتفع من الأرض ووصف للغلام. يقال: غلام يفع بفتحتين ويفعة. والمعنى إنَّ بنتا تلزم بيتها تخبأ فيه خير من غلام يفعة لا خير فيه وهو واضح. والمسوغ للابتداء بالنكرة في هذا وما يشبهه نحو تمرة خير من جرادة القصد إلى العموم ذكره أبن مالك في شرحه على التسهيل. وهو أحسن من التعبير بأن المسوغ كونه مثلا إذ لا يكون مثلا إلاّ بعد حين. وهو مفتقر أول وهلة إلى المسوغ مع إنَّ كونه مثلا وإن حصل ابتداء لا يناسب أن يكون مسوغا بوجه كما لا يخفى إذ التسويغ إنّما هو بالتخصيص أو التعميم المخرج للقضية عن الإهمال المحض لفظا ومعنى. نعم المعنى قد يفهم بقرائن وإن لم يكن ثم مسوغ ظاهر فيكفي ذلك ويمكن أن يدعى إنَّ هذا المثل ونحوه من ذلك. مع إنّه في مثلنا يدعى إنَّ الميوغ كون المبتدأ وصفا لمحذوف هو المبتدأ حقيقة. فإنَّ المعنى امرأة خبأة خير من غلام يفعة. وفي المسألة كلام وليس من غرضنا ولا هذا محله. خبط خبط عشواء. الخبط: الضرب يقال: خبط البعير الأرض إذا ضربها برجله. والعشى بالقصر سوء البصر بالليل. يقال: عشى بالكسر يعشى وعشى أيضاً عشى فهو أعشى وهي عشواء. والعشواء في المثل الناقة الضعيفة البصر والتي لا

خبقة خبقة ترق عين بقة.

تبصر أمامها وهي تضرب وتخبط بيديها كل شيء فيضرب بها المثل. ويقال: خبط فلان هذا الأمر خبط عشواء وذلك إذا دخل فيه بغير بصيرة وهو ظاهر. خبقة خبقة ترق عين بقة. الخبق على مثال هجف وعلى مثال فلز الطويل من الرجال والخيل. وقيل: الخبق من الخيل: السريع والخبق أيضاً الرجل الوثاب. وهكذا وقع هذا الكلام في القاموس. والذي في الصحاح: حزقة حزقة ترق عين بقة. والحزقة الرجل القصير أو الذي يقارب الخطو لضعف بدنه. يقال: رجل حزق على مثال عتل ورجل حزقة. قال الشاعر في الأول: حزق إذا ما القوم ابدوا فكاهة ... تفكر آإياه بعون أم قردا وقال امرؤ القيس في الثاني: وأعجبني مشي الجزقة خالد ... كمشي أتان حلئت في المناهل حلئت: منعت وطردت والترقي: الصعود والبق: البعوض أو أعظمها. قال ذو الرمة يذكر خيلا: قياما تذوذ البق عن نخراتها ... بنهز كإيماء الرؤوس الموانع النخرات بالنون والخاء المعجمة مخارج النفس من الأنوف ونهزات الدابة برأسها إذا ذبت به. وروي في الحديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقص أحد سبطيه فيقول: حزقة حزقة ترق عين بقة وقوله: ثرق أي اصعد إلى النماء. ويقال أيضاً: رجل حبقة بالحاء المهملة وبسرتين مشددة القاف أي قصر. ورجل حبق على مثال صرد أي ضعيف العقل. وكذا امرأة حبقة. قل الراجز: حبقة يتبعها شيخ حبق ... وإن يوفقها لخير لا تفق

أخدع من ضب.

أخدع من ضب. الخدع: الختل. يقال: خدعه خدعا إذا ختله وأراد به المكروه من حيث لا يشعر واختدعه أيضاً اتداع فانخدع هو والاسم الخديعة. والضب تقدم ما فيه وهو يوصف بالخديعة والمكر. قال الشاعر: وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا وإنّما قال ذلك لأنهم يزعمون إنَّ بين الضب والعقرب ألفة فتأوي إلى حجره فمن مد يده إليه لسعته. قال المبرد في الكامل: العرب تزعم إنّه ليس من ضب إلاّ في جحره عقرب. فهو لا يأكل ولد العقرب وهي لا تضربه فهي مسالمة له وهو مسالم لها. وأنشد البيت السابق. مخرنبق لينباع. الآخرنباق: انقماع الرجل المريب واللصوق بالأرض والسكوت والإطراق والانبياع: سيلان العرق. يقال: انباع العرق إذا سال ويقال: انباعت الحية إذا بسطت نفسها بعد تحويها لتساور. ومعنى مخرنبق لينباع: مطرق وساكت ليثب إذا أصاب فرصة. والمعنى إنّه ساكت لداهية يريدها. ويضرب في الرجل يطيل الصمت حتى يسحب مغفلا وهو ذو نكراء. والمخرنبق: اللاصق بالأرض لينباع ليثب. أو المخرنبق: الساكت على ريبة لينباع ليظهر ما طوله من الشر. والمقصد واحد. ويروى: مخرنبق لينباع ومعناه ليندفع. وقيل ليأتي بالبائقة أي الداهية. ويروى لينباغ بالمعجمة أي ليتحرك بالشر الذي في طيه فيظهره كأنه من تبوغ الدم بمعنى هاج أو من تبوغ زيد إذا غلب. وفي معنى هذا المثل قول النابغة الذبياني: لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن ترفعهم في كل أصفار وقلت يا قوم إنَّ الليث منقبض ... على براثينه لوثبة الضاري

تخرسي يا نفس لا مخرس لك.

قوله: عن اقر هو موضع. وقوله: في كل أصفار هو جمع صفر بالتحريك اسم الشهر، وكان صفر يومئذ في زمن الربيع، وقيل غير ذلك. وأراد بالليث النعمان بن حارث الأكبر الغساني أو أخاه عمرو بن الحارث. وقوله: لوثبة الضاري - بالإضافة أي لوثبه الأسد الضاري، ويروى للوثبة الضار، فيكون الضاري وصفا لليث. ومثل ذلك أيضاً قول أبن الرومي: سكت سكوتا كان رهنا بوثبة ... عموسٍ كذاك الليث للوثب يلبد وسيأتي أمثال من هذا المعنى كثيرة، وتقدم بعضها. تخرسي يا نفس لا مخرس لك. الخرس بالضم طعام الولادة. قال الراجز: كل طعام تشتهي ربيعة ... الخرس والأعذار والنقيعه والخرسة بالضم أيضاً طعام النفاس نفسها. وتقول: خرست على المرأة تخريساً إذا أطعمت في ولادتها، وتخرست هي اتخذت ذلك لنفسها، وخرست جعل لها الخرسة. قال الهذلي: إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها الحتر: الشيء القليل الحقير، أي لهم شيء يسكتون به الصبي من الطعام ولو قليلا لشدة المجاعة. وكانت امرأة ولدت ولم يكن لها من يهتم بأمره فقالت: تخرسي يا نفس لا مخرس لك! فذهب مثلا يضرب عند اعتناء المرء بنفسه. خرقاء ذات نيقةٍ. الخرق بالضم عدم الرفق في الأمور، وعدم إتقان الصنعة والحمق. خرق الرجل بالكسر والضم فهو اخرق وهي خرقاء. قال: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب ويريد أنَّ المرأة الخرقاء لا تشتغل بالغزل في الصيف بل تتمادى على التسويق والتفريط، حتى إذا طلع سهيل وذلك حين يقبل البرد قامت إلى قرائبها ليعنها، وجعلت

الخرق شؤم.

تفرق بينهن غزلها. فيسما سهيلا بكوكب الخرقاء لهذه العلاقة. وذات بمعنى صاحبة. والنيقة بكسر الأول اسم من التنوق. يقال: تنوق الرجل في الشيء يتنوق إذا تأنق فيه، أي تخير. والمعنى إنّها خرقاء، ومع ذلك تتأنق. فيضرب في الجاهل بالشيء يدعي فيه المعرفة ويتخير في الإرادة. الخرق شؤم. تقدم أنَّ الخرق يكون عدم الرفق في الأمور بتناولها على غير وجهها، مع عجلة وإفراط تجاوز مقدار. والشؤم بضم الشين وسكون الهمزة ضد اليمن. والمعنى أنَّ من خرق في أمر فلا بد أنَّ يعود عليه شؤمه. وهذا الكلام يروى حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّه قال: " الرفق يمن والخرق شؤم ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله ". وقال: " ما كان الرفق في شيء قط إلاّ زانه، وما كان الخرق في شيء إلاّ شانه ". وقال: " يا عائشة، من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله تعالى أهل بيت أدخل عليهم الرفق ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا احب الله تعالى عبدا أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلاّ قد حرموا ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف ". وقال صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ارفقي فإنَّ الله تعالى إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم علي باب الرفق ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله ". وقال صلى الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان ". وقال

خرقاء عيابة.

صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإنَّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ". وما أحسن قول أبي الفضل بن النحوي في هذا: والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج خرقاء عيابة. العيابة: التي تعيب الناس كثيرا. وهذا مثل للأحمق وذي العيوب، يعيب غيره وينسى عيوبه. قال إسماعيل بن القاسم: يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب! لله درك كيف أنت وغاية ... يدعوك ربك عندها فتجيب؟ وفي الحديث: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس! أخرق من حمامةٍ. الخرق مر، والحمام أيضاً تقدم ما فيه، ووصف بالخرق لأن الحمامة تبيض على أعواد ولا تحكم عشها، فربما وقع بيضها فتكسر. وقد تأتي إلى غصن شجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي يحركه الريح، فلا يكاد يسلم بيضها. قال عبيد بن الأبرص: عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضها الحمامة جعلت لها عودين من ... نش وآخر من ثمامة ويقال أيضاً: أحمق من حمامةٍ. خرقاء وجدت صوفاً. تقدم أنَّ الخرق يكون بمعنى عدم الإتقان؛ والمرأة الخرقاء من هذا المعنى ضد الصناع؛ والصوف معروف، البعض منه صوفة. ومعنى المثل أنَّ المرأة غير الصناع إذا وجدت صوفا عاثت فيه وودرته. يضرب مثلا

خرقاء وجدت صوفا.

للأحمق يجد مالا فيضيعه ويتلفه، أو لمن يخرق في كل ما وجده وتمكن منه. يحكى إنَّ الحسن رضي الله عنه لقي سباج وهو يسرع، فجل الحسن يومئ إليه بإصبعه كفعل الغازلة ويقول: خرقاء وجدت صوفا. وهذا المثل كالمثل الآخر الآتي: عبد وخلى في يديه. أخسر صفة من أبي غبشان. الخسارة ضد الربح. خسر الرجل بالكسر يخسر خسراً وخسارة: وأبو غبشان هو الخزاعي. وتقدم هذا المثل وما كان من قصته في حرف الحاء المهملة. خش ذؤالة بالحبالة. الخشية: الخوف، خشي بالكسر يخسى خشية؛ وخشية أنا تخشية: خوفة؛ وخشى فلانا تخشية: خوفه؛ وذؤالة بذال معجمة، على مثال ثمامة الذئب، مأخوذ من الذالان، وهو مشية فيها إسراع أو خفة وميس. يقال: ذال يذال ذال وذالانا إذا مشي تلك المشية؛ والحبالة: التي يصاد بها. والمعنى: خوف الذئب بالحبالة. ويضرب عند الأمر بالتهديد والتبريق. خشية خير من ملء وادٍ حباً. أي: أن تخاف أرفع لمقدارك وأسمى لجانبك من أن تحب. وهذا كقولهم: رهبوتى، خير من رحموتى؛ وقول الغضبان بن القبعثري للحجاج: أو فرق خير من حبين، وسيأتي. أخطأت اسكت الحفرة. الخطأ ضد الصواب. ويقال: أخطأ يخطئ إخطاء فهو مخطئ؛ ويقال

أخطأ من ذباب.

خطئ بالكسر يخطأ إذا سلك سبيل الخطأ، عامدا أو غير عامد، فهو خاطئ. وقيل: الخاطئ هو المتعمد؛ والاست بهمزة الوصل والسته: الدبر أو حلقته؛ والحفرة بضم الحاء معروفة. وهذا المثل يضرب لمن يحيد عن الصواب في مقصده، ويضع الشيء في غير موضعه. ومعناه ظاهر. أخطأ من ذبابٍ. الخطأ مر، وكذا الذباب، ووصف بالخطأ لأنه يقع في الهلاك بنفسه: فقد يسقط في الماء الحار فيموت، أو في الشيء الذي يلتزق به ولا يخلص منه. أخطأ من فراشٍ. الفراش بفتح الفاء بوزن سحاب هو الذي يتهافت على السراج، واحده فراشة. ووصف بالخطأ أيضاً كما ذكر في الذباب، لأنه يلقي نفسه على السراج والنار كلها فيحترق. وقال الشاعر: جهالة سنور وخطأ فراشةٍ ... وانك من كلب التهارش أجهل وفي الحديث: إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وما احسن من قول الأدباء: لهيب الخدين بدا لطرفي ... هوى قلبي عليه كالفراش فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي وقول الآخر: جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصف في الحسن يحكيه أنظر إلى حسنه واستغن عن صفةٍ ... سبحان خالق سبحان باريه! النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير الضوء في فيه دعا بألحاظه قلبي إلى عطبي ... فجاءه مسرعا طوعا يلبيه مثل الفراشة تأتي إذ ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه

الخنفساء إذا مست نتنت.

الخنفساء إذا مست نتنت. الخنفساء: الدويبة السوداء المعروفة. يقال إنها خنفساء وخنفس وخنفسة ونونها زائدة. والنتن قبح الرائحة. يقال: نتن الشيء بالضم وأنتن فهو منتن. والخنفساء معروفة بالنتن فيضرب ذلك مثلا للرجل المشتمل على الخبث والعيب وإنّه يترك ويجتنب. والمعنى: لا تفتش ما عنده فانه يؤذيك بنتن معايبه! أخف حلماً من بعير. الخف ضد الثقل. خف الشيء يخف خفة فهو خفيف. والقياس خافٌ كدب يدب فهو داب. ولكن حملوا الخفة على ضدها وهو الثقل خفيف كما قالوا: ثقيل. والحلم تقدم. والبعير معروف. وهذا كما قال الحماسي: لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ يصرفه الصبي بكل وحهٍ ... ويحسبه على الخسف الجريرُ أخف حلما من عصفورٍ. الحلم مر، والعصفور: الطائر الصغير المعروف وهو على أنواع كثيرة. والأنثى عصفورة. قال الشاعر: كعصفورة في كف طفلٍ يسومها ... حياض المنايا وهو يلهو ويلعبُ ويضرب المثل في خفة الحلم بالعصفور ولا خفاء بذلك. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: لا باس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير! وقال الآخر: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا مثل العصافير أحلاماً ومقدرةً ... لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا

أخف رأسا من ذئب.

أخف رأساً من ذئبٍ. الذئب معروف ويوصف بخفة الرأس ويعنون في النوم لمّا يزعمون من أنه لا ينام إلاّ بإحدى مقلتيه كما قيل: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ وقالوا أيضاً: أخف رأسا من الذباب ومن الطائر. أخف من لا على اللسانِ. الخفة مرت ولا: حرف نفي وهي خفيفة على اللسان. فيضرب المثل بذلك في الخفة وهو يحتمل أن تكون الخفة من جهة اللفظ لقلته وهو ظاهر، أو من جهة المعنى لملائمة الإنكار للطبع غالبا وخفة التبري والتنصل على النفس في أكثر الأمور أو منهما معا. ويقال أيضاً: كلا ولا في التعبير عن السرعة والخفة. قال: يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشاً ولا يدنون رحلاً إلى رحلِ غشاشا: أي على عجل. وقال الآخر: وأروع أهداه لي الليل والفلا ... وحس بمس الأرض لكن كلا ولا أخف من يراعةٍ. اليراعة بفتح الياء المثناة من تحت ثم راء ثم ألف ثم عين مهملة واحد اليراع وهو يطلق على طائر يطير بالليل كأنه نار. وهو في هذا المثل يجوز أن يراد به القصبة وأن يراد به الطائر. والمعنى الأول هو مراد البلغاء والأدباء عند وصف أحد بالكتابة. وقولهم مثلا: إنَّ فلان من أرباب اليراعة وفرسان اليراعة وهذا في الشعر والنثر لا يحصى. تخلصت قائبةٌ من قوبٍ. التخلص: النجاة. خلص الرجل تخلصا فتخلص هو: نجا؛ والقابية: البيضه؛ والقوب: الفرخ؛ وأما بالفتح فمصدر. يقال: قاب

اختلط الحابل بالنابل.

الطائر بيضته إذا فلقها، قوبا، فانقابت هي وتقوبت. ومعنى تخلصت قابية من قوب على هذا: تخلصت البيضة من الفرخ. يضرب لمن انفصل من صاحبه. وعليه ففي المثل قلب لأن الذي يتخلص هو الفرخ لا البيضة؛ غير أنه يصح إسناده إلى البيضة باعتبار كما تقول: تخلصت الحامل من ذي بطنها. وقيل إنَّ القائبة الفرخ والقوب البيضة؛ فلا قلب والأول أنسب. ولفظ المثل عند الجوهري: برئت قائبة من قوبٍ. وهذا اللفظ لا يكون معه قلب على كلا التفسيرين لأن نسبة البراءة إليها معا صحيحة. وحكي أنَّ أعرابيا استخفر أحداً فقال له: إذا بلغت بكل مكان كذا فبرئت قائبة من قوب أي فقد تخلصت من خفارتك. اختلط الحابل بالنابل. الاختلاط معروف؛ والحابل الذي يصيد بالحبل؛ والنابل الذي يصيد بالنبل فيضرب ذلك في اختلاط الرأي ويقال الحابل هنا هو السدى والنابل الطعمة وهذا كما مر في قولهم: حول حابله على نابله. اختلط الخاثر بالزباد. هذا المثل كالذي قبله. والخاثر ضد القيق. يقال: خثر اللبن بالضم والكسر فهو حاثر. والزباد على مثال رمان نبت والزباد أيضاً من اللبن ما لا خير فيه. فكأن المعنى أنه اختلط الجيد بالرديء والصحيح بالسقيم. وقال البكري في شرح الأمثال: الزباد نبت كانوا يضعون ورقه على ظرف اللبن. ويقال أيضاً: زبدت المرأة الصوف والشعر إذا نفسته. فيحتمل أن يريد في المثل أنَّ خاثر اللبن اختلط بمنفوش الصوف فلا يؤكل. انتهى. وما ذكرناه أوّلاً أظهر والله أعلم. خلع الدرع بيد الزوج. هذا مثل يضرب عند الخطأ في وضع الأشياء غير موضعها وتقدمت قصته ومن قاله في حرف الجيم عند قولهم: التجريد لغير نكاح مثله، فأنظره هنالك.

أخلف من صقر.

أخلف من صقرٍ. يقال: خلف فم الصائم بفتح الآم يخلف خلوفا وخلوفة بضمهما؛ وأخلف إذا تغير رائحته. ومنه: نومة الضحى مخلفة للفم. وفي الحديث أيضاً: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والصقر: الطائر المعروف وتقدم. ضربوا المثل بخبث رائحة فمه. أخلف من عرقوبٍ. أخلف اسم تفضيل من الإخلاف في الوعد. لكن المعروف فيه الرباعي. يقال: أخلفني فلان ما وعدني وهو أن يثول شيئا ولا يفعله على الاستقبال. وقد يقال: أخلفه إذا وجد وعده خلفا. قال الأعشى: أثوى وفصر ليلة ليزودا ... فمضت وأخلف من قتيلة موعدا أي مضت الليلة. نعم يجوز بناء اسم التفضيل من الرباعي على أفعل عند بعض المحققين كأعطى. وعرقوب رجل من العمالقة وعد أخاه تمرا فأخلفه وسيأتي. قال علقمة: وقد وعتك موعداً لو وفت به ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثربِ وقال كعب بن زهير رضي الله عنه: كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلا ... وما مواعيدها إلاّ الأباطيلُ وقلت أنا من قصيدة: فسيحتبيك بوعدٍ غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر خله درج الضب! التخلية: الترك والدرج بفتحتين الطريق؛ والضب معروف. والمثل يضرب في الأنفة من مصاحبة من يرغب عن صحبته. والمعنى: خله يذهب حيث شاء وقيل معناه الذهاب، كأنه قيل: يذهب ذهاب

خلي سبيل من وهى سقاؤه!

الضب! أي خله كخلال الضب! لأن الضب أسوأ الحيوان هداية ولذلك يضرب به المثل فيقال. أضل من ضب. ويقال أيضاً: خل درج الضب! أي خل طريقه لئلا يمر بين يديك فتنتفخ! وهذا قريب في المعنى مما تقدم من قولهم: الخنفساء إذا مست نتنت، كما مر ذلك. خلي سبيل من وهى سقاؤه! التخلية مرت، وتقول: خليت سبيل الرجل إذا تركته ولم تتعرض له. ووهى السقاء بالفتح يهي وهياً: تمزق. والسقاء بالكسر والمد القربة. قال الشاعر: أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهي: شم! أي أقول له حين وهى سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس: شم البرق! أي انظر إليه! فشم، في آخر البيت فعل أمر وهو معمول القول. وهذا المثل قد يروى رجزاً فيقال: خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه يقال: أرقت وهرقت بقلب الهمزة هاء فأنا مريق ومهريق بفتح الهاء وكان القياس حذف الهاء لأنها في مكان همزة أفعل وهي تحذف في المضارع لكنها لمّا صارت هاء ذهب الثقل فبقيت. قال الشاعر: فظللت كالمهريق فضلة مائه ... في ظل هاجرةٍ للمع سرابِ وقد يقال: أهرقته بتسكين الهاء والجمع بين الهمزة وبدلها تناسيا لأصل فأنا مهريق بالسكون أيضاً. قال: فصرت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فرق رابية صلدِ والفلاة: القفرة والجمع فلى وفلوات. وهذا المثل كالذي قبله مضربا. وقد قيل إنّه يضرب في الرجل لا يستقيم في أمره وإنّه لا ينبغي أن يعاني. وقيل إنه يضرب في اقتناء السر بمعنى إنّه إذا باح صاحبك بسرك ونضح به كما ينضح هذا السقاء الواهي بالماء فدعه عنك ولا تؤاخه ولا تصاحبه فلا خير لك فيه! وهذا مناسب لتشبيههم من لا يكتم السر بالغربال كما قال الحطيئة:

خلاؤك أقنى لحيائك.

أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا؟ خلاؤك أقنى لحيائك. الخلاء بفتح الخاء والمد يطلق مصدرا من قولك: خلا المكان وغيره يخلو خلاء وخلوا. ومكان حالٍ وخلاء: لا أحد به. قال حسان رضي الله عنه: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء وقد يطلق على المتوضأ كما في الحديث ويطلق على المكان القفر لا شيء به وهو المراد. قال زهير: فأما ما فريق العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاءُ والحياء بالمد معروف وقني الرجل الحياء وقناه بالكسر والفتح وأقناه واقتناه: لزمه وحفظه. قال عنترة: قامت تخوفني الختوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ فأجبتها: إنَّ المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهلِ فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتلِ! أي: الزمي حياءك واحفظيه ولا تضيعيه! وقال العطوي: أيقني جميل الصبر من هد ركنه ... وهيض جناحاه وجد الأنامل؟ ومعنى المثل أنَّ منزلك إذا خلوت به هو ألزم وأحفظ لحيائك. الخلة تدعو إلى السلة. الخلة بفتح الخاء الحاجة والخصاصة والفقر. قال: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلتِ ويقال للرجل إذا مات: اللهم أخلف على أهله بخير واسدد خلته! أي فرجته التي تركها. قال أوس بن حجر: لهلك فضالة لا تستوي ... الفقود ولا خلة الذاهب

خلا لك الجو فبيضي واصفري!

يقول: إنّه كان سيدا فلما مات ترك ثلمة لم تسد. تقول: خل الرجل وأخل به بالضم إذا احتاج. ورجل مخل ومختل وخليل أي فقير. قال زهير: وإن أتاه خليلٌ يوم مسألة ... يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم واختل إليه: احتجاج. وفي كلام أبن مسعود: عليكم بالعلم! فإنَّ أحدكم لا يدري متى يختل، أي متى يحتاج الناس إلى ما عنده، وما أخلك إليه، أي ما أحوجك! والأخل الأفقر. ويقولون: " الأخل فالأخل، أي الأفقر فالأفقر ". والسلة بفتح السين: السرقة وكذا الاسلال. ويقال في بني سلة أي سرقة. والمعنى أنَّ الحاجة والخصاصة تدعوا إلى السرقة وتلجئ إليها، عياذاً بالله تعالى! وأما الخلة بضم الخاء فهي الصداقة. والصديق أيضاً للذكر والأنثى، ورجل خلة لي وامرأة خلة. وقال امرؤ القيس: وكان لها في سالف الدهر خلة ... يسارق بالطرف الخباء المسترا أي خليل. وقال الآخر: ألا أبلغها خلتي جابراً ... بأن خليك لم يقتل! وقال الآخر: شبعت من نوم وزاحت علتي ... وطرفي في المنام خلتي ما علمت إنّها ألمت ... حتى قضت حاجتها وولت أي خليلتي. خلا لك الجو فبيضي واصفري! الجو معروف، وباضت الدجاجة ونحوها، تبيض؛ وصفر الطائر، يصفر، صفيراً: صوت. وهذا المثل يضرب للأمر يقدر عليه الإنسان متمكنا. وأوّل من قاله كليب بن ربيعة التغلبي الوائلي في شعر له، وذلك إنّه كان له حمي لا يقرب، فباضت فيه قبرة؛ والقبرة بضم القاف وفتح الباء المشددة الطائر المعروف؛ فأجاره وقال يخاطبها:

يالك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري! وانقري ما شئت أنَّ تنقري! وذلك إنّه إنّما يصفر الطائر ويتغنى في الخصب. فدخلت ناقة البسوس الحمى، فوطئت بيض القبرة، فرمى كليب ضرعها، فقتل جساس كليبا، وهاجت من ذلك حرب البسوس بين بني وائل أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر: كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وايسر جرما منك ضرج بالدم رمى ضرع ناب فأسمر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهم وسيأتي تتمة هذا الحديث. وقيل إنَّ أوّل من قاله طرفة بن العبد وذلك إنّه قال لأمه وهو غلام: إني أريد صيد القنابر، فابعثي أمتك مع البهم! القنابر جمع قنبرة وهي القبرة، فقالت له أمه: يا بني إنَّ المضيع من وكل ماله وأضاع عياله. ثم إنّها أرسلت أمتها مع البهم. وخرج طرفة وصاحب له معهما فخ، حتى أتيا مكانا كانا يعهدان به القنابر كثيرة. فنصب الفخ، وتنحيا غير بعيدين. فجعلت قبرة تحوم حول الفخ، ثم فقرته فأخطأها. فأقبل طرفة نحو فخه وهو يقول: قد يعثر الجواد، وتمحل البلاد، ويذهب التلاد، ويضعف الجلاد. ثم نصب فخه، فوقعت القنابر حول الفخ، وهي تحيد عنه وتلقط ما أصابت. فلما طال ذلك به، ضجر وانتزع فخه وهو يقول: قاتلكن الله من قنابر ... مهتديات بالفلا نوافر ولا سقيتن معين الماطر ... ولا رعيتن جنوب الحاجر! وانصرف هو وصاحبه راجعين. ثم التفت فإذا القنابر قد سقطن بالموضع الذي نصب فيه فخه يلتقطن، فقال: يا لك من قبرة. . الأبيات المذكورة. فلما أتى منزله، ورأته أمه لم شيئاً، فقالت له: حدك اليوم حاد، وصدك صاد! فقال لها طرفة: ما كنت محدوداً إذا غدوت ... وما رأيت مثل ما لقيت من طائر ظل بنا يحوت ... ينصب في اللوح فما يفوت يكاد من رهبتنا يموت! فقالت أمه: إني لأرجو أنَّ تكون شاعرا، وأنَّ تشبه خالك! وحات، ويحوت: أسرع.

خامري أم عامر!

ورد أنَّ أبن عباس رضي الله عنهما، تمثل بهذا المثل، وذلك حين خرج الحسين، رضي الله عنه، إلى العراق، فلقي أبن عباس أبن الزبير، فقال له: خلا لك الجو فبيضي وأصفري. وهذا حسين يخرج إلى العراق ويخلي لك الحجاز! خامري أم عامر! خامري: معناه تستري وتغطي، كأنه من التخمير وهو التغطية والستر. ومنه الخمرو الخمار؛ وأم عام: الضبع. قال: ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر وسيأتي. وللضبع كنى كثيرة: يقال لها أم عامر وأم عمرو، وأم الهنبر وأم خنور؛ ويقال لها أيضاً: حضاجر بفتح الحاء على وزن الجمع، وجعار، وجيال؛ ويقال لها الموقفة. قال معاوية بن زهير: فدونكم بني لأيٍ أخاكم ... ودوني مالكا يا أم عمر فلولا مشهدي قامت عليه ... موقفة القوائم أم أجر! أردنا موقفة القوائم أنَّ في قوائمها الأوقاف، وهي الخلاخل، جمع وقف، ويعني السواد الذي في قوائمها. ويقال: الجارية موقفة: لبست الوقف. والاجري جمع حرو، وهب أولادها. ومثلها قول الهذلي: وغودر ثاويا وتأوبته ... موقفت أميم، لها فليل وقال لها عرفاء والخامعة أي العرجاء قال الشنفري: ولي دونكم أهلون: سيد عملس ... وأرقط زهول وعرفاء جيئل وقال الآخر: يا لهف من عرفاء ذات فليلةٍ ... جاءت إلي على ثلاث تخمع وتظل تنشطني وتلحم أجريا ... وسط العرين وليس حي يدفع! لو كان سيفي باليمين دفعتها ... عني ولم أوكل وجنبي الأضيع وقال عنترة: إنَّ يعقرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم

الخنق يخرج الورق.

ولذلك قال أبن المهلب: الضبعة العرجاء، فلحن في قوله الضبعة، إذ لا قال كما مر. ويقال إنَّ الذي بها من العرج ليس عرجا حقيقة، وإنّما يتخيل كذلك للناظر من إفراط الرطوبة في أحد جانبيها. الضبع أحمق الحيوان، كما مر ذلك في الحاء. وهي أفسقها أيضاً وأشبقها. ويزعمون إنّها لا يمر بها حيوان من نوعها إلاّ علاها، وإنّها تقلب الميت على قفاه وتستعمل كمرته، ولذلك يقال لها حين تصطاد: أبشري أم عامر بجراد عضال، كمر الرجال! ويخدعونها بذلك. وقال الشاعر: فلو مات منهم جرحنا لأصبحت ... ضباع بأكناف الشريب عرائسا وقولهم في هذا المثل: خامري أم عامر، تقدم انهم يقولونه للضبع عند الاصطياد يخدعونها به. فبقي مثلا للمغرور ومن عرف الدنيا وتقلبها ونقضها ما أبرمت وسلبها ما وهبت، ثم يسكن إليها مع ذلك ويغتر بها كما تغتر الضبع بقول القائل: خامري أم عامر. وقال البهاء زهير يشير إليه: يا هذه لا تغطي ... والله مالي فيك خاطر خدعوك بالقول المحا ... ل فصح انك أم عامر الخنق يخرج الورق. الخنق بفتح الخاء وكسر النون، كالكذب مصدر. يقال: خنقته بفتح النون خنقا، فهو خنق أيضاً وخنيق ومخنوق؛ وخنقته فاختنق. والخناق بالكسر الحبل يختنق به وبالضم: داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب. والورق بوزن كتف: الدراهم المضروبة، ويقال لها الرقة بحذف الواو على مثال عدة، والورق بفتحتين والورق بسكون وتثليث الواو. والمعنى انك إذا اشتدت على الرجل وضيق عليه أعطاك وهذا دأب الدنيء لا يسمح إلاّ رهبة أو رغبة، كما قيل: رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطا لبه حين يكسر

خير الأمور أوساطها.

خير الأمور أوساطها. الخير هنا اسم تفضيل. يقال: فلان أخير من فلان. وتحذف الهمزة غالبا فيقال: خيرٌ منه. فإن أطلق تناول جميع أوصاف المدح، وإن قيد بشيء تقيد؛ والأمور جمع أمر وهو عام؛ والأوساط جمع وسط بمعنى متوسط بين طرفين. وهذا الكلام يروى حديثا وهو من جوامع كلمه التي أعطيها صلى الله عليه وسلم وهو متناول لأمور من الديانات والأخلاق والآداب والسياسات والمعاشرات والمعاملات تعجز عقول الخلق عن إحصائها. وقد صنف ذوو البصائر من أهل العلم في تفاصيل ذلك دواوين. وهو بحر لا ساحل له، جمع له صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة كما قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا. قال الجاحظ: ينبغي للرجل أن يكون سخيا لا يبلغ التبذير حائطا لا يبلغ البخل شجاعا لا يبلغ الهوج محترسا لا يبلغ الجبن حييا لا يبلغ العجز ماضيا لا يبلغ القحة قوالا لا يبلغ الهذر صموتا لا يبلغ العي حليما لا يبلغ الذل منتصرا لا يبلغ الظلم وقورا لا يبلغ البلادة نافذا لا يبلغ الطيش. قال: ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ذلك في كلمة واحدة وهي قوله عليه السلام: خير الأمور أوساطها وما ذلك إلاّ لأنّه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم. انتهى. وإلى هذا أشار بعض الشعراء بقوله: عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا! والآخر بقوله: لا تذهبن في الأمور فرطا ... وكن من الناس جميعاً وسطا! والمعري في قوله: فإن كنت تهوى العيش فبالغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاولُ توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كواملُ

خير العشاء سوافره.

خير العشاء سوافره. خير: تقدم؛ والعشاء بالفتح والمد طعام العشي. ولا يخرجه التأخير عن كونه عشاء كما قال الحطيئة: وآنيت العشاء إلى سهيلٍ ... أو الشعرى فطال بي الإناء وآنيته: جعلت أناه أي وقته ذلك الزمان المتأخر. ويروى: وأكريت العشاء. . الخ فطال بي الكراء أي أخرت؛ والسوافر جمع سافرة يقال أسفرت الشمس وسفرت إذا أضاءت وسفرت المرأة عن وجهها: كشفت عنه. والمراد أنَّ خير العشاء ما أكل منه بضوء النهار وكأن اللقمة حينئذ تسفر للظلام عن وجهها. وهذا المثل يكلم به الأصمعي للرشيد. ذكر بعض الأدباء عن أبي بكر بن شقير النحوي قال: دخلنا على محمد اليزيدي وهو يتغدى فقال: يا أبا بكر خير الغداء بواكره فما خير العشاء؟ فقلت: لا أدري. فقال: دخلت على عبيد الله بن سليمان وهو يتغدى فقال: خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا؟ فقلت لا أدري. فقال: دخلت على حسين الخادم وهو يتغدى فقال: يا أبا القاسم خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا؟ فقلت: لا أدري. فقال: كنت بحضرة الرشيد وهو يتغدى فدخل الأصمعي فقال: يا أصمعي خير الغداء بواكره فخير العشاء مادا؟ فقال: بواصره ومعناه ما يبصر من الطعام. انتهى. وزعما أنَّ تأخير العشاء يورث ضعفا بالبصر. ومن ثم قال أبو بكر بن دريد: وأرى العشا في العين ... أكثر ما يكون من العشاءِ العشا الأول بألف مقصورة وهو ضعف البصر وبالمد الطعام. وقال كشجام: ونديم مخالفٍ ... لا يشاء الذي أشا هو في الصحو لي أخ ... وعدوٌ إذا انتشا اقترحت العشاء يو ... ماً عليه فاندهشا ساعة ثم قال لي: ... العشا يورث العشا! وورد في بعض الأحاديث نهيا عن ترك العشاء: لا تدعوا العشاء ولو بكف من حشف فإن تركه مهرمةٌ.

خير العلم ما حوضر به

خير العلم ما حوضر به المحاضرة: المذاكرة. والمعنى أنَّ خير العلم ما حصل الإنسان في صدره فوجده عند المحاضرة وكان عدة له عند المذاكرة. ويقال حرف في قلبك خير من ألف في كتبك. ويقال: لا خير في علم لا تعبر به الأودية ولا تعمر به الأندية. ويقال: حفظ سطرين خير من حمل وقرين ومذاكرة اثنين خير من هذين. وينسب للشافعي: علمي معي حيثما مشيت يتبعني ... وعاؤه القلب لا بيتي وصندوقي إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق وقال الآخر: عليك بالحفظ دون الكتب تجمعها ... فإن للكتب آفات تفرقها الماء يغرقها والنار تحرقها ... والفأر يخرقها واللص يسرقه لكن قد يولع المرء بالحفظ حتى يفوته تصور المعاني فيكون كالحمار يحمل أسفارا. ولذلك روي في الخبر: همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية. وقال أبن مسعود: كونوا للعلم وعاة ولا تكونوا له رواة فقد يروى ما لا يدرى ويدرى ما لا يروى. وحدث الحسن البصري بحديث. فقال له رجل: عمن؟ فقال: وما تصنع بعمن؟ قد نالتك عطيته وقامت عليك حجته. وربما وثق بصدره ولم يقيد فيطرأ عليه النسيان ويضيع علمه ولذلك ورد في الخبر: قيدوا العلم بالكتاب. وورد أنَّ رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة النسيان فقال له استعمل يدك أي اكتب! وشاع في أمثال الناس: ينسى الرأس ولا ينسى الكراس. خير الغداء بواكره. الغداء بالفتح والمد والدال مهملة ضد العشاء وتقدم هذا. والمراد أنَّ خير الغداء أيضاً ما ابتك به. ولهذا علة وتحقيق يذكر في الطب. ومنهم من رأى في الغداء

خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.

التأخير. ويروى قول علي كرم الله وجهه أو غيره من الحكماء: من أراد النساء ولا نساء فليكر الغداء وليبكر العشاء وليخفف الرداء وليقلل غشيان النساء. انتهى. قوله فليكر الغداء: أي يؤخره كما في بيت الحطيئة. وأراد بتخفيف الرداء أن يجنب نفسه ثقل الدين: فإن هم الدين يهرم كما قال: لا هم إلاّ هم الدين ولا وجع إلاّ وجع العين. خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع. الغنى بكسر الغين وألف مقصورة ضد الفقر. قال: فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلتِ وقد يمد للضرورة. قال: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ والقنوع: السؤال والتذلل للمسؤول. وقد قنع الجل بالفتح قنوعا فهو قانع وقنيع. قال: لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أخف من القنوع والمفاقر جمع فقر على غير قياس مثل مذاكير لذكر ومحاسن لحسن على ما في ذلك من كلام عند النحويين. ومنه قول النابغة: فأهلي فداء لامرئ إن أتيته ... تقبل معروفي وسد المفاقرا وقال عدي بن زيد العبادي: وما خنت ذا عهد وأنت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا أي سائلا. وفي كلامهم: نسال الله القناعة ونعوذ به من القنوع. وقلت في هذه المادة من قصيدة: إن دعا القنوع ليس بشافيه ... هذا المرء نيل اقصى الأماني ومن اعتز بالقناعة أمسى ... في نعيم وعزة وأمانِ وقد يكون القنوع بمعنى القناعة وهو الرضى بالقسم على الضد وهذا هو المراد في المثل. قال الشاعر: وقالوا قد ذهبت فقلت كلا ... ولكني أعزني القنوعُ

والقانع: الراضي. قال لبيد: فمهم سعيد آخذٌ بنصيبه ... ومنهم شقى بالمعيشة قانعُ ويقال إنما سمي السائل قانعا لنه يرضى بما أعطي وإ، كان قليلا. فيكون معنى القنوع والقناعة واحد أبدا؛ غير أنَّ فعل القناعة هو بالكسر يقال قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قنع وقانع وقنوع وقنيع. ة الفقر بفتح الفاء الحاجة: والخضوع: التذلل. ومعنى المثل واضح في صيانة الحر نفسه عن خسيس المكاسب. وهو من كلام أوس بن حارثة. روي أنه عاش دهرا وليس له إلاّ ابنه مالك. وكان لأخيه الخزرج خمسة أولاد: عمرو وعوف وجشم والحارث وكعب. فلما احتضر أوس قال له قومه: كنا نأمرك بالزواج في شببك فلم تتزوج حتى حضرك الموت. فقال: الأوس: لم يهلك هالك ترك مثل مالك يعني مالك بن أوس ولده وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لمالك ولد. فلعل الذي استخرج العذف من الجريمة والنار من الوثيمة أن يجعل لمالك مسلا ورجالا بسلا يا مالك المنية ولا الدنية والعتاب قبل العقاب والتجلد لا التبلد! وأعلم أنَّ القبر خير من الفقر؛ وشر شارب المشتف وأقبح طاعم المقتف؛ وذهاب البصر خير من كثير من النظر؛ ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم ومن قل ذل ومن أمر فل. وخير الغنى القناعة وشر الفقر الضراعة؛ والدهر يومان: فيوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فكلاهما سينحسر. فإنما تعز من ترى ويعزك من لا ترى. ولو كان الموت يشترى لسلم منه أهل الدنيا ولكن الناس فيه مستوون: الشريف الأبلج واللئيم المعلهج؛ والموت المفيت خير من أن يقال لك هبيت. وكيف بسلامة من ليست له إقامة؟ وشر من المصيبة سوء الخلف وكل مجموع إلى تلف. حياك إلاهك! انتهى. فنشر الله من مالك بعدد بني الخزرج. والعذق بالفتح النخلة نفسها وبالكسر كباستها كما مر في الهمزة؛ والجريمة النواة؛ والوثيمة الموطوءة من الحجارة بحوافر الخيل ونحوها من الوثم وهو الكسر كما قال عنترة:

خطارة غب السرى موارة ... تطس الاكام بذات خف ميثمِ وهذا الكلام يحلف به العرب يقولون: لا والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمة! ومن أيمانهم أيضاً: لا والذي شقهن خمسا من واحد! أي الأصابع ولا والذي أخرج قابية من قوب! أي فرخا من بيضة كما مر؛ و: لا والذي وجهي زمم بيته! بفتحتيناي تلقاءه وتجاهه؛ والبسل: الشجعان وأحدهم باسل والبسالة: الشجاعة؛ والمشتف هو المستقصي ما في إنائه ومنه حديث أم زرع: إن شرب اشتف. والمقتف: الآخذ للشيء بعجلة؛ وأمر الرجل: كثر عدده؛ وتعز: تغلب؛ والمعلهج: المتناهي في الدناءة واللؤم، وقيل هو العريق فيه اللئيم بن اللئيم، والهبيت: الأحمق الضعيف، ويقال له الجبان المخلوع القلب. وضده الثبيت. قال طرفة: فالهبيت لا فؤاد له ... والثبيت قلبه قيمه ويروى: فهمه قيمه. وقد علمت أنَّ لفظ المثل في هذه الوصية التي سردنا من كلام أوس: خير الغنى والقناعة، وشر الفقر الضراعة. ورواية المثل على هذا الوجه هو رأي من لا يرى أنَّ القنوع يكون بمعنى القناعة، وبذلك اعترض البكري على أبي عبيد في إيراده المثل على الالفظ السابق، وقد علمت مما مر إنّه صحيح ومثل هذا المثل قول الفارعة بنت طريف ترثي أخاها: فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا مال إلاّ من قنى وسيوف وقول الأبيرد اليربوعي: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وقول إبراهيم بن العباس الصولي: أسد ضار إذا استنجدته ... وأب بر إذا ما قدرا يعرف الأبعد إنَّ أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا وقوله أيضاً:

خير ما رد في أهل ومال

ولكن الجواد أبا هشام ... نقي الجيب مأمون المغيب بطي عنك ما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب وقول الآخر: إذا أعطشتك اكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا فإنَّ إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ما المحيا! وتقدم ما في ذكر القناعة من الشعر وسيأتي أيضاً كثيرا، إن شاء الله تعالى! ووصية أوس المذكورة مشتملة على أمثال عدة، وقد نبهنا على غريبها، والباقي واضح خير ما رد في أهلٍ ومالٍ هذا يستعمل في الدعاء بالخير للقادم من سفر. والمعنى: جعل الله ما جئت به خير ما رجع به الغائب! وقيل: المعنى أنَّ مجيئك بنفسك خير مارد في أهلك ومالك. خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المال معروف؛ والسكة بالكسر: الحديد التي تضرب عليها الدراهم، والتي يحرث بها. وتطلق أيضاً على السطر من الأشجار؛ والمأبورة: المصلحة، يقال: أبر نخلة، يأبره، أبارا وغبارة ككتب كتبا وكتابا وكتابة؛ وأبرة تأبير: ألقحه وأصلحه؛ وأئتبر الرجل: طلب غيره أنَّ يأبره له. فقال طرفة: ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر وتأبرت النخل: قبلت الإبار. قال الراجز: تأبري يا خير فسيل ... إذ ضن أهل النخل بالفحول! والمهرة معروف، والمأمورة: كثيرة النسل والنتاج. تقول: آمرته بالمد: كثرته. فكان القيلس أنَّ يقال مؤمرة، كما تقول أعمرتها فهي معمرة؛ ولكنه قيل مأمورة إتباعا لمأبورة، كما قيل لا دريت ولا تليت أي تلوت وأرجعن مازورات، غير ما جورات أي مزورات. على إنّه قد يقال أمرته كنصرته

الخيل تجري على مساويها.

فهو مامور، كثرته، وهو لغية. وقد قيل بذلك في قوله تعالى:) وإذا أردنا أنَّ نهلك قرية أمرنا مترفيها (. أي كثرنا. ويقال: أمر القوم بالكسر أي كثروا ومنه قول أوس بن حارثة السابق: من أمر فل، وقول الآخر: نعلهم كلما يبني لهم سلف ... بالمشرفي ولولا ذاك قد أمروا وقول أبي وجرة: أمرون لا يرثون سهم القعدد أي كثيرون اسم فاعل أمر. وقول الآخر: أم جوار ضنؤها غير أمر أي نسلها. وقول الآخر: والإثم من شر ما يصال به ... والبر كالغيث نسله أمر والسكة هنا أريد بها الأشجار. والمعنى أنَّ خير المال نخيل قمت عليه وأصلحته، أو فرس ولود. وقيل: أريد بالسكة الحديدة التي يحرث بها. ومعنى مأبورة: مصلحة. والمعنى أنَّ خير المال الحرث والبطن. وأعلم أن هذا الكلام ذكره اللغويون، وظاهر كلامهم إنّه من كلام العرب. وفي الصحاح إنّه حديث، والله أعلم! ووري في الحديث أيضاً من هذا المعنى: خير المال عين ساهرة لعين نائمة. وروي: تسعة أعشار الرزق في التجارة. ووري إنّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، ويأمر الفقراء باتخاذ الدجاج. وقات ابنه الخس: مائة من المعز قني، ومائة من الضأن غنى، ومائة من الإبل مني. الخيل تجري على مساويها. الخيل جماعة الأفراس. قال عنترة: والخيل تقحم الخبار عوابسا ... ما بين شيظمة وأجرد شيظم ولا واحد لها. وحكى بعض اللغويين في واحده خائل من الختيال وهو التبختر. والخيل أيضاً جماعة الفرسان. قال امرؤ القيس: فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا

الخيل اعلم بفرسانها.

وقال الآخر: علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت؟ والجري معروف والمساوي: المعائب قيل لا واحد لها وقيل جمع مسوء على غير قايس والإظهار إنّه جمع مساءة كما تقول في منارة منائر قال الشاعر في المفرد: لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك وقول الآخر في الجمع: وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا يقال ساء يسوؤه سوءا بالفتح وسوءا وسوائية كعلانية وسواية بحذف الهمزة ومساء ومساءة ومسائية ومساية إذا فعل به ما يكره. وهذا المثل يضرب في حماية الحريم والدفاع عنه مع الضرر والخوف. والمعنى أن الخيل وإن كانت بها أواصب وعيوب فإنَّ كرمها مع ذلك يحملها على الجري. فذلك الحر من الرجال يحمي حريمه على ما فيه من علة. وقيل إنَّ المراد بالمثل إنَّ الرجل يستمع به وفيه الخصال المكروهة وهو ظاهر. الخيل اعلم بفرسانها. الخيل تقدم والفرسان جمع فارس والفارس صاحب الفرس كما قالوا لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر. ويجمع على فوارس. قال عنترة: فإنَّ يك عبد الله لاقى فوارس ... يردون خال العارض المتوقد والفراسة بالفتح والفروسة والفروسية الحذق بركوب الخيل وأمورها. وقد فرس الرجل بالضم يفرس. قال أبن ظفر: وليس من ركب الفرس له حكم الفراسة عند العرب ولكن الفارس عندهم من أحسن الجلاد على الفرس واشتهر بالشجاعة كعمرو بن معدي كرب وربيعة بن مكدم وملاعب الأسنة وعنترة العبسي وأضرابهم. فهؤلاء فرسان العرب. قال الشاعر: لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس فلم يمتدح بنفس الركوب. انتهى.

الخيل أعلم من فرسانها.

والمثل يضرب لمن يظن إنَّ عنده غنى ولا غنى عنده. الخيل أعلم من فرسانها. هذا المثل يضرب لمن تظن به ظنا فتجده على ما ظننت هكذا قال بعض العلماء. ويحتمل إنَّ هذين المثلين واحد وإنّما وقع التحريف في أحدهما. والتفسير الثاني انسب بالأول كما لا يخفى. أخيل من مذالة. يقال: خال الرجل يخال واختال إذا تكبر وتبختر عجبا فهو خال وخائل وخال كقاص مقلوبا ومختال. والإذالة بالذال المعجمة: الإهانة. يقال: أذلت الرجل فهو مذال. قال زيد الخيل يخاطب بني الصيداء وكان غزا غزوة فطلع بعض خيله فأدركوه فأخذوه: يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنّما يصنع هذا بالذليل لا تذيلوه فإني لم أكن ... يا بني الصيدا لمهري بالمذيل عودوه كالذي عودته ... دلج الليل وإطاء القتيل ويحكى إنَّ أبا تمام الطائي خرج قاصدا البصرة وفيها عبد الصمد بن المعذل. فلما سمع عبد المد بقدومه إليه كتب إليه: أنت بين اثنتين تبرز للناس ... وكلتاهما بوجه مذال لست تنفك راجيا لوصال ... من حبيب أو طالبا لنوال أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال؟ فلما وقف أبو تمام على الأبيات رجع وقال: شغل هذا ما وراءه ولا حاجة لنا فيه. وقريب من هذا قول بعضهم في هجو أبي الطيب المتنبي: أي فضل لشاعر يطلب الفضل ... من الناس بكرة وعشيا؟ عاش حينا يبيع في الكوفة الماء ... وحينا يبيع ماء المحيا وإنّما قال: ذلك لمِا يحكى إنَّ أبا الطيب المتنبي كان سقاء بالكوفة والله اعلم.

أخرجت له حريشتي

ونحو الأول قول الإسعري في مجونه الهجوية: أنت بين اثنين يا نجل يعقوب ... وكلتاهما مقر السيادة لست تنفك راغبا عرد عبد ... مستبطرا أو حاملا خف عادة أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل البغا وذل القيادة والمذالة في هذا المثل أرادوا بها الأمة لأنها تذال أي تمتهن بالخدمة ويرها وهي أكثر خلق الله اختيالا وتبخترا وعجبا وذلك من ضعف عقلها وسقاطة نفسها ونقصان همتها فإنَّ الهموم بقدر الهمم. ومما يلتحق بهذا الباب قولهم: أخرجت له حريشتي أي ملك يدي. وقولك مثلا: أخشن من ليفة. والخشونة ضد اللين والليف بالكسر ليف النخل وهو معروف والواحدة ليفة بالهاء وهذا المعنى مطرد كما مر في نظائره. ومن هذا الباب قولهم: خفة الظهر أحد اليسارين. جعلوا خفة الظهر كنية عن عدم أو قلة الحقوق اللازمة والنفقات الواجبة فإنّها للزومها كالشيء المحمول على الظهر يخف ويثقل. ولا فرق في إنَّ الأحمال المحسوسة يحملها البدن المحسوس والحقوق تحملها اللطيفة الروحانية من البدن وهي القلب وهذه أقل صبرا على الثقل للطافتها. واليسار: الغنى. وثنى بحسب حقيقته ومجازه لا تفاق اللفظ. وقد قالوا من هذا النحو: الغربة أحد السباءين واللبن أحد اللحمين وتعجيل اليأس أحد اليسرين والشعر أحد الوجهين أي النظر إلى الشعر كالنظر إلى الوجه والحمية إحدى الموتتين أي امتتاع الطعام والقلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين والراوية أحد الهاجيين

خفيف الحاذ.

أي رواية الهجو كقائله. وهذا كله من تثنية الحقيقة والمجاز. وفي ذلك خلاف عند النحويين والمشهور المنع والصحيح جوازه وإنّه لا يشترط اتفاق معنى المثنيين بل اللفظ فقط. ومما يشهد لصحته هذا الذي ذكرناه من الأمثلة فإنّها أمثال من كلام العرب ودليله من الشعر قول الشاعر: كم ليث اعتنى لي أشبل غرثت ... فكأنني أعظم الليثين إقداما أي كان أعظم الليثين إقداما إياي. وقول الآخر: يداك كفت إحداهما كل بائس ... وأخراهما كفت أذى كل معتد وإن كان في هذا المثل ضعيف. ومما يدل عليه قول جحدر: ليث وليث في محل ضنك إذ لا فرق بين نحو هذا العطف وبين التثنية فانه أصلها. وليس هذا محل تحرير المسألة والاحتجاج لها. وقولهم أيضاً: خفيف الحاذ. الحاذ بالذال المعجمة الظهر. وألفه عن واو والذال لام الكلمة ومحل الأعراب وليس بعدها ياء كما يصحف. ومعنى خفيف الحاذ: قليل الماء والعيال. وفي الحديث: مؤمن خفيف الحاذ. وقولهم: خفيف الرداء. أي قليل العيال والدين. والرداء بالكسر والمد يطلق على الملحفة المعروفة وعلى السيف والقوس وعلى الجهل وعلى ما زان وما شان وعلى الضد وعلى الوشاح وعلى الدين. ومما يحسن أن يتمثل به في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد:

خلط عليك الأمر.

خلط عليك الأمر. والقصة مشهورة وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو يخبأ وأبوه يكنز. وذلك إنَّ خبيئة بن كناز ولي في خلافته الابلة فقال عمر رضي الله عنه: لا حاجة لنا وهو يخبأ وأبوه يكنز. ومن الأمثال المولدة قولهم: اخط الحسن يزيد من الحق وضوحا. بمعنى إنّه إذا أجيد الخط وبينت الحروف تبينت الألفاظ المؤدية للمعاني وانشرحت النفس وانبسطت إليها وأقبلت عليها فكان قبولها للمعاني أتم وفهمها لها أكثر. وقد قالوا: الخط الحسن أحد اللسانين. وقالوا حسن الخط إحدى الفصاحتين. وقال جعفر بن يحيى: الخط بسط الحكم: به تفصل شذورها وينتظم منثورها. وقال المبرد: رداءة الخط زمانة الأدب. وقال الإمام الماوردي: خطوط العلماء في الأغلب رديئة لاشتغالهم بالعلم حتى قال الفضل أبن سهل: من سعادة المرء رداءة خطه أي لئلا يشغله تعلم الخط عن تعلم العلم. قيل: والأسباب المخلة بالخط ثمانية: إسقاط ألفاظ منه أو زيادة ألفاظ فيه أو إسقاط بعض حروف الكلم أو زيادة حروف أثناءها أو وصل المفصول أو فصل الموصول أو تغيير الحرف حتى يشتبه حرف بغيره أو ضعف الخط جملة أو إهمال النقط أو الشكل. قيل: وقد استقبح الكتاب النقط والشكل في مكاتبهم ورأوا ذلك من تقصير الكتاب وسوء نظرتهم في فهم المكتوب لا سيما مكاتبات الرؤساء. كما حكي إنَّ بعض كتاب الديوان حاسب عاملا فشكاه في رقعته إلى عبيد الله بن سليمان فوقع فيها: هذا هذاء. فظن العامل إنَّ عبيد الله أراد: هذا هذا إثباتا لذلك القول كما تقول في إثبات الشيء هو هو. فحمل الرقعة للذي يحاسبه فخفي عليه ما يقتضي التوقيع فطيف به على الكتاب فلم يفهموه. فرد إلى عبيد الله. فشدد الثانية وكتب تحتها: والله

آلات الكتابة وأصناف الكتب.

المستعان استعظاما لقصور نظرهم. واستحسن آخرون لنقط والشكل، وقالوا: المعجمة كالبرود المعلمة. وقالوا: إعجام الخط يمنع استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله. وقيل، رب علم لم تعجم فصوله فاستعجم محصوله. آلات الكتابة وأصناف الكتب. وإذ أنجز بنا الكلام في الخط فلنكمل الغرض بذكر ما تيسر من آلات الكتابة، ومعنى الكتاب، والبراءة، والطبع، والتوقيع، والعنوان، وأصناف الكتاب، وجملة من شعر الأدباء في ذلك، وهذا باب واسع ألف فيه الناس. لكن نشير نحن إلى جملة يسيرة على وجه الاختصار وينتفع بها. فمن الآلات الدواة ووزنها فعلة كالشجرة، ثم قلبت الياء ألفا فصارت كفتاة وقناة، ز الجمع دويات كقنوات ودوي كقنى. قال الشاعر: لمن الدار كخط باللدوى؟ ... أنكر المعروف منها وأمحى ودوي بضم الأول على فعول كما يقال قني وعصي في الجمع. قال الشاعر عرفت الديار كرقم الدوي ... حبره الكتاب الحميري وقال الآخر: وكم تركت ديار الشرك تحسبها ... تلقى الدوي على أطلالها ليقا واشتقاقها من الدواء، لأن بها صلاح أمر الكاتب. واشتقها بعض الأدباء من قولك: دوي الرجل بالكسر دوي إذا مرض فقال: أما الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرف الحظ تحريف من القلم أي أمرضه. ونحو هذا الاشتقاق لا يعتمد عليه. ويقال لصانعها مدو، كما يقال لصانع القني مقني، ولبائعها دواء كحناط لبائع الحنطة، ولحاملها داوٍ كسائف لصاحب السيف ولمتخذها مدو، وقد أدوى دواة. ولمّا تصان به صوان وغشاء وغلاف وما تسد به صمام وسداد وعفاص، وكذا غيرها يقال لصفوتها إذ أنفشت لتعمل فيها

قبل أنَّ تبلّ، البوهة بالضم، وإذا بلت فهي الليقة، وقد تسمى به قبل ذلك مجازاً. ولقت الدواة فهي ملقية، وألقتها فهي ملاقة. فإنَّ كانت من قطن فهي العطبة والكرسفة، والقطن كله يقال له ذلك. ولمدادها نقس بكسر الأول، ويفتح. والمداد يذكر ويؤنث. ومددت الدواة مداً: جعلته فيها؛ وأمددتها: زدتها منه؛ واستمددت: أخذت بالقلم من المداد؛ وأمددت فلانا من دواتي: أعطيته. ويقال للدواة محبرة بالفتح لأنها محل الحبر بالكسر وهو النقس؛ ويقال لها النون والجمع أنوان ونينان؛ ويقال لها الرقيم أيضا. وأمهت الدواة وموهتها جعلت فيها ماء. ومنها القلم، والجمع قلام وأقلام كجبال وأجبال. ويقال له المزبر والمذبر بالذال المعجمة لأنه يزبر به ويذر أي يتب وقيل الذبر، بمعنى القراءة. ويقال للقصبة يراعة وأباءة والجمع يراع واباء؛ ويقال لعقدة الكعوب: فإنَّ كانت فيه عقدة تشينه فهي الابنة؛ ولمّا بين العقد الأنابيب، وكذا في الرماح. ويقال لطرفي القلم اللذين يكتب بهما السنان والشعيرتان، والواحد سن وشعيرة. فإنَّ سويا في القطع فهو قلم مبسوط، وإنَّ جعل أحدهما أطول فهو محرف. ومنها السكين والمقص. قال أبن عبد ربه: ينبغي للكتاب أنَّ يصلح آلته التي لا بد له منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلاّ بها، وهي دواته. فلينعم ربها وإصلاحها، وثم يتخير من أنابيب القصب أقله عقدة، وأكتافه لحما، وأصلبه قشرا، وأعد له استواء. ويجعل لقرطاسه سكينا ليكون عونا على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصب. انتهى. ويقال السكين والمدية والمجزاة والمبراة والفالية والشلقاء بالكسر والمد، وغير ذلك ويقال المقص والمقراض والمقطع بكسر أوائلها والجلم، وأكثر ما يقال بالتثنية. قال الشاعر: ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان يعني لحيته. وجاء فيه الأفراد. قال سالم بن وابصة: داويت صدرا طويلا غمرة حقداً ... منه وقلمت أظفارا بلا جلم وقال أعرابي: فعليك ما استطعت الظهور بلمتي ... وعلي أنَّ ألقاك بالمقراض

وأما الكتاب فهو مكتوب ويقال له الزبور والزبير والذبير. قال امرؤ القيس: ... كخط زبور في مصاحف رهبانِ وقيل: الزبور في هذا البيت هو الكتاب وهو الظاهر. فإن كان ما يكتب فيه من جلود فهو رق وقرطاس بكسر القاف وضمها؛ وإن كان من خرق فهو كاغد بدال مهملة وروي بمعجمة. وقد يستعمل القرطاس في الكل. ويقال لمّا يكتب الصحيفة والمهرق على وزن مكرم والجمع مهارق. قال الأعشى: ربي كريم لا يغير نعمة ... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا والقضيمة. قال امرؤ القيس: ... وبين شبوبٍ كالقضيمة قرهبِ والسجل والصك والقط. وكذا كتب الجوائز والصلات والجمع صكوك وقطوط. قال الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفقُ وقال المتلمس: ألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضللِ فإن كتب فيها بعد محو فهي طرس. ونمقت الكتاب نمقا ونمقته تنميقا، وحبرته ورقشته وزورته تحبيرا وترقيشا وتزويرا؛ وكذا زبرجته وزخرفته زبرجة وزخرفة أي كتبته كتابة حسنة. فإذا نقطه قلت وشمه وشما، وأعجمته إعجاما ورقشته ترقيشا. قال طرفة: كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشيمه فاا أفسد الخط قلت مجمجه وشرمجه وهلهله ولهلهه مجمجة وشرمجة وهلهلة ولهلهة وثبجه تثبيجا. وإذا لم يبينه قلت دحمسه دحمسة ومجمجه وعقمه عقما وعقله عقلا. فإذا أدق الحرف وقارب بعضها بعض قلت قرمط وقرصع قرمطة وقرصعة. فإذا مد الحروف قلت مشق مشقا وقيل المشق سرعة الكتابة وخفتها. فإن نقص شيئا فألحقه فهو لحق وجمعه إلحاق.

قال الشاعر: عورٌ وحولٌ وثالثٌ لهم ... كأنه بين أسطر لحقُ فإن وضعت عليه بعد الكتب ترابا قلت تربته تتريبا وأتربته إترابا؛ أو نشارة قلت نشرته تنشيرا. وأما البراءة فهي في الأصل مصدر قولك: برئت من الأمر بالكسر براءة أي تبرأت؛ وأما هذه البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فقال أبو محمد بن السيد رحمه الله: سميت بذلك لمعنيين: أحدهما أن يكون من قولهم برئت إليه من الدين براءة إذا أعطيته ما كان له عندك وبرئت إليه من الأمر براءة إذا تخلف عنه فكأن المرغوب إليه يتبرأ إلى الراغب مما أمله لديه ويتخلى له عما رغب فيه إليه. وقيل إنّما كان الأصل في ذلك أنَّ الجاني كان إذا جنى جناية يستحق عليها العقاب ثم عفا عنه الملك كتب له أمانا مما كان يتوقعه ويخافه فكان يقال: كتبت لفلان براءة أي أمانا ثم ضار مثلا واستعار في غير ذلك. قال: وقد جرت عادة الكتاب ألا يكتبوا في صدر البراءة: بسم الله الحمن الرحيم اقتداء بسورة براءة التي كتبت في المصحف من غير بسملة. وأما الطبع فهو طبع الكتاب. تقول: طبعت الكتاب طبعا وختمته ختما وأفقته أفقا ومن ذلك قول الأعشى السابق: يعطي القطوط ويأفق أي يختم ويقال لمّا يطبع به طابع. قيل: وأول من طبع الكتب عمرو بن هند وذلك أنه لمّا أعطى المتلمس الصحيفة ليقتل ثم استقرأها فهرب كما سيأتي حديثه أمر عمرو بعد ذلك بالكتب تختم. فكان يؤتى بالكتاب مطبوعا فقيل من عني به فلذلك سمي العنوان عنوانا. ثم لمّا كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك الروم ولم يختمه قيل له إنه لا يقرؤه إن لم يكن مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم وينقش على فصه: محمد رسول الله فصار الختم سنة في الإسلام. وقيل أول من ختم الكتاب سليمان أبن داود عليه السلام. وقيل في تأويل قوله تعالى: إني ألقي إلي كتاب كريم أي مختوم. وأكرمت الكتاب ختمته وهو أول من افتتح كتابه بالبسملة. قيل: وكانت العرب تقول في افتتاح كتبها وكلامها. باسمك اللهم! فجري الأمر على ذلك في صدر الإسلام حتى نزلت: بسم الله مجراها ومرساها فكتب رسول الله

صلى الله عليه وسلم: بسم الله حتى نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب: بسم الله الرحمن. ثم نزلت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فصارت سنة إلى يومنا هذا. وأوّل من كتب من فلان إلى فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار ذلك سنة يكتب الكتاب ويبدأ باسمه قبل اسم من يخاطبه ولا يكتب لقبا ولا كنية حتى ولي عمر بن الخطاب وتسمى بأمير المؤمنين فكتب من أمير المؤمنين عمر. فجرت السنة بذلك إلى أيام الوليد بن عبد الملك فكان الوليد أوّل من اكتنى في كتبه وأوّل من عظم الخط والكتب وجود القراطيس. ولذلك قال أبو نواس: سبط مشارفها رقيق جطمها ... وكأن سائر خلفها بنيانُ واحتازها لون جرى في جلدها ... يقف كقرطاس الوليد هجانُ فجرت سنة الوليد بذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما لمّا وليا ردا الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أحابه رضوان الله عليهم. فلما ولي مروان رجع إلى أمر الوليد فجرى الأمر عليه. ذكر ذلك أبو محمد بن السيد رحمه الله تعالى. وأما التوقيع فهو ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه ممن رفع إليه كالسلطان ونحوه من ولاة الأمر كما إذا رفعت إلى السلطان أو إلى الوالي شكاة فكتب تحت الكتاب أو على ظهره: ينظر في أمر هذا أو: يستوفى لهذا حقه أو نحو ذلك. فهذا توقيع. ورفع إلى جعفر بن يحيى كتاب يشتكى فيه بعامل فكتب على ظهره: يا هذا قد قل شاكروك وكثر شاكوك فإما اعتدلت وإما اعتزلت! ورفع إلى الصاحب بن عباد كتاب فيه: إنَّ إنسانا هلك وترك يتيما وأموالا جليلة لا تصلح لليتيم وقصد الكاتب إغراء الصاحب. فأخذها فوقع الصاحب فيها: الهالك رحمه الله وو اليتيم أصلحه الله والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله! ونحو هذا من التوقيعات. والتوقيع في الأصل التأثر في الشيء. يقال: حمار موقع الظهر أي أصابته في ظهره دبرة فسمي هذا توقيعا لنه تأثر في الكتاب حسنا أو في الأمر معنى؛ أو في الوقوع لأنه سبب لوقوع الأمر المذكور أو لأنه إقاع لذلك المكتوب: فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه.

وأما العنوان فهو ما يجعل عليه ليستدل به عليه ويقال قيه: عنوان وعنيان بضم الأول فيهما وكسره. وأصله عنان على مثل رمان لأنّه مشتق من قولك: عن لي الأمر يعن إذا عرض لأنّه هو يعرض للكتاب من ناحية وعننه وعنونه وعناه: كتب عنوانه. ويقال فيه أيضاً علوان باللام وعلون الكتاب وعلاه تعلية: كتب عنوانه وكل ظاهر شيء استدلت به على باطنه فهو عنوان له. قال الشاعر: رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون! وقال الآخر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا وما أصناف الكتب فكثيرة منها: كاتب التدبير وهو أجلها وأعلاها درجة وهو كاتب السلطان الذي يكتب سره؛ ومنها كاتب أرباب الأحكام وأجلها كاتب القاضي ثم كاتب صاحب المظالم ثم كاتب صاحب الديوان وهو الخراج ثم كاتب صاحب الشرطة؛ ومنها كاتب العامل وكاتب المجلس إلى غير وكل واحد منها له أحكام وآداب ذكرت في محلها. ولهم أقلام مختلفة اصطلحوا عليها في الكتابة. انتهى. مجموعها بحسب ما ذكروا إلى أحد وعشرين وهي الجليل والسجلى ويسمى قلم الثلثين والقلم الرئاسي والنصف وخفيف النصف والثلث وخفيف الثلث والمسلسل وغبار الحلبة وصغير الغبار وهو قلم المؤامرات وقلم القصص والحوائجي والمحدث والمدمج وثقيل الطومار وخفيف الطومار والشامي ومفتح الشامي والمنثور وخفيف المنثور وقلم الجزم. واختلف في أوّل من كتب: فقيل آدم عليه السلام كتب الصحف قبل موته بثلاثمائة سنة في طين ثم طبخه. فلما كان بعد الطوفان أصاب كل قوم كتابهم؛ وقيل أوّل من كتب إدريس عليه السلام؛ وقيل أوّل من وضع الكتابة إسماعيل عليه السلام وضعها بلفظه ومنطقه؛ وقيل أوّل من كتب قوم من الأوائل أسمائهم أبجد هوز حطي إلى آخرها. وكانوا ملوك مدين وقيل هم أبجد هوز إلى قرست ملوك مدين فوضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم وكان سيدهم كلمن فهلكوا يوم الظلة فقالت ابنة كلمن ترثيه:

كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه ... الحتف نارٌ وسط ظله جعلت نارٌ عليهم ... دراهم كالمضمحله ويروى أيضاً: ألا يا شعيب قد نطقت مقالةً ... سبقت بها عمراً وحي بني عمرِ ملوك بني حطي هوز منهم ... وسعفص أهل للمكارم والفخرِ وقيل هم ملوك الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام فألقيت إلى العرب؛ وقيل أسماء ملوك الجبابرة. وقيل أوّل من وضع الخط العربي نفر من طيء من بولان وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة. فساروا إلى مكة فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة بن حرب بن عبد شمس وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهشام بن المغيرة المخزومي. ثم أتوا الأنبار فتعلمه نفر منهم. ثم أتوا الحيرة فتعلمه منهم جماعة منهم: سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم وولده يسموه بالكوفة بني الكاتب. ثم أتوا الشام فعلموه جماعة فانتهت الكتابة إلى رجلين من أهل الشام يقال لهما الضحاك وإسحاق بن حماد واخترع منه خطا أخف فسماه الثلثين السابق. ثم جعل الناس يختصرون ويغيرون حتى انتهى إلى ما مر. وليس هذا محل تفصيل هذا. وأما ما قيل من الشعر في وصف الكتاب أو الأقلام أو المحابر أو تفضيل القلم على السيف أو العكس فأكثر من أن يحصى. وقد وضعت في ذلك موضوعات مستقلة. فمن مستحسن ذلك قول أبي الفتح البستي: إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عاملهُ وإن أقر على رقٍّ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام لهُ وقال الآخر: يمسك الفرس رمحا بيدٍ ... وأنا أمسك فيه قصبه فكلانا فارسٌفي شأنه: ... إنَّ الأقلام رماحُ الكتبه

وقول الآخر: وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأشجار يأرج بالغداةِ بأوضاع أو بأبسط من نسيمٍ ... توديه الأفاوه من دواةِ وقول الآخر في خلاف هذا: دعي في الكتابة لا رويٌ ... له فيما يعد ولا بديهُ كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريهُ! وقول بعضهم وقد نظر إلى فتى عليه أثر المداد وهو يستره: لا تجزعن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب! ويقال: أثر المداد دليل على الفضل حتى إنَّ عبيد الله بن سليمان رأى صفرة زعفران في ثوبه فطلاها بالحبر وقال: المداد أحسن بنا من الزعفران! وأنشد: إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوات عطر الرجالِ وقول الآخر يهجو كاتبا: حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ في زيادِ فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك في المدادِ! وقال بعضهم: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا فوقعت من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه فتعجبت فقال: لا تعجب! المال فرع والقلم أصل والأصل أحوج من الفرع إلى المراعات وبهذا السواد جاءت الثياب. ثم أطرق قليلا فأنشد: إذا ما الفكر ولد حسن لفظٍ ... وأسلمه الوجود إلى العيانِ ووشاه فنمنمه مشدٍ ... فصيحٌ في المقال بلا لسانِ ترى حلل البيان منشراتٍ ... تجلى بينها صور المعاني وكتب سليمان بن وهب بقلم صلب واعتمد عليه فصر تحت يده فقال: إذا ما التقينا وانتضينا صوارماً ... يكاد يصم السامعين صريرها تساقط في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نظمها ونثرها تقود أبيات البيان بفطنةٍ ... يكشف عن وجه البلاغة نورها تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تسر ستورها

وقول أبي تمام يمدح محمد بن عبد الملك الزيات من قصيدة: لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصلُ له الخلوات اللاء لولا نجيها ... لمّا اختلفت للملك تلك المحافلُ لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ له ريقٌ طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجلُ إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافلُ اطاعته أطراف القنى وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافلُ إذا استغزر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافلُ وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ رأيت جليلاً شأنه وهو مرهقٌ ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ وقول أبي الفتح البستي: إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتاب مجداً ورفعةً ... مدى الدهر أنَّ الله أقسم بالقلم وقول البحتري: تعنو له وزراء الملك قاطبةً ... وعادة السيف أن يستخدم القلما وقول الآخر: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأممُ فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبلع ما يجري به القلمُ بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنَّ السيوف لها مذ أرهفت خدمُ وقول أبي الطيب مناقضا لهذا: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلمِ اكتب بذا أبداً بعد الكتاب لها ... فإنما نحن للأسياف كالخدمِ وقول سليمان بن جرير النمري في نحوه: جهابذةٌ وكتابٌ وليسوا ... بفرسان الكريهة والطعانِ ستذكرني وتعرفني إذا ما ... تلاقى الحلقان من الباطنِ

أخف من دينار يحيى.

وقول كشاجم: هنيئاً لأصحاب السيف بطالةً ... تقضى بها أيامهم في التنعمِ! وكم فيهم من دائم الأمن لم يرع ... بحربٍ ولم ينهد لقرن مصممِ وكل ذوي الأقلام في كل ساعةٍ ... سيوفهم ايست تجف من الدمِ وقول الآخر في مدح القلم وأهله: قومٌ إذا أدخلوا الأقلام من قصبٍ ... ثم استمدوا بها ماء المنياتِ نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفياتِ وقول البحتري يمدح الحسن بن وهب ويصف أقلامه: وإذا تألق في الني كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبهِ وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبهِ فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربهِ حكمٌ فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليلها من قلبهِ فكأنها والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبهِ وقوله أيضاً في أبن الزيات: لتصرفت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميدِ في نظام من البلاغة ما شك ... امرؤ أنه نظام فريدِ وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديدِ ما أعيرت منه بطون القراطيس ... وما حملت طهور البريدِ حزن مستعمل الكلام أخباراً ... وتجنبن ظلمة التعقيدِ كالعذارى غدون في الحلل الصفر ... إذا رحن في الخطوب السودِ ومن أمثال الأدباء قولهم: أخف من دينار يحيى. وهو يحيى بن علي أعطى بعض الأدباء دينار خفيفا فقال فيه عدة مقاطع منها: دينار يحيى زائد النقصان ... فيه علامة سكة الحرمانِ

خالف تعرف!

قد راق منظره ورق خياله ... فكأنه روح بلا جثمان أهداه مكتتما إلي برقعةٍ ... فوجدته أخفى من الكتمان! ومن أمثال العامة قولهم: خالف تعرف! ونحوه قول الشاعر: خلافا لرأي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكر! ويظهر من هذا البيت إنَّ المثل قديم، والبيت انشده الجاحظ. ولنلم الآن بشيء في هذا الباب. قال الشاعر: تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماء نقاخا شراب النبيئين والمرسلين ... ومن لا يحاول منه اطباخا رأيت النبيذ يدل العزيز ... ويكسو التقي النقي اتساخا فهبني عذرت الفتى جاهلا ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا؟ قوله ماء نقاخا، أي بارداً عذبا صافيا، وهو بضم النون وبالقاف على مثال غراب. وقال الآخر: نعوذ بالله من أناسٍ ... تشيخوا قبل إنَّ يشيخوا تقوسوا وانحنوا رياء ... فأحذرهم: انهم فخوخ! وأشار بهذا التمثل في الرياء إلى نحو ما حكي في الإسرائيليات إنَّ عصفورة على فخ فقالت له: مالي اراك منحنيا؟ قال:: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي، بدت عظامي! قالت: فما هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي لبست الصوف. قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكؤ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إنَّ مر بي مسكين أناوله إياها. قالت: فإني مسكينة. قال: خذيها! فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فصاحت: قعى! قعى! وتفسيره: لا غرني مراءٍ بعدك أبداً! ومما جاء في الرياء، أعاذنا الله منه!، قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:

" الرياء ". يقول عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا، فانظروا كيف تجدون عندهم الجزاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من راأى، راأى الله به، ومن سمع، سمع الله به ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها، خيرا فخير وإنَّ شرا فشر. والآيات والأحاديث والآثار في ذم الرياء والتنفير عنه لا تحصى وهي مشهورة. وفي معنى ذلك قول الشاعر: وإذا أظهرت شيئاً حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر فمسر الخير موسم به ... ومسر الشر موسوم بشر وقول الآخر في المتشابهين: أهل الرياء لبستهم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقستم الأموال بابن القاسم وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم وقول الآخر: قل للأمام سنا الأئمة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع: لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي! فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع وقال محمود الوراق لابن أخته: تصوف كي يقال له أمين ... وما معنى التصوف والأمانة؟ ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة وقول الآخر: صلى وصام لأمر كان يطلبه ... ومذ حواه فما صلى ولا صاما! وقول الآخر: شمر ثيابك واستعد لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم

وعليك بالغنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيمِ! وقول الآخر: لا شيء أخسر صفقة من عالمٍ ... لعبت به الدنيا مع الجهالِ فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديه حرصاً بجمع المالِ لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلالِ فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فالفضل تسأل عنه أي سؤالِ! وقول بعضهم وقد رأى ثم افتضح نعوذ بالله!: بينا أنا في توبتي مفبلاً ... قد شبهوني بابن روادِ وقد حملت العلم مستظهراً ... وحدوثوا عني بإسنادِ الله تعالى خطر الشيطان بي جطوة ... نكست منها في أبي جادِ وقال آخر يخاطب معزولا: ولوك إذ علموا بجهلك منصباً ... علموا بأنك عن قليل تبرحُ طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخُ وقال الآخر في حمام: حمامكم قيمته أسود ... هربت منه وأنا صارخُ قد سلخت جسمي أظافره ... يا قوم هذا الأسود السالخُ وفي هذين الشعرين التورية وهي إن يذكر الشاعر لفظاله مهنيان: قريب وبعيد. ويريد البعيد نحو قوله تعالى: الرحمن على العرشِ استوى فإنَّ المراد أحد معنيي الاستواء وهو الاستيلاء قهرا وغلبة وهو المعنى الأبعد لأنّه مجاز وتسمى التورية إيهاما. فإن كان المعنيان مستويين سمي ذلك توجيها. وقد تقدم في ذلك جملة من الشعر في الأبواب السابقة ونحن نريد هنا من مستحسن ذلك قول بعضهم يهنيءبعيد النحو: تهن بعيد النحو وابق ممتعاً ... بأمثاله سامي العلى نافذ الأمرِ! تقلدنا فيه قلائد أنعمٍ ... واحسن ما تبدو القلائد في النحرِ وقول الآخر: بروحي أفدي خاله فوق خده ... وما أنا في الدنيا فأفديه بالمالِ

تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالِ وقول الآخر: مهفهف القد إذا ما انثنى ... قال ولا يخشى من الود ما أنت كفلي يا كثيب اللوى ... ولست يا غصن النقا قدي! لو نلت من خده تقبيلةً ... تزين الريحان بالوردِ وقول الآخر: قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى يا غصن أن تستميلك! وقول الآخر: تهاون شمس الين بي وهو صاحبٌ ... وأظهر لي أضعاف ما يظهر العدا نزلت به أبغي النا وهو طالعٌ ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندا! وقول الآخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم: يا عين إن بعد الحبيب وداده ... ونأت مرابعه وشط مزارهُ فلقد ظفرت من الزمان بطائلٍ ... إن لم تريه فهذه آثارهُ وقول الآخر: عاينته ودموعي غير جاريةٍ ... لأن دمعي من طول البكا نشفا فقال: لم أدر وكف الدمع قلت له: ... حسيبك الله يا بدر الجا وكفا! وقول الصفدي مع حسن التضمين: ملكت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحدٌ في دهره بمخلدُ إذا عاينت كتبي الصحيحة حاله ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلد! وقول أبي بكر بن حجة: عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض وقول البدر الدماميني: وبي وجنةٌ حمراء زاد صفاؤها ... فأبدت صفات أبع الحسن كونها فدع لائمي فيها عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها

وقول أبن جعفر العسقلاني: قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الابريز برزت في هذا وفي هذا على ... الرازي بالإحسان والتبريزي وقوله: خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا؟ وقول المعمار: إنَّ قام يتلو سورة الشمس المنيرة في ضحاها يا حسنه فكأنه القمر المنير إذا تلاها وقوله: تملك قلبي صارم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد أقول لصاحبي حين يرنو بلحظه: ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي وقول الآخر: يا من تولى قاضيا ... هذا قضاء أم قدر؟ عذرك في نسياننا ... أنَّ القضا يعمي البصر! وقول أبن العفيف: ليس خليليا ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل يا ردفه جرت على خصره ... وفقا به ما أنت إلاّ ثقيل! وقوله مما يكتب على كأس: أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود للندامى وأنفاسي وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهب ... فمن أجل هذا لقبوني بالكأس وقوله في مليح خيالي: خيالي أخاف الهجر منه ... وليس أراه يرغب في وصالي وكنت عهدتني قدما شجاعا ... فمالي صرت أفزع من خيالي؟ وما قيل في التورية والتوجيه أكثر من إنَّ يحصى. ولولا خوف الإطالة لأوردنا من مستحسن ذلك ما يكون جزءا مستقلا، وليس ذلك من غرضنا. وأنا أذكر هنا بعض ما اتفق لي نظمه

في باب التورية أو التوجيه من غير تعبئة لنزول هذا الميدان، ومطاردة هؤلاء الفرسان. فمن ذلك قولي: بنفسي من أضحى فؤادي طائرا ... على غصن من قده اللدن ميال على روضة من خده الخال عارض ... وأبهج روض ما علا عارض الخال وفيه التورية بالطائر من حيث إنّه اسم فاعل أو اسم ذي الجناح على التشبيه وحرف الجر بعده للتعليل على الأول والاستعلاء على الثاني، والتوريه بالخال من حيث إنّه النقطة أو الغيم المخيل بالمطر مع الجناس بين على وعلا والعكس. وقولي: مررت على بالٍ من الربع دارس ... بكل ربابٍ عارض اسحم خال ففاضت شؤون الجفن من ذكر حيرتي ... وثار هواهم إذ مررت على البال وفيه التورية بالخال من حيث إنّه وصف للدارس من الخلو أو وصف للرباب بمعنى المخيل كما مر. والتورية بالبال آخراً من حيث إنّه راجع إلى الربع من البلى أو إنّه الفكر والخاطر ومعمول مررت عليهن محذوف عي عليه. وقولي: وعاذل عن الهوى عادل ... يدعو لأمر في الهوى إمر قال أسلهم واصبر فكم ذائق ... أمر في الهجر من الصبر وزع عنان القلب عما جرى ... عليه من بلواء أو يجري فأي عذر في اتباع الصبا؟ ... قلت له إنَّ الهوى عذري وفيه التورية بالصبر من حيث إنّه معناه أو إنّه المر المعروف. وأصله صبر ثم خفف بالتسكين والتورية يجري من حيث إنّه من الجريان بقرينة العنان أو إنّه من الوقوع. والمعنى عليهما واضح. والتورية بالعذر من حيث إنّه الاعتذار أضيف إلى ياء المتكلم أونسوب إلى بني عذرة، وهو الهوى الشديد، والمعيان ظاهران وقولي: قال العذول إذ بدا ... بعارض معذر: الوجه الاعتزال عن ... هذا الوجيه الأشعر فقلت: ذلك الوجه ... يبقى فيه فضل نظر

وفيه التورية في الاشعر مع الاعتزال من حيث إنّه وصف كأحمر أي ذو شعر أو بياء النسبة، والتورية في النظر والوجه من حيث إنّه نظر البصر أو نظر البصيرة، والوجه وجه الحبيب أو وجه الدليل. وقولي من قصيدة زمن الصبا أخاطب شيخنا الإمام الهمام أمتعني الله به: وفينا معان بينت قدم الهوى ... فليس لعمري بالبديع إلى الصدر وقد أعربت جزما بنصب أدلة ... فيرفع ما بينى على الظن من هجر فإنَّ لم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر وهذه التوريات واضحة كلها، وقد وقع لي مثل هذا النوع كثيرا ولم أذكره. وقولي من قصيدة أخرى موريا بالعباب و " الجوهري " من كتب اللغة: وعبرت من لجج العلوم عبابها ... حتى أنثنيت بمنفسات الجوهر وهذه القصيدة خاطبت بها بعض فضلاء العصر. فلما وقف عليها استحسنها هو وجماعة من الفضلاء الواقفين عليها غاية. وكان من أغبياء الطلبة بعضهم من لم يرتق فهمه إلى ألفاظها، فضلاً عن معاينتها، فتعلل لنفسه القاصرة بأنها مشتملة على الوحشي من اللغة. فلما بلغني ذلك قلت: تسامى لأذيالي مذال ولم أكن ... لكل ذليل بالذلول ولا السهل ورام مرامات امرئ طالما علا ... على الحزن من فيح البلاغة والسهل وأرسلتها غراء ليس يذيمها ... سوى العمي عن شمس الظهيرة والجهل فأنكر جهلا ما حوته رسالتي ... ولا غرو فالتكذيب شان أبي جهل! وفيه التورية بابي جهل مع الجناسات الكثيرة. والجهل بضم فسكون جمع جاهل. وتخلف بعض أصحابي عن مجلس الدرس في اليوم المسمى بالعجوز، وآخر ينير، حبسه البرد، فكتبت إليه على سبيل المطايبة: أعجزت عنا العجوز ولم يكن ... رجل لتمنعه عجوز عائده؟ وعدلت عن أبكار فكري بكرة ... اتباع بكر بالعجوز الباردة؟ وفيه التورية بالعائدة من حيث إنّه وصف للعجوز أي صارفة وعائقة وإنّه معمول المنع بمعنى العطية والصلة، وفي العجوز أيضاً بين اليوم والمرأة بقرينة ذكر الرجل. وينشد أيضاً عجوز جالدة أو فائدة، وفي كليهما التورية: فالجالدة إما بمعنى ذات الجليد، من

قولك جلدت الأرض بالكسر، تجلد فهمي جلدة والجالدة، اعتباراً للعجوز بمعنى اليوم على قصد الليلة أو الصبيحة أو البكرة؛ وإما بمعنى المدافعة والمقاتلة، من قولك جلدته بالعصا: ضربته، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة؛ والفائدة إما بمعنى الإفادة وهو معمول المنع، أو بمعنى الهالكة، من قولك: فاد يفيد، فيدا، إذا هلك ومات، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة وإنّها هرمة فانية، فكيف تغلب الرجل؟ والتورية في العجوز الباردة واضحة؟ وأعلم أنَّ التورية والتوجيه أعلى فنون البديع وأجلها وأدقها، وهو أحد معاريض البلغاء الذي يرفلون به في الحلل الرقائق، وينجون بفسحتها من المضائق. فمن أظرف ما وقع من ذلك ما روي عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، إنّه لمّا نزل على الحيرة أتاه عبد المسيح الغساني، وهو أبن ثلاثمائة وخمسين سنة. فلما مثل بين يديه قال له: انعم صباحا أيها الأمير! فقال له خالد: قد أغنى الله عن تحيتكم بسلام عليكم. ثم قال له خالد: من أين أقصى أثرك أيّها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال من بطن أمي. قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: أي والله، وأقيد. قال: أبن كم أنت؟ قال: أبن رجل وامرأة. قال: كم سنك؟ قال: اثنان وثلاثون بيض ضرس وغضيض. قال: كم لك من السنين؟ قال: السنون كلها لله. قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: كم عمرك؟ قال: لا يعلمه إلا الله. فقال خالد: ما رأيت كاليوم إنسانا أسأله عن شيء وهو ينحوا في غيره. فقال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له الأعرابي: من أنتم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، والقصة مشهورة. وما روي من أنَّ رجلا وقف بباب المأمون ليشكو فلم يجد من يدخله فصاح: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث! فأخذ وأدخل على المأمون وقيل له إنّه تنبأ عن أمره فذكر شكواه فقال له: ما هذا الذي حكي عنك؟ قال: ما هو؟ قال: انهم قالوا إنك تنبأت. قال: معاذ الله! إنّما قلت: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث، وأنت يا أمير المؤمنين تحمده، وكذلك هؤلاء. فاستظرفه المأمون وأمر بأنصافه. وما روي عن بشار بن برد من أنه خاط له رجل أعور يعرف بعمرو بردا فلم يعجبه فقال له:

ما هذه الخياطة؟ قال له: خطته لك كذلك لتلبسه إنَّ شئت على وجهه، وإنَّ شئت من باطنه. فقال له بشار: وأنا قد قلت فيك شعرا، إنَّ شئت جعلته مدحا وإنَّ شئت جعلته هجوا، ثم انشد: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء فأحاجي الناس طرا ... أمديح أم هجاء! ويروى: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء فسل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء! وهو على نصب الجزأين بليت. وما روي إنّه نشأ ببغداد غلامان أحدهما أبن حجام والآخر أبن مراق، فبرعا في الأدب. فخرجا ليلة وهما ثملان من نبيذ. فأخذهما العسس فأتوا بهما إلى صاحبهما. فلما مثلا بين يديه قال لهما: ما أخرجكما جوف الليل؟ فقالا: القدر والقضاء. فقال من أنتما؟ فقال أبن المراق: أنا أبن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإنَّ نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود وقال أبن الحجام: أنا أبن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه طوعا إليه خاضعة ... يأخذ من مالها ومن دمها فقال في نفسه: الأول من أبناء الكرام، والثاني من أبناء الملوك. فقال لأعوانه: خلوا عنهما، فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فلما انصرفا أخبر بأمرهما، فاسترجعهما بالغد وقال لهما: ويحكما! خدعتماني. فقالا: ما خدعناك إلاّ بما هو صفة والدينا. فلما تأمل كلامهما وجده صدقا وقال: انطلقا! من لم ين منكما شريف فلقد كان ظريفا. وما روي عن أبي الفرج الجوزي، رضي الله عنه، إنّه كان في مجلسه في السنية والشيعة، فسأله سائل، أي الناس كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر أم علي؟ فتغافل، فقيل ما عندك! فقال: أحبهما إليه من كانت ابنته تحته.

ويروى: أفضلهما من كانت ابنته تحته على إنَّ السؤال كان على الأفضلية. ففهم السنية أبا بكر وفهم الشيعة عليا ورضي الفريقان. ومحاسن هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد خرجنا عن الغرض فلنعد إلى المقصود. وقال أبو محمّد الحريري: يقولون إنَّ جمال الفتى ... وزينته أدب راسخ وما أن يزين سوى المكثرين ... ومن طود سودده شامخ فأما الفقير فخير له ... من الأدب القرص والكامخ وأي جمال له أن يقال ... أديب يعلم أو ناسخ الكامخ: شيء يؤتدم به أو طعام يتخذ من الحنطة واللبن على أنواع والعرب كانت لا تعرفه. وقدم لأعرابي فقال: ما هذا؟ فقيل له: كامخ. فقال: مم صنع؟ فقيل: من الحنطة واللبن. فقال: أبوان كريمان وما أنجبا وقلت: إذا المرء إن أرضيته كان لي أخا ... وإن أس عادني فما هولي بأخ فلا خير في ود امرئ ليس صافيا ... تراه بأدران المساوي قد اتسخ ولا خير في ود يكون تكلفا ... ولا في ودود حيث لنت له شمخ وما الود إلاّ ما تكنفه الحشا ... متى تهزز الأحداث أغصانه رسخ وقلت أيضاً في هذا المعنى: ولا تبت من فتى على ثقة ... ولا يغرن حجاك من آخى حتى تراه لدى النوائب إن ... قاضيه في الحاجات هل ساخى وعند سعي الوشى هل ثبتت ... رجلا حشاة في الود أم ساخا سخى الأول فاعل من السخاء وهو الكرم وساخ الثاني من ساخ يسوخ ويسيخ إذا هوى في الطين ونحوه وفيهما يكون الجناس التام. ولنكتف بهذا القدر من هذا الباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الدال المهملة

باب الدال المهملة دردب لمّا عضه الثقاف. الدردبة عدو على الخوف وهو أن يجري ويلتفت وراءه من الخوف. وعضضت الشيء بالكسر كعلمت وبالفتح كمعت: أمسكته بأسناني أو بلساني ثم يستعمل العض فيما يشبه هذا من إلمام الحوادث ووقع الخطوب: والثقاف بالكسر الخصام والمجادلة. ويقال: ثقفة كعلمه إذا صادفه أو أخذه أو أدركه وظفر به. قال الشاعر: من يثقفن منهم فليس بآئب ... أبداً وقتل بني قتيبة شاف وقال ذو الكلب الهذلي: فإما تثقفوني فاقتلوني ... فإنَّ أثقف فسوف ترون بالي والثقاف أيضاً بالكسر الخشبة تسوى بها الرماح وهو المقصود في هذا المثل. فمعنى دردب لمّا عضه الثقاف: خضع وذل. ومضربه واضح. وقال عمرو بن كلثوم: إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا وثقف الرمح بالثقاف تثقيفا: سويته وقومته فهو مثقف ومقوم. دفعت إليه الشيء برمته. الدفع هنا الإعطاء. والرمة بالضم القطعة من الحبل البالية. ودفع رجل لآخر بعيرا في رقبته حبل فقيل: دفعه إليه برمته وذهب مثلا لكل من أعطى الشيء أو أخذه بأجمعه. قال الأعشى يخاطب خمارا:

دع بنيات الطريق.

فقلت له: هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقدادها دع بنيات الطريق. دع: معناه اترك أصله الودع وهو الترك لكن لم يستعمل هذا المصدر إلاّ قليلا كقوله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة الحديث. ولم يستعمل منه أيضاً الماضي إلاّ قليلا كقوله صلى الله عليه وسلم: دعوا الحبشة ما ودعوكم. وقرئ: ما ودعك ربك وما قلى، بالتخفيف من هذا وإنّما المستعمل منه كثيراً المضارع والأمر وهما بفتح عين الكلمة لمكان حرف الحلق نحو قع ويقع. وقد علمت من هذا إنَّ حق هذا الحرف أن يذكر في باب الواو ولكن كتبناه في هذا الباب تقريبا لمّا أن الواو مستهلكة لا تظهر كما مر نظيره في حرف التاء. وبنيات الطريق الطرق الصغار المتشعبة عن الطريق الكبيرة وكأنها بنات لها من حيث إنها تنشأت عنها وخرجت منها. ثم أطلقوا بنيات الطريق على الأباطيل فضرب المثل عند أمر الرجل أن يقصد معظم الشأن ويدع سفساف الأمور. قال أبن منادر في قاضي البصرة: أي قاض أنت للنقض ... وتعطيل الحقوق؟ يدع الحق ويهوي ... في بنيات الطريق دعوا دما ضيعه أهله! الدم معروف وفيه لغات: يقال دم وهي الفصحاء وأصله دمو ودمي فحذفت اللام. ويقال دم بالتضعيف كقوله: أهان دمك فرغا بعد عزته ... يا عمرو بغيك إصرار على الحسد؟ قد شقيت شقاء لا انقضاء له ... وسعد مرديك موفور على الابد ويقال دمى بالقصر مثل فتى وعصى كقوله: كأطوم فقدت برزغها ... أعقبتها الغبس منها عدما

دعوا دعوة كوكبية.

غفلت ثم أتت تطلبه ... فإذا هي بعظام ودما الأطوام بوزن صبور البقرة والبرزغ ولدها والتضييع معروف. وهذا المثل من كلام جذيمة الأبرش المتقدم ذكره. وكانت الزباء لمّا احتالت على قتلته كما مر قيل لها: احتفظي بدمه فإنه إن يضع وتقع منه قطرة بالأرض طلبت بثأره. فلما قبضت على جذيمة وأجلس على النطع وجعل الخدم يقطعن رواشيه قالت الزباء: لا تضيعن دم الملك! فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله! والمعنى: اتركوا دما أراقه أهله! أي مستحقوه وهم الزباء أي فلا يهولنكم ضياعه ولا يهمكم حفظه ولا تتخوفوا إذا ضاع أن تطالبوا به لأنكم لم تريقوه ظلما. وهذا كما في الرواية الآخرى: لا يحزنك دم أرقه أهله! يخاطب الزباء. وتقدمت القصة مستوفاة. وجذيمة يحتمل أن يكون في هذه الرواية عبر بتضييع الدم عن إراقته مجازا ليشاكل لفظ الزباء؛ ويحتمل أن يريد معناه لصحته في المعنى؛ وقد يكون جذيمة أراد أهله هو وأنهم ضيعوا دمه فيقول: إنَّ دما جمعه وواليه ز خانه ناصره وحاميه جدير أن يحتفظ عليه وأن يضيع ولا يلتفت إليه. دعوا دعوةً كوكبيةً. الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى دعا له وعليه يدعو دعاء والمرة منه دعوة. والكوكبية: قرية كان أهلها ظلمهم عامل فدعوا عليه دعوة فمات عقبها فضرب المثل بذلك. ومما يشبه هذا ما حكاه صاحب المدخل أنَّ قرية من أعمال السودان كان أهلها إذا ولى عليهم سلطان عاملا فانبسط عليهم دعوا فهلك. فلما أعيا السلطان أمرهم وتحير قام إليه بعض الحاضرين فقال: أنا ألي عليهم! فولاه السلطان بعد أن عرفه بكنه الأمر. فذهب ذلك الوالي فغصب ملحا واستصحبه معه ولم يكن في بلد السودان الملح. فلما بلغ موضع عمله قعد في المسجد ولم يصعد إلى موضع الأمير. فقالوا له: ألا تصعد إلى موضعك؟ فقال: إنما جئت على أن أكون واحدا منكم وأباشركم ولا أصدر إلاّ عن

دفن البنات من المكرمات.

رأيكم أو كما قال. وبقى على ذلك حتى أعجبهم وحسنوا به الظن. فتمارض حينئذ فسألوه عن موجب مرضه فقال لهم: موجب المرض فقد الملح. فقالوا: نأتيك بالملح. فقال: لا أعرف أصله وإنَّ عندي ملحا بالبلد أعرف جهته وأصله فلعله يكون فيه الشفاء. فإن أردتم أن أرسل من يأتي به وإلاّ فلا. فأذنوا له فأرسل إليه حتى بلغه ففرقه عليهم على وجه التبرك. فلما علم أنهم قد أكلوه قام إليهم ومد اليد إليهم وطلع إلى موضع الولاية حينئذ. وكان قبل يخشى من دعائهم لاقتياتهم الحلال الصرف. فلما دخل أجوافهم ذلك الملح علم أنَّ دعاءهم لا يسمع عليه وكان في القوم رجلان تفطنا لذلك فلم يأكلا ملحهما. فلما ظهر أمره أتياه بما عندهما لم يفسد شيئا منه. فلما علم أنهما قد بقيا هرب خوفا منهما. ومثل هذا حكي عن الحجاج لمّا دخل العراق واليا وكانوا لا يلي عليهم أحد ويظلمهم إلاّ دعوا فهلك. فلما خاف الحجاج من دعائهم طلب منهم أن يأتوه كلهم ببيضة بيضة لحاجة ذكرها وقعد على الصحن. فكل من أتى ببيضة أمره أن يطرحها في الصحن. فاستخفوا البيض منه وفعلوا ما أمرهم. فلما اجتمع البيض واختلط أمرهم أن يأخذ كل واحد بيضة وأراهم أنه قد بدا له في ذلك ورجع عما أراد. فأخذ كل واحد بيضة من البيض ولا يدري عين بيضته. فلما علم الحجاج أنهم تصرفوا في ذلك مد يده إليهم فدعوا عليه فمنعوا الإجابة. قال رحمه الله تعالى: ولأجل هذا كثرت المظالم وكثر الدعاء على فاعلها وقلت الإجابة أو عدمت. دفن البنات من المكرمات. الدفن معروف؛ والبنات جمع بنت؛ والمكرمة فعل الكرم. وهذا المثل مشهور ومثله المثل الآخر: نعم الصهر القبر! وقال الشاعر مضمنا المثل: القبر أخفى سترةٍ للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات أما رأيت الله عز اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات! وقول الآخر: أحب بنيتي وأود أني ... دفنت بنيتي في قعر لحدِ

دقك بالمنحاز حب القلقل.

وشبه هذا قول الأمير أبن أبي حفصة: وفي الدار خافي صبيةٌ قد تركتهم ... يطلبون إطلال الفراخ من الوكرِ جنيت على روحي بروحي جنايةً ... فأثقلت ظهري بالذي خف من ظهرِ والشعر في هذا المعنى كثير. دقك بالمنحاز حبَّ القلقلِ. الدق معروف. والمحاز بالحاء المهملة وبالزاي الهاون وهو المهراس. ونحزت الشيء: دققته. والقلقل بقافين مكسورين على مثل زبرج: نبن له حب اسود اصلب ما يكون من الحبوب حسن الشم. قال أبو النجم: وآضتِ البهمى كنبل الصقيل ... وطارت الريح يبيس القلقلِ وقد يقال في هذا المثل بفائين مضمومتين وهو الفلفل المعروف من الأبزار وجعله الأصمعي تصحيفا من العامة. ومن الناس من ادعى أنَّ هذا هو الصواب وأنَّ الأول هو التصحيف لأن حب القلقل بالقاف لا يدق. وهذا المثل يضرب في الإلحاح على الشحيح والحمل عليه وكأنه شطر بيت من الرجز. دقوا بينهم عطر منشمٍ. الدق مر؛ والعطر بالكسر معروف؛ ومنشم على مثال مجلس وعلى مثال مقعد قيل ويروى أيضاً مشئم بالهمز؛ ومن شم مفصولة. واختلف في معناه: فقيل منشم اسم الشر؛ وقيل المنشم يكون في سنبل العطر يسمى قرون السنان وهو سم ساعة. وقيل منشم اسم امرأة. واختلف في اشتقاقه أيضاً: فقيل منشم وضِع وضع الأعلام؛ وقيل مشتق من قولهم: نشم في الشيء إذا بدأ وأخذ فيه ويستعمل في الشر. وقيل هو مركب من اسم وفعل والأصل من شم على أنَّ شم فعل ماض من شم الرائحة وهو صلة من. ثم وصل وحذف الميم الثانية من الفعل وجعل الأعراب على الأولى. وعلى رواية مشأم فهو من الشؤم. واختلف أيضاً

دقوا بينهم عطر منشم.

في سبب المثل ومعناه: فقيل إنَّ منشم اسم امرأة وهي بنت الوجيه وكانت عطارة بمكة. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا الحرب تطيبوا من طيبها فكثرت القتلى فجعلوا يقولون: أشئم من عطر منشم. وقيل كانوا إذا أرادوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا أن يستميتوا في الحرب ولا يولوا. فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس: دقوا بينهم عطر منشم. فلما كثر منهم هذا القول صار مثلا للشر العظيم. قال زهير: تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشمِ وقيل إنَّ منشم امرأة كانت تبيع الحنوط فسموا حنوطها عطرا في قولهم عطر منشم لأنهم أرادوا عطر الموتى. وأما من ذهب إلى أنه مركب فزعم أنَّ امرأة من العرب كانت تبيع العطر فورد عليها بعض أحياء العرب فأخذوا عطرها وفضحوها. فلحقها قومها ووضعوا السيف فيهم وجعلوا يقولون: اقتلوا من شم منطيبها! فبقي من شم اسما مركبا من هذا. وقيل إنَّ سبب المثل قتال يوم حليمة الذي قيل فيه: ما يوم حليمة بس. وكانت فيه الحرب بين الحارث بن أبي شمر ملك الشام وبين المنذر بن المنذر بن امرئ القيس ملك العراق. وأخرجت حليمة إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب الداخلين في الحرب فقاتلوا من أجل ذلك حتى تفانوا. وسيأتي شرح هذه القصة. دمث لنفسك قبل النوم مضطجعاً! التدميث: التسهيل. يقال: مكان دمث كفرح أي لين سهل. ودمث الشيء بالكسر يدمث دماثة فهو دمث. ودمثته أنا تدميثا: سهلته ولينته؛ والمضطجع بالفتح مكان الاضطجاع. والمعنى أنك إذا أردت أن تنام فسو المكان ولينه وأزل ما فيه من الخشونة قبل اضطجاعك! يضرب في الاستعداد للنوائب قبل نزولها. ومثله قول تأبط شرا: ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الأمر إلاّ وهو للقصد مبصرُ وقول الآخر: ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزلُ

الدم لا ينام.

وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عمر رضي الله عنه: كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها. ويروى إنَّ من رأى عمر أبن الخطاب علم أنه خلق غناءً للاسلام. كان والله أحوذياً. . الخ الدم لا ينام. هذا المثل من كلام قصير بن سعد لجذامة حيث شاورهم على الخروج إلى الزباء فقال له قصير: إنَّ الزباء قتلت أباها والدم لا ينام وتقدم ذلك مشروحا. والمراد أنَّ من كان له قبلك ثأرٌ وثبت له عندك دم لا يغفل عنك وعن أخذ ثأره منك ليلا ولا نهارا ولا يكن منه سلم صحيح ولا مصافحة خالصة أبدا. دهدرين، سعد القين. دهدرين بضم الدالين وفتح الراء المشددة، وقد اختلف فيه: فقيل هو اسم مبنى بصيغة المثنى؛ وقيل هو تثنية دهدر وهو الباطل. ويقال أيضاً دهدن بالنون على وزنه. قال الراجز: لأجعلن لابنه عمرو فنا ... حتى يعود مهرها دهدنا وهو في هذا المثل منصوب بفعل مضمر وسعد منادى وهو قين كان ادعى أنَّ اسمه سعد زمانا ثم تبين كذبه والقين وصف له فقيل له ذلك أي جمعت كذبا إلى كذب يا سعد الحداد! وقيل إنَّ دهدرين اسم فعل مبني بمعنى بطل كما بني شتان وهيهان وسعد فاعله والقين وصف له. والمعنى: بطل سعد القين. والمراد بطلان استعماله لتشاغل الناس عنه بالقحط. وحذف تنوين سعد في هذا الوجه تخفيفا لكثرة الاستعمال نحو: ولا ذاكر الله إلاّ قليلا. وقيل إنَّ دهدرين موضعه رفع على الابتداء كأنه قيل: كلامك باطل أو فعلك باطل. وكذلك سعد أي أنت سعد القين أي مثله. وقيل إنّه مركب وأصله ده أمر من الدهاء وكان الأصل دهى ثم قلب فقيل داه بجعل اللام موضع العين كما قيل: لاع ولائع ودرين من قولك: در الشيء إذا تتابع. والمعنى: بالغ في الكذب يا سعد! وقد قيل إنه حداد عجمي يدور في اليمن. وكان إذا كسد في مخلاف قال بالفارسية: ده بدرود أي بالوداع

الدهر حبلى لا يدرى ما تلد.

يخبرهم إنّه يخرج غدا ليستعملوه، فعرفوا به المثل في الكذب والباطل. وقالوا: إذا سمعت بسرى القين فانه مصبح، وقد تقدم ورواه بعضهم: دهدرين وسعد اليقين بالواو ونصب سعد. وروى آخرون: دهدرى مقصود بغير نون التثنية، وقالوا موضعه في ضرب المثل إذا رد على مخبر خبره، أو على فعله، أو حمق أحمق. وروى آخرون: دهدرين ساعد اليقين. والمقصود من ذلك كله واحد وهو الباطل باللغو. فيضرب عند التكذيب للحديث وادعاء بطلان الأمر. وقال أبو زيد: يقال للرجل يهزأ به: طرطبين ودهدرين ودهدرا وسعد القين. وللنا في هذا اللفظ أقاويل هذا حاصلها، والله اعلم. الدهر حبلى لا يدرى ما تلد. الدهر بفتح فسكون، وتحرك الهاء الزمان الطويل، والزمان الممدود، أو ألف سنة: هذا قول اللغويين. وللفلاسفة فيه كلام بيناه في علم الكلام؛ والحبلى: الحامل. قال امرؤ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... وألهيتها عن ذي تمائم محول حبلت المرأة بالكسر، حبلاً، فهي حابلة، والجمع حبلة؛ وحبلى، والجمع حبليات وحبلى، والولادة معروفة. والمعنى أنَّ الدهر، لا نبهام الأقدار الجارية فيه، وخفاء التصاريف الواقعة بذويه، شيبه الحلبى المنبهم أمر ذي بطنها، لا تعرف له ذكروة ولا أنوثة، ولا كمال ولا نقص، ولا حسن ولا قبح، حتى تلد فيتبين ذلك. وكذا الدهر لا يعرف فيما يأتي به من الأقدار والحوادث، أخير أم شر، وزيادة أم نقص، وسعة أم ضيق، حتى يقع ذلك فيظهر. أدهى من ثعلبٍ. الدهاء والدهي: المكر وجودة الرأي. ورجل داهٍ ودهٍ وداهية، والجمع دهاة ودهون. وقد دهي الرجل بالكسر، دهيا ودهاء ودهاءة، وتدهى: فَعَلَ

دار الفسوق جدث، وحديثه حدث.

فِعْلَ الدهاء؛ والثعلب: الحيوان المعروف، وتقدم فيه كلام. وهو موصوف بالمكر والاحتيال مشهور بذلك، ومن مكره إنّه إذا رأى الغلبة عليه تماوت حتى لا يشك في موته فإذا غفل عنه وثب هاربا. ومن مكره المحكي في الخرافات عند العرب انهم قالوا: إنَّ الضبع صادت ثعلبا فقالت: أخيرك يا ثعلب بين خصلتين، فاختر أيهما شئت. قال: ماهما؟ قالت: أما أنَّ أكلك، وأما أنَّ أنكحك. فقال الثعلب: أما تذكرين يوم نكحتك؟ فقالت: متى؟ وانفتح فوها. فأفلت الثعلب وهرب. فضربوا به المثل بذلك وقالوا: عرض عليك خصلتي الثعلب. وقالوا أيضاً: إنَّ الثعلب اطلع على بئر وهو عطشان، وعليها رشاء ودلوان، فقعد في الدلو العليا، فانحدرت به إلى البئر حتى شرب وبقي هناك، فإذا بضبع اطلعت على البئر، فرأت بياض القمر انتصف الماء، والذئب قاعد في ضوئه، فقالت له: ما تصنع هنا؟ فقال لها: إني أكلت نصف هذه الجيفة وبقي نصفها وبقي نصفها، فانزلي تأكليها! قالت: وكيف انزل؟ قال: تقعدين في الدلو الآخرى. فلما التقيا في وسط البئر قالت له ما هذا؟ قال: كذا التجارب تختلف! فضربوا ذلك المختلفين في الأمور. ومثل هذه الحكايات كثير. دار الفسوق جدث، وحديثه حدث. هذا مثل مصنوع فيما أظن وهو ظاهر المعنى؛ والجدث بالجيم القبر. قال الشاعر: جدث يكون مقامه ... أبداً بمختلف الرياح والجمع أجداث واجدث. قال الآخر: أنشده الجوهري: عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط دون ذلك خرط القتاد دون نقيض فوق وبمعنى أمام. ويكون ظرفا للمكان عن الغاية فيما يضاف اليه، ثم يطلق على كل رتبة أدنى من أخرى في الأمكنة والأزمنة والمعاني؛ والخرط النزع، وتقول: خرطت الشجرة خرطا إذا انتزعت الورق منها اجتذابا؛ والقتاد على

دون ذا وينفق الحمار!

مثال سحاب شجر صلب شوكه كالإبر شديد، يضرب به المثل كما قال أبو تمام: نثا خبر كأن القلب أمسى ... يجر به على شوك القتاد وقال أيضاً: غدت تستجير الدمع حوف نوى غد ... وعاد قتاد عندها كل مرقد وخرطه أشد شيء، فضرب المثل به. وتقدم مثله في حرف الهمزة. قال أبو المظفر: يا كم يساجلني وليس بمدرك ... شأوي وأين له جلالة منصبي لا تتعبن فدون ما حلولته ... خرط القتاد وامتطاء الكوكب! جدي معاوية الأغر سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي وروثته شرفا رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي وقال الآخر: مال أبن دارة دونه لعفاته ... خرط القتاد والتمس الفرقد مال لزوم الجميع يمنع صرفه ... في راحة مثل المنادى المفرد دون ذا وينفق الحمار! دون تقدم معناه، والنفاق: الروجان، تقول، نفق البيع بالفتح ينفق، نفاقا على مثال سحاب إذا راج؛ ونفقت الدابة أو الرجل: مات؛ والحمار معروف. ودخل رحل السوق بحمار له يبيعه. فقام رجل يقال له أبو يار يمدح الحمار، وجعل يقول: إنَّ حافره جلمود، وإنَّ ظهره حديد. فقال صاحبه: شاكه أبا يسار، دون ذا وينفق الحمار! فذهب مثلا يضرب للمفرط في الثناء والمدح. ومعنى شاكه: شابه وقارب في المدح ولا تفرط من المشاكهة وهي المشابهة. وسيأتي المثل في الشبن. إن شاء الله. ومن أمثال العامة في هذا الباب قولهم: دجاجة وتركل. يضرب لاستبعاد الصولة من الضعيف، والدجاجة معروفة مثلة الأول والجمع دجاج، والركل ضرب الأرض برجل واحدة، وركض الفرس بالرجل، والأرض المركلة

المكدود بحوافر الدواب. قال امرؤ القيس يصف فرسا: مسح إذا ما السحابات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل ويستعمل الركل، في لسان العرب، في الضرب بالرجل مطلقا، وهو المراد. ثم نذكر من الشعر في هذا الباب ما تيسر، والله المستعان. قال طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وإلى معنى هذا البيت أشار أبن شرف في لاميته بقوله: لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا! وقال دريد بن الصمة: وهل أنا إلاّ من غزية إنَّ غوت ... غويت وإنَّ ترشد غزية أرشد وغزية قبيلة، وهي فيما أظن بفتح المعجمة وكسر الزاي. وهكذا رأيته في نسخة من الصحاح مضبوطا بالقلم، ويؤيده ما في القاموس من انهم يسمون غازية وغزية كغنية ولم يثبت في أسمائهم غزية. بلفظ التصغير. وقال من هذه القصيدة أيضاً: أمرتهم أمري بمنزعج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلاّ ضحى الغد وتمثل بهذا البيت أمير المؤمنين على كرم الله وجهه على المنبر، في قصة التحكيم حين وقع ما وقع من الحكمين يعاتب أهل العراق ويوبخهم على سفاهة رأيهم في ذلك وتوجيههم أبا موسى الأشعر، والقصة مشهورة. وعلى هذا البيت نبه أبن شرف بقوله في لاميته: يرى البليد البلايا بعد ما نزلت ... وذو الذكاء يرى الأشياء تبخيلا وقال الأسود بن يعفر: جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد ونظمه أبن شرف في لاميته بقوله: بادوا كأنهم للفرقة اتعدوا ... فلم يكن ذلك الميعاد ممطولا وقال الآخر: أجل إذا طالبت في طلب ... فالجد يغني عنك لا الكد!

ونظمه أبن شرف بقوله: والجد يغني الفتى عم كد مهجته ... فليغتد تكثير حرص المرء تقيلا! وقال الشاعر: السيف يقطع وهو ذو صدإٍ ... والحد يفري الهام لا الغمد ونظمه أبن شرف بقوله: والنفس جوهرة ملبوسها صدف ... والسيف يقطع رذل الغمد مفلولا وقال: هل تنفعن السيف حليته ... يوم الجلاد إذا نبا الحد ونظمه أبن شرف بقوله: ورب سيف كهامٍ لا مضاء له ... وقد تراه محلى المد مصقولا وقال الآخر: وإنَّ أمرءاً يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلاّ ما جنى لسعيد ونظمه أبن شرف بقوله: ومن يعاقب بما تجني يداه بلا ... ظلم التجني فقد نال اليد الطولى وقال الآخر: وغيظ على الأيام كالنار في الحشى ... ولكنه غيظ الأسير على القد ونظمه أبن شرف بقوله: لنا على الدهر غيظ ليس ينفعنا ... غيظ الأسير أسير القد مغلولا وقال الآخر: ماذا لقيت من الدنيا وأجبه ... إني بما أنا باك منه محسودا! ونظمه أبن شرف بقوله: قل للحسود على أشياء تحزنني: ... خذها احتقاراً وتهويناً وترذيلا!

وقال بعض العرب: إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبرٍ أعضادها وجعلت أوصابها تعتادها ... فهن زروع قد دنا حصادها وقال الآخر: لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي! وما أحسن قول عز الدين المقدسي في كتابه كلام الطيور والأزهار على لسان الغراب: أنوح على ذهاب العمر مني ... وحق أن أنوح وأن أنادي وأندب كلما عاينت ربعا ... حدا بهم لوشك البين حادِ يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحدادِ فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهادِ! وها أنا كالخطيب وليس عيباً ... على الخطباء أثواب السوادِ ألم ترني إذا عاينت ركباً ... أنادي بالنوى في كل نادِ أنوح على الطول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجمادِ فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤادِ فما من شاهدٍ في الكون إلاّ ... عليه من شهود الغيب نادِ فكم من رائحٍ فيها وغادٍ ... ينادي من دنوٍّ أو بعادِ لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي! وقال الحطيئة: وما قلت إلاّ بالذي علمت سعدُ وهذا مثل مشهور وصدر البيت: وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم وهذا البيت من جملة أبيات له وهي من جيد شعره. يقول فيها: وإنَّ التي نكبتها عن معاشرٍ ... عليَّ غضابٍ أن صددت كما صدوا أتت آل شماش بن لأيٍ وإنّما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العدُ فإنَّ الشقي من تعادي صدورهم ... وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُ

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا! أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا فكيف ولم أعلمهم خذلوك ... على معظمٍ ولا أديمكم قدوا؟ مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى ... بنى لهم آبائهم وبنى الجدُ فمن مبلغ أبناء سعدٍ فقد سعى ... إلى السورة العليا لهم حازمٌ جلدُ رأى مجد أقوامٍ أضيع فحثهم ... على مجدهم لمّا رأى أنه الجهدُ وتعذلني أبناء سعدٍ " البيت " وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي: ما لامرئٍ خاض في بحر الهوى عمر ... إلاّ وللبين فيه السهل والجدُ كما نما البين من إلحاحه أبداً ... على النفوس أخ للموت أو ولدُ وقال يخاطب محمد بن يوسف: واعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إنَّ العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ! وقال أيضاً في وداعه لعلي بن الجهم يمدحه: هي فرقةٌ من صاحب لك ماجدٍ ... فغداً إذابة كل دمعٍ جامدِ فافزع إلى ذخر الشؤون وغربه: فالدمع يذهب بعض جهد الجاهدِ فإذا فقدت أخاً فلم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقدِ ومنها: إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدر من غمامٍ واحدِ أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ وقال أيضاً من قصيدة أخرى: سقته ذعافاً غارة الدهر فيهم ... وسم الليلي فوق سم الأساودِ

ومنها: غدا قاصدا للحمد حتى أصابه ... وكم من مصيبٍ قصده غير قاصد! ومنها: يصد عن الدنيا إذا عنَّ سؤددٌ ... ولو برزت في زي عذراء ناهد إذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ... بعصفرها الدنيا فليس بزاهد وقال أيضاً من أخرى: إذا انصرف المحزون قد فل صبره ... سؤال المغاني فالبكاء له ردُ ومنها: نوى كانقضاض النجم كانت نتيجة ... من الهزل يوماً إنَّ هزل الهوى جدُ فلا تحسبا هندا لها العذر وحدها ... سجية نفسٍ كل غانيةٍ هندُ ومنها: وقدٌ من الأيام وهي قديرةٌ ... وشر السجايا قدرةٌ حازها حقدُ إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعاله ... إلي ولولا الشري لم يعرف الشهدُ وقال أيضاً: ومن يأذن إلى الساعين يسلق ... مسامعه بألسنةٍ حدادِ وقال أيضاً: ولكم عدوقال لي متمثلاً: ... كم من ودودٍ ليس بالمودودِ! ومنها: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسودِ لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العودِ لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسودِ يعطي لها البشرى الكريم ويحتبي ... بردائها في المحفل المشهودِ بشرى الغنى أبي البنات تتابعت ... بشراه بالفارس المولودِ وقال أيضاً: وإني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشعر والجلدِ

وقال أيضاً: ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلاّ بشملٍ مبددِ ولم تعطني الأيام نوما مسكناً ... ألذ به إلاّ بنوم مشردِ وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجته فاغترب تتجددِ! فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ ومنها: وليس يجلي الكرب رأي مسددٌ ... إذا هو لم يؤنس برمح مسددِ ومنها: محاسن أصناف المغنين جمةٌ ... وما قصبات السيف إلاّ لمعبدِ وقال ابيضا: أحلى الرجال من النساء مواقعاً ... من كان أشبههم بهن خدودا حتى إذا ما الشعر سود وجهه ... كان المسود بينهن مسودا ومنه: ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلاّ بحيث ترى المنايا سودا ومنها: أيقنت أنَّ من السماح شجاعةٌ ... تدمي وأنَّ من الشجاعة جودا؟ ومنها: إنَّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النظام إذا أصاب فريدا هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألفته ... بالشعر صار قلائداً وعقودا في كل معتركٍ وكل مقامٍ ... يأخذن منه ذمةً وعقودا وقال أيضاً: شاب رأسي وما رأيت مشيب ... الرأس من فضل شيب الفؤادِ وكذاك الرؤوس في كل بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائع الأجسادِ طال إنكاري البياض وإن عمر ... ت شيئا أنكرت لون السوادِ! ومنها: وضياء الأمور أفسح في الطرف ... وفي القلب من ضياء البلادِ

ومنها: غير أنَّ الربى إلى سبل الأنواء ... أدنى والحظ حظ الوهادِ! ومنها: كأنَّ شيء غثٌ إذا عاد والمعروف ... غث ما كان غير معادِ وقال أيضاً: وما شيء من الأشياء أمضى ... على المهجات من رأي سديدِ وقال أيضاً: لم تنكرين مع الفراق تبلدي ... وبراعة المشتاق أن يتبلدا؟ وقال أيضاً: والسيف أعمى غير أنَّ غراره ... يقظٌ إذا هادٍ نحاه لهادِ ومنها: ومن العجائب شاعرٌ قعدت به ... هماته أوضاع عند جوادِ وقال أيضاً: ما كل من شاء استمرت بالندى ... يده ولا استوطا فراش الجودِ وقال أيضاً: وكذا المنايا يطأن بمنسمٍ ... إلاّ على أعناق أهل الؤددِ وقال أيضاً: لو يعلم الناس علمي بالزمان وما ... عاثت يداه لمّا ربوا ولا ولدوا! وقال أبو الطيب أحمد بن الحسن المتنبي: فما ترجي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمودِ إنَّ نيوب الزمان تعرفني ... أنا الذي طال عجمها عودي وفي ما قارع الخطوب وما ... آنسني بالمصائب السودِ وقال أيضاً من قصيدة: إذا كنت تخشى العار في كل خلوةٍ ... فلم تتصباك الحسان الخرائدُ ومنها: أهم بشيءٍ والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطاردِ

وحيدٌ من الخلان في كل بلدةٍ ... إذا عظم المطلوب قل المساعدُ ومنها: ولكن إذا يحمل القلب كفه ... على حالةٍ لم يحمل الكف ساعدُ ومنها: أحقهم بالسيف من ضرب الطلا ... وبالأمن من هانت عليه الشدائدِ ومنها: بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ ونظمه أبن شرف بقوله: وموت قومٍ حياةٌ عند غيرهم ... وقد أبى الدهر بين الناس تعديلا ومنها: وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائدُ ومنها: فإنَّ قليل الحب بالعقل صالحٌ ... وإنَّ كثير الحب بالجهل فاسدُ وقال أيضاً من أخرى: لكل امرئ من دهره ما تعمدا ومنها: ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيده الضرغام فيمن تصيدا ونظمه أبن شرف بقوله: ولا تضمن ليثاً كي تصيد به ... فتغتدي خاتلاً للصيد مختولا ومنها: وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟ إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع النى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندا ومنها:

ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني ... أنا الصئح المحكي والآخر الصدا ومنها: وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا وقال أيضاً: يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها ومنها: فعد بها لا عدمتها أبداً: ... خير صلات الكريم أعودها وقال أيضاً: عش عزيزا أو من وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنودِ! فرؤوس الرماح أذهب للغيظ ... وأشفى لغل صدر الحقودِ لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت، مت غير فقيدِ فاطلب العز في لظى ودر الذل ... ولو كان في جنان الخلدِ! يقتل العاجز الجبان وقد يعجز ... عن قطعٍ بخنق المولودِ ويوقى الفتى المخش وقد خوَّ ... ض في ماء لبه الصنديدِ لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودِ وقال أيضاً: يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفذُ؟ وقال أيضاً: وكم للهوى من فتى مندف ... وكم للنوى من قتيل شهيدِ! ومنها: فما لك تقبل زور الكلام ... وقدر الشهادة قدر الشهودِ؟ وقال أيضاً: وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يمر بمستعادِ ومنها: فإنَّ الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فسادِ

وإنَّ الماء يخرج من جمادٍ ... وإنَّ النار تخرج من زنادِ وقال أيضاً: سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مردُ ثقالٍ إذا لاقوا خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا قليلٍ إذا عدوا ومنها: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صدلقته بدُ يروح ويغدو كارها بوصاله ... وتضطره الأيام والزمان النكدُ وزعموا أنه قد قيل له إذ تنبأ: لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فقال: هذا البيت. وقال أيضاً: من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الهر شيئاً يحمدُ وقال أيضاً: إذا غدرت حسناء أوفت بعدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهدُ وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصدُ وإن حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقدُ كذلك أخلاق النساء وربما ... يصل بها الهدي ويخفى بها الرشدُ ومنها: يرمون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما سوى المنطق القردُ ومنها: وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقدُ وقال أيضاً: أبى خلق الدنيا تدميه ... فما طلبي منها حبيبا تردهُ وأسرع مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضدهُ ونظم الأول أبن شرف بقوله: قد يحتني الدهر من كفيك ما اجتنتا ... فكيف ما كان عن كفيك معزولا؟

ومنها: وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده ومثله قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: وأحق خلق الله بالهم امرؤٌ ... ذو همة يبلى بعيشٍ ضيقِ وبعده: فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل نجدٌ كان بالمل عقدهُ ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زندهُ فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ ونظم هذا أبن شرف بقوله: لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مالٌاذا لم يكن بالمجد مشمولا هكذا وجدته وكأنه تحريف وإنّما قال هكذا: لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مجدٌ إذا لم يكن بالمال مشمولا أو هكذا: لا مجد إلاّ بمالٍ فالتمسه ولا ... مالٌ إذا لم يكن بالمج مشمولا ومنها: إذا كنت في شك من السيف فابله: ... فإنما تنفيه وإما تعدهُ وما الصارم الهني إلاّ كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمدهُ وقال أيضاً: حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسادِ ومنها: وكلام الوشاة ليس على الأحباب ... سلطانه على الأضدادِ إنما تنجح المقالة في المرء ... إذا وافقت هوى في القادِ ومنها: قد يصيب الفتى المشير ولم يجهد ... ويشوي الصاب بعد اجتهادِ ومنها: وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلم تقادم الميلادِ

ومنها: إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولادِ ومنها: هذه دولة المكارم والرأ ... فة والمجد والندى والأيادي ومنها: كيف لا يطرق الطريق لسيلٍ ... ضيقٍ عن أتيه كل وادِ وقال أيضاً: إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجتها وحبيب النفس مفقودُ ماذا لقيت من الدنيا وأجبه؟ ... أني بما أنا باكٍ منه محسودُ ومنها: العبد ليس لحر صالح بأخٍ ... لو أنه في ثياب الحر مولودُ لا تشتري العبد إلاّ والعصا معه ... إنَّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ! ما كنت أحسبني أحيى إلى زمنٍ ... يسيء بي فيه كلبٌ وهو محمودُ ومنها: إنَّ امرءاً أمه حبلى تدبره ... لمستضامٌ سخين العين مفؤودُ وعندها لذلك طعم الموت شاربه ... إنَّ المنية عند الذل قنديدُ وقال أيضاً: إنَّ في الموج للغريق لعذراً ... واضحا أن يفوقه تعداده وقال أيضاً: وغيظٌ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القدِّ ومنها: وليس حياء الوجه في الذئب شيمةً ... ولكنه من شيمة الأسد الوردِ وقال أيضاً: رأوك لمّا بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرائدُ

وخل زياً لمن يحققه: ... ما كل دامٍ جبينه عابدُ ومنها: فالأمر لله رب مجتهدٍ ... ما خاب إلاّ لأنه جاهدُ وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري: غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوح باكٍ ولا ترنم شادِ وشبيهٌ صوت النعي إذا قيس ... بصوت البسير في كل نادِ ومنها: تعبٌ كلها الحياة فما أعجب ... إلاّ من راغبٍ في ازديادِ! إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعا ... فقط سرور في ساعة الميلادِ خلق الناس للبقاء فضلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفادِ إنّما ينقلون من دار أعما ... لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشادِ ضجعة الموت رقدةٌ يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهادِ ومنها: زحلٌ أشرف الكواكب داراً ... من لقاء الردى على ميعادِ والنار المريخ من حدثان ... الدهر مطفٍ وإن علت في اتقادِ ومنها: وإذا البحر غاض عني ولم أرو ... فلا ري بادخار الثمادِ كل بيتٍ للهدم ما تبنتني الور ... قاء والسيد الرفيع العمادِ والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظل ... السدر ضرب الأطناب والأوتادِ بان أمر الإله واختاف النا ... سُ فداعٍ إلى الضلال وهادِ والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدثٌ من جمادِ واللبيب اللبيب من ليس يغتر ... بكونٍ مصيره للفساديِ وقال أيضاً: أحسن بالأحد من وجده ... صبرٌ يعين النار في زنده ومن أبى في الرزء إلاّ الأسى ... كان أساه منتهى جهدهِ

ومنها: والشيء لا يكثر مداحه ... إلاّ إذا قيس إلى ضدهِ لولا عضى نجدٍ وقلامه ... لم يثن بالطيب على رندهِ ليس الذي يبكي على وصله ... مثل الذي يبكي على فقدهِ والطرف يرتاح إلى غمضه ... وليس يرتاح إلى سهدهِ ومنها: إن لم يكن رشد الفتى نافعاً ... فغيه أنفع من رشدهِ ومنها: لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبدهِ أمس الذي مر على قربه ... يعجز أهل الأرض عن ردهِ ومنها: سلم إلى الله فكل الذي ... ساءك أو سرك من عندهِ لا يعدم الأسمر في غابه ... حتفاً ولا الأبيض في غمدهِ وقال أيضاً: أفوق البدر يوضع لي مهاد ... أم الجوزاء تحت يدي وسادُ؟ قنعت فخلت أنَّ النجم دوني ... وسيان التقنع والجهادِ وأطربني الشباب غداة ولى ... فليت سنيه صوتٌ يستعادُ! وليس صباً يعاد وراء شيبٍ ... بأعوز من أخي ثقةٍ يفادُ ومنها: سفاهٌ ذاد عنك الناس حلمٌ ... وغيٌ فيه منفعةٌ ورشادُ وقال أيضاً: ثلاثة أيامٍ هي الدهر كله ... وما هو غير الأمس واليوم والغدِ ومنها: وقد يجتدى نيل الغمام وإنّما ... من البحر فيما يزعم الناس يجتدي ويهدي الدليل القوم والليل مظلمٌ ... ولكنه بالنجوم يهدي ويهتدي

ومنها: وليس قضيب الهند إلاّ كنابتٍ ... من القصب في كف الهدان المعردِ الهدان على مثال كتاب: الجبان ويقال هو الأحمق الثقيل. ومنها: أرى المجد سيفاً والقريض نجاده ... ولولا نجاد السيف لم يتقلدِ وخير حمالات السيوف حمالٌ ... تحلت بأبكار الثناء المخلدِ وقال أيضاً: كذاك الليالي ما يجدن بمطلبٍ ... لخلقٍ ولا يبقين شيئاً على عهدِ وقال أيضاً: أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا! وما نهنهت في طلبٍ ولكن ... هي الأيام لا تعطي قيادا فلا تلم السوابق والمطايا ... إذا غرضٌ من الأغراض حادا ومنها: إذا ما النار لم تطعم ضراما ... فأوشك أن تمر بها رمادا فظن بسائر الأخوانشراً ... ولا تأمن على سرٍّ فؤادا فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا تجنبت الأنام فما أواخي ... وزدت عن العدو فما أعادى ولمّا أن تجهمني زماني ... جريت مع الزمان كما أرادا وقال أيضاً يخاطب خاله وقد سافر إلى المغرب: ظعنت لتستفيد أخاً وفياً ... وضيعت القديم المستفادا وقال طرفة بن العبد: وظلم ذوي القربى أشد وضاضةً ... على الحر من وقع الحسام المهندِ وقال عدي بن زيد: إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه: ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جنلت الشر للشر فاقعدِ

وقال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للموت الذي كان أرصدا وقال المهلبي: وكيف جحود القلب والعين تشهدُ؟ وقال أيضاً: ولا خير فيمن لا يدم له عهدُ وقال الخريمي: وحسبك مني أن أود فأجهدا وقال الخوارزمي: لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسدُ! عدوى البليد إلى الجليد سريعةٌ ... والجمر يوضع في الرماد فيخمدُ وقال عمر بن أبي ربيعة: حسنٌ في كل عينٍ من تود وقال أيضاً: وكل ريحٍ لها هبوبٌ ... يوما فلا بد من ركودِ وقال الآخر: إذا أكل الأحباب لحمي بغيبةٍ ... فأهون منه ما ستأكله الدودُ! وقال الآخر: إذا قل عقل المرء قلت همومه ... ومن لم يكن ذا مقلةٍ كيف يرمدُ؟ وقال الآخر: إذا كان غير الله للمرء عدةً ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد وقال الآخر: تخونون عهدي في الهوى وأحبكم ... كذا الورد محبوبٌ وليس له عهد

وقال الآخر: تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي! وقال الآخر: تصافحت الأكف وكان أشهى ... إلينا لو تصافحت الخدودُ وقال الآخر: تعدون ذنباً واحداً إن جنيته ... عليكم ولا أحصي ذنوبكم عدا وقال أبو الطيب: تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد وقال الآخر: ثوبي على من كسوت في نظري ... أزين من كونه على جسدي وقال الآخر: جامل عدوك ما استطعت فإنما ... بالرفق يطمع في صلاح الفاسد! وقال الآخر: جدلي يعفوك يا من دأبه الجود ... فالجود عندك مأمول ومعهود وقال الآخر: جعلت إليك يا ربي انقطاعي ... إذا انقطع العباد إلى العبادِ وقال الآخر: حاشاك أن يقبض الزمان يدي ... عن نيل سؤالٍ وأنت لي عضدُ ومثله: حاشاك يا قوتي ويا سندي ... يضعف ركني وأنت لي سندُ وقال الآخر: حسبي بقلبي شاهدٌ لك في الهوى ... والقلب أعدل شاهدٍ يشهدُ وقال الآخر: ذو العقل يسخو بعيش ساعته ... وبالذي بعدها تشح يده غيره: رأيت دنو الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان ما بين الفؤاد بعيدا

غيره: رسول الله كذبه الأعادي ... فلا تجزع لتكذيب الجحودِ! غيره: رينك الله في القلوب كما ... زين في قلب والدٍ ولدا غيره: سقى الله أياماً تقضت بقربكم ... كأني بها قد كنت في جنة الخلدِ! غيره: سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلةً ... من العمر إلاّ من حبيبٍ على وعدِ! غيره: صحح لنا والدةً أولاً ... وأنت في حل من الوالدِ غيره: صل من دنا وتناس من بعدا: ... لا تكرهن على الهوى أحدا! غيره: طعم عيشي مرٌ إذا لم تزرني أبداً ... قصير عمر الأعادي والمواعيدِ غيره: قد جن أصحابك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة! غيره: قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلاّ سورة المائدة! غيره: قد يصاد القطا ويغدو سليما ... ويحل البلاء بالصيادِ غيره: قلَّ الثقات فإن ظفرت بواحدٍ ... فاشدد يديك وأين ذاك الواحدُ؟ غيره: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفسادِ

غيره: كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ غيره: كلما زادت الذبالة ضوءاً ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ غيره: كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا غيره: كلوا اليوم من رزق الإله وابشروا: ... فإنَّ على الرحمن رزقكم غدا! غيره: كم تائه بولايةٍ ... وبعزله يغدو البريد! غيره: لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد غيره: لمائدةٍ موضوعةٍ ألف عائبٍ ... وعيب التي لم توضع الدهر واحدُ غيره: لم أبك من زمن أشكو مساءته ... إلاّ بكيت عليه حين أفقده غيره: لو علمنا مجيئكم لفرشنا ... تحت أقدامكم بساط الخدودِ غيره: ليس في العلمين أفقنع مني ... أنا أرضى بنظرةٍ من بعيدِ غيره: ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يدٌ إلاّ بما تجدُ غيره: معاتبة الأحباب تحسن مرةً ... فإن أكثروا منها تؤول إلى الصدِّ غيره: من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكبادِ

غيره: نعم الإله على العباد كثيرةٌ ... وأجلهن نجابة الأولادِ غيره: وأحسن من وجه الصنيعة شكرها ... وأقبح من حرمان نعمى جحودها غيره: وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فهو المراد وأين ذاك الواحدُ؟ غيره: وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... شجوناً فزدني من حديثك يا سعدُ! غيره: ودع ظلم العباد فليس شيءٌ ... أضر عليك من ظلم العبادِ! غيره: وكل أخٍ عند الهوينا ملاطفٌ ... ولكنما الإخوان عند الشدائدِ غيره: وكنت من الناس في محفلٍ ... فقد صرت في محفلٍ من قرودِ! غيره: ولا بدلي من خفةٍ في وصاله ... فمن لي بخلٍّ أودع العقل عندهُ؟ غيره: ولرب عودٍ قد يشق لمسجدٍ ... نصفاً وآخره لبيت يهودي! غيره: ولربما نال المراد مرفهٌ ... لم يسع فيه وخاب سعي الجاهدِ غيره: وليس قريباً من تخاف بعاده ... ولا من يرجى قربه ببعيدِ غيره: وما الدهر إلاّ ما ترى: فتى علت ... يداك بدنيا فاصطنع بهما يدا! غيره: وما الشعر إلاّ روضةٌ راق زهرها ... ولا سيما إن كان قد وقع الندا

غيره: وما المال والأيام إلاّ معرةٌ: ... فما استطعت من معروفها فتزودِ غيره: وما حملت من ناقةٍ فوق راحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ وهذا أصدق بيت قاله شاعر بعد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل! غيره: وما كان طرفي بالسهاد معودا ... ولكنه لمّا هجرتم تعودا غيره: وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يسر بمستعادِ غيره: ويفسد بالإكثار ما هو صالحٌ ... ويصلح بالإقلال ما هو فاسدُ غيره: لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسد! غيره: وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... وربما أضرمت ناراً على بلدِ غيره: لا تلق إلا بليلٍ من تواعده: فالشمس نمامةٌ والبدر قوادُ غيره: لا يحسد المرء إلاّ من فضائله ... لا عاش من عاش يوماً غير محسودِ! غيره: يا أخلاي هل يعود التداني ... منكم بالحمى يعود رقادُ؟ غيره: يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا جهلاً بغير قصدهِ

غيره: يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرك لنا عوداً وحرق عودا! غيره: يا من يعد الميتين تعجباً ... عما قليل سوف تدخل في العدد غيره: يجود بالنفس إذ ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ غيره: يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريدُ غيره: يرى عاقبات الرأي والأمر عازبٌ ... كأن له في اليوم عينا على غدِ ومثله: يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهانُ غيره: يشرون مثل ثيابه وعبيده ... أفيقدرون على شراء أسوده؟ غيره: إلهي على كل الأمور لك الحمد ... فليس لمّا أوليت من نعمٍ حدُ! وقال ابن أبي عيينة: كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ ومثله قول حبيب: أجرؤ لكني نظرت فلم أجد ... أجرأ يفي بشماتة الأعداءِ وقال الآخر: لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلةٌ إنسانها باهتُ ومدنفٌ تصرم أحشاؤه ... بالنار إلاّ أنه ساكتُ رق له الشامت مما به: ... يا ويح من يرثي له الشامتُ! ويروى أنه قيل لأيوب عليه السلام: أي شيء كان في بلائك أشد عليك؟ فقال: شماتة الأعداء!

وقال علقمة الفحل: ويلم لذات الشباب معيشته ... مع تاكثر يعطاه الفتى المتلف الندي وقد يقصر القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجدِ القل بالضم: الإقلال؛ وهمه: ما يهم بفعله من المكارم والعطايا فيمنعه الفقر من ذلك كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغها مالي فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلغني فعالي وقال أيضاً: يا لهف نفسي على ملٍ أفرقه ... على المقلين من أهل المروءاتِ إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيباتِ وفلان طلاع أنجد أي ذو أفعال كريمة ومآثر عظيمة؛ والأنجد جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض جعل طلوعه كناية عن البروز والاستعلاء وعدم الاستتار كقول الآخر: أنا أبن جلا وطلاع الثنايا وقول دريد بن الصمة: كميش الازار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السوءات طلاع أنجدِ وقال الآخر: لعمري ما يدري الفتى أي يومه ... وإن كان محروساً على الرشد أرشدُ أفي عاجلات الأمر أم آجلاته ... أم اليوم أدنى للسعادة أم غدُ؟ وقال المثقب: وللموت خيرٌ للفتى من حياته ... إذا لم يثب للأمر إلاّ بقائدِ ويروى: إذا لم يطق علياء إلاّ بقائدِ وبعده: فعالج جسيمات الأمور ولا تكن ... هبيت الفؤاد همه للوسائدِ إذا الريح جاءت بالحمام تشله ... هذاليله شل القلاص الطرائدِ

وأعقب نوء المرزمين بغبرةٍ ... وقطر قليل الماء بالليل باردِ كفى حاجة الأضياف حتى يريحها ... على الحي منا كل أروع ماجدِ تراه لتفريج الأمور ولفها ... لمّا نال من معروفها غير زاهدِ وليس أخونا عند شيء يخافه ... ولا عند خيرٍ إن رجاه بواحدِ إذا قيل من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منا طوال السواعدِ الهبيت الفؤاد: الضعيف، والهذاليل جمع هذلول وهو ما طال من الرمال. وهذاليل الريح: ما امتد منها؛ والمرزمان نجمان مع الشعريين. وقال حارث بن عمرو: إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليثٌ حديد الناب عند الثرائدِ وهذا الشعر هجا به أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فقال عبد الملك بن مروان يوما لأمية هذا: مالك ولحرثان بن عمرو إذ يقول فيك: إذا هتف العصفور " البيت "؟ فقال: يا أمير المؤمنين وجب عليه حدّثني فأقمته عليه. فقال: هلا درأت بالشبهات عنه؟ فقال: كان حده أبين وكان زعمه علي أهون. فقال عبد الملك: يا بني أمية! أحسابكم أنسابكم لا تعرضوها للجهال: فإنه باق ما بقي الدهر والله ما يسرني أني هجيت بهذا البيت وأن لي ما طلعت عليه الشمس: تبيتون في المشتى ملئ بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وما يبالي من مدح بهذين البيتين إلاّ يمدح بغيرهما: هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذلُ قلت: وهذان البيتان لزهير وقبلهما: إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام المال في الجحرة الأكلُ رأيت ذوي الحاجات حول بيتهم ... قطينا بها حتى إذا نبت البقلُ هنالك " البيت " وبعده وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعلُ

على مكثريهم " البيت " قوله: إن يستخبلوا، الاستخبال أن يستعير الرجل من آخر إبلا يحلبها ويشرب ألبانها فإذا أخصب ردها. وأنكر بعضهم هذا اللفظ وقال: لعله قال يستخولوا والاستخوال يملكها إياه. وقوله: أن ييسروا يغلوا، يريد أنهم إذا يسروا بالقداح أعطوا سمان الإبل وأغلاها ثمنا. وتقدم هذا المعنى. وقال أعرابي كان يمنعه أبوه من الضرب في الأرض وطلب المعيشة شفقة عليه فكتب إلى أبيه: ألا خلني أذهب لشأني ولا أكن ... على الناس كلا إنَّ ذا لشديدُ أرى الضرب في البلاد يغني معاشرا ... ولم أر من يجدي عليه قعودُ أتمنعني خوف المنايا ولم أكن ... لأهرب مما ليس عنه محيدُ؟ فدعني أجول في البلاد لعلني ... أسر صديقاً أو يساء حسودُ فلو كنت ذا مالٍ لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت سديدُ وسياتي ما قيل في هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى وقال كلثوم بن عمرو: إنَّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهودُ وللبخيل على أمواله عللٌ ... زرق العيون عليها أوجهٌ سودُ وكان كلثوم هذا كتب إلى صديق له: أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة! فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس لها وتستريح القلوب إليها. وكنا نعفيها من النجعة استتماما لزهرتها وشفقة على خضرتها وادخارا لثمرتها حتى اصابها سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف واشتد علينا كدها وغابت عنا فضلها وكذبتنا غيومها وأخلفتنا بروقها وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك مع علمي بأنك نعم موضع الزاد وأنك نغطي عين الحاسد. والله يعلم أني ما أعدك إلاّ في حومة الأهل. وأعلم أنَّ الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يحضره الكثير لم يعرف

جوده ولم تظهر همته. وأنا أقول في ذلك: ظل اليسار إلى العباس ممدود ... وقلبه أبداً بالمحل ممدودُ إن الكريم. . الخ قيل: فشاطره ماله حتى أعطاه إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه. واجتمع جماعة بباب دار عدي بن الرقاع فخرجت إليهم بنية له صغيرة فقالت لهم: ما تريدون؟ فقالوا لها: نريد أباك. فقالت: وما حاجتكم به؟ فقالوا: جئنا إليه نهاجيه. فقالت على الفور: تجمعتم من كل أوب ووجهةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحدِ وقال أبو مسلم الخرساني: أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا ما زلت أسعى بجدي في دمارهم ... والقوم في غفلة الأيام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحدِ ومن رعى غنما في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسدُ وقال الآخر: وأكرم نفسي إن أهنها لأنها ... وحقك لم تكرم على أحدٍ بعدي حدث الأصمعي قال: مررت في بعض سكك الكوفة فإذا رجل خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول: وأكرم نفسي " البيت ". قال: فقلت له: أبمثل هذا تكرمها؟ قال: نعم! وأستغني عن مسألة مثلك. فصاح: يا أصمعي! فالتفت فقال: لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحب إلي من منن الرجال يقول الناس كسب فيه عارٌ ... وكل العار في ذل السؤال! وقال الآخر: يا أيها الأخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالدة لا تنقلوا الأقدام إلاّ إلى ... من ترتجي من عنده فائدة إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائدة!

وروي عن الأصمعي قال: لقيني أبو عمرو بن العلاء وأنا ماشٍ في بعض أزقة البصرة فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو لمائدة وإلاّ فلا! وقال الآخر: ولمّا رأيت الدهر أنحت صروفه ... علي وأوهت بالذخائر والعقد حذفت فصول العيش حتى رددتها ... إلى القوت خوفاً أن أجاء إلى أحد وقلت لنفسي: أبشري وتوكلي ... على قاسم الأرزاق والواحد الصمد فإلا تكن عندي دراهم جمةٌ ... فعندي بحول الله ما شئت من جلد وقال الآخر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم: ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا عيطاً بما يجدُ أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ وقال أبو نواس: قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا أشتد الزمان وساعدي فرميت منك بضد ما أملته ... والماء يشرق بالزلال الباردِ وقال أبن الضرير النهرواني: لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعدِ كم دخلت لقمةٌ حشى شرهٍ ... فأخرجت روحه من الجسدِ وقال الوزير المهلبي في غلام قدمه معز الدولة على سرية من أبيات: جعلوه قائد عسكرٍ: ... ضاع الرعيل ومن يقوده وقال أبو الفتح أبن جني النحوي وقيل أبو منصور الديلمي: صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نيةٍ فاسدة فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة وقال الإمام السهروردي لمّا ضعف وكبر: يا رب لا تحيني إلى زمنٍ ... أكون فيه كلأ على أحدِ خذني قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي!

وقال أبو محمد اليزيدي: عش بجد ولا يضرنك نوكٌ: ... إنما عيش من ترى بالجدودِ رب ذي إربةٍ مقل من الما ... لِو ذي عنجهيةٍ مجدودِ عش بجدٍّ وكن هبنقة القيس ... أو مثل شيبة بن الوليدِ وسبب قوله ذلك أنه تناظر هو والكسائي في مجلس المهدي وكان شيبة بن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه بذلك والله اعلم. وقال السلامي يصف الدرع: يا رب سابغة حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير منفندِ أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذل لكل مهندِ وقال الآخر: أخٌلك ما مودته بمذقٍ ... إذا ما عاد فقر أخيك عادا سألناه الجزل فما تلكى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا فعدنا ثم عدنا ثم عدنا ... فأعطى ثم عدت له فجادا مرارا ما نعود إليه إلاّ ... تبسم ضاحكا وثنى الوسادا وقال الآخر: هجرتك لا قلي مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدودِ كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنَّ المنية في الورود تغيظ نفسها ظلماً وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعدِ تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بألحاظ الورودِ وقال أبو نواس: ليس من الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحدِ وهذا المعنى سبق إليه جرير فقال: إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... رأيت الناس كلهم غضابا إلاّ إنَّ قول أبي نواس أشمل. ومن هذا المعنى قول السلامي: فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهرُ

وأخذه الأرجاني فقال: قد زرته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار ومنه أيضاً قول أبي الطيب: هي الغرض الاقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق وبيتا السلامي والارجاني أساس وأفخم مع انتقاض الزمن من بيت أبي الطيب إلاّ إنَّ قوله: وأنت الخلائق إن لم يقصره العرف ويقوم مقام قول أبي نواس في الشمول. وهذا المعنى موجود في بعض أبيات البوصيري في البردة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقول الأفوه الأودي: بني معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... فالجهل منهم معا والغي ميعاد أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي قد قدمت عاد ويروى: كانوا كمثل لقيم في عشيرته إذ أهلكت............. البيت. أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا والبيت لا يبنى إلاّ له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وسكان بلغوا الأمر الذي كادوا وإن تجمع أقوام ذوو حسب ... اصطاد أمرهم بالرشد مصطاد لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جالهم سادوا ونظمه أبن شرف بقوله: إذا تساوى الورى ضاعوا وحفظهم ... أن يجعلوا فاضلا منهم ومفضولا تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد ونظمه أبن شرف بقوله: فإن هم سودوا جهالهم هلكوا ... هلك الدليل إذا ما ضل مدلولا وقد علمت إنَّ ما يطابق آخر شطر البيت قبله: إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا

أمارة الغني أن تلقى الجميع لدى ... الابرام للأمر والأذناب اكتاد وبعده: حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فهم صلاح لمرتاد وإرشاد فسوف أجعل بعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحم منكم وميلاد إنَّ النجاة إذا ما كنت في تفر ... من لجة الغم أبعاد فأبعاد والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلما زاد وقال بشار: فخير منك ما لا خير فيه ... وخير من زيارتكم قعودي وسبب قوله ذلك إنّه تعشق امرأة فراسها مرارا. فلما ألح عليها شكته إلى زوجها فقال لها: أجيبيه وعديه أن يأتي هنا فوجهت إليه فجاء وزوجها معها ويشار لا يشعر فجعلا يتحدثان ثم قال لها بشار: ما اسمك بأبي أنت؟ فقالت: أمامة. فقال: أمامة قد وصفت لنا بحسن ... وإنا نراك فالمسينا فأخذت يده ووضعتها على أير زوجها وقد أنعط من حسن ما سمع من حديثهما. ففزع ووثب قائما وقال: علي ألية ما دمت حيا ... أمسك طائعا إلاّ بعود ولا اهدي لأرض أنت فيها ... سلام الله إلاّ من بعيد طلبت غنيمة فوضعت كفي ... على أير أشد من الحديد فخير منك............... البيت. ومثل هذا البيت في المعنى قول طرفة: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور يقول: ليت لنا بدل هذا الملك وهو عمرو بن هند رغوثا أي شاة ترضع من الزمرات أي القليلات الصوف وضرتها أي لحم ضرعها مركنة مجتمعة ويعني إنّها قليلة الصوف صغيرة الجسم ومع ذلك يرضعها رخلان أي ولدان لها وهي هزيلة تعلوها

الكباش للسفاد فما تنور أي ما تستطيع أن تنفر لهزلها. ومعلوم أنها إذا كانت على هذه الأوصاف لم يكن بها خير من صوف ولا لبن ولا لحم ومع ذلك فهي خير لنا من هذا الملك. وهذا الشعر كان سبب قتل عمرو بن هند طرفة، وسنشرح قصته بعد إن شاء الله تعالى. وقال عبيد بن الأبرص: لأعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي! وهو مثل سائر يضرب للرجل يضيع حق أخيه في حياته ثم يبكيه بعد الموت. يروى عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في بعض أسفاره فإذا بركب على الطريق فقال: ما وراءك؟ قال: أمر جليل. قال: ويحك ما هو؟ قال: مات خالد بن الوليد! فاسترجع عمر استرجاعاً طويلا فقالت له: يا أمير المؤمنين: ألا أراك بعيد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي؟ فقال: يا طلحة لا تؤنبني! وقال من شعراء الحماسة عمرو بن معدي كرب الزبيدي: ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا! إنَّ الجمال معادنٌ ... ومناقبٌ أورثن مجدا ومنها: كل امرئٍ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا ومنها: كم من أخٍ لي ماجدٍ ... بوأته بيدي لحدا ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يرد بكاي زندا ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا أغني غناء الميتين ... أعد للأعداء عدا ذهب الذين أحبهم ... وبقي مثل السيف فردا وقال العباس بن مرداس السلمي: إذا طالت النجوى بغير أولى النهى ... أضاعت وأصغت خد من هو فاردُ

فحارب فإنَّ مولاك حارد نصره ... ففي السيف مولى نصره لا يحارد الفارد: المنفرد؛ وحارد نصره: قل من قولك: حاردت الإبل إذا قل درها. وقال العباب العجلي: لعل الذي قاد النوى أنيردها ... إلينا وقد يدني البعيد من البعد وعل النوى في الدار تجمع بيننا ... وهل يجمع السيفان ويحكفي غمد؟ ومنها: فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابيةٍ صلدِ كمرضعةً أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصدِ! وقال عقيل بن علفة المري: وأبغض من وضعت إلي فيه ... لساني معشر عنهم أذودُ ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهودُ ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وريبته أريدُ ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود العير: الحمار؛ والتغمير: أن يشرب دون ري. يقول: لست بخارج من بيت جاري مريبا ألتفت وأتحير خشية أن أرى كالعير المزعج عن الماء قبل أن يروي أوّ لا أخرج متلفتا عاملا على العود إلى الريبة مرة أخرى كالعير المتلفت إلى الماء لبقاء العطش. وقال قيس بن كلثوم: قد يخطم الفحل قسراً بعد عزته ... وقد يرد على مكروهه الأسد الخطم: أن يشد على البعير خطامه فيملك بذلك. وقال تأبط شرا: وإنك لو أصلحت ما أنت مفسدٌ ... توددت الأقصى الذي تتوددُ وكان لك أبن العم يحمي ذمامه ... ويمنعه حين الفرائص ترعد أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك لها والمستعدون رقدُ وقال الفرزدق: وفي الأرض عن ذي الجود منأى ومبعدٌ ... وكل بلاد أوطنت كبلادِ

وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا حفير زياد؟ وقال غسان بن وعلة: إذا كنت في سعد وأمك منهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعدِ فإنَّ أبن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلدِ وقال شبيل الفزاري: وما عن ذلةٍ غلبوا ولكن ... كذلك الأسد تفرسها الأسود وقال دريد بن الصمة: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد وكان الأصمعي يقول: هذا أحسن بيت قالته العرب! ومنها: وهون وجدي إنما هو فارط ... أمامي وأني هامة اليوم أو غد وقال عبد الله بن ثعلبة: لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد وما إن يزال رسم دار قد أخلقت ... وعهد لميت بالفناء جديد فهم جيرة الأحياء أما محلهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد وقال الآخر في أبن له: ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده وكيف يلام محزون ... كبير فاته ولده؟ وقال رجل من خثعم: خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد وهذا مثل مشهور. روي أنَّ حارثة بن الغداني خرج ومعه كعب مولاه. فجعل لا يمر بمجلس من بني تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا! فقال كعب: ما سمعت قط كلاما أقر لعيني من هذا! فقال حارثة: ما سمعت كلاما أكره إلي منه! وتمثل بالبيت. ويروى أيضاً أنَّ أمة مرت بابن جريج أحد علماء المدينة وهو يصلي وقد خط خطا بين يديه. فقالت: وا عجبا لهذا الشيخ وجهله بالسنة! فأشار إليها أن قفي! فلما أن قضى صلاته قال: ما رأيت من جهلي؟ فقالت: إنك تخط خطا تصلي عليه وقد

حدثتني مولاتي عن أمها عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: الخط الباطل لأن العبد إذا كبر تكبيرة الاحرام سدت ما بين السماء والأرض. فسألها أن تقفوه لمولاتها. ففعلت فحدثته بذلك وقالت: أتجهل وأنت من علماء المدينة؟ فقال عند ذلك: خلت الديار فسدت غير مسود.......البيت وقال الآخر: إنَّ المساءة للمسرة موعد ... أختان رهن للعشية أو غد فإذا سمعت بهالك فيتقنن ... إنَّ السبيل سبيله فتزود وقال رجل من بني قريع: متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا: عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاط قسمت وجدود إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد وقال المقنع الكندي: يعاتبني في الدين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا ألم ير قومي كيف أوسر مرة ... وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا فما زادني الاقتدار منهم تقربا ... ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطلقوا لها سدا ومنها: وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا أراهم إلى نصري بطاء وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيت لهم شدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن يهدوموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا وإن رجزوا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضعيف ما دام نازلا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا وقال محمّد بن أبي شحاذ الضبي: إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمة ورواعد إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحد إذا أنت لم تترك طعاما تحبه ... ولا مجلس تدعى إليه الولائد تجللت عارا لا يزال يشبه ... سباب الرجال نثرهم والقصائد وقال أعرابي قتل أخوه ابنا له فقرب إليه ليقتنص منه فألقى السيف من يده وقال: أقول للنفس تأساء وتعزية: ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه: ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي وقال أحد بني فقعس: وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأفناد ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعادي كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد الضباب: جمع ضب هو الحقد. وقال الآخر: تمنى لي الموت المعجل خالد ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده وقال الآخر: وانك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد؟ عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد وفي كثرة الأيدي على الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود وقال شبيب بن البرصاء:

إذا المرء أعراه الصديق بدا له ... بأرض الأعادي بعض ألوانه الربد أعراه: انفرد به وأفضى به العراء. يقول: إذا أنفرد الرجل بمن يعتده صديقا وصار معه في بلاد العدو فاحتاج إلى نصرته ومشورته أنكشف له أمره وبان له حينئذ أنه عدو له أم صديق. والربد الغبر المظلمة. ضربه مثلا لمّا يخى من الصداقة والعداوة. وقال الحسن بن المطير: كنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها خليلي ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها وقال الآخر: هل الحب إلاّ زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد؟ غيره: وما كل ما في النفس للناس مظهر ... ولا كل مالا تستطيع تذود وقال آخر من الحارث بن كعب: منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمنا رغدا وقال حطائط أخو الأسود بن يعفر: أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقال يزيد الحارثي: وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد وقال آخر وتروى لقيس بن عاصم رضي الله عنه: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد؟ وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وإني بعد الضيف ما دمت ثاويا ... وما في إلاّ تلك من شيمة العبد وقال الآخر: ونبئت ركبان الطريق تناذروا ... عقيلا إذا حلوا الذناب فصر خدا

فتى يجعل المحض الصريح لبطنه ... شعارا ويقري الضيف عضبا مهندا وقال الآخر: وأنا لنجفو الضيف من غير علة ... مخافة أن يغري بنا فيعود غري: كلف. وقال الأسود بن يعفر: ولقد علمت لو إنَّ علمي نافع ... إنَّ السبيل سبيل ذي الأعواد ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم وبعد إياد أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذو الشرفات من سنداد جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأكرم غنية ... في ظل ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاذ وتقدم بعض هذا الشعر. وذو الأعواد رجل أسمه غوي بن سلامة أو سلامة بن غوي وقيل غير ذلك. وكان له خراج على مضر. فلما شاخ وضعف كان يحمل على سرير ويطاف به على مياه العرب فيجيبها. وقيل هو جد لأكثم بن صيفي الحكيم المعروف. وكان أعز أهل زمانه فكان لا يأتي سريره خائف إلاّ أمن وجائع إلاّ شبع. ومثل هذا الشعر ما روي إنّه وجد في حفير رجل عليه خفان وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن حيان بن نفيلة: حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أخضع لمعضلة كؤود وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود ودخل أرطأة بن سهيل على عبد الملك: كيف حالك؟ وكان قد أسن فقال: ضعف حالي وقل مالي وكثر مني ما كنت أحب أن يقل وقل مني ما كنت أحب أن يكثر قال: فكيف أنت في شعرك؟ قال: والله ما أغضب ولا أطرب ولا أرهب. وما الشعر إلاّ من نتائج هذه على إنني القائل: رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد وما تبقى المية حين تأتي ... على نفس أبن آدم من مزيد وأعلم أنها عمال قليل ... ستوفي نذراها بأبي الوليد

فارتاع عبد الملك ثم قال: بل توفي نذرها بك ويلك مالي ولك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا ترع والله ما عنيت إلاّ نفسي فقال: أما والله لتلمن بي وأبو الوليد كنية لعبد الملك وكنية لأرطأ أيضاً. وقال الآخر: لنا عز ومرمانا قريب ... ومولى لا يدب مع القراد وقوله لا يدب مع القراد أشار به إلى رجل من العرب كان يخرج ومعه شنة فيها قردان فيشدهما في ذنب بعير من الإبل فإذا قرصته القردان نفر فنفرت الإبل لقعقة الشن. فإذا نفرت أستل منها بعيرا فذهب به. وقال الآخر: ستبكي المخاض الجرب إن مات هيثم ... وكل البواكي غيرهن جمود يقول إنّه كان بخيلا يستبقينه وينحرهن: فهن يبكين عليه إن مات لمّا أحسن إليهن ولا يبكي عليه أحد من الناس لعدم خيره وإحسانه. وهذا من أقبح الهجو غير أنَّ في قوله جمود مغمزا. وضد هذا من المدح قول الآخر: قتيلان لا تبكي المخاض عليهما ... إذا شعبت من قرمل وأفان والأفاني جمع افانية والأفانية والقرمل نبتان يرعيان. وقال الآخر: إذا جاوزت من ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد ونحوه قول الفرزدق السابق: وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد؟ وتقدم تفسير رعد وبرق بما أغنى عن إعادته. ونحوه قال الآخر: يا جل ما بعدت عليك بلدنا ... فابرق بأرضك ما بدا لك وأرعد وقال الآخر: ما قام عمرو في الولاية ... قائما حتى قعد وسبب هذا أنَّ بعض الوزراء قلد أبن حجاج ولاة فخرج إليها يوم الخميس وتبعه عزله يوم الأحد فقال فيه: يا من إذا نظر الهلال ... إلى محاسنه سجد وإذا رأته الشمس كادت ... أن تموت من الحسد

يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد والناس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد ما قام عمرو........ البيت وقال جميل: فأقسم طرفي بينهن فيسوى ... وفي الصدر بينهن بعيد وقال أيضاً: يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيى إذا فارقتها فيعود وهذان البيتان من قصيدة لجميل يقول فيها: إلاّ ليت أيام الصفاء جديد ... ودهراً تولى يا بثين يعود فتغنى كما كنا نكون وأنتم ... صديق وإذ ما تبذلين زهيد! وما أنس من أشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد؟ ولا قولها: لولا العيون التي ترى ... أتيتك فاعذرني فدتك جدود! خليلي ما أخفي من الوجد ظاهر ... ودمعي بما أخفي الغداة شهيد ألا قد رأى الله أنَّ رب عبرةٍ ... إذا الدار شطت بيننا ستزيد إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابت ويزيد وإنَّ قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد فلا أنا مردود بما جئت طالبا ... ولا حبها فيما يبيد يبيد، جزتك الجوازي يا بثين ملامة ... إذا ما خليل بان وهو حميد وقلت لها: بيني وبينك فأعلمي ... من الله ميثاق له وعهود وقد كان حبيكم طريفا وتالداً ... وما الحب إلاّ طارف وتليد وإنَّ عروض الوصل بيني وبينها ... وإنَّ سهلته بالمنى لصعود فأفنيت عيشي بانتظاري نوالها ... وأبلت بذاك الدهر وهو جديد فليت وشاة الناس بيني وبينها ... يدوف لهم سما طماطم سود وليت لهم في كل ممسىً وشارقٍ ... تصاعق أكباد لهم وقيود! ويحسب نسوان من الجهل أنني ... إذا جئت إياهن كنت أريد

وبعده: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادِ القرى إني إذا لسعيد! وهل أهبطن أرضا تظل رياحها ... لها بالثنايا القاويات وئيد وهل ألقين سعدي من الدهر مرة ... ومارث من حبل الصفاء جديد؟ وهل تلتقي الأهواء من بعد يأسةٍ ... وقد تطلب الحاجات وهي بعيد؟ وهل أزجرن حرفا علاة شملة ... بخرق تباريها سواهم سود على ظهر مرهوب كأن ستوره ... إذا جاز هلاك الطريق رقود سبتني بعيني جؤذر وسط ربربٍ ... وصدر كفاثور اللجين وجيد تزيف كما زافت إلى سلفاتها ... مباهية طي الوشاح ميود إذا جئتها يوما من الدهر زائراً ... تعرض منقوصا اليدين صدود يصد ويغضي عن هواي ويجتني ... ذنوبا علينا إنّه لعنود فأصرمها خوفا كأني مجانب ... ويغفل عنا مرة فنعود فمن يعط في الدنيا قرينا كمثلها ... فذاك في عيش الحياة رشيد! وبعده: يقولون: جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد؟ لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد فمن كان في حبي بثينة يمتري ... فبرقاء ذي ضالٍ علي شهيد ألم تعلمي يا أم ذي الودع أنني ... أضاحك ذكراكم وأنت صلود؟ وقال الآخر: إذا كنت تهوي الحمد والمجد مولعا ... بأفعال ذي غي فلست براشد ولست وإنَّ أغيى أباك مجادة ... إذا لم ترم ما أسلفاه بماجد وقوله: اباك، أي أبواك، فثني لفظ الأب من غير إنَّ يرد لأمه. وقال الآخر: شريت برداً ولولا ما تكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبداً! وقال الآخر:

أتعجب أن رأيت علي دنيا؟ وقال الأشهب بن رحيلة: أسود شرى لاقت أسود خيفة ... تساقت على حرد دماء الأساود وقال الآخر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند! وقال أعرابي في السجن: أيا واليي سجن اليمامة أشرفا ... بي القصر أنظر نظرة هل أري ونجدا! فقال اليمانيان لمّا تبينا ... سوابق دمع ما ملكت لها رداً: أمن أجل أعرابية ذات بردة ... تبكي على نجد وتبلى كذا وجدا؟ لعمري لأعرابية في عباءةٍ ... تحل دماثا من سوقية أو فردا أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ... من اللأبسات الريط يظهرن كيدا وقال الآخر، ويقال الشافعي، رضي الله عنه: تمنى رجال أنَّ أموت فأن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد! يقال: لست في هذا الأمر بأوحد، أي لا أخص به: وقال الآخر، ويقال هو هاتف سمع لمّا ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: من الآن قد طابت وقر قرارها ... على عمد المهدي قام عمودها وقال يزيد بن الصقيل العقيلي، وكان يسرق الإبل ثم تاب: ألا قل لأرباب المخائض أهملوا ... فقد تاب عما تعلمون يزيد وإنَّ أمرءاً ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد! وتقدم هذا الثاني. والإهمال ترك الإبل بلا راع. وقال الآخر: تمنيتم مائتي فارسٍ ... فردكم فارس واحد وقبلها: فليت لها بارتباط الخيول ... ضأناً لها حالب قاعد! ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد؟ وغامد أبو قبيلة، وهو غامد بين نصر بن الأزد بن الغوث، فهاجم هذا الشاعر. وقال حاتم:

وإنَّ الكريم من تلفت حوله ... وإنَّ اللئيم دائم الطرف أقود وقال نبهان العبشمي: يقر بعيني إنَّ أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود وأنَّ أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد مل السرى كل واخد وأخلط أحشائي ببرد ترابه ... وإنَّ كان مخلوطا بسم الأساود! والعقدات واحد العقدة - بكسر القاف وفتحها وهو ما تراكم من الرمل وانعقد؛ والأبرق حجارة يخالطها رمل أو طين؛ والنتقاود: المنقاد المستقيم؛ الأساود جمع أسود، وهو الأسود السالخ. وقال أبو الحسن بن أبي الطيب: لا تنكري يا عز إنَّ ذل الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المتحد إنَّ البزاة رؤوسهن عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد وقال الحارث بن كلدة: ولقد رأيت معاشرا ... جمعوا لهم مالا وولدا وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا الناس وجهالهم الحائرين. وقوله: لا تسمع الآذان رعدا، أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لصممهم، فأقام الألف واللام مقام ضمير وقال الآخر: فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا إنَّ الثناء هو الخلد! ومثله قول الآخر: فإذا باغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث مثالب وخلود! وتقدم ذكر هذا المعنى. وقال: أبن اللبانة يمدح المعتمد: لقد ضم أمر الملك حتى كأنه ... نطاق بخصر أو سوار على زند وحسن طعم العيش حتى أعاده ... ألذ من الإغفاء في عقب السهد وحسب الليالي إنّها في زمانه ... بمنزله الخيلان في صفحة الخد توقد عن نارين للحرب والقرى ... وقام على طودين للحلم والمجد وجاءت به الأيام تاجر سؤددٍ ... يبيع نفيسات المواهب بالحمد يغيث في محل يعينك في ردى ... يروعك في درع يروق في برد

جمال وإجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد! وقال أيضاً: إليه وإلاّ قيودا قدم السرى ... وفيه وإلاّ أخرسوا ألسن الحمد وعنه أفيضوا، إنّه مشعر الهدى ... وحوليه طوفوا: إنّه كعبة القصد وألغوا حديث البحر عند حديثه: ... فكم بين ذي جزر وكم بين ذي مد! وقال الآخر: قلدتني منك الجميل قلائد ... ورحمتي حتى سبتك والدا والله لو جاز السجود لمحسنٍ ... ما كنت إلاّ راكعا لك ساجدا! وقال أبو جعفر البطروني: وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد ثمار أيادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علينا ممدد ترى جاريا ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري لا تزال تغرد وقال أبن اللبانة أيضاً: وهو صبح وربيع وحيا ... ويجتلى أو يجتنى أو يجتدى وهو طود وشهاب ولظى ... مارسا أو ماسرى أو ماعدا وقال بكر بن النطاح: ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في قيادي وما وجبت علي زكاة مالٍ ... وهل تجب الزكاة على الجواد؟ وقال الآخر: بفعالي عرفت لا بمقالي ... وبذاتي شرفت لا بجدود إنَّ رأيي ورأيت بلغاني ... غايتي هذه بحكم السعود وقال أبن الخطيب: تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي غمار الهم في طلب المجد فمهما رأيتهم شيبة فوق مفرقي ... فلا تنكروها إنّها شيبة الحمد! وقال أبن الحداد، وللشعر حكاية: شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده

فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟ وقال آخر في التعزية: لابد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد كن المعزي لا المعزى به ... إنَّ كان لابد من الواحد! وقال الوزير المهلبي: خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد أيبقى جميعا شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد؟ وقال الآخر: دهى الله مصرا وسكانها ... وفتت أكبادهم وبالحسد! متى يرتجي مفلس عندهم ... غنى وعلى كل فلس أسد؟ وقال الآخر: ما للمعيل وللسفار وإنما ... يجلى بوصل البيد من هو فارد فالشمس تجتاب السماء فريدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد وقال أبن سكرة: قيل: ما أعددت للبرد ... وقد جاء بشده؟ قلت: دراعة عري ... تحتها جبة رعده وقال الآخر: بين اللثام وصدغه المعقود ... خمران: من ريق ومن عنقود يلوى على زرد العذار دلاله: ... كم فتنةٍ بين اللوى وزرود! وقال الآخر: أهلا بطيفك زائراً أو عائد ... تفديك نفسي غائبا أو شاهدا! يا من على طيف الخيال أحالني ... أتظن طرفي مثل طرفك راقدا؟ ما نمت لكن الخيال يلم بي ... فيجله طرفي فيطرق ساجداً وقال الراضي بن عباد: مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... وأوقدوا نار قلبي أي إيقاد لا غزو إنَّ زاد في قلبي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصاد!

وقال الآخر: قالوا: خسرت القلب حين علقته ... وربحت فيه شماتة الحساد فأجابهم: لا تعذلوني إنني ... صانعته عن مهجتي بفؤاد! وقال بعض المشارقة: ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاحسبوا ذابذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود؟ وقال أبو العباس بن الفياض: قم اسقني بين الناي والعود ... ولا تبع طيب مفقود بموجود نحن الشهود وصوت العود خاطبنا ... فزوج أبن غمام بنت عنقود! وقال أبو البركات في غرناطة: رعى الله من غرناطة متبوءاً ... يسر كئيبا أو يجير طريدا! تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا هي الثغر صان الله من أهله به ... وما خير ثغر لا يكون برودا وقال أبن الحجاج في صاحب وليمة أبطأ بالطعام فيها. يا جائيا في داره ذاهبا ... لغير معنى لا ولا فائدة قد جن أصحابك من جوعهم ... فأقراً عليهم سورة المائدة! وتقدم بعضه. وقال الآخر: مال أبن دارة دونه لعفاته ... خرط القتاد والتماس الفرقد مال لزوم الجيمع يمنع صرفه ... في راحةٍ مثل المنادى المفرد وقال الآخر: فأكثر من الإخوان للدهر عدة: ... فكثرة در العقد من شرف العقد وعظم صغير القوم وأبدا بحقه: ... فمن خنصري كفيك تبدأ في العد! وقال الآخر: ألا! إنّه كلنا بائد ... وأي بني آدم خالد؟ وبدؤهم كان من وبهم ... وكل إلى ربه عائد فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينة أبداً شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على إنّه واحد وقال البستاني: أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد وللخمر معنى ليس في الكرم مثله ... وللنار نور ليس يوجد في الزند وقال أبو القاسم الاصبهاني: أصبحت صبا دنفا ... بين عناء وكمد أعوذ من شر الهوى ... بقل هو الله أحد! وقال ابن الجهم: انفس حرة ونحن عبيد ... إنَّ رق الهوى لرق شديد لي حبيب نأى الهجر عني ... وأشد الهوى القريب البعيد وقال الآخر: وكم ليلة بت من حبكم ... تطول على طرفي الساهد كأن نجوم الدجى في الدجى ... صوار تفرقن عن صائد وقال أبن الرومي: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلاّ فما يبكه منها وإنّها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد؟ وقال الآخر في التورية: تقول سليمى إذ رأت شيب لمتي: ... لقد حال من ذلك الشباب سواده وما تنر الحسناء من خط كاتب ... إذا ابيض من طول الكتاب مداده وقال كثير: فإنَّ تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد! وكل خليل زارني فهو قائل: ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد! وتقدم أنَّ بن عبد الملك تمثل به على قبر جاريته حبابة لمّا ماتت: وقال أبو جعفر المنصور العباسي، وله قصة ستأتي في اللام:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة: ... فإنَّ فساد الرأي إنَّ يترددا ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة ... وحاذرهم أنَّ يملكوا مثلها غدا! وسبب ذلك أنَّ جارية له أهدت إليه تفاحة بعد إنَّ طيبتها، وكتبت عليها: هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد! وقال عروة بن أذينة، رضي الله عنه: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم ابترد هبني بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن لنار على الأحشاء تتقد؟ وقال الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فيما زعموا: خذوا بدمي ذلك الغزال فانه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد ولا تقتلوه أنني أنا عبيده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد! وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي، رحمه الله: ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد! فقلت لها: إني لثمتك غاضبا ... وما حكموا في غاضب بسوى الرد خذيها وكفي لي عن إثم ظلامتي ... وإنَّ أنتِ لم ترضي فألفا من العد فقالت: قصاص يشهد العقل إنّه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هيمان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد وقالت: ألم أخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد وقال مسكين الدارمي: قل للملحة في الخمار الأسود: ... ماذا فعلت بزاهد متعبد؟ قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق جاه محمد! وزعموا إنّه كان مشتهرا بالمجون، فنسك ولزم المسجد، وصار من العباد. فورد بعض تجار العراق على المدينة، على سكانها الصلاة والسلام، بسلة فيها خمر مختلفة الألوان. فباعها

جميعا إلاّ الأسود من الخمر. فتحير في أمرها وجاء نحو المسجد وسلأل عن من به من أهل الخير. فدل على مسكن الدارمي المذكور. فجاء وشكا إليه أمره وسأله الدعاء بتيسير بيع اللون فدفعها له وقال له: غن بها حيثما أمكنك فإنّها لى! فذهب يغني بها في سكك المدينة فظن الناس إنّه ترك التنسك وعاد إلى المجون ولامه أصحابه في ذلك فقال: ولتعلمن نبأه بعد حين! وشاع في المدينه أنَّ الدارمي تعشق صاحبة الخمار الأسود فبيعت بذلك خمر التاجر وعاد الدارمي إلى نسكه. وهو القائل: وسميت مسكيناً وما بي حاجةٌ ... وإني لمسكين إلى الله راغبُ وإني امرؤ لا اسأل الناس ما لهم ... بشعر ولا تعيي على المكاسبُ وينسب إلى القاضي التنوخي في معارضة أبيات الخمار المذكورة: قل للمليحة في الخمار المذهب: ... أفسدت نسك أخي التقي المترهبِ نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب! وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن نهجيهما من مذهبِ وإذا أتت عين اتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي! وقال الفرزدق: وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيدُ وسبب قوله ذلك إنّه اجتمع مع نصيب الشاعر الأسدي في مجلس سليمان بن عبد المكل فقال الفرزدق شعرا يفخر فيه بأبيه ومنه: وركبٍ كأن الريح تطلب عندهم ... لهاترةً من جذبها بالعصائبِ سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائبِ إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالبِ! فأعرض سليمان كالمغضب ففطن له نصيب فقال له: أيأذن أمير المؤمنين أن أقول؟ قال: قل! فقال نصيب:

أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قاربُ قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالبُ فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ وقالوا: تركناه وفي كل ليلةٍ ... يطوف به من طالب العرف راغبُ فلو كان فوق الناس حيٌّ فعاله ... كفعلك أو في الفضل منك يقاربُ لقلنا له شبهٌ ولكن تعذرت ... سواك على المستشفعين المطالبُ هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل تسبه البدر المنير الكواكبُ فطرب سليمان وأمر لنصيب بعسرة آلاف. ثم التفت إلى الفرزدق فقال: كيف ترى يا أبا فراس؟ فقال: هو أشعر أهل جلدته. فقال سليمان: وأهل جلدتك! فغضب الفرزدق وقال: وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد! وعن دعبل قال: نودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا فتى يجر رمحه بين يدي فقال: يا دعبل اسمع مني! وأنشد: أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهادِ بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي! ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيد والله! فقال: ما خرجت إلاّ هاربا من الحب! ثم قاتل حتى قتل. وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تخاطب زوجها عمر بن عمر بن عبد العزيز حيث اشتغل بأمور الخلافة ولم يتفرغ لها: ألا يا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العبادِ وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهادِ وقال الآخر: نحن قوم تذيبنا الأعين النجل ... على أننا نذيب الحديدا نقتل الأسد ثم تقتلنا البيض ... المصروفات أوجهاً وخدودا وتراني لدى الكريمة أحراراً ... وفي السلم للحسان عبيدا

وزعموا أنَّ العلوي قائل هذا الشعر حاصر قلعة حتى كاد يقتحمها. وكانت فيها امرأة ذات حسن وجمال فقالت لأهلها: أنا أكفيكم أمره! فتبرقعت وخرجت نحو العسكر وقالت: أبلغوني إلى الأمير! فأبلغوها إليه فقالت: أنت القائل: نحن قوم تذيبنا الأعين فقال: نعم! فنزعت البرقع عن وجهها وقالت: أحسنا ترى أم قبيحاً؟ فقال: والله ما أرى إلاّ حسنا! فقالت: ما حق المولى على عبده؟ فقال: السمع والطاعة. فقالت: فأرحل عنا وانصرف راشداً قال: نعم: وأمر بالرحيل. فقال له أهل العسكر: إنَّ المدينة بأيدينا. فقال: لا سبيل إلى الإقامة ساعة واحدة. ثم خطب تلك المرأة وتزوجها، فكانت عنده أحظى نسائه. وقال الآخر في الثقلاء: إلمام كل ثقيل قد أضر بنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد ومن يخف علينا لا يلم بنا ... وللثقيل على الساعات ترداد وقال الآخر: إذا هز الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ هو اللئيم فلا يزيد وروي أنَّ أعرابيا وقف على مروان بن الحكم، وهو يفرض العطاء بالمدينة، فقال له: أفرض لي! فقال: قد طوي الكتاب! فقال له الأعرابي: أما علمت إني القائل: إذا هز الكريم؟ فقال: نشدتك الله، وأنت القائل له؟ قال: نعم! فقال مروان: افرضوا عليه ما يرضيه! وقال الآخر: لا يوجد الخير إلاّ في معادنه ... والشر حيث طلبت الشر موجود ويحكى عن جعفر بن يحيى إنّه في بعض أسفاره عرض عليه مماليك رجل جفاه السلطان، وفيهم غلام جميل. قال: فقلت له: ما اسمك؟ قال: ماهر. قلت وما صنعتك؟ قال: الأدب والشعر والغناء، وما شئت من بعد. فسألت عن ثمنه فقيل خمسمائة دينار على الضرورة. فوزنت ثمنه وسألته إنَّ يسمعني شيئاً من غنائه. فأخذ العود واندفع يغني: حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف؟

فأطربني غناؤه وشجاني، فأجرته وخلعت عليه، وأمرته بمعادلتي. فلما أجزت منزل مولاه بمقدار ميل أنشأ يقول: وما كنت أخشى معبدا أنَّ يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفراً أخوهم ومولاهم وحامل سيرهم ... ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا أشوق ولمّا يمض لي غير ساعةٍ ... فكيف إذا سار المطي بنا شهرا؟ فقلت له: يا غلام، أتعرف منزل مولاك من هنا؟ فقال: وهل تخفى معالم الحب؟ فقالت: أذهب فأنت حر لوجه الله! ووهبت له ألف دينار. فقال لي زميلي: أمثل هذا يعتق؟ فقلت له ويحك! وهل مثله يملك؟ فأنطلق وهو يقول: لا يوجد الخير إلاّ في معادنه وقال محمد بن عبد الملك الزيات: وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟ وكان سبب ذلك أنَّ إبراهيم بن المهدي اقترض من التجار أموالا كثيرة ببغداد. فيها لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار. فلما لم يتم لها أمر الخلافة لوى التجار أموالهم. فصنع محمد أبن عبد الملك قصيدة يخاطب المأمون، وهذا صغير، منها: تذكر أمير المؤمنين قيامة ... بإيمائه في الهزل منه وفي الجد ووالله ما من توبةٍ نزعت به ... إليك ولا ميل إليك ولا ود ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي به بين السماطين عن بعد؟ وأي امرئ سمى بها قط نفسه وعرضها على إبراهيم وقال له: إما أنصفت أبي، وإما أنشدتها المأمون! فأذى إلى أبيه ماله دون سائر التجار، واستحلفه على كتمانها، فحلف له، وهذا من فوائد الشعر. وقال أبن الرومي يمدح النرجس: للنرجس الفضل المبين وإنَّ أبى ... آبٍ وحاد عن طريقة حائد وللنرجس احتاز الملاحة كلها ... وله فضائل جمة وفوائد ومنها: شتان بين اصنين: هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعد!

وسيأتي تتمة هذا الشعر وما عورض به وما قيل في ذلك، إن شاء الله. وقال الآخر: وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي وقال الآخر: إذا أنت وليت الخؤون أمانة ... فأنك قد أسندتها شر مسند! وقال الآخر يصف الكتب: لنا جلساء لا يمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا ويفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ... ولا تتقي منهم لسانا ولا يداً فإنَّ قلت: أموات فلست بكاذب ... وإنَّ قلت: أحياء فلست مفندا! وقال الآخر: علي لأخواني رقيب من الصفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيد يذكرنيهم في مغيب ومشهد ... فسيان منهم غائب وشهيد وإني لأستحيي أخي أنَّ أبره ... قريبا وأنَّ أجفوه وهو بعيد وقال الآخر: رأيت صلاح المرء يصلح حاله ... ويعيدهم داء الفساد إذا فسد ويعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد وقال الآخر: أرى صاحب النسوان يسحب أنها ... سواء، وبون بينهن بعيد فمنهن جنات تفيء ظلالها ... ومنهن نيران لهن وقود! وقريب من هذا قول الأعرابي: وإنَّ من النسوان من هي روضة ... تهيج الرياض دونها وتصوح غيره: وكل أخس عند الهواينا ملاطف ... ولكنما الأخوان عند الشداد! غيره:

ما خطب من حرم الإرادة وادعا ... مثل الذي حر الإرادة جاهدا غيره: ولقد أصرف الفؤاد عن الشيء ... حياء وحبة في السواد غيره: عود لسانك قول الصدق تحظ به ... إنَّ اللسان لمّا عودت معتاد موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فأنظر كيف ترتاد! وقال أبو الفتح البستي: تكلم وسدد ما استطعت فإنما ... كلامك حي والسكوت جماد! فإنَّ لم تجد قولا سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد وقال أبن الرومي. وقد سمع رجلا يثني عن آخر مبالغا: إذا ما وصفت أمرءا لامرئٍ ... فلا تغل في وصفه وأقصد فإنك إنَّ تغل تغل، الظنون ... فيه إلى الآمد الأبعد غيره: ألم تر أن الدهر من سوء فعله ... يكدر ما أعطى ويسلب ما أسدى فمن سره ألا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا غيره: إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردة شدة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدة غيره: لو إنَّ ما انتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا! لكنني عالم إني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا غيره: صل من دنا وتناس من بعدا ... لا تكرهن على الهوى أحدا قد أكثرت حواء إذ ولدت ... إذا جفا ولد فخذ ولدا! غيره:

إذا اجتمع الناس في واحدٍس ... وخالقهم في الرضى واحدُ فقد دل إجماعهم دونه ... على عقله أنه فاسدُ غيره: وإخوان اتخذتهم درعاً ... فكانوا ولكن للأعادي وخلتهم سهاما صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا: قد صفت منا قلوبٌ ... لقد صدقوا ولكن من ودادي وقالوا: قد سعينا لك سعيٍ ... لقد صدقوا ولكن في فسادي! وقال أبو محمد الحريري: ولمّا تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعامت حتى قيل إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده! وله: والشبل في البخر مثل الأسد وله أيضاً: من ضامه أو ضاره دهره ... فليقصد القاضي في صعده سماحه أزرى بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده وله أيضاً: خذها إليك وصيةً ... لم يوصها قبلي أحد غراء حاويةً خلاصات ... المعاني والزبد نقحتها تنقيح من ... محض النصيحة واجتهد واعمل بما مثلته ... عمل اللبيب أخي الرشد حتى يقول الناس هذا ... الشبل من ذاك الأسد وقال أبن الساعاتي: حددت بجفنيها على رشف ريقها ... ومن شرب الصهباء يلزم بالحدِّ وقال شرف الدين الحموي: ونحن معاشرٌ نأبى الدنيا ... ونلبس من صوان العرض بردا نعانق من رماح الخط باناً ... وننشق من سيوف الهند وردا

وقال المتلمس: إنَّ الهمان حمار الذل يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسدُ ولا يقيم بدار الذل يألفها ... إلاّ الأذلان: عير الحي والوتدُ هذا على الخسف مربوطٌ برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحدُ وقال أبن قلاقس: إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده غيره: قد تعففت وارتضيت بترفيع ... زماني وقلت إني وحدي لا لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية أين الكرام حتى أكدي وقال أبو دلف: أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيالي على متون الجيادِ ورسولٌ يأتي بوعد حبيبٍ ... وحبيبٌ يأتي بلا ميعاديِ وسببه أنه قد قيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا؟ فقال: بيضاء رعبوبة بالشحم مكروبة بالمسك مشبوبة. وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية يمزجها ساقية من صوب غادية. وسئل طرفة عن ذلك فقال: مركب وطي وثوبٌ بهي وطعامٌ شهي. قال بعضهم: فحدثت بذلك أبا دلف فقال: أطيب الطيبات. . البيتين وقال: وحدثت بذلك حميدا الطوسي فقال: فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغضى نبهته المتوردِ وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ ... ببهكنةٍ تحت الطرف النعمدِ

قال: وحدثت بذلك الزبير بن عبد الله فقال: ما أدري ما أقول ولكني أقول: فاقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه قلت: والأبيات الأربعة التي أنشدها حميد ليست له وإنّما تمثل بها وهي لطرفة بن العبد من قصيدته الدالية المشهورة؛ وكذا البيت الذي أنشده الزبير هو لشاعر قديم وسيأتي ذكره مع غيره في موضعه. وشيع طرفة في ذكر الثلاث جماعة من الفضلاء. فمن ذلك قول عز الدين بن هبة الله المعتزلي معارضا: لولا ثلاث لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبدِ أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلاً جهدي وأن أناجي الله مستمتعاً ... بخلوة أحلى من الشهدِ وإن أتيه الدهر كبراً على ... لئيم " بياض " الخدِّ لذلك أهوى لا فتاة ولا ... خمراً ولا ذا ميعةٍ نهدِ وقول الآخر: لولا ثلاثٌ هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا حجٌ لبيت الله أرجو به ... أن يقبل التوبة والسعيا والعلم تحصيلا ونشراً لمّا ... رويت أو سعت الورى ريا وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا ما كنت أخشى الموت أني أتى ... بل لم أكن التذ بالمحيا وقال اثير الدين: أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا فمنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا ومنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ ... تكفر لي ذنباً وتنجح لي سعيا أتترك نصاً للرسول وتقتدي ... بشخصٍ لقد بدلت بالرشد الغيا؟ وقول الصفدي: لولا ثلاث هن أقصى المنى ... لم أهب الموت الذي يردي تكميل ذاتي بالعلوم التي ... تنفعني أن صرت في لحدي

والعي في رد الحقوق التي ... أصاحبي نلت بها قصدي وأن أرى الأعداء في صرعةٍ ... لقيتها في جمعهم وحدي فبعدها اليوم الذي حم لي ... عندي استوى في القرب والبعدِ وقولي أنا من هذا الباب: لولا ثلاث فوائدٍ ترجى لمّا ... أحببت تنفيس الحياة إلى مدا قربٌ من المولى وعلم نافعٌ ... وأجٌ يؤازرني ويشفع لي غدا وذكر الجاحظ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشده رجل قول طرفة المذكور فقال: لولا أن أسير في سبيل الله وأضع جبهتي لله وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمار لم أبال أن أكون قد مت. قال: عامر بن عبد الله القيسي: ما آسى من العراق إلاّ على ثلاث: على ظمأ الهواجر وتجاوب المؤذنين وإخوان لي منهم الأسود بن كلثوم. وقال إعرابي: لولا ثلاث هن عيش الدهر: ... الماء والنوم وأم عمرو لمّا خشيت من مضيق القبر وقال الآخر: صنت نفسي عما يليق بمثلي ... وتحصنت بالجفاء الشديدِ ما يساوي قضاء حقِّ الموالي ... ما يقاس من سوء خلق العبيدِ وقال البحتري: ولست ترى شوك القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرندِ ولا كلب محوماً وإن طال عمره ... ألا إنّما الحمى على الأسد الوردِ غيره: لقد كسدت سوق الفضائل كلها ... وللهزل أحظى في الزمان من الجدِّ فلست أرى إلاّ كريماً يفر من ... لئيم وحراً يشتكي الضيم من عبدِ غيره: وما زال هذا الدهر يلحن في الورى: ... فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا

وقال أبن سناء الملك: أبى الدهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ ... فيا ليت مني مكن الله ضدهُ يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدا له من خوفه من أعدهُ غيره: تحفظ من ثيابك ثم صنها ... ة إلاّ سوف تلبسها حدادا وميز عن زمانك كل حينٍ ... ونافر أهله تسد العبادا وضن بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالبعادا أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ رجعوا جدادا وقال الأرجواني: أرى بين أيامي وشعري قد بدا ... لتعجيل أتلافى خلافاً يجددُ فقد أصبحت سوداً وشعري أبيضاً ... وعهدي بها بيضاً وشعري اسودُ وقال بعض أهل المجون: تعشقته شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمينٌ على وردِ أخا العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيبٍ ومن ضدِّ غيره: لام العواذل إذ عشقت فتى له ... سبعون عاماً غير عامٍ واحدِ لا تعذلوني في هواه فإنني ... عاينت فيه لمحةً من والدي قيل لبعض أهل المجون: لم لا تميل الذي النسوان؟ قال: أذكر أمي فاستحي. فقيل له: لم لا تذكر بالذكور أباك؟ وعكس هذا الشاعر ذلك المعنى. ومن هذا النمط قول بهاء الدين بن النحاس: قالوا: حبيبك قد تبدى شيبه ... فإلام قلبك في هواه يهيم؟ قال: اقصروا فالآن تم جماله ... وبدا سفاه فتى عليه يلزمُ الصبح عرته وشعر عذراه ... ليلٌ ونبت الشيب فيه نجومُ وقول أبن الوكيل وهو لطيف لولا عيب القافية:

شب وجدي بشائبٍ ... من سنا البدر أوجهُ كلما شاب ينحني ... بيض الله وجههُ وقال الصفدي: عشقت شيخاً بديع حسنٍ ... لام على حبه العذولُ كأن ياقوت وجنتيه ... لا شيب فيها جبال لولوُ أي لؤلؤ. وقال الآخر: شمس الضحى يعشى العيون ضياؤها ... إلاّ إذا روقت بعينٍ واحدة فلذاك تاه العور واحتقروا الورى ... فاعرف قضيتهم وخذها فائدة نقصان جارحةٍ أعانت أختها ... فكأنها قويت بعينٍ زائدة وقال أبو نواس: إني وما جمعت من صفد ... وحويت من سبدٍ ومن لبدِ هممٌ تصرفت الخطوب بها ... فنزعت من بلدٍ إلى بلدِ يا ويح مذ حسمت قناعته ... سبب المطامع عن غدٍ فغدِ لو لم يكن لله متهما ... لم يمس محتاجاً إلى أحدِ وقال محمد بن كنانة الأسدي: ومن عجب الدنيا تيقنك البلا ... وأنك فيها للبقاء مريدُ إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى ... فإنَّ فطام النفس عنه شديدُ وقال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى يمدح الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى ونفع به: قل للذين تكلفوا زي التقى ... وتخيروا للدرس ألف مجلدِ: لا تحسبوا كحل الجفون بحيلةٍ ... إنَّ المهى لم تكتحل بالاثمدِ! الكحل بفتحتين أن يعلو منابت الأشفار سوادٌ خلقةً أو أن تسود مواضع الكحل. يقال: كحلت بالكسر فهي حكلاء وهو أكحل. وهذا مثل قول الآخر: ليس التكحل في العينين كالكحل وسيأتي. وقال الآخر:

وكنا كزوجٍ من قطا في مفازةٍ ... لدى خفض عيش معجب مونق رغدِ أصابها ريب الزمان فأفردا ... ولم نر شيئاً قط أوحش من فردِ حكي عن أبي الموءل قال: دخلت منزل نخاس في شراء جارية فسمعت في بيت بإزاء البيت الذي فيه صوت جارية وهي تقول: وكنا كزوجٍ. . " البيتين " فقلت للنخاس: اعرض علي هذه المنشدة! فقال: إنها شعثة مرهاء حزينة. فقلت: ولم ذاك؟ قال: اشتريتها من ميراث فهي باكية على مولاها. ثم لم ألبث أن أنشدت: وكنا كغصني بانةٍ وسط روضةٍ ... نشم جنى الرضات في عيشةٍ رغدِ فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ ... فيا فردةً باتت تحنُ إلى فردِ قال أبو السموءل: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر أخبره بخبرها فكتب إلي أن ألق هذا البيت عليها فإن أجابت فاشتريها ولو بخراج خراسان! والبيت هو: قريبٌ صد بعيد وصلٍ ... جعلته منه لي ملاذا قال: فألقيته فقالت في سرعة: فعاتبوه فذاب شوقاً ... ومات عشقاً فكان ماذا؟ قال: فاشتريتها وحملتها إليه فماتت في الطريق فكانت إحدى الحسرات. وقال عمرو بن معدي كرب: أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ وهذا مثل مشهور كان علي كرم الله وجهه فيما يروون يتمثل به عندما يرى ابن ملجم. وتمثل به غيره أيضاً كما في حرف الهمزة. والعذير: العاذر والحال التي تحاولها لتعذر عليها. والعرب يقولون: عذريك من فلان وينصبونه بعامل لا يظهر. والمعنى: هلم من يعذرك من فلان فيلومه ولا يلومك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من أناس أبنو أهلي في حديث الافك. وقال زيد الخيل: أمرتحلٌ قومي المشارق غدوةً ... وأترك في بيتٍ بفردة منجدِ؟ إلاّ رب يومٍ لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهدِ

فليت اللواتي عدنني لم يعدنني ... وليت اللواتي غبن عني شهدي! وقال أعرابي: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبتردُ هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقدُ وقال الآخر: ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نائيا عن وسادي؟ لا أذوق النوم إلاّ غراراً ... مثل حسو الطير ماء التمادِ ابتغي إصلاح سعدى بجهدٍ ... وهي تسعى جهدها في فسادي فتتاركنا على غير شيء ... ربما أفسد طول التمادي وقال المعتد بن عباد في باب الغزل: أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا ... فعض به تفاحةً واجتنى وردا ولو قدرت زارت على حال يقظةٍ ... ولكن حجاب البين ما بيننا مدا أما وجدت عنا الشجون معرساً ... ولا وجدت منا خطوب النوى بدا؟ سقى الله صوب القطر أم عبيدةٍ ... كما قد سقت قلبي على حرة بردا هي الظبي جيداً والغزالة مقلةً ... وروض الربا عرفاً وغصن النقى قدا وقال الرئيس أبو مروان بن رزين: وروضٍ كساه الطل وشياً مجددا ... فأضحى مقيماً للنفس ومقعدا إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العشب ميدا إذا ما انسكب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساماً صقيلاً صافي المتن جردا وغنت به ورق الحمائم بيننا ... غناءً ينسيك الغريض ومعبدا فلا تجفون الدهر ما دام مستعداً ... ومد إلى ما قد حباك به يدا وخذها مداماً من غزالٍ كأنه ... إذا ما سقى بدرٌ يحمل فرقدا وقال أبو بكر بن عمار من قصيدة: وما هذه الأشعار إلاّ مجامرٌ ... تضوع فيها للنوى قطع الند وقال أيضاً:

تبرعت بالمعروف قبل سؤاله ... وعدت بما أوليت والعود أحمد وقال أبو الحسن بن الحاج اللورقي يتغزل في معذر: وقد كان ينبت زهر الرياض ... فأصبح ينبت شوك القتادِ أين لي متى كان بدر التمام ... يدرك بالكون أو بالفسادِ وهل كنت في الملك من عبد شمسٍ ... فأخفى عليك ظهور السوادِ؟ وقال أبو محمد بن عبد البر في مجذوم: مات من كنا نراه أبداً ... سالم العقل سقيم الجسدِ بحر سقمٍ ماج في أعضائه ... فرمي في جلده بالزبدِ كان مثل السيف إلاّ أنه ... حسد الدهر عليه فصدي وقال أبو بكر بن الملح: والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا سكران من ماء النعيم فكلما ... غناه طائره وأطرب رددا يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تعقد للأحبة مرصدا زهر يبوح به اخضرار ذباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا ويبيت في فنن توهم ظله ... بالصبح في عين القرارة مرودا قد خف موقعه عليه وربما ... مسح النسيم بعطفه فتأودا وقال الفقيه أبو الحسن بن زنباع: ومن يطفي بنزر الماء ناراً ... فليس يزيدها إلاّ اتقادا وقال أبو جعفر التطيلي: تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا تبادروها وقد آذتهم فشلاً ... وكلثروها وقد أحصتهم عددا قل للمحدث عن لقمان اة لبدٍ ... لم يترك الموت لقماناً ولا لبدا ولا الذي همه البنيان يرفعه ... إنَّ الردى لم يغادر في الشرى اسدا ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غداً وعسى إلاّ يعيش غدا؟ وقال الآخر:

باح مجنون عامرٍ بهواه ... وكتمت الهوى فمت بوجدي فإذا كان في القيامة نودي: ... من قتيل الهوى؟ تقدمت وحدي! وقال الآخر: يقولون: إنَّ الحب كالنار في الحشى ... لقد كذبوا فالنار تذكو وتخمد وما هو إلاّ جذوة مس عودها ... تسعر قلبا للمشوق وتوقد! وقال الآخر: أمسك ملامك عني إنني كمد ... إذ لم تجد في الهوى يوما كما أجد إنَّ لم تصدق دموعي في الذي شهدت ... فأنظر إلى جسدي إنَّ كان لي جسد يا ويح أهل الهوى إني لأرحمهم ... تبلى الجسوم وأثواب الهوى جدد لولا ترحمهم أيقنت انهم ... يشقون دهرهم أضعاف ما سعدوا! وقال الآخر: كفى حزنا إني مقيم بلذةٍ ... وأحباب قلبي نازحون بعيد أقلب طرفي في الديار فلا أرى ... وجوها لأحبابي الذين أريد! وقد قلت في غرض الباب قصيدة، فرأيت إنَّ أثبتها هنا، وإنَّ كان فيها بعض ول، وهي: أبى الدهر إلاّ أنَّ يجوز على القصد ... وأنَّ يعكس الآمال في كل ما يبدي ويبسط بين الفرقدين يد النوى ... ويدني الثريا من سهيل على بعد ويسمو بالوهد الحضيض على الذرى ... ويسفل بالطود السمي على الوهد ويستبدل البردي في الطعن بالقنا ... وغصن النفى الأملود بالصارم الهندي وأنَّ يجعل العقبان في الجو طعمة ... لورقاء والضبعان مفترس الأسد ويهدي بالضب القطاة ركية ... على العشر والسمع النتائف بالخلد ويرفع أقدار اللئام على الألى ... لهم فدم في المجد والشرف العد ويلوي تدبير الورى كل مائقٍ ... وفضل الغنى كل امرئ شكس نكد أجل إنّها الأحداث تجري مدارة ... مقاليدها في قبضة الصمد الفرد! مقادير منه أبرمت عن مشيئةٍ ... قديما وعن علم محيط وعن قصد وعدل وأحكام مبين وحكمة ... تحار النهي في نيل فياضها المد وليست بما تهوى النفوس صروفها ... ولا حذر المحتال في صرفها يجدي

ولا يحرم الوفر الفتى بجهالةٍ ... وعجز ولا يحظى بعقل ولا كد ولكنها الأرزاق أعددن للفتى ... قديما على قدر الشقاوة والجد فكائن رأينا من حليم مفتر ... عليه وغمر بات في عيشةٍ رغد أراني عروفا بالزمان فمن يكن ... كمثلي لم يصبح على الدهر ذا نقد ولم يبتئس إنَّ مسه بمضوفةٍ ... ولم يزه بالدنيا إذا فاز بالوجد وقد قرعتني الحادثات فلم تلن ... قناتي لغمز من شابها ولا لهد وما رسنني حتى نزعن عن امرئٍ ... بعيد الهوى ثبت الحشا حازم جلد إذا ظفرت كفاه لو يزه فاخراً ... وإنَّ نيل لم يضرع ولم يمس ذا وجد فأصبحت لا آسى على فقد هالكٍ ... ولا يعتريني بين غانية رأد ولا أبتغي امرئ عن تكلف ... وإنَّ كان حسن العهد ديني لذي ود ولو ملني من الدهر معصمي ... لفارقته طوعا ولم يشكه عضدي ورب غبي يزدريني إنَّ رأى ... شحوبي من حادث آونةٍ لد ولم يدر أنَّ الأجرد النهد فضله ... بإحضاره لا باللجام ولا اللبد وأنَّ الحسام الهندواني إنّما ... بمضربه يعتام لا جده الغمد وأنَّ وراء الوهم لن يبق عزة ... عليه إذا ما قاده أصغر الولد الوهم: الجمل العظيم الذلول، ورواؤه: منظره. وإنَّ براٍ الهدهد التاج وهو لم ... يفز بالذي للباز والنسر من مجد وإنَّ بهار الدفل كالورد منظراً ... وحسنا وبعد الخبر محمدة الورد وغمر جهول يرتجي نيل منصبي ... رجاء حضيض أنَّ سيرقي إلى النجد يصبو إلى ما نلته مثل ما صبا ... حصور إلى ما نيل من عذر الخرد ويسعى إلى إدراك شأوي كما سعت ... أتان خريع خلف صافنةٍ جرد وغرته مني لينة وبشاشةٍ ... كما غر غمراً كشرة الأسد الورد ومن مد للبدر المنير يمينه ... ليمسكه فيلبسن ضيعة المد! وذي ثروة يستأمني بلعاعةٍ ... ليقتادني قود الوديق إلى الورد ولم يدر إني أجتوي الأري شابه ... هوان وأستحلي بعز جنى الهبد وأنَّ لست للباغي ضيما بمصحب ... ولا باذل ماء وجهي على شكدِ

وإني لو أرتاد ما ضاق مذهبي ... بحول ولم يصلد لمفلقة زندي ولكن صون النفس عن كل موردٍ ... تهان به أحظى بعزته عندي وإني لفضاض السجايا دميثها ... لالفي ونشاب إذا شئت اللغد وأنَّ لساني الصبر ما لم أزمه ... وإنَّ كان أحلى للودود من الشهد وإني لو هاجيت دان أبن غالبٍ ... لأمري ولم يعرض لسيلي فتى العبد ولو ثلاث هن أجررن مقولي ... عن الشر وائتمت به جدد الجد: فمنها تحاشى أنَّ يمر به الخنا ... فإن الخنا من شيمة الدانيء الهد ومنها تجافي أنَّ أناصب معشرا ... لئاما فمن لؤم مناصبة الوغد ومنها التحامي عن وعيد التي إلى ... مداها جميع العالمين على وخد وما المرء إلاّ حيث حل برحله ... فكن نازلا بالنفس في يفع الحمد وكن رابئا عن كل ورد دنيةٍ ... بنفسك تغشاه مع الشرع الورد وحم بجانب الورد إنَّ كنت صاديا ... فإنَّ تسرب فلتوله صفحة الصد كما أعرضت كدر عن الماء عندما ... توجسن ذعرا فانثنين على جهد ولا تك كالعير الوديق يؤمه ... فيحلأ عنه بالهراوى وباللكد! فإنَّ حايض العز تغشى سخينة ... وإنَّ حايض الذل تقلى على برد وما ضيم غير الفقع يوطأ بمنسمٍ ... على قرقر من غير نكر ولا رد وغير تريك بيضة بلدية ... وغير أتان الحي تعصى أو الود وكن حافظا بالغيب والسخط والرضى ... لعهد مصافيك الهوى دائم الود! ألم بنا إلمامة بعد هداةٍ ... من الليل طيف من أميمة أو هند سرى ورواق من دجى الليل منطب ... بما لو سرته الريح ضلت من البعد فلم أر مثل الطيف جواب لاحبٍ ... بلا سائق يحدو ولا سابق يهدي ولا والجا لا يغلق الباب دونه ... ولا يتلقى منه بسرور ولا سد وأمن من لحظ الرقيب وريبه ... إذا زار ونه الرقيب على رصد! فهيج أشجانا من القلب وانثنى بلا طائل منها عتيد ولا وعد بأسرع من لحظ الجفون إذا رنا ... إليك وبالبرق والوميض من الرعد فيا ليت شعري والحوادث جمة ... وعهد الغواني كالسراب على صلد!

أقامت على ما بيننا من صبابةٍ ... أميمة أم غيت مودتها بعدي؟ فخال من الأخدان كل مساعدٍ ... على أي حالٍ خضته صادق العهد حليم غضيض الطرف عما يربيه ... سليم الحشا من هاجس الضغن والحقد! فإنَّ وداد المرء كالظل زائل ... إذا لم يكن بين الجوانح عن عقد وإنَّ حبال الوصل منقوضة العرى ... إذا لم تكن في القلب محكمة المسد وإنَّ بناء شدته وأشتده ... لواهٍ إذا لم يرس عن ثابت العمد وإنَّ ركيا ردته ووردته ... لغور إذا لم يزك من باطن المد فهل تستوي عادية بخميلةٍ ... بها الماء عد دائم بحسى ثمد؟ وإنَّ أليف المرء إلف مشاكل ... وأحسن شيء ضمك الند للند ولا تطمعن من غير شكل مودة ... تودم ويجني الود فيها على الود! فإنَّ السجايا في الأنام سوية ... وشتى وبدع صحبة الضد للضد وانك ما أبصرت أسداً أليفة ... لحمر وغربانا تحن إلى العفد وما المرء إلاّ أبن الثرى فمراحه ... وإنَّ عاش أزمانا إلى ذلك المهد وعمر الفتى المضمار بينا جواده ... يباري مداه إذ هوى في هوى اللحد وبينا الفتى يزهو بمال وأسرةٍ ... إذا هو يشجى بالرزايا وبالفقد إذا ما سمعت الدهر عولة حائر ... فكن حائر فكن راصد أمثالها إنّها تعدي وقلت أيضاً: أستغفر الله قد ضيعت نحوكم ... خطا وذلك من أخطائي السددا سلكت فيها خباراً بل وطئت بها ... شوك القتاد ولم أسلك بها جددا لو كنت أعلم ما ألقى ببابكم ... جعلت تصفيد رجلي دونكم صفدا وقال الآخر: إنَّ وصفوني فناحل الجسد ... أو فتشوني فأبيض الكبد أضعف وجدي وزاد في سقمي ... أنا لست أشكو الهوى إلى أحد أهٍ من الحب أهٍ من كبدي ... إنَّ لم أمت في غد فبعد غد جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى وانطويت فوق يدي كأن قلبي إذا ذكرتكم ... فريسة بين ساعدي أسد!

وقال الآخر: تغرب أمري فانفردت بغربة ... فصرت فريدا في البرية أوحدا تسرمد وقتي فكيف فهو مسرمد ... وأفنيت عني فصرت مجددا وقال الآخر: لو كنت املك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوما إلى أحد ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من ناظري رمد وقال الآخر: تزود من الدنيا النقاخ ولن ترى ... بوادي الغضا ماء نقاخا ولا وردا ونل من نسيم ألبان والرند نفحة ... وهيهات وادٍ ينبت ألبان والرندا! وكرر إلى تجدٍ بطرفك أنه ... متى تغد لا تنظر عقيقا ولا نجدا! وقال الآخر: أكلف القلب أنَّ يهوى وألزمه ... صبرا وذلك جمع بين أضداد وأكتم الركب أوطاري وأسأله ... حاجات نفسي لقد أتعبت روادي هل مخبر عنده من منكر خبر ... وكيف يعلم حال الرائح الغادي؟ فإنَّ رويت أحاديث الذين مضوا ... فعن نسيم الصبا والبرق إسنادي وقال الآخر: زعموا أنَّ من تباعد يسلو ... ولقد زادني التباعد وجدا إنَّ وجدي بكم وإنَّ طال عهدي ... وجد يعقوب حين فارق عهدا خليلي إنَّ الجزع أضحى ترابه ... من الطيب كافورا وأغصانه رندا وأصبح ماء البحر خمراً وأصبحت ... حجارة دراً وأوراقه وردا وما ذاك إلاّ إنَّ مشت بجانبه ... أميمة أو جرت بتربته بردا وهذا الشعر يتمثل به السادات في انخراق العوائد واستحالة الأشياء ببركة من جاورها ومسها أو استدعاها من الصالحين. وذكر صاحب التشوف رحمه الله تعالى عن بعض الناس قال: كنت أتوضأ في البحر على

قرب من الشيخ أبي عبد الله الصنهاجي، المعروف بابن أمغار. قال: وكان أبو عبد الله شرع في الوضوء من البحر، فتطعمت ماء البحر فوجدته حلوا، فقلت له: يا أبا عبد الله، إنَّ ماء هذا البحر حلو! فقال لي: هو كما قلت! وقال بعض الناس: كنت بالحرم الشريف مكة، فخرجت وقت السحر لأشرب من زمزم، فوجدت شيخا قد أخذ الدلو فشرب وأفضل، فوجدت الماء أحلى من العسل والسكر. فلما كان الغد، خرجت في ذلك الوقت أيضا إلى زمزم، فوجدت صاحبي. فلما شرب، أخذت الفضلة، فتعلقت به وقلت: سألتك بالله إلاّ أخبرتني من أنت! قال: أنا سفيان الثوري، واستر علي! وحدث صاحب التشوف أيضاً عن بعضهم قال: مررت بالشيخ أبي موسى الدكالي السلاوي المشهور، وهو يأكل عسلوجا من عسالج الكلخ. فناولنيه فأكلته فوجدته طيبا. وعن أبي الحسن الأنصاري، المعروف بابن الصائغ، قال: زرت الشيخ أبا يعزى، فلما كان غروب الشمس خرجت للضوء مع جماعة، فبعدنا عن القرية، فحال الأسد بيننا وبين القرية. فقيل للشيخ أبي عز: حال الأسد بين أصحابك وبين القرية. فأخذ الشيخ عصاه بيده وجعل يضرب الأسد، ففر أمامه وقربنا منه، فجعل يأكل عيون الدفلى، فقال لترجمانه: قل لأبي الحسن: ما تقولون انتم معشر الفقهاء فيمن يأكل الدفلى؟ فقلت له: قل له: يقولون: من أكل الدفلى طرد الأسد! فأعلمه الترجمان بقولي، فرأيته يبتسم. ومن هذا ما حدثني به بعض الثقات، وإنَّ بساحل حاحة، عند ضريح الشيخ أبي العباس أحمد الهشتوكي، المعروف بالسائح، تلميذ الشيخ سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني. قال: حدثني فلان وكان أصحاب أبي العباس قال: جئت مع أبي العباس عند هبوطه إلى هذا الساحل، فأتينا على مصلى الشيخ محمد بن سليمان الجزولي، وكان مصلاه معروفا هناك بشاطئ البحر يزار. قال: فأقمنا في المصلى يومين أوقال ثلاثة. واحسبه قال - قال: لا نطعم شيئاً حتى أحسست بجوع شديد. فقال لي أبو العباس: قم إلى الضرو فخذ لنا من أوراقه! والضرو شجر معروف أوراقه أمر شيء. قال فقمت إلى الشجرة منها، فملأت حجري من الورق، وجئت به إليه فطرحته أمامه وأحسبه قال - قال: فحركه، فعاد زبيبا ولوز. قال: فأكلنا حتى اكتفينا. فلما قمنا من ذلك الموضع ومررنا على قرب من موضع الشجرة، تركت الشيخ حتى أدبر، فانسللت منه

وأتيت الشجرة، فاقتطفت قبضة من أوراقها وجعلتها في فمي ومضغتها، فوجدتها أمر شيء، فمججتها، واتبعت الشيخ فأدركته يتوضأ في شعب هنالك. فلما رآني جعل يبتسم وقال لي: أفعلت كيت وكيت؟ قلت نعم! فقال لي ما معناه: أفتحسب أنَّ لا اله إلاّ الله في أفواه الرجل سواء؟ وقد وقع مثل هذا لإبراهيم بن أدهم. وحكايات الصالحين في نحو هذا لا تنحصر، وإنّما أردنا أنَّ نتبرك ببعض ذلك، نفعنا الله بمحبتهم وحشرنا في زمرتهم! وهذا القدر يكفي، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الذال المعجمة

باب الذال المعجمة الذئب يغبط بذي بطنه. الذئب معروف، مهموز، ويترك همزه تخفيفا؛ والأنثى ذيبة. والغبطة: المسرة، وتكون للحسد تارة، وهو أن يتمنى إنَّ يعطى ما للغير من النعمة مع زوالها عن الغير وهو مذموم، وتارة لا مع محبة زوالها عن الغير وهو المحمود. والغبطة بهذا المعنى خلاف الحسد. ويقال: غبطة يغبطه كضربة يضربه، وغبطة يغبطه كسمعة يسمعة؛ غبطة. والبطن معروف وذو البطن: صاحب البطن، وهو ما فيه. ومعنى المثل إنَّ الذئب يضن به أبدا الشبع والبطنة لمّا يروى من عدوه على الناس والمواشي، ولا يظن به الجوع، وإنَّ كان مجهودا من الجوع. فيضرب للرجل يتهم بالمال ولا مال له. ومثل هذا قول الشاعر: ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع ونحو هذا في أمثال العامة قولهم: من رأى الجمل الأبيض ظنه كله شحما. ذياب في ثيابٍ. الثياب جمع ثوب. وهذا المثل مشهور في ذم الناس وانهم كالذياب مكراً وخداعا وإنَّ كانوا في الصورة خلافها. وروي إنّه لمّا ولد عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهن نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: هو، هو! فلما سمعت بذلك أمه أسماء، رضي الله عنها، أمسكت عن

الذيب يكنى أبا جعدة.

إرضاعه. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذياب، وذياب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه! انتهى. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم علماء السوء إنّه أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون الكباش وقلوبهم كقلوب الذياب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون، وبي يستهزئون، لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران. انتهى. قال الشاعر: وأنت كجرو الذيب ليس بآلف ... أبى الذيب إلاّ إنَّ يخون ويظلما! الذيب يكنى أبا جعدة. الذيب مر، والكنية والكنوة بضم الكاف وكسرها فيهما: الاسم. وكنيت الرجل أبا فلان، وكنيته بالتضعيف، وأكنيته، كنيته بالكسر والضم سميته به. وكنيته بابي فلان أيضاً. وأبو جعدة: كنية الذيب. ويقال: أبو جعادة أيضاً. قال الشاعر: فقالت له: يا أبا جعادة إنَّ تمت ... تمت سيئ الأخلاق لا تتنقل وكني الذيب أبا جعدة، وإنَّ لم تكن له بنت تسمى بذلك. ومن ثم قال الكميت يصفه: ومستطعم يكنى بغير بناته ... جعلت له حظا من الزاد أوفرا والجعدة يكون وصفا للمؤنث، من الجعودة في الشعر، ضد البسوطة، والمذكر جعد. والجعد أيضاً الثرى الندي. وقول امرئ القيس: ويأكلن بهمى جعدة حبشية ... ويشربن برد الماء في السبرات

ذكرتني الطعن وكنت ناسيا.

أراد به الندية، أي بهمى ندية حبشية، أي شديدة الخضرة تضرب إلى السواد. ورجل جعد: كريم أو بخيل. وجعد اليدين: بخيل. والجعدة أيضاً نبت ينبت على شاطئ الأنهار، وهو المراد في المثل. ويقال إنّه نبت طيب الريح، ينبت في الربيع ويجف سريعا. والجعدة أيضاً: الشاة. فقيل كني الذئب بها لكثرة افتراسه إياها، وقيل: كني أبا جعدة لأنه بخيل يقال له الجعد كما مر. وانشدوا: أخشى أبا جعد وأم العمر يعني الذيب. وقيل من النبت السابق. ومعنى المثل أنَّ الذيب كنيته حسنة وفعله خبيث منكر. يضرب للرجل يظهر لك إكراما وهو يريد بك غائلة. ويروى هذا المثل أيضاً: هي الخمر تكنى الطلاء كما الذيب بكنى أبا جعدة. ويحكى إنّه لعبيد بن الأبرص لمّا هم المنذر بن ماء السماء بقتله قال له عبيد: وقالوا: هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذيب يكنى أبا جعدة ويروى: هي الخمر يكنوها بالطلا ... كما الذيب يكنى أبا جعدة أي إنّه يظهر لي الإكرام وهو يريد قتلي، كما إنَّ الخمر وإنَّ سموها الطلاء وحسنوا أسمها ففعلها قبيح. وكذا الذئب وإنَّ كان اسمه حسنا فإنَّ فعله قبيح. ويحكى عن أبن الزبير سئل عن المتعة فقال: الذيب يكنى أبا جعدة. والمعنى أنَّ المتعة حسنة الاسم قبيحة المعنى، لأنها طلاق، كما أن الذئب حسن الاسم قبيح المعنى. ذكرتني الطعن وكنت ناسيا. الذكر والتذاكر: الحفظ للشيء، وذكره وتذكره إياه بالتضعيف،

ذكر ما فات يكدر الأوقات.

وأذكرته. وما زال مني على ذكر بالضم والكسر أي تذكر. والطعن: الضرب بالرمح أو نحوه، والوخز به، طعنه بالفتح يطعنه بالفتح والضم طعنا: ضربه، فهو مطعون وطعين، والنسيان ضد الحفظ، نسي الأمر بالكسر ينساه، نسيا ونسيانا ونساوة بكسر الثلاثة ونسوة بالفتح: ضد حفظه؟ وهذا المثل يضرب في ذكر الشيء بغيره، وفي الرجل يسمع كلمة فيتذكر بها شيئاً. وأصله فيما يقال إنَّ رجلا حمل على آخر ليقتله، وكان مع المحمول عليه الرمح، فنسيه دهشا، فقال له الحامل: ألق الرمح! فقال عند ذاك: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا أي ذكرتني ما اطعن به: أو ذكرتني الطعن بتذكير الرمح الذي أطعن به فذهبت مثلا. ثم كر عليه فهزمه. ويقال إنَّ الحامل في هذا القصة هو صخر لن عمرو بن الشريد، والمحمول عليه هو يزيد أبن الصعق. وقد ذكر ذلك أبو عبيد، إلاّ إنّه قال: فكر عليه فقتله أو هزمه على الشك فوهمه البكري بما ثبت من أنَّ صخرا إنّما مات بطعنة ربيعة بن ثور الأسدي. وسيأتي لنا ذكر قصته، إن شاء الله تعالى. ويروى أيضاً إنَّ رهيم بن حزم الهلالي عرج بأهله وماله يريد النقلة في بلاد من أرض إلى أرض. فبينما هو يسير إذ لقيه ثلاثون رجلا من تغلب، فقال لهم: يا بني تغلب، شأنكم بالمال وخلوا الظعينة! فقالوا: قد رضينا إنَّ ألقيت الرمح! فقال: وإنَّ لرمحي لمعي! فقتل رجلا وصرع آخر وقال ذلك. ذكر ما فات يكدر الأوقات. وهذا مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى، وقريب من قولهم: ذكر أيام الجفاء في أيام الصفاء جفاء.

مذكية تقاس بالجذاع.

مذكية تقاس بالجذاع. المذكي من الخيل: المسن الذي جاوز القراح بعام، كما مر في الجيم. والجذاع جمع جذعة وهو الصغير السن، والقياس: اعتبار الشيء بالشيء وإلحاقه به في أمر. وهذا المثل يضرب عند الخطأ في التشبيه وقياس الكبير بالصغير. واشتهر في هذا المعنى على ألسنه الناس قولهم: قياس البيض على الباذنجان. وزعموا إنَّ أصله رجلا كان ساق إلى آخر باذنجانا أو نحوه، فوجد مسكنه مغلقا ولم يجد صاحبه هناك، فلم يمكنه إنَّ يدخل إلى المسكن ما أتى به. فلما جاء صاحبه قال له: إذا جئت بشيء من ذلك فأرمه من الخوخة إلى البيت قم إنّه يوما اتفق لهذا أنَّ جاء ببيض فرماه من الخوخة، عملا بوصية صاحبه وظن إنَّ البيض والباذنجان سوء. فوقع البيض وانكسر وفسد، وذهب ذلك مثلا. أذكى من إياس. الذكاء سرعة الفطنة: يقال ذكي الرجل يذكى كرضي يرضى، وذكى يذكى كسعى يسعى، وذكو يذكو ككرم يكرم ذكاء بالمد فهو ذكي. وإياس بوزن كتاب هو إياس بن معاوية بن قرة، قاضي البصرة. كان أعجوبة الزمان في الذكاء وسرعة الجواب. ومن ثم قال أبو تمام. إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس ولذكاء إياس وفراسته وفطنته أخبار عجيبة وحكايات غريبة. ومن أوّل ما كان يعرف به من ذكائه إنّه دخل الشام وهو صغير ونازع رجلا في أمر وقدمه إلى القاضي عبد الملك بن مروان، وكان القاضي يعرف الرجل فقال لإياس: أما تستحي إنَّ تقود شيخا كبيرا؟ فقال: الحق اكبر منه! قال القاضي: اسكت! قال إياس: فمن يتكلم بحجتي إذا سكت؟ فقال له القاضي

ذليل عاذ بقرملة.

ما أظنك تتكلم بحق حتى تقوم. قال إياس: أشهد أن لا إله إلاّ الله وإنَّ محمّد رسول الله! فوثب القاضي قائما ودخل على عبد الملك فأخبره خبره. فقال له عبد الملك أقض حاجته! وأصرفه عن الشام لا يفسد علينا الناس! ثم ولي القضاء في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان سبب ذلك إنَّ عمر بعث رجلا من أهل الشام فقال له: اجمع بين القاسم وربيعة وإياس، فول القضاء أيهما انفذ! فجمع بينهما وتمنع كل منهما. فقال إياس للشامي وعن القاسم فقيهي المصر: الحسن وأبن سيرين! فعلم القاسم إنّه إنَّ سألهما أشارا به. فقال للشامي: لا تسل! فوالله الذي لا إله إلاّ هو إنَّ إياس لأفضل مني وأعلم بالقضاء. فإنَّ كنت ممن يصدق فينبغي لك إنَّ تصدق قولي، وإنَّ كنت كاذبا فما يحل لك أنَّ توليني القضاء وأنا كاذب! فقال إياس للشامي: إنك جئت رجل فأقمته على شفير جهنم، فافتدى نفسه من النار بيمين كاذب سيستغفر الله غز وجل منها وينجو من النار. فقال الشامي: أما إذ فطنت لها فأنا أوليك القضاء. فاستقضاه. وكان إياس قيل له: إنَّ فيك عيبين: إعجابا بقولك وعجلة في الجواب. فقال: أما الإعجاب، أليس يعجبكم ما أقول؟ قالوا: بلى! قال: فأنا أحق بالإعجاب بقولي، وأما العجلة، فكم هذه؟ وأمد أصابع يده فقالوا: خمس قال: عجلتم الجواب ولم تعدوها إصبعاً، إصبعاً. قالوا: وكيف نعد ما نعلم؟ قال: كذلك أنا في الحكم! وسيأتي شيء من أخباره وفراسته بعد، إن شاء الله تعالى. ذليل عاذ بقرملةٍ. الذل ضد العز، ذل الرجل يذل فهو ذليل، والعياذ: الالتجاء، ويقول: عاذ به يعوذ بذال معجمة عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة. والقرملة شجرة ضعيفة لا شوك لها، تنفتح إذا وطئت، والجمع قرمل. قال الشاعر: قتيلان لا تبكي المخاض عليهما: ... إذا شبعت من قرمل وأفان

ضعيف عاد بقرملة.

وهذا المثل يضرب في الضعيف يلتجئ إلى أضعف منه أو مثله، والذليل يأوى إلى أذل منه. قال جرير: كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذليل يعوذ تحت القرمل ويقال أيضاً في المثل: ضعيف عاد بقرملةٍ. ومثله قول العامة: أستند المريض إلى المريض. أذل من بيضة البلد. الذل مر، والبيضة معروفة واحدة البيض؛ والبلد بفتحتين أدحي النعام، وهو حفرة يتخذها في الأرض لبيضه. قال علقمة يصف الظليم: حتى توافى وقرن الشمس مرتفع ... أدحي عريسين في البيض مركوم وبيضة البلد يقال بيضته التي يتركها فيه، ضرب بها المثل في الذلة لأنها لا تمتنع من كل من ظفر بها، كما قيل: فقع القرقر، على ما يأتي. قال الشاعر: لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا بن الرقاع ولكن لست من أحد تأبى قضاعة أنَّ تدري لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد وجوز أبو عبيدة في قولهم: كان فلان بيضة البلد أنَّ يراد به المدح على ما قيل في بيضة القعر، كما سيأتي. وزعم البكري إنّه قد ضرب هذا ثلا للمنفرد عن أهله وأسرته، فلا يكون مدحا ولا ذما، وانشده: لو كان حوض حمار ما شربت به ... إلاّ بأذن حمار أخر الأبد لكنه حوض من أودى بأخوته ... ريب الزمان فأضحى بيضة البلد! وفيه نظر: لأنَّ الشاعر يخبر بأنه قد هان وذل بذهاب اخوته وأنصاره، لا بمجرد فقد الأنصار وإنّه منفرد.

أذل من حمار.

أذل من حمارٍ. الحمار معروف، وهو يوصف بالذلة والهوان، كما يوصف بالجهل والبلادة. قال الشاعر: ولا يقيم على الضيم يراد به ... إلاّ الأذلان: عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد والخسف: الهوان، كما قيل: حراجيح ما تنفك إلاّ مناخة ... على النفس أو نرمي بها بلدا قفرا والزمة: القطعة من الحبل. وقوله في الوتد، يشج أي يضرب على رأسه، فلا يرثي له أحد، أي لا يرق له أحد ولا يحمه، ومثله قول عبد الرحمان بن حسان بن ثابت الأنصاري يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن العاصي الأموي: فأما قولك: الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداج ولولاهم لكنت كركب بحرٍ ... هوى في مظلم الغمرات داج وكنت أذل من وتد بقاع ... يشج رأسه بالفهر واج ولمّا وقع هذا بينهم كتب معاوية، رضي الله عنه، إلى مروان بن الحكم إنَّ يؤد بهما، وكانا قد تقاذفا. فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين. فقيل لعبد الرحمن بن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فشنع أمره وارفعه إلى معاوية! فقال: إذا، والله، لا أفعل، وقد حدني كما يحد الرجال الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد، فأوجعه بهذا الكلام. أذل من حمار قبان. ويقال: عير قبان دويبة صغيرة من دواب الأرض؛ وقبان بفتح القاف والباء المشددة، على وزن فعلان، من قب، وكأنه من القبب وهو ضمور البطن. قال الشاعر: يمشين مشي قطا البطاح تأود ... قب البطون رواجح الأكفال وذلك لضمور بطنه. والدليل على إنّه فعلان منع الصرف فيه. قال الشاعر:

أذل من السقبان بين الحلائب.

يا عجبا لقد رأيت عجبا: ... حمار قبان يسوق أرنبا خالطها يمنعها أن تذهبا ... فقال: أردفيني! قالت: مرحبا! ولو كان فعلا لصرفه إلاّ أن يلاحظ فيه تركيبا. أذل من السقبان بين الحلائب. السقبان بالضم جمع سقب بفتح فسكون، وهو ولد الناقة مطلقا أو ساعة يولد. قال علقمة: رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليبُ أراد أبن ناقة ثمود والأنثى سقبة. وقيل: السقب مخصوص بالذكر ولا يقال للأنثى سقبة وإنّما يقال لها حائل وأمها أم حائل كما مر. وجمع السقب: أسقب وسقوب وسقاب وسقبان. وناقة مسقاب إذا كانت عادتها أن تلد السقبان. قال الراجز: غراء مسقاب لفحل أسقب. والحلائب جمع حلوبة والحلوبة من النوق المحلبة. قال الشاعر يرثي رجلا: يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوبُ وجمع الحلوب والحلوبة الحلائب. وضربوا المثل بالسقبان بين الحلائب أي بين النوق التي تحلب لأنها تقبض وتردد وتدفع وتشدد فينالها الهوان والصغار. أذل من فراشٍ. الفراش بفتح الفاء وتقدم في حرف الخاء. أذل من فقع بقرقرةٍ. الفقع بفتح فسكون الكمأة البضاء الرخوة وتكسر الفاء. وجمع الكل فقعة كعنبة قاله الجوهري. والقرقرة والقرقر: الأرض المطمئنة اللينة فيقال للذليل أذل من فقع بقرقرة وهو فقع بقرقرلأنه لا يتمنع على من يجتنبه أو

ذهبوا أيادي سبأ.

لأنه يوطأ بارجل الناس والبهائم ويمتهن. وينسب للنابغة بهجو النعمان بن المنذر: حدثوني بني الشقيقة ما ... يمنع فقعاً بقرقر أن يزولا؟ وقال بعض العرب لقوم: ما أنتم إلى ريف فتأكلوه، ولا إلى فلاة فتعصموه ولا إلى وزر فينجيكم! فأنتم نهزة لمن رامكم ولعقة لمن قصدكم وغرض لمن رماكم كالفقعة الشرباخ يشدخها الواطئ ويذريها السافي. الشراخ الفاسدة المسترخية. ذهبوا أيادي سبأ. الذهاب معروف يقال: ذهب بالفتح يذهب ذهابا والأيادي جمع أيد والأيدي جمع يد وهو بمعنى الجارحة وبمعنى النعمة وبمعنى الطريق. وسبأ قيل أبو قبائل اليمن وهو لقب وأسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب وسمي سبأ قيل لأنه أول من سبى السبي. وقيل سبأ اسم أمهم وتسمى البلدة سبأ باسم سكانها وكانت أخصب بلاد الله كما الله تعالى:) جنتانِ عن يمينٍ وشمال (. قيل: وكانت مسافة شهر في شهر للراكب المجد يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل، مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاني ملك إلاّ قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل مملكته وشاورهم فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. ويقال بانيه لقمان بن عاد ووقع في شعر الأعشى أنَّ حميرا هو بناه حيث قال: رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤها لم يرم فلما كفرو نعم الله تعالى ورأوا ملكهم لا يبيده شيء وعبدوا الشمس سلط الله على سدهم فأرة فخرقته وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق وأباد خضراءهم كما قال في القرآن. فحكي أنه لمّا انتهى الملك إلى عمرو بن عامر المعروف بمزيقياء وسمي بذلك

لأنه كان يلبس حلة حتى إذا أمسى مزقها أنفة من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره أو لأنه مزق الأزد في البلاد. وكان أخوه عمران كاهنا فأتته كاهنة وأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته فقال لها: وما آية ذلك: فقالت: إذا رأيت جرذا يكثر بيده الحفر ويقلب برجليه الصخر فاعلم أنه قد اقترب الأمر. قال: وما الأمر؟ قالت: وعد من الله ينزل فيغيرك يا عمرو! ثم إنَّ عمرا يوما نظر في السد فرأى جرذا يقلب صخرة ما يقلبها خمسون رجلا. فرجع وهو يقول: أبصرت أمرا هاج لي برح السقم ... من جرذ كفحل خنزير أجم له مخاليب وأنياب قضم فأجمع على الخروج منها. واحتال في بيع ماله وإنَّ لا ينكر الناس عليه. فقال لابنه: إني صانع طعاما وداع إليه أهل مأرب، فأردد على كلامي إذا تكلمت! ففعل ورد عليه ابنه أقبح الرد، فتغاضب عمرو وصاح: واذلاه! يجيبني صبي! وحلف ألا يقيم ببلد فيه ضيم فيه. فجعل يبيع أمواله وقومه يقولون بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو قبل إنَّ يرضى! واشتروا منه. فلما باع واجتمعت له أمواله أخبرهم خبر السد والسيل، وأجمعوا على الجلاء، فقال لهم عمران: إني أصف لكم بلدانا، فاختاروا أيّها شئتم، من كان منكم ذا غنم بعيد، وجمل غير شرود، فليلحق بالشرود، فليلحق بالشعب من كؤود! فلحق به همدان. ثم قال: ومن كان منكم ذا سياسة وصبر، على أزمات الدهر، فليلحق ببطن مر! فلحق به خزاعة. قال: ومن منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل! فنزلها الاوس والخزرج. قال: ومن كان يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، فليلحق ببصرى وسدير! وهي أرض الشام. فلحق بها غسان. قال: ومن كان منكم يريد الثياب والرقاق والخيل العتاق، والذهب والأوراق، فليلحق بالعراق فلق بها ملك بن فهم الأزدي. وتخلف مالك اليماني في قومه حتى أخرجهم السيل منها، فنزلوا نجران وانتسبوا في مذحج، ودخلت جماعة منهم على معد، فأخرجتهم معد بعد حروب، ونزلوا بجبل السراة، على تخوم الشام. فلما

ذهبوا تحت كوكب.

تفرقت قبائل سبأ هذا التفرق، وتمزقوا هذا التمزق، ضربت العرب بهم المثل فقالوا: ذهب القوم أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي تفرقوا في كل طريق ووجهة، إما على أنَّ اليد بمعنى الجارحة، لأنهم كانوا، إذ كانوا مجتمعين، يدا واحدة. فلما تفرقوا صارت اليد أيادي كثيرة؛ أو بمعنى النعمة، أي تفرقوا تفرق نعم سبأ، أو كائنين كنعم أهل سبأ، أو بمعنى الطريق، أي تفرقوا في كل طريق أهل سبا، حيث تمزقوا، وأيدي سبأ جعل اسما مركبا كمعدي كرب وسكنت الياء تخفيفا وإنَّ انتصب. ذهبوا تحت كوكبٍ. هذا كالذي قبله في المعنى أيضاً، وهو التفرق، وألفاظه ظاهرة. ذهب دمه أدراج الرياح. الذهاب مر، وكذلك الدم، والأدراج جمع درج بفتحتين وهو الطريق تقول رجعت أدراجي أي في الطريق الذي جئت فيه. والرياح جمع ريح، قلبت الواو ياء في المفرد والجمع لانكسار ما قبلها. وهذا المثل يقال في بطلان الشيء. فإذا قيل: ذهب دمه أدراج الرياح، أريد إنّه ذهب هدراً. والمعنى إنّه مسالك الرياح الذاهبة أو كان في مسالكها فنسفته وأذهبته. وكذا في غير الدم. ذهبت هيف لأديانها. الذهاب مر، والهيف بالفتح ريح حارة تهب من نحو اليمن نكباء بين الجنوب والدبورز قال ذو الرمة: هيف اليمانية في مرها نكب وهي تيبس ما مرت به وتعطش الحيوان. الهيف أيضاً شدة العطش، والأول المراد والأديان جمع دين بكسر الدال وله معان كثيرة: منها العادة، وهو المراد هنا. قال امرؤ القيس: كدينك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل

الذود إلى الذود ابل.

أي كعادتك. ويروي كدابك، بمعناه. وقال الآخر: تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا وديني؟ ومعنى ذهبت هيف لأديانها: ذهبت لعدتها، لأنها تجفف كل شيء. فيضرب عند تفرق القوم ليس لشأنه، أو لمن يلزم عادته. وقال أبو عبيد: يضرب في نظر الرجل لنفسه وإقباله على شهوته وهواه. وقيل إنّه يضرب الشيء إذا انقضى. الذود إلى الذود ابل. الذود بفتح الذال وسكون الواو بعدها دال مهملة، من الإبل ما بين الثلاث والعشر، مؤنث ولا واحد له، والجمع أذواد. قال النابغة: لعمرك ما خشيت على يزيدٍ ... من الفخر المضلل ما أتاني كأنَّ التاج معصوبا عليه ... لأذواد أصبن بذي أبان وقال امرؤ القيس: أرى المرء ذا الأذواد محرضا ... كإحراض بكر في الديار مريض والإبل معروف، لا واحد له، وقد تسكن الباء. قال: ألبان إبل تعله بن مسافرٍ ... ما دام يملكها علي حرام والجمع آبال. والمعنى أنَّ الذود وهي القليلة العدد مجموعة إلى ذود أخرى تكون إبلا. أو إلى بمعنى مع، أي الذود مع الذود. يضرب عند اجتماع القليل إلى القليل، وإنّه يكون كثيرا. وتقدم مثله. ذلك الفحل لا يقدح انفه. ذلك: إشارة إلى البعيد، شخصا كان أو مكانا. وأصله ذوي، أو ذيي، وعلى الخلاف المعروف في علم النحو؛ والفحل من الإبل معروف، ويكون في غيرها، والجمع فحول وفحال وفحالة. قال: فحالة تطرد عن شوالها

والقدع بالدال المهملة: الكف والضرب. تقول: قدعت الفرس إذا كبحته؛ وقدعتالفحل إذا ضربت أنفه بالرمح حتى يرجع وذلك إذا كان غير كريم فيريد أن يطرق الناقة الكريمة فيضرب حتى يرجع. قال الشماخ: إذا ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوعِ يصف حمارا يستاف أتنا أي يشمهن لأنَّ الاستياف والسوف هو الشم كما قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا ومن ذلك سميت المسافة من الأرض لأنَّ الدليل يشم التراب ليعرف أين هو. وقوله: وكان الرمح أي المكان الذي يصيبه الرمح من أنف القدوع. والقدوع: المقدوع وهذا البناء يكون بمعنى مفعول أو بمعنى فاعل أيضاً. فمن الأول قولهم: دابة ركوب وناقة حلوب وحوار رغوث وفحل قدوع أي مركوبة ومحلوبة ومرغث ومقدوع؛ ومن الثاني قولهم: قدوع وركوب للدوابو ناقة رغوث أي قادع وراكب ومرغث. وقال الحجاج في خطبة له: أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنّها أسأل شيء إذا أعطيت وأمنع شيء إذا سئلت. فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماما فقادها إلى طاعة الله وعطفها بزمامها عن معصية الله! فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه. وهذا المثل قاله ورقة بن نوفل بن خويلد لمّا قيل له إنَّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خطب خديجة بنت خويلد فقال ورقة: ذلك الفحل لا يقدع أنفه أي كريم يروم كريمة فلا سبيل إلى التعرض له دونها وصده عنها وهو أشرف أكفائها. ويقال إنّه تمثل به فقط. ويقال: تمثل به أبو سفيان ن حرب لمّا خطب النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان. فقيل له إنَّ محمدا تزوج ابنتك وأبو سفيان يومئذ مشرك فقال ذلك؛ غير أنَّ اللفظ المروي من كلام أبي سفيان هو: الفحل لا يقدع أنفه والله أعلم.

ذهب دمه خضرا مضرا.

ومن هذا الباب قولهم: ذهب دمه خضراً مضراً. بكسرها وسكون الضاد المعجمة أي هدراً. وقولهم: لأذهبن فإما هلك وإما ملكٌ. ومعناه قول امرئ القيس: بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا! وقولك: أذهل من صبٍّ. والذهول: الغفلة والنسيان والصب: العاشق ذو الصبابة وهو لمّا به يغلب عليه ذلك. ومما يجري على ألسنة القراء تمثلا قول الله تعالى إخبارا عن نبيه موسى عليه السلام: ذلك ما كنا نبغِ. وينبغي أن يكون المتمثل بشيء نحو هذا أن يلاحظ فيه ما يلاحظ عند الاقتباس ليكون أحفظ للأدب وأبعد عن الإسفاف والتبذل وترك كله أحوط وأسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. ويحكى أنه لمّا نصب معاوية رضي الله عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء. فجعل الناس يسلمون على معاوية ويميلون إلى يزيد حتى جاء رجل ففعل

ذلك الظن بك يا أبا إسحاق!

ذلك. ثم رجع إلى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين اعلم أنك لو لم تول هذا أمر المسلمين لأضعتها. وكان الأحنف بن قيس جالسا فقال له معاوية: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ وهي كنية الأحنف. فقال الأحنف: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيرا! وأمر له بألوف. فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له: يا أبا بحر إني لأعلم إنَّ شر من خلق الله هذا وابنه ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال. فلسنا نطمع في استرجاعها إلاّ بما سمعت! فقال له الأحنف: يا هذا أمسك! فإنَّ المجهين خليق أن لا يكون عند الله وجسها. وقول عمر رضي الله عنه: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! وهو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة رضي الله عنه لمّا شكاه أهل الكوفة فقال له عمر رضي الله عنه: إنهم شكوك في كل شيء حتى الصلاة! فقال: إني أفعل ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أركد في الأولين وأحذف في الأخيرين. فقال عمر: ذلك الظن بك! وأما الشعر، فقال ضابئ: لكل جديد لذة غير إنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ! وقال الآخر: طلبت الجميع ففات الجميع ... فمن طول حرصك لا ذا وذا! غيره: ما زال جيش الحب يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه! وقال الصابئ: والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذا ومنه قول أبن النبيه: خذ من زمانك ما أعطاك مغتبطا ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره فالعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره! ويقال إنّه لمّا سمع أبن التعاويذي قول الصابئ، قال:

من شبه العمر كأسا يقر ... قذاه ويرسب في أسفله فإني رأيت القذى طافيا ... على صفحة الكأس من أوله! ومن ذلك قول الفاضل: إليك بعد انقضاء اللهو واللعب ... عني فلم أربي ما يقتضي أربي فالعمر كالكأس والأيام تمزجه ... والشيب فيه موضع الحبب أقول إذ فاض فيض فضته: ... يا وحشة لشباب ذاهب الذهبِ! وقول الخالدي: لقد فرحت بما عاينت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر وربما الأعمى بحالته ... لأنه قد نجا من طيرة العور ولست أبكي على شيء منيت به ... يبكي على الشيب من يأسى على العمر وما بكيت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدر؟ وقال الشيخ أبن فارض، رحمه الله: أهوى رشا هواه للروح غذا ... ما أحسن فعله ولو كان أذى لم أنس وقد قلت له الوصل متى ... مولاي إذا مت أسى قال إذا وقال أبو نواس في مجونه، عفا الله عنا وعنه! وقائل: هل تريد الحج قلت له: ... نعم إذا فنيت لذات بغداد وكيف بالحج لي ما دمت منغمسا ... في بيت قوادةٍ أو بيت نباذ؟ ومثله قول الآخر: ألم ترني وبشار حججنا ... وكان الحج من خير التجارة؟ خرجنا طالبي سفر بعيد ... فمال بنا الطريق إلى زرارة فآب الناس قد حجوا وبروا ... وأبنا موقرين من الخسارة! ونحوه ما يحكى أنَّ موسى بن داود الهاشمي عزم على الحج، فقال لأبي دلامة: احجج معي ولك عشرة آلاف درهم! فقال له: هاتها! فدفعها إليه فقبضها وهرب إلى

السواد، فجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر. فطلبه موسى فلم يجده وخشي فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجا من قرية إلى أخرى سكران. فأمر به فأخذوه وقيد وطرح في محمل بين يديه. فلما سار غير بعيد اقبل على موسى وقال: يا أيها الناس قولوا أجمعون معا: ... صلى الإله على موسى بن داود كأنَّ ديباجتي خديه من ذهبٍ ... إذا بذلك في أثوابه السود إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أنَّ أكلف حجا يا أبن داود خبرت أنَّ طريق الحج معطشة ... من الشراب وما بتصريد والله ما في من أجر فتطلبه ... ولا الثناء على ديني بمحمود! فقال موسى: ألقوه على المحمل، لعنه الله! فألقي به إلى قصفة بالسواد حتى أنفق المال. وقد قلت أنا قصيدة أكثرها يتعلق بالباب، فأثبت هنا، وهي: هام الفؤاد بسعدي بعدما نزحت ... وأصبح الصبر عنها وهو مجذوذ والعين منها سوابق الدموع على ... ميدان خد رديات مهابيذ وأصبحت في الحشى من بينها حرق ... يصلى بها لن جراحات مغاذيذ كأنما القلب إذ بانت ركائبها ... من الجوى صلب في النار محنوذ وكنت قدما بها في روضة أنف ... من الوداد ثراها الدهر مرذوذ أيام ورد المنى عذب مشاربه ... وغصن الود مهصور ومجبوذ وإذ غفت مقل الأحداث وابتسمت ... سن المنى ولنا في الدهر تلميد

فلم يدم والغواني عهد وصلتها ... آل: من أغتر منه فهو موقوذ لو إنّها أحكمت حبل الوصال مسا ... لم يأته الصبح إلاّ وهو مهذوذ وما يمنين من جدوى ومن صلةٍ ... خضراء في الحزن مرعاها معاويذ إنَّ الهوى لجة سهل مشارعها ... لكن يعز بها ناجٍ ومنقوذ وما الفتى غير خلو عن عمايته ... ذو همة ذيله للجد مشموذ عاط كؤوس رشاد لا كؤوس الهوى ... فالغي مطرح والرشاد مأخوذ سام إلى كل ما يعلى مزاوله ... كما سما عن حضيض الأرض خنذيذ فالعون مورده مر مذاقته ... وإنَّ حلا وأجاج العز ملذوذ وما المنى بالهوى يجرين بل بمنى ... ما أحد كل ما يرجوه مفلوذ والدهر مخلوجة أحداثه تركت ... فكر اللبيب لديها وهو مبذوذ دجى حوالك لا يجلو مغالقها ... إلاّ فطين ذكي القلب خنذيذ وللمفكر آيات تبصره ... لا يقطع السيف إلاّ وهو مشحوذ والناس في الحب أخياف وأكثرهم ... وإنَّ بدا منهم ود ملاويذ بور مناكيس لا يزكوا معاشرهم ... جريب يعادون عرا كلما حوذوا فلا منوح نوالا إنَّ هم سئلوا ... في الجهل عندهم التحقيق منبوذ سبحان إنَّ ليس يحز وفر الغنى حصير ... وباقل عندهم إنَّ جد خنذيذ

فلا تثق إنَّ هم ذموا وإنَّ مدحوا: ... فهم عن الرشد عمي أو مماليذ والصدق أشرف خيم أنت لابسه ... وخير ما يحتلي الصيد المشاويذ وخير ذخر الفتى دهر قناعته ... فذاك أوثق ما عض النواجيذ وعفة وندى يحمي مسارحه ... إنَّ تتحاماه ألسن ملاجيذ والمرء يمضي ويبقي بعده نبأ ... مدح يخلد أو نيل منافيذ والموت حتم لديه الكل مرتهن ... إذا أتى الحتم لم تجد التعاويذ وقلت أيضاً: تحل بسبط الخلق واحتمل الأذى ... من الناس إنَّ عاشرتهم ودع البذا وكن مغضيا عما يريبك باذلاً ... نداك ولا تغلل يديك فتنبذا فإنَّ بني الدنيا بنو الحاج ما أجتنوا ... من العود إلاّ مثمرا غصنه غذا وإني رأيت الحوض يغشى إذا صفا ... ويلقى إذا كان المشوب أو الوذا وللنحل فضلا دون كل ذبابةٍ ... وللمسك والكافور عم كل ذي شذا على أنَّ هذا الجيل آساد بيشة ... ملاذك منهم للحسام مشحذا متى تعتلق أظفارهم كاهل أمرئ ... أصاروه رهنا للبلايا وللأذا وإنَّ يعلقوا قلبا أعاروه حيرة ... وإنَّ يركبوا ظهرا تفتا أو ارتذا فمن يستطع عنهم نوى فليجافهم ... بعاد ومن ألفى معاذاً تعوذا فإنَّ البحار الخضر تحمى ظهورها ... زخورا وتعلوها مع الركدة الشذا وتعدوا على الشاء الذياب بلا حمى ... وأكبادها من مربض الليث تهتذا وما ذل إلاّ الفقع يوطأ بقرقر ... وإلاّ حمار الحي إنَّ رمته خذا

وذو الهمة العلياء من ليس جاعلا ... مقادته للجاهل النذل مأخذا ولا تارك الأقذار تعلوا ذيولته ... إليه ولا في عرضه الناس لجذا ولنكتف بهذا المقدار. من هذا المضمار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل!

باب الراء

باب الراء أراك بشرا، ما أحار مشفر. الرؤية: الإبصار. تقول: رأيت الشيء أراه. وأصله أرءاه، فألقيت حركة الهمزة على الراء وحذفت الهمزة. والعرب يلتزمون النقل في هذه الكلمة إلاّ تيم اللات. قال شاعرهم: أري عيني ما لم ترءياه: ... كلانا عالم بالترهات والبشر بفتحتين: الإنسان، وظاهر الجلد كالبشرة، وهو المراد. والحور. الرجوع، وأحارة: رده، وتقول: طحنت فمما أحارت شيئاً، أي فما ردت شيئاً من الدقيق. والمشفر بوزن منبر، ويفتح للبعير بمنزلة الشفة للإنسان. ومعنى المثل أنَّ رؤية الظاهر تغنيك عن رؤية الباطن. وأصله في البعير، وانك إذا رأيت بشرته وجسمه دلك ما به من سمن أو هزال، على ما احار مشفره، أي على كيفية أكله. أريها السهى وتريني القمر! الرؤية مرث، والسهى بالضم والقصر نجم خفي في بنات نعش الصغرى. والقمر معروف وجمع بينه وبين السهى لمّا بين وصفيهما من المقابلة بالتضاد، لأنَّ القمر غاية الظهور، والسهى في غاية الخفاء. فضرب بهما المثل في الأمر الجلي والخفي. وهذا المثل يصح لك إنَّ تضربه من ترمز له وتشير وهو يفصح، أو في من تنحو به منحى اللطائف والدقائق وهو يتبع الظواهر، أو من تأتيه بالأمر المستغرب العزيز ويأتيك بالأمر المبتذل المطروق، ونحو ذلك، والله اعلم!

رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.

رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. الرأي: الاعتقاد، والجمع آراء ورئى. والشيخ والغلام معروفان. وهذا الكلام يحكي عن علي، كرم الله وجهه، وهو تفضيل للسن، في ملاقاة الخطوب، على الشباب. وللعرب في هذا مذهبان: تارة يمتدحون بالسن والتجريب، وتارة بالشباب والقوة. فمن الأول كلام علي المذكور، وقول الشاعر وهو زهير بن مسعود: فلم أرقه إنَّ ينج منها، وإنَّ يمت ... فطعنة لاغس ولا بمغمر الغس: اللئيم والمغمر: الذي لا تجريب له ولا سن. وقول إلي الطيب: سأطلب حقي بالقنا ومشائخٍ ... كأنهم من طول ما التمثوا مرد ومن ذلك قول حارثة بن سراقة الكندي، حين منعوه الزكاة أيام الردة: يمنعها شيخ بخديه شيب، لا يحذر الريب. ومن الثاني قول عامر بن الطفيل يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأمنعنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا! وذلك لحالتين مختلفتين: فأنهم إذا أرادوا الحزم وحسن الذي رأي والتدبير والتأني والثبات إذا اشتدت الخطوب، فالشيوخ أولى؛ وإذا أرادوا الجلادة والقوة، فالشباب أولى، مع أنَّ كلا من الأمرين قد يوجد في كل من الطرفين: فانه كما لا خير في رأي الشباب الغمر الجاهل، لا خير في رأي الشيخ الخرف. ومن ثم قيل في الحكمة: إياك ومشاورة شاب معجب برأيه، أو كبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه! وأما قول قطري بن الفجاءة: ولقد أراني للرمح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أحناء سرجي أو عنان لجامي ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام فقد فسر بمعنين: أحدهما وهو الظاهر من العبارة إنّه يقول: انصرفت وقد أصبت من أعدائي ما أحب من القتل والفتك والكناية، ولم أصب أنا منهم، بل انصرفت سالما وأنا جذع البصيرة، أي قويها، كامل المريرة، لم يضعف عزمي ولا هنت بنيتي بما أصاب

جسمي من الجراحة، وأنا أيضاً قارح الأقداح أي كامله شديده لأنَّ القارح من الخيل الذي تناهت سنه وكملت قوته. والثاني هي الخفي أنه يقول: أصبت من الأعداء وانصرفت عنهم وأنا لم أصب أي لم أوجد جذع البصيرة قارح الأقدام بل وجدت قارح البصيرة جذع الأقدام؛ لأنَّ بصيرة القارح المجرب هي التي لا تضطرب ولا تستحيل وبصيرة الجذع أي الصغير لا تثبت ولا تدوم وإقدام الجذع قوي ماض لأنّه لا ينثني ولا يردعه شيء. واستظهار هذا التفسير الثاني الذي امتدح فيه بالسن على الأول الجلي إنّه يستحيل أن يقول: انصرفت ولم أصب من أعدائي بشيء. وكيف وهو يقول قبله: حتى خصبت بما تحذر من دمي: أحناء سرجي؟ فهذا اعتراف بأنه أصيب بالجرح. فكيف ينقض كلاوه؟ وأجيب من قبل أهل المذهب الأول بأنه أراد بقوله: لم اصب لم أقتل. يقال: فلان أصيب أي قتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمرئه: أميركم زيد: فإنَّ أصيب فجعفر فإنَّ أصيب فعبد الله بن رواحة. فقتلوا كلهم. وقال أصحاب الرأي الثاني: كيف يحسن منه أن يقول: أقتل وهو ينشدهم الشعر والمصيبة تطلق على أعم من القتل؟ قال تعالى:) الذين أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّ إليه راجعون (. قلت: وهذا الكلام ضعيف إذ لا مانع من أن يقول افتخارا: قتلتهم وأهلكتهم ولم يقتلوني. وأما عموم المصيبة فغير مانع من التخصيص بقرينة المقام وسياق الكلام مع أن استنكافه من يكون إقدامه قارح ورضاه بإقدام الجذع مخول فإنَّ العرب ما زالت تفضل القارح على الجذع كما قال زهير: يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء ولذلك قيل في المثل: مذكية تقاس بالجذاع. وقيل أيضاً: جري المذكيات غلابٌ، ة قد تقدم في هذا الكتاب معاً. وقول زهير بن مسعود السابق: فلم أرقه إن ينج منها يريد الطعنة التي طعن.

ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل

وقبل البيت: عشية غادرت الجليس كأنما ... على النحر منه لون بردٍ محبرِ جمعت له كفي بلدنٍ يزينه ... سنان كمصباح الدجى المستعرِ فلم أرقه " البيت " وإنّما قال هذا لأنَّ العرب كانت تزعم أنَّ المطعون يبرأ إذا نفث عليه الطاعن ورقاه. قال عنترة: فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقدُ وقال عمرو بن ثعلب الشيباني: أتبعته طعنة مرةً ... يسيل على النحر منها صبيبُ فإن ينجُ منها فلم أرقه ... وإن قتلته فجرحٌ رعيبُ ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل؟ الفتيان جمع فتى. ودخل الرجل بالفتح والكسر: نيته ومذهبه من جميع أمره. وكذا دخيله ودخلله ودخيلاؤه. ومعنى المثل أنك قد ترى الرجال حسان الظواهر والزي ولا تعرف حقيقة أمرهم وحال باطنهم. يضرب لمن له منظر حسن ولا خير عنده. قيل: وأوّل من نطق به غنمة أو عثمة بنت مطرود البجلية وكانت امرأة عاقلة ذات رأي مسموع في قومها. وكانت لها أخت يقال لها خود ذات جمال وكمال. فقدم عليهم ذات مرة خمسة أخوة من غامد بطن من أزد يخطبون أختها خودا وهم في زي مونق لابسو الحلل اليمانية على النجائب المهرية والرحال العلافية مكسوة بالثياب العبقرية. فأنزلهم أبوها وأكرمهم. ثم غدوا عليه خاطبين معهم الشعثاء كاهنة لهم. فقال لهم مطرود: أقيموا حتى نرى رأينا. ثم دخل على بنته فقال: ما ترين؟ فقالت: أنكحني على قدري ولا تشطط في وهري: فإن تخط أحلامهم لا تخط أحسابهم. لعلي أصيب ولدا وأكثر عددا! فخرج إليهم وقال لهم: اخبروني عن أفضلكم؟ فقالت له الشعثاء: اسمع أخبرك عنهم! هم أخوة كلهم أسوة. أما الكبير فعمرو بحر غمر،

أرى القدر، سابق الحذر

سيد صقر يقصر دونه الفخر؛ وأما الذي يليه فعاصم صلد صارم أبي حازم جيشه غانم وجاره سالم؛ وأما الذي يليه فوثاب ليث غاب سريع الجواب عتيد الصواب كريم النصاب؛ وأما الذي يليه فمدرك بذول لمّا يملك عزوف عما يترك يغني ويهلك؛ وأما الذي يليه فجندل مقل لمّا يحمل يعطي ويبذل لا يخيم ولا ينكل. فأبلغها أباها ذلك فشاورت أختها غنمة فيهم فقالت: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل؟ اسمعي كلمة ناصحة: إنَّ شر الغريبة يعلن وخيرها يدفن فأنكحي في القرباء ولا تغررك أجسام الغرباء! فلم تقبل منها وأرسلت إلى أبيها: أنكحني مدركا. فأنكحها منه على مائة بعير برعاتها. فحملها مدرك فلم يلبث معها إلاّ قليلا حتى أغار على غامد فوارس من بني كنانة فاقتتلوا ساعة ثم انكشف زوجها وقومه فسباها بنو مالك أبن كنانة فيمن سبوا وجعلت تبكي. فقيل لها: وما يبكيك؟ أعلى فراق زوجك؟ قالت: قبحه الله! قالوا: لقد كان جميلا. قالت: قبح الله جماله لا منعة معه! إنّما أبكي على عصياني أختي. وأخبرتهم خبرها. فقال رجل منهم يقال له أبو نواي وكان أسود أفوه مضطرب الخلق: أترضين بي على أن أمنعك من ذؤبان العرب؟ فقالت لأصحابه: أنَّ كذلك هو؟ قالوا: نعم! إنه مع ما ترين ليمنع الخليلة وينقب القبيلة. قالت: هذا أجمل جمالا وأكمل كمالا قد رضيت إياه. وقال الشاعر: ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخلُ؟ وكلٌ في الهوى ليثٌ ... وما في نلبه فسلُ وليس الشأن في الوصل ... ولكن أن يرى الفضلُ! وقالت الأخرى: وقالت قولةً أخني ... وحجوا لها عقلُ ترى الفتيان كالنخل ... وما يدرك ما الدخل؟ أرى القدر، سابق الحذر هذا المثل ظاهر المعنى وهو من كلام جذيمة الأبرش وسبق في شرح قصته مع الزباء.

أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.

أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. يضرب عند التردد في الأمر. وأصله أنَّ الرجل مثلا إذا قام ليذهب إلى جهة ثم يبدو له ويتحير فتارة يريد الذهاب فيقدم وتارة لا يريد فيؤخر. وهذا ظاهر في المقصود لكن قولهم: يقدم رجلاً ويؤخر أخرى يحتمل باعتبار دلالة عبارته في أصلها أربعة أمور: إحداها أن يكون المعنى أنه يقف في مكانه ويحرك إحدى رجليه: فتارة يقدمها لأرادة الذهاب وتارة يؤخرها رجوعا عن الذهاب حتى توازي أختها مكا كانت أولا. وعلى هذا فلفظ الأخرى فيه تجوز بأن يجعل الشخص الواحد متعددا حالتيه ولفظ التأخير أيضاً لم يصح فيه إلاّ بالنسبة. الثاني أن يكون المعنى أنه يقدم رجلا لأرادة الذهاب ثم يبدو له أن لا يذهب فيبقى واقفا على تلك الحال إحدى رجليه متقدمة والأخرى متأخرة عنها. وعلى هذا ففي لفظ التأخير تجوز إذ معناه إبقاؤها متأخرة نحو: يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا على وجه. الثالث أن يكون المعنى أنه يقدم إحدى رجليه إلى القدام ويؤخر الخرى إلى الوراء. وهذا ظاهر اللفظ ولكن لا وجه له ولا وجود من خارج. الرابع أن يكون المعنى أنه يقدم إحدى رجليه وتبقى الأخرى متأخرة ثم يقدم هذه وتبقى الأخرى وهكذا. وهذا أيضاً ظاهر من اللفظ لكن لا يصح أيضاً هنا لأنّه حالة الماشي لا الوقوف المتردد. فقد علمت أنَّ في العبارة عند تفتيشها تجوزا وخفاء مع وضوح المراد. أراك الكواكب بالنهار. الكواكب: النجوم. وهي لا ترى عادة بالنهار لغلبة ضوء الشمس عليها فضرب المثل برؤيتها نهارا عند اشتداد الأمر وملاقاة ما لم يعتد ويضن أو غلبة الهم والحزن.

لأرينك لمحا باصرا!

وأصل ذلك أنَّ الحرب إذا اشتدت ارتفع النقع وتراكم في الجو وسد الأفق واستحدث الظلام فربما ستر ضوء الشمس إذا كانت في أحد الجانبين فتظهر النجوم من الجانب البعيد عنها. وزعموا أنَّ النجوم ظهرت يوم حليمة فضرب ذلك مثلا. قال طرفة بن العبد: إن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري في الظهر وقال الأعشى: رجعت بما رمت مستحسراً ... ترى للكواكب ظهراً وميضا وللفرزدق: لعمري لقد سار أبن شيبة سيرةً ... أرتك نجوم الليل واضحةً تجري فأصبحت قد صبحت على ظهر خالدٍ ... شآبيب لم يرسلن من سبل القطرِ وهذا المثل باق اليوم في ألسنة العوام يقولون: أراني فلان النجوم في السماء أو النجوم في النهار إذا أراه شدة ومكرا وأناله من المكروه ما لم يعهد به ذكراً. لأرينك لمحاً باصراً! ويقال أيضاً: دون ذلك لمح باصر. يضرب في التهدد والايعاد. واللمح: النظر. فقيل: المعنى نظر مفزع وقيل هو النظر بتحديق شديد. وقيل: المعنى لأرينك نظراً صادقاً! وقال البكري: معنى المثل: لأرينك من أعادي لك أمرا واضحا جليا. وباصر في تأويل عيشة راضية أي مرضية وماء دافق أي مدفوق. وكذلك سر كاتم. انتهى. وهو ظاهر لكن إذا تؤول الباصر فلا بد أن يتناول اللمح أيضاً. وكأنه لذلك فسر بالأمر الجلي الواضح ولا إشكال أنه يبصر. الرأي مع الجماعة. هذا أيضاً من كلام جذيمة في قصته السابقة كما مر وهو ظاهر.

أرى الموت في الغرائر السود.

أرى الموت في الغرائر السود. الغرائر جمع غرارة بكسر الغين وهي الجوالق. والسود جمع سوداء. وهذا الكلام للزباء حين رأت إبل قصير وعمرو موقرة بالرجال في الجوالق. وتقدمت القصة مشروحة فلتراجع! وأطلقت الموت على سببه الفاعلي وهم الرجال القاتلون مجازاً. أرنيها نَمِرَة أُرِكها مَطِرَة. يقال: نمر السحاب بالكسر ينمر كفرح يفرح إذا صار أرقط على لون النمر وقولهم نمرة وصف للسحاب. وقياسه نمراء والمذكر أنمر كحمراء وأحمر كما قالوا للفرس أنمر إذا صار على لون النمر. وبكنهم جاءوا به على فعل نحو قوله تعالى:) فأخرجنا منه خضراً (أي أخضر. والمطر: ماء السحاب؛ ومطرتهم السحاب: أصابتهم بمطر؛ ويوم ممطر ومطر بوزن كتف: ذو مطر. ومعنى المثل: تكفل لي بوجود السحاب الأرقط وأنا أتكفل لك بالمطر حينئذ. يضرب لمّا يتيقن وقوعه إذا ظهرت مخائله ولاحت إمارته. رُبَّ أخٍ لم تلدهُ أمك! رب حرفٌ جار يدل على الكثرة والقلة معا أو على إحداهما فقط أو أكثر أو لا يدل على شيء منهما إلاّ بالقرائن خلاف شهير في النحو لا نطيل بذكره ولا بشواهده، والأخ معروف وفيه لغات معروفة. وأصل المثل أنَّ لقمان بن عاد رأى مع امرأة رجلا يلاعبها وتلاعبهٍ خاليين ومعهما صبي صغير يبكي وهما مقبلان على شأنهما لا يكترثان به. فقال لها: من الرجل؟ قالت: أخي فقال حينئذ: رُبَّ أخٍ لم تلده أمك! تكذيبا لها في دعواها. يقال: إنه أخوك في الصداقة والمودة لا بالقرابة والنسب. وقريب من هذه الحكاية ما حكي عن بعضهم أنه دخل عليه رجل نصراني ومعه

رب أكلة منعت أكلات

فتى وسيم من أهل ملته فقال له: من هذا الفتى؟ فقال: بعض إخواني. فأنشد حينئذ: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبانِ دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يصنع الأخوانِ وقال أيضاً في معنى هذا المثل: رُبَّ بعيدٍ أقرب من قريبِ. وقالوا: القريب من قرب نفعه. وقالوا: القريب من تقرب لا من تنسب. وقال حبيب: ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وصفوا من الأسبابِ فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنسابِ وقال أبن هرمة في نحو هذا: هش إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدامِ فإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحامِ غيره: ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... وإخواني أسوة عندي لخلاني أحبة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني أرواحنا في مكان واحدٍ وغدت ... أجسامنا بعراقٍ أو خراسانِ وقال حبيب أيضاً: أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ وتقدم هذا وما يشبه وسيأتي أيضاً منه إن شاء الله تعالى رُبَّ أكلةٍ منعت أكلاتٍ الأكل معروف؛ والأكلة بالفتح: المرة منه وبالضم: شيء يؤكل وما يجعله الأكل في فيه. والمعنى أنَّ الإنسان ربما أكل شيئاً فأداه إلى ترك الأكل مدة بهيضة وتخمة أو مرض مثلا. قال أبي هرمة:

رب رمية من غير رام.

وربت أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعةٍ أكلات دهرِ وكم من طالبٍ يسعى لشيء ... وفيه هلاكه لو كان يدري! ويضرب في كل من اقتحم شيئا يفوت عليه بسببه ما هو أكثر منه أو أشرف كمن رضي من عرض الدنيا الفاني بما فوت عليه من الآخرة ونعيمها المقيم عياذاً بالله! رُبَّ رميةٍ من غير رامٍ. الرمية فعلة من الرمي. يقال: رمى يرمي رميا ورمية ورمى السهم عن القوي وعلى القوس أيضاً رميا ورمية بالكسر ولا تقل: رميت بالقوس. ورماه مراماة ورماء؛ وارتمى القوم وتراموا. ومعنى المثل أنَّ الغرض قد يصيبه من ليس من أهل الرماية. فيضرب عندما يتفق الشيء لمن ليس من شأنه أن يصدر منه. وقد يحذف رُبَّ فيقال: رمية من غير رامٍ. ويذكر أنَّ المثل لحكيم بن عبد يغوث المنقري وكان من أرمى الناس. فحلف يوما ليعقرن الصيد حتما. فخرج بقوسه فرمى فلم يعقر شيئاً فبات ليله بأسوأ حال وفعل في اليوم الثاني كذلك فلم يعقر شيئاً فلما أصبح قال لقومه: ما أنتم صانعون؟ فإني قاتل اليوم نفسي إن لم أعقر مهاة! فقال له ابنه: يا أبت احملني معك أرفدك! فانطلقا فإذا هما بمهاة فرماها فأخطئها. ثم تعرضت له أخرى فقال له ابنه: يا أبت ناولني القوس! فغضب حكيم وهم أن يعلوه بها. فقال له ابنه: أحمد بحمدك فإنَّ سهمي سهمك! فناوله القوس فرماها الابن فلم يخطئ. فقال عند ذلك حكيم: رُبَّ رمية من غير رامٍ! وإلى هذه القصة أشار بعضهم بقوله: رماها مطعمٌ من غير علمٍ ... بمس القوس لم يخطئ صلاها وكان أبوه قد آلي عليها ... فلم يبرر أليته مهاها ومطعم هو أبن حكيم المذكور. وقال أبن ظفر: هذا مثل عامي وأصله قولهم: مع الخواطئ سهمٌ صائبٌ.

رب ساع لقاعد.

رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ. الساعي: الكاسب سعى يسعى سعياً والقاعد ضده مجازاً من القعود الذي لزوم الأرض. ومعنى المثل أنَّ المرء ربما سعى في جمع المال أو إدراك الحاجة حتى إذا تهيأ ذلك رزقه بعض من لم يسعى فيه دون الساعي. فيضرب في اكتساب المرء ما لغيره من المال ونحوه. وأوّل من قاله النابغة الذبياني وكان وفد على النعمان بن المنذر في وفود العرب ومنهم رجل من عبس يقال له شقيق فمات عنده. فلما حبا الوفود بعث إلى أهل شقيق مثل ما حبا به الوفود فقال النابغة: رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ. وقال في يخاطب النعمان: أبقيت للعبسي فضلا ونعمة ... ومحمدة من باقيات المحامدِ أنى أهله منه حباءٌ ونعمةٌ ... ورُبَّ امرئ يسعى لآخر قاعدِ وقيل: أوّل من قاله معاوية وذلك أنه قال يوماص لابنه يزيد بن معاوية: هل بقى في نفسك. من الدنيا؟ قال: نعم أم خالد! وهي امرأة عبد الله بن عامر بن كريز عامل معاوية على البصرة. فأمر عمرو بن العاصي أن يكتب إليه يشير عليه بالوفادة على أمير المؤمنين معاوية لعله يعمل له في تزويج بنته هند بنت معاوية. فخف لذلك أبن عامر حتى وصل إليه فأزلفه معاوية وقربه ثم غفل عنه. فساء ذلك عبد الله واشتكى إلى عمرو بن العاصي فقال عمرو إنّه كره أن يدخل بنته على ضرة فطلق أم خالد وأقام أياماً. فقال معاوية: إنَّ أهل البصرة تواترت كتبهم يذكرون اضطراباً في البلد! وأمره بالعود إلى عمله ووعده بإنفاذ ما ابتدأه فانصرف أبن عامر. فلما انقضت عدة أم خالد بعث معاوية أبا هريرة إلى المدينة يخطبها على يزيد. فلما دخل المدينة بدأ بالمسجد فصلى وألم بالقبر فسلم ودعا ثم مال إلى حلقة الحسن والحسين فسلم وقعد فسألوه فأخبرهم فقال له الحسن: اذكرني لها! فذهب حتى استأذن على أم خالد وخبرها بما بعث له وبما أوصاه به الحسن. فقالت: بأيهما تشير يا عماه؟ قال: أرددت الأمر إلي؟

رب سامع خبري لم يسمع عذري

قالت: نعم! قال: فأرى إلاّ تؤثري أحدا على من رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فاه ويلثم ثناياه يعني الحسن رضي الله عنه وبلغ الخبر معاوية فقال: رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ واعلمي أم خالد. وكأنه شعر من مجزر الخفيف. ونحوه قول الشاعر: وما الناس إلاّ جامع لمضيعٍ ... وذو تعبٍ يسعى لآخر نائمِ! رُبَّ سامعٍ خبري لم يسمع عذري يضرب في العذر يكون لك ولا يمكنك أن تبديه. وهو ظاهر مادة وصورة. ومثل ذلك في المعنى قول منصور النمري: لعل له عذراً وأنت تلوم: ... وكم من ملومٍ وهو غير مليمِ يقال ألام يليم فهو مليم إذا أتى بما يلام عليه وليم فهو ملوم إذا عتب وعذل. رُبَّ سامعٍ عذري لم يسمع قفوتي. العذر بالكسر العذر كما مر في الهمزة. والقفوة: القذف. يقال: قفاه يقفوه قفواً إذا رماه بفجور. وفي الحديث: لا حدّثني إلاّ في القفو البين قاله في الصحاح. وقفاه أيضاً: رماه بقبيح. والاسم من ذلك كله قفوة بالكسر كما في المثل. يضرب عند اعتذار المرء من شيء لم يعلم منه بعد فيكون ذلك الاعتذار تسميعا بنفسه. ويمكن أن يرد أحد المثلين إلى الآخر فيكون واحداً.

رب شد في الكرز!

رُبَّ شدٍّ في الكرز! الشد بالفتح: العدو وكذا الاشتداد. قال الراجز: هذا أوان الشد ... فاشتدي زيم! والكرز على مثل قفل: خرج الراعي ويسمى الكبش الذي يحمله الراعي علية الكراز. قال الراجز: يا ليت أني وسبيعاً في غنم ... والخروج منها فوق كراز أجم! ولا يكون الكراز فيما يزعمون إلاّ أجم لأنَّ الأقرن يشتغل بالنطاح عن حمله. وذكر ابن علي القالي في النوادر أنَّ الكرز الجوالق والأول هو المعروف. وأصل المثل أنَّ رجلا خرج يركض فرسا فألقت مهراً فأخذه وجعله في كرز بين يديه. فقال له رجل: لم تحمله؟ وما تصنع به؟ فقال: رُبَّ شد في الكرز! أي رُبَّ عدو وسبق واشتداد في هذا المهر الذي في الكرز كما قد كان ذلك في أمه! فذهبت مثلا يضرب في الرجل ونحوه يحتقر عندك وله مخبر تعلم به أنت. وإنّما جعل الشد في الكرز على طريق الكنانة لأنَّ ذا الشد فيه كما قال الأول: إنَّ السماحة والمروءة والندى ... في قبةٍ ضربت على أبن الحشرجِ والآخر: إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرؤ على الطريق الواضحِ رُبَّ صلفٍ تحت الراعدةِ. الصلف: قلة النزل في الطعام وقلة الماء. يقال: سحاب صلف على مثل كتف: كثير الرعد قليل الماء؛ والراعدة: السحاب ذات الرعد. والمعنى أنَّ السحاب ربما رعدت ولم يكن منها خير. يضرب للبخيل مع سعة ذات اليد. وقيل للرجل يكثر الكلام والمدح لنفسه ولا خير عنده. وقيل لمن يتوعد ثم لا يقوم به وهو صالح للكل. وقد اعترض على قائل الأول بان السحاب إذا كثر فيها الماء لم يقل لها صلف.

رب طمع يهدي إلى طبع.

قلت: يعني فلا يشبه بها الرجل الكثير المال لبخله. ويجاب بأن قلة الماء المسمى بالصلف إنّما هو باعتبار النزول إلى الأرض. فصح تشبيه البخيل بذلك وإن مثر ماله باعتبار قلة ما يخرج من يده. وإن أريد بالصلف أن لا يكون ماء في السحابة نفسها أصلا فالمراد حينئذ التشبيه باعتبار ما فيها من أصوات الرعد والبرق فإنه مظنة السقي؛ كما أنَّ كثرة المال مظنة النفع. وضمن هذا المثل أبن الشبل البغدادي ذا يقول: صحة المرء للسقام طريقٌ ... وطريق الفنا هو البقاءُ بالذي نغتذي نموت ونحيى ... أقتل الداء للنفس الدواءُ ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاءُ صلفٌ تحت راعدٍ وسحابٌ ... كرعت منه مومسٌ خرقاءُ راجعٌ جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساءُ ليت شعري حلمٌ تمر به الأيام ... أم ليس تعقل الأشياءُ من فساد يكون في عالم الكون ... فما للنفوس منها اتقاءُ وقليلاً ما تصحب المهجة الجسم ... ففيم الشقا وفيم العناءُ قبح اله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباءُ نحن لولا المجود لم نألم الفقد ... فإجادها علينا بلاءُ وضمنته أنا أيضاً في قصيدة يأتي في هذا الباب فقلت: ولربَّ ذي رعدٍ على صلفٍ ... ومهدرٍ في العنة الحجرِ رُبَّ طمع يهدي إلى طبع. الطمع: الحرص طمع فيه بالكسر طمعا وطماعا وطماعية، والطبع بفتحتين: الدنس والوسخ الشديد والشين والعيب. والمعنى أنَّ الطمع لا يزال بصاحبه حتى يتلطخ بكل ريب ويتلوث بكل عيب. قال: الشاعر:

رب عجلة تهب ريثا.

لا خير في طمع يهدي إلى طبع ... وغفةٌ من قوام العيش تكفيني الغفة بضم الغين المعجمة بعدها فاء: البلغة من العيش. ويقال للفأر أيضاً لأنّه بلغة للسنور. وأما العفة بالعين المهملة المضمومة فهي بقية اللبن في الضرع ومعناه صحيح في البيت أيضاً. وسيأتي ما في ذم الطمع والحرص مستوفي إن شاء الله تعالى. رُبَّ عجلةٍ تهبُ ريثاً. العجلة معروفة. يقال: عجل بالكسر يعجل عجلاً وعجلة فهو عجل بالكسر وعجلان؛ والهبة: العطية. وهب الشيء يهبه بالفتح فيهما هبة. والريث بالمثلثة: البطء. يقال: راث ريثاً. أي رُبَّ عجلة منك تعطيك ريثا وتهب لك بطئاً. والمعنى أنَّ الرجل ربما عجل في أمر ليفعله سريعا فأداه عجله إلى البطء وذلك بسبب تضييع ما ينبغي أن يحافظ عليه فيضطر إلى العودة إليه ثانيا. وعبر بلفظ الهبة مجازا لمّا كان ذلك سببا لذلك. ويقال في المثل: رُبَّ عجلة وهبت ريثا وتهب ريثا بلفظ الماضي والمضارع والمعنى واحد. ورأيت في نسخة عتيقة من نوادر أبي علي القالي: تهب ريثا مضموم الهاء مشدد الباء بضبط القلم على إنّه من الهبوب. وهو يفيد المعنى غير أنَّ الأول أوضح في المقصد وكأنَّ هذا تصحيف والله اعلم. وهذا المثل في ألسنة العوام اليوم موجود معناة يقولون: من عجل أبطأ. رُبَّ قول أشد من صول. القول معروف والصول: القهر والسطوة والاستطالة. صال عليه يصول صولا. والمعنى إنّه رُبَّ كلام يعاب به الإنسان هو أشد عليه من الصولة. وهذا من كلام أكثم بن صيفي.

رب مملول لا يستطيع فراقه.

ويحكى في مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم إنّه لمّا هجاه المشركون قال لحسان رضي الله عنه: اهجهم، فهجاؤك اشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام! ومثله قول الشاعر: القول ينفذ من مالا تنفذ الإبر وقول الآخر: وقد يرجى لجرح السيف برء ... وجرح الدهر ما جرح اللسان وقالوا: اللسان، أجرح جوارح الإنسان. وقال الصاحب: حفظ اللسان، راحة الإنسان، فحفظه حفظ الشكر للإحسان، فآفة الإنسان في اللسان! وقال امرؤ القيس: إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان رب مملول لا يستطيع فراقه. الملل معروف. وهذا من كلام أبي الأسود، وكان دخل في ثوب خلق على بعض أصدقائه. فلما رآه قال له: يا أبا الأسود آن لهذا الثوب أنَّ يبدل؟ فقال أبو الأسود: رب مملولٍ. . الخ. ثم أرسل إليه بعد ذلك أثوابا. فقال أبو الأسود يمدحه: كساك ولم تستكسه فشكرته ... أخ لك يعطيك الجزيل وياصر وإنَّ أحق الناس إنَّ كنت شاكرا ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر الرباح، مع السماح. الرباح والربح واحد. قال الشاعر: رأيت التقى والجود خير تجارةٍ ... رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا والسماح والسماحة: والجود والكرم.

أربع على ظلعك!

والمعنى إنَّ السماح يربح. ويأتي إن شاء الله ما في هذا المعنى. أربع على ظلعك! يقال: ربع يربع إذا وقف وتحبس. ويقال أربع على نفسك، أي ارفق. وفي الحديث: أربعوا على أنفسهم! والظلع بالظاء المشالة في البعير ونحوه: غمزة برجله في مشيته. يقال: ظلع البير بالفتح يظلع. قال أبو ذؤيب يذكر فرسا: يعدوا به نهش المشاش كأنه ... صدع سليم رجعه لا يظلع فهو ظالع والأنثى ظالعة. وقول النابغة الذبياني: أتوعد عبدا لم يخنك أمانة ... وتترك عبدا ظالما وهو ظالع يروى بالمشالة وفسر بالجائر المذنب، من الظالع في البعير، وهو غمز برجله لداءٍ يصيبه، وبالضاد المعجمة، وهو الجائر المائل عن الحق. ومعنى المثل انك ظالع، فأرفق بنفسك في مشيتك لأجل ما بك من الظلع! فيضرب للضعيف، وإنّه ينبغي له أنَّ ينتهي عما لا يطيق. وحكى أبو علي إنّه اجتمع طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير فتفاخر، فقال الملك للحارث: يا حار، ألا تخبرني بالسبب الذي أخرجكم من قومكم حتى لحقتم بالنمر بن عثمان؟ فقال: أخبرك أيّها الملك: خرج هيجان منا يرعيان غنما لهما، فتشاولا بسيفهما، فأصاب صاحبهم عقب صاحبنا، فعاث فيه السيف فنزف فمات. فسألونا أخذ دية صاحبنا دية الهجين، وهي نصف دية الصريح، فأبى قومي، وكان لنا رباء عليهم، فأبينا إلاّ دية الصريح، وأبوا إلاّ دية الهجين.

وكان اسم هجيننا بن زبراء صاحبهم عنقش بن مهيرة، وهي سوداء أيضاً. فتفاقم الأمرين الحيين، فقال رجل منا: حلومكم يا قوم لا تعزبنها ... ولا تقطعوا أرحامكم بالتدابر وأودى إلى الأقوام عقل أبن عمهم ... ولا ترهقونهم سبة في العشائر فإنَّ أبن زبراء الذي فاد لم يكن ... بدون حليف أو أسيد بن جابر فإنَّ لم تعطوا الحق فالسيف بيننا ... وبينكم والسيف أجور جائر فتضافروا علينا حسدا، فأجمع ذوو الحجا منا أن نلحق بطن من الأزد، فلحقنا بالنمر بن عثمان. فوالله ما فت في أعضادنا نأينا عنهم، ولقد أثارنا بصاحبنا وهم رأغمون، فوثب طريف بن العاصي من مجلسه، فجلس بازاء الحارث ثم قال: تالله ما سمعت كاليوم قولا أبعد من الصواب، ولا اقرب من خطل، ولا أجلب لقذع، من قول هذا. والله، أيها الملك، ما قتلوا بهجينهم بذجا، ولا رموا ودجا، ولا أنطوا به عقلا، ولا اجتفروا به خشلا. ولقد أخرجهم الحق عن أصلهم، وأجلاهم عن محلهم، حتى الإزعاج، ولجئوا إلى ضيق الولاج، قلا وذلا! فقال الحارث: أتسمع يا طريف؟ وإني والله ما أخالك كافا غرب لسانك، ولا منهنها شرة نزوانك، حتى أسطو بك سطوة تكف طماحك، وترد جماحك، وتكبت تترعك، وتقمع تسرعك! فقال طريف: مهلا يا حار، لا تعرض لطمحة استناني، وذرب سناني شبابي، وميسم سبابي، فتكون كالأظل الموطوء، والعجب الموجوء! فقال الحارث: إياي تخاطب بهذا القول؟ فوالله لو وطئتك لأسختك، ولو وهطتك لآوهطك، ولو نفحتك لأفدتك! فقال طريف متمثلا: وإنَّ كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها! أما والأصنام المحجوبة، والأنصاب المنصوبة، لئن لم تربع على ظلع وتقف عند قدرك، لأدعن حزنك سهلا، وغمرك ضحلا، وصفاك وحلا! فقال الحارث: أما والله لورمت ذلك لمرغت بالحضيض، وأعصصت بالجريض، وضاقت عليك الرحاب، وتقطعت بك الأسباب، ولألفيت لقنى تهاداه الروامس، بالسهب الطامس

فقال طريف: دون ما ناجتك به نفسك مقارعة أبطال، وحياض أهوال، وحفز إعجال، يمنع معه تطأ من الإمهال! فقال الملك: أيّها عنكما، فما رأيت كاليوم نقال رجلين لم يقصبا ولم يثلبا، ولم يلصوا ولم يقفوا! انتهى. قوله: مقاول، والمقاول: الملوك دون الملك الأعظم؛ وكذا الأقيال والأقوال. وقال امرؤ القيس: وماذا عليه إنَّ ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقوال؟ وتشاولا: تضاربا؛ وعاث السيف: افسد: ونزف: سال دمه حتى ضعف. والهجين من الناس: الذي أبوه عربي وأمه غير عربية؛ والمقرف عكسه؛ والصريح: الخالص الطرفين، والرباء: زيادة العقل: الدية وأرهقه: كلفته، وفاد: مات. قال لبيد: رعى خزرات المكل عشرين حجة ... وعشرين حتى فاد والشيب شامل وفت: أوهى وأضعف، وأثارنا: افتعلنا، من الثأر، والخطل: الخطأ، والقذع: الكلام القبيح، والبذج: الخروف، الفارسي معرب، وأنطوا: أعطوا. قال الأعشى: جياد في الصيف في نعمةٍ ... تصان الجلال وتنطى الشعيرا واجتفؤوا: صرعوا، يقال: جفاه إذا صرعه، والخشل مسكنا ومحركا شجر المقل الواحد خشلة، والقل: القلة والذل: الذلة، والنزوالن: الوثوب: والتترع: التسرع إلى الشر، يقال: تترع تترعا إذا كان سريعا إلى الشر، وطمحة السيل: دفعته، والذرب: الحدة، والأظل: اسفل خف البعير، والعجب: أصل الذئب، وهصته: كسرته؛ وأوهطته: صرعته؛ وتربع: تكف وترفق، كما مر، والظلع: الغمز؛ والضحل: الماء القليل، والضيض: القرار الأسفل، والروامس: الرياح، ترمس، أي تدفن. والحفر: الدفع. وقول الملك: يقصبا، أي يشتما، والقصب: القطع ويلصوا: يقذا، يقال: لصا إليه إذا أنضم إليه لريبة، ولصا المرأة يلصوها: قذفها، ويقفوا: يرميا بالقبيح، قفوته أقفوه: رميته بالقبيح أو قذفته. وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الأحياء إنَّ عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها، فجعل يسألهم، وكلهم عامراص الشعبي، فجعل لا يسأله عن شيء إلاّ وجد عنده فيه علما. ثم أقبل على الحسن البصري، فسأله

ثم قال: هما هذان: هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن. فأمر الحاجب، فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي وقال: يا أبا عمرو، إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم، فأنا احب حفظهم وتعهد ما يصلحهم من النصيحة لهم. وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أخذ عليهم فأقبض طائفة فأضعه في بيت المال ومن نيتي إني رد عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضته على ذلك من النحو، فيكتب إلي أنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنّما أنا رجل مأمور على الطاعة، فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور، والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي: فقلت، أصلح الله الأمير، إنّما السلطان والدي يخطئ ويصيب. قال: فسر بقولي وأعجب له ورأيت البشر في وجهه، قال: فلله الحمد! ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قد سمعت قول الأمير يقول إنَّه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليه ورجل مأمور على الطاعة أبتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لمّا يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق أنَّ تحوطهم بالنصيحة. وإني سمعت عبد الرحمان ب سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استرعي رعية فلم يحفظها بالنصيحة حرم عليه الجنة. وتقول إنّما قبضت من عطاياهم إرادة صلاحهم واستبطالهم وإنَّ يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضتها على ذلك النحوا فيكتب إلي إنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحق أنَّ تطيع ولا طاعة في معصية الله. فاعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله غز وجل، فإنَّ وجدته موافقا لكتاب الله عز وجل فأنفذه! يا أبن هبيرة، واتق الله، فأنه يوشك إنَّ يأتيك رسول من رب العلمين يزيلك عن سريرك، ويخرجك عن سعة قصرك إلى مضيق فبرك، فتدع سلطانك ودينك خلف ظهرك، وتقدم على ربك وتنزل على عملك! يا أبن هبيرة وإنَّ الله

يرتع وسطا ويربض حجرة.

يمنعك من يزيد، وإنَّ يزيد لا يمنعك من الله، وإنَّ أمر الله فوق كل أمر، وإنّه لا طاعة في معصية الله، وإني أحذرك بأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين. فقال أبن هبيرة: أربع على ظلعك أيّها الشيخ عن ذكر أمير المؤمنين! فإنَّ أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحلم وصاحب الفضل؛ وإنّما ولاه الله ولاية هذه الأمة لعلمه به وما يعلم من فضله ونيته. قال الحسن، يا أبن هبيرة، الحساب من ورائك سوطا بسوط، وعصا بعصا، والله بالمرصاد. يا أبن هبيرة انك أنَّ تلقى من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر أخرتك خير من أنَّ تلفى رجلا يغرك ويمنيك! فقام أبن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصلته. قال: إليك عني يا عامر! قال: فخرجت إلى الحسن الطرف والتحف، وكانت له المنزلة، واستخف بنا وجفينا، فكان أهلا لمّا أدى إليه، وكنا أهلا أنَّ يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فما رأيت من العلماء إلاّ مثال الفرس العربي بين المقاريف، وما شهدنا مشهدا إلاّ برز علينا، وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أنَّ أشهد سلطانا بعد هذا المجلس فأجابه! يرتع وسطا ويربض حجرة. الترع معروف، وكذا الوسط. وتقدم ما فيه من الفرق: والرابض بفتحتين ما حول المدينة والجمع أرباض. قال: حتى أقام على أرباض خرشنة ... تشقى به الروم والصلبان والبيع والربض أيضاً مأوى الغنم. قال العجاج يصف ثورا وحشيا: واعتاد أرباضا لها آري والربض أيضاً كان ما يأوي إليه الإنسان من أهل ومسكن ونحوه. قال: جاء الشتاء ولمّا تخذ ربضاً ... يا ويح نفسي من حفر القراميص!

رجع بخفي حنين.

وربضت الشاة بالفتح تربض ربضا وربضة وربوضا، وهو في الشاة كالبروك في الإبل؛ والحجرة بالفتح فسكون: الناحية والجمع حجر وحجرات. وأما الحجرة بالضم فحظيرة الإبل والغرفة. وهذا المثل يضرب في المرء يشاركك عند النعمة والرخاء والفرح، ويجنبك عند البلاء والكربة والاحتياج، تشبيها بالشاة تدخل الوسط عند الأكل، وعند الفراغ تعتزل إلى ناحية. رجع بخفي حنينٍ. الرجوع معروف. والخف بالضم: الذي يلبس، والجمع خفاف؛ والحنين كزبير إسكاف من أهل الحيرة، ساومه أعرابي خفين حتى أحرجه ولم يشترهما. فغضب الأسكاف ورجع بخفيه إلى طريق الأعرابي، فوضع أحد الخفين على الطريق، ثم مر ساعة فوضع الآخر، وكمن فجاء الأعرابي وقف على الخف الأول في الطريق فقال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين! لو كان معه الآخر لأخذتهما. ثم سار حتى وجد الآخر، فندم على أنَّ فرط في الأول، فأناخ راحلته وأخذ هذا وعقل راحلته ورجع إلى الأول ليأخذه، فخرج حنين إلى الراحلة فأخذها وما معها ومضى لوجهه. فجاء الأعرابي بالخفين إلى أهله، فإذا قيل له: بم جئت؟ قال: بخفي حنين، فضربوه مثلا لمن رجع بالخيبة وآب بالخسران. وقيل: حنين هو رجل أدعى إلى أسد بن هاشم بن عبد مناف، فأتى عبد المطلب وعليه خفان أحمران، فقال: يا عم: أنا أبن أسد بن هاشم بن عبد مناف. فقال عبد المطلب: لا، وثياب هاشم! ما أعرف شمائل هاشم فيك، فارجع! فقالوا: رجع حنين بخفيه، فذهب مثلا. وقيل هو لص إنَّ أخذ فصلب. فجاءت أمه نحوه وعليه خفان، فنزعتهما ورجعت فقبل: رجعت بخفي حنين، أي رضيت منه بذلك. رجع بصحيفة الملتمس. الصحيفة بفتح الصاد المهملة: الكتاب والجمع صحائف وصحف، على

غير قياس؛ والملتمس: شاعر معروف، وهو جرير لن عبد المسيح. ولقب بالملتمس لقوله: وذلك أوان العرض طن ذبابه ... زنابيره والأزرق الملتمس وصحيفته: كتاب كتب له عمرو بن هند يذهب إلى عامله بالبحرين ليقتل، وأوهمه أنَّ المكتوب فيها الحباء يأخذه من العامل. فضرب المثل بهذه الصحيفة لمن يستحصب هلاكه وهو يضنه نفعا. وشرح هذه القصة أنَّ طرفة بن العبد الشاعر المشهور البكري الوائلي، هجا عمرو بن هند مضرط الحجارة لمتقدم ذكره قوله: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور من زمرات أسبل قادمها ... وضرتها مركنة درور يشاركنا لها رحلان فيها ... تعلوها الكباش فما تنور لعمرك إنَّ قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الدهر يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم ... تطر المائسات وما نطير فما يومنا فنظل ركبنا ... وقوفا ما نحل وما نسير وما يومهن فيوم سوءٍ ... يطاردهن بالحدب الصقور وتقدم بعض هذه الأبيات، وقوله قسمت الدهر، الخ. . إشارة إلى ما يحكى أنَّ عمرو بن هند كان دأبه أنه يصطاد يوما ويوما يقف الناس ببابه: فإنَّ اشتهى حديث رجل منهم أذن له. فلبث على ذلك دهره. وكان لطرفة أخت تزوجها عبد عمرو، وعبد عمرو هذا كان أقرب الناس إلى عمرو بن هند منزلة. فجاءت أخت طرفة يوما تشكو زوجها هذا، فهجاه طرفة بقوله: يا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما

ولا خير فيه غير أنَّ قيل واجد ... وإنَّ له كشحا إذا قام أهضما وإنَّ نساء الحي يركضن حوله ... يقلن: عسيب من سرارة ملهما له شربتان بالنهار وأربع ... من الليل حتى آض سخدا مورما ويشرب جزيرة يغمر المحض قلبه ... وإنَّ أعطه أترك لقلبي مجثما كأنَّ السلاح فوق شعبة بانة ... ترى نفخا ورد لأسرة أصحما وكان عبد عمرو أجمل أهل زمانه جسما وكشحا، وذلك وصفه بالكشح الأهضم، أي الضامر العسيب: عسيب النخل. وملهم: موضع باليمن ذو نخل، وسرارته أكرم موضع فيه، وكذا سرارة كل واد. والسخد: الورم وقيل السلا. شبه جسده في نعمته ورجرجته بالورم أو السلا المنتفخ؛ والنفخ: انتفاخ البطن، وقوله: ورد الأسرة، أي أسرته مرودة بالطيب والزعفران حتى صار أصحم، وهو الأحمر المائل إلى السواد. وهذا كله من أوصاف النساء، لا الرجال، وهو هجو خبيث. ثم إنَّ عمرو بن هند خرج يوما إلى الصيد ومعه عبد عمرو، فرمى عمرو حماراً فقعره، فقال لعبد عمرو: أنزل فاذبحه! فنزل وعالجه فأعياه الحمار وضحك منه عمرو بن هند وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال: ولا خير فيه. . " البيت ". فيروى إنّه لمّا قال له ذلك، قال عبد عمرو، أبيت اللعن! ما قال لك أشد مما قال لي. قال: وما قال؟ فأنشده الأبيات السابقة. فغضب عمرو وقال: قد بلغ من أمره أن يقول! فأرسل إليه ليكتب له إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى، وكان عامله عليها، ليقتله. فقال بعض جلسائه: إنّه حليف المتلمس، فإنَّ أوقعت بطرفة هجاك المتلمس. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس، فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس معا، فأتياه، وهو بالبقة، قريبا من الحيرة، فكتب إلى عاملة بالبحرين ليقتلهما، وأخفي ذلك عنهما أنَّ ارتياح عمرو لي ولك لأمر مريب، وإنَّ انطلاقي بصحيفة لا أدري ما فيها لغرور فقال طرفة: أنك لمسيء الظن. وما تخشى من صحيفة إنَّ كان فيها الذي وعدناه، وإلاّ رجعنا إليه، فأبى المتلمس، وأبى طرفة أنَّ يجيبه، ففض المتلمس خاتم صحيفته

رجع فلان إلى قرواه.

وقام إلى من أهل الحيرة يستقي فدفعها إليه، فقرأها الغلام فقال: أنت المتلمس؟ قال: نعم! قال: النجاء! النجاء! قد أمر بقتلك. فجاء بالصحيفة حتى قذفها في نهر الحيرة، ثم قال: ألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك أقنوا كل قط مضلل رضيت لمّا بالماء لمّا رأيتها ... يجور بها التيار في كل جدول وقيل انهما مرا في طريقهما ذلك على رجل يتغدى وهو يقضي حاجة الإنسان ويلفي ثوبه. فقال المتلمس: ما رأيت أحمق من هذا. فقال وما رأيت من حمقي؟ إنّما آكل غذائي وأخرج دائي وأقتل أعدائي. وهل الأحمق إلاّ من يحمل حتفه على كتفه؟ أو كلاما نحو هذا. فحينئذ إستراب المتلمس أمر الصحيفة فاستقرأها كما مر، ثم قال لطرفة: تعلم أن في كتابك مثل ما في كتابي؟ فقال طرفة: لئن اجترأ عليك، ما كان ليقدم علي. فلما أعياه طرفة وأبى أن يطيعه، وخرج الملتمس من فوره ذلك إلى الشام هاربا وقال: من مبلغ الشعراء عن إخوانهم ... نبأ فتصدقهم بذلك الأنفس أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس ولقد نصحت له فرد نصيحتي ... وجرت له بعد السعادة أنحس وفي ذلك قيل: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فدفعه إليه، فقال صاحب البحرين: إني رجل في حسن وبيني وبين أهلك إخاء قديم، فأهرب إذا خرجت من عندي، فقد أمرت بقتلك! فإن كتابك إنَّ قرئ لم أجد بدا من قتلك! فأبى وطن إنّه لا يجترئ على قتله. فحبسه حتى قتله. وفيه يقول طرفة، يخاطب العامل: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي آيا منذر أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض! رجع فلان إلى قرواه. وروي: القروي بألف مقصورة. يقال: رجع فلان على قرواه، أي رجع إلى خلق

رزمة ولا درة فيها.

كان يعتاده. يضرب في عادة السوء يتركها صاحبها ثم يرجع إليها. والمعروف في اللغة: القرواء بالمد وهو العادة. ويروى هذا حديثا: لا ترجع هذه الأمة على قروائها أي على أمرها الأول والله أعلم. رزمةٌ ولا درة فيها. الرزمة بفتحتين صوت الناقة عندما ترأم ولدها تخرجه من حلقها ولا تفتح به فاها؛ والدرة فعلة من درت الناقة باللبن تدر. يضرب هذا المثل لمن يعد ولا يفي كالناقة تروم وتحن ولا تدر ولا خير في ذلك ورزمة خبر مبتدأ يقدر بحسب المقام. الرشف أنقع. الرشف: المص. يقال: رشف الماء يرشفه كنصر ينصر ورشف يرشف كسمع يسمع رشفا وارتشافه وترشه إذا مصه ونقع الرجل بالشراب ينقع بالفتح فيها: استقى به وأنقعه الماء: أرواه. والمعنى أنَّ امتصاص الماء وترشفه شيئا فشيئا هو أنقع للنفس وأقطع للعطش ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمص وقال إنّه أهنى وامرئ ونهى عن العب. فيضرب في ترك العجلة في الأمر. ارضَ من المركب بالتعليق! الرضى ضد السخط رضي بالكسر يرضى. والمركب هنا إما أن يراد به الركوب ومن للبدل كقوله: لو أنَّ لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركباناً والمعنى: ارضَ بدل ركوبك بأن تعلق أمتعتك. وأما أن يراد به المركوب ومن

مرعى ولا أكولة.

على بابها أي: ارضَ من هذا المركوب بان تعلق أمتعتك عليك أو بان تتعلق به في عقبتك ونوبتك. فيضرب عند الأمر بالقناعة بادراك اليسر من الحاجة والرضى بصغير الأمر دون عظيمه. مرعى ولا أكولة. المرعى: مفعل من الرعي يقال رعت الماشية بالفتح رعيا ومرعى ويطلق المرعى أيضاً على المكان وعلى النبات المرعي؛ وهو الرعي أيضاً بكسر الراء. قال زهير: تربع بالقنان وكل فج ... طباه الرعي منه والخلاءُ أي دعاه إليه ما فيه من الرعي أبي الكلأ والخلوة. والأكل معروف وهو أكول وهي أكولة فإنَّ علم الموصوف من الكلام كان القياس حذف الهاء كغيره من نظائره. والمعنى أنَّ هذا مرعى أي نبات كثير ولم توجد ماشية ترعاه أو مكان ذو رعي ولا راعية له. يضرب في المال الكثير يجده الرجل ولم يجد من ينفقه عليه. وقال الشاعر في معنى المثل الأصلي: أرعت الأرض لو أنَّ مالاً ... لو أنَّ نوقاً لك أو جمالا أو ثلة من غنمٍ إمالا أي: إن كنت لا تجد غيرها. ومن اللطائف في هذا ما أنشده أبو علي البغدادي من قول الشاعر: فجنبت الجيوش أبا زينبٍ ... وجاد على مسارحك السحابُ فإنَّ البيت يحتمل أن يريد فيه الدعاء للمذكور على ما يبدو في بادئ الرأي بان يرزق العافية والأمن والخصب والدعة؛ ويحتمل أن يريد به الدعاء عليه بأن يفقر ويسلب المال حتى لا يكون له شيء تقصده الجيوش عليه وتتوجه بسببه الغارات إليه ويخصب مع ذلك حواليه حتى يكثر أسفه وحزنه إذ لا راعية له. وهذا الوجه هو الأصح وهو من أحسن معاريض البلغاء.

مرعى ولا كالسعدان.

مرعى ولا كالسعدان. المرعى تقدم: والسعدان بوزن سكران: نبت شديد الشوك. وفي الحديث في وصف جهنم أعاذنا الله منها: إنَّ فيها كلاليب مثل شوك السعدان. وقيل لرجل من أهل البادية خرج عنها: أترجع إلى البادية؟ فقال: أما ما دام شوك السعدان مستلقيا فلا! يعني: لا ارجع إليها أبدا لأنَّ شوك السعدان لا يفارقها. ويحكى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وذكره أبو العباس المبرد إنّه قال: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في علته التي مات منها فقلت: إني أراك بارئا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع ولمّا لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير وأتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان! والذي نفسي بيده لأنَّ يقوم أحدكم فتضرب عنقه في غير حق خير له من أن يخوض في غمرات الدنيا! يا هادي الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البحر! فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله فإنَّ هذا يهيضك إلى ما بك. فو الله ما زلت صالحا مصلحا لا تأسى على شيء فاتك من الدنيا ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاّ خيرا! قوله: نضائد الديباج هو الوسائد جمع نضيدة أي المنضودة المجموع بعضها إلى بعض. قال الراجز: وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا سبحتُ ربي قائماً وقاعدا والصوف الأذربي منسوب إلى أذربيجان؛ وقوله: إنّما هو الفجر أو البحر يريد: إن تربصت حتى يضيء لك الفجر الطريق عرفت قصدك وإن خبطت الظلماء وركبت متن عشواء ضللت. وضرب ذلك مثلا للدنيا وتحييرها أربابها.

فتى ولا كمالك.

ويذكر في بعض الأخبار إنّه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان. وهذا النبت من أفضل مراعي الإبل يسمنها ويغذيها غذاء حسنا. قال النابغة: الوهاب المائة الأبكار زينها ... سعدان يوضح في أوبارها اللبد ولذلك ضربت به العرب المثل. وقال أبو علي البصير يمدح عبيد الله بن خاقان وله: يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خافان كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان وهذان مثلان: ومثلهما: فتى ولا كمالكٍ. وهي كلها تضرب في الشيء يكون الفضل وغيره أفضل منه. وسيأتي بقيتها إن شاء الله تعالى. قيل: وأوّل من قال: مرعى ولا كالسعدان امرأة من طيء تزوجها امرؤ القيس بن حجر الكندي وكان القيس مفركا. فقال لها يوما: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان! وكانت هذه المرأة تزوجها قبل ذلك رجل آخر ففضلته على امرئ القيس. قيل: وهذا الرجل هو قيس بن مسعود بن قيس بن خالد وهو الذي يقال له ذو الجدين لأنّه كان له جد عند الملوك وجد في الحروب. وقيل لأنّه أسر أسرين شريفين كان لهما فداء كثير ولم يؤسر أحد في زمانه أشرف منها ولا أكثر فداء فسمي ذا الجدين. وإياه يعني الحماسي بقوله: أيا بنت عبد الله وابنة مالكِ ... ويا أبنت ذي الجدين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فلتمسي له ... أكيلاً فإني لست أكله وحدي! رعى فأقصبَ. الرعي تقدم؛ والقصب: القطع ومنه قيل للجزار قصاب لأنّه يقطع

الرغب شؤم والرفق يمن.

اللحم. وتقول: قصبت البعير وغيره إذا قطعت عليه شربه قبل أن يروي؛ وقصب البعير أيضاً شربه إذا امتنع منه قبل أن يروي فهو بعير قاصب. قال الراجز: وهن مثل القاصبات القمحِ وأقصب الرجل إذا فعلت إبله ذلك فيقال: رعى فأقصب مثلا للراعي المسيء الرعي وذلك أنه إذا أساء رعيها فخلت أجوافها من الكلأ امتنعت من الشرب إذ لا تشرب على جوع فكان امتناعها من الماء كناية عن تجويعه إياها. الرغبُ شؤمٌ والرفقُ يمنٌ. تقدم معنى هذا المثل عند الكلام على ضده وهو قولهم: الخرق شؤمٌ. وتقدم ذلك في الحديث. ارقَ على ظلعك! يقال: ارقِ بفتح القاف وكسرها وبالهمزة. أما على الأول فمن الرقي وهو الصعود. والمعنى: تكلف ما تطيق لأنَّ الرقي في السلم إذا كان يظلع يرفق بنسه. ويقال عند أمر الإنسان أن يبصر ما فيه من العيب والنقص ولا يتجاوز الحد في وعيده ويتخطى المقدار في تهديده. وأما على الثاني فهو من الرقية وكأنك تقول له: لا ظلع بي أنا أداويه ولكن ارق أنت ما فيك من الظلع! وأما على الثالث فمن القوء. يقال: رقأ الدمع يرقأ إذا سكن ورقأ بين القوم: أصلح. فيحتمل أن يكون من الأول أي: ارفق بنفسك واعمل على فيك من ضعف! أو الثاني أي: اصلح ما فيك من العيب أولاً!

ارق على ظلعك أن يهاض!

ارقَ على ظلعك أن يهاضَ! هذا كالذي قبله؛ والهيض أن يكون العظم قد جبر من كسر ثم يكسر ثانيا. قال امرؤ القيس: ويهدأ تاراتٍ سناه وتارةً ... ينوء كعتاب الكسير المهيضِ وقال الآخر: ومولى كمولى الزبر قان دملته ... كما دملت ساقٌ تهاض بها وقرُ يرقم الماء. الرقم: الكتب. فيضرب في الاستقامة والحذق. ويقال: فلان يرقم يرقم الماء أي إذا بلغ من حذقه إنّه يرقم حيث لا يثبت الرقم. قال أوس بن حجر: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على نأيكم إن كان للماء راقمُ وقد يقال: يرقم على الماء لإرادة أنه لا يثبت من عمله على شيء. رقةٌ ينتجها ذنب خيرٌ من حسنةٍ يتبعها عجب. هذا فيما أظن مثل مصنوع وهو نحو قول الشيخ تاج الدين أبن عطاء الله في حكمه: معصية أورثتك ذلا وانكسارا خيرٌ من طاعة أورثتك عزا واستكبارا. وليس هذا محل تقرير هذا المعنى. ركب جناحي النعامة. الركوب معروف ركب بالكسر ركوبا الجناح للطائر معروف. والنعامة تقدم ما فيها. وهذا المثل يقال لمن جد في أمر كانهزام أو غيره. قال الشماخ: فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ما قد قدمت بالأمس يسبق

ركب ذنب البعير.

وهذا الشعر مرثي به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبيات معروفة. ركب ذنب البعير. ذنب كأنَّ شيء بفتحتين: مؤخره والجمع أذناب والبعير معروف وتقدم ذكر مرتبته في أسنان الإبل. ويقال هذا المثل للإنسان يرضى بالهوان ويقنع بالنقص كالذي لم يجد مستقرا على ظهر البعير وإنّما ارتدف على الذنب. وقول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرامُ ونأخذ بعده بذناب عيشٍ ... أجب الظهر الله تعالى له سنامُ يحتمل أي يريد أنه تعلق بعيش صفته ما ذكر ويحتمل أن يريد مع ذلك أنه ما تمسك منه إلاّ بالذنب فيكون من هذا النمط. ركب ذنب الريح. يقال للذي يسبق فلا يدرك. ركب متن عشواء. العشواء: الضعيفة البصر وهي مؤنث الأعشى. ومن ركب متنها خبط وخلط. وتقدم هذا في قولهم: خبط خبطَ عشواء. رمتني بدائها وانسلت. كان سعد بن زيد مناة بن تميم تزوج رهم بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة. وكانت من أجمل النساء فولدت له مالك بن سعد. وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء! فشكت ذلك إلى أمها فقالت: ابدئيهن بعفلك إذا سببت فأرسلتها مثلا. ثم إنها سابتها واحدة من ضرائرها

رماه الله بداء الذيب.

يوما بعد ذلك فقالت لها رهم: يا عفلاء! كما وصتها أمها. فقالت الضرة حينئذ: رمتني بدائها وانسلت! فذهب مثلا يضرب في تعييرك صاحبك بعيب هو فيك. ونحو هذا قول العامة اليوم: قولي لها قبل أن تقول لك! وكان أصله فيما زعموا أنَّ امرأة عوراء سابت امرأة فقامت بنية للعوراء فقالت لأمها: يا أم قولي لها: يا عوراء قبل أن تقوله لك! وكان يقال لبني مالك بن سعد بنو العفلاء وبهم عرض النقري في قوله: ما في الدوائر من رجلي من عتل ... عند الرهان ولا اكوى من العفلِ! رماه الله بداء الذيب. داء الذيب هو الجوع والذيب أصبر السباع على الجوع. رماه الله بأفعى حاريةٍ! الأفعى معروفة. والحارية: الناقصة. تقول: حرى الشيء يحري حريا: نقص وأحواه الزمان والحاوية: الأفعى التي نقص جسمها من الكبر فلم يبق إلاّ رأسها ونفسها وسمها وذلك أخبث ما تكون فدعي بها. رعاه بأقحاف رأسه. الأقحاف جمع قحف بكسر القاف وسكون الحاء المهملة وهو العظم فوق الدماغ. ويقال هو ما انفلق من الجمجمة فبان ولا يقال لجميع الجمجمة قحف إلاّ أن يتكسر فيقال للمتكسر قحف إذا بان. والجمع أقحاف وقحوف. والمعنى: رماه بالدواهي المهلكة. يقال للرجل تسكته بداهية توردها عليه. وقيل المعنى: رماه بنفسه ونطحه عما يحاوله. فعلى الأول يكون المعنى إنّه لمّا رماه بالداهي فكأنه رماه بأفلاق رأسه إذ رماه بما

أرمى من أبن تقن.

يؤول إلى ذلك. ويكون الضمير المضاف إليه للرمي. فتقول مثلا: رميت زيدا بأفلاق رأسه. وعلى الثاني يكون المعنى إنّه باشر دفاعه بنفسه فشبه نفسه بالكبش الناطح برأسه والتعبير بالأقحاف حينئذ للمبالغة بأن كل جزء باشر النطح. والضمير يكون على هذا للرامي فتقول: رميت زيدا بأقحاف رأسي والله أعلم. ومثله قولهم: رماه بثالثة الأثافي. قال خفاف بن ندبة: وإنَّ قصيدة شنعاء مني ... إذا حضرت كثالثة الأثافي أرمى من أبن تقن. أبن تقن بكسر التاء المثناة وسكون القاف بعدها نون رجل كان جيد الرمي يضرب به المثل. قال الراجز: يرمي بها أرمى من أبن تقنِ وأبن تقن هذا هو عمرو بن تقن الذي قيل فيه: لا فتى إلاّ عمرو! وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه مشروحاً. ووقع في الصحاح والقاموس أنَّ التقن هو رجل كان راميا جيد الرمي وكأنه مسامحة. ثم رأيت للشنتمري في شرح قول الحماسي: أهلك عاداً وقبله ... أهلك طسماً وذا جدونِ وأهل جاش ومأربٍ ... وحتى لقمان والتقونِ قال: التقون جمع تقن وهو رجل من عاد وفيه قيل: أرمى من أبن تقن. الأرواح جنود مجندةٌ. هذا يروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

استراح من لا عقل له.

وهذا إخبار بأنَّ بين الأرواح تارة تناسبا باطنيا يوجب الالتئام والتوافق وتارة تباينا يوجب الوحشة والاختلاف بإذن الله تعالى وهو مشاهد مجرب. ومن ثم قال أبو الطيب: أصدق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلم وقال الآخر: وقائل لي: لم تفارقتما؟ ... فقلت قولاً فيه إنصافُ لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكالٌ وآلافُ وقال طرفة في أبيات: وأنت امرؤ منا ولست بخيرنا ... جوادٌ على الأقصى وأنت بخيلُ وأنت على الأدنى شمالٌ عريةٌ ... شآميةٌ تزوي الوجوه بليل وأنت على الأقصى صبا غير قرةٍ ... تذاءب منها ومرزغٌ ومسيلُ وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليلُ وأنَّ لسان المرء ما لم يكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليلُ وأنَّ امرءاً لم يعف يوما فكاهةً ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهولُ تعارف أرواح الرجال إذا التقت: فمنهم عدوٌ يتقى وخليلُ وقال المجنون: تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعدها كنا نطافاً وفي المهدِ وقال أبن الرومي: ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... وأخوتي أسوةٌ عندي لخلانُ أحبةٌ جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدت ... أجسامنا بعاقٍ أو خراسانِ والشعر في هذا المعنى لا يحصى. ومثله المثل الآتي: وافق شنٌ طبقة. استراح من لا عقل له. الاستراحة ضد التعب. تقول: أرحت الرجل فاستراح؛ وإنّما استراح الذي

لا عقل له لأنَّ النفس إذا خليت أخلدت إلى الشهوات الحاضرة ولا تبالي بعزمة وتستنكف عن منقصة كالبهيمة والعقل ينزع بها إلى طلب الكمال والتحلي بالحمد والتخلي عما يذم. وفي ذلك أتعابهاً لجسمها عن مألوفها المستذل واقتحام الأخطاء بها لاكتساب الثناء والفضل وإطالة الهموم والأفكار عليها نظراً في عواقب الأمور واحترازا عما يشين ويضير. وليس قال الحماسي: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا! وقال الآخر: وقائلةٍ: لم عركت الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت: ذريني على حالتي ... فإنَّ الهموم بقدر الهمم! وسمع الأحنف رجلا يقول: ما أبالي أمدحت أم هجيت! فقال: استرحت من حيث تعب الكرام! ومما ورد في العقل وفضله أنَّ أدم لمّا أهبط إلى الأرض خير في ثلاث: الحياء والدين والعقل. فاختار العقل: الحياء والدين أمران أن لا تفارق العقل. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث من حرمهن فقد حرم خير الدنيا والآخرة: عقل يداري به الناس وحلم يداري به السفيه وورع يحجزه عن المحارم. وفي حكمة داود عليه السلام: على العقل أن يكون عارفا بزمانه مالكا للسانه مقبلا على شأنه. وقال علي رضي الله عنه: لا مال أعود من العقل ولا فقر أشد من الجهل ولا وحدة أوحش من الجهل ولا مظاهر أحسن من المشاورة ولا حسب كحسب الخلق. وقال مطرف بن الشخير: عقول الناس على قدر أزمانهم. ويقول: ثلاثة تدل على عقول أهلها: الكتاب والرسول والهدية. وذكر المغيرة يوما عمر فقال: كان والله أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع.

وفي كتاب كلية ودمنة: رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع. وقال الحجاج يوما: العاقل من يعرف عيبه. فقال له عبد الملك بن مروان: فما عيبك يا حجاج؟ قال: حسود حقود. فقال عبد الملك: ما في إبليس شر من هاتين! ويقال: لا دين لمن لا عقل له. وقال علي رضي الله عنه: لا تؤاخ الأحمق ولا الفاجر. أما الأحمق فدخوله عليك وخروجه من عندك شين، وأما الفاجر فيزين لك فعله ويود أنَّ تكون مثله. وقال أيوب بن القرية إنَّ نطق أصاب، وإنَّ سئل أجاب؛ والأحمق إنَّ تكلم عجل، وإنَّ سئل ذهل. والفاجر إنَّ ائتمنته خانك، وإنَّ صحبته شانك. وقال عمر بن عبد العزيز: لا يعدم الأحمق خصلتين: كثرة الالتفات وسرعة الجواب. وقال الحسن: هجر الأحمق قربة. وقال: لا يتم دين امرئ حتى يتم عقله. وفي الحكمة: ينبغي للعاقل أنَّ يتمسك بست خصال: أن يحوط دينه، ويصون عرضه، ويصل رحمه، ويحفظ جاره، ويرعى إخوانه، ويخزن عن البذاء لسانه. ويقال: الفقر بالعقل، والرزق بالجهل. ويحكى إنّه قيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله، تبرئ ألاكمه والأبرص وتحيي الموتى، فما دواء الأحمق؟ قال: ذلك أعياني! وكان كسرى إذا غضب على عاقل سجنه مع جاهل. وقال سهل بن هارون: ثلاثة من المجانين، وإنَّ كانوا عقلاء: الغضبان، والغرثان والسكران. وفي الخبر: العاقل إنَّ تكلم غنم، وإنَّ سكت سلم. ومما ينسب لعلي رضي الله عنه: يقاس المرء بالمرء ... إذا المرء ما شانه فلا تصحب أخا الجاهل ... وإياك وإياه فكم من جاهلٍ أردى ... حليما حين أخاه وللشيء على الشيء ... نظائر وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه

أراد بيض الأنوق!

وصالح بن عبد القدوس: ولأنَّ يعادي عاقلا خير له ... من إنَّ يكون صديق أحمق فآربا بنفسك أنَّ تصادق أحمق ... إنَّ الصديق على الصديق مصدق ولغيره: عدوك ذو العقل أبقى عليك ... وأجدى من الصاحب الأحمق ولغيره: قد عرفناك باختيارك إذ كان ... دليلا على اللبيب اختياره ولآخر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إنَّ كنت ذا عقل! ولآخر: إنَّ جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده! وقال هشام بن عبد الملك: يعرف الأحمق بأربع: طول اللحية، وشناعة الكنية، ونقش الخاتم، وإفراط الشهوة. ودخل عليه يوما رجل طويل اللحية فقال: انظروا فيه غيرها! فسئل عن كنيته فقال: أبو الياقوت. فقيل: وما نقش خاتمك؟ قال: وجاءوا على قميصه بدم كذبٍ. ويحكى مثل هذه القصة عن معاوية وإنّها وقعت له مع رجل إلاّ إنّه قال في الكنية: أبو الكوكب الدري، ونقش الخاتم: وتفقد الطير. وتقدم شبه هذا للمأمون العباسي مع آخر، في حرف التاء. وقيل: ألا إنَّ عقل المرء عينا فؤاده ... فإنَّ لم يكن عقل فلن يبصر القلب آخر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم! وسيأتي في أجوبه الحمقى ومضحكاتهم شيء كثير. أراد بيض الأنوق! يضرب عند إرادة الممتنع. وتقدم في الباء وما فيه.

أردت عمرا وأراد الله خارجة!

أردت عمراً وأراد الله خارجة! كثيراً ما يتمثل به عندما تقصد إيقاع شيء ثم لم يتفق لك وأوقعت شيئاً آخر مكانه. وهو من كلام أحد الخوارج الذي أرسلوه إلى مصر ليقتل عمرو بن العاصي، حيث اتفقوا على قتله وقتل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه. فذهب إلى كل واحد من الثلاثة من يقتله. فأما على كرم الله وجهه فقتل وفاز؛ وما معاوية فأصيب ونجا وقال في ذلك: نجوت وقد بل المرادي سيفه ... من أبن أبي شيخ الأبطاح طالب وأما عمرو فاستخلف خارجة المذكور، فنجا وقتل خارجة. فقال القاتل: أردت عمراً وأراد الله خارجة، أي أردت قتل عمر فلم يتفق إذ لم يرده الله تعالى، وأراد الله إنَّ أقتل خارجة، فوقع ما أراد الله تعالى: فما شئت كان وإنَّ لم أشأ ... وما شئت أم لم تشأ لم يكن والقصة مشهورة فلا نطيل بها. وما احسن قول أبن عبودن في قصيدته: وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ ... فدت عليا بما شاءت من البشر! رويد الغزو ينمرق! رويدا: مهلاً، وهو مصغر رود. يقال: أورد الرجل إرواد ومورداً ورويداً إذا رفق. ويكون لفظ رويداً على أوجه: اسم فعل أمر بمعنى أمهل، وتدخل عليه الكاف، نحو: رويدا زيداً، ورويد كني؛ وصفة، نحو سار سيراُ رويدا؛ وحالا، نحو: سار القوم رويدا، وهو محتمل لمّا قبله؛ ومصدرا، نحو: رويد زيد، بالإضافة. والغزو معروف. وهو أما منصوب إنَّ جعل رويد اسم فعل مجرور إنَّ جعل مصدرا. والمروق: الخروج. يقال: مرق السهم وغيره، أي خرج. وفي الحديث: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

رويدا يعدوان الجدد!

والمراد هنا خروج الولد. كانت امرأة تغزو، فحلبت فذكر لها الغزو فقالت: رويد الغزو ينمرق! أي أمهل الغزو حتى يخرج الولد! رويداً يعدوان الجدد! العداء: المجاوزة. والجدد من الأرض خلاف الوعث. وتقدم هذا المثل من كلام قيس بن زهير في رهان بينه وبين بني بدر. والضمير في يعدوان للفرسين المجريين. روغي جعار. الروغان: الحيودة. يقال: راغ الرجل، وراغ الرجل، وراغ الثعلب بالعين المعجمة يروغ رواغا إذا مال وحاد عن الشيء، وجعار علم على الضبع، وتقدم ما فيه. وقد يقال روغي جعار وانظر أين المفر. ويضرب في فرار الجبان، أو للذي يهرب ولا يقدر إنَّ ينفلت. أروغ من ثعالة. ثعالة بالضم اسم لجنس الثعلب، معروفة، وروغان الثعلب في غاية الخفة والسرعة. فضرب به المثل. يقال: أروغ من ثعالة، اورغ من ثعلب، وراغ روغان الثعلب. قال الشاعر: فأحتلت حين صرفتني ... والمرء يعجز لا محاله والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعاله والمرء يكسب ماله ... والشح يورثه الكساله والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقاله وقال الآخر في الثعلب:

الراوية أحد الهاجين.

وكل خل لي خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم أروغ من ثعلبٍ ... ما أشبه الليلة بالبارحة! يحكى أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال يوما وهو على المنبر: إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعلب. ولمّا هزم المهلب بن أبي صفرة عبد ربه الأصغر وأجلى قطريا حتى أخرجه من كرمان نحو أرض خرسان، وأوفد على الحجاج كعب بن معدان الأشقري. فقال له الحجاج: كيف كان محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دهمته الطمحة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا ماده القوم صبر صبر، الدهر قال: وكيف كان فيكم؟ قال: كان لنا منه إشفاق الوالد الحدب، وله مناطاعة الوالد البر. قال: فكيف أفلتكم قطري؟ قال: كدنا ببعضنا ما كدناه به، والأجل أحصن جنة وأنقذ عدة. قال: فكيف أتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أجب الينا من شجب العدو. فقال له الحجاج: أكنت أعددت هذا الجواب قبل لقائي؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله! قوله: شجب العدو، أي هلاكه. يقال شجب الرجل يشجب شجبا. قال امرؤ القيس: وقالت: بنفسي شباب له ... ولمته قبل أنَّ يشجب الراوية أحد الهاجين. يقال: روي الشعر بالفتح يرويه، فهو راوٍ، ورواية بزيادة الهاء للمبالغة، كما في مدركة وعلامة، ورويته أنا تروية. والهجو والهجاء معروف. ويعنون بهذا الكلام إنَّ من روى الهجو في الناس فهو كمن قاله أوّلاً، فيمون أحد الهاجين، كما يقال في الغيبة إنَّ المستمع شريك القائل إذا لم ينكر ولا عذر، فكيف يمن يحكي ويأثره؟ كما قيل: لعمرك ما سب الأمير عدوه ... ولكنما سب الأمير المبالغ!

ولأجل ما وقع للنابغة الذبياني في بني سيار، وكان النابغة قد نهى قومه إنَّ يرتعبوا حمى نعمان بن الحارث الغساني، فعصوه، وترعبوه، فأغار عليهم. وقال النابغة في ذلك: لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل أصفار وقلت: يا قوم إنَّ الليث منقبض ... على براثنه لوثبة الضاري وهي قطعة مشهورة، منها: أما عصيت فأني غير منفلتٍ ... مني اللصاب فجنبا حرة النار أو أضع البيت في سوداء مظلمةٍ ... تقيد العير لا يسري بها الساري يريد إنّه يلج الشعاب الضيفة أو المهامه الفيح حتى لا يصل إليه الجيش، ثم إنّه لم يفعل ذلك حتى أصابه الغارة مع قومه وأسر بعض أهله فيمن أسر. فقال في ذلك بدر بن حزاز الفزاري يعير النابغة: أبلغ زياداً وحين المرء مردكه ... وإنَّ تكيس أو كان أبن احذار اضطرك الحرز من ليلى إلى بردس ... تختاره معقلا عن شج أعيار حتى لقيت أبن كهف اللؤم في لجيبٍ ... ينفي العصافير والغربان جرار فالآن فاسع بأقوام غررتهم ... بني ضباب ودع عنك أبن سيار قد كان وافد أقوام فجاء بهم ... وانتاش عانيه من أهل ذي قار! ثم إنَّ النابغة بلغه إنَّ زبان وخزيمة أبني سيار أعانا بدرا ورويا شعره، فقال في ذلك: إلاّ من مبلغ عني خزيما ... وزبان الذي لم يرع صهري؟ فأياكم وعورا داميات ... كأنَّ صلاءهن صلاء جمر! فإني قد أتاني ما صنعتم ... وما رشحتم من شعر بدر فلم يك نولكم إنَّ تشقذوني ... ودوني عازب بلاد حجر

روت حزم، فإذا استوضحت فأعزم!

فإن جوابها في كل يومٍ ... ألم بأنفس منكم ووفر ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر روت حزم، فإذا استوضحت فأعزم! يقال: رويت في الأمر بالتضعيف: نظرت فيه وتفكرت، والحزم والحزامة: ضبط الأمر والأخذ فيه بالقوة والجد. يقال: حزام الرجل بالضم يحزم حزامة فهو حازم. واستيضاح الشيء: استكشافه أو جعله واضحا. والعزم معروف. ومعنى المثل أنَّ من حزم الإنسان إنَّ يتروى في الأمر ويتفكر في مجاريه وعواقبه إذا أراد أنَّ يأتيه، حتى إذا تبين له إنّه محمود فليقدم عليه بعزم ولا يتوان فيه حتى يدرك فتور فيتعطل. أروى من نملةٍ. يقال: روي من الماء بالكسر يروى ريا، فهو ريان، والنملة واحدة النمل، وهو معروف. وإنّما وصفت بالري لأنها تكون في الفلوت فلا ترد الفلوات، وهذا من المجاز. أروى من نعامةٍ. النعامة معروفة، وتقدم الكلام عليها. ووصفت بالري أيضاً لمّا يزعمون من إنّها لا تشرب الماء ولا تطلبه، وإنَّ رأته شربته عبثاً. رهبوتى خير من رحموتى. الرهب: الخوف. يقال: رهب بالكسر وهبة ورهبا بالضم والفتح ورهبا بفتحتين والاسم منه رهباء بالمد وبالقصر مضموما ومفتوحا. ويقال رهبوت بزيادة تاء للمبالغة كملكوت، ورهبوتى بألف مقصورة، والرحمة:

تربع وتدسع

العطف والرقة رحمة بالكسر رحمة، ورحما بالضم وبضمتين ومرحمة؛ والرحموت من الرحمة استعمل للازدواج. والمعنى انك أنَّ ترهب خير لك من إنَّ ترحم، لأن المرهوب عزيز ممتنع، والمرحوم بمحل عدوان العادين. تربع وتدسع ومما يلتحق بهذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يروى عن ربه تعالى يقول لعبده: المثل أوتك مالا وأفضل عليك، فماذا قدمت؟ وفي رواية: ألم أوتك مالا وجعلتك تربع وتدسع؟ فقوله: تربع وتدسع تمثيل. وأصله في الرئيس من العرب كان يربع قومه، أي يأخذ المرباع وهو ربع المغنم إذا غزوا؛ ويدسع، أي يعطي الدسيعة وهي العطية. ومنه قولهم: فلان ضخم الدسيعة. وقولهم: رجع عوده على بدئه. أي رجع في طريق الذي جاء منه. ويقال أيضاً: رجع في عوده وبدئه، وفي عودته وبدئته، عودا وبدءاً. وقولهم: مرحبا وسهلاً. أي صادفت سعة. ويقال أيضا: مرحبك الله ومسهلك! ومرحبا بك الله ومسهلاً! وقولهم في الايعاد والتهديد: رعد فلان وابرق. وتقدم ما فيه.

أرقع ما أوهيت!

وقولهم: أرقع ما أوهيت! أي أصلح ما أفسدت. وأصله في السقاء ونحوه إذا أوهاه أي خرقه رقعه. وقولهم: ركب فلان عرعره، أي ساء خلقه، والعرعر ما بين المنخرين، وعرعرة الأنف: أعلاه. وكذا عرعرة الجبل وعرعرة السنام. كل ذلك بضم العين. وهذا مثل قولهم: ركب رأسه. وقولهم: رماه بالذربين أي بالشر والخلاف. وقولهم: رويد الشعر يغب! يقال: غب الرجل وأغب إذا بات. ومن الأمثال الجارية على الألسن قولهم: رب حليةٍ، انفع من قبيلة. ولنذكر في هذا الباب من الأمثال الشعرية ما تيسر وما جرى على مثالها، وأنتسج على منوالها

قال البارقي: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ وقبله: وحلت سليمى في هضاب وأيكةٍ ... فليس عليها يوم ذلك قادرُ قيل: كان يزيد بن عبد الملك يقول: ما يقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة وحبابة جاريتان لبعض أهل الحجاز حتى اشتريتا له. فلما اجتمعتا في ملكه قال: أنا اليوم كما قال الشاعر: فألقت عصاها. . " البيت ". ثم قال: ما يشاء بعد من أمور الدنيا فليفتني. ويقال لمّا بويع لأبي العباس السفاح قام خطيبا فسقط القضيب من يده فتطير من ذلك. فقام رجل وأخذ القضيب ومسحه إليه وأنشد: فألقت عصاها. . " البيت ". وقيل إنَّ قتيبة بن مسلم لمّا قدم واليا على خراسان رقي المنبر ليخطب فسقطت المخصرة من يده فتطير من ذلك. فقام بعض الأعراب فمسحها وناوله إياها وقال: أيّها الأمير ليس كما ظن العدو وساء الصديق ولكنه كما قال الشاعر: وألقت عصاها. . " البيت "! فسري عنه. وقيل هو القائل ذلك. ومثل هذا ما روي أنَّ خالد بن يزيد لمّا دخل الموصل واليا عليها اندق منه اللواء في بعض أبوابها فتطير من ذلك فبادره أبو الشمقمق وكان معه قائلا: ما كان مندق اللواء لطيرة ... تخشى ولا سوء يكون معجلا لكن هذا الرمح أضعف متنه ... خطر الولاية واستقل الموصلا فسرى عن خالد وكتب صاحب البريد بذلك الذي المأمون فزاده ديار ربيعة فأعطى أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم. ومثل ذلك ما يحكى أنَّ طاهر بن الحسين لمّا خرج لقتال علي بن عيسى بن ماهان وفي كمه دراهم يفرقها على الضعفاء وغفل عنها فأسبل كمه فتبددت فتطير بذلك. فأنشده شاعر كان معه: هذا تفرق جمعهم لا عيره ... وذهابها منه ذهاب الهمِ شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في إمساكه في كمِ

والعرب ضربت المثل بإلقاء العصى في الاستقرار والراحة من الأسفار ولذلك قال حبيب: كريمٌ إذا ألقى عصاه مخيماً ... بأرضٍ فقد ألقى بها رحله المجدُ وقال أبن عنين: ولمّا استقرت في ذراه بي النوى ... وألقت عصاها بين مزدحم الوفد تنصل دهري واستراح من الوجى ... قلوصي ونامت مقلتي وعلا جدي وقال عمارة اليمني: إنَّ الكفالة والوزارة لم تزل ... يومي إليك بفعلها وتشارُ كانت مسافرة إليك وتبعد ... الأخطار ما لم تركب الأخطارُ حتى إذا نزلت عليك وشاهدت ... ملكاً يزين الملك منه سوارُ ألقت عصاها في ذراه وعريت ... عنها السروج محطة الأكوارُ وقال صردر: على رسلكم في الهجر إنَّ عصابةً ... إذا ظفرت بالحب ضل ضميرها سواءٌ على المشتاق والهجر حظها ... أألقت عصاها أم أجد بكورها وقال أيضاً: أنعمت في نعماء مطمئنة ... تحكم الفؤاد في أطرافهِ ألقت عصاها وارتمت ركابها ... في سرر الوادي وفي شعافه قال الحسين بن إبراهيم: ألا ليت شعري هل أقولن مرة ... وقد سكنت مما أجن الضمائرُ ومالي إلى باب المحجب حاجةٌ ... وما بي عما يخفض العرض زاجرُ فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ وقال الآخر: إذا لم ير الإنسان عند قدومه ... محياك مثل البدر والبدر سافرُ فأقسم ما ألقت عصاها يد النوى ... ولا قر عيناً بالإياب المسافرُ وقال كليب بن ربيعة أو طرفة:

يا لك من قبرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري! وتقدم ذكر هذا وما فيه. وقال المجنون: أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وتقدم ما يشبه في حرف الباء. ومثله أيضاً قول الآخر: فإن تدعي نجداً أدعه ومن به ... وإن نسكني نجداً فيا حبذا نجدُ! وقبل هذا البيت: سقى دمنتين ليس لي بها عهد ... بحيث التقي الدارات والجرع الكبدُ فيا ربوة الربعين حييت ربوةً ... على النأى منا واستهل بك الرعدُ قضيت الغواني غير أنَّ مودةً ... لذلفاء ما قضيت آخرها بعدُ إذا ورد المسواك ضمآن بالضحى ... عوارض منها ظل يخصره البدُ وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجادي والعنبر الوردُ جرى نائبات الدهر بيني وبينها ... وصرف الليالي مثل ما جرت البردُ فإن تدعي نجداً. . " البيت " وبعده: وإن كان يوم الوعد أدنى لقائنا ... فلا تعذلني أن أقول متى الوعدُ وقال تأبط شراً: وأبت إلى بهمٍ وما كدت آئباً ... وكم مثلها غادرتها وهي تصفرُ! والشطر الثاني مثل سائر في عدم الاكتراث بالشيء. ومن لطائف شرف الدين الحلاوي أنه أنشد بين يديه لغز في الشبابة وهو: وناطقةٍ خرساء بادٍ شحوبها ... تكنفها عشرٌ وعنهن تخبرُ يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخرُ

كم ترك الأول للآخر!

وهذا الشطر الأخير لتأبط شرا أيضاً ضمنه فأجاب في الحال: نهاني النهى والشيب عن وصل مثلها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفرُ! ضمن تضمينا حسنا ونقل المعنى إلى الشبابة فوقعت لفظة تصفر أحسن موقع. وقال الآخر: كم ترك الأول للآخر! وهو مثل مشهور ضمنه أبو تمام في قوله: يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر! أو هو المخترع. وضده قول الآخر: لم يدع من مضى ... للذي قد غبر فضل علم سوى ... أخذه بالأثر وقال الآخر: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرسٌ تحتك أم حمارُ غيره: فيا عطشى والماء الزلال أخوضه ... ويا وحشتي والمؤنسون كثيرُ! وقال بعض الأعراب: دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من وافى ومن صبرا لا تحسب المج تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا! وقال الأخطل: قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء وإن باتت بأطهارِ حكى أبو العباس المبرد في الكامل أنَّ صاحب اليمن بعث إلى عبد الملك بن مروان بجارية وكتب معها: إني وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريتها بمال عظيم ولم ير مثلها. وكان ذلك وقت محاربتهم لابن الأشعث. فلما دخل بالجارية على عبد الملك رأى وجها جميلا وخلقا نبيلا. فألقى إليها قضيبا كان في يده فنكست لتأخذه فرأى من جسمها

ما بهره. فلما هم بها أعلمه الآذن أنَّ رسول الحجاج بالباب. فأذن له ونحى الجارية فأعطاه كتابا من عبد الرحمن بن الأشعث فيه سطور أربعة: سائل مجاور هل جنيت لهم ... حربا تزيل بين الجيرة الخلط؟ وهل سموت بجرار له لجبٌ ... جم الصواهل بين الحم والفرط؟ وهل تركت نساء الحي ضاحيةً ... في ساحة الدار يستوفدن بالقنطِ وتحته: قتل الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوامِ فكتب إليه عبد الملك كتابا وجعل في طيه جوابا لابن الأشعث: ما بال من أسعى لأجبر كسره ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري؟ أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركبٍ وعرِ وإني وإياهم كمن نبة القطا ... ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري أناة وحلما وانتظارا بهم غداً ... وما أنا بالواني ولا الضارع الغمرِ قال: ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك! فتقول: ما بالك يا أمير المؤمنين وما يمنعك؟ فقال: ما قاله الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب: قومٌ إذا حاربوا. . " البيت " فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن بن الأشعث. فلم يقربها حتى قُتل عبد الرحمن. وقال الآخر: الله يشكر ما مننت به ... إذ كان يقصر دونه شكري غيره: إلهي زد في عمره من حياتنا ... وأعمرنا حتى يطول له العمرُ! غيره: أبى الله تدبير أبن آدم نفسه ... وأن يكون المرء إلاّ مدبرا

غيره: أخاف عليك من سيف ورمح ... طميل العمر بينهما قصرُ غيره: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر غيره: إذا صح عون الله للمرء لم يكن عسيرٌ من الآمال إلاّ تيسرا غيره: إذا لم تكن في منزل المرء حرةٌ ... تدبره ضاعت مصالح داره غيره: تبقى المنابر بعد القوم باقية ... ويذهب المال والأيام والعمرُ غيره: تشتاقكم كل أرض تنزلون بها ... كأنكم لبقاع الأرض أمطارُ غيره: تعب المنجم حيث أفنى عمره ... في علم ما لا يدرك الأفكارُ غيره: تميز البعض في الألفاظ إن نطقوا ... وتعرف الحذق في الألفاظ إن نظروا غيره: تنسى مرارة كل نازلة ... بحلاوة في النهي والأمرِ غيره: ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى غيره: ثلاثةٌ موصوفةٌ تجلو البصر: ... الماء والوجه المليح والخضر غيره:

جار الزمان علينا في تقلبه ... وأي دهر على الأحرار لم يجرِ؟ غيره: جاء البشير مبشراً بقدومكم ... فملئت من قول البشير سرورا غيره: جاور إذا جاورت بحراً يا فتى ... فالجار يشرف قدرة بالجارِ! غيره: حبي لكم طبعٌ بغير تكلفٍ ... والطبع في الإنسان لا يتغيرُ غيره: خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزةٍ ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذورِ! غيره: خذ ما صفا لك فالحياة غرور ... والدهر يعدل تارة ويجورُ غيره: خير ما ساعد الرجال نساءٌ ... صالحات يكن خلف الستورِ غيره: دخولك من باب الهمى إن أردته ... يسير ولكن الخروج عسيرُ غيره: دع النوم للنوام إنك إن تنم ... فإنك نصف العمر تغبن خاسرا غيره: ذروني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقيرُ غيره: رأيت بلاد الله وهي عريضةٌ ... على الخائف المذعور أضيق من القبر غيره: رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطي لبه حين يكسرُ غيره: رُبَّ فقير غني نفسٍ ... وذي غنى بائس فقيرُ

غيره: ردك الله إلينا سالماً ... بعد غنمٍ ونجاحٍ وظفر غيره: زرتني قبل أن أزورك شوقاً ... فلك الفضل زائراً ومزورا! غيره: زعمتم بأن الصبر أكرم صاحبٍ ... صدقتم ولكن قد تقضى به العمرُ غيره: سأكتم حاجتي عن الناس كلهم ... ولكنها للناس تبدو وتظهرُ غيره: سرور شهرٍ وغم دهرٍ ... ووزن وهرٍ ودق ظهرِ غيره: سيصرف الله ما تخشى وتحذره ... فاصبر قليلاً فعقبى صبرك الظفرُ غيره: شباب المرء ثوبٌ مستعارٌ ... وأيام الصبا أبداً قصارُ غيره: صفقةٌ غير خاسرة ... بيع دنيا بآخره غيره: ضيعت وقت في المحال ... فلا تضيع وقت غيرك! غيره: عبارتنا شتى وحسنك واحدٌ ... وكلٌ إلى ذاك الجمال يسيرُ غيره: عتبت على عمرو فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على عمرو غيره: على المرء أن يسعى لمّا فيه نفعه ... وليس عليه أن يساعده الدهرُ! غيره:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبرِ غيره: قد كنت أبكي وداري منك دانيةٌ ... فكيف صبري وقد شطت بي الدار؟ غيره: قد كنت أسمع ما أرى فيروعني ... واليوم ليس بروعي ما أنظر! غيره: قد كنت أحذر من دهري وأحذره ... حتى قدمت فزال الروع والحذرُ غيره: قضى الله في بعض المكارم للفتى ... بخيرٍ وفي بعض الهوى ما يحذرُ غيره: قف أنا في الطريق إن لم تزرنا ... وقفةٌ في الطريق نصف الزيارة! غيره: قومٌ إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار غيره: كأن العام ليس بعام حجٍّ ... تغيرت المواسم والدهورُ غيره: كفا حسودي جهلاً أنه رجلٌ ... معاندٌ لقضاء الله والقدرُ غيره: كل امرئٌ حسن في عين والده ... والخنفساء تسمي بنتها القمرُ غيره: كل عيبٍ تراه في الغير بالظن ... له فيك باليقين نظيرُ غيره: كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار غيره: لا تستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلاّ لصابرِ

غيره: لقد طال هذا القيل والقال بيننا ... وما طال قول الشرح إلاّ ليقصرا غيره: لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء باقٍ معمرُ غيره: لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما احتوى عليه جداره! غيره: لي النقاب على القباح فريضةٌ ... وعلى الملاح خطيئة لا تغفرُ غيره: ليس ارتحالك في كسب العلا سفراً ... بل المقام على ذل هو السفرُ غيره: ليس التفضل منك أمراً نادراً ... لكن مثلك في التفضل نادرُ غيره: ليس السعيد الذي دنياه مسعدة ... إنَّ السعيد الذي ينجو من النار غيره: ليس ما ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ غيره: ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرورُ غيره: ما بال دارك حين تدخل جنة ... وبباب دارك منكرٌ ونكيرُ؟ غيره: ما حك جسمك غير ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك! غيره: ما ذاق طعم الغنى فلا قناع له ... ولا ترى قانعاً في الناس مفتقرا

غيره: ما كان ذاك العيش إلا سكرة ... لذاتها ذهبت وحل خمارها غيره: ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله: أهلاً بهذا الزائر! غيره: ما يضر البحر أمسى زاجراً ... إن رمى فيه سفينةٌ بحجر! غيره: متى تقضي حاجات من ليس واصلاً ... إلى حاجة حتى تكون له أخرى غيره: محن الفتى يخبرن على فضل الفتى ... والنار مخبرةٌ بفضل العنبر غيره: مفتاح باب الفج الصبر ... وكل عسر بعده يسرُ غيره: من أبرم الأمر بلا تدبير ... صيره الدهر إلى تدميرِ غيره: من كان يهوى منظراً بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر غيره: نزلوا والخدود بيضٌ فلما ... أزف البين عدن بالدمع حمرا غيره: وأحمق خلق الله من جرب أمراً ... وعاد إلى تجربته مرة أخرى غيره: وإذا أتتك مصيبةٌ فاصبر فقد ... عظمت مصيبة مبتلى لا يصبرُ غيره: وإذا بغى باغٍ عليك بجهله ... فاقتله بالمعروف لا بالمنكر! غيره:

وإذا ظلمت ولي بكم متعلقٌ ... فعلى علاكم لا علي العارُ غيره: وإذا عتبت على الصديق شكوته ... سراً إليه وفي المحافل أشكرُ غيره: وإذا لم يكن من الذل بدٌ ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا! غيره: وأفرح كلما يزداد مالٌ ... ولا أبكي على نقصان عمرِ! غيره: والمعروف من يأته يحمد عواقبه: ما ضل عرفٌ وإن أوليته حجرا! غيره: والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره غيره: والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للعين لا للنجم في الصغر غيره: ورُبَّ جوادٍ امسك الله دوده ... كما يمسك الله السحاب من القطر غيره: وقى الله مولانا جميع المكاره ... ولا دار صرف الدهر يوماً بداره غيره: وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها! غيره: وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بأمن الله من حيث يحذرُ غيره: وكل من أعيتك أخلاقه ... دواؤه الصبر أو الهجرُ

غيره: وكل أذى فمصبورٌ عليه ... وليس على قرين السوء صبرُ! غيره: وكم من أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعة أكلات دهر! غيره: وكم من طالبٍ يسعى لرزقٍ ... وفيه هلاكه لو كان يدري غيره: وكنت أمشي على ثنتين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر غيره: وكيف يذهب عن سمعي وعن بصري ... من كان مثل سواد القلب والبصر؟ غيره: ولازم الصمت إن سئلت وقل: ... لا علم عندي بالجهل مستترا غيره: ولست أخاف الفقر ما عشت في غدٍ ... لكل غدٍ رزق من الله باكر غيره: ولم أر بعد الدين خيراً من الغنى ... ولم ار بعد الكفر شراً من الفقر غيره: وما الزين في لبس الثياب وإنما ... يزين الفتى مخبره حين يخبر غيره: وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بباقية إلاّ سيعقبها يسرُ غيره: وما كنت أرضى أن أعيش ببلدة ... وتنأى ولكن لا يغالب مقدار غيره: وما من نعمة شملت كريماً ... كنعمة عورةٍ سترت بقيرِ غيره: ومن كان ذا عذرٍ قبلت أعذاره ... وإن لم يكن عذرٌ فعندي له عذرُ

غيره: ومن يكن الغراب له دليلا ... فما غير الغراب له مصير غيره: ونعلم أنَّ المال غادٍ ورائح ... وخير من المال الأحاديث والذكر غيره: وهون عندي ما ألاقي من الأذى ... بأنك أنت المبتلى والمقدر! غيره: ويخبرني عن غائب الأمر هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبر! غيره: ويعرف فضل عقول الرجال ... بتدريبها وبآثارها غيره: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إنَّ تقويم الضلوع انكسارها غيره: هي المقادير فلمني أو فزد ... إنَّ كنت أخطأت فما أخطأ القدر غيره: لا تعاشر إلاّ الأكابر واعلم ... أنَّ في عشرة الصغار صغارا غيره: يا ليل طل يا شوق دم: ... إني على الحالين صابر! غيره: يفر من المنية كل حينٍ ... وما يغنى عن الموت الفرار! غيره: يلقى الحسود تجلدي فيسوءه ... إني على ريب الحوادث أصبر غيره:

يمينك منها اليمن واليسر في اليسرى ... فبشرى لمن يرجو الندى منهما بشرى! غيره: ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأيام ما لم يحاذر غيره: ينسى صنائعه وعده ... ويبيت في إنجازه يتفكر وقال أبو الأسود: وإنَّ أحق الناس إنَّ كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر وتقدم تمام هذا الشعر وسببه. ومثله قول الآخر: وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خالِ أعطاك قبل سؤاله ... كفاك مكروه السؤال وقول أبي تمام: وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي! وقول أبي نواس: إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار: ... فقد ضاق الزمان على الصغار! يضربه الواعظ السادة الصوفية عندما يدبر الشباب ويقبل المشيب، ويكاد يذوي الغصن الرطيب، في الإكثار من القربات، والجد في العمل، وتلافي الخير قبل فوات الأجل، وكذا ما يشبه من كل ما يطلب اغتنام الفرصة فيه قبل فواته. وقال أيضاً: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى: ... فلا خير في اللذات من دونها ستر! وإنّما قال: وقل لي هي الخمر، لأنه إذا سمعها عندما نظر إليها التذ مسمعه باسمها، ومنظره بشخصها، وأشرابت نفسه إليها، فتلقتها بأعظم لذة.

وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة: لا شيء ضائر عاشق، فإذا نأى ... عنه الحبيب فكل شيء ضائره ومنها: أبكر فقد بكرت عليك بمدحه ... غرر القصائد: خير أمرٍ باكره ومنها: وإذا الفتى المامول انجح عقله ... في نفسه ونداه أنجح شاعره وقال أيضاً: عفت آياتهن وأي ربعٍ ... يكون له على الزمن الخيار ومنها: كذاك لكل سائلةٍ قرار وبعده: مضى الأملاك وانقرضوا وأضحت ... سراة ملوكنا وهم تجار وقوف في الظلام الذم تحمى ... دراهمهم ولا يحمي الذمار فلو ذهبت سنات الدهر عنه وألقي عن مناكبه الدثار لعدل قسمة الأيام فينا ... ولكن دهرنا هذا حمار! ومنها: وأي النار ليس له شرار؟ ومنها: وكان المطل في بدءٍ وعودٍ ... دخلنا للصنيعة وهي نار نسيب البخل مذ كان وإلاّ ... يكن نسب فبينهما جوار لذلك قيل بعض المنع أدنى ... إلى مجدٍ وبعض الجود عار وقال أيضاً: شر الأوائل والأواخر ذمة ... لم تصطنع وصنيعة لم تشكر وقال أيضاً:

إنَّ الكرام كثير في البلاد وإنَّ ... قلوا كما غيرهم قلو وإنَّ كثروا لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فإنَّ جلهم أو كلهم بقر وكلما أمست الأخطار بينهم ... هلكى تبين من أمسى له خطر لو لم تصادف شيات البهم أكثر ما ... في الخيال لم تحمد الأوضاح والغرر ومنها: بالشعر طول إذا أصطكت مصادره ... في معشر وبه قصر وقال أيضاً: والبخل حلو ولكن غبه مضر ... فاكظم فلا إلاّ وزنبرو! وقال أيضاً يرثي بن حميد: فاثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها: من تحتك أخمص الحشر غدا غدوة والحمد نسج ردائه ... فلم ينصرف إلاّ وأكفانه الأجر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلاّ وهي من سندس خضر! وقال أيضاً من أخرى: سيأكلنا الدهر الذي غال من مضى ... ولا تنقضي الأشياء أو يوكل الدهر وأكثر حالات أبن آدم خلفة ... يضل إذا فكرت في كنهها الفكر فيفرح بالشيء المعار بقاؤه ... ويحزن لمّا صار وهو له ذخر عليك بثوب الصبر إذ فيه ملبس ... فإنَّ ابنك المحمود بعد ابنك الصبر وما أوحش الرحمان ساحة عبده ... إذا عاشر الجلى ومؤنسه الأجر! وقال أيضاً: إنّما البشر روضة فإذا كان ... ببذل فروضة وغدير فاقسم اللحظ بيننا إنَّ في اللحظ ... لعنوان ما يجن الضمير! وقال أيضاً: فلا تمكن المطل من ذمة الندى ... فبئس أخو الأيدي الغزار وجارها فإنَّ الأيادي الصالحات كبارها ... إذا وقعت تحت المطال صغارها وما نفع من قد مات بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها

وما العرف بالتسويف إلاّ كنخلة ... تسليت عنها حين شط قرارها وخير عادات الحر مختصراتها ... كما إنَّ خيرات الليالي قصارها وقال أيضاً: وما القفر بالبيد الخواء بل التي ... نأت بي وفيها ساكنوها هي القفر ومن قامر الأيام على ثمراتها ... فأحجم بها أن تنجلي ولها القمر فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر ومنها: هل المجد إلاّ الجود والبأس والشعر وقال أبو الطيب: وما في سطوة الأرباب عيبٌ ... ولا في ذلة العبدان عار وقال أيضاً: إني لأعلم واللبيب خبير ... أنَّ الحياة وإن حرصت غرورُ ورأيت كلاً ما يعلل نفسه ... بتعلة وإلى الفناء يصير ومنها: إنَّ المحب على البعاد يزور وبعده: وقنعت باللقيا وأوّل نظرةٍ ... إنَّ القليل من الحبيب كثيرُ وقال أيضاً: فلو كنت امرءاً تهجى هجونا ... ولكن ضاق فترٌ عن مسيرِ الفتر بالكسر: ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة إذا فتحتها. وضربه مثلا. وقال أيضاً: ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... مفترق جاران دارهما عمرُ

ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً ... فما المجد إلاّ السيف والفتكة البكرُ وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجرُ وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشرُ إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... بلاهبةٍ فالفضل فيمن له الشكرُ ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ ومنها: وإني مثل قول الحكيم: أعظم ما على الإنسان إعظام ذوي الدناءة. ونحو البيت الأول قول الحكيم: من قصر عن أخذ لذاته عدمها وعدم صحة جسمه. ونحو السادس قول الحكيم: من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد اسلم نفسه إلى العدم. ونظم أبن شرف معنى البيت الأخير فقال: ومنفق العمر في الأموال يجمعها ... مستعجل فقره لوما وتسفيلا غيره: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى وقال فيه أبن شرف: وكل من ليس يدري كنه قيمته ... فالناس فيه يحقون الأقاويلا غيره: طوى الدهر ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لمّا تطوي المنية ناشر وقال أبن شرف: قد يوصل الشيء مقطوعا وما قطعت ... يد المنون فلن تلقاه موصولا غيره: من عاش أخلقت الأيام جدته ... وخانه ثقاته: السمع والبصر

لطيفة:

وقال أبن شرف: ومثال يطل عمره يفقد أحبته ... حتى الجوارح والصبر الذي عيلا غيره: عليَّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر! وينشد: عليَّ نحت القوافي من مقاطعها ... وما عليَّ لهم أن تفهم البقرُ! وقال أبن شرف: وناطقٍ بصوابٍ ما عليه سوى ... ما قال إن أخطئوا ظناً وتأويلا لطيفة: ذكر العلامة محمد بن مرزوق في صدر شرح الجمل أنَّ العلامة أبا القاسم الشيرازي شارح لبن الحاجب الأصلي والعلامة الكاتبي شارح المحصل أرادا ذات مرة أن يحضرا مجلس أبي عبد الله الخنوجي بحيث يخفي مكانهما. فغيرا حالتهما وحضرا عنده وأرادا أبحاثا. فكان من ملح ما صار بينهما أنهما لم ينصفاه في بعض أبحاثه وادعيا عدم بيان قوله وجعلا يستعيدان كلامه بزعمهما. فأنشد لهما: عليَّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ! بفتح تاء " تفهم " مبنيا للفاعل. فقلا له: ضم التاء! يعني ليبني للمفعول. فقال: حينئذ يكون أحدكما شيرازيا والآخر كاتبيا! فقلا: نعم! فتناصفا. وقال أبو العلاء المعري في قصيدة: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر وهذا المعنى وقع لعلي بن جبلة قال: زرت أبا دلف في الجبل. فلما حللت الكرخ أظهر من بري وإكرامي أمرا مفرطا حتى تأخرت عنه تأخرا كثيرا. فوصل معقل بن عيسى فقال: يقول لك الأمير: انقطعت عني وأحسبك استقللت بري فلا يغضبنك ذلك فسأزيد فيه حتى ترضى! فقلت: والله ما قطعي عنه إلاّ إفراطه! وكتبت له:

هجرتك لو أهجرك من كفر نعمةٍ ... وهل يرجى نيلي الزيادة في الكفرِ! ولكنني لمّا أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكرِ فما لآن لا أتيك إلاّ مسلما ... أزورك في الشهرين يوما أو الشهرِ فإن زدتني برا تزيدني جفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشرِ فلما وصلت إليه قال: قاتله الله ما أشعره وأدق معانيه! فأجابني لوقته وكان حسن البديهة: ألا رُبَّ ضيفٍ طارقٍ بسطته ... وأنسته قبل الضيافة بالبشرِ أتاني يرجيني فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نيله ستري وجدت له فضلاً عليَّ بقصده ... إليَّ وبراً زاد فيه على برِ فزودته مالاً يقل بقاؤه ... وزودني مدحاً يدوم مدى الدهرِ وبعث إليَّ بها وبألف دينار مع وصيفة فقلت حينئذ: إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلفٍ ... ولت الدنيا على أثره ملكٌ تندى أنامله ... كانبلاج النوء عن مطره مستهل عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زهره جبلٌ عزت مناكبه ... أمنت عدنان في ثغره كل من في الأرض من عربٍ ... بين باديه ومحتضره مستعيرٌ منه مكرمةً ... يكتسبها مفتخره ويقال إنَّ البيت الثاني هو الذي أحفظ المأمون على أبن جبلة حتى سل لسانه من قفاه وقوله: وجدت له فضلا عليَّ. . " البيت ". أوّل من رأينا استعمل هذا المعنى في الشعر الحارث أبن عوف المري صاحب الحملات بين عبس وذبيان حيث يقول: كم من يدٍ لا أودي حق نعمتها ... عندي لمختبطٍ طار ومن منن

إذا جاء يسعى إلى رحلي لأسعفه ... أليس قد ظن بي خيراً ولم يرني؟ وقوله: فزودته مالاً يقل بقائه. . " البيت " هو معنى ما حكي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه قال لإحدى بنات هرم بن سنان المري: ما أعطى أبوك زهيرا إذا امتدحه؟ فقالت: أعطاه مالا وأثاثا أفناه الدهر. فقال أمير المؤمنين: لكن ما أعطاكم زهير لا يفنيه الدهر أو كلاما نحو هذا. وتقدم شيء منه وسيأتي. ومنها: حسنت نظم كلامٍ توصفين به ... ومنزلا بك معمورا من الخفر فالحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشَّعر ومنها: والخل كالماء يبدى لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدرِ ومنها: فلا يغرنك بشرٌ من سواه بدا ... وإن أنار فكم نورٍ بلا ثمر ومنها: وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر المرقدون بنجدٍ نار بالديةٍ ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر ومنها: فالعين يسلم منها ما رأت فنبت ... عنه وتلحق ما تهوى من الصور ومنها: هاجت نميرٌ فهاجت منكم ذا لبد ... والليث أفتك أفعالا من النمرِ هموا فأموا فلما شارفوا وقفوا ... كوقفة العير بين الورد والصدر ومنها: والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر ومنها:

والمرء ما لم تفد نفعا إقامته ... غيمٌ حمى الشمس لم يمطر ولم يسر ومنها: والكبر والحمد ضدان اتفاقهما ... مثل اتفاق فتاء السن والكبر يجني تزايد هذا من تناقص ذا ... والليل إن طال غال اليوم بالقصر خف الورى وأقرتكم حلومكم ... والجمر تعدم فيه خفة الشرر وقال أيضاً: جمال المجد أن يثنى عليه ... ولولا الشمس ما عرف النهار وللماء فضيلة كل حينٍ ... ولا سيما إذا اشتد الأوار ومنها: وليس يزيد في جري المذاكي ... ركابٌ فوقه ذهبٌ ممارُ ورُبَّ مطوقٍ بالتبر يكبو ... بفارسه وللنقع اعتكارُ وزندٍ عاطلٍ يحظى بمدحٍ ... ويحرمه الذي فيه سوارُ وقال إبراهيم بن نصر القاضي: جود الكريم إذا ما كان عن عدةٍ ... وقد تأخر من لم يسلم عن الكدر إنَّ السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعا إذا هي لم تمطر على الأثر وماطل الموعد مذمومٌو إن سمحت ... يداه من بعد طول المظل بالبدر يا دوحة الجود لا عتب على رجلٍ ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر! وقال إبراهيم الصولي: دنت باناسٍ عن تناء زيارةٌ ... وشط بليلى عن دنو مزارها وإنَّ مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها وقال أبن دارج القسطلي من قصيدة: ألم تعلمي أنَّ الثواء هو النوى ... وأنَّ بيوت العاجزين قبور وقال أبو نواس في الخصيب يمدحه في قصيدة: فما فاته جودٌ ولا حلَّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصيرُ وإني جديرٌ إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملتُ منك جديرُ

فإن تواني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عادرٌ وشكورُ وقال الصاحب إسماعيل بن عباد: رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابهتا فتشاكل الأمرُ فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ وقال أبو الفضل بن الحنزابة: من أحمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجرِ إنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العلي من الشجرِ وقال أبو نواس: تكثر ما استطعت من الخطايا ... فانك بالغٌ رباً غفورا ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيداً ملكاً كبيرا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا! وقال الطغراني لمّا ولد له مولود بعدما بلغ سبعا وخمسين من عمره: هذا الصغير الذي وافى على كبر ... أقر عيني ولكن زاد في فكري سبعٌ وخمسون لو مرت على حجرٍ ... لبان تأثيرها في صفحة الحجرِ وقال عروة بن اذينة: قالت وأبثتها سري فبحت به ... قد كنت عندي تحت الستر فاستتر! ألست تبصر من حولي؟ فقالت لها: ... غطي هواك وما ألقى على بصري! وهذا مثل مشهور عند الصوفية وأهل المحبة والمشاهدة والفناء رضي الله عنهم. يحكى أنَّ السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أسلافها مرت يوما بعروة هذا وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين فقالت له: أنت القائل: قالت وأبثتها سري. . " البيت "؟ فقال: نعم! فالتفتت إلى جوار لها كن معها فقالت: هنَّ هن حرائر إن كان خرج هذا عن قلب سليم قط! ومن ملح ما جرى بينها وبينه أيضاً إنّه مات لعروة أخ يقال له بكر فرثاه عروة بقوله: سرى همي وهو المرء يسري ... وغاب النجم إلاّ قيد فترِ

أرقب في المجرة لك نجمٍ ... تعرص أو على المجرات يجري لهم ما أراك له قريباً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر؟ فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن بكر هذا؟ فوصف لها. قالت: أهو ذلك الأسيد الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم! قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت! والأسيد تصغير أسد. ويحكى أنَّ بعض المغنين غنى بهذا الشعر عند الوليد بن يزيد بن عبد الله الملك الأموي في مجلس أنسه فقال: من يقول هذا؟ قيل: عروة بن أذينة. فقال: وأي عيش بعد بكر هذا العيش الذي نحن فيه؟ واله لقد حجز واسعاً. وقال عبد الله بن المعتز: فكان ما كان مما لست اذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر! وهذا مثل مشهور. وقبله قوله: سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من مطر فطالما نبهتني للصبوح بها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدامع نعارون بالسحر مزنرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلاً من الشعر كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يكسر جفنيه على حور لاحظته بالهوى حتى استعاد له ... طوعاً وأسلمني الميعاد بالنظر وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوفٍ ومن حذر فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلاً وأسحب أذيالي على الأثر ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحها ... مثل القلامة قد قصت من الظفر فكان ما كان. . " البيت " وقال عبد الله بن طاهر:

اغتفر زلتي لتحرز فضل ... الشكر مني ولا يفوتك أحري لا تكلني إلى التوسل بالعذر ... لعلي ألا أقوم بعذرِ! وقال أبو نواس في مدح أهل البيت: مطهرون نقياتٌ جيوبهم ... تجري الصلاة عليهم إنما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخرُ الله لمّا برا خلقاً فأتفنهم ... صفاكم واصطفاكم أيها البشرُ فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاء به السورُ وقال القاضي الجرجاني: وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى! ... وما علموا أنَّ الخضوع هو الفقرُ وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهرُ وإن قيل هذا أليس أبصرت دونه ... مواقف خيرٌ من وقفي بها العسرُ وقال الفضل بن الربيع: عسى وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حالٍ والزمان عثورُ فتقضي لباناتٌ وتشفى حسائفٌ ... وتحدث من بعد الأمور أمرُ! وقال الأمير قابوس: قل للذي بصروف الدهر عيرنا: ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطرُ؟ أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... وتستقر بأقصى قعره الدررُ؟ فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضررُ ففي السماء بجوم مالها عددٌ ... وليس يكسف إلاّ الشمس والقمرُ وحدثني بعض الأصحاب أنَّ ملك مراكش كتب إلى المعتمد بن عباد حين اعتقله بمدينة أغمات بقول الآخر: حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ وساعدتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ فأجابه المعتمد من سجنه: من ذا الذي بصروف الدهر عيرنا؟ ... لا ينكر الدهر إلاّ من له القدرُ

وفي البساتين أفانٌ منوعةٌ ... وليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ وفي السماء نجومٌ مالها عددٌ ... وليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ والله أعلم بالمخترع! وقال الآخر وينسب لعثمان رضي الله عنه: غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقرُ وما عسرةٌ فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنةٍ إلاّ ويتبعها اليسرُ وقال أيضاً: تفنى اللذات ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعرُ تبقى عواقب سوءٍ من معقبها ... لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ وقال أبن رفاعة وكان عبد الملك بن مروان لمّا قتل المصعب بن الزبير ودخل الكوفة فصعد المنبر وقال: أيها الناس إنَّ الحرب صعبة وإنَّ السلم أمن ومسرة: فاستقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء الموجبة للردى وتجنبوا فراق جماعة المسلمين ولا تكلفونا أفعال المهاجرين الأولين وأنتم لم تعملوا عملهم ولم تسلكوا سبيلهم ولا اظنكو تزدادون بعد الموعظة إلاّ صعوبة ولن تزداد وابعد الأعذار إليكم إلاّ عقوبة. فمن عاد عدنا وإن زاد زدنا وإنَّا معكم كما قال أبو قيس بن رفاعة: من يصل ناري بلا ذنبٍ ولا ترةٍ ... يصل بنار كريمٍ غير غدارِ أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهيٍ وإنذارِ فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزياً ظاهر العارِ لا ترجعن أحاديثاً ملفقةً ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري من كان في نفسها حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهنٌ بإضمارِ أقيم عوجته إن كان ذا عوجٍ ... كما يقوم قدح النبعة الباري وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ... عندي وإني لدراكٌ بأوتارِ وقال الآخر:

رأيتك إن أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أعجبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ وهذا مثل مشهور. وعن الأصمعي قال: كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: جاءت! جاءت! فنظر فإذا جارية وردت الماء ما رأى الراؤون مثلها. فلما رأت إلحاح الناس بالنظر إليها أرسلت برقعا كأنه غمامة غطت شمسا. فقالت لها: تمنعين الناس من النظر إلى هذا الوجه الحسن؟ فقالت: رايتك إن أرسلت طرفك. . " البيتين " فنظر إليها أعرابي فقال: أنا والله ممن ولى صبره! ثم أنشد: أوحشية العينين أين لك الأهل؟ ... أب الحزن حلوا أم محلهم السهلُ؟ وأية أرض أخرجتك فإنني ... أراك من الفردوس أنسأك الأصلُ أم البدر أنشأك المنير فإن يكن ... لبدر الدجى نسلٌ فأنت له نسلُ حسنت فأما الوجه منك فمشرقٌ ... وعينان كحلاوان زينهما كحلُ قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحلُ فإنَّ علامات الجنان مبنيةٌ ... عليك وإنَّ الشك يشبهه الشكلُ وقال: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضعٍ تمرا إلى أرض خيبرا وقال يحيى بن طالب الحنفي: تعزيت عنها كارها فتركتها ... وكان فريقها أمرَّ من الصبرِ وكان يحيى هذا سخيا جوادا. ثم إنّه ركبه دين فادح فجلا عن اليمامة إلى بغداد يسأل السلطان في قضاء دينه. فأراد رجل من أهل اليمامة الشخوص إليها من بغداد فشيعه يحيى. فلما جلس الرجل في الزورق ذرفت عينا يحيى فأنشأ يقول: أحقاً عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرا يوماً وأعلامها الخضر؟ إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبك للذكرِ أقول لموسى والدموع كأنها ... جداول ماء في مساربها تجري:

ألا هل لشيخٍ وأبن ستين حجةً ... بكى طرباً نحو اليمامة من عذر؟ كأن فؤادي كلما مر راكبٌ ... جناح غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ يزهدني في كل خيرٍ صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكرِ فيا حزناً ماذا أجن من الهوى ... ومن مضمر الشوق الدخيل إلى حجر؟ تعزيت عنها كارها. . " البيت " وحجر بالفتح قصبة اليمامة. ثم إنَّ الرشيد غني بشعر ليحيى هذا وهو: أيا أثلات القاع من بطن توضحٍ ... حنيني إلى أطلالكن ويلُ ويا أثلات القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكن مقيلُ؟ ويا أثلات القاع قلبي موكلٌ ... بكن وجدوى نيلكن قليلُ ألا هل إلى شم الخزامى ونظرةٍ ... إلى قرقرا قبل الممات سبيلُ؟ فأشرب من ماء الحجيلاء شربةً ... يداوي بها قبل الممات عليلُ أحدث عنك النفس أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤادي دخيلُ أريد هبوطا نحوكم فيردني ... إذا رمته دينٌ عليَّ ثقيلُ فقال الرشيد: يقضى دينه! فلتمس فإذا هو مات قبل ذلك بشهر. وقالت جارية تخاطب نفسها: إذا لم يكن للأمر عند حيلةٌ ... ولم يجدي بداً من الصبر فاصبري! وكانت هذه الجارية لرجل من قيس عيلان فكان بها كلفا. ثم أصابته حاجة وجهد فقالت له: لو بعتني فلو نلت طائلا عدت به عليك! فأخرجها للبيع وعرضت على أبن معمر المذحجي فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم. فلما مضت لتدخل القصر ودعت مولاها وأنشدته: هنيئاً لك المال الذي قد أصبته ... ولم يبق في كفي إلاّ تفكري أقول لنفسي وهي في كرب عيشةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري! إذا لم يكن للأمر عندك. . " البيت " فأجابها مولاها:

فلولا نبو الدهر عني لم يكن ... لفرقتنا شيء سوى الموت فاعذري أؤوب بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكرِ؟ عليك سلامٌ لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلاّ أن يشاء أبن معمرِ فقال له: خذ بيدها فهي لك وثمنها! وقال الخليل بن أحمد: إن منت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيبت عن بصري العين تفقد من تهوى وتبصره ... وناظر القرب لا يخلو من النظر وهو مثل مشهور للصوفية: أما والذي لو شاء لم يخلف الهوى ... لئن غبت عن عيني لمّا غبت عن قلبي يوهمنيك الشوق حتى كأنما ... أناجيك من قربٍ وإن لم يكن قربي وقال الآخر: أبلغ أخانا تولى الله صحبته ... أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه وإنَّ قلبي موصولٌ برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه وقال الآخر: إذا اشتاقت العينان منك بنظرةٍ ... تمثلت لي في القلب من كل جانبِ وحكي عن الإمام الشبلي رضي الله عنه أنه رأى يوما مجنونا والصبيان خلفة يرمونه بالحجارة وقد أدموا وجهه وشجوا رأسه. فأخذ الشبلي يزجرهم عنه فقالوا له: يا شيخ دعنا نقتله فإنه كافر! فقال لهم: وما الذي بان لكم من كفره؟ فقالوا: يزعم أنه يرى ربه ويحادثه. فقال: أمسكوا عليَّ قليلا! فتقدم الشبلي فوجده يتحدث ويضحك ويقول في أثناء ذلك: هذا جميل منك تسلط عليَّ الصبيان ليشغلوني عنك! فقال: يا شبلي وما الذي قالوا؟ قال: تقول إنك ترى ربك وتحدثه. فصاح صيحة عظيمة ثم قال: يا شبلي نعم وحق من تيمني بحبه وهيمني بين بعده وقربه! لو احتجب عني طرفة عين لتقطعت من البين. ثم ولى وهو يقول: لئن غبت عن عيني وشط بك النوى ... فأنت بقلبي حاضرٌ وقريبُ

أراك بعين الوهم في مضمر الحشا ... وليس على عين الفؤاد رقيبُ خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيبُ؟ وقال سويد بن الصامت: ألا ربما تدعوا صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... وبالغيب مطرورٌ على ثغرة النحر قوله " مطرور " أي محدود تقول: طررت السكين. والثغرة بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة نقرة النحر بين الترقوتين. غيره: كم من أخً لك لست نكره ... ما دمت من دنياك في سترِ متصنعٍ لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشرِ يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي ... الغدر مجتهداً وذا الغدرِ فإذا عدا والدهر ذو غيرٍ ... دهر عليك عدا مع الدهرِ فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري وعليك من حاله واحدٌ ... في العسر إما كنت واليسرِ لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقبان بالصقرِ غيره: اخط مع الهر إذا ما خطا ... واجر مع الهر كما يجري من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها آخر الهرِ ليس لما ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ ويروى: حيلةٌ ما ليست حيلةٌ ... حسن عزاء النفس والصبرِ وقال المخزومي: العيب في الجاهل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور كفوفةِ الظفر تخفي من حقارتها ... ومثلها في سواد العين مشهور

ونحوه قول إبراهيم بن المهدي: لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب بالرجل الكبير كبير لحللت منزله الذي يحتله ... ولكان منزلنا هو المهجورُ وقال أبو سليمان الخطابي: أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرورُ وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزورُ ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الجيش أم ركب الأميرُ غيره: لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البرِ وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحرِ وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبرِ لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقرِ اللخم بالخاء المعجمة حيوان بحري يصعب المنال. غيره: خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزة ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذورِ إن لم تنل في مقام ما تحاوله ... فأبل عذراً بإدلاج وتهجيرِ لن يبلغ المرء بالإحجام حاجته ... حتى يباشرها منه بتغريرِ حتى يواصل في أنحاء مطلبها ... سهلا بحزن وأنجاداً بتغويرِ غيره: لعمرك ما الزية فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعيرُ ولكن الرزية موت نفس ... يموت بموتها بشر كثيرُ ونحوه قول الآخر في قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه: فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما غيره:

ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر وسيأتي تتميم هذا الشعر وشرح قصته في الكاف إن شاء الله تعالى. وقال شيخ من الأعراب نظر إلى امرأته تتصنع وهي عجوز: عجوزٌ ترجى أن يكون فتيةً ... وقد لحب الجنبان واحد ودب الظهرُ تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟ وزيد فيه: وما غرني إلاّ خضابٌ بكفها ... ونجلٌ بعينيها وأثوابها الطهرُ وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقها كله ذلك الشهرُ! فقالت امرأته مجيبة: ألم تر أنَّ الناب تحلب علبةً ... ويترك ثلبٌ لاضرابٌ ولا ظهرُ؟ ثم استغاثت بالنساء واستغاث بالرجال فإذا هم خلوف فاجتمع عليه النساء فضربنه. قوله: لحب الجنبان أي قل لحمهما يقال لحب الرجل بالكسر إذا أنحله الكبر. قوله: سلعة بيتها يريد السويق والدقيق ونحوهما والعرب تقول لكل عرض سلعة والناب: الناقة المسنة. والعلبة بالضم: القدح العظيم من الخشب أو من جلود الإبل يحلب فيه والثلب بالثاء المثلثة على مثال قرد: الجمل إذا سقطت أسنانه هرما وتناثر شعر ذنبه تقول: إنَّ الأنثى فيها نفع وإن أسنت بخلاف الذكر إذا أسن. وقال بعض الأدباء: وأتم الأشياء حسناً ونوراً ... بكر شكر زفت إلى صهر بر ما قرآن السعدين في الحوت أبهى ... منظراً من قرآن بر وشكر! وقال سعد بن ناشب: تفدني فيما ترى من شراستي ... وشدة نفسي أم سعدٍ وما تدري فقلت لها: إنَّ الكريم وإن حلا ... ليلفى على حالٍ أمر من الصبرِ وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعرِ وما بي على من لأنَّ لي من فظاظةٍ ... ولكنني فظ أبي على القسرِ

أقيم صغى ذي الميل حتى أرده ... وأخطمه حتى يعود إلى القدرِ فإن تعذليني تعذلي بي مرزءاً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسرِ إذا هم ألقى بين عينيه همه ... وصمم تصميم الريجي ذي الأثرِ قوله: كريم نثا الإعسار بتقديم النون: ذكر الرجل بجميل أو قبيح فهو مشترك. يقول إنه يثني عليه في الإعسار بخير وكرم وعفة والأثر بفتح الهمزة وكسرها: فرند السيف وهو رونقه وماؤه. وقال سالم بن وابصة: أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأنَّ به عن كل فاحشةٍ وقرا سليم دواعي الصدر لا باسطاً آذى ... ولا مانعاً خيراً ولا ناطقاً هجرا إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا غني النفس ما يكفيك من سد خلةٍ ... وإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا وقال كثير وكان قد دخل على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال له: أأنت كثير؟ قال: نعم! قال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! قال: يا أمير المؤمنين كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء عالي السناء. ثم أنشأ يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد عصورُ ويعجبك الطرير إذا تراه ... فيخيل ظنك الرجل الطريرُ بغاث الطير أطولها رقاباً ... ولم تطل البزاة ولا الصقورُ خشاش الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزورُ ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ... وأصرمها اللواتي لا تزيرُ وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ ينوخ ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرفٌ لديه ولا نكيرُ يقوده الصبي بكل أرضٍ ... وينحه على الترب الصغيرُ فما عظم الرجال لهم بزينٍ ... ولكن زينتهم كرمٌ وخيرُ فقال عبد الملك: لله دره ما أفصح لسانه! وأضبط جنانه! وأطول عنانه! والله إني لأظنه كما وصف نفسه! قوله: أسدٌ هصور الهصر بالصاد المهملة: الكسر

والجذب. والمقلات: التي لا يعيش لها الأولاد. والنزور: القليلة الولد كما مر. والطرير من الرجال: ذو المنظر والرواء الحسن. والخير بالكسر: الكرم والشرف والأصل ونسب هذا الشعر أيضاً لغير كثير وهو في الحماسة. وقال الزبرقان من بدر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري يحكى أنَّ عمر بن أبي ربيعة بينما هو يطوف إذ بصر بامرأة في الطواف فأعجبته فكلمها فنفرت وقالت: إليك عني فإني في حرم الله وفي موضع عظيم الحرمة! فلما ألح عليها وشغلها عن الطواف ذهبت إلى بعض محارمها فقالت له: احضر معي تريني المناسك! فجاء معها فلما رآه عمر تباعد عنها فتمثلت حينئذ بهذا البيت. فبلغ المنصور خبرها فقال: وددت لو لم تبق بنت في خدرها إلاّ سمعته. وقال الحماسي: ومن أنتم آنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصير؟ فأنتم إلى جئتم مع البقل والدبا ... فطار وهذا شخصكم غير طائرِ الدبا بالدال المهملة وبالباء الموحدة المفتوحتين: أصغر الجرد والنمل الواحد دباة. قال الراجز: كأنَّ خرق قرصها المعقوب ... على دباة أو على يعسوب وقال الآخر: يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكيرُ؟ حتى متى أنت منها مدنف ولهٌ ... لا يستبيك سواها البدن الحور؟ تأتي أمور فما تدري أعاجلها ... خيرٌ لنفسك أم ما فيه تأخيرُ فاستقدر الله خيراً وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصيرُ

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابة في الحي مسرور حتى كأن لم يكن إلاّ تذكره ... والدهر أينما حالٍ دهاريرُ فذاك آخر عمر من أخيك إذا ... ما ضمنت شلوه اللحد الحناشيرُ وقال الآخر: نصبرت مغلوباً وإني لصابرٌ ... كما صبر الضمآن في البلد القفرُ وقبله: يا عمرو لم اصبر ولي فيك حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبرِ! غيره: وإنَّ سعيد الجد من بات ليلةً ... واصبح لم يشوب ببعض الكبائر فمولاك لا يهضم لديك وإنّما ... هضيمة مولى المرء جدع المناخرِ وجارك لا يذممك الله تعالى مسبةً ... على المرء في الأدنين ذم المجاورِ فإن قلت فاعلم ما تقول فإنه ... إلى سامع ممن تعادي وآثرِ فإنك لا تستطيع رد مقالةٍ ... شأتك وزلت عن فكاهة فاغرِ كما ليس رامٍ بعد إرسال سهمه ... على رده قبل الوقوع بقادرِ إذا أنت عاديت الرجال فلا تزل ... على حذر لا خير في غير حاذرِ ومن لا يصانع في أمور كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بحافرِ ترى المرء مخلوقا وللعين حظها ... وليس بإحناء الأمور بحابرِ فذلك كماء البحر لست مسيغه ... ويعجب منه ساجياً كل ناظرِ وتلقى الأصيل الفاضل الراي جسمه ... إذا ما مشى في القوم ليس بقاهرِ كذلك جفن رث عن طول مكثه ... على حدّثني مفترق الغرارين باترِ وعاش بعينيه لمّا لا يناله ... كساع برجليه لأدراك طائرِ ومستنزل حرباع غير ثروةٍ ... كمقتحم في البحر ليس بماهرِ وملتمس وداً لمن لا يوده ... كمعتذر يوماً إلى غير عاذرِ

ومتخذ عذراً فعاد ملالة ... كوالي اليتامى ما لهم غير وافرِ فسارع إذا سافرت في الحمد واعلمن ... بأن ثناء الركب حظ المسافرِ وطاوعهم فيما أرادوا وقل لهم: ... فداً للذي رمتم كلال الأباعرِ وإن كنت ذا حظ من المال فالتمس ... به الأجر وأرفع ذكر أهل المقابرِ فإني رأيت المال يفنى وذكره ... كظل يقيك حر الهواجرِ وقال عروة بن المرد المعروف بعروة الصعاليك العبسي: لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزرِ ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفرِ يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيمضي طليحاً كالبعير المحسرِ ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنورِ مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهرِ وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتظرِ فذلك إن يلق المنية يلقاها ... حميداً وإن يستغن يوما فأجدرِ وقال الشريف الرضي: أودى وما أودت مناقبه ... ومن الرجال معمر الذكرِ غيره: طربت إلى الأصيبية الصغار ... وهاجك منهم قرب المزارِ وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديارِ وقال كثير: وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغيرُ؟ تغير جسمي والخليقة مثلما ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبرُ

دخلت عزة هذه على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال: أنت عزة كثير؟ قالت: أنا أم بكر الضمرية. فقال لها: أتروين قول كثير: وقد زعمت. . " البيتين "؟ فقالت: لا اروي هذا ولكني أروي قوله: صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ... فمن مل منها ذلك الوصل ملتِ وهذا البيت من تائية كثير المشهورة التي مطلعها: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلتِ! وقال الآخر: ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ... تزور عني وتطوي دوني الحجرُ قد كنت فتاح أبوابٍ مغلقةٍ ... ذب الرياد إذا ما خولس النظرُ فقد جعلت أرى الشخصين أربعة ... والواحد اثنين مما بورك البصرُ وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر غيره: خبروها بأنني قد تزوجت ... فظلت تكاتم الغيظ سرا وبعده: ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً: ليته تزوج عشرا وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا ما لقلبي كأنه ليس مني ... وعظامي أخال فيهن فترا من حديث نكى إلي فظيعٍ ... خلت في القلب من تلظيه جمرا؟ غيره: شربنا من الرازي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والنحرُ فلما انجلت شمس النهار رأينا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقرُ! ومثله قول الأعرابي: ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لمّا خرجت أجر فضل المئزرِ قابوس أو عمرو بن هند ما تلا ... يجبني له ما دون دارة قيصرِ

وقال لقيط بن زرارة: شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدانِ أمشي في بني عدس بن بدر ... رخي البال منطلق اللسانِ غيره: إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... من شيب رأسي وما بالشيب من عارِ ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... ولا سعادته يوما بإكثارِ إنَّ الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النارِ أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العارِ وخير دنيا تنسي شر آخرةٍ ... وسوف ينبئني الجبار أخباري لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في أبن العم أظافري إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري قوله: لا أقرب البيت. . الخ أي لا آتي لرؤيته كقول الآخر: ولست بصادر من بيت جارٍ ... كفعل الغير غمره الورود يقال: تغمره الشارب إذا لم يرو فهو يلتفت وراءه وكذا المريب وتقدم هذا قوله: ولا أكسر في أبن العم أظفاري أي لا أغتابه كقول الحطيئة: ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ وقال جرير: فلا تبوسوا بيني وبينكم الثرى ... فإنَّ الذي بيني وبينكم مثر وقال عبد الحميد بن يحيى الكاتب: أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره؟ وسيأتي سبب هذا الشعر في الأعيان إن شاء الله تعالى. غيره: إذا كنت في نجد وطيب نعمة ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر وإن كنت فيهم زدت شوقاً ولوزعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري لقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري؟

غيره: أوليتني نعيما أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الأمور بأسها فلأشكرنك ما حييت وإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر وإن برقت من فخيل الصواب ... عمياء لا تجتليها الفكر مقنعةٌ بغروب الأمر ... وضعت عليها ضحيح الفقر لساناً كشقشقة الأرحبي ... أو كالحسام اليماني الذكر وقلباً إذا استنطقته الغيوب ... ابر عليها بود درر ولست بإمعةٍ في الرجال ... يسائل هذا وذا ما الخبر ولكنني مذرن الأصغرين ... يبين مع ما مضى ما غبر يروى إنّه سئل عن نازلة فدخل مبادرا ثم خرج في حداء ورداء وهو متبسم. فقيل له: يا أمير المؤمنين إنك كنت إذا سئلت عن المسألة تكون فيها كالسكة المحماة. قال: إني كنت حاقنا ولا رأي لحاقن! ثم أنشأ يقول: إذا المشكلات تصدين. . " الأبيات ". وقال أبو العباس التطيلي: والناس كالناس إلاّ أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يع التفضيل بالثمر وقال التهامي في مثله: ومن الرجال مجاهلٌ ومعالم ... ومن النجوم غوامض ودراري والناس مشتبهون في إرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار ولربما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار وقال القاضي الجليس المصري: ومن عجب أنَّ السيوف لديهم ... تحيض دماء والسيوف ذكور وأعجب من ذا أنها بأكفالهم ... تؤجج ناراً والكف بجور وقال أبن المعتز في التعزية:

لم تمت أنت مات من لم ... يبق للمجد والمكارم ذكرا لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟ وقال الآخر: وأصبر حتى يحسب الناس إنني ... بي الهجر لا والله ما بي لكم هجر! ولكن أروض النفس أخبر هل لها ... على فرقة من بعد أحبابها صبر وقال الآخر: لا غرو أنَّ يصلى بهجركم ... ناراً تؤججها يد التذكار قبلي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار وقال أبن الخطيب: بلد يحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره وكأنما واديه معصم فضة ... ومن الجسور المحكمات سواره وقال أبو الربيع: فتح الشقاق جراحها ومغنمها ... وشي الربيع، وقتلاها من الثمر لأجل هذا إذا هبت طلائه ... تدرع النهر واهتزت قنى الشجر وقال القاضي الشريف: واحور وسنان الجفون مرابط ... سبى حسنه لب الحبيب وصبره حمى ثغره عني بسيف لحاظه ... ولا غرو أنَّ يحمي المرابط ثغره! وقال إبراهيم أبن المهدي: إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر فلم يعلم الواشون ما دار بيننا ... وقد قضيت حاجتنا بالضمائر وقال الخوارزمي: عليك بإظهار التجلد للعدا ... ولا تظهرن منك الذبول فتحقرا! ألست ترى الريحان يشع يانعا ... ويطرح في الميضات مهما تغيرا؟ وقال الآخر: تواضع إذا نلت المعالي علا ... وتكتسب الشكر الجميل من الورى

فلن يشكر الغيث الربيع محله ... قرين الثريا أو يعود إلى الثرى وقال صالح بن شرف: الدهر لا يبقى على حالةٍ ... لكنه يقبل أو يدبر فإنَّ تلقاك بمكروهه ... فأصبر فإنَّ الدهر لا يصبر! وقال الرصافي: صون الفتى وجهه أوقى لهمته ... والرزق جارٍ على حد ومقدار قنعت، وامتد مالي فالسماء يدي ... وبدرها درهمي والشمس ديناري وقال أبن طباطبا العلوي: قالت: أراك خضبت الشيب، قلت لها: ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري فاستضحكت ثم قالت من تعجبها: ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر! وقال الآخر: إنَّ الليالي الأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأغمار فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار وقال الآخر: النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري والمرء بينهما ما لم يكن ورعا ... مقلب القلب بين الهم والنار وقال عبد الله بن طاهر: إلى كم يكون الهجر في كل ساعةٍ ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا! رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية: ... بتفريق ذات البين، فانتظر الدهرا! وقال قيس بن الذريح: لو إنَّ امرءاً أخفى الهوى عن ضميره ... لمت ولم يشعر بذاك ضمير ولكن سألقى الله والقلب لم يبح ... بسرك والمستخبرون كثير! وقال أبن خفاجة: أرى الناس يولون الغني كرامةً ... وإنَّ لم يكن أهلا لرفعة مقدار ويولون عن وجه الفقير وجوههم ... وإنَّ كان أهلا أم يلاقى باكبار بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلاّ حديث أبن دينار!

وقال أبن معروف: أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة فلربما أنقلب الصديق ... فكان أعلم بالضمرة! وقال البستي: إذا حيوان كان طعمة ضده ... توقاه كالفأر الذي يحذر الهرا ولا شك أنَّ المرء دهره ... فما باله يا ويحه يا من الدهرا؟ وقال الآخر: إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار! لطيفة: حكي عن الجاحظ قال: عبر يوما على معلم الكتاب، فرأيت هيئة حسنة. وقام إلي وأجلسني معه، ففاتحته القرآن هو فيه ماهر. ففاتحته النحو فوجدته ماهرا، ثم في أشعار العرب واللغة كاملا في كل ما يراد منه، فقلت: قوى والله هذا عزمي الكتاب مغلقا. فسألت عنه فقيل: مات له ميت. فسرت إليه لأعزيه، فدققت الباب عليه، فخرجت جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك. فقالت: هو جالس وحده في العزا، ما يعطي الطريق لأحد. فقلت: قولي له: صديقك فلان. فدخلت وخرجت وقالت: ادخل! فدخلت وقلت له: أعظم الله أجرك! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وهذا سبيل لابد منه، فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الميت ولدك؟ قال: لا. قلت: والدك؟ قال: لا. قلت: أخوك؟ قال: لا. قلت: فمن؟ قال: صفيتي. فقلت في نفسي: هذا أول المناحس! ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها. فقال لي وكأني رأيتها؟ فقلت: وهذه منحسة ثانية! ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مفنيا يقول: يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... دري علي فؤادي أينما كانا! فقلت في نفسي: لولا إنَّ أم عمرو هذا ما في الدنيا مثلها، ما قيل فيها هذا الشعر! فعلق قلبي بها. فلما كان بعد أيام، مر بي ذلك الرجل وهو يقول:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار! فعلمت إنّها ماتت. فحزنت ليها وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام. قال الجاحظ: فعادت عزيمتي وقويت على إبقاء الدفتر بأم عمرو. وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا ولا خير في رأي إذا لم تكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا يروى إنّه لمّا انشد قصيدته هذه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ هذا الموضع قال له صلى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك! فعاش مائة وعشرين سنة، لم تنفض له ثنية ببركة عليه الصلاة والسلام. وقال المكيالي: إنَّ كنت تأنس بالحبيب وقربه ... فأصبر على حكم الرقيب وداره! إنَّ الرقيب إذا صبرت لذله ... بواك في ربع الحبيب وداره وقال التغري رحمه الله: من لي بزوره أحمد الهادي الذي ... من زاره غفرت له أوزاره؟ وأحط رحلي في جوار محمّد ... لمقام عز لا يضام جواره حوم عظيم عظمت حرامته ... واختال في خلع الرضى زواره وقال أيضاً: يا خير خلق الله دعوة نازح ... بانت حبته وشط مزاره وتقسمته يد النوى فبمغرب ... أوطانه وبمشرق أوطاره وقال: لأولي الحجي رفع الحجاب فشاهدوا ... قمر الحجاز تلألأت أنواره واستنقشوا أرج النسيم فساقهم ... شوقا لنجد شيحه وعراره وقال آخر يهجو قاضي بلده: لا مثل قاضي رأيناه ببلدتنا ... في الجهل منه وفي الجور الورى حاورا فهو من النفر الأدين منزلةٍ ... من حاكم منه وفي الجور الورى حاورا مسذوم بذال معجمة بلد بحمص، أو هو قرية قوم لوط. وقاضي سذوم المشهور هو

الذي زعموا إنّه شكا إليه رجل مر بقوم ومعه امرأته على حمار. فضربوا الحمار وقطعوا ذنبه، فتخبط وطرح المرأة فأسقطت جنينا. فقال له: ادفع إليهم امرأتك يطؤونها حتى تحل ويردونها إليك: وأعطهم الحمار يستخدمونه حتى ينبت ذنبه ويردونه إليك! فيقال إنَّ الرجل دعا عليهم، فسخف بهم ولم يبق من أهل سذوم أحد. وقال محي الدين الاسكندراني: ومقعد أنَّ الرئاسة في الكبر ... فأصبح ممقوتا به وهو لا يدري يجر ذيول العجب طالب رفعة ... ألا فأعجبوا من طالب الرفع بالجر! وقال العرجي العثماني: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر! ويحكى إنّه كان فتى يجاور الأمام أبا حنيفة، رضي الله عنه، وكان يشرب كل ليلة، فإذا دب فيه الشراب جعل يغني. فكان أبو حنيفة يقوم من الليل ويسهر على النظر ويانس بغنائه. وكان أكثر ما يغني بقول العرجي هذا: أضاعوني وأي فتى أضاعوا. . الخ. وبعده: كأني لم اكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آب عمر ثم ن الفتى خرج ليلة فأخذ العسس وحبس، فقد أبو حنيفة صوته في تلك الليلة. فلما أصبح سأل عنه فقيل إنّه محبوس، فدعا بدابته وركب إلى الأمير عيسى بن موسى. فلما استأذن عليه قال: أئذنوا له وأدخلوه راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ بساطي! ففعلوا، فوسع له الأمير في مجلسه وأجلسه معه وقال: ما حاجتك؟ قال: جار لي أخذه العسس، فأمر بتخليته! قال: نعم، وكل من أخذ معه في تلك الليلة! فأطلقوا جميعا، وقيل إنّه بعد ثلاث ليال من حبسه. فقال الأمير: وكل من أخذ من تلك الليلة إلى وقتنا. وأطلق الجميع. فلما خرجوا دعا أبو حنيفة بالفتى فقال له: ألست كنت تغني أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فهل أضعناك؟ قال: لا والله! بل حفظت وز رعيت جزاك الله خيرا، وعلي عهد الله ألا اشرب الخمر أبداً! وتاب إلى الله تعالى. وقال إسحاق الموصلي:

لاح بالمفرق منك القتير ... وذوى غصن الشباب النضير هزئت أسماء مني وقالت: ... أنت يا أبن المصلي كبير! ورأت شيبا علاني فأنت ... وأبن ستين بشيب جدير إنَّ تري شيباً علاني فإنني ... مع ذاك الشيب حلو مزير قد يفل السيف وهو جراز ... ويصول الليث وهو عقير وقوله: حلو مزير، المزير: المعظم المكرم، وقيل الظريف؛ والسيف الجراز: القاطع. وقال الربيع بن ضبع الفزاري: فارقنا قبل أنَّ نارقه ... لمّا قضى من جماعنا وطرا والضمير للشباب. وقبله: أقفر من مية الحديب إلى ... الرحبين إلاّ الظباء والبقرا؟ كأنها درة منعمة ... من نسوة كن قبلها درراً أصبح مني الشباب مبتكرا ... إنَّ ينأ عني فقد ثوى عصرا وبعده: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إنَّ نفرا والذيب أخشاه إنَّ مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدركت عمري ومولدي حجرا أبا امرئ القيس قد سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا وقال أعرابي من ضبة، قدم البصرة وخطب امرأة فاشترطوا عليه الصداق: خطبت فقالوا: هات عشرين بكرة ... ودرعا وجلبابا فهذا هو المهر وثوبين مرويين في كل شتوةٍ ... فقلت: الزنى خير من الحرب القسر! وقال خنافر بن التوأم الحميري: وكان مضلي من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا! وقصته في إسلامه مشهورة في السير، فلا نطيل بسردها.

غيره: إني رأيتك كالورقاء يستوحشها ... قرب الأليف إذا نحرا غيره: فإنَّ تبك للبرق الذي هيج الهوى ... أعنك وإنَّ تصبر فلست بصابر وقبله: سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر أمين فادى الله ركبا إليهم ... بخير ووقاهم حمام المقادر كأني طريف العين يوم تطاولت ... بنا الرمل سلاف القلاص الضوافر حذار على القلب الذي لا يضره ... احاذر وشك البين أم لم يحاذر أقول لقمقام بن زيد: أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر؟ فإنَّ تبك. . " البيت " غيره: وما تعرف الأعراب مشيا بأرضها ... فكيف ببيت من رخام ومرمر؟ وهذا القائل أعرابي دخل البصرة على أبن عم له. فلما كان يوم الجمعة رآه البصري أشعث، فقال له: إنَّ الناس يتطهرون للجمعة ويتنظفون ويلبسون أحسن الملابس، فتعال ادخلك الحمام لتتنظف من شظف البادية وتتطهر للصلاة! فدخل معه الحمام، فعندما وطئ الأعرابي فرش أوّل بين الحمام لم يحشن المشي عليها لملاستها، فزلق وسقط وصدف حرف مدخل البيت وشجه الحرف في وجهه شجة منكرة، فخرج مذعور ودمه يسيل وهو ينشد: وقالوا: تطهر إنّه يوم جمعة! ... فأبت من الحمام غير مطهر تزودت منه شجة فوق حاجبي ... بغير جهاد بئس ما كان مجتري! يقول لي الأعراب حين رأينني: ... به لا بظبي بالصريمة أعفر وما تعرف الأعراب. . " البيت " غيره: تمنع من شميم عرار نجد ... فما بعد العيشة من عرار! وقبله:

أقول لصاحبي والعيس تحذى ... بنابين المنيفة فالضمار وبعده: ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضه بعد القطار وهلك إذ يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهن ولا سرار وإنّما نسوق مثل هذا لأنه ما من موضع أو أمر إلاّ ولك إنَّ تعتبره لنفسك نجدا، وما من طيب بل وما من خير إلاّ ولك أنَّ تعتبره عراراً، وتعتبر اغتنامه شميما، فتضرب هذا في انتهاز الفرصة من الشيء قبل فواته. وكثير ما نورد مثل هذا أو أغمض منه في هذا الكتاب، والذكي السديد يفقهه، والغبي البليد ينجهه. وقال أبو صخر الهذلي: إلاّ أيّها الركب النخبون هل لكم ... بساكن أجزاع الحمى لعدنا خبر؟ وقبله: لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بذات البين آياتها سطر كأنهما ملآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر وقفت برسميها فعي جوابها فقلت وعيني دمعها سرب همر: ألا أيّها الركب. . " البيت " فقالوا طوينا ذاك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر وفي النوادر لأبي على عن أبي العباس: قال عبد الله بن شبيب: حدثني أم المغوار الباهلية قالت: كنت بفناء بيتي في السحر، فمر بنا ركب، فتمثلت بهذا البيت: إلاّ أيّها الركب. . " البيت "، فأجابني غلام من صدر راحته: فقالوا: طوينا ذلك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر خليلي هل يستخبر المرث والغضا ... وطلح الكدى من بطن مران السدر؟ وقال المعتمد بن عباد، وقد رأى قمرية تنوح بين يديها وكر فيه طائرتان يترنمن: بكت أنَّ رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر

ناحت وباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفا بيوم به سر فمالي لا أبكي أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر! بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر وقال أيضا يخاطب نفسه من أبيات مشهورة: قد كان إنَّ تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهيا ومأموراً من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بأحلام مغروراً وقال الراضي بالله لأبنه يخاطبه: لا يكرثنك خطب الحادث الجاري ... فما عليك بذاك الخطب من عار ماذا على ضيغم أمضى عزيمته ... إنَّ خانه حد أنياب وأظفار؟ لئن أتوك فمن جبن ومن خور ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري وقال الوزير أبو محمد بن عبدون يرثي بيني المظفر مشهورة: ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر؟ كم دوله وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك بالخبر! هوت بدار وفلت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأيام ذا أثر واسترجعت من بني ساسن ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر وأتبعت أختها طسما وعاد على ... عادٍ وجرهم منها ناقص المرر وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر ومزقت سبئا في كل قاصية ... فما التقى رائح منها بمبتكر وأنفذ في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر ولم ثرد على الضليل صحته ... ولا ثنت أسدا عن ربها حجر ودوخت آل ذبيان وجيرتهم ... لخما وعضت بني بدر على النهر وألحقت بعدي بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشعر وبلغت يزد جرد الصين وأختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر

ومزقت جعفرا بالبيض واختلست ... من غيله حمزة الظلام للجرز وأشرفت بخيب فوق فارغة ... وألصقت طلحة الفياض بالعفر وأجزرت سيف أشقاها أبا حسنٍ ... وأمكنت من حسين راحتي شمر وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ ... فدت عيها بما شاءت من البشر! وما رعت لأبي اليقظان صحبته ... ولم تزود إلاّ الضيح في الغمر وفي أبن هند وفي أبن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر فبعضنا قائل ما أغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يموت من حصر وعممت بالردى أبي انس ... ولم ترد الردى عنه قنا زفر وأنزلت معصما من رأس شاهقةٍ ... كانت به مهجة المختار في وزر ولم تراقب مكان الزبير ولا ... رعت عياذته بالبيت والحجر ولم تدع لآبي الذبان قاضبة ... ليس لها عمرو بمنتصر وأظفرت بالوليد ين اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعة الفخر وأسبلت دمعه الروح الأمين على ... دم هريق لآل المصطفى هدر وأشرقت جعفر والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر ولا وفت بمعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر وأوثقت في عراها كل معتمدٍ ... وأشرقت بقذاها كل مقتدر وروعت كل مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر وقال الحاجب أبو مروان بن رزين، وقد سقط عن الفرس: إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد شاءه الذكر لا يمشين عدوي إنَّ سقطت فقد ... تكبوا الجياد وينبو الصارم الذكر هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر! وقال أبو بكر بن عمار:

قالوا: اضر بك الهوى فأجبتهم: ... يا حبذاه وحبذا إضراره! قلبي هو أختار السقام لنفسه ... زيا فخلوه وما يختاره! عيرتموني بالنحول وإنّما ... شرف المهند وما ترق شفاره! وقال الوزير أبو القاسم بن الجد: عجبت لمن يهوى من الدر تومة ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر! وقال الوزير الفقيه أبن سراج: بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمام تربا كان أو حجرا وقال الحماسي: ولا يكشف الغماء إلاّ أبن حرةٍ ... يرى غمرات الموت ثم يزورها وقال تأبط شراً: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلاّ وهو للخطب مبصر فذاك قريع الدهر ما عشت حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر ومنها: هما خطنا أما إسار ومنة ... وأما دم والقتل بالحر أجدر وقال القطامي: وما يعلم الغيب أمرؤ قبل إنَّ يرى ... والأمر حتى تستبين دوابره دوابر الأمر: أواخره، جمع دابرة، كالعواقب. وقال عبد الله بن سبرة: إذا شالت الجوزاء والنجم طالع ... فكل مخاضات الفرات معابر وإني إذا ضن الأمير ببابه ... على الإذن من نفسي إذا شئت قادر وقال أبن حبناء التميمي: إذا المرء اولاك الهوان فأوله ... هوانا وإنَّ كانت قريبا أواصره

إذا أنت عاديت أمرءاً فاطفر له ... على عثرة إنَّ امكنتك عواثره فان أنت لن تقدر على إنَّ تهينه ... فذره إلى يوم الذي أنت قادره وقارب إذا ما لم تك لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت انك عاقره وقال جميل بن عبد الله: بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان إنَّ يتغيروا وكل كسير يعلم الناس إنّه ... سوى عظم سوء لا ترى فيه مجبرا فلا تأمن النوكى وإنَّ كان أهلهم ... وراء عدولات وكنت بقيصر! وقوله: يعلم الناس إنّه، أي إنّه لا ينجبر سوى عظم سوء، بحذف خبر إنَّ للعلم به. وقال التميمي يرثي منصور بن زياد: يثني عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير وقال سلمة الجعدي يرثي أخاه: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وقال مسافع العبسي: وليس وراء الشيء شيء يرده ... عليك إذا ولى سوى الصبر فاصبر وقال منقذ الكلابي: الدهر لاءم بين ألفتنا ... وكذلك فرق بيننا الدهر وكذاك يفعل في تصرفه ... والدهر ليس يناله وتر كنت الضنين بمن فجعت به ... وسلوت حين تقادم الأمر ولخير حظك في المصيبة إنَّ ... يلقاك عند نزولها الصبر غيره: إياك والأمر الذي إنَّ توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر فما حسن إنَّ يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر!

وقال أبن البرصاء المري: تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشبها عليك صدورها وقال الآخر: رأيت أخا الدنيا وإنَّ كان خافضا ... على سفر يسري به وهو لا يدري مقيمين في دار نروح ونغتدي ... بلا أهبة الثاوي المقيم ولا سفر وقال الرقاشي: إلاّ ليقل من شاء ما شاء إنّما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر! وقال الآخر، من الحماسيين: فإنك واستبضاعك الشعر نحوها ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا وتقدم إنشاده، على غير هذا الوجه، لغير هذا الحماسي. غيره: وجاءت للقتال بنو هليكٍ ... فسحي يا أسماء بغير قطر! وهذا الشاعر استعظم مجيء هؤلاء للقتال، لصغر شأنهم وهوانهم وحقارتهم عنده، فقال: سحي يا أسماء بغير قطر، أي بدم لا يقطر، استهزاء بهم وسخرية. غيره: ومن عجب إنَّ الصوارم في الوغى ... تحيض بأيدي القوم وهي ذكور وأعجب منه إنّها بأكفهم ... تسعر ناراً والأكف بحور! وقال يزيد بن مفرع الحميري سقى الله دارا لي وأرضا تركتها ... إلى جنب دار معقل بن يسار أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار! وذكر أبو العباس المربرد في الكامل أن سليمان بن على سأل خالد بن صفوان عن ابنيه جعفر ومحمد فقال: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال خالد متمثلا بهذا البيت: أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار! قال: فأعرض عنه سليمان. وكان هذا من احلم الناس وأكرمهم وهو في ذلك

الوقت والي البصرة وعم الخليفة المنصور. قال: وكان خالد بن صفوان ممن إذا عرض له القول قال: وكان الحسن رحمه الله تعالى يقال: لسان العاقل من وراء قلبه فإن عرض له القول نظر فإن كان له أن يقول قال وإن كان عليه القول أمسك. ولسان الأحمق إمام قلبه فإذا عرض له القول فال عليه أو له. وقال الآخر: نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار؟ وقال حجية بن مضر يمدح يعفر بن زرعة أحد الملوك، ملوك ردمان: شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاع معروف يكافئه شكرُ وقبله: إذا كنت سئَّالاً عن المجد والعلا ... وأين العطاء الجزل والنائل الغمرُ فنقب عن الملوك وأهتف بيعفر ... وعش جار ظل لا يغالبه الدهرُ أولئك قومٌ شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخرٌ وإن عظم الفخرُ أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهرُ يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحرُ سموا في المعاليرتبة فوق رتبةٍ ... أحلتهم حيث النعائم والنسرُ أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المضيئة والبدرُ فلو لامس الصخر الأصم أكفهم ... لفاضت ينابيع الندى ذلك الصخرُ ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمختبط عافٍ لمّا عرف الفقرُ شكرت لكم. . " البيت " وقلت أنا معرضاً بقوم يغشون طغاما ليصيبوا منهم طعاما: إنَّا أناس لست تبصرنا ... نتحين الطعام التي تزري يعري الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ

والحرة الشماء ربما ... جاعت ولم ترضع على أجرِ والمورد العذب الفرات إذا ... راثته حمرٌ سيم بالهجرِ وإذا ترى طيراً بمزبلةٍ ... فالطير غير الباز والصقرِ وإذا رأيت المرء محتسياً ... كأس الهوان فليس بالحرِ ووقف عليها جماعة من فضلاء العصر فاستحسنوها غاية فحاولت أن أزيد عليها شيئا من هذا النمط يتم به الغرض فانجر الأمر بها حتى كانت قصيدة رأيت أن أثبتها هنا على طولها لأنها كلها أمثال وحكم وهي: والحر حياته بسوى ... عز الجناب ورفعة القدر لا بالطعام ولا الشرب ولا ... استلقائه بأرائك وثر وإذا تزايلك الحياة فما ... من عيشة تبقى ولا عمر وسؤال ذي لؤم وذي بخل ... ورجاء نعشته من العثر أنكى لقلب أخي المروءة من ... إصلائه بلوافح الجمر وأشد من عد الرمال ومن ... نقل الجبال ومحمل الصخر واضر من كل النوائب إن ... عظمت عليك وكل ما شر وتقلد للمن من يده ... غل على هاديك في الأسر بل وخزة في القلب ناكئة ... بل طعنة في لبة النحر وغناك عنه بالقناعة في ... حاليك من يسر ومن عسر أجدى من الملك الذي جمعت ... أبناء هرمز غابر الهر وألذ من سنة الشباب على ... جدة ومن وثرٍ على وثر ولباس صونك عن تملقه ... أبهى من الأستبرق الخضر وحلى الوقار عليك أجمل من ... أن تحتلي بقلائد النصر وصبابة من ماء وجهك أنفس ... من رحيق سلسل غمر

فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمر واصبر لروح الله مرتجياً ... فلتحمدن عواقب الصبر إنَّ اصطبار المرء مفتتح ... متغلق البأساء والعسر ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدر كم من حزين بات مكتئباً ... متسعر الأحشاء ذا أفر لا يرتجي جلباب ليلته ... أن ينثني طرفاه بالسفر فأتته ألطاف منفسة ... لفؤاده من حيث لا يدري ولكم بعيد الضيق من سعة ... ولكم بعيد العسر من يسر هل بعد معترك الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجر أو بعد ظمأة هجمة وردت ... غير ارتواء جانب الغدرِ أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهر وإذا تحاول نيل مكرمة ... فانهض إليها نهضة الشمر وأركب جواد الجد مكتفيا ... ذيل الملالة منك والفتر فلربَّ ذي أمل على ملل ... ومهدر في العنة الحجر والربَّ ذي رعد على صلف ... فتراه يخلق ثم لا يفري ومخاطراً بالنفس فيه فما ... يرجى الخطير بغير ذي خطر وأعلم بأنَّ الغوص في لجج ... خضر يخف لجالب الدر وتعسف القنن الصعاب علي ... خصب يخف لحالب الدَّر ولدى الرياح الكثر بحمد ما ... جاب المفاوز صاحب التجر ولدى الصباح يكون مغتبطا ... وينال بغيته الذي يسري وتسنمن ذرى الأمور ولا ... تخلد إلى سفسافها الخضر واعلم بأنك ما استطبت جنى ... إلاّ لطيب الجذر والبذر

والكرم يجدي المجتني عنباً ... والشوك لا يجدي سوى الشصر ولكم ترى مرعى ولست ترى ... كرعاية السعدان والثغر والناس كالغوغاء هائمة ... لو كان يبلو الناس ذو خبر والمرء كل المرء بينهم ... ذو الملبس الزاهي وذو الوفر لا ينظرون إلى الوفاء ولا ... فصل الذكاء وثاقب الفكر لو أقبلت دغة لهش لها ... كل إذا راحت إلى دثر أو جاء قيس يستغيث صدى ... لم يسق إن أمسى أخا فقر لم يدروا أنَّ الكمال لذي ... فضل الندى والحلم والحجر لا ذي الحلى المسبور مائله ... أعطافه بالزهو والكبر فالعجب بالملبوس من سخف ... في اللب وهو لربة الخدر والسيف ليس يشينه خلق ... في الجفن وهو العضب ذو الأثر وكذا ذبول المتن ليس يرى ... عيبا على الخطية السمر والطرف ليس يعاب من ضمر ... يعشاه بعد تداول الحصر ولكم ترى نبتاً يلد على ... شحبٍ وكم من ناعم مر ولكم ترى دمناً تعاف إذا ... تشتم وهي أنيقة الزهر فتوخ في الناس الوفى إذا ... عاشرتهم وحذار ذا الغدر واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الأخوان بالسبر كم من أخ مذق الوداد على ... ما فيه من إحن ومن سبر إن تلقه فالشهد مقوله ... وإذا تغيب يكون كالصبر سيمى بوجهك تستميل وأن ... أدبرت عنه فكية الظهر وإذا الزمان دعاك نائبه ... العاري إليه ترجى البر فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر

وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري وإذا تصادف ذا الصفاء فكن ... منه ولو صافاك ذا حذر وأسم سوائم سرحه طرراً ... مطروقةً من مسرح السر وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشر فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبصر فيك بالضر وإذا تصاحب أو تجالس أو ... تستب فالتمس ذوي القدر فصداقة النبهاء مفخرة ... وكذا نواؤهم من الفخر وصداقة اللؤماء معقبةٌ ... لؤما كمثل حكاك ذي العر والساقط الداني مشاتمه ... كالبائع العقيان بالصفر والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر وإذا نظرت وجدت في قرنٍ ... غمر الغنى وجهالة الغمر وترى اللبيب يبيت في ضففٍ ... بهمومه متقسم الفكر ليكون فضل حجى الفتى عوضاً ... عن فضل مال الأنوك الكثر وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلبٍ وعن قسر والمرء ممدودٌ له أجلٌ ... فسح مداه نصائب القبر يسدي ويلحم في مزاولة ... ما ليس يدركه مدى العمر ويبيع بالآل المعين وبالخزف ... الكسير نضائد التبر وأمن تبدل زائلا صدرا ... من دائم قد باء بالخسر فأعد لليوم الذي خضعت ... فيه الطلا لرواجف الذعر وتحولت فيه الذين هم ... قنن الذرى شمما إلى الذر وتدوسهم أقدام طائفةٍ ... كانت لديهم موقع السخر وازمم ركابك للرحيل غداً ... إنَّ الخليط غدوا على ظهر

وتسل عن ليلى فقد أزفت ... عنها النوى ومضاضة الهجر! وتخل عن كل الآلاف إلى ... ألفا ألف واصل بر! وتسوغن بجميل صبرك ما ... تسقى بغيرهم من الصبر وف بالعهود ولا تكن ألفا ... نقضا ولو قبضا على جمر! واعلم بان الوجه ذو شحط ... ومخاوف ومجاهل غبر! فارتد خفير إنابة ولجا ... والعلم خريتا إذا تسري! وتزودن وخير زادك من ... تقوى المهيمين سامع الأمر! وأجعل مزاد الصدق محكمة ... وتخيرين نجائب الصبر! وتخير الرفقاء مجتنبا ... قرب الددان وصحبة المزري وإذا ارتحلت فلا تشذ وسر ... وسط الخليط ومعظم السفر! وحذار رحلك يقتفي سبلا ... عن نهجهم فيضل في القفر! وارع البطاح إذا مرعن ولا ... تترقين بحالق وعر! وإذا الرياح عصفن في شرفٍ ... فلتسهلن أو غل في جحر! وإذا ظمئت ففي الأصيل فرد ... فردا عن الضوضاء والكدر! وإذا رأيت سفينة خرقت ... فتأن لا تجعل إلى النكر! وإذا تكون نزيل ذي كرم س ... رحب الذرى متفضل غمر لا يعدم العافي نداه ولا ... يعتل عن ذهل ولا فقر فأرح فؤادك أنَّ يكون به ... هم إلى زاد على ذكر! وحذار أنَّ يلقاك مرتجيا ... ما يجتنيه سواه من جبر وكن الخلي وأنت ضائفه ... عار النزيل على الذي يقري! وإذا الهوى ناواك محتفلا ... ومجمعا بمعسكر مجر فلتعددن ما استطعت من وجل ... وضارعة فتدال بالنصر

واستمددن من واهب رؤوفٍ ... نورا يقيك مداحض الحكر وكل الأمور إليه ملتجئا ... متبريا ملحول والارز! وإذا حللت بساطه فغدا ... يسقيك صرف عتيقة الخمر فلترعين أدب الجليس ولا ... تغتل حجاك غوائل السكر! وإذا مليك الدار في طرفٍ ... منها أناخ مطاك أو عقر فالزم مناخك أو يحوله ... برضى الجنان وغاية السكر ولتعتزز بحماه معتصما ... ناهيك من سند ومن حظر! وثقن بما أولاك من عدة ... فالنقد موعد مفضل مثري! وتجلى في ثوبي عبودته ... ناهيك من شمم ومن ذكر! وتحل بالخلق الجميل على ... لقيا الورى وحوادث العصر! ولتلقهم وحشاك مشربه ... صاف من الشحناء والغمر! وبليغ نصحك للقصي وللأدنى ... سوي السر والهجر واجعل معاقرة المنون على ... بالٍ فيا ناهيك من ذخر! وقال الآخر: إلى كم يكون الصد في كل ساعةٍ ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا؟ رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فأنظر الدهرا! وقال الآخر: هب النسيم فأهدى نشرهم سحرا ... وأزهر الروض من أنفاسهم عطرا إني وإنَّ أبعدت عني منازلهم ... فلا أزال أروي عنهم الخبرا قل للسعيد الذي يحظى برؤيتهم: ... أني لتحسد عيني فيكم النظرا غيره: وحقكم مالي على فقدكم صبر ... وما طاب لي عيش ولم يصف لي سر

وكيف يسر القلب يوما بلذةٍ ... ومنزلكم يا سادتي منزل قفر فما الدار دار مذ نأيتم ولا الكرى ... لذيذ وحلو العيش بعدكم مر غيره: لو كان لي مسعد بالراح يسعدني ... لمّا انتظرت بشرب الراح إفطارا الراح أشرف شيء أنت شاربه ... فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا يا من يلوم على صهباء صافيةٍ ... دع الجنان ودعني أسكن النارا! وفي لطائف المنن للتاج أبن عطاء الله أنَّ هذا الشعر أنشده منشد بين يدي الشيخ. فأنكر عنك هذا. فإنه محجوب! انتهى بالمعنى وهو بين، فإنَّ الخمر خمران، والنار ناران، والجنان جنانان. فكل يشرب بحسب ذوقه، ويقهم بمقتضى قصده. وقال الآخر: هلا رأيت وقائع الدهر ... أفلا تسئ الظن بالعمر؟ بينا الفتى كالطرود تمنعه ... هضباته والعضب ذو الأثر يأبى الدنية في عشيرته ... ويجاذب الأيدي على الفخر زل الزمان بوطء أخمصه ... ومواطئ الأقدام للعثر غيره: أين الملوك وما بنوه وشيدوا؟ ... ماتوا جميعا في التراب وساروا آثارهم تنبيك عن أخبارهم ... هذي هي الأطلال والأخبار إنَّ سلت عنهم قل لنفسك بعدهم ... لم يبق إلاّ الواحد القهار! غيره: يا راقد الليل مسرور بأوله ... إنَّ الحوادث قد يطرقن إسحارا ! وله: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء أعتصار غيره:

الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر هذا له ثمر حلو مذاقته ... وذاك ليس له طعم ولا ثمر وقال النمر بن تولب: فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر سلم الخاسر: من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور أبن المعتز: لا تأمنوا من بعد خير شرا ... كم غصن أخضر صار جمرا! الصنوبري: محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار تخبرنا بفض العنبر غيره: كم كافر بالله أمواله ... تزداد أضعافا على كفره والمؤمن ليس له درهم ... يزداد أيمانا على فقره! غيره: يا صاح إنَّ من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر فطنا بكل مصيبة حاله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر! وقال الآخر: عتبت على الدنيا لتقيد جاهل ... وتأخير ذي علم فقالت خذ العذرا بنو الجهل أبنائي وكل فضيلة ... فأبناؤها أبناء ضرتي والأخرى وقال الآخر: غائظ صديقك تكشف عن ضمائره ... وتهتك السر عن محجوب أستار فالعود يبنيك عن مكنون باطنه ... دخانه حين تدنيه من النار!

وهكذا كقول الحكيم: إذا أردت إنَّ تعرف صديقك فأغضبه! وذلك لأن الرضى يصلح معه كل أحد، ولا يصلح على الغضب إلاّ الأصفياء الصادقون، وقليل ما هم. غيره: سقى الله أياما لنا لسن رجعا ... وسقيا لعصر العامرية من عصر ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور وما ندري! حكى أبو علي البغدادي في نوادره عن أبي بكر بن دريد عن حاتم قال: كان فتى من أهل البصرة يختلف معنا إلى الأصمعي فافتقده، فلقيت أباه فسألته عنه فقال: سألني عن بيتين كان الأصمعي يرددهما: سقى الله أياما " البيتين " فقلت له: يا بني، انك لست بعاشق، ولولا ذلك لعرفت ما يفعله الذكر بصاحبه! قال: فبعثته عشق لجاجا. ولنكتف بهذا القدر من الباب مخافة السآمة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الزاي الموحدة

باب الزاي الموحدة زبيب وأنت حصرم. هذا مثل مشهور، غير إنّه مولد. وهو من كلام أبي علي الفارسي، قاله لأبي الفتح عثمان بن جني لمّا مر به وهو في حلقته. فلما قال له ذلك قام أبو فتح فترك حلقته وتبعه حتى تمهر. ذكر ذلك شمس الدين بن خلكان، رحمه الله تعالى. ويضرب فيمن يتعاطى رتبة قبل إنَّ يصل إليها. ومنه قول أبن النقيب: إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ ... ولا فاخت في أيكة يترنم وما الموت إلاّ طيب طعمه إذا ... تدايك فروج وزبب حصرم زاحم بعودٍ أو دع! المزاحمة معروفة. يقال زحمته على كذا، زحمته، وزاحمته، وازدحم القوم على هذا الأمر وتزاحموا عليه، ازدحاما وزحاما ومزاحمة. والعود بفتح العين المهملة وسكون الواو: المسن من الذي جاور البازل والمخلف سنا. قال امرؤ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا والجمع عودة كزوجة، والأنثى عودة، والجمع عود البعير تعويدا: بلغ ذلك. والعود أيضا: الطريق القديم. قال الراجز: عود على عود لأقوام أوّل ... يموت بالترك ويحيا بالعمل أي جمل مسن على طريق قديم. وفي الصحاح: وبما قالوا: سؤدد عود أي قديم وانشد للطرماح:

زعموا مطية الكذب.

هل المجد إلاّ العود والندى ... ورأب الثأي والصبر عند المواطن؟ والمراد من المثل المعنى الأول، وهو التمثيل والتشبيه. والمعنى انك إذا حاولت أمرا أو زاولت حربا، ينبغي لك أنَّ تستعين عليه بأهل السن والمعرفة والتجريب. فإنَّ رأي المشايخ كثيرا ما كان أنفع من مشاهد الشباب، على إنَّ مشهد الشيوخ وأهل البصيرة والصدق أيضاً هو المشهد، كما قال أبو الطيب: سأطلب حقي بالقنى ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما ألتثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا وعلى أسلوب هذا المثل ما يقال: قائل بسعد أو بجد وإلاّ فلا! زعموا مطية الكذب. الزعم: الظن، يقال: زعم كذا وكذا واقعا، يزعمه. قال: زعمتني شيخا وليس بشيخ. . وقال كثير وقد زعمت إني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟ ولها معان أخرى مراده هنا. والمطية: الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها. قال امرؤ القيس: ويوم عقرب للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل! ويحك إنَّ أبن عمر، رضي الله عنهما، قال: رأيت رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه على ظهره وهو يقول: إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر! وذكر في الصحاح أنَّ المطية تؤنث وتذكر، وانشد على التذكير لربيعة بن مقروم الضبي جاهلي

ومطية ملث الظلام بعثته ... يشكو الكلال إلي دامي الأظلل وكان المطية على هذا هو المركوب، جملا كان أو ناقة. وجمع المطية مطي ومطايا. قال امرؤ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يفدن بأرسان وفي الحديث رواية يشكو إنَّ يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما من عالم المدينة. وقال جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمبن بطون راح؟ ومنه قول إلي نؤاس: وإذا المطي بنا بلغن محمّداً ... فظهورهن على الرجال حرام ومنه قول أبي دلامة: إنَّ المطايا تشكيك إذا أراد إنَّ يتحدث قال: زعموا كذا وكذا، وزعموا إنَّ الأمر كذا وإنَّ كذا واقع. فلما كان هذا اللفظ يقدمه إمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته، جعل مطية تشبيها بالمطية المركوبة، بالجمع التواصل بهما إلى الغرض. ثم انهم قالوا: إنّما يقال هكذا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنّما يجري على الألسن، وأكثر ما يكون ذلك كذب. وفي الحديث: حسب الرجل من الكذب أنَّ يتحدث بكل ما سمع. فجعل زعموا مطية للكذب، أي للتحديث به من اجل هذا. وقد يعتبر به من يعتمد الكذب لسهولته إذ ذاك وتستره حيث لم يتعين المكذوب عليه ولا المنقول عنه حتى يفتضح الناقل عند سؤاله. فائدتان. الأولى قال الجلال السيوطي في كتابه الهمع: قولهم زعموا مطية الكذب لم أقف عليه شيء من كتب الأمثال. وذكر بعضهم إنّه روى: مظنة الكذب بالظاء المعجمة والنون. وإخراج أبن أبي حاتم في تفيسره، عن صفوان بن عمرو

الكلابي، قال: بئس مطية المسلم زعموا مطية الشيطان. واخرج أبن سعد في الطبقات، من طريق الأعمش عن شريح القاضي قال: زعموا كنية الكذب. انتهى. وذكر بعضهم: زعموا مطية الكذب حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: لا يوجد زعم فصيح الكلام إلاّ عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، أو تبقى عهدته على الزاعم. ففي ذلك ما ينجوا إلى تضعيف وقول سيبويه: زعم الخليل كذا، وإنّما يجيء فيما تفرد الخليل به. انتهى. قلت: ولم يكن يأتي به سيبويه على إنَّ ذلك كذب، بل من اجل ذلك التفرد وبقاء العهدة فقط. وقد يأتي زعم مع القطع بصدق الزاعم، كما في السير من قول سعد، رضي الله عنه، للقريشي بمكة إنَّ محمّد يزعم إنّه قاتلك، ولم يكن المخبر يش في صدق محمّد صلى الله عليه وسلم، بل أيقن القريشي مع كفره بذلك فقال: أنا لا نكذب محمّد في خبره. والقصة مشهورة. الثانية: قول جرير السابق. قالوا: هو امدح بيت قالته العرب. وكان امتدح به عبد الملك بن مروان من قصيدة، وكان أولها أنَّ قال: أتصحو أم فؤادك غير صاح فقال عبد الملك: بل فؤادك! ثم تمادى في الإنشاد إلى إنَّ قال: تعزت أم حزرة ثم قالت: ... رأيت الواردين ذوي امتياح ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالجناح ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح؟ فطرب الملك وأخذته الأريحية وكان متكئا فجلس وقال: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت! ثم قال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة سود الحدق؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الإبل إباق ونحن مشايخ ليس بأحدنا فضل على راحلته. فلو أمرت بالرعاة؟ فأمر له بثمانية أعبد وكنت بين يدي عبد الملك صحاف فضة يقرعها بقضيب بيده. فقال جرير: والمحالب، يا أمير المؤمنين؟ وأشار إلى صفحة منها. فنبذها إليه بالقضيب. وفي ذلك قال جرير: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منٌّ ولا سرف! قلت: وما ذكر في بيت جرير هو بحسب ما فيه من شمول بذكر العالمين، وإلاّ فلزهير أبيات هي الغرر في جبهات المديح، كقوله: بل اذكرن خير قيس كلها حسبا ... وخيرها نائلا وخيرها خلقا فانه يجمع أوصافا من المديح مع السبك العجيب والاتساق البديع. إلاّ إنّه خصصه بقيس وهو لا يوجب كبير قصور، لأنَّ العناية بتفضيل الممدوح وتعليته إنّما هي بحسب أقرانه ومزاحميه في الشرف، مع إنَّ هذا اقرب إلى الصدق، وليس الكذب البشع بممدوح في الشعر. إلاّ إنَّ يريد جرير رهط الممدوح جميعا حتى يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كلامة صدقا. وقوله: إنَّ تلق يوما على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا فإنَّه ترك إثبات السماحة والندى للممدوح إلى إثبات كونهما من سجايا وخلائقه، إيهاما لكون ثبوتهما ليس متوقف العقول، لاتضاحه كالنهار، واشتهاره غاية الاشتهار. ووقع لزهير غير هذا ولغيره أيضاً مما يطول تتبعه. قالوا: وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريرا: قوم إذا أستنبح الضيفان كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار! وبعده: فتمسك البول بخلا إنَّ تجود به ... فما تبول لهم إلاّ بمقدار! وتقدم هذا: واحكم بيت قالته العرب قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار ما لم تزود

وأحمق بيت قول أبي محجن: إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي عند عروقها! ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا مت ألا أذوقها وأغزل بيت قالته العرب قول جرير: إنَّ العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا وبعده: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن اضعف خلق الله أركانا قلت: وأصدق بيت قالته العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وبعده قول الآخر: وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ عجيبة. أبو العتاهية في شعره السابق امتدح عمر بن علاء فأمر له بسبعين ألف درهم وأمر من حضره من خدمه وغلمانه أن يخلعوا عليه حتى لم يقدر على القيام لمّا عليه من الثياب. ثم إنَّ جماعة من الشعراء كانوا بباب عمر فقال بعضهم: يا عجبا للأمير! يعطي أبا العتاهية سبعين ألفا. فبلغ ذلك عمر فقال: غليَّ بهم! فأدخلوا عليه. فقال: ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء! إنَّ أحدكم يأتينا يريد مدحنا فيشبب بصديقه في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب لذاذة مدحه ورونق شعره. وقد أتانا أبو العتاهية فشبب ببيتين ثم قال: إني أمنت من الزمان وريبته ... لمّا علقت من الأمير حبالا لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الوجوه نعلا ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمراً ولو يوماً تزول لزالا إنَّ المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا

زندان في وعاء.

فإذا أتيت بنا أتيت مخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا ويذكر إنّه لمّا امتدحه قال له: أقم حتى أنظر في أمرك! فأقام أياما فلم ير شيئا. وكان عمر ينتظر مالا من وجه فأبطأ عليه. فكتب إليه أبو العتاهية: يا أبن العلاء ويا أبن القرم مرداس ... إني امتدحتك في صحبي وجلاسي أثنيت عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس حتى إذا قيل ما أعطاك من صفدٍ ... طأطأت من سوء حالٍ عندها رأسي فقال عمر لحاجبه: اكفيه أياما! فقال له الحاجب كلاما دفعه به وقال: تنتظر! فكتب إليه: أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر أصابتك عين في سخائك صلبةٌ ... ويا رُبَّ عين صلبة تفلق الحجر سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسور فضحك عمر وقال لصاحب بيت ماله: كم عندك؟ قال: سبعون ألف درهم. فقال: ادفعها إليه! ويقال إنّه قال له: اعذرني عنده ولا تدخله عليَّ فإني أستحي منه! زندان في وعاءٍ. الزند بفتح الأول العود الذي يقدح به. والوعاء معروف. يضرب هذا في تساوي الرجلين فيقال: هما زندان في وعاء وكزندين في وعاء. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ولا يكاد يوضع في المدح. إنما هو في موضع الخساسة والدناءة. فقال البكري: لا أعلم لم جعل في موضع الدناءة إلا أن يتناولوا فيه قولهم اللئيم مزند والتزنيد: التضييق. قلت: ولا يخفى بعده. والمزند بصيغة اسم المفعول وهو البخل الضيق. قال الحماسي: ومن الرجال أسنة مثال ذروبة ... ومزندون شهودهم كالغائب وقد أتى الحريري في مقامته البغدادية بهذا المثل في مطلق الاستواء أو في الاستواء في

أزكن من إياس.

المدح بالحذق والذكاء. فقال أبن ظفر: المشهور استعماله يعني هذا المثل في الحقارة والخساسة. أزكن من إياسٍ. الزكن: العلم تقول: زكنته بالكسر أزكنته زكنا إذا علمته. قال أبن أم صاحب: ويروى: زنكنت منهم على مثل الذي علموا. والزكن أيضاً: التفرس وهو علم خاص. وإياس هو أبن معاوية قاضي البصرة. وضرب به المثل في الفراسة والذكاء وله في ذلك أخبار كثيرة تقدمت جملة منها في ذكائه من حرف الذال. وكان يحكى أنه قال: تعلمت الزكن من أمي وكانت خرسانية وأهل بيتها يزكنون أي يتفرسون. قيل: وقد ألف في أخباره كتاب يسمى " زكن إياس ". أزنى من قرد. الزنى بالزاي المكسورة والنون معروف يمد ويقصر. قيل: والقصر لغة الحجاز لقوله تعالى:) ولا تقربوا الزنى (والمد لغة نجد كقول الفرزدق: أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكر وزنى الرجل بالفتح يزني زنى وزاني مزاناة وزناء. وفي عد الكبائر: وأن تزاني حليلة جارك. والقرد بكسر القاف معروف وتقدم في الحاء وهو يوصف بالزنى. وقد وقع في السيرة إنّه زنى قرد في الجاهلية فرجمته القردة. وزعموا أنَّ القرد أزنى الحيوان. وقيل إنَّ المعنى في هذا المثل ليس القرد المعروف بل رجلا من هذيل يقال له قرد بن معاوية وبه ضرب المثل والله تعالى أعلم!

أزهى من طاووس.

أزهى من طاووس. الزهو: الإعجاب والتكبر. يقال: زهي بالبناء للمفعول يزهى فهو مزهو. ويقال أيضاً: زهى بالفتح يزهو زهوا. وهي لغة حكمها أبن دريد. والطاووس: الطائر المعروف وتقدم في الحاء. وإنّما وصف بالزهو لمّا مر من أنَّ طبعه حب الزهو لنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه: ثم إنهم بنوا اسم التفضيل هنا من فعل المفعول وعلى الشذوذ كما قالوا: أشغل من ذات النحويين وأجن من دغة وأولع من قرد. وتعجبوا منه أيضاً فقالوا: ما أزهاه! وما أشغله! وما أجنه! وهو مسموع في هذه الألفاظ ونحوها. ولا يقال في المضروب والمجروح ونحوهما: أضرب من كذا ولا أجرح ولا: ما اضربه! وأجرحه! ومن الشاذ قول سبويه رحمه الله تعالى: واعلم أنَّ العرب يقدمون ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى وهو من عناهم وعنوا به فهم معنيين به. قال الإمام السهيلي رحمه الله تعالى: وسبب جوازه يعني في الأفعال المذكورة دون غيرها أنَّ المفعول فيها فاعل في المعنى: فالمزهو متكبر في المعنى. وكذلك المنحو والمشغول مشتغل وفاعل لشغله والمعني بالأمر كذلك والمجنون كالأحمق فيقال: ما أجنه! كما يقال ما أحمقه! وليس كذلك وضروب ولا مركوب ولا مشتوم ولا ممدوح فلا يقال في شيء منه: ما أفعله ولا: هو أفعل من كذا. قال: فإنَّ قلت: فعلى هذا القياس كان ينبغي أيضاً أن يؤمر فيه بغير اللام كمأمور الفاعل إذ قلتم إنه فاعل في المعنى يعني وليس الأمر كذلك لأنك إنما تقول في أمر المخاطب من عني وزهي وشغل: لتعن ولتزه ولتشغل! كما يؤمر الغائب في سائر الأفعال. قال: فالجواب أنَّ الأمر إنّما هو بلفظ المستقبل وهو: تضرب وتخرج. فإذا أمرت حذفت حرف المضارعة وبقيت حروف الفعل على بنيتها. وليس كذلك زهيت فأنت تزهى ولا شغلت فأنت تشغل. لأنك لو حذفت منه حرف المضارع لبقي لفظ الفعل على بنية لست للغائب ولا للمخاطب لأنَّ بنية الأمر للمخاطب: أفعل وبنيته للغائب:

أزهى من ديك.

فليفعل. والبنية التي قدرناها لا تصلح لواحد منها لأنك كنت تقول: أزه من زهت ومنت تقول من شغلت: أشغلت فتخرج من باب شغلت فأنت مشغول إلى باب شغلت غيرك فلم يستقم فيه الأمر بالام. انتهى. وهو حسن وهذا في زهي إنّما هو على أنَّ التفضيل جاء فيه على اللغة المشهورة. وإنّما على أنه على اللغة الثانية التي ذكرها أبن دريد فلا شذوذ فيه. قال الجوهي بعد ذكره هذه اللغة: ومنه قولهم ما أزهاه وليس هذا من زهي لأنَّ اسم المفعول لا يتعجب منه. انتهى. أزهى من ديكٍ. تقدم الزهو. والديك بكسر الدال المهملة معروف جمعه ديكة وديوك. وهو موصوف بالزهو والتبختر والتمايل في مشيته وذلك معروف فيه. أزهى من غرابٍ. الزهو مر وكذا الغراب وهو أيضاً موصوف بالزهو. قال الشاعر: لذا صاحبٌ مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب ألج لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود. الزوج ضد الفرد. والزوج أيضاً بعل المرأة وهي أيضاً زوجة. فالزوج للذكر والأنثى هذا هو الفصيح. قال تعالى:) أسكن أنتَ وزوجكَ الجنة (وقد يقال زوجة. قال الفرزدق: وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشرا يستبيلها! وتقدم هذا. والعود بضم العين المهملة: معروف جمعه عيدان وأعواد والقعود: الجلوس وقد يفرق بينهما فيقال: القعود ضد القيام. فإذا كان أحد واقفا قيل له: أقعد! ولا يقال: اجلس! وإذا كان مضطجعا ثم استوى جالسا قيل: إنّه قد جلس.

ومعنى المثل أنَّ التزوج ولو بأدنى زوج خير من البقاء بلا زوج. قالته بنت همام بن مرة الوائلي البكري. وكان له فيما زعموا أربع بنات. فكان يخطبن إليه فيستأمرهن فيمنعهن الحياء أن يأذن فلا يزوجن. وكانت أمهن تأمره بتزويجهن فلا يفعل. فخرج ذات ليلة إلى متحدث لهن فجعل يستمع حديثهن وهن لا يعلمن. فقلن: تعالين نتمن ولنصدق! فقالت الكبرى: إلاّ ليت زوجي من أناس ذوي غنى ... حديث الشباب طيب النشر والعطرِ طبيبٌ بأدواء النساء كأنه ... خليفة جانٍ لا يبيت على وترِ! فقلن لها: انك تحبين رجلا ليس في قومك. وقالت الثانية: ألا هل أرها مرة وضجيعها ... أشم كماضي الشفرتين مهندِ لصوقٌ بأكباد النساء واصله ... إذا ما انتهى من أهل سري ومحتدي؟ وقالت الثالثة: ألا ليته على الجفان مدلب ... له جفنةٌ تشفى بها النيب والجزرُ به محكمات الشيب من غير كبرةٍ ... تشين فلا العاني ولا الضرع الغمرُ! فقلن لها: تحبين رجلا شريفا. فقلن للصغرى: تمني أنت! فقالت: ما أريد شيئا. فقلن: والله لا تبرحين حتى نعلم ما في نفسك! فقالت: زوجٌ من عودٍ خيرٌ من قعودٍ. فلما سمع أبوهن ذلك زوجهن. وهكذا حكي عن بعضهم هذه القصة. والذي ذكر صاحب القاموس في اللغة أنَّ همام بن مرة له ثلاث بنات وآلا على نفسه ألا يزوجهن. فلما عنسن قالت إحداهن بيتا وأسمعته إياه متجاهلة. فقالت: أهمام بن مرة إنَّ همي ... لفي الآئي يكون مع الرجالِ فأعطاها سيفا وقال: هذا يكون مع الرجال! فقالت أخرى: ما صنعت شيئا ولكني أقول: أهمام بن مرة إنَّ همي ... لفي قنفاء مشرفة القذال والقنفاء تطلق عند العرب على الغليظة من آذان المعزى كأنها نعل مخصوف. وتطلق

زر غبا، تزدد حبا!

على الكمرة العظيمة وهو مراد القافية. فقال أبوها: وما قنفاء؟ تريدين معزى. فقالت الصغرى: ما صنعتما شيئا ولكني أقول: أهمام بن مرة إنَّ همي ... لفي عردٍ أسد به مبالي فقال: أخزاكن الله! وزوجهن. والعرد بفتح العين وسكون الراء: الذكر. ويحكى أيضاً في نحو هذه القصة أنَّ رجلا من العرب كان له ثلاث بنات قد عضلهن ومنعهن الأكفاء. فقالت إحداهن: إن أقام أبونا على هذا الرأي فارقنا وقد ذهب حظ الرجال منا فينبغي لنا أن نعرض له بما في نفوسنا وكان يدخل إلى كل واحدة منهن يوما. فلما دخل على الكبرى تحادثا ساعة. فلما أراد الانصراف أنشدت: أيزجر لاهينا ويحلى على الصبا ... وما نحن والفتيان إلاّ شقائقُ؟ يؤبن حييَّاتٍ مراراً كثيرةً ... وتنباق أحياناً بهن البوائقُ فلما سمع الشعر ساءه. ثم دخل على الوسطى فتحادثا. فلما أراد الانصراف أنشدت: ألا أيها افتيان إنَّ فتاتكم ... دهاها سماع العاشقين فخنت فدونكم أبغوها فتى غير زملٍ ... وإلاّ صبت تلك الفتاة وجنت! فلما سمع الشعر ساءه. ثم دخل على الصغرى في يومها. فلما أراد الانصراف أنشدت: أما كان في ثنتين ما يزع الفتى ... ويعقل هذا الشيخ إن كان يعقلُ فما هو إلاّ الحل أو طلب الصبا ... ولابد منه فائتمر كيف تفعلُ! زر غباً، تزدد حباً! الزيارة معروفه والغب في الماء أن ترد الإبل يوما وتدع يوما. فهي إبل غابة وغواب وغب كل شيء: عاقبته. وأما في الزيارة فقال الجوهري: قال الحسن: الغب في الزيارة كل أسبوع. يقال: زر غبا تزدد حبا. انتهى. وهذا الكلام قد يروى حديثا مرفوعا وهو أمر بأوسط الأمور وأفضلها في الزيارة المحبة للمحبة ودوام الوصل. ووراء ذلك طرفان كلاهما مذموم:

زيادة الأمل تقتضي نقصان العمل.

أحدهما الإكثار من الزيارة والإفراط فيها وهو يوجب السأم والملل والضجر. والثاني الإقلال منها جدا والإفراط في الغيبة والقطيعة. وهو يوجب الوحشة والتقاطع والتباعد. ونظم بعض الشعراء الكلام المذكور فقال: إذا شئت أن تلقى فزر متتابعاً ... وإن شئت أن تزدد حباً فزر غبا وقال الثعالبي: عليك بإقلال الزيارة إنما ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا فإني رأيت القطر يسأم دائماً ... ويطلب بالأيدي إذا هو أمسكا! وقال أبو العتاهية: أقلل زيارتك الصديق ولا تطل ... إتيانه فيلح في هجرانه! إنَّ الصديق يلج في غشيانه ... لصديقه فيمل في غشيانه حتى تراه بعد طول سروره ... وكأنه متبرم بمكانه وإذا تولى عن صيانة نفسه ... رجلٌ تنقص واستخف بشانه وقالوا: قلة الزيارة أمان من الملالة. وقالوا في الطرف الآخر يرك الزيارة سبب القطيعة. وينسب لعلي كرم الله وجهه: الصبر من كرم الطبيعة ... والمن مفسدة الصنيعة ترك التعاهد للصديق ... يكون داعية القطيعة زيادة الأمل تقتضي نقصان العمل. هذا مثل مصنوع فيما أظن وهو ظاهر المعنى. زدهم عنزاً الزيد والزيادة معروف. يقال: زدته الشيء أزيده زيادة وزيدا وأزددت كذا

زين في عين واله ولده.

أزديادا. والعنز بفتح العين وسكون النون الأنثى من المعز ومن الظباء والأوعال. والعنز أيضاً اسم فرس وهي التي في قول الشاعر: دلفت له بصدر العنز لمّا ... تحامته الفوارس والجالُ والعنز أيضاً اسم قبيلة من هوازن وهي التي في قول الآخر: وقاتلت العنز نصف النهار ... ثم تولت مع الصادر والعنز أيضاً الأكمة السوداء وهي في قول رؤبة: وارم أخرس فوق عنزٍ وأراد بالإرم العلم المبني من حجارة وبكونه أخرس أنه بناء أصم. وقوله: فوق عنز أي أكمة. وعنز أيضاً امرأة من طسم سبيت فحملوها في هودج وألطفوها بالقول والفعل فقالت: هذا شر يومي! أي: حين صرت أكرم للسباء. وقال الشاعر: شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدجٍ جملا وسيأتي. والمراد هنا العنز من المعز وقائله هبنقة القيسي الأحمق ذو الوداعات. وكان أخوه اشترى له بقرة بأربع أعنز فركبها وركضها. فلما أعجبه عدوها التفت إلى أخيه فقال: زدهم عنزاً! فصار مثلا يضرب في الإعطاء بعد إمضاء البيع. ويحكى إنّه سار بها فرأى أرنبا تحت شجرة ففزع منها وركض البقرة وقال: الله نجاني ونجى البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجرة! وأخباره في الحمق كثيرة تقدم بعضها في الحاء. زين في عين واله ولده. يضرب في عجب الرجل برهطه وعترته ونحو ذلك. وهو في قول الشاعر: نعمَ ضجيع الفتى إذا برد ... الليل سحيراً قرقف الصرد زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والدٍ ولد! ومثله في أمثلة العامة قولهم:

كل خنفس عند أمه غزال

كل خنفس عند أمه غزالٌ ومن قمل العرب: كل فتاةٍ بأبيها معجبةٌ. وسيأتي. ولنذكر بعض الشعر في هذا الباب. قال أبن الرومي: خير ما استعصمت به الكف عضبٌ ... ذكرٌ حده أنبث المهزِّ ما تأملته بعينيك إلا ... أرعت صفحاته من غير هزِّ مثله أفزع الشجاع إلى الدرع ... فغالى بها على كل بزِّ ما يبالي أصممت شفرتاه ... في محزٍّ أم حارتاً عن محزِّ وقال أبو الطيب يمدح علي بن صالح الروذباري: ليس كل السراة بالروذ باري ... ولا كل من يطير ببازِ وقال الآخر: إذا ما اعتز ذو علم بعلمٍ ... فعلم الفقه أشرف في اعتزاز فكم طيب يفوح ولا كمسكٍ ... وكم طير يطير ولا كباز وقال بعض السادة: رجال الله قد سعدوا وفازو ... ونالوا رحمة المولى وحازوا رجالٌ طلقوا لادنيا بتاتا ... ولو جاز الرجوع لمّا استجازوا بدا علم النجاة فميزوه ... يحركهم بدار وانحفازُ فبعضٌ تشرق الأمطار منه ... وبعضٌ تستنير به النفازُ تميز كل ذي دنيا بدنيا ... وهم لهم بدينهم امتيازُ وما عزوا بمخلوق ولكن ... لهم بالخالق الأحد اعتزازُ أردت لحاقهم فعجزت عنهم ... وحدت عن الإجازة إذ أجازوا أتطمع في اللحاق ولا نهوضٌ ... وتفرح بالرحيل ولا حفازُ؟

وأنت أخوهم نسباً ولكن ... طرازٌ فوقه ذاك الطرازُ دع الدنيا فلست لهم بندٍّ ... وهل تخفى الحقيقة والمجازُ؟ وقال الآخر: لي صديق هو عندي عوزٌ ... من سداد لا سداد من عوز وجهه يذكرني دار البلا ... كلما أقبل نحوي وغمز وإذا جالسني جر عني ... عصص الموت بكربٍ وعلز يصف الود إذا شاهدني ... فإذا غاب وشى بي وهمز كحمار السوء يبدي مرحاً ... وإذا سيق إلى الحمل غمز ليتني أعطيت منه بدلاً ... بنصيبي شر أولاد المعز قد رضينا بيضةً فاسدةً ... عوضاً منه إذا البيع نجز العوز بفتحتين: الحاجة. تقول: عوز الشيء بالكسر أي لم يوجد. وسداد الشيء: ما يسد به. تقول: هو سداد من عوز ووجدت سدادا من عيش أي ما تسد به الخلة وهو بكسر السين والفتح ضعيف أو لحن. والسداد بالفتح: الصواب. والعلز بفتحتين: القلق والضيق. تقول: علز بالكسر علزا في مرضه. وقال الآخر: أرضنا اللت آوت ذوي الفقر والذل ... فاضوا ذوي غنى واعتزاز قوله: اللت بسكون التاء لغة في التي الموصول. وقال أبن الرومي: وحديثهما السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث إنما لم توجز شرك العقول ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز ونحوه في ذكر الحديث قول الآخر: وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حياً ... ويقول من فرحٍ هيا ربَّا! وقول الآخر:

فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... حديثٌ كمثل المسك شيبت به الخمرُ حديثٌ لو أنَّ الميت نودي ببعصه ... لأصبح حياً بعدما ضمه القبرُ وقول الآخر: منعمةٌ يحار الطرف فيها ... كأنَّ حديثها سكر الشرابِ من المتصديات لغير سوءٍ ... تسيل إذا مشت سيل الحبابِ وقول الآخر: وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها وتقدمت قصة هذا الشعر. وقول بشار: وكأنَّ رفض حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا وكأنَّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما جمعت عليه ... ثيابها ذهباً وعطرا وكأنها برد الشراب ... صفا ووافق منك فطرا وفي استكراه الحديث قول أبي علي البصير: غنائك عندي يميت الطرب ... وضربك بالعود يحيي الكرب ولم أر قبلك من قينةٍ ... تغني فأحسبها تنتحب ولا شاهد الناس أنسية ... سواك لها بدن من خشب ووجهٌ رقيبٌ على نفسه ... ينفر عنه عيون الريب ولو مازج النار في حرها ... حديثك أخمد منه اللهب فكيف تصدين عن عاشقٍ ... يودك لو كان كلباً كلب وقال الآخر: أويت في الدهليز مذ أربعٍ ... ولم أكن آوي الدهاليزا خبزي من السوق وشعري لكم ... تلك لعمري قسمةٌ ضيزا وقالت أنا: إذا كنت مرتاداً أخاً ذا صداقةٍ ... فلا تصحبن إلا البقال أنت رائزُ

فعيب الفتى غيبٌ إذا تركته ... وعند احتكاك الجدل تبدو الغرائزُ وإنَّ إخلاء الرفاهة جمةٌ ... ولكن إخوان الكروب معاوزُ وقلت على وجه التلميح والمطايبة لبعضهم: أتهمز يا أبن الأسود اسمي آفكاً ... فهل حسن لولا الضلالةُ يهمزُ؟ نعم تهمز الأنذال مثلك كلما ... تعاورها نظم القريض وتلمزُ فهل أنت عن تلك السفاهة مقصرٌ ... فتنجو من سيل له أنت مركزُ؟ وإلا فبحري لا تدركه الدلا ... ومتن قناتي لا يرى فيه مغمزُ توافيك مني بكرة وعشية ... قوافي بها طمر الهجاء يطرزُ على أنَّ هجو النذل مثلك شائنٌ ... وما الهجو إلاّ الهجو للكفء يبرزُ وإذ لست بالكفء الكريم فلا يكن ... بقلبك مني أو لحائي معلزُ ولعل هذا القدر يكفينا من هذا الباب. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب السين المهملة

باب السين المهملة المسألة أخر كسب المرء. السؤال: الطلب والسؤل بالضم مهموزا ومخففا: ما تسأله؛ وسألته الشيء وعنه وبه سؤالا ومسأله وتسآلا. وقد يقال سال مخفف الهمز قال الشاعر: ومرهقٍ سال إمتناعاً بأصدته ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه الأصدة: قميص صغير يلبس تحت الثوب والكسب معروف. وهذا من أمثال أكثم بن صيفي في استقباح مسألة الناس. قاله أبو عبيد القاسم بن سلام. وقال البكري: بل هو من كلام قيس بن عاصم قال لبنيه: إياكم ومسألة الناس فإنها أخر كسب الرجل! قال: وأخر على وزن فعل ومعناه أبعد من الخير وأرذله. ومن حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد أنَّ رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأخر زنى أي الأبعد. قال: ولا يحسن أن يقال هنا آخر بالمد الذي هو نقيض أول لأنَّ ذلك إباحة للمسألة وإن يكون من آخر ما يكسب به المرء والمسألة مكروهة منهي عنها في الجاهلية والإسلام وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحتطب المرء على ظهره ولا يسأل الناس. انتهى. والذي في الصحاح: يقال في الشتم أبعد الله الأخر بقصر الهمزة وكسر الخاء وهو قريب مما مر ودليل على صحته. أسائر اليوم وقد زال الظهر؟ السائر: الباقي وقد يستعمل بمعنى الجميع وتقدم ما فيه. والظهر معروف والهمزة للاستفهام الإنكاري.

تسألني برامتين سلجما

وسبب هذا قوما أغير عليهم فاستصرخوا ببني عمهم فأبطؤوا عنهم حتى أسروا وذهب بهم. فجاؤوا يسألون عنهم فقال لهم المسؤول: أسائر القوم وقد زال الظهر؟ أي كيف تطمعون فيما بعد وقد تبين لكم اليأس والفوات؟ وذلك أنَّ من كانت حاجته اليوم جميعه ثم زال الظهر وجب أن ييأس من الحاجة كما ييأس منها بغروب الشمس. تسألني برامتين سلجماً السؤال تقدم ورامة اسم موضع. قال زهير: لمن طلل برامتة لا يريم؟ ... عفا وخلا له حقبٌ قديمُ! وثنوه في هذا المثل اتساعاً. ومثله قول الآخر: لمن الديار برامتين فعاقل؟ ... دست وغير أيّها القطرُ! وهذه الثنية هكذا شائعة في أسماء المواضع عند العرب. ومثله قول ورقة: ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا وإنّما يريد مكة. وقول الفرزدق: عشية سال المربدان كلاهما وإنّما يريد مربد البصرة. وجعل السهيل من هذا قول زهير: ودارٌ لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم وقول عنترة: شربت بماء الدحر ضين فأصبحت ... زوراء تنقر عن حياض اليلمِ في اصح القولين.

وقال أيضاً: كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغليم؟ وقولهم: صدنا بقنوين. ويقال: عنيزة اسم موضع وقنا اسم جبل وقال غيره: عنيزتان اسم موضع وأما الدحرضان فهو على التغليب لمائين: أحدهما يقال له دحرض والآخر: وسيع فثناهما الشاعر وغلب لفظ أحدهما على الآخر كالقمرين. وحكى الجوهري أول كلامه أنَّ الدحرض اسم موضع وهو يوافق ما قال السهلي وأما الرقمان في قول زهير ففي شرح ديوان الشعراء هما موضعان: أحدهما قرب المدينة والآخر قرب البصرة. فأراد أنَّ الدارين بين الرقمتين كما تقول: فلان بمكة أي بين بيوت مكة. وفي القاموس: الرقمتان روضتان بناحية الصمان. والرقمة أيضاً الوادي والروضة ومنه قول زهير عند الجوهري. ويحتمل أن يوافق ما قال السهلي أو يخالفه إذ لا مانع من أن يريد روضتين. فتجيء التثنية على بابها. ووجه تثنية الموضع الواحد في كل ما مر الإشارة إلى جانبيه. قال السهلي وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة أو بستان فتسميتها جنتين في فصيح الكلام إشعاراً بأن لها وجهين وأنك كلما دخلتها ونظرت يمينا وشمالا رأيت من كلا الطرفين ما يملأ العين قرة والصدر مسرة. وفي التنزيل: جنتان عن يمينٍ وشمالٍ إلى قوله: وبدلناهم بجنتهم جنتين. وفيه: جعلنا لأحدهما جنتينِ من أعناب وفي آخرها: ودخل جنته فأفر بعد ما ثنى وهي هي. قال: وقد حمل بعض الفقهاء على قوله سبحانه: ولمن خاف مقام ربه جنتان. انتهى. ومن هذا والله أعلم أيضاً عمايتان في قول الآخر: لو أنَّ عصم عمايتين ويذبلٍ ... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا! وإن وقع في كلام أبن مالك في شرح " التسهيل " وأتباعه أنهما جبلان فإنَّ الذي في متون اللغة المتداولة أنَّ عماية جبل من جبال هذيل وليس فيهما ذكر الجبلين. وكما

في دار البقر تصيب التبن.

ثنت العرب البقاع للمعنى السابق كذلك جمعتهما أيضاً إشارة إلى جواب الذي إلا أنَّ الجمع أقل. ومنه قول مطرود بن كعب الخزاعي: وهاشمٍ في ضريح عند بلقعةٍ ... تسفي الرياح عليه وسط غزاتِ يعني غزة وهو بلد بفلسطين مات به هاشم بن عبد الله مناف. ومثله: بغاذين من بغذان كما وقع في شعر بعض المولدين. ولأبي الطيب معه قصة ذكرها صاحب العمدة. ويرد هنا سؤال هو أنَّ العلم إذا ثني سلب التعيين فجازت تحليته بال. وهذه التثنيات المذكورات في أعلام البقاع ليست على وجهها: فإنها في اللفظ تثنية وفي المعنى إفراد إلا على حال واعتبار. والظاهر أنَّ الوجه الذي به تسوغ التثنية وقد مر شرحه يسوغ به إدخال الألف واللام وبذلك الوجه كان اللفظ مثنى لفظا ومعنى. ويدل لهذا قول السابق المكتين. على أنا لو سلمنا أنه تثنية في اللفظ خاصة دون المعنى منعنا دخول الألف واللام إذ التثنية الملزومة كما تزاد في المفرد العلم نحو: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً ... شديداً بأعباء الخلافة كاهله والسلجم نبت بوزن جعفر. والسلجم أيضاً: الطويل من الخيل أو الرجال. والسلجم أيضاً: البئر العادية الكثيرة الماء. وهذا المثل لم اقف له بعد على تفسير وكأنه شطر رجز. والظاهر أنَّ المراد بالسلجم فيه النبت أو البئر وإنّه استباقاً لسؤال ذلك وطلبه في هذا المكان الذي هو رامة لعدمه فيه. فيكون على معنى المثل الآتي: تسألني أبا الوليد جملا يمشي رويدا ويكون أولا في طلب ما لا يكون. ومثله قول العامة: في دار البقر تصيب التبن.

أسأل من قرثع.

أسأل من قرثع. السؤال تقدم؛ وقرثع بثاء مثلثة على مثل جعفر رجل من تغلب ثم من أوس كان من أشد الناس سؤالا فضرب به المثل. سبني واصدق. السب: الشتم. والسب أيضاً: الطعن في السبة أي الاست. قال: وما كان ذنب بني مالكٍ ... بأن سب منهم غلامٌ فسبَّ أي شتم فعقر. وتساب الرجلان: تشاتما أو تقاطعا. والسبة بالضم: العار ومن يسبه الناس كثيرا؛ والسببة كهمزة من يسبهم؛ والسب بالكسر الكثرة وسبك من يسابك. قال حسان: لا تسبنني فلست بسبي ... أنَّ سبي من الرجال الكريم والصدق ضد الكذب. والمعنى أنك إذا ساببتني وجانبت الكذب فلا أبالي. سبَّ من سبكَ يا هبَّارُ! يتمثل به كثيرا وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكان هبار بن الأسود تبع زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت من مكة مهاجرة فروعها وأسقطت ذا بطنها في قصة مشهورة في السير. ثم أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون يسبونه بما فعل حتى شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: سبَّ من سبك يا هبار! فكف الناس عن سبه بعد. سبق السيف العذل! السبق معروف والسيف كذلك والعذل بالذال المعجمة: الملامة؛ والعذل بالتحريك الاسم منه. وهذا المثل يضرب في الأمر يفوت ولا يطمع في تداركه وتلافيه.

وأصله أنَّ الحارث بن ظالم ضرب رجلا بسيفه فقتله فأخبر بعذره فقال: سبق السيف العذل! وقيل إنَّ أصله إنَّ سعداً وسعيداً، أبني ضبة بن أد خرجا في طلب لهما، فرجع سعد وفقد سعيد. وكان ضبة إذا رأى شخصا مقبلا قال: أسعد أم سعيد؟ ثم إنّه في بعض مسائره أتى مكانا ومعه الحارث بن كعب في شهر الحرام، فقال: قتلت هنا فتى صفته كيت وكيت، وأخذت منه هذا السيف. فتناوله ضبة فعرفه فقال: إنَّ الحديث ذو شجون، ثم ضربه فقتله، فعذل فقال: سبق السيف العذل! وقال جرير: يكلفني رد الغراب بعد ما ... سبقن كسبق السيف ما قال عاذله وذكر البكري أبو عبيد إنَّ أوّل من قال: سبق السبق العذل، خريم بن نوفل الهمداني، وذلك أنَّ النعمان بن ثواب العبدي كان له بنون: سعد وسعيد وساعدة. فأما سعد فكان رجلا شجاعا بطلا؛ وأما سعيد فكان جوادا سمحا ذا إخوان وصنائع؛ وأما ساعدة فكان صاحب شراب وندمان. وكان أبوهم النعمان ذا شرف. وكان يوصيهم ويحملهم على أدبه. فقال لسعد، وكان صاحب حرب: إنَّ الصارم ينبو، والجواد يكبو، والأثر يعفو، والحليم يهفو. فإذا شهدت حربا فرأيت نارها تستعر، وبحرها يزخر، وبطلها يخط، وضعيفها يبصر فإياك أنَّ تكون صدي رماحها ونطيح نطاحها! وأعلم عند ذلك انهم ينصرون! ثم قال لسعيد، وكان جواداً: يا بني إنّه يبخل الجواد، ويصلد الزناد، ويحمد الثماد، وتحمل البلاد. فلا تدع إنَّ تجرب إخوانك وتبلوا أخدانك! ثم قال لساعدة: يا بني، إنَّ كثرة الشراب يفسد القلب ويقل الكسب، ويحدث اللغب. فأنظر نديمك واحم حريمك، وأعن غريمك. واعلم أن الظمأ القامح، خير من الري الفاضح. وعليك بالقصد، فإنَّ فيه بلاغا! ثم إنَّ النعمان توفي، فقال سعيد: آخذن بأدب أبي ولابلون أوثق أخوتي في نفسي! وعمد إلى كبش فذبحه، ثم أضجعه في قبته وغشاه ثوبا. ثم دعا رجلا كان

سبقك بها عكاشة.

أوثق إخوانه في نفسه فقال: يا أبا فلان، إنّما أخوك من صديقك بعهده أحاطك برفده، وأقام معك بجهده، وسواك بولده. قال: صدقت! قال: فأني قتلت فلانا فما عندك؟ قال: فالسوأة السوأى وقعت فيها وانغمست. قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد أنَّ تعينني عليه حتى أغيبه. قال: لست لك في ذلك بصاحب! فتركه وانطلق. ثم دعا سعيد رجلا آخر من إخوانه يقال له خريم بن نوفل فقال: يا خريم، ما عندك؟ قال: ما يسرك. قال: فإني قتلت قلانا. قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد أنَّ تعينني حتى أغيبه. قال: لهان ما فزعت فيه إلى أخيك! ثم قال، وعبد لسعيد معهما: هل أطلع على هذا عبدك هذا؟ فقال: لا. فأهوى خريم بالسيف إلى العبد فقتله وقال: ليس عبد بأخ لك! ففزع لذلك سعيد وقال: ما صنعت إنما أردت تجربتك. فقال خريم: سبق السيف العذل! انتهى. وقال الطغرائي: إنَّ كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبق السيف للعذل سبقك بها عكاشة. يتمثل بها كثيرا، وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. لمّا ذكر الدين يدخلون الجنة بغير حساب، قام إليه عكاشة بن محصن، رضي الله عنه، فقال: أمنهم أنا، يا رسول الله، أو أدع الله أنَّ يجعلني منهم؟ فقال: نعم! فقام رجل آخر فقال مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: سبقك عكاشة. والحديث مشهور معروف ما فيه من المعنى. سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشع. سد أبن بيضٍ الطريق. السد ضد الفتح معروف، وإنَّ أبن بيض بكسر الباء، وقيل بالفتح رجل من عاد تاجر

سداد في كفاف، أفضل من غنى مع إسراف.

عقر ناقته على ثنية فسد بها الطريق ومنع الناس من سلوكها. ويقال إنَّ أبن بيض لمّا حضرته الوفاة قال لابنه: لا تقارب لقمان في أرضه! فإذا مت فسر بأهلك ومالك حتى إذا كنت في ثنية كذا فاقطعها بأهلك واترك فيها للقمان حقه، فإنَّ له عندنا في كل عام حلة وجارية وراحلة. فإنَّ هو قبلة فهو حقه عرفناه له لا جارته وخفارته؛ وإنَّ هو لم يقبل وبغى، أخذه الله تعالى ببغيه. فلما مات، فعل الفتى ما أمره به. فأتى لقمان الثنية وأخذ ذلك وقال: سد أبن بيض الطريق! وقال عمر بن الابرد في ذلك: سددنا كما سد أبن بيض سبيلها ... فلم يجدوا عند الثنية مطلعا سداد في كفافٍ، أفضل من غنى مع إسرافٍ. هذا مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. وتقدم ضبط السداد. يسدي ويلحم. السداد من الثوب معروف. واسديت الثوب وسديته. واللحمة بضم اللام من الثوب: ما سوى السدا. وألحمت الثوب: نسجته. ثم جعل مثلا في الاشتغال بالشيء وإتمامه، كما قالوا في المثل الآخر: ألحم ما أسديت! أي تمم ما ابتدأت وقال أبو تمام في الأول: وقلت أنا من قصيدة تقدم إنشادها: يسدي ويلحم في مزاولهٍ ... ما ليس يدركه مدى العمر السراح، من النجاح. السراح بالفتح اسم من التسريح وهو التطليق سرحت المرأة تسريحا والنجاح معروف. والمعنى انك إذا لم تقدر على قضاء حاجة إنسان فأيسته بمرة، كان ذلك بمنزلة ما لو قضيت مطلوبه.

سرك أسيرك، فإن نطقت به كنت أسيره،

سرك أسيرك، فإنَّ نطقت به كنت أسيره، هذا من الأمثال الحكيمة في حفظ السر. ومثله ما روي أنَّ معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عقبة حديثا فقال الوليد لأبيه: يا أبت إنَّ أمير المؤمنين أسر إلى حديثا وما أراه يطوي عنك ما بسط إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به فإنَّ من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه! قال: قلت: يا أبت وإن هذا لديك بين الجل وبين أبيه؟ قال: لا والله يا بني! ولكن أحب أن لا تلل لسانك بأحاديث. قال: فأتيت معاوية فحدثته فقال: يا وليد أعتقك أخي من رق الخطأ!. وحكى الإمام الغزالي رحمه الله تعالى قال: اجتمع أربعة ملوك: ملك الهند والصين وكسرى وقيصر فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل. وقال الآخر: إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم ملكتها ولم تملكني. وقال الثالث: عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه. وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر على رد ما قلت. وسيأتي إتمام هذا المعنى في الحكم بأشبع من هذا إن شاء الله تعالى. أسرع من نكاح أم خارجة. السرعة بالضم والسرع بفتحتين والسرع بوزن عنب ضد البطء. سرع الرجل بالضم فهو سريع؛ وأسرع أيضاً فهو مسرع. قيل: وأصل الرباعي التعدي بنفسه أي أسرع نفسه أو مشيه كما في الحديث: فليسرع المشي! لكنه يحذف لظهوره. والنكاح بالكسر: الوطء والعقد أيضاً. يقال: نكحها ينكح بالفتح والكسر؛ ونكحت هي أيضاً فهي ناكح أي ذات زوج قال تعالى: حتى تنكح زوجا غيره. وقال الشاعر: لصلصلة اللجام برأس طرفٍ ... أحب إلي من أن تنكحيني

واستنكحها بمعنى نكحها؛ وأنكحها: زوجها والاسم منه النكح بالكسر والضم وهي كلمة كانت العرب تتزوج بها. يقول الخاطب: خطبٌ بكسر الخاء وضمها ويقول المخطوب: نكح بكسر النون أيضاً وضمها؛ وأم خارجة امرأة من بجيلة ولدت قبائل كثيرة من العرب واسمها عمرة بنت سعد وخارجة ابنها. قال في الصحاح: ولا يعلم ممن هو ويقال هو خارجو بن بكر بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وكانت أم خارجة من الشهوة والشبق إلى الرجال في غاية. فكان يقال لها: خطبٌ فتقول: نكحٌ فقالوا: أسرع من نكاح إم خارجة. ويحكى أنَّ السيد الحميري خرج يوما سكران، فلقي بنت فجاءة بن عمرو بن قطري الخارجية، وكانت حسناء. فأوقفها وانشد من شعره، فأعجب كل واحد منهما صاحبه ثم خطبها، فقالت: كيف يكون هذا ونحن على ظهر الطريق؟ قال: يكون كنكاح أم خارجة، قيل لها: خطب، قالت: نكح. فاستضحكت وقالت: ننظر في هذا، وعلى ذلك فمن أنت؟ فقال: إنَّ تسأليني بقومي تسألي رجلاً ... في ذروة العز من أجواد ذي يمن ثم الولاء الذي أرجو النجاة به ... من كبة النار للهادي أبي حسن فقالت: لا شيء أعجب من هذا: يماني وتميمية، ورافضي وإباضية، فكيف يجتمعان؟ فقال: بحسن رأيك في تسخو نفسك، ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا. قالت: أفليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور؟ قال: إنّما أعرض عليك. قالت وما هي؟ قال: المتعة التي لا يعلم بها أحد. قالت: تلك أخت الزنى. قال: تلك أخت الزنى. قال: أعيذك بالله إنَّ تكفري بعد الإيمان! قالت: وكيف؟ قال لها:) فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة (. فقالت: استخير الله وأقلدك إذ كنت صاحب قياس وتفتيش. فانصرفت معه وبات معرسا بها. وبلغ أهلها من الخوارج أمرها، فتوعدوها بالقتل وقالوا: تزوجت بكافر. فجحدت وكانت تخلف إليه مرة وتواصله. قلت: وأين هاتان المرأتان من أم حكيم الخارجية؟ وكانت اجمل نساء زمانها ومن أشجع الناس وأحسنهم بديهة. خطبها جماعة من أشراف الخوارج، فردتهم. وهي القائلة ألا إنَّ وجها حسن الله خلقه ... لأجدر أنَّ تلقى به الحسن جامعا

سرعان ذا إهالة!

وأكرم هذا الحرم عن أنَّ يناله ... تورك فحل همه أنَّ يجامعا وكانت مع قطري بن الفجاءة في عسكر الأباضية. فكانت ترتجز في تلك الحروب وتقول: أحمل رأساً قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله ألا فتى يحمل عني ثقله؟ والخوارج يفدونها بالآباء والأمهات. وكان قطري يشبب بها وفي ذلك يقول في وقعة دولاب: لعمرك إني في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيمِ من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيمِ لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جد لئيمِ ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميمِ غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميمِ فلم أر يوما كان أكثر مقطعاً ... يمج دماً من فائضٍ وكليمِ وضاربةٍ خداً كربواً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريمِ أصيب بدولاب ولم يك موطناً ... له أرض دولاب ودير حميمِ فلو شهدتني يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريمِ رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدنٍ عنده ونعيمِ سرعان ذا إهالة! السرعة تقدمت. ويقال: سرعان ذا خروجا مثلثة السين أي سرع هذا خروجا. ويقال: لسرعان ما صنعت كذا! أي ما أسرع! والإهالة: الشحم أو ما أذيب منه أو الزيت وكل ما ائتدم به وهمزتها أصلية ورجل مستأهل: آخذ الإهالة أو آكل لها. قال: لا بل كلبي يا أم واستأهلي ... إنَّ الذي أنفقت من ماله!

أسرع من تلمض ورل.

وأصل المثل أنَّ رجلا كانت له نعجة عجفاء يسيل رغامها من أنفها فقيل له: ما هذا؟ قال: ودكها يظن الرغام شحما. فقال السائل: سرعان ذا إهالة! ونصب إهالة أما على التمييز المحول من الفاعل أي: سرع إهالة هذه أو على الحال أي: سرع هذا الرغام حال كونه إهالة فيضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته. وسمعت قديما من بعض الأشياخ أنَّ أصل هذا أنَّ أعرابية كان لها أبن أحمق فذهب فوجد نعجة عجفاء فاشتراها فقال لأمه: إني اشتريت نعجة سمينة. فلما أخرجها إلى أمه ورغامها يسيل من أنفها قال لها: انظري إلى إهالة ما علفتها! فقالت أمه: سرعان ذا إهالة. أسرع من تلمض ورلٍ. يقال: لمظ بالظاء المشالة وتلمظ إذا تتبع بقية الطعام في فيه بطرف لسانه أو أخرج لسانه فمسح به شفته؛ واللماظة بالضم: البقية التي يتلمظها. قال الشاعر يصف الدنيا: لماظة أيامٍ كأحلام نائمٍ والورل بفتحتين والراء المهملة حيوان كالضب جمعه أورال وورلان. وهو سريع التلمظ أي الأكل بطرف اللسان. أسرع السحب في المسير الجهام. هذا شطر بيت لأبي الطيب وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى أسرق من زبابةٍ السرقة معروفة سرق الشيء بالفتح يسرقه سرقا بفتحتين وسرقة كنبقة.

أسرى من جندب.

والزباب بالزاي وباءين موجودتين والواحدة زبابة: فارة صماء عظيمة تسرق ويضرب بها المثل في السرقة وشبه بها الجاهل. قال الشاعر: وقد رأيت معاشراً ... جمعوا لهم مالا وولدا وهم زباب حائرٌ ... لا تسمع الآذان رعدا أي لا تسم آذانهم رعدا لصممهم. وحذف الضمير من اللفظ أو استغنى عنه بالألف واللام على ما عرف في المذهبين. ويعني أنَّ من الناس من رزق أموالا وأولادا وهو ما هو في الجهل والحيرة والدناءة. وذلك من الدليل على أنَّ الله تعالى هو مستند الأرزاق لا العقول والحيل وإنّه تعالى لم يجعل الدنيا الدنية مقصورة على العقل الشريف ولا كفأاً له. أسرى من جندبٍ. السرى بوزن الهدى: سير الليل. يقال: سرى يسري سرى ومسرى وأسرى إذا مشى فيه؛ والجندب بضمتين ويجوز فتح الدال ضرب من الجراد الجمع جنادب. قال كعب رضي الله عنه: وفال للقوم حاديهم وقد جعلت ... ورق الجنادب يركض الحصا قيلوا أسرى من قنفذٍ السرى تقدم؛ والقنفذ بالذال المعجمة بوزن جندب معروف والأنثى قنفذة ويقال له الأنقذ وتقدم في حرف الباء وأنه يسري الليل ولا يكاد يظهر إلاّ فيه. أسعدٌ أم سعيدٌ؟ هذا يقولنه مثلا في السؤال أي هذا الشيء مما يحب أم مما يكره؟ وأصل ذلك أنَّ سعداً وسعيداً أبني ضبة بن أد خرجا في طلب إبل لهما. فرجع سعد وفقد سعيد وتقدمت الحكاية في هذا الباب فصار سعيد يتشاءم به.

السعيد من وعظ بغيره.

وقد روي عن عبد الله بن الحارث قال: بعثني أبي وبعث العباس ابنه الفضل رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يجعل لنا السقاية. فلما أتيناهما منصرفين قالا: ما وراءكما؟ أسع أم سعيد؟ قالا ووقع مثل ذلك لبيهس المعروف بنعامة إذ قتل أخوته. ذكر ذلك كله أبو عبيد القاسم بن أمثاله. السعيد من وعظ بغيره. هذا مثل في الأمر بحسن التدبير. وتمامه: والشقي من وعظ بنفسه. ويروى الأول حديثا والله اعلم. وفي معناه ما أنشد الجاحظ: لا أعرفنك إنَّ أرسلت قافية ... تلقى المعاذير إنَّ لم تنفع العذر إنَّ السعيد له في غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر أسفد من ديكٍ. يقال: سفد الذكر على الأنثى يسفد كضرب يضرب وسفد يسفد كعلم يعلم، سفاداً، إذا نزل عليها؛ والديك معروف، وهو كثير السفاد. أسفد من هجرسٍ. الهجرس بالكسر ولد الثعلب، وقيل هو الثعلب والقرد والدب، وقيل كل ما يعس بالليل مما دون الثعلب وفوق اليربوع. وفي المثل أيضا: أغلم من هجرس، والغلمة: شهوة النكاح وسيأتي، وأزنى من هجرس وتقدم. والهجرس أيضاً: أبن كليب بن ربيعة التغلبي، ذكر في حرب البسوس. سفيه لم يجد مسافها. السفه والسفاه والسفاهة بالفتح ضد الحلم أو الخفة أو الجهل، وسفهه

سقط العشاء به على سرحان.

تسفيها: نسبه إليه، وسافهه مسافهة: شاتمه وسابه، وسافه الشراب: أسرف فيه. والمثل عند الجوهري من المعنى الأول. وكذا أبو عبيد، ذكره في أمثال الملاحة والتشاتم قال البكري: وهذا المثل يروى عن الحسن بن علي إنّه قاله لفلان. وأنشد في نحو ذلك لحاجب بن زرارة: أغركم إني بأحسن شيمة ... وفيق وإني بالفواحش أخرق وانك قد فاحشتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفاحش أرفق ومثلي إذا لم يجز أفضل سعيه ... تكلم نعماه بفيها فتنطق سقط العشاء به على سرحانٍ. السقوط معروف؛ والعشاء بفتح العين المهملة والمد طعام العشي كالعشى بالكسر جمعه أعشية؛ وعشوت الرجل وأغشيته وعشيته تعشية: أطعمته ذلك، وتعشى هوقال: الفرزدق: تعش فأن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان وهو عيشان؛ والعشى بالقصر سوء البصر بالليل والنهار، كالعشاوة أو العمى، عيشي بالكسر يعشى، وعشا يعشو، فهو عش، وأعشى، هي عشواء؛ والسرحان بالكسر: الذئب. قال امرؤ القيس: له إبطا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تنفل وهو بلغة هذيل الأسد، قال الشاعر يرثي ميتا: هباط أودية حمال ألوية ... شهاد أندية سرحان فتيان وهذا المثل يضرب للرجل يطلب حاجة فيقع في الهلكة. واختلفوا في أصله فقيل دابة خرجت تلتمس العشاء، فوقعت على الأسد أو على الذئب فأكلها. وقيل رجل خرج كذلك، فوقع عليه. وقيل إنَّ سرحانا اسم رجل، وهو سرحان بن متعب اليربوعي. وكان فاتكاً، فحمى واديا فجاء عوف الأسدي فقال: لأرعين إبلي بهذا الوادي! فرعاها فأتاه سرحان فقتله، وقال هداة بن متعب، أخوه، لامرأة الأسدي يقال لها نصيحة:

اسق أخاك النمري يصطبح!

أبلغ نصيحة أنَّ راعي إبلها ... سقط العشاء به على سرحان سقط العشاء به على مقتمرٍ ... طلق اليدين معاود لطان وعلى هذا كله، فالعشاء بالمد. وقيل أنَّ أصله أنَّ رجلا أعشى البصر وقع ذئب فأكله. وعليه، فيكون العشى مقصورا. اسق أخاك النمري يصطبح! السقي معروف، يقال: سقيته وأسقيته، وسقيته تسقيه. وقيل أسقيته: دللته على الماء، وأسقيت ماشيته أو أرضه: جعلت لها ماء. وسقاها الله غيثا: أنزله عليه، واستسقيته أنا: قلت له: سقاك الله أو سقيا! قال امرؤ القيس: فأسقي به أختي ضعيفة إذ نأت ... وإذ بعد المزار غير القريض أي أدعو لها بالسقيا. أي ادعوا لها بالسقيا. وقال ذو الرمة: فما زلت أسقي ربعها وأخاطبه وقلت أنا في هذا المادة: سقى الله أطلالا بأكثبة الحمى ... من العارض الهتان صوب عهاد بلاد بها حلت سليمى وأهلها ... فحل فؤادي عندها وودادي وإني متى أسقيتها أو بكيتها ... هيما فما أسقيت غير فؤادي! ويجوز أنَّ يقع أحدهما موقع الآخر كما قال لبيد: سقى قومي بين مجد وأسقى ... نمير والقبائل من هلال والنمري بفتح الميم نسبة إلى النمر بن قاسط بكسر الميم، وهو أبو قبيلة من جذيلة. وإنّما فتحت الميم في النسبة، كنظائوه، كراهية توالي ما هو في حكم الكسرات.

اسق رقاش إنها سقاية!

وأصطبح الرجل: شرب الصبوح بالفتح، وهو ما يشرب صباحا؛ وأصبح أيضا: أوقد المصباح. ولم أقف بعد على تفسير هذا المثل، وأظن أنَّ معناه إنّه لثقله إذا سقيته انتظر للصبوح فيكون كالمثل السابق: أجلسته عندي فاتكاً، والمثل الآتي: أطعم العبد الكراع، فيطمع في الذراع! اسق رقاش إنّها سقاية! السقي مر؛ ورقاش اسم أمرأة، ويقال ساقية وسقاءة بالتشديد فيهما وجاز في الياء القلب وعدمه، نظر إلى اعتبار زيادة هاء التأنيث وإلى لزومها في هذا البناء. ويضرب للمحسن أي: احسنوا إليه لكونه محسنا. قال الحماسي: سكت ألفا، والنطق خلفا. السكوت معروف؛ والألف عدد معروف؛ والنطق خلاف السكوت؛ والخلف نقيض القدام. والخلف أيضاً الرديء من الكلام ومنه المثل. ومعناه: سكت عن ألف كلمة صواب ثم نطق بخطأ. وهكذا فسروه. وحكوا أنَّ أعرابيا جلس مع قوم، فحبق حبقة فتشور، فأشار بإبهامه إلى أسته وقال: إنّها خلف نطقت خلفا! وهذا صحيح في لفظ الخلف في المثل. وأما في لفظ الألف، فالذي يظهر منه لا. وادبيهة أنَّ المراد به ألف سنة أو نحو ذلك من الأزمان، ويكون المراد الأخبار عن إطالة السكوت، لا حقيقة الألف. وكأنه قيل: إنّه أطال السكوت ثم لمّا تكلم لم ينطق إلاّ بالرديء من الكلام. ومن هذا يحكى إنَّ شابا كان يجالس الأحنف وكان صموتا، فأعجب الأحنف ذلك منه. ثم خلت الحلقة يوما فقال له: يا أبن أخي، مالك لا تتكلم؟ فقال: يا عم، أرأيت لو أنَّ رجلا سقط من شرفة هذا المسجد، أيضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك، يا أبن أخي!

ثم انشد متمثلا: وكائن ترى من صامت معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلاّ صورة اللحم والدم! ويحكى أيضاً إنَّ رجلا كان يكثر مجالسه أبي يوسف ويطيل الصمت. فقال له أبو يوسف يوما: إلاّ تسأل؟ فقال: بلى! متى يفطر الصائم؟ فقال: إذا غربت الشمس. قال: فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف وتمثل بقول أبي الخطفا: عجبت لإزراء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالعلم اعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنّما ... صحيفة لب المرء إنَّ يتكلما ومن معنى هذا الشعر قول الآخر: المرء يعجبني وما كلمته ... ويقال لي: هذا اللبيب اللهذم فإذا قدحت زناده وسبرته ... في كف زاف كما يزف الدرهم وقول الآخر: ترى الناس أشباها إذا جلسوا معا ... وفي الناس زيف مثل زيف الدراهم وقال عدي بن الرقاع: الناس أشباه وبين حلومهم ... بون كذلك تشابه الأشياء ومن معنى الحكايتين المذكورتين، من سؤال المغافلين، ما يحكى عن الإمام الماوردي، رحمه الله، قال: كنت بمجلس درسي بالبصرة، فدخل علي شيخ مسن قد ناهز الثمانين أو جاوزها، قال: قصدتك بمسألة اخترتك لها. فقلت: ما هي؟ وظننت إنّه يسأل عن حادثة نزلت به. فقال عن طالع إبليس وطالع آدم من النجوم ما هو؟ فإنَّ هذين لعظيم شأنهما، لا يسأل عنهما إلاّ علماء الدين. قال، فعجبت وعجب من في المجلس من سؤاله. وبادر إليه قوم منهم بالإنكار والاستخفاف، فكففتهم وقلت: هذا لا يقنع مع ما ظهر من حاله، إلاّ بجواب مثله! فأقبلت عليه وقلت: يا هذا، إنَّ النجمين يزعمون إنَّ نجوم الناس لا تعرف إلاّ بمعرفة مواليدهم. فإنَّ ظفرنا بمن يعرف وقت ميلادهما أخبرك بالطالع. فقال: جزاك الله خيرا! وانصرف مسرورا. فلما كان بعد أيام

أسكت من سمكة.

عاد وقال: ما وجدت إلى وقتي هذا من يعرف مولدهما. أسكت من سمكةٍ. السمكة بفتحتين: واحدة السمك وهو الحوت. أسلح من حبارى. السلاح بالضم كغراب: النجو يقال: سلح الرجل وغيره يستلح كمنع يمنع. والحبارى: الطائر المعروف. وذكروا إنَّ للحباري خزانة في دبرها فيها أبدا سلح رقيق فمتى ألحت عليها الجوارح سلحت عليها فينتف ريشها، وفي ذلك هلاكها. قالوا: فجعل سلحها سلاحا لها. وقال الشاعر: وهم تركوك أسلح من حباري ... رأت صقرا وأشرد من نعام أسلح من دجاجٍ. الدجاج مثلث الدال المهملة معروف، واحدة دجاجة. ويقال: أسلح من الحباري حال الخوف، وأسلح من دجاج حال الأمن. السلطان كالنار. هذا من الأمثال الحكيمة، وتمامه: إنَّ باعدتها بطل نفعها، وإنَّ قاربتها عظم ضررها، وسيأتي في الحكم، إن شاء الله تعالى، استيفاء هذا المعنى. أسمع من حيةٍ. السمع حس الأذن، يقال: سمعه بالكسر يسمعه سمعا وسماعا وسماعة وسماعية، وتسمع وأستمع، ورجل سميع: سامع أو مسمع. قال

اسمع من دلدل.

عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع؟ حية. وهي موصوفة بالسماع القوي. اسمع من دلدلٍ. الدلدل بالدالين مهملتين، على مثال جندب: القنفذ، أو أعظم القنافذ. والدلدل أيضاً: الاضطراب. أنشد في الصحاح، لأبي معدان الباهلي: جاء الحزائم والزبائن دلدلاٍ ... لا سابقين ولا مع القطان أي: لا إلى هؤلاء ولا الذي هؤلاء. أسمع من سمعٍ. ويقال: اسمع من السمع الأزل، والسمع بكسر فسكون: ولد الذئب من الضبع وهو سبع مركب من هذين، فاستفاد قوة الضبع وجرأة الذئب. ويوصف بقوة السمع. قال الأعراب: تراه حديد الطرف أبلج واضحا ... أغر طويل البياع أسمع من سمع ويوصف أيضاً بالسرعة. يقال إنّه في عدوه أسرع من الطير، ووثبته تزيد على ثلاثين ذراعا. وفي بعض المجامع إنَّ ربيعة بن أبي مراد قال: أخبرني خالي قال: لمّا أظهر الله علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشعبنا في كل شعب، لا يلوي حميم على حميم. فبينما أنا في بعض الشعاب قد رأيت ثعلبا قد تحوى عليه أرقم، والثعلب يعدو عدواً شديدا فانحنيت عليه بحجر فما أخطأه. فانتهيت إليه فإذا الثعلب سبقني بنفسه، وإذا الأرقم تقطع وهو يضرب. فقمت أنظر اليه، فهتف بي هاتف ما سمعت

أسمع من فرخ عقاب.

أفصح من صوته يقول: تعسا لك وبؤسا! قد قتلت رمسا ووترت تيسا! ثم قال: يا دامر، يا دامر! فأجابه مجيب من العدوة الأخرى: لبيك لبيك بادر إلى بني الغدافر، فاخبرهم بما صنع الكافر! فناديت: إني لم أشعر، وأنا عائد بك فأجرني! فقال: كلا، والحرم الأمين، لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد عبر رب عالمين! قال. فناديت: إني مسلم! فقال: إنَّ أسلمت سقط عنك القصاص، وفزت بالخلاص، وإلاّ فلات حين مناص! قال. فقلت إنَّ لا اله إلاّ الله، وأشهد إنَّ محمّد رسول الله. قال. فقال: نجوت وهديت، ولولا ذلك لرديت. فأرجع من حيث جئت! قال: فرجعت أقفو أدراجي، فإذا هو يقول: امتط السمع الأزل، فقد بدا إليك هنالك أبو عامر يتبع بك ألفان. قال. فالتفت فإذا سمع كالأسد، فركبه فمر ينسل حتى أتى إلى تل عظيم فاسندني إلى تل فأشرفت منه خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوب من الحدور نحوهم. فلما دنوت منهم خرج إلي فارس فقال: ألق سلاحك، لا أم لك! فألقيت سلاحي فقال: ما أنت؟ قلت مسلم: فقال سلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته! فقلت: وعليك السلام والرحمة والبركة، من أبو عامر؟ قال: أنا هو. قلت: الحمد لله! قال: لا بأس عليك! هؤلاء إخوانك من المسلمين. ثم قال: إني رأيت بأعلى التل فارسا، فأين فرسك؟ قال: فقصصت عليه القصة، فأعجبه ما سمع مني، وسرت مع القوم أقفو آثار هوزان حتى بلغوا من الله ما أرادوا. أسمع من فرخ عقابٍ. الفرخ ولد الطائر والأنثى فرخة والجمع أفرخ وأفراخ. قال الحطيئة: ماذا أقول لأفراخ بذي مرخٍ ... حرم الحواصل لا ماء ولا شجر؟ يعني أولاده، والعقاب: الطائر المعروف، وتقدم الكلام عليها في حرف الباء. أسمع من قرادٍ. القراد كالغراب معروف جمعه قردان، وقردت البعير تقريداً: أزلت عنه القراد والتقريد أيضاً: الجذاع وأصله في البعير إذا أراد أنَّ يأخذه وهو صعب قردة

اسمع جعجعة ولا أرى طحنا.

أوّلاً ليرتاح إليه فيأخذه. قال الشاعر: وهم يمنعون جارهم أنَّ يقردا وقال الحطيئة: لعمرك ما قراد بني كليب ... إذا نزع القراد بمستطاع ويزعمون إنَّ القراد يسمع وطء أخفاف الإبل، من مسيرة يوم، فيتحرك لها ويزعمون أيضاً انهم ربما رحلوا عن ديارهم بالبادية وتركوها خالية، والقردان منتشرة في أعطان الإبل، ثم لا يخلفهم فيها ولا يعودون إلى تلك الديار إلاّ بعد عشر سنين وعشرين سنة فيجدون القردان حية وقد أحست بروائح الإبل قبل إنَّ توافيها فتتحرك لها. ومن ثم قالوا: اعمر من قراد، أيضاً. اسمع جعجعة ولا أرى طحنا. الجعجعة صوت الرحى، وتطلق أيضاً بمعنى الحبس والتضييق، كما في كتاب أبن زياد: جعجع بالحسين رضي الله عنه! والطحن معروف، وتقول طحنت البر بالفتح إذا صيرته دقيقا والطحن بالكسر الدقيق نفسه، ومنه المثل. والمعنى: اسمع صوت الرحى ولا أرى دقيقا. يضرب في سماع جلبة لا يعقبها نفع، وفي الجبان يوعد ولا يوقع، والبخيل يعد ولا يفي. تسمع بالمعيدي خير من إنَّ تراه. المعيدي تصغير المعدي مشدد بالدال، ثم خففت عند التصغير كراهية اجتماع السكانين. قال النابغة: ضلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في رعي وتعزيب وهذا على ما وقع في الصحاح وغيره من المعيدي في هذا المثل إلى معد

بالتشديد وقيل: المعيدي نسبة إلى معدٍ بسكون العين وتخفيف الدال، وهي قبيلة. وتصغيرها معيد. والمعيدي المذكور رجل من هذه القبيلة كان فاتكا يغير على مال النعمان بن المنذر، فيأخذه ولا يقدرون. فأعجب به النعمان لشجاعته وإقدامه فأمنه. فلما حضر بين يديه ورآه، استزرى مرآته، لأنه كان دميم الخلقة، فقال: لأن تسمع بالمعيدي خير من أنَّ تراه! فقال: أبيت اللعن، إنَّ الرجال بجزر، وإنّما يعيش المرء بأصغريه: قلبه ولسانه! فأعجب النعمان كلامه وعفا عنه، وجعل من خواصه إلى أنَّ مات. وقوله: تسمع، مضارع ينسبك مع أنَّ مقدرة بالمصدر. وربما أظهرت فقيل: أنَّ تسمع بالمعيدي. وهذا المصدر مبتدأ مخبر عنه بما بعده. والمعنى: إنَّ سماعك بالمعيدي خير من رؤيتك إياه. ويضرب للرجل يكون له صيت وذكر حسن، فإذا رأيته اقتحمته عينك، وكان عند خبره دون خبره. وقيل: معناه أسمع به ولا تره، على الأمر. وذكر أبو عبيد أنَّ هذا المثل أول ما قيل لجشم بن عمرو بن النهدي المعروف بالصقعب النهدي، قال فيه النعمان بن المنذر. قال: وهذا على من قال إنَّ قضاعة من معد، لأن نهداً من قضاعة. والقصعب المذكور هو الذي ضرب به المثل فقيل: أقتل من صيحة الصقعب. زعموا إنّه صاح في بطن أمه، وإنّه صاح بقوم فهلكوا عن أخرهم. وقيل: المثل للنعمان بن ماء السماء، قاله لشقة بن جمرة التميمي، وذلك إنّه سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه، فقال أن تسمع بالمعيدي خير من أنَّ تراه! فقال شقة، أيّها الملك، إنَّ الرجل لا تكال بالقفزان ولا توزن بالميزان، ولست بمسوك يسقى فيها الماء، وإنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إنَّ قال قال، ببيان وإنَّ صال صال، بجنان! فاعجب المنذر لمّا سمع منه وقال: أنت ضمرة بن ضمرة! وذكر شمس الدين بن خلكان أنَّ أبا محمّد القاسم بن علي الحريري، رحمه الله، جاءه إنسان يزوره ويأخذ عنه شيئاً، وكان الحريري دميم الخلقة جدا. فلما رآه الرجل استزرى خلقته ففهم الحريري ذلك. فلما طلب الرجل إنَّ يملي عليه قال له: اكتب: ما أنت أوّل سار غرة قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن

أستسمن ذا ورم.

فأختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فأسمع بي ولا تراني! انتهى. ويزاد في هذه القصة أنَّ الرجل قال: كانت مسائلة الركبان تخبرنا ... عن قاسم بن علي أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري! وربما جعل في هذا الشعر، مكان القاسم بن علي، أحمد بن علي، وإنّه قيل في أحمد بن علي، أحد الفقهاء، وإنَّ قائله لقي الزمخشري فأنشده إياه. فذكر له الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: ما بلغني عن رجل ثم لقيته إلاّ وجدته دون ما بلغني عنه، إلاّ ما كان من زيد الخيل، فأني وجدته فوق ما قيل عنه، أو كلاما هذا معناه كال عهدي به. وحدثني الرئيس الأجل أبو عبد الله محمّد الحاج بن محمّد بن أبي بكر أنَّ رجلا كان يحضر مجلس والده ويطيل الصمت لا يتكلم ولا يعرفه أحد. ومكث ذلك مدة، ثم كتب رقعة بخط رفيع فائق وذهب. فأخذوا الرقعة فإذا فيها مكتوب: كانت مسائلة الركبان تخبرنا ... عن مجدكم وثناكم أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري أستسمن ذا ورم. تقول: استسمنت الشيء إذا عددته سمينا؛ والورم نتوء وانتفاخ في الجسد يقال، ورم الجسد بالكسر ورما، تورم واستسمن ذي ورم هو إنَّ يرى الحجم الناتئ من علة فيحسب ذلك سمنا وشحما. والمثل مشهور عند المتأخرين يضربونه عند خطأ الرأي في أستجادة القبيح واستحسان الخبيث واستصواب الخطأ لأمارة وهمية كاذبة: قال أبو الطيب: أعيذها نظرات منك صادقة ... أنَّ تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم

سمن كلبك يجوع أهله.

وفي المقامات الحريرية: قد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم. سمن كلبك يجوع أهله. الكمن ضد الهزل يمن كفرح سمنا وسمانة فهو سامن وسمين وسمنته تسمينا؛ والكلب كل سبع عقور إلا إنّه غلب على النابح المعروف؛ والجوع معروف. يضرب هذا المثل في الرجل يأكل مال غيره فيسمن وينعم. وأصله أنَّ الكلب إذا وقع الموتان والهلاك سمن هو بالك الجيف وأهله جياع. وقيل إنَّ رجلا سئل رهنا فرهن أهله ثم تمكن من أموال من رهنهم فاستاقها وترك أهله. وحكى أبو علي البغدادي أنَّ رجلا من أهل الشام كان مع الحجاج يحضر طعامه فكتب إلى امرأته يعلمها بذلك. فكتبت إليه: أتهدي لي القرطاس والخبز حاجتي ... وأنت على باب الأمير بطينُ! إذا غبت لم تذكر صديقاً وإن تقدم ... فأنت على ما في يديك ضنينُ فأنت ككلب السوء جوع أهله ... فيهزل أهل البيت وهو سمينُ سمنكم في أديمكم. السمن بفتح فسكون معروف؛ والأديم هنا فسره بعضهم بالزق وأنكر ذلك آخرون وقالوا: الأديم هنا الطعام المأدوم فعيل بمعنى مفعول فيقال أديم ومأدوم كما يقال قتيل ومقتول. وعلى كل حال فمعناه أنَّ خيرهم موقوف عليهم وفضلهم راجع إليهم فيضرب للبخيل ومن لا يتعداه خيره ومن ينفق على نفسه دون غيره. وقد يقال: سمنكم هريق في أيديكم وهو معناه. سمن كلبك يأكلك! التسمين معروف تقدم؛ والكلب مر أيضاً. وهذا مثل قديم مشهور. وقد تمثل به غب بن أبي ركن المنافقين في غزوة بني

استنت الفصال حتى القرعى!

المصطلق حيث اختصم المهاجرين والأنصار فقال أبن أبي: ما نحن وهؤلاء يعني المهاجرين إلاّ كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! وفيها قال: لا تنفقوا على أصحاب محمد! وقال: لئن رجعنا إلى المدينة لتخرجن الأعز منها الأذل كما ذكر الله جل اسمه في سورة المنافقين. ولفظ المثل إما أن يكون على معنى الإخبار كأنه قيل: إن سمنت كلبك أكلك كما في الآخر: اسق أخاك النمري يصطبح! أي إن سقيته اصطبح وقد تقدم وأما أن يكون إنشاء على ظاهره كأنه قيل: سمن كلبك ليأكلك! كما يقال: اضرب عبدك يستقم! أي ليستقيم على معنى قولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب! وهو أيضاً راجع إلى الخبر بهذا الاعتبار وفي معنى المثل قول الشاعر: أعلمه الرماية كل حينٍ ... فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافيةً هجاني! ثم رأيت في عماد البلاغة أنَّ الكلب المضروب به المثل لرجل من طسم وذلك إنّه ارتبط كلبا وجعل يشبعه اللبن رجاء أن يصطاد به ثم أبطأ عليه طعامه فوثب على مولاه فافترسه فصار مثلا في كفران النعمة ومجازاة المحين بالإساءة وفيه قيل: سمن كلبك يأكلك! وقال مالك بن أسماء: هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم ... ولو ظفروا بالحزم لم يسمن الكلبُ! استنت الفصال حتى القرعى! يقال: استن الفرس وغيره إذا قمص وهو أن يرفع يديه ويضعها معا ويعجن برجليه؛ والفصل جمع فصيل من الإبل معروف؛ والقرعى جمع أقرع والقرع داء يصيب الفصلان في أعناقها وتقدم تفسيره في حرف الحاء تقول: منه قرع الفصيل بالكسر قرعا فهو أقرع والأنثى قرعاء ودواؤه أن ينضح الفصيل بالماء ويجر في أرض سبخة أو مرشوشة بملح فتقول: قرعت الفصيل تقريعا إذا فعلت به ذلك فهو مقروع

سواء عليك هو والقفر.

قال أوس بن حجر: لدى كل أخدود يغادرن دارعا ... يجركما جر الفصيل المقروعُ والقرعى لا يمكنها الاستنان فيضرب هذا المثل في الضعيف يباري القوي وعند تمدح الرجل بالشيء ليس من أهله. وقد قيل إنَّ استنت هنا معناه سمنت من قولهم: سن الراعي إبله إذا أحسن رعيها وأسمنها وكأنه صقلها بذلك وزينها. قال النابغة: ضلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في رعي وتعزيب وهو على مضربه أيضاً بأن يراعى في الكلام نوع تهكم وسخرية. سواءٌ عليك هو والقفرُ. يضرب للبخيل الذي لا خير عنده إذا نعت بمعنى إنّه بمنزلة القفار الممحلة. قال ذو الروه: تخط إلى القفر امرأ القيس إنّه ... سواءٌ على الضيف امرؤ القيس والقفر! يحب امرؤ القيس القرى أن يناله ... ويأبى مقاريها إذا طلع النسرُ النسر: أول الليل يطلع عند شدة البرد وكلب الزمان. سوء الاستمساك خيرٌ من حسن الصرعة. يقال: ساءه يسوءه إذا فعل به ما يكدره ولاسم منه السوء بالضم ويقال: استمسك يه ومسك وامسك وتمسك احتبس وأتصم به والصرع: الطرح في الأرض؛ صرعه صرعا وصرعة. والصرعة بالكسر: النوع من ذلك ومنه المثل. ويروى فيه بالفتح على معنى المرة. وهذا المثل يضرب على في المداراة والتودد. قاله أبو عبيد القاسم بن سلام وقال: معناه لأن يزل الإنسان وهو عامل بوجه العمل وطريق الإحسان والصواب خير من أن تأتيه الإصابة وهو عامل بالإساءة والخرق. وهذا التفسير لا يعطيه المثل ولا يدل عليه ولا يتم

سوء الاكتساب يمنع الانتساب.

وضربه المذكور به وإنّما معناه كما قال غيره: لأن يستمسك ولا يصرع وإن كان سيء الاستمساك خير من أن يصرع ولو صرعة حسنة لا تضره. وهو واضح ومضربه أيضاً على هذا النحو ظاهر. سوء الاكتساب يمنع الانتساب. هذا ظاهر. أساء سمعاً فأساء جابةً. الإساءة ضد الإحسان؛ والسمع تقدم؛ والجابة اسم من الإجابة يقال: أجابه إجابة والاسم الجابة كالطاعة والطاقة بمعنى الإطاعة والإطاقة. قال الشاعر: وما من تهتفين به لنصرٍ ... بأقرب جابة لك من هديلِ يضرب في سوء المسألة والإجابة في المنطق والإجابة على غير فهم. ونظمه أبو العتاهية فقال: إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ ... أسأت إجابة فأسأت سمعا ولست الدهر متسعاً لحل ... إذا ما ضقت بالإنصاف ذرعا أساف حتى ما يشتكي السواف. يقال: ساف المال يسوف إذا هلك؛ والسواف كسحاب موتانٌ في الإبل وقيل بالضم أو هو بالفتح في الناس والمال وبالضم مرض في الإبل ويجوز فتحه؛ وأساف الرجل: هلك ماله. قال: فأبل واسترخى به الخطب بعدما ... أساف ولولا سعينا لم يؤبل غيره: أساف من المال التلاد وأعدما ويضرب فيمن تعود الحوادث.

سال قضيب حديدا.

سال قضيبٌ حديداً. قضيب اسم واد باليمن وقد تقدم هذا وقصته هذا وقصته في حرف الهمزة. ومما يلحق بهذا الباب قولهم في الدعاء: سلط الله عليه الورى وحمى خيبرا! والورى بالتحريك اسم من قولك: ورى القيح جوفه يريه إذا أكله؛ وقولهم: سله من كذا سل الشعرة من العجين. يحكى أنه لمّا هم حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهجو أهل مكة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف وأنا منهم؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال حسان: لأسلنك سل الشعرة من العجين! وأتي بعض الملوك في الصدر الأول برجل وضاع يضع الحديث كذبا فقال اضربوا عنقه! فذهبوا به ليقتلوه. فلما خرجوا قال لهم: أنظروني حتى أجرد كلامي وأسقطه من دواوين الحديث لئلا يلبس على الناس! فرجعوا إلى الملك وشاوروه فقال لهم: اقتلوه! فإنَّ هنا رجالا يسلون كلامه سل الشعرة من العجين. وقولك مثلا: أسلط من ذئبٍ متنمرٍ. وقولهم: السؤدد مع السواد. أي إنّما يحصل زمان الفتوة وسواد الشعر. ونحوه قول الحماسي: إذا المرء أعيته السيادة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه عسيرُ وقولك مثلا: أسير من المثلِ.

اسأل السائل عن طيب اللبن!

ونحو ذلك. ومن أمثال العمامة قولهم: اسأل السائل عن طيب اللبن! يضربون في مخالط الشيء المعنى له إنّه اعرف به. وقولهم: سخر البخيل يدبر عليك! وأما الشعر فقالوا: تحسبها حمقاء وهي باخس وتقدم في الحاء. وقال جرير: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وتقدم تفسير أبن اللبون والبازل والقرن بفتحتين: الحبل يجمع فيه البعيران. ومنه قول جرير: وأبلغ خليفتنا إنَّ كنت لاقيه إني لدى الباب كالمشدود في قرن! ولززت البعير وغيره لزا ولزازاً، وألأززته: شددته وألصقته؛ والقناعيس جمع قنعاس بالكسر وهو العظيم من الإبل. وقال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقبله: لمّا بدا لي منكم عيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي منكم آس أزمعت يأسا مريحا من نوالكم ... ولن ترى طاردا للحر كالياس جارا لقوم أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيما بين أرماس ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

من يفعل الخير. . " البيت " وخاطب بهذا الشعر الزبرقان، وعليه سجنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. وقال زيد الخيل: أقاتل حتى لا أرى مقاتلا ... وأنجو إذا لم ينج إلاّ المكيس يروى مقاتلا بكسر التاء، وبفتحها على معنى موضع القتال. وقال أوس بن حجر: وليس فرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا عرفت منه شجاعة بالأمس ومثلهما قول عمرو بن معدي كرب: ولقد اجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة ... حين للقوم من الموت هرير آخر: رب مغروس يعاش به ... عدمته كف مغترسه وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه المأتم بالتاء المثناة من فوق، على وزن مقعد كل مجتمع في حزن أو فرح، وقيل خاس بالنساء، وقيل بالشواب. وأطلق هنا على مجتمع الحزن. وأما المأثم بالثاء المثلثة فهو مفعل ما لا يحل كالاثم؛ والعرس بضمتين: طعام الوليمة. قال الراجز: أنا وجدنا عرس الحناط ... لئيمة مذمومة الحواط ويخفف. والعرس بالفتح: الإقامة في الفرح، والعمود في وسط الفسطاط؛ والعرس بفتحتين الدهش؛ والعرس بالكسر: زوج الرجل؛ ولبؤة الأسد، وزوج المرأة أيضاً. وأما العروس فوصف يقع على الذكر والأنثى، ما داما في أعراسهما. والمعنى أنَّ حزن الدهر قريب من فرحه، كما أنَّ فرحه قريب من حزنه، وكذا الصحة والعافية والضيق والسعة ونحو ذلك.

وقال الآخر: إنَّ كنت لا ترجى ولا تتقى ... فأنت كالميت في رمسه ونظمها أبن شرف فقال: إنَّ لم تضر ولم تنفع فكن حجرا ... أو ميتا عن أمور العيش مشغولا وقال صالح بن عبد القدوس: وإنَّ من أدنته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه ناضرا مونقا ... بعد الذي أبصرت من يبسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في الثرى رمسه ونظم هذا الأخير أبن شرف فقال: ومن يعش وهو مطبوع على خلقٍ ... لاقى به التراب مضموما ومنقولا وقال الآخر: من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الرأس وقال الآخر: ما أقبح الكذب المذموم صاحبه ... وأحسن الصدق عند الله والناس وقال العباس بن الأحنف: وما مر يوم أرتجي فيه راحه ... فأخبره إلاّ بكيت على أمس ولمحمود: أخو البشر محمود على كل حالةٍ ... ولن يعدم البغضاء من كان عابسا ويسرع بخل المرء في هتك عرضه ... ولم أر مثل الجود للعرض حارسا غيره: يا حبذا الوحدة من أنيس ... إذا خشيت من أذى الجليس! غيره: لا تترك الحزم في أمر تحاذره ... فإنَّ أصبت فما الحزم من باس! العجز ضعف وما بالحزم من ضرر ... وأزم الحزم سوء الظن بالناس غيره:

وما نكد الدنيا على طيب ظلها ... وقرب حماها العذب شيء سوى الإنس؟ غيره: يا راكب الفرس السامي يحكى لونه القبس لا أنت تبقى على سيف ولا فرس ... وليس يبقى عليك السيف والفرس! غيره: أقول له حين ودعته ... وكل بعبرته ملبس: لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس! وللخنساء: ترى الأمور سواء وهي مقبلة ... وفي عواقبها تبيان ما التبسا ترى الجليس يقول القول تحبسه ... نصحا وهيهات ما نصحا به التمسا ويحكى أنَّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استنشدها فأنشدته هذا الشعر، فقال لها: أنت أشعر كل ذات هنٍ! فقالت: وكل ذي خصيين! قيل: وكان بشار يقول: ما قالت امرأة شعرا إلاّ ظهر عليه الضعف. فقيل له: حتى الخنساء؟ فقال: لا! تلك لها أربع خصى! غيره: تعب يدوم لذي الرجاء مع الهوى ... خير له من راحة في اليأس وهذا خلاف ما طلب امرؤ القيس في قوله: أماوي هل لي عندكم من معرس ... أم الصرم تختارين بالوصل نيأس؟ أبيني لنا، إنَّ الصريمة راحة ... من الشك ذي المخلوجة المتلبس لكن طلب البيان من طول الضجر، ولا يقضي أن يكون التأييس خيرا من لا ترجيه. غيره: ثنيت عزمي عن الدنيا وساكنها ... فأسعد الناس من لا يعرف الناسا غيره: جفوت أناسا كنت آمل قربهم ... وما بالجفا عند الضرورة من باس

غيره: حفظ اللسان سلامة للرأس ... والصمت عز في جميع الناس غيره: رأيتك لا تهوين لا دراهمي ... عليك سلام الله قد ينفذ الكيس! غيره: صدر المجالس حيث حل لبيبها ... فكن اللبيب وأنت صدر المجالس! غيره: ضحوك السن إنَّ نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس غيره: قالوا: نفوس الدار سكناها ... وانتم عندي نفوس النفوس! غيره: لولا محبتكم لمّا عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس غيره: لو نظر الناس لأحوالهم ... لاشتغل الناس عن الناس غيره: ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت ولم أبصرك في الناس غيره: ما بال دينك ترضى أنَّ تدنسه ... وثوب جسمك مغسول من الدنس؟ غيره: ما هذه أوّل ما مر بي ... كم مثلها مر على رأسي! غيره: من لا رأى مصرا ولا أهلها ... فلا رأى الدنيا ولا الناسا غيره: نسيت مودتي أنَّ طال عهدي ... نعم! قد قيل: طول العمر ينسي!

غيره: وما من هالك في الناس إلاّ ... ورأس هلاكه طلب الرياسه وقال أبو تمام: ما في النجوم سوى تعلة باطل ... قدمت وأسس إفكها تأسيسا إنَّ الملوك هم كواكبنا التي ... تخفى وتطلع أسعدا ونحوسا ومنها: لو أنَّ أسباب العفاف بلا تقى ... نفعت لقد نفعت إذا إبليسا! وقال أيضاً: والدمع فيه خاذل ومواسي ومنها: لا تنسين تلك العهود فإنما ... سميت إنسانا لأنك ناس وقال أيضاً: أرى الآفاتٍ قد كتبن على رأسي ... بأقلام شيب في مهارق انقاسي فإنَّ تسأليني من يخط حروفها ... فكف الليالي تستمد بأنفاسي جرت في قلوب الغانيات لشيبتي ... قشعريرة من بعد لين وإيناس وقد كنت أجرى في حشاهن مرة ... مجاري صافي الماء في قضب الآس فإنَّ أمس من حظ الكواعب آيسا ... فآخر آمال العباد إلى الياس! وقال الآخر: الكلب أعلى قيمة ... وهو النهاية في الخساسة ممن ينازع في الرئاسة ... قبل أوقات الرئاسة غيره: استودع العلم قرطاس فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس! قال أبو علي العبادي في نوادره: وسمع يونس رجلا ينشد هذا البيت فقال: قاتله الله! ما أشد صبابته بالعلم وصيانته للحفظ! إنَّ علمك من روحك ومالك من بدنك، فصن علمك صيانة روحك، ومالك صيانة بدنك.

وقال محمد بن إبراهيم يخاطب بعض أهله: أظنك أطغاك الغنى فنيستني ... ونفسك والدنيا الدنية قد تنسي فإنَّ كنت تعلو عند نفسك بالغنى ... فإني سيعليني عليك غنى نفسي وقال أعرابي سأل آخر حاجة، فتشاغل عنه: كدحت بأظفاري وأعلمت معولي ... فصادفت جلمود من الصخر أملسا وأقبلت أنَّ أنعاه حتى رأيته ... يفوق فواق الموت ثم تنفسا تشاغل لمّا جئت في وجه حاجتي ... وأطرف حتى قلت: قد مات أو عسا فقلت له: لا بأس لست براجع ... فأفرخ تعلوه السمادير مبلسا السمادير: أم يتراءى للإنسان عند السكر. غيره: لئن درست أسباب ما كان بيننا ... من الود ما شوقي إليك بدارس وما أنا من أنَّ يجمع الله بيننا ... على خير ما كنا عليه بآيس وقال أحد بني شيبان: وما أنا من ريب المنون بجبا ... وما أنا من سيب الإله بآيس يقال: جبأ عن كذا يجبأ عنه، إذا هابه، ورجل جبأ. وقال مهلهل: نبئت إنَّ النار بعد أوقدت ... واستب معدك يا كليب المجلس وتكلموا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا! قوله المجلس أي الجالسون، والنبس: النطق، يقال نبس فلان. غيره: والشيب إنَّ يحلل فإنَّ وراءه ... عمراً يكون خلاله متنفس لم ينتقص مني المشيب قلامة ... الآن حين بدا ألب وأكيس ومثله، في مدح الشيب، قول الآخر: لا يرعك المشيب يا بنت عبد ... الله، فالشيب حلة ووقار إنّما يحسن الرياض إذا ما ... ضحكت في خلاها الأنوار!

وسنذكر بعد ما قيل في الشيب، إن شاء الله. وقالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي! وقالت أيضاً: وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي وهذان البيتان من قطعة لها تعارض فيها دريد بن الصمة، وكان دريد خطب الخنساء في حياة أخويها. فأراد أخوها معاوية إنَّ يزوجها، وكان أخوها صخر غائبا في غزاة له، فأبت وقالت: لا حجة لي به! فأراد أنَّ يكرهها، فقالت: تباكرني حميدة كل يومٍ ... بما يولي معاوية بن عمرو فلا أعط من نفسي نصيبا ... لقد أودى الزمان إذا بصخر أتكرهني هبلت على دريدٍ ... وقد أحرمت سيد آل بدر معاذ الله يرصعني حبركى ... قصير الشبر من جشم بن بكر يرى مجدا ومكرمة أتاها ... إذا عشى الصديق جريم تمر الحبركي: القصير الجرلين، الطويل الظهر؛ والقصير الشبر: القليل الخير والعطاء. فقال دريد: لمن طلل بذات الخمس أمسى ... عفا بين العقيق فبطن طرس؟ أشبهها غمامة يوم دجن ... تلألأ برقها أو ضوء شمس؟ فأقسم ما سمعت كوجد عمرو ... بذات الخال من جن وانس وقاك الله يا ابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفسي فلا تلدي ولا ينكحك مثلي ... إذا ما ليلة طرقت بنحس وقالت إنّه شيخ كبير ... وهل خبرتها أني أبن أمس؟ تريد أفيحج الرجلين شثناً ... يقلع بالجديرة كل كرس إذا عقب القدور عددن مالا ... أحب حلائل الإبرام عرس وقد علم المراضع في جمادي ... إذا استعجلن عن حز بنهس بأني لا أبيت بغير لحم ... وأبدأ بالأرامل حين أمسي

وإني لا يهر الضيف كلبي ... ولا جاري يبيت خبيث نفس واصفر من قداح النبع فرع ... به علمان من عقب وضرس دفعت إلى المفيض إذا تستقلوا ... على الركبات مطلع كل شمس فلما مات صخر قالت الخنساء تعارض دريدا في كلمته: يؤرقني التذكر حين أمسي ... ويردعني مع الأحزان نكسي على صخر، وأي فتى كصخر ... ليوم كريه وطعان خلس وعان طارق أو مستضيف ... يروع قلبه من كل جرس ولم أر مثله رزءاً لجن ... ولم أر مثله رزءاً لإنس أشد على صروف الدهر منه ... وأفضل في الخطوب لكل لبس ألا يا صخر لا أنساك حتى ... أفارق مهجتي ويشق رمسي! ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ولكن لا أزال أرى عجولا ... تساعدن نائحا في يوم نحس تفجع والها تبكي أخاها ... صبيحة رزئه أو غب أمس يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأبكيه لكل غروب شمس وقال أبو علي، عن أبن دريد: طلوع الشمس للغارات وغروبها للضيفان. وقال الآخر: تقوس بعد مر العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوس فأمشي والعصا تهوي أمامي ... كأنَّ مواءها وتر لقوسي ونحوه الآخر: قوس ظهري المشيب والكبر ... والدهر يا عمرو كله غير كأنني والعصا تدب معي ... قوس لها وهي يدي وتر غيره: إذا تمنيت بت الليل مغتبطا ... إنَّ المنى رأس أموال المفاليس غيره: الله يعدل والآمال كاذبة ... وكل هذا المنى في القلب وسواس

ومثله لحبيب: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا ولغيره: منى إنَّ تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمنا رغداً ولمسلم: لولا منى العاشقين ماتوا ... غما وبغض المنى غرور وقال الصابئ: وكم من يد بيضاء حازت جمالها ... يد لك لا تسود إلاّ من النقس إذا رشقت بيض الصحائف خلتها ... تطرز بالظلماء أردية الشمس! أبن المعتز: إني إذا لم أجد يوما مراسلة ... وضاقت بي منتهى أمري وملتمسي لمرسل عبرة في إثرها نفس ... يا ليت شعري هل يأتيكم نفسي؟ وقال أبو محمّد الحريري، رحمه الله تعالى: جزيت من أعلق بي وده ... جزاء من يبني على اسه وكلت للخل كما كال لي ... على وفاء الكيل أو بخسه ولم أخسره وشر الورى ... من يومه أخسر من أمسه وكل من يطلب عندي جنى ... فماله إلاّ جنى غرسه لا ابتغي الغبن ولا أنثني ... بصفقة المغبون في حسه ولست بالموجب حقا لمن ... لا يوجب الحق على نفسه ورب مذاق الهوى خالني ... أصدقه الود على لبسه وما درى من جهله إنني ... أقضي غريمين الدين من جنسه فأهجر من أستبغاك هجر القلى ... وهبه كالملحود في رمسه والبس لمن في وصله لبسة ... لباس من يرغب في انسه ولا ترج الود ممن يرى ... انك محتاج إلى فلسه! وله أيضاً:

حيارى يميد بهم شجونهم ... كأنهم آرتضعوا الخندريسا أسالوا الغروب وعطوا الجيوب ... وصكوا الخدود وشجوا الرؤوسا وله أيضاً: لعمرك ما الإنسان إلاّ أبن يومه ... على ما تجلى يومه لا أبن أمسه وما الفخر بالعظام الرميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه! وقال أيضاً: لبست لكل زمان لبوسا ... ولابست صرفيه نعمى وبوسا وعاشرت الرواة أدير الكلام ... وبين السقاة أدير الكؤوسا وطورا بوعظي أسيل الدموع ... وطورا بلهوي أسر النفوسا وأقري المسامع أما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا وإنَّ شئت أرعف كفي اليراع ... فساقط دراً يحلي الطروسا وكم مشكلات حكين إليها ... خفاء فبصرن بكشفي شموسا وكم ملح لي خلبن العقول ... وأسأرن في كل قلب رسيسا! وعذراء فهمت بها فانثنى ... عليها الثناء طليقا حبيسا على إنني من زماني خصصت ... بكيد ولا كيد فرعون موسى يسعر لي كل يوم وغى ... أطأ من لظاها وطيسا وطيسا، ويطرقني بالخطوب التي ... يذبن القوى ويشبن الرؤوسا ويدني إلى البعيد البغيض ... ويبعد عني القريب الأنيسا ولولا خساسة أخلاقه ... لمّا كان حظي منه خسيسا وقال أيضاً: وليس كفء البدر غير الشمس ومنها: والفقريلجي الحر حين يمسي ... إلى التجلي في لباس اللباس وله:

ما لي مقر بأرض ... ولا قرار لعنسي يوما بنجد ويوما ... بالشام أضحي وأمسي أزجي الزمان بقوت ... منغص مسخس فلا أبيت وعندي ... فلس ومن لي بفلس؟ ومن يعش مثل عيشي ... باع الحياة ببخس! غيره: لا يصعبن عليك في طلب العلا ... طول التنقل أو فراق المكنس فالبدر لو لم ينتقل عن برجه ... ما كان يعرف نوره في الحندس والخمر يحجب نورها في دنها ... وتروق مهما نقلت للأكؤس وقال أبن المرزبان: كم ليلةٍ أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حث الأكؤس شبهت بدر سمائها لمّا دنت ... منه الثريا في ملاءة سندس ملكا مهيبا قاعدا في روضةٍ ... حياه بعض الزائرين بنرجس غيره: ولم أدخل الحمام يوم فراقهم ... لأجل نعيم قد رضيت ببوسي ولكم لتجري عبرة مطمئنة ... فأبكي ولا يدري بذلك جليسي غيره: تذكر أخي إنَّ فرق الدهر بيننا ... أخا في هواك الآن أصبح أو أمسى ولا تنس بعد البعد حق مودتي ... فمثلي لا يَنسى ومثلك لا يُنسى! غيره: أدرها على أمن ولا تخش من باس ... وإنَّ خددت آذانها ورق الآسي وما هي إلاّ ضاحكات غمائم ... لواعب من ومض البروق بمقباس ووفد رياح زعزع النهر مرة ... كما وطئت درعا سنابك أفراس غيره: بلد أغارته الحمامة طوقها ... وكساه ريش جناحه الطاووس

فكأنما الأنهار فيه مدامة ... وكأنَّ ساحات الديار كؤوس غيره: أكره إنَّ أدنو من داركم ... لأنني أخشى على نفسي ضرسي طحون وعلى خبزكم ... من أكل مثلي آية الكرسي هو الذي أقعدني عنكم ... فكيف أمشي ومعي ضرسي؟ غيره: أفرط نسياني إلى غاية ... لم يدع النسيان لي حسا فصؤت مهما عرضت حاجة ... مهمة ضمنتها الطرسا وصرت أنسى الطرس في راحتي ... وصرت أنسى إنني أنسى! غيره: علي ثياب دون قيمتها الفلس ... وفيهن نفس دون فيمتها الأنس فثوبك مثل الشمس من دونها الدجا ... وثوبي مثل من تحته الشمس! وقال أبو الطيب: ألذ من المذام الخندريس ... وأحلى من معطاة الكؤوس معاطاة الصفائح والعوالي ... وأقحامي خميسا في خميس فموت في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس! وقال أيضاً يخاطب محمّد بن زريق الطروسي: إني نثرت عليك درا فانتقد ... كثر المدلس فأحذر التدليسا! ومنها: خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا لو جادت الدنيا فدتك بنفيسها ... أو جاهدت كتبت عليك حبيسا وقال أيضاً: أنوك من عبد ومن عرسه ... من حكم العبد على نفسه وإنّما يظهر تحكيمه ... تحكم الإفساد في حسه

ما من يرى انك في وعده ... كمن يرى انك في حبسه العبد لا تفضل أخلاقه ... عن فرجه المنتن أو ضرسه لا ينجز الميعاد في يومه ... ولا يعي ما قال في أمسه وإنّما تحتال في جذبه ... كأنك الملاح في قلسه فلا ترج الخير عند امرئٍ ... جالت يد النخاس في رأسه وإنَّ عراك الشك في نفسه ... بحال فأنظر إلى جنسه! وقال أبو العلاء المعري: لا يوهمك أنَّ الشعر لي خلق ... وإنني بالقوافي دائم الأنس فإنما كان إلمامي بساحتها ... في الدهر إلمام طير الماء بالعلس العلس: حب معروف وطير الماء لا تأكل الحبوب، وإنّما تصطاد السمك الصغار. وأراد بذلك التبرئة من قول الشعر. وقال أسقف نجران: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وطلوعها حمراء صافيه ... وغروبها صفراء كالورس تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس لطيفة: حدث بعض الأدباء عن الأصمعي قال: حضرت مجلس الرشيد، وعند مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال له: ما أحدثت بعدنا؟ يا أبا نواس! فقال: يا أمير المؤمنين، ولو في الخمر؟ فقال: قاتلك الله، ولو في الخمر! فأنشده: يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلى ولم أنم! وفيها قوله: فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم حتى أتى على أخرها. فقال: أحسنت يا غلام، أعطه عشرة آلاف وعشر خلع! فأخذها وخرج. فلما خرجنا من عنده قال مسلم بن الوليد: ألم تريا أبا سعيد إلى الحسن بن هانئ كيف سرق من شعري وأخذ به مالا وخلعا؟ فقالت: وأي معنى سرق؟ قال: قوله:

فتمشت في مفاصلهم. . " البيت ". فقلت: وأي شيء قلت؟ قال: قلت: غراء في فرعها ليل على قمرٍ ... على قضيب على غصن النقا الدهس أذكى من المسك أنفاساً وبهجتها ... أرق ديباجة ًمن رقة النفسِ كأنَّ قلبي وشاحها إذا خطرت ... وقلبها قلبها في الصمت والخرسِ تجري محبتها في قلبِ وامقها ... جري السلافة في أعضاء منتكسِ فقلت: ممن سرقت أنت هذا المعنى؟ فقال: لا أعلم أنني أخذته من أحد. فقالت: بلى! من عمر بن أبي ربيعة حيث يقول: أما والراقصات بذات عرقٍ ... وربَّ البيت والركن العتيقِ وزمزم والطواف ومشعريها ... ومشتاقٍ يحن إلى مشوقِ لقد دب الهوى لك في فؤادي ... دبيب دم الحياة إلى العروقِ قال: ممن سرق عمر بن أبي ربيعة؟ قلت: من بعض العذريين حيث يقول: واشرب قلبي حبها ومشى به ... كمشي حميم الكأس في عقل شاربِ ودب هواها في عظامي وحبها ... كما دب في الملسوع سم العقاربِ فقال لي: من أخذ هذا العذاري؟ قلت: من أسقف نجران يعني السابق. وقال أبو الفتح البستي: يا أكثر الناس إحسانا إلى الناس ... وأكرم الناس إغضاء عن الناس نسيت عهدك والنسيان مغتفر ... فاغفر فأول ناس أوّل الناس! وقال مسلم بن الوليد في تفضيل الورد: كم من يد للورد مشهورة ... عندي وليس كيد النرجس الورد يأتي ووجوه الربى ... تضحك عن ذي برد أملس وقد تحلق بعقود الندى ... ثابتة في الأرض لم تغرس ولن ترى النرجس حتى ترى ... روض الخزامى رثة الملبس وتخلف النكباء ما جددت ... أيدي الغوادي في سنا السندس وهناك يأتيك غريبا على ... شوقٍ من الأعين والأنفس غيره:

من أحسن الظن بأعدائه ... تجرع الهم بلا كاس قال الصفدي: ولو كنت ناظم هذا البيت لقلت: من احسن الظن بأحبابه، ولم اقل: بأعدائه. ولله در القائل: جزى الله خيرا كل من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا متعرف فلا نالني ضيم ولا مسني أذى ... من الناس إلاّ من فتى كنت أعرف! وقال: يقال إنَّ رجلا كان على عهد كسرى يقول: من يشري ثلاث كلمات بألف؟ ولا يجد، إلى أن اتصل بكسرى، فأحضره وسأله عنها فقال: ليس في الناس كلهم خير. قال: صدقت! ثم ماذا؟ فقال: ولا بد منهم! قال: صدقت! ثم ماذا؟ قال: فألبسهم على حذر! فقال قد استوجبت المال، فخذه! قال: لا حاجة لي به، وإنّما أردت أن أرى من يشتري الحكمة! وقال أبو فراس: مالي أعاتب دهري أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس أبغي الوفاء بدهر لا وفاء به ... كأنني جاهل بالدهر والناس ونحوه في المعنى قوله أيضاً: أين الخليل الذي يرضيك باطنه ... مع الخطوب كما يرضيك ظاهره؟ وقول أبن الساعاتي: لا يغرنك لتودد من قوم ... فإنَّ الوداد منهم نفاق والقلوب الغلاظ لا ينزع الأحقاد ... منها إلاّ السيوف الرقاق وقول آخر: لا تثق من آدمي ... في وداد بصفاء! كيف ترجو منه صفواً ... وهو من طين وماء؟ وقول الآخر: ومن يك اصله ماء وطينا ... بعيد من جلبته الصفاء وقال أبن قلاقس:

غاض الوفاء وفاض ماء ... الغدر أنهارا وغدرا وتطابق الأقوام في ... أقوالهم سراً وجهرا فأنظر بعينيك هل ترى ... عرفا وليس تراه نكرا! وهو من قول الطغرائي: غاض الوفاء وفاض الغدر وانفجرت ... مسافة الخلف بين القول والعمل وما أعدل قول محي الدين بن تميم في هذا: لك الخير كم صاحبت في الناس صحبا ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا وجربت أبناء الزمان فلم أجد ... فتى منهم عند المضيق ولا أنا! ومثله لبعضهم: طفت زمانا على من ينصفني فلما أنصفت خنته أنا وتتميم هذا الغرض في موضع آخر، إن شاء الله تعالى. غيره: لم يكفني في الرأي خيبة منظري ... حتى حرمت لذاذة الإيناس كالأعور المسكين أعدم عينه ... وأعتاض منها بغضة في الناس ووقال الآخر: محي الدين محمّد بن تميم في مليح ينسى كثيرا: بروحي الذي نسيانه صار عادة ... وأفرط حتى كاد يعدمه الحشا فلو إنّه بالهجر أضحى مهددي ... لمّا ساءني علما به إنّه ينسى وقال الآخر: والله ما طلعت شمس ولا غربت ... إلاّ وأنت مني وقلبي ووسواسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم ... إلاّ وأنت حديثي بين جلاسي ولا هممت بشرب الماء من ظمأ ... إلاّ رأيتن خيالاً منك في الكأس! وقال الآخر: إنَّ صحبنا الملوك تاهوا علينا ... واستخفوا جهلا بحق الجليس أو صحبنا التجار عدنا إلى البؤس ... وصرنا إلى عديد الفلوس فلزمنا البيوت نستعمل الحبر ... ونملا به وجوه الطروس

وقعنا بما رزقنا فصرنا ... أمراء على الملوك الرؤوس! فقال آخر، مذيلاً لهذا الشعر: لو تركنا وذاك كنا ظفرنا ... من أمانينا بعلق نفيس غير أنَّ الزمان أعني بنيه ... حسودا على حياة النفوس وقلت أنا: إني امرؤ لا أنثني غبنا ... يوم المصاع بصفقة الوكس وإذا استطان البون من فرق ... لا ينزوي خلدي على رجس وإذا الزمان أحال نائبه ... حالي عففته فلم يحل نفسي وإذا تطاول لم وإذا استطاب الهون محتسبا ... نذل فلست تراه في كأسي أرعى الهبيد على القنان ولا ... أرعى بوهد أطيب الخلس وألذ آنية المياه إذا ... كان الفرات يشاب بالكرس وإذا استينت الخسف في بلدٍ ... يوما ومت لغيره عنسي إنَّ البلاد لذي الحجى وطن ... والناس كلهم بنو جنس ويحكى إنَّ أبن سكرة في آخر أمره، لمّا مات الوزير المهلبي، سأل: ما أعددت للشتوة؟ فقال: قيل: ما أعددت للبرد ... فقد جاء بشده؟ قلت: دراعة عري ... تحتها جبة رعده!

وقلت أنا فيها، وجعلتها ثمانيا: إذا أومض البرق اليماني وأظنبت ... على الأرض من جنون الولي قباب فلد بثمان هن في الدهر للفتى ... وقاء إذا ما نالها وحجاب: كباب وكانون وكن وكاعب ... وكأس وكيس وكسوة وكتاب! وجمع بعضهم للصيق راآت ثمانية قابل بها كافات الشتاء، فقال: عندي فديتك راآت ثمانية ... ألقى بها الحر إنَّ وافى وردا: رب وروح وريحان وريق رشا ... ورفرف ورياض ناعم وردا وقد فتن الأدباء في هذا الغرض، فجمعوا هذا النمط أعداد، كقول بعضهم: رمتنا يد الأيام عن قوس خطبها ... بسبع وهل ناج من السبع سالم: غلاء وغارات وغزوة وغربة ... وغم وغدر ثم غبن ملازم! وكقول أبن التعاويذي: إذا اجتمعت في مجلس الشرب سبعة ... فبادر فما التأخير عنه صواب: شواء وشمام وشهد وشادن ... وشمع وشاد مطرب وشراب! وقول الآخر: عجل إلي فعندي سبعة كملت ... وليس فيها اللذات أعوان: طار وطبل وطنبور وطاس طلا ... وطفلة وطباهيج وطنان وقوله: جاء الخريف وعندي من حوائجه ... سبع بهن قوام السمع والبصر: موز ومن ومحبوب ومائدة ... ة مسمع ومدام طيب ومري وقول الصفدي: إذا تبين لي في مصر واجتمعت ... سبع فإني في اللذات سلطان: خدر وخمر وخاتون وخادمها ... وخلسة وخلاعات وخلان وقوله: ثمانية إنَّ يسمح الدهر لي بها ... فليس عليها بعد ذلك مطلوب: مقام ومشروب ومزح ومأكل ... ومله ومشموم ومال ومحبوب

وقوله: إلى متى أنا لا انفك في بلدٍ ... ورهن جيمات جورٍ كلها عطب: الجوع والجري والجريان والجدري ... والجهل والجبن والجرذان والجرب؟ وقول الآخر: إذا كان في اسم المرء شين هوت به ... إلى الشر فليحذر أذاه المحاذر: شريف وشيعي وشيخ وشاهد ... وشمر وشريب وشرح وشاعر سوى الشافعي أو شاهد راق حسنه ... كذا الشهداء المتقون وشاكر وهذه الأشعار، كما ترى، الكثير من أصحابها يقصد إلى إحراز غرض يفوته أغراض، فتجده إذا وفى بذلك الغرض تعلل به ولم يتحرز عن اللفظ الخسيس، ولا عن المقصد السقيم، ولا عن التركيب المختل، والسبك الركيك والحشو، وغير ذلك مما ينبئ إنَّ قائله متكلف رازم العارضة لين الجلدة، غير مطبوع. وقال أعرابي يهجو قوما من طيء: ولمّا أن رأيت بني خريقٍ ... جلوسا ليس بينهم جليس يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم إنني رجل يؤوس إذا ما قلت: أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس! قوله: ليس بينهم جليس، أي لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم وهذا من أقبح الهجو. وقال أبو بكر الخوارزمي: يا من يحاول صرف الراح يشربها ... ولا يفك لمّا يلقاه قرطاس الكأس والكيس لم يقض امتلاؤهما ... ففرغ الكيس حتى تملأ الكاسا! وقال عمرو بن معدي كرب: أتوعدني كأنك ذو رعين ... بأنعم عيشة أو ذو نواس؟ فلا تفخر بملكك، كل ملك ... يصير لذلةٍ بعد الشماس! ولنكتف بهذا القدر من هذا الباب! والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الشين المعجمة

باب الشين المعجمة أشأم من البسوس. الشؤم ضد اليمن، الشؤم الرجل بالضم على قومه وشئم عليهم بالبناء للمجهول: صار شؤما عليهم، وهو مشؤوم ومشوم والجمع مشائيم. قال الشاعر: مشائيم ليسوا مصالحين عشيرة ... ولا ناعب إلاّ ببين غرابها وشأمهم وشأم عليهم بالفتحح فيهما فهو شائم؛ والبسوس بالفتح الناقة لا تدر إلاّ بالابساس أي التلطف بها بأن يقال لها: بس، بس! كما مر. والبسوس أيضاً امرأة مشومة، وهي المضروب بها المثل. وكانت هذه المرأة أعطي زوجها ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له: اجعل لي واحدة منهم! قال:: نعم فما تريدين؟ قالت: أدع الله أن يجعلني اجمل امرأة في بني إسرائيل! ففعل فرغبت عنه وهت بسيئ فدعا الله إنَّ يجعلها كلبة نباحة. فجاءه بنوها وقالوا: ما لنا على هذا من قرار يعيرنا بها الناس، فادع الله إنَّ يعدها إلى حالها! فدعا لها فهبت الدعوات كلها بشؤمها. أشأم من بني بسوس. ويقال أشام من البسوس. والبسوس أيضاً اسم امرأة من العرب، وهي خالة جساس بن مرة. وكان لمرة هذا عشرة من الولد، منهم جساس، ونضلة والحارث وهمام بنو مرة وهم من بني بكر بن وائل. وكان كليب بن ربيعة التغلبي من العزة والشرف في وائل بالمحل الذي لم يدرك وكان تحت كليب جليلة بنت مرة أخت جساس وكان لكليب حمى حماه لا يقربه أحد. ثم إنَّ جساس جاءته خالته البسوس فنزلت عليه،

وكان لها أبن، وناقة يقال لها سراب بفصيلها. فدخلت سراب حمى كليب، فوجدها فيه وقد كسرت بيض حمر قد أجارها. فرماها بسهم فأصاب ضرعها. ويقال إنّه سأل عن الناقة فقيل له إنّها لخالة جساس، فقال: أو يبلغ من قدره إنَّ يجير دون إذني؟ وكان لا يجير أحد إلاّ بإذن كليب. فقال: يا غلام، ارم ضرعها! فرماه بسهم وقتل فصيلها، ونفى ابل جساس عن المياه وطردها على شبيث والاحص، وهما ماءان، حتى بلغ غدير الذئاب، فجاء جساس فقال: نفيت عن المياه مالي حتى تهلكه! فقال كليب: أنا للمياه شاغلون فقال استحللت تلك الإبل! فعطف عليه جساس فرسه فطعنه. فلما أحس بالموت قال: يا جساس، اسقني ماء! فقال: تجاوزت شبيبا والأحص! وآحتز رأسه وجاء مسرعا. فقالت أخته لأبيه: إنَّ جساس جاء خارجة ركبتها. فقال: والله وا خرجتا إلاّ لأمر! فلما بلغه قال: ما وراءك؟ قال: طعنت طعنت لتشغلن شيوخ وائل رقصا! قال: فتلت كليباً؟ قال: نعم! قال: وددت انك وأخوتك متم قبل هذا! ما بنا إلاّ أنَّ تتشاءمنا وائل! ثم لقيه أخوه نضلة فقال: وإني قد جنيت عليك حربا ... تغيض الشيخ بالماء القراح فأجابه نضلة: فإنَّ تك قد جنيت علي حربا ... فلا وانٍ ولا رث السلاح وكان أخوه همام قد آخى مهلهلا، أخا كليب، وعاهده إلاّ يكتمه شيئاً. فجاءته أمه له وعنده مهلهل، فأسرت إليه الخبر. فقال الملهل: ما قالت؟ فلم يخبره، فذكر العهد فقال أخبرت أنَّ جساسا قتل أخاك كليبا. فقال: أست أخيك أضيق من ذلك! فقال مهلهل في ثأر أخيه، واجتمعت أشراف تغلي وأتوا مرة فتكلموا في القصاص من جساس وإخوانه. فذهب مرة إلى الدية فغضبت تغلب ووقعت الحرب بينهم أربعين سنه حتى ضربت بها العرب المثل الشؤم والشدة. وهي التي يقال لها حرب البسوس. ومن جملة ما وقع بينهم خمس وقائع عظام، أولاها يوم عنيزة، وهو المذكور في قصيدة مهلهل الرائية المشهورة، حيث قال: كأنا غدوة وبني أبينا ... ببطن عنيزة رحيا مدير

أشأم من خوتعة.

وآخرها قتل جساس بن مرة. وكان سبب قتله أنَّ نساء تغلب لمّا اجتمعن للمأتم على كليب، قلن لأخت كليب: رحلي جليلة عن مأتمك، فإنَّ قيامها عار علينا وشماتة بنا! فقالت لها: اخرجي يا هذه عن مأتمنا، فإنك شقيقة قاتلنا! فرحلت وهي حامل. فولدت غلاما وسمته هرجسا، ورباه جساس، فكان لا يعرف أبا غيره، فزوجه ابنته. فوقع يوما بينه وبين بكري كلام، فقال البكري: ما أنت بمنته حتى الحقك بأبيك فأمسك عنه ودخل إلى أمه فسألها الخبر. فلما أوى إلى فراشه وضع أنفه بين ثديي زوجته وتنفس تنفسة نفط ما بين ثدييها من حرارتها. فقامت الجارية فزعة ودخلت إلى أبيها فأخبرته فقال: ثائر ورب الكعبة! فلما أصبح أرسل إلى الهجرس فأتاه فقال: إنما لأنت ولدي ومعي وقد كانت الحرب في أبيك زمنا طويلا حتى تفانيا وقد اصطلحنا الآن. فانطلق معي حتى نأخذ عليك ما أخذ علينا! فقال: نعم ولكن مثلي لا يأتي قومه إلاّ بسلاح! فأتيا جماعة من قومهما فقص عليهم جساس ما كانوا فيه من البلاء وما صاروا إليه من العافية ثم قال: هذا أبن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه. فلما قربوا الدم أخذ بوسط رمحه وقال: وفرسي وأذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغراريه ودرعي وزريه! لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه. ثم طعن جساسا فقتله ولحق بقومه. فكان آخر قتيل نتهم. وفي هذه القصة اضطراب كغيرها من الحكايات الجاهلية. أشأم من خوتعة. خوتعة بالتاء المثناة على مثل جوهرة هو رجل من بني عقيلة ذل كنيف بن عمر التغلبي وأصحابه على بني الزبان الذهلي لترةً كانت لهم في عمرو بن الزبان فقتلهم. وتقدم شرح القصة وما يعرف به وجه الشؤم في حرف الهمزة. أشأم من الأخيل. الأخيل هو الشقراق وقيل طائر آخر وهو مشؤوم وجمعه خيلٌ بكسر الخاء.

أشأم من داحس.

أشأم من داحس. داحس بوزن فاعل فرس لقيس بن زهير وعليه وقعت المسابقة بينه وبين أبني حذيفة حتى هاجت الحرب بذلك بين عبس وذبيان أربعين سنة. ويقال لهذه الحرب حرب داحس. وتقدم تفسير القصة في حرف التاء. أشأم من الدهيم. الدهيم بوزن الزبير الداهية؛ والدهيم أيضاً: الأحمق؛ والدهيم أيضاً: ناقة عمرو بن الزبان الذهلي قتل هو واخوته وحملت رؤوسهم عليها وقالوا: أشأم من الدهيم. وتقدم أنَّ خوتعة هو الذي ذل عليهم. والقصة في حرف الهمزة. وذكر أبو عبيد أنَّ هذا هو الأصل في إطلاق الدهيم على الداهية. وذكر البكري أيضاً هذه القصة فقال: كان من خبر الدهيم أنَّ مالك بن كرمة الشيباني لقي كنيف بن عمرو وكان مالك نحيفا وكان كنيف ضخما. فلما أراد مالك أسر كنيف اقتحم كنيف عن فرسه لينزل إليه مالك فيبطش به. فأوجره مالك السنان وقال: والله لتستاسرن أو لأقتلنك. فأدركهما عمرو بن الزبان فاختصما فيه هو ومالك فقالا: قد حكمنا كنيفا. فقال: من اسرك يا كنيف؟ فقال: والله لولا مالك لكنت في أهلي! فلطمه عمرو بن الزبان فغضب مالك وقال: أتلطم أسيري؟ ثم قال: إنَّ فاءك يا كنيف مائة ناقة وقد وهبتها لك بلطمة عمرو وجهك! فجز ناصيته وأطلقه. ولم يزل كنيف يطلب عمرو بن الزبان باللطمة حتى دله عليه رجل من عقيلة وقد ند لهم إبل. فخرج عمرو واخوته في طلبها وأدركها وذبحوا حوارا واشتووه وجعلوا يأكلون. فغشيهم كنيف في ضعف عددهم. فلما كشف كنيف عن وجهه قال له عمرو: يا كنيف إنَّ في خدي وفاء من خدك وما في بكر بن وائل أكرم من خدي. فلا تشب الحرب بيننا وبينك! فقال: كلا! أو أقتلك وأقتل اخوتك. فقتلهم وجعل رؤوسهم في مخال وعلقها على ناقة لهم يقال لها الدهيم فجاءت الناقة إلى الحي على نحو ما ذكرنا في الهمزة. فضرب حمل الدهيم مثلا في البلايا العظام.

أشأم من سراب.

أشأم من سراب. سراب بوزن قطام هي ناقة البسوس خالة جساس بن مرة قاتل كليب وبسببها وقعت حرب البسوس. فتشاءمت العرب بها وتقدم آنفا شرح القصة. وهذا المثل هو المحفوظ في هذه القصة. وأما قولنا أوّلاً: أشأم من بني بسوس فهو على ما وقع في كلام بعض الأدباء وليس بجيد لأن المتشاءم به هو إما البسوس نفسها لا بنوها وأما ناقتها سراب كما هنا. ولو قيل: أشأم من بني مرة وهم جساس وإخوته لكن أيضاً صحيحا كما قال مرة لجساس حين قتل كليبا: ما بنا إلاّ أن تتشاءم منا أشياخ وائل! وقدم هذا كله. أشأم من الشقراء. الشقراء مؤنث أشقر وهي هنا علم فرس شيطان بن لاطم قتلت وقتل صاحبها فقالوا: أشأم من الشقراء. وفيها كلام تقدم في الهمزة. أشأم من طويس. طويس على مثل زبير مخنث كان بالمدينة وكان اسمه طاووسا. فلما تخنث سمي طويسا وهو مصغره بحذف الزوائد ويكنى أبا عبد المنعم. ويقال إنه أول من غنى في الإسلام. وكان يقول: إنَّ أمي كانت تمشي بالنمائم بين النساء الأنصار فولدتني في الليلة التي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفطمتني يوم مات أبو بكر وبلغت الحلم يوم مات عمر وتزوجت يوم قتل عثمان وولد لي يوم قتل علي. فمن مثلي؟ ويقال إنه قال: يا أهل المدينة توقوا الدجال ما دمت بين أظهركم فإذا مت فقد أمنتم لأني ولدت في الليلة التي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ ما مر. وكان يقول في نفسه: أنا أبو عبد المنعم أنا طاووس الجحيم أنا أشأم من يمشي على ظهر الحطيم إلى غير ذلك مما لا نطول به من أخباره.

أشأم من عطر منشم.

أشأم من عطر منشمٍ. العطر بالكسر معروف وتقدم في حرف الباء؛ ومنشم على مثل مجلس امرأة كانت بمكة عطارة وهي بنت المجية. وكانت خزاعة وجرهم إذا اقتتلوا تطيبوا من عطرها. فكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فقالوا: أشأم من عطر منشم. وقال زهير بن أبي سلمى: تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشمِ والمنشم أيضاً بكسر الشين وفتحها عطر صعب القرآن وقيل هو قرون السنبل سم ساعة وحمل عليه بيت زهير المذكور. أشأم من غراب البين. غراب البين قيل هو الحمر النقار والرجلين وقيل الأبقع منها وهو الذي في صدره بياض. قال عنترة: ضعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقعُ وإنّما قال ذلك لأنه سمع نعيبه قبل رحيلهم فتشاءم به والعرب تتشاءم به. وسموه غراب بين لأنه بان عن نوح عليه السلام لمّا وجهه لتنظر إلى الماء فذهب ولم يرجع ولذلك تشاءموا به. وقيل لأنّه ينعب في منازلهم إذا بانو عنها وينزل في مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا منها. فلما كان يوجد عند بينونتهم اشتقوا له اسما من البينونه وتشاءموا به لإنذاره بالبين وإعلامه بالفراق من كلام عنترة. وعلى هذا كل غراب فهو غراب البين. وقد قيل إنّما اشتقت الغربة والاغتراب والغريب من الغراب وأهل الزجر يلمحون ذلك ويتطيرون به كما قال قائلهم: وصاح غرابٌ فوق أعواد بانةٍ ... بأخبار أحبابي فقسمني الفكر فقلت: غراب لاغترابٍ وبانةٌ ... ببين النوى تلك العيافة والزجرُ وهبت جنوبٌ باجتنابي منهم ... وهاجت صباً قلت: الصبابةُ والهجر! وقال الإمام المقدسي في وصف غراب البين: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين

أشأم من قدار.

المصاب وينعق بين الخلان والأحباب إن رأى شملا مجتمعا أنذر بشتاته ربعاً عامرا أنذر بخرابه ودروس عرصاته يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن ويحذر الآكل غصة المأكل ويبشر الراحل بقرب المراحل ينعق بصوت فيه تحزين كما يصيح بالتأذين. وأنشد على لسان حاله: أنوح على ذهاب العم مني ... وحق أن أنوح وأن أنادي وأندب كلما عاينت ربعاً ... حدا بهم أوشك البين حادي وتقدم تمام هذه القصيدة في الدال. أشأم من قدارٍ. قدار بالقاف والدال المهملة على مثل غراب هو قدار بن سالف عاقر الناقة والقدار: الجزار. وقد قيل إنَّ قدارا هذا كان جزارا. وقد يقال في المثل: أشأم من أحمر ثمود وهو قدار المذكور. قال زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطمِ قيل: أراد " أحمر ثمود " فغلط. وقيل ثمود من عاد وكان من خبره في عقر الناقة على اختصار أنَّ ثمودا كانت تبني على طول أعمارها. فاتخذوا من الجبال بيوتا يسكنوها في الشتاء كما قال الله تعالى وبنو قصرا يسكنونها في الصيف. فلما بعث الله إليهم صالحا على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال له زعيمهم: إن كنت صادقا فأظفر لنا من هذه الصخرة ناقة على صفة كيت وكيت! فأتى الصخرة فتمخضت كالحامل وانشقت عن الناقة ثم تلاها سقبها. فآمن به كثير منهم. فكان شربها يوما وشربهم يوما. فإذا كان يوم شربها حلبوها فملؤوا من لبنها كل إناء ووعاء. فلما امتنعت إياهم من الماء في يوم شربها استثقلوها. وكان فيهم امرأتان: عنزة وصدوق بذلنا أنفسهما لقدار على أن يعقر الناقة. وكان قدار أشقر أزرق قصيرا. وكان له صديق يعينه على الفساد في الأرض وكانا في تسعة من أهل الفساد. فضرب قدار عرقوبها بسيفه وضرب صاحبه العرقوب الآخر والتهموا لحمها. فخرجت ثمود إلى صالح وتزعم أنها لا ذنب لها.

فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فعسى أنَّ يرفع العذاب! فالتمسوه، فصعد إلى جبل يقال له الغارة، وطال الجبل به السماء حتى ما تناله الطير وبكى، ثم أستقبلهم ورغا ثلاثا صالح: دعوة أجهلها ذاك تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. ذلك وعد غير مكذوب! وآية ذلك أنَّ تصبح وجوههم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرة، وفي الثالث مسودة. فلما رأوا صدقه في أوّل يوم أرادوا قتله، فمنع منهم. فلما رأوا صدقه في الثالث تجملوا وتكفنوا وبكوا وضجوا، وجعلوا ينظرون من أين يأتيهم في ديارهم جاثمين. فعقروها يوم الأربعاء وأصيبوا يوم الأحد. قيل: وإنّما أصيبوا والمذنب بعضهم، لأنهم رضوا فعله، أي فصاروا كلهم مذنبين بذلك. وبلدهم بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الجبشي. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقريتهم ونهى الناس عن دخولها، ولمّا رأى صالح إنّها دار سخط ارتحل بمن معه إلى مكة. فلم يزالوا بها حتى توفاهم الله تعالى. قيل: قبورهم في غربي البيت بين دار الندوة والحجر. وقال الشاعر: كانت ثمود ذوي عز ومكرمةٍ ... ما إنَّ يضام لهم في الناس من جار فأهلكوا ناقة كانت لربهم ... قد أنذروها فكانوا غير أبرار وقال الآخر في المثل المذكور: وكان أضر فيهم من سهيل ... إذا أوفى وأشأم من قدار ومراد هذا الشاعر،، بصدر البيت، ما يزعمون من إنَّ أكثر موت البهائم يكون عند طلوع سهيل. قال أبو الطيب: وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزناء وقال أبو العلاء: لا تحسبي إبلي سهلا طالعا ... بالشام فالمرئي شعلة قابس بل وغير البهائم أيضا، كما قال الأول: بال سهيل في الفضيخ ففسد

أشأم من قاشر.

أشأم من قاشرٍ. قاشر بالقاف والشين على وزن صاحب قال الجوهري: وهو فحل كان لبني عوافة بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وكانت لقومه ابل تذكر. فاسطرقوه رجاء أنَّ تؤنث، فماتت الإبل والنسل. وقال الحريري: هو فحل كان في بعض قبائل سعد بن زيد أبن مناة، ما طرق إبلا إلاّ ماتت. وقيل: المراد به العام المجدب. وسمي قاشر لقشرة وجه الأرض من النبات. انتهى. قلت: والمعروف في اللغة إنَّ العام المجدب يقال له القاشور. قال الراجز: وابعث عليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال أحتلاق النورة! والقاشور أيضاً: المشؤوم. ويقال: قشرتم إذا شأمهم. شب عمرو عن الطوق. الشباب: الفتاء يقال شب الغلام يشيب شباباً؛ وعمرو هو أبن عدي بن نصر اللخمي، أبن أخت جذيمة، أوّل ملوك لخم بالحيرة، بعد خاله جذيمة، كما تقدم ذلك في قتله للزباء؛ والطوق بالفتح حلي يجعل للعنق، وكل ما أستدار بالشيء. وكان من خبر عمرو في الطوق إنَّ جذيمة بلغه أنَّ غلاما من لخم يقال له عدي بن نصر عند أخواله من أيادٍ غاية في الظرف والأدب. وكان جذيمة قد أغار على أياد، فسرقت أياد صنمين كانا لجذيمة مشهورين. ثم عاهدوا على أنَّ يردوا إليه صنمية وأنَّ لا يغزوهم أبدا في قصة مشهورة. فشرط عليهم أنَّ يبعثوا مع الصنمين بالغلام الموصوف. فلما انتهى إليه ولاه مجلسه وكأسه والقيام على رأسه. فتعشقته رقاش بنت مالك، أخت جذيمة فقالت له: يا عدي، إذا سقيتهم فأمزج لهم وعرق الملك! أي امزج له قليلا كالمعروق فإذا أخذت منه الخمر فأخطبني له وأشهد الجماعة؟ ففعل الغلام، وزوجه جذيمة وأشهد عليه. فانطلق إليها وعرفها. فعلمت إنّه سينكر إذا أفاق، فقالت له: أدخل لأهلك! فبات عدي معرسا بها، وأصبح في ثياب جدد. ودخل على جذيمة فقال:

ما هذه الآثار، يا عدي؟ قال: آثار العرس. قال: أي عرس؟ قال: عرس رقاش. فنخر جذيمة وأكب لوجهه غضبا. فهرب عدي ولحق بقومه، وبقي هناك حتى مات وقيل: بل أدركه جذيمة فقتله وبعث إلى أخته رقاش يقول: حدثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحر زنيت أم بهجين؟ أم بعبد فأنت أله لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون؟ فقالت له: زوجتني كفئاً كريما من أبناء الملوك! وقالت تجيبه: أنت زوجتني وما كنت أدري ... وأتاني النساء للتزيين ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصبا والمجون! ثم إنّه جعلها في قصره، فاشتملت على حمل، فولدت وسمته عمرا ورشحته، فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة وأزارته خاله. فأعجب به وألقيت عليه منه محبة وقيل تبناه، وكان لا يولد له. وخرج جذيمة في عام مخصب وبسط له في روضة، وخرج عمرو بن عدي في غلمة يجنتون الكمأ، فكان منهم من وجد طيبة أكلها، وعمرو إذا أصابها خبأها. ثم أقبلوا يسرعون، وعمرو يقدمهم وهو يقول: هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه! فالتزمه جذيمة وحباه. ثم إنَّ الجن استهوت عمراً ففقد فطلبه جذيمة في آفاق الأرض، فلم يسمع له خبرا حتى أقبل رجلان من بلقين وهما مالك وعقيل، ابنا فالح من الشام يريدان الملك بهدية ومعهما قينة يقال لها أم عمرو. فبينما هما على ماء، وقد هيأت لهما القينة طعاما وجعلا يأكلان، إذ أقبل رجل أشعت الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله. فناولته القينة طعاما وسقت صاحبيها. فقال عمرو: اسقني! فقال: لا تطعم العبد الكراع، فيطمع في الذراع! وأوكت سقاءها. فقال عمرو: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصحابك الذي لا تصحبينا! فقالا له: من أنت يا فتى؟ قال أنا عمرو بن عدي. فأخذاه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وأخذا من شعره وقالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هدية هي عنده أنفس ولا هو عليها أكثر

أشبه من الغراب بالغراب.

صفدا من أبن أخته! وحملاه معهما حتى بلغاه جذيمة. فسر به سروراً شديداً وصرفه إلى أمه وقال: تمنيا علي! فقلا: منادمتك، ما بقيت وما بقينا. فنادمهما. ويقال انهما أقاما في منادمه أربعين سنة يحدثانه، فما أعادا عليه حديثا. وهما ندما جذيمة المشهوران المضروب بهما المثل في شدة الألفة والمصاحبة، في قول أبي خراش: تقول: أراه بعد عروة لا هيا ... وذلك زرء لو علمت جليل فلا تحسبني أنَّ قد تناسيت عهده ولكن صبري يا أميم جميل ألم تعلمي أنَّ قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء: مالك وعقيل؟ وفي قول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا: وكنا كندماني جذيمة حقبه ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا فلما تفرقا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا! وفي قول بعض المحدثين: نحن كنا في التصافي ... مثل ندماني جذيمه فأتى الصرم بيوم ... دونه يوم حليمه تقدح الأيام حتى ... في المودات القديمه وكان قبل ذلك جذيمة لا ينادم أحدا، زهوا وكبرا، ويقول: هو أعظم من أن ينادم إلاّ الفرقدين! فكان يشرب كأسا ويريق للفرقدين كأسا. ثم إنَّ رقاش أخذت ابنها عمرا وأدخلته الحمام. فلما خرج ألبسته من فاخر الثياب وجعلت في عنقه طوقا من ذهب كان له، وأمرته بزيارة خاله. فلما رأى جذيمة لحيته، والطوق في عنقه، قال: شب عمرو عن الطوق! وقيل إنّها لمّا أرادت أنَّ تعيد الطوق عن عنقه قال لها جذيمة: كبر عمرو عن الطوق! فذهبت مثلا يضرب للابس ما دون قدره. أشبه من الغراب بالغراب. أشبه بالكسر والشبه بفتحتين، والشبيه: المثل، وجمعه اشباه؛ وشابهه، وأشبهه: ماثله؛ واشتبها وتشابها: تماثلا؛ وشبهته إياه وبه تشبيها مثله؛ والغراب تقدم. ولمّا كانت الغرابان غالبا على صفة واحدة

أشبه شرج شرجا لو إن أسميرا.

ولون واحد، وحصل بينها تشابه مطرد وتساو متفق، فضربوا بتساويها المثل فقالوا: فلان أشبه بفلان من الغراب بالغراب: ومنه قول الغرابة، من المبتدعة، إنَّ عليا أشبه النبي صلى الله عليه وسلم من الغراب بالغراب. وبدعتهم معروفة تحاشينا عن تلويث الكتاب بها، لعنهم الله وأخلى منهم الأرض! أشبه شرج شرجا لو إنَّ أسميراً. الشبه مر، والشرج بفتح الشين المعجمة وسكون الراء بعدها جيم واد باليمن والشرج مسيل الماء من الحرة إلى السهل مطلقا، وله معان أخر. وأما الشرج بفتحتين فهو مسيل الوادي، وأسمير تصغير اسمر بضم الميم والأسمر جمع سمرة وهو الشجر المعروف يقال سمرة والجمع سمر وسمرات وأسمر، وتصغيره أسيمر. وهذا المثل يضرب في الشيئين يتشابهان ويفترقان. وكان أصله أنَّ لقمان بن عدا قال للقيم بن لقمان: أقم هاهنا حتى أنطلق إلى الإبل! فنحر لقيم جور فأكلها ولم يخبئ شيئاً للقمان، فخاف لومه فحرق ما حوله من السمر الذي بهذا الوادي، وهو شرج ليخفي ذلك المكان. فلما جاء لقمان: جعلت الإبل تثيل الجمر بأخفافها، فعرف لقمان ذلك المكان وأنكر ذهاب السمر منه، فال حينئذ: أشبه شرج شرجا لو إنّه أسيمرا! شتى تؤوب الحلبة. الشتى جمع شتيت، وهو المفترق. وقال رؤبه يصف إبلا: جاءت معا وأطرقت شتيتا ... وهي تثير الساطع السختيتا والأوب: الرجوع يقال: آب يؤوب أوبا وإيابا والحلبة جمع حالب وحلب الناقة والشاة معروف. والمعنى انهم إذا ذهبوا اجتمعوا، وإذا قضوا مآربهم رجعوا متفرقين. ومضربه ظاهر.

أشجع من الديك.

أشجع من الديك. الشجاعة معروفة، شجع الرجل بالضم فهو شجاع كغراب والديك معروف يشج مرة ويأسو أخرى الشج معروف، والأسو: المداواة، أساه، يأسوه أسوا: داواه، وآسى بين القوم أصلح، فمعنى المثل إنّه يفسد أحيانا ويصلح أحيانا، ويضرب لمن يصيب مرة ويخطئ أخرى، أو يضر مرة وينفع أخرى، ونحو ذلك ونظمه صالح بن عبد القدوس فقال: قل للذي لست أدري من تلومه: ... أناصح أم على عيش يداجيني؟ إني لأكثر مما سمتني عجبا ... يد تشج وأخرى منك تأسوني لو كنت أعلم منك الودهان له ... علي بعض الذي أصبحت توليني لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني أرضى عن المرء ما أصفى مودته ... وليس شيء من البغضاء يرضيني لا أبتغي ود يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني الشجاع موقى والجبان ملقى. معناه إنَّ الشجاع مع إقدامه وتعطيه المهالك بنفسه، محفوظ غالبا والجبان مع مثرة حذره هالك قال البكري: وهذا كما روي عن أبي بكر وعن علي، رضي الله عنهما: أحرص على الموت توهب لك الحياة! وقال الشاعر: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... انفسي حياة مثل أنَّ أتقدما انتهى. قلت: ومثله شاع اليوم في ألسنه العامة، يقولون: متى طلب الرجل إنَّ يموت لم يجد قاتلا؛ غير أنَّ ما ذكره البكري في البيت الحصين بن الحمام المذكور

شحمتي في قلعي.

محتمل وأظهر منه إنَّ يريد بالحياة عند التقدم ما يكتسبه من شرف الذكر الباقي بعده. فإنَّ بقاء الاسم والذكر والمآثر والمفاخر حياة انفع عند ذوي الهمم من حياة الجسم مع سبة الفرار واللوم. فكأنه يقول: تأخرت أستبقي حياة جسمي فبدالي الله تعالى الحياة الأخرى افضل لي. ولو كان على ما قاله البكري لم يكن لافتخاره محل لأنّه إنّما يطلب الحياة بإقدامه ولم يقدم شجاعة ولقاء بأس فإقدامه كالفرار ولا فضيلة له وهذا باطل. وقد قال بعد هذا البيت: وليس على الإدبار تدمى كلومنا ... وكان على أقدامنا تقطر الدما وقول أبي الطيب: يرى الجبناء أنَّ الجبن حزمٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيمِ وحتما. شحمتي في قلعي. الشحمة: القطعة من الشحم وهو معروف؛ والقلع بفتح القاف وسكون اللام وتحرك أيضاً شيء يجعل فيه الراعي زاده وأداته يشبه الكنف بكسر الكاف وهو وعاء أدوات الراعي. قال الراجز: يا ليت أني وقشاماً نلتقي ... وهو على ظهر البعير الأورقِ وأنا فوق ذات غربٍ خيفق ... ثم اتقي وأي عصر اتقي بعلبةٍ وقلعه المعلقِِ يضرب هذا المثل في الشيء يكون في ملكك وحوزك تتصرف فيه كيف شئت كما أنَّ الشحمة إذا كانت في قلعك كذلك. شحيمةٌ في حلقي. الشحيمة تصغير الشحمة وتقدم؛ والحلق بفتح الحاء المهملة الحلقوم. وهذا المثل مما وضع على لسان الذئب. يقولون: قيل للذئب: ما رأيك في غنيمة ترعاها جويرية؟ قال: شحيمةٌ في حلقي يعني إنّها حاصلة بلا تعب

شحمة الركى.

وصغرها تقللا واستسهالا. قيل: فغنيمة يرعاها غليم. قال شعراء في إبطي أخشى حظواته. الشعراء ذباب أزرق له لدغ يقع على الإبل والدواب والحظوات سهام صغار من قصب لينة يتعلم بها الغلمان؛ وكذلك الجماح ولا نصل له. قال الشاعر: أصابت حبة القلب ... بسهم غير جماحِ شحمة الرُكى. شحمة الرُكى على وزن ربى وهو الذي يذوب سريعا. يضرب لمن يعينك في الحاجات. اشد من الفرس. الشدة بالكسر اسم من الاشتداد. واشتد الأمر فهو مشتد؛ والفرس معروف وتقدم. أشد من الفيل. الفيل بالكسر معروف. أشد من الدَّلم. الدَّلم بفتحتين والدال المهملة شيء يشبه الحية يكون بالحجاز. وقيل نوع من القرد. اشتدي زيم! الاشتداد هنا العدو؛ وزيم بكسر الزاي ز فتح الياء المثناة من تحت بوزن عنب اسم فرس. وهذا في شعر للحطم القيسي يقول:

هذا أوان الشد فاشتري زيم وتمثل به الحجاج في خطبته الكوفية. قال أبو العباس المبرد في الكامل: حدثني الثوري في إسناد ذكره آخره عبد الملك أبن عمر الليثي قال: بينما نحن بالمسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة إذ ذاك في حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق! فإذا به قد دخل المسجد معتماً بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدا سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى تنظر! فلما رأى عيون الناس أليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال: أنا أبن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني! ثم قال: يا أهل الكوفة أني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى! ثم تمثل فقال: هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم ثم قال: قد لفا الليل بعصلبي ... أوزع خراجٍ من الدوي مهاجرٍ ليس بأعرابي وقال: قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا والقوس فيها وترعد ... مثل ذراع البكر أو اشد! أي: والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولق فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة. وإنَّ أمير المؤمنين نثر كنانته

فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا واصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل! فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وإني والله ما أقول إلاّ وفيت ولا أهم إلاّ أمضيت ولا أخلق إلاّ فريت! وإنَّ أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم إلى محاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني اقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلاّ ضربت عنقه! يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين1 فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين. . فلم يقل أحدٌ منهم شيئا. فقال الحجاج: اكفف يا غلام! ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئا؟ هذا أدب أبن لهيعة! أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين! فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم! لم يبق أحد في المسجد إلاّ وقال: على أمير المؤمنين السلام! ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم. فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي أبن هو أقوى مني على الأسفار أتقبله بدلا مني؟ فقال له الحجاج: نفعل أيّها الشيخ! فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه! فقال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين بدلا يوم الدار إنَّ في قتلك أيّها الشيخ لصلاحاً للمسلمين! يا حرس اضربا عنقه! فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده. وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي: تجهز فإما أن تزور أبن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا فأضحى ولو كانت خرسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي اقربا! وفي هذه القصة ألفاظ تخفى. فقوله: أنا أبن جلا، أي المنكشف الأمر، وهو لسحيم بن واثلة وفيه كلام يأتي من حرف النون، إن شاء الله تعالى. وقوله، أرى رؤوسا قد أينعت، أي أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعا وينعت أيضاً ينعا. قال تعالى:) انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه (. وقال الشاعر في الفعل: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا خرفه حتى إذا أرتبعت ... ذكرت من جلت بيعا في قباب حول دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا وقوله: هذا أوان الشد فاشتدي زيم! وهي فرس كما مر. وقال المبرد: يعني فرسا أو ناقة. وقوله: بسواق حطم، الحطم: الذي لا يبقي من السير شيئاً، ويهلك المال بذلك. ومنه قيل النار التي لا تبقي حطمة. وقوله: على ظهر وضم، والوضم بفتحتين كل ما يقطع عليه اللحم. وتقدم في التاء. قال الشاعر: وفتيان صدق حسان الوجوه لا يجدون لشي ألم من آل المغيرة لا يشهدون عند المجازر لحم الوضم وقوله: بعصلبي، العصلب بالعين والصاد المهملتين، على مثال جحدب، والعصلبي بياء النسبة، والعصلوب: القوي الشديد الخلق، العظيم؛ وأروع أي ذكي. وقوله: خراج من الدوي الدو بتشديد الواو؛ والدوى والداوية: الفلاة لا علم فيها ولا أمارة. قال الحطيئة: وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي يريد: بخروجه من الدو أنَّ يخرج من كل غماء وشدة على طريق التمثيل.

وقوله: وتر عرد، أي شديد. ويقال أيضاً عرند بالنون. وقوله: ما يقعقع لي بالشان، واحدتها شن بالفتح، ويقال أيضاً شنة وهي قربة البالية اليابسة، فيقعقع بها فتنفر الإبل من صوتها. وضرب ذلك مثلا لنفسه في الثبات. قال النابغة: كأنك من جمال بني أقيشٍ ... يقعقع بين رجليها بشن وقوله: فررت عن ذكاء هنا تمام السن. ومنه قول أبن زهير: جري المذكيات غلاب. ويطلق الذكاء أيضاً على حدة القلب. ومنه قول زهير بن أبي سلمى: يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء وقوله: عجم عيدانها، أي مضغها ليعرف الأصلب. قال النابغة: فظل يعجم أعلى الروق منقبضا ... في حالك اللون صدق غير ذي أود وقال علقمة: سلاءه كعصل النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قرآن معجوم وقوله: طالما أوضعتم الأضياع: ضرب من السير. وقول الأسدي: فأضحى ولو كانت خرسان دونه أي دون سفره فإنه يراها قريبة لخوفه وطاعته. وأما قول ضابئ بن الحارث: هممت ولم أفعل. . " البيت "، فكان من قصته إنّه وجب عليه حبس وأدب عند عثمان رضي الله عنه، فعثر عليه، فأحسن أدبه، فقال في ذلك: وقائلة: إنَّ مات في السجن ضابئ ... لنعم الفتى تخلو به وتواصله! وقائلة: لا يبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله وقائلة: لا يبعدن الله ضابئا ... إذا الخصم لم يوجد له من يقاوله! فلا تتبعي إنَّ هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا أقاتله! هممت ولم أفعل. . " البيت " وما الفتك ما أمرت فيه الذي ... تخبر من لاقيت انك فاعله

اشتدي أزمة تنفرجي!

ويشبه ما وقع لابن ضابئ ما وقع لأبي شجرة السلمي، وكان من فتاك العرب. فأذى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ليحمله، فقال له عمر: ومن أنت؟ قال: أنا أبو شجرة السلمي. فقال له عمر: ألست القائل، حيث ارتددت: ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أعمرا وعارضتها شهبا تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنورا؟ ثم أنحى عليه بالدرة. فسعى إلى ناقة وحل عقالها وأقبل بها حرة بني سليم باحث سير هربا من الدرة وهو يقول: قد ضن عنها أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوما له ورق فمال يضربني حتى خذيت له ... وجال من دوني بعض الرغبة الشفق ثم التفت إليها وهي حانية ... مثل الرتاج أنا ما لزه الغلق في أبيات. وقوله: وكل متخبط يوما له ورق، أي كل مسؤول فله فضل يسيده، ونوال يوليه وأصل في الشجرة انك تختبطها ببعضها ونحوها، فيسقط ورقها. قال زهير: وليس مانع ذي قربى ولا رحمٍ ... يوما ومعدم من خابط ورقا قوله: حتى خذيت له، يقال: خذاله، وخذئ له بالفتح والكسر مهموزا واستخذى له، إذا خضع له وانقاد؛ وخذا يخذوا وخذوا إذا استرخى وخذيت أذنه بالكسر تخذى، إذا استرخت من أصلها وانكسرت، مقبلة على الوجه. فيحتمل أنَّ يكون قوله: خذيت له، من المهموز أو غيره. اشتدي أزمة تنفرجي! الاشتداد تقدم، والأزمة: الشدة والقحط، يقال: أصابتهم سنة أزمتهم أزما، أي استأصلتهم، وأزم الدهر إي اشتد وقل خيره؛ وأزم الرجل بصاحبه: لزمه، وألزمه: عضه؛ والانفراج: الانفتاح والاتساع. وهذا اللفظ حديث يروى. ولمّا كانت الحكمة الإلهية جرت بتنقلات الحوادث وتحولات الأحوال، وعدم استقرارها على حال، صارت الشدة إذا تناهت لم يعقبها إلاّ الفرج، كما أنَّ الفرج إذا تناهى لم يعقبه

شراب بأمقع.

إلاّ شدة فصارت الشدة مفتاح الفرج وسببا فيه بهذا الاعتبار. فإذا طلبت الشدة فذاك طلب الفرج، وإقامة للسبب مقام المسبب. قال تعالى:) فإن مع العسر يسرا (. وفي الحديث الآخر: احفظ الله يحفظك! احفظ الله تجده أمامك! تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة! وأعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصيبك! وأعلم أنَّ النصر مع الصبر، وإنَّ الفرج مع الكرب، وإنَّ مع العسر يسراً! وقال الشاعر: ضاقت ولو لم تضق لمّا انفرجت ... فالعسر مفتاح كل ميسور غيره: خفض الجأش واصبرن رويداً ... فالرزايا إذا توالت تولت! وقيل: وكان الإمام سحنون يقول إذا ضاقت عليه أمر ضيقي تفرجي يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين! شراب بأمقعٍ. الشراب معروف، وتثلث شينه، شرب بالكسر شربا وتشرابا، فهو شارب وشراب للمبالغة وأشربته أنا. وقيل: الشرب بالفتح مصدر وبالكسر والضم اسمان والشرب بالكسر أيضاً الحظ من الماء؛ والمقع بفتح الميم وسكون القاف: أشد الشرب. وفلان شراب بأمقع، أي معاود للأمور، يأتيها حتى يبلغ أقصى مراده شراب بأنقع. الانقع جمع نقع بفتح والنون وسكون القاف، وهو الماء المستنقع. وهذا أيضاً يضرب لمن جرب الأمور وعودها، كالذي قبله، أو للداهي المنكر، لأن الدليل إذا عرف الفلوت حذف بسلوك الطرق إلى الماء، وعرف أين يهتدي إلى الأنقع حتى يشرب منها

أشرد من نعامة.

أشرد من نعامةٍ. الشرود: الفرار؛ والنعام معروف، ولا أسرع منه عند شروده. قال: وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأت صقراً وأشرد من نعام غيره: وولو سراعا كشد النعام ... ولم يكشفوا عن ملك حصيرا غيره: وكانوا نعاما عند ذلك منفرا والعرب تضرب به المثل في الجبن أيضاً مع ذلك، كما قال عمران بن حطان: أسد علي في الحروب نعامةٌ ... فتخاء تنفر من صفير الصافر وكما قال محكم اليمامة: إنَّ خالد لقي أسداً وغطفان، فأشار عليهم بذباب السيف، فكانوا كالنعام الجافل، أو كما قال: أشرد من ورلٍ. الشرود مر، والورل بفتحتين حيوان على خلقة الضب وهو أعظم منه وتقدم في حرف السين. فائدة: ذكر بعضهم، إنّه لا يجتمع الراء واللام في لغة العرب إلاّ في أربعة ألفاظ: الورل المذكور وأرل اسم جبل والغرلة وهي القلفة، وجرل وهو ضرب من الحجارة. انتهى. قلت: أما الورل فقد ذكرنا ضبطه، وأما أرل فبضمتين، وهو اسم جبل واسم موضع ببلد فزارة أيضا، وأما الغرلة فبضم الغين وسكون الراء. ورجل أرغل والجمع غرل، كما في الحديث: يحشر الناس حفاة عراة غرلا؛ وأما الجرل فبالجيم والراء المفتوحتين وهو الحجارة أو مع الشجر أو مع المكان الصلب الغليظ، جرل المكان بالكسر فر جرل ككتف والجمع أجرال.

شر الرأي الدبري.

شر الرأي الدبري. شر أسم تفضيل. يقال: هذا أشر من هذا وشر منه بغير همز تخفيفا، كما يقال: هذا خير من هذا، وهو الأكثر استعمالا؛ والرأي: الاعتقاد، جمعه آراء ورئي، والدبري بفتحتين: الرأي الذي يسنح للإنسان أخرا، بعد فوات الحاجة. والدبري أيضاً: الصلاة آخر وقتها. قيل: والضم فيها من لحن المحدثين. شر الرعاء الحطمة. الحطمة على مثال همزة من الرعاة: الذي يهلك الماشية ويهشم بعضها ببعض، من الحطم، وهو الكسر ويضرب في سوء السياسة. قال في الصحاح إنّه مثل، ومثله قول الراجز: لقد لفها الليل بسواق حطم ... ليس يراعي إبل ولا غنم ووهمه صاحب القاموس وقال أنه حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وليس فيه كبير وهم، إذا لا منافاة. وكذلك وقع لأبي عبيد في كتابه إنّه مثل من أمثالهم. وقال البكري في شرحه إنّه كلام يروى في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: دخل العائد بن عمرو المزني وكان من صالحي أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، على عبيد الله بن زياد فقال له: إي بني، إني سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شر الرعاء الحطمة. فإياك أنَّ تكون منهم! قال عبيد الله: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم! قال: وهل كانت فيهم نخالة؟ وإنّما النخالة بعدهم في غيرهم. فائدة: إذا كان راعي الإبل أو الماشية كلها اخرق يظلمها قيل له حطمة، كما مر؛ وإذا كان رفيقا بها يحسن رعايتها قيل له ترعية وترعاية. وقيل أنَّ هذا لمن كانت صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل.

شر السير القحقحة.

شر السير القحقحة. السير معروف، والقحقحة: السير المتعب. ويقال قهقهة بقلب الحاء هاء ومنه قول رؤبة: يصبحن بعد القرب القهقهة ... بالهيف من ذاك البعيد الأمقه قال أبو علي البغدادي في نوادره: قال مطرف بن الشخير لأبنه: عليك بالقصد وإياك وسير القحقحة! يريد الأتعاب. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: قيما يضرب من الأمثال في التوسط في الأمور: منه قول مطرف بن عبد الله بن الشخير: الحسنة بين السيئين وخير الأمور أوساطها، وشر الأمور سير القحقحة. انتهى. قال البكري: قال مطرف يوصي ابنه: يا عبد اله، إنَّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تنغص إلى نفسك عبادة ربك! فإنَّ الحسنة بين سيئتين، وخير الأمور أوساطها، وشر السير القحقحة، وإنَّ المنبت لا أرض قطع ولا ظهر أبقى انتهى. قال: ومن قوله: إنَّ هذا الدين متين. . إلى آخر الحديث، مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسير بيت في هذا قول الشاعر: عليك بأوساط الأمور فأنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا! الشر ألجأه إلى مخ العراقيب. ويقال أيضاً: شر ما أجاءك إلى مخة عرقوبٍ. الشر نقيض الخير؛ ولجأ الرجل إلى كذا بالفتح والكسر لا ذبه وألجأته إليه: أضطررته وأجأته إليه أيضا بمناه؛ والمخ نقى العظم وعظم ممخ: ذو

شر المال مالا يزكى ولا يذكى.

نقي؛ والعراقيب جمع عرقوب، وهو العصب فوق عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يديها، وكل ذات أربع فعرقوباها في رجليها، وركبتاها في يديها. والمعنى أنَّ الشر هو الذي ألجأك إلى سؤال اللئام. فيضرب عند الاضطرار إلى المسألة البخيل. وإنّما خص العرقوب لأنه شر المخاخ، كما إنّه شر العظام، كما قال الاخطل لكعب بن جعيل: وسميت كعبا بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل شر المال مالا يزكى ولا يذكى. المال: معروف، والتزكية إخراج الزكاة والتذكية الذبح للأكل. والموصوف بما ذكر الحمار ونحوه، لأنّه لا زكاة فيه وزكاة له. شر أهر ذانابٍ. الشر تقدم؛ وهر الكلب يهر هريرا: صوت ولم ينبح. قال حسان، رضي الله عنه: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل غيره: ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا وذو الناب: الكلاب؛ وأهررته أنا: حملته على الهرير. وهذا المثل يضرب عند ظهور أمارات الشر وتبين مخائله. وأصله أنَّ قائله سمع هريرا الكلب في الليل، فأشفق من طارق بشر، فقال ذلك تعظيما للحال وتهويلا للأمر عند نفسه ومستمعه، أي: ما أهر ذا ناب إلاّ شر عظيم. ولأحل هذا الوصف المنوي، حسن الابتداء بلفظة " شر " حتى حصل من ذلك الحصر. شر يوميها وأغواه لها. هذا يضرب عند إظهار البر باللسان لمن يراد به الغوائل. وهو شطر بيت تمامه:

الشرط أملك، عليك أم لك.

ركبت غز بحدج جملا وسيأتي في حرف اللام استيفاء الكلام عليه إن شاء الله تعالى. الشرط أملك، عليك أم لك. الشرط بفتح فسكون إلزام الشيء والتزامه. ويكون أيضاً بمعنى سق الجلود، كفعل الحجام، وأما الشرط بالتحريك فهو العلامة، ومنه أشراط الساعة، أي علامتها؛ والملك مثلث الميم: لاحتواء على الشيء والقدرة عليه. والمعنى إنَّ ما أشترط فهو لازم وأولى أنَّ يتفع سواء كان ذلك الشرك عليك أم كان لك. وهذا المثل نطق به القاضي شريح، ولا أدري أهو المخترع له أم قيل قبله. ذكر السكاكي في المفتح إنّه حكى أنَّ عدي بن أرطة أتى ومعه امرأة له مثال أهل الكوفة يخاصمها. فلما جلس بين يدي شريح قال له عدي: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إني امرؤ من أهل الشام. قال: بعيد وسحيق. قال: وإني قدمت العراق. قال: خير مقدم. قال: وتزوجت هذه. قال: بالرفاء والبنين! قال: إنّها ولدت لي غلاما. قال: ليهنك الفارس! قال: وأردت أنَّ أنقلها إلى داري. قال: المرء أحق بأهله. قال: كنت شرطت لها وكرها. قال: الشرط أملك منك! قال: أقض بيننا! قال: فعلت! قال: فعلى من قضيت؟ قال: على أبن أمك! قوله: أين أنت؟ يريد: في أي شغل أنت هذا الوقت؟ هل أنت متفرغ للنظر فيما بيننا؟ ولا يريد السؤال عن المكان حقيقة، ولكن لمّا كان فضولا مع ما فيه من سوء الأدب حمله القاضي على حقيقته وأجاب بنفس المكان، تجهيلا له وتعريضاً إنّه بين جمادين وهما عدي والحائط. وقوله الرفاء والبنين: متعلق بمحذوف، أي تزوجت وأعرست مصحوبا بالرفاء، أي بالموافقة والألفة وبالبنين، أي الذكور دون البنات. وقوله: ليهنك الفارس! دعاء له وتفاؤل، أي: ليكن ولدك هنيئا لك لائقابه، ويبلغ مبلغ الفروسة!

شرعك ما بلغك المحل.

وقوله: الشرط أملك منك؟ أي ملكه وتصرفه أقوى من تصرفك، فلا ينبغي أنَّ يخالف. وقوله: على أبن أمك، أي عليك. وإنّما عدل عن التصريح إلى ما ذكر، كراهية موجهته بالحكم عليه، لمّا جلبت عليه النفوس من كراهية ذلك. ومثل هذا ما يحكى عن شريح أيضاً من إنَّ رجلا أقر عنده بشيء ثم أنكر، فلما قال له: أعط الحق! قال: من يشهد علي؟ قال: شهد عليك أبن أختك خالتك. فعدل عن التصريح ستر عليه وكراهية أنَّ ينسبه إلى الحمق بالإنكار بعد الإقرار. شرعك ما بلغك المحل. يقال: هذا الشيء شرعك، أي حسبك، ومررت برجل شرعك من رجلٍ! أي حسبك. ومعنى إنّه من النحو الذي يشرع فيه؛ والتبليغ معروف؛ والمحل: الموضع الذي تريده. والمعنى أنَّ ما بلغك المحل المراد فهو حسبك. فيضرب في التبليغ باليسير. وقال أبو عبيد: من أمثالهم في جود الرجل بما فضل عن حاجته بماله قولهم: يكفيك ما بلغك المحل. قال البكري: المشهور في هذا: شرعك ما بلغك المحل، أي حسبك. وقال: آخر في هذا المعنى: حسب الفتى من دهره ... زاد يبلغه المحلا خبر وماء بارد ... والظل حين يريد ظلا قال: والمحل هو الدار الباقية. شرق ما بين القوم بشر. يقال: شرق بالماء بالكسر إذا غص به. قال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري

اشتر لنفسك وللسوق!

ويقال في هذا المثل إذا نشب الشر بين الناس. والمعنى إنّه امتلأ ما بينهم بالشر، فكأنه غص. وهكذا كما تقول: غص المجلس بأهله، أي امتلأ، على طريق التمثيل. اشتر لنفسك وللسوق! هذا مثل يضرب في الاحتياط. ومثله قولهم: إذا اشتريت فأذكر السوق! وقد تقدم في الباب الأول. ومثله ما حكى البكري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يقول: إذا اشتريت بعيرا فاجعله ضخما، فإنَّ أخطئك خيراً لم يخطئك سوقا. شغلت شعابي جدواي. الشغل بالضم وبضمتين، وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ شغله شغلا بالفتح، وأشغله أيضا؛ والشعاب جمع شعب بالكسر من الأرض؛ والجدوى: المطر العام والعطية أيضاً. ويضرب هذا المثل فيما إذا لم يكن لمالك أو عطائك أو علمك أو نحو ذلك فضل عن نفسك أو عن من يتعلق بك، كالمطر تشغله شعابك، فلا يصل إلى موضع آخر. ومعنى ذلك إنّه إذا قل المطر الواقع في الشعاب أو النازل إليها من التلاع، شربته وشغلته بذلك عن إنَّ يخلص إلى ما بعدها من الأودية والبقاع. أشغل من ذات النحيين. الشغل مر؛ والنحي بكسر النون وسكون الحاء المهملة: الزل. وقيل مخصوص بما كان للسمن؛ وذات النحيين امرأة من تيم الله بن ثعلبة، كانت خرجت في الجاهلية تبيع السمن فأتاها خوات بن جبير الأنصاري رضي الله عنه فسألوها فحلت نحيا مملوءاً فنظر إليه ثم قال: امسكيه حتى أنظر إلى الآخر! ثم حل نحيا آخر فقال: امسكيه حتى انظر إلى خيره! فلما شغل يدها معا وقع عليها حتى قضى

شغلهم الصفق بالأسواق.

أربه منها فهرب. فضربت العرب بشغلها المثل وقالوا: اشغل من ذات النحيين، وبنو أشغل من شغل بالبناء لمّا لم يسم فاعله، على وجه الشذوذ. وتقدم نظيره وتوجيهه. وقال خوات في ذلك وذات عيال واثقين بعقلها ... خلجت لها جار أستها خلجات وشدت يداها إذ أردت خلاطها ... بنحيين من سمن ذوي عرجات فكان لها الويلات من ترك سمنها ... ورجعت صفراً بغير بتات فشدت على النحيين كفا شحيحة ... على سمنها والفتك من فعلاتي قال في الصحاح: ثم اسلم خوات وشهد بدرا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا خوات، كيف شراؤك؟ وتبسم صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، قد رزق الله خيراً، واعوذ بالله من الحور وهجا رجل تيم الله فقال: أناس ربه النحيين منهم ... فعدوها إذا عد الصميم شغلهم الصفق بالأسواق. يتمثل له وهو كلام عمرو بن أبي هريرة رضي الله عنهما لمّا ذكر لعمر حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروه. قال: اخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم شغلني الصفق بالأسواق، أي بالبيع والشراء، لأن المشتري والبائع يضرب أحدهما بيده على يد صاحبه وهو الصفق. وقال أبو هريرة: إنَّ إخواني من المهاجرين والأنصار شغلهم الصفق بالأسواق، وكانت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، كما في الصحيح. شق العصا. الشق: الصدع والعصا بالقصر العود يضرب به. والعصا أيضاً: اللسان وعظم الساق وجماعة الإسلام. وقولهم: شق فلان العصا أي فارق الجماعة ويقال

أشكر من بروقة.

في الخوارج: شقوا عصا المسلمين، أي فارقوا جماعتهم. وقال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحبسك والضحاك سيف المهند! أشكر من بروقةٍ. الشكر بالضم أنَّ تعرف الإحسان وتشكره: والشكر من الله تعالى: المجازاة والثناء الجميل؛ والبروقة بكون الراء واحدة البروق، وهو شجر ضعيف، إذا غامت السماء أخضر، فوصف لذلك الشكر. أشكر من كلبٍ. الشكر مر، والكلب معروف، وشكره رضاه بالموجود وحياطته لصاحبه وقيامة عليه واتباعه له مع ذلك. ومما يحكى في هذا عن بعضهم قال: دخلت على العتابي، فوجدته جالسا على حصير وبين يديه شراب في إناء، وكلب رابض حوله يشرب كأسا ويولغه أخرى. فقلت له: ما أردت بهذا؟ قال: إنّه يكف عني أذاه ويكفيني أذى من سواه، ويشكر قليلي، ويحفظ مبيني ومقيلي، فهو من الحيوان خليلي. قال الراوي: فتمنين والله أنَّ أكون كلابا لأحوز هذا النعت منه! ويقال إنَّ الحارث بن صعصعة كان له ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم فخرج في بعض متنزهاته ومعه ندماؤه. فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته فأكلا وشربا ثم اضطجعا. فوثب الكلب عليهما فقتلهما. فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما ميتين وعرف الأمر. فأنشأ يقول: فيا عجبا للخل يهتك حرمتي ... ويا عجبا للكلب كيف يصون

شاكه أبا فلان.

ما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون! ويوثر في الحديث إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مقتولا فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنّه وثب على غنم بني زهرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم؛ قتل نفسه وأضاع دينه وعصى ربه وخان أخاه وكان الكلب خير منه. ويحكى عن أبن عباس رضي الله عنه: كلب أمين خير من صاحب خؤونٍ وقد ألف بعض العلماء تأليفا في فضل الكلاب على كثير من لبس الثياب. شاكه أبا فلانٍ. المشاكهة: المشابهة. وأصله أنَّ رجلا عرض فرسا له في السوق، فقال له رجل: أهذه فرسك التي كنت تصيد عليها الوحش؟ فقال: رُبَّ الفرس: شاكه، أي قارب في المدح ولا تفرط. فيضرب في الأمر بالقصد في المدح. ويحكى أيضاً في هذا القصة إنَّ الأعرابي أقام فرسه للبيع فقال صاحبه: إنّها لتصاد عليها الوحش وهي رابضة. فقال له: رُبَّ الفرس، لا أبالك، كذب كذبا مؤاما به الدهر! أي موفقا به الدهر في تقلباته وأحواله الجائزة الوقوع. وقيل إنَّ رجلا أدخل حمارا له في السوق، فجعل يقال له أبو اليسار يمدحه ويقول: إنَّ حافره جلمود، وإنَّ ظهره حديد. فقال صاحب الحمار: شاكه أبا يسار، دون ذا وينفق الحمار! وتقدم هذا في الدال. شكا إلى غير مصمتٍ. الشكوى أنَّ تذكر الغير بسوء فعله بك، تقول: شكوت فلانا أشكوه شكوى وشاكية وشكية، فهو مشكو ومشكي؛ واشتكيه: فعلت به ما يشكوه، أو أعتبته وأزلت شكواه. فهو من الأضداد. قال الراجز:

الشماتة لؤم.

تمد بالأعناق أو تلويها ... وتشتكي لو أننا نشكيها وصمت يصمت صموتا وصمتا، وأصمت إصماتا وصمت تصميتا: سكت؛ وأصمته أنا وصمته تصميتا: أسكته، لا زمان متعديان. فيقال: شكا فلان إلى غير مصمت، أي إلى من لا يبالي به، فلا يصمته لأن من شكا إلى من يعنى بحاجته ويهتبل بأمره ويقوم بحقه ويقضي أربه ويزيل شكواه ويشفي ما في صدره فيصمت عن الشكوى حينئذ. قال الراجز: انك لا تشكوا إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت! ونحوه المثل الآتي: هان على الأملس ما لقي الدبر. الشماتة لؤم. الشماتة: الفرح بمصيبة العدو، ويقال: شمت به بالكسر يشمت شماتا وشماتة، فهو شامت. قال أبو صخر الهذلي: وتجلدي للشامتين أريهم ... إني لريب الدهر لا أتضعضع واللؤم بضم اللام وسكون الهمزة ضد الكرم، ولؤم بالضم لؤما فهو لئيم وهو لؤماء. وهذا الكلام يعزي لأكثم بن صيفي، حكيم العرب. والمعنى إنّه لا يتشمت بالغير ولا يفرح ببليته إلاّ من لوم أصله. وقال أبن أبي عيينة كل المصائب قد تمر على الفتى ... تهون غير شماتة الحساد وقال الآخر: إذا ما الدهر جر على أناسٍ ... كلاكله أنام بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا! أشم من نعامةٍ. الشم حاسة الأنف، تقول: شممت بالكسر والفتح، أشم مفتوحا ومضموما

شنشنه أعرفها من أخزم

شما وشميما وشميمي؛ وتشممته؛ والنعام تقدم. يقال إنّه لا سمع له، ومن ثم يقال إنّه أصم. فأعطي قوة الشم بأنفه ما ينوب عن السماع، حتى إنّه يشم رائحة القناص عن بعيد. شنشنه أعرفها من أخزم الشنشنة بالكسر: الطبيعة والخلق: وأخزم بالزاي رجل من طيء، وهو أبن أبي أخزم جد حاتم، أو جد جده. مات أخزم هذا وترك بنين، فوثبوا يوما على جدهم فأدموه فقال: إنَّ نبي زملوني بالدم ... من يلق أساد الرجال يكلم ومن يكن ذا أود يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم لأنه كان عاقا كذلك. ويحكى إنَّ عقيل بن علفة بضم العين المهملة وفتح اللام المشددة بعدها فاء على وزن قبرة بن الحارث المري، خرج هو وأبناه، جثامة وعملس، وأختهما الحوراء حتى أتوه ابنة أخ ناكحا في بني مروان بالشام. ثم قفلوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال عقيل: قضت وطرا من دير سعد وكالما ... على عرض نطحنه بالجماجم ثم قال: أجز، يا جثامة! فقال: وأصبحن بالهومات يحملن فتية ... نشاوي من الإدلاج هيل العمائم ثم قال: أجز يا علمس! فقال:

إذا علم غادرنه بنتوفة ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسم ثم قال: يا حوراء، أجيزي! فقالت: كأنَّ الكرى ساقهم صرخ يده ... تدب دبيبا في المطا والقوائم فقال عقيل: شربتها، وربَّ الكعبة! ثم شد عليها بالسيف، فقال أخوها: ما ذنبنا؟ إنّما اجازت شعرا! فشد عليه أحدهم فخدشه بسهم يتمعك في دمه ويقول: إنَّ بني ضرجوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم شنشنة أعرفها من أخزم ثم توجه ولده للطريق. فلما مروا ببني القين قالوا لهم: هل لكم في الجزور انكسرت! قالوا: نعم! قالوا: الزموا هذه ارواحل! فذهب القوم حتى انتهوا إلى عقيل، فحملوه وعالجوه حتى برئ ولحق بهم. فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: من أمثالهم في التشبيه الرجل بأبيه: شنشنة اعرفها من أخزم. قال: وهذا المثل يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قاله في أبن عباس، رضي الله عنهما، شبهه في رأيه بابيه. قال البكري: أخزم هذا هو جد حاتم بن عبد الله الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أبي أخزم بن أبي أخزم. وقيل هو جد عقيل بن علفة. الشنشنة: النطفة، من شنشنت إذا أرقت. ويراد ما أراق من النطفة في الرحم. قال أبو بكر: وقال قوم: شنشنة: الغريزة والطبيعة. فمن جعل أصل المثل لأخزم الطائي قال: كان أخزم جوادا. فلما نشأ حاتم وعرف جوده قال: الناس: شنشنة من أخزم، أي قطرة من نطفة أخزم. قال: وذكر علي بن الحسن إنَّ عقيل بن علفة أبن الحارث المري أتى منزله فإذا بنوه مع بناته وأزواجه مجتمعون. فشد على عملس منهم، فحاد عنه وتغنى ابنه علفة: قفي يا ابنه المري أسألك ما الذي ... تريدين فيما كنت منيتا قبل فإنَّ شئت كان الصرم ما هبت الصبا ... وإنَّ شئت لا يفنى التكارم والبذل! فقال عقيل: يا أبن اللخناء متى منتك نفسك هذا؟ وشد عليه بالسيف. فحال

شاهد البعض اللحظ.

علمس بينه وبينه، وكان أخاه لأمه وأبيه. فشد على علمس بالسيف وترك علفة ولم يلتفت إليه فرماه علمس بسهم وأصاب ركبته. فسقط عقيل يتمكع بالدم وهو يقول: إنَّ بني سربلوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم ومن يكن ذا أود يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم قال المدائني: شنشنة أعفها من أخزم مثل ضربه، وأخزم فحل كان لرجل من العرب وكان منجبا، فضرب في ابل رجل آخر ولم يعلم صاحبه فرأى بعد ذلك من نسله جملا فقال شنشنة أعرفها من أخزم. انتهى كلام البكري. وقال أبن ظفر في شرح المقامات: هذا المثل ضربه جد حاتم حين نشأ حاتم وتقيل أخلاقه جده أخزم في الجود، فقال: شنشنة. . الخ. وتمثل عقيل بن علفة به حين قال: إنَّ بني. . الخ. ومن أدعى إنَّ المثل فقد سها فيه. انتهى. شاهد البعض اللحظ. مثله قولهم أيضاً: رب لحظ انم من لفظ كما مر من قول زهير: فإنَّ تك في عدو أو صديقٍ ... تخبرك العيون عن القلوب وقول أبن أبي حاتم: خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا عين من لا يحب وص ... لك تبدي لك الجفا وقول الآخر: تخفي العداوة وهي غير خفية: ... نظر العدو بما أسر يبوح وقالوا: يعبر عن الإنسان اللسان، وعن المودة والبغض العيان. يشوب ويروب. الشوب: الخلط تقول: شبت اللبن وغيره بالماء، وأشوبه شوبا والروب الرائب وهو اللبن الخاثر قبل أن يحمض. ولا يزال يمسك بذلك حتى يمخض وينزع زبده. ثم يبق ذلك الاسم على بعد. قال الشاعر:

شب شوبا لك روبته!

سقاك أبو ماعز رائبا ... ومن لك بالرائب الخاثر؟ يقول: سقاك الممخوض، ومن لك بالذي لم يمخض. وهذا قول أبي عبيد. ورابت اللبن وروبته وراب هو يروب روبا. والمروب: السقاء الذي يروب فيه. ويقال: ما له شوبٌ ولا روبٌ أي مرق ولا لبن. وقيل الشوب العسل والروب اللبن وفلان يشوب ويروب: يخلط ويصفي ويمزج الهزل بالجد. يضرب من إصابته مرة وأخطائه أخرى. ويقال: يشوب ولا يروب أي يخلط ولا يخلص. وأصل يروب في المثالين يريب وإنّما قيل يروب للازدواج. شب شوباً لك روبته! الشوب تقدم؛ والروبة بضم الراء روبة اللبن وهي خميرة تلقى فيه من الحامض يروب. وهذا كما يقال: أحلب حلبا لك تنظره! كذا في الصباح. وهو يناسب أن تكون الأم في لك للملك والاستحقاق فيما يستقبل؛ ويحتمل أن يكون الملحوظ فيها المضي فيقال لمن شب نار فتنة أو تسبب في أمر من الأمور كأنه قيل له: اجر في فتنة أنت مثيرها أو منك كان أقوى أسبابها والإعانة فيها. شاورهن وخالفوهن! أي النساء. يتمثل به وهو حديث. شالت نعامته. يقال: شالت الناقة بذنبها تشول شولاً وشولانا وأشالته: رفعته

شوى حتى إذا نضج رمد.

وشال الذنب نفسه: ارتفع لازمٌ متعد: وشال بالحجر أيضاً وأشاله: رفعه؛ والنعامة الحيوان المعروف. والنعامة اسضا: جماعة القوم وباطن القدم يقال للقوم: شالت نعامتهم إذا خفت منازلهم أو تفرقت كلمتهم أو ذهب عزهم. وشالت نعامة فلان إذا خف وغضب ثم سكن. هكذا قال بعض العلماء. وقال آخرون: يقال شالت نعامة فلان إذا هلك. ومن هذا قول الشاعر: يا ليتنا أمنا شالت نعامتها ... أيما أبى جنةٍ أيما إلى نارِ! قيل وذلك لأنَّ النعامة باطن القدم وشالت: ارتفعت ومن شأن من هلك أن ترتفع رجلاه وينكسر رأسه فتظهر نعامة قدمه. ومن ثم يقال: تنعم فلان إذا مشى حافياً على نعامته كقوله: تنعمن لمّا جاءني سوء فعلهم ... إلاّ إنّما البأساء للمتنعم! واختلف في قول عنترة: فيكون مركبك القعود ورحله ... وأبن النعامة عند ذلك مركبي فقيل: أبن النعامة: الطريق وقيل: باطن القدم. وسمي الطريق بذلك لأنّه مركب لها. شوى حتى إذا نضج رمد. شيُّ اللحم معروف؛ والنضج كما الطبخ؛ والترميد: جعله في الرماد وتعفينه به. فيقال لكل من أفسد الشيء بعدما صلح. شيئاً ما يطلب السوط إلى الشقراء! السوط معروف؛ والشقراء فرس لبعض العرب ركبها فجعل كلما ضربها زادته جرياً. يضرب لمن طلب حاجة وجعل يدنو من قضائها والفراغ منها. كذا في القاموس. ومما يلتحق بهذا الباب قولهم: أشربتني ما لم أشرب.

الشعر أحد الوجهين.

أي ادعيت علي ما لم افعل. وقولهم: الشعر أحد الوجهين. أي النظر إليه كالنظر إلى الوجه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم. شاهت الوجوهُ. فانه كثيرا ما يتمثل به. وقول الحريري: شوى في الحريق سمكته. والحريق اسم من الاحتراق؛ والسمكة: الحوتة وهي إنّما تشوى في النار القوية وفي اللهب ما دام؛ فإذا سكن تعب في شيها. فيضرب ذلك مثلا لقضاء الحاجة من القاضي ما دام غضبه للكرام بتحريكه للنوال بالشعر وانتهاز الفرصة منه قبل سكون غضبه فقد لا يوجد إذ ذاك. وإذ فرغنا من الأمثال المنثورة فلنذكر ما تسمى من الشعرية. قال الشاعر: لقد كثر الظباء على خداشٍ وهذا المثل مشهور ويمام البيت: فما يدري خداشٌ ما يصيدُ غير أنه إذا تمم خروج عن هذا الباب. وقال بعض الوعاظ مضمنا لهذا المثل في ذم الدنيا: يا راكضاً في طلاب دنيا ... ليس لمن تصرعُ انتعاشُ تنح يا عرضة لرامٍ ... أسهمه بالردي تراشُ لا تغش ناراً " " لظاها ... بمن له نحوها انحياشُ!

أعذر منك الفراش حالاً ... علمت ما يجهل الفراشُ تطلبها لا تنام عينٌ ... عنها ولا يستقر جاشُ من كل بالري من شرابٍ ... يشتد من شربه العطاشُ؟ دعها فطلابها رعاعٌ ... طاشت بألبابهم فطاشوا وأظمأ لتروى وكن كقومٍ ... ماتوا بها عفةً فعاشوا! لم يردوها فهم رواءٌ ... وواردوها هم العطاشُ كأنَّ المنايا ظباءٌ ... وأنت من حيرةٍ خداشُ إنَّ لأيامنا انبساطاً ... به لأعمارنا انكماشُ كأنَّ آجالنا صقورٌ ... ونحن من تحتها خشاشُ وقال الآخر: ما لقوي عن ضعيفٍ غنى ... لا بد للسهم من الريش! وقال أبو الطيب: ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش وقال الآخر: وقد كنت مركبكم في الصدور ... فصرت بها ملحقاً في الحواش وقال سابق البربري: فلا تخبر بسرك كل سرٍّ ... إذا ما جاوز الاثنين جاشا! والاثنتين هنا الشفتين. ومثله عند عضهم قول الآخر: إذا جاوز الاثنين سرٌ فانه ... ببثٍّ وإفشاء الحديث قمينُ وقال القائم بأمر الله أحد ملوك بني العباس: القلب من خمر التصابي منتشٍ ... هل لي غديرٌ من شرابٍ معطشِ؟ والنفس من برح الهوى مقتلةٌ ... ولكم قتيلٍ في الهوى لم ينعشِ! جمعت عليَّ من الغرام عجائبٌ ... خلفن قلبي في إسارٍ موحشِ خلٌ يصد وعاذلٌ متنصحٌ ... ومنازعٌ يغري ونمامٌ يشي

غيره: إذا الواشي بغى يوماً صديقاً ... فلا تدع الصديق لقول واشِ! وقلت أنا: ولائمةٍ هبت بليلٍ تلومني ... وثوب الدجى ما للصبح به نقشُ وليس لديباجِ السماء الذي سما ... علينا سوى ترقيش أنعمه رقشُ وقد جبت آفاقها فكأنها ... من السندس الخضر السرادق والعرشُ كأنَّ النجوم الزهر في جنباتها ... وجوهٌ زهتهن الملاحة والبشُ تلوم على أن لم تر الدهر مسعداً ... مناي وصرف الدهر ليس له حفشُ وأشجى حشاها أن تبدى بعاتقي ... لأنيابه عضٌ وفي عضدي نهشُ وأن تفضي من رزاياه طارفي ... وأن قد جرى منه على أعضمي محشُ فباتت يناجيها الأسى ويجيشها ... إليَّ تناجيني ويغلبها الجهشُ وتمحضني منها تخالُ نصيحةً ... ولم تدر أنَّ النصح آونةً غشُ تقول: التجئ للمترفين فإنه ... إلى نارهم من نابه دهره يعشو فقالت لها إذ كان زوراً مقالها ... مقالة شهمٍ ليس في قيله رفشُ هو الدهر ما يبقى على متخشعٍ ... جزوعٍ ولا يرثي لشاكٍ إذا يشطو وأحداثه تجري فمن ذي هوادةٍ ... أليفٍ وذي شحناء أخذته بطشُ وما الدهر إلاّ واديان فمعشٌ ... أنيس لمرادٍ وذو جردٍ وحشُ وداران دارٌ ذات نعمى هنيئةٍ ... وفرشٍ وأخرى لا نعيمٌ ولا فرشُ ويومان يومٌ أنت فيه متوجٌ ... على العرش أو يومٌ به حسبك الفرشُ وما المال إلاّ مزن صيفٍ وقلما ... يدوم ويجدي للصدى ذلك الطشُ وليلة سارٍ بينما هو مقمرٌ ... بصحراء غاب البدر فاستوسق الغبشُ وليس الفتى من ليس يبرح ضارعاً ... هلوعاً إذا يرمه من دهره خدشُ كئيبٌ بئيسٌ إن عرته ملمةٌ ... وتغشاه إن أثرى الشراسة والفحشُ

سؤولٌ لما وافى منوعٌ لمّا حوى ... ودودٌ لمن أثرى بغيضٌ لمن يغشو عزيزٌ على المولى ذليلٌ على العدا ... عبوسٌ إذا يسمو طليقٌ إذا يلشو ولكن من إن ناله لا شباته ... تفل ولا في حزمه يدرك النفشُ ضنينٌ بماء الوجه لا يستثيره ... إلى مطمعٍ في غير خالقه حرشُ صبورٌ على علاته متجرعٌ ... دوين الهوان ما تهرعه الرقشُ عليمٌ بأن النائبات إذا عرت ... فملجؤها السامي بسلطانه العرشُ هو المرتجى في فتح ما كان مرتجا ... وتنوير ما أمسى به أظلم الغطشُ وثيقٌ بهذا لا تلين صفاته ... إذا قرعت أحشاءه النوب المحشُ قريبٌ من المولى صفيٌ إذا اعتنى ... ومبتعدٌ عنه إذا مسه خيشُ فلا عرضه يبلى ولا حزمه يهي ... ولا وهنه يبدو ولا سره يفشو فذلك ما عاش السميُّ مكانه ... وأخلق بأن يسمو إذا حفه النعشُ قوله: السرادق والعرش، السرادق: البيت من الكرسف والذي يمد فوق صحن الدار؛ والعرش: الخيمة وسقف البيت وما يستظل به. والبش والبشاشة: طلاقة الوجه. والنقربات: الخيل تقرب مرابطها. والبرش في شعر الفرس نكت صغار تخالف سائر لونه. والخفش: الطرد والمحش: قشر الجلد من اللحم وشدة الأكل. والجهش: الفزع يقال: جهش إليه جهشاً إذا فزع. وهو يريد البكاء كالصبي. والرفش: الضعف والوهن أو الخلط من قوله: رفشت الشيء إذا دققته وهرسته مجازاً.

والكشو: العض. والغبش: ظلمة آخر الليل وأثرى الرجل: كثر ماله وغشاه يغشوه وغشيه يغشاه: أتاه. ولشا الرجل: خس بعد رفعة. والحرش: التحرك والاصطياد. ولنكتف بهذا القدر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الصاد

باب الصاد أصبر من حمارٍ. الصبر خلاف الجزع صبر بالفتح صبرا فهو صابر وصبور وتصبر واصطبر. والصبر أيضاً: الحبس واللزوم؛ والحمار معروف وطبعه الصبر على الأثقال والأحمال. أصبر من ذي الضاغط. الصبر مر وذو الضاغط: البعير والضاغط انفتاق في إبطه. وفي عبارة بعضهم هو البعير الذي حز مرفقه جنبه. أصبر من عودٍ بدفيه الجلب. العود: المسن من الإبل كما مر؛ والدفان: الجنبان؛ والجلب جمع جلبةٍ على مثال غرفةٍ، وهو أثر الدبر. والمثل الأول من هذين. قال البكري: هو لسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن؛ والثاني لحلحلة بن قيس بن أشيم وكلاهما فزاريان. قال: وخبر ذلك أنَّ كلبا أوقعت ببني فزارة وقتلوا منهم نيفا وخمسين رجلا. فتلافى عبد الملك أمرهم وتحمل لبني فزارة نصف الحمالات وأداها إليهم وضمن النصف الآخر إلى العام المقبل. ثم إنَّ فزارة أخفرت ذلك وغزت كلبا. فلقوهم ببنات قين فتعدوا عليهم في القتل فغضب عبد الملك لإخفارهم ذمته فكتب إلى الحجاج يأمره إذا فرغ من أبن الزبير أن يوقع ببني فزارة. فلما فرغ الحجاج من شأن أبن الزبير نزل ببني فزارة. فأتاه سعيد وحلحلة المذكوران، فأوثقهما وبعث بهما إلى عبد الملك. فلما مثلا بين يديه

أصبر من قضيب.

قال عبد الملك: من كان عنده دين وتر فليقم إليها! فقام أبن سويد الكلبي وكان أبوه ممن قتل ببنات قين فقال: يا حلحلة هل أحسمت سويدا؟ فقال: عهدي به يوم بنات قين وقد انقطع خروه في بطنه. فقال: أما والله لأقتلنك! قال: كذبت ما أنت تقتلني وإنّما أبن الزرقاء! والزرقاء إحدى امهات مروان بن الحكم يعابون بها. فنادى بشر بن مروان وأمه فزارية فقال: صبرا حلحل! فقال حلحلة: أصبر من عودٍ بدفيه الجلب ... قد أثر الباطن فيه والحقب ثم التفت إلى أبن سويد فقال: يا أبن أستها أجد الضربة! فقد وقعت بأبيك مني ضربة أسلحته. فضرب أبن سويد عنقه. ثم قدم سعيد بن أبان ليضرب عنقه فناداه بشر: صبرا يا سعيد! فقال: أصبر من ذي ضاغطٍ عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك فضرب عنقه وألحقه بصاحبه. والعركرك: البعير الغليظ؛ والزور: الصدر. أصبر من قضيبٍ. قضيب بالقاف والضاد المعجمة على مثال أمير رجل من ضبة. صاحب الدابة أولى بمقدمها. يتمثل به وهو يروى أثرا أو حديثا. ومعناه ظاهر. صادف بطنه بطن تربة. يقال: صادفه إذا لقيه ووجده؛ والبطن خلاف الظهر، من الحيوان ومن الأرض أيضاً؛ وتربة على مثال همزة وادٍ معروف يصب في بستان أبن عامر. فيقال هذا عند مصادفة الخصب وسعة العيش كأنه صادف هذا الوادي.

صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس وهو لمركوبه أهيب

صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس وهو لمركوبه أهيب هذا المثل من الأمثال الحكيمة، وهو قول الشاعر: لا تصاحبن السلطان في حالةٍ ... صاحبه ليث الشرى يركب يهابه الناس لمركوبه ... وهو لمّا يركبه أهيب وسيأتي استيفاء هذا المعنى في الحكمة، إن شاء الله تعالى. اصح من عير أبي سيارة. الصحة ضد السقم، والعير بالفتح الحمار الوحشي. قال امرؤ القيس: كأني ورفد والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وارد الخيرات وقد يطلق على الأهلي، كما قال الآخر: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلاّ الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد! وأبو سيارة بفتح السين وتشديد الياء عميلة بن خالد العداوني. وكان له حمار اسود جاز عليه من مزدلفة إلى منى أربعين سنة. وقيل: ولا يعرف حمار أهلي عاش أكثر من هذا الحمار. وضرب به المثل في الصحة وقال السهلي: هي أتان عوراء سوداء خطامها ليف. وكان أبو سيارة يقول: لا يهم لي في الحمار الأسود ... أصبحت بين العالمين أحسد بت أبا سيارة المحسد ... من شر كل حاسد يحسد! وهو الذي يقول: أشرق ثبير كي ما نغير! وكان يقول في دعائه: اللهم بغض بين رعائنا، وحبب بين نسائنا، واجعل المال في سمحائنا!

صرح حجير!

وفيه يقول الشاعر: خل الطريق عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره! وقد أجار الله من أجاره صرح حجير! التصريح خلاف التعريض؛ وحجير رجل من اليمامة كان مؤذنا لمسيلمة الكذاب لعنه الله! وكان أوّل ما أمر أنَّ يذكر مسيلمة في الأذان توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير! فذهبت مثلا. صرح الحق عن محضه. التصريح خلاف التعريض، وصرح فلان بما في نفسه: كشفه؛ والمحض الخالص، وصرح الحق عن محضه انكشف واتضح. وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام، لإعلان السر وإبدائه بعد كتمانه باللفظ السابق. فقال البكري: جميع العلماء إنّما أوردوه: صرح الحقين. قال. وتقدم ذكر الحقين وتفسيره؛ ومحضه: خالصه. انتهى. قلت: وهذا اللفظ أحسن وأبين تمثيلا، وأنسب لذكر المحض. وقد تقدم لنا نحن أيضاً تفسير الحقين من اللبن والمحض: الخالص منه؛ قال طرفة: ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... وإنَّ أعطه اترك لقلبي مجثما فإذا انكشف الأمر عن ستره وظهر بعد التباسه، كان كاللبن المنكشف رغوته عن محضه. صدقني سن بكره. الصدق خلاف الكذب، وصدقت الرجل: أخبرته بصدق، فهو مصدوق؛ والسن بالكسر واحدة أسنان الفم، ومقدار لعمر أيضا؛ والبكر بالفتح: الفتي من الإبل، جمعه بكار وبكارة بكسرهما.

أصدق من القطا.

وهذا المثل يضرب لمن يخبرك بسره، وما انطوت عليه ضاوعه. وأصله أنَّ رجلا ساوم آخر في بكر فقال: ما سنه؟ قال: بازل. ثم نفر البكر. فدنا إليه صاحبه يسكنه وجعل يقول: هدع! هدع! وهي كلمة يسكن بها الصغار من الإبل. فلما سمعه المشتري قال: صدقني سن بكره. وهو أما أنَّ يكون برفع سن على إسناد الصدق إليه مجاز، وأما بنصبه على حذف المضاف أو الجار، أي: صدقني خبر سن بكره، أو في سن بكره، وهما وجهان في المثل، وفاعل الفعل على هذا البائع، وهو أما أنَّ يكون صدقه إياه بأخباره الأول إنّه بازل، ويكون خرج مخرج الهزء والسخرية أو بكلامه الثاني الذي يسكن به البعير وهو الأظهر. أصدق من القطا. الصدق مر؛ والقطا طائر معروف، وتقدم أيضاً، قيل: وسميت قطا لأنها تقول في صوتها: قطا! قطا! فسميت بحكاية صوتها. ومن ثم قالوا: أصدق من القطا وأنسب من القطا قال الكميت: لا تكذب القول إنَّ قالت قطا صدقت ... إذ كل ذي نسبة لابد ينتحل صدقك يبني عنك لا الوعيد. الصدق مر؛ ويبني، من النبوة وهو الارتفاع. تقول: نبأ الشيء غير مهموز، ينبو، نبوة، أي أرتفع؛ ونبا الشيء عن الشيء: تجافى عنه ولم يعمل فيه أو لم يطمئن عليه. قال الشاعر: إنَّ جنبي عن الفراش لنائب ... كتجافي الأسر فوق الظراب والأسر: البعير يصيبه السرر داء في صدره يمنعه البروك والطمأنينة، وانبيته عني: جافيته ودافعته؛ والوعيد: الوعد بشر. والمعنى أنَّ صدقك في لقائك عدوك ودفاعهم هو الذي يدفعهم عنك، لا وعيدك إياهم من غير فعل. وكذا كل أمر تزاوله إنّما يظفرك منه بما ترغب، وينجيك مما ترهب،

أصرد من عنز جرباء.

صدقك وجدك وسعيك جلباً ودفعاً، لا مجرد اللسان. أصرد من عنزٍ جرباء. الصرد: البرد بفتح فسكون، وصرد الرجل بالكسر صرداً فهو صرد: وجد البرد سريعا. قال الشاعر: أصيح قلبي صردا ... لا يشتهي أنَّ يردا والعنز معروف والجرب بفتحتين معروف جرب بالكسر فهو أجرب، وجربت فهي جرباء. والعنز الجرباء لا تستطيع ألم البرد، ولا تمسك نفسها عنده. فضرب بها المثل لمن يجد البرد سريعا. أصرد من عين الجرباء. الصرد مر؛ والحرباء: الحيوان المعروف، وتقدم ما فيه، وناه يستقبل عين الشمس أبداً ويدور معها حيثما دارت. ومن ثم أبن الرومي الرقيب بالحرباء حيث قال: ما بالها قد حسنت ورقيبها ... أبداً قبيح قبح الرقباء! ما ذاك إلاّ إنّها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء فصارت الحرباء لذلك عن بعضهم أنَّ المثل الأول تصحف هذا. صرفانية ربعية، تصرم بالصيف وتوكل بالشتية. الصرفان بالفتح والتحريك: تمر رزين صلب يعده العبيد والأجراء وذوو العيال لعيشهم لكفايتهم ومنها قول الزباء: ما للجمال مشيتها وئيداً ... أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثما قعودا؟ وفي الصحاح: قال أبو عبيدة: ولم يكن يهدي إليها شيء كان أحب إليها من التمر الصرفان. وانشد:

الصارم ينبو.

ولمّا أتاها العير قالت: أباردٌ ... من التمر أم هذا حديد وجندل؟ وثرم التمر قطعه؛ والشتية تصغير الشتاء. والمثل ظاهر المعنى، ولم أقف بعد على أصله وسببه. الصارم ينبو. الصارم: السيق القاطع؛ ونبوه: تجافيه عن الضريبة، كما مر آنفا في تفسير النبوة. وهذا من أمثال أوس بن حارثة. ومثله الجواد يكبو. والمراد من ذلك أنَّ الكريم تكون له الزلة والشريف تكون له السقطة، واللبيب تكون له هفوة والجواد تكون له الوقفة، ونحو ذلك. أصغر القوم شفرتهم. الصغر ضد الكبر، والشفرة بفتح فسكون السكين العظيم جمعه أشفار. والمعنى أصغر القوم خادمهم. صفرت وطابه. يقال: صفر الشيء بالكسر فهو أصفر، والصفرة لون معروف. وصفر البلد أيضاً والبيت ونحوه إذا خلا من سكانه. ومنه قولهم: نعوذ بالله من صفر الناء! أي خلوه بهلاك المواشي؛ والوطب بالفتح سقاء اللبن والجمع أوطب وأوطاب ووطاب. ويقال صفرت وطابه أي مات فخلا وطبه من روحه. قال امرؤ القيس: ألا يا لهف هند أثر قومٍ ... هذا كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالاشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطب أي: لو أدركنه لمات.

أصفى من عين الديك.

أصفى من عين الديك. الصفاء ضد الكدر، صفاء الشيء بالفتح يصفو صفاء، فهو صافٍ؛ والديك معروف؛ والعين تطلق على الباصرة وعلى ذات الشيء. والمراد هنا الأول. ضربوا المثل بعين الديك في صفائها. قال الأخطل: وكأس مثل عين الديك صرف ... تنسي الشاربين لها العقولا وسمعت أعرابية رجلا ينشد: وكأس سلاف يحلف الديك إنّها ... لدى المزج من عينيه أصفى وأحسن فقالت: بلغني أنَّ الديك من صالحي طيركم وما كان ليحالف كاذبا! ويحكى عن دعبل قال: كنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع. فدعا بغذائه، فإذا بصفحة فيها مرق ولحم ديك لا يؤثر فيه ضرس. فأخذ قطعة من خبزة فقلع بها جميع المرق ثم بقي مطرقا ساعة، فرفع رأسه إلى الغلام فقال له أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: ولم؟ قال: ظننتك لا تأكله. قال: ولم ظننت ذلك؟ فو الله إني لأمقت من يرمي برجله، فضلا عن رأسه، والرأس رئيس، وفيه الحواس الخمس ومنه يصيح الديك، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل فيقال: شراب مثل عين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلب. فإنَّ كان يبلغ من جهلك أني لا آكله فإنَّ عندنا من يأكله: انظر أين هو! قال: والله ما أدري أين رميت به! قال: أنا والله أدري: رميت به في بطنك! وسهل هذا ممن يضرب به المثل في البخل، وسنلم بشيء من أخباره بعد، إن شاء الله تعالى. وقال عدي بن زيد: قدمته على عقار كعين الديك ... صفا سلافها على الراووق ولهذا الشعر حكاية حسنة لحماد الراوية، وهي مشهورة، وعسى أنَّ نذكرها في موضع آخر. صلاح رأي النساء فساد، ونفاقه كساد. مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى.

أصلح الغيث ما أفسد برده.

أصلح الغيث ما أفسد برده. الصلاح ضد الفساد كالصلوح، صلح الشيء بالفتح والضم صلاحا فهو صلح بالكسر وصالح وصليح؛ والغيث: المطر وقد غاث المطر الأرض أي أصابها وغاثها الله يغيثها فهي أرض مغيثة ومغيوثه. والغيث أيضاً: النبات سمي بما نشأ عنه. قال امرؤ القيس: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمي رائده خال وقال: وغيث من الوسم حول تلاعه ... تبطنه بشظيم صلتان ويحتمل الآخر. وهذا المثل يضرب للرجل يكون فاسدا ثم يصلح. والأنسب لمعناه إنّه للشيء يصلح من وجه بعد ما فسد من وجه آخر، كالجواد يجبه السائل بالشتم ثم يحسن إليه ويعتبه أو يماطل زمانا ثم يوسع برا ومعروفا فيكون إكثاره الخير جبرا لمّا في المطل من الإساءة، ونحو هذا من الاعتبار. أصنع من دود القز. الصناعة بالكسر حرفة الصانع؛ والصنعة بالفتح علمه صنع الشيء بالفتح يصنعه صنعا، ورجل اليدين بالكسر وبفتحتين، وصنيع اليدين وصناعهما: حاذق في الصنعة، وصنع اللسان، ولسان صنع أي بليغ؛ وامرأة صناع اليدين: حاذقة وتقدم هذا، ودود القز هي دود الحرير، وصناعتها فيه أمر عجيب. ولو قيل أيضاً أضيع من دود القز بالضاد والياء المثناة من تحت، كان حسناً لأنها تلف على نفسها حتى تموت. وبها يضرب الحكماء المثل لجامع المال الحريص عليه ثم يخزنه وبمنعه الحقوق حتى يهلك في جمعه، فيأخذه الوارث كما يؤخذ الحرير بعد موت الدودة.

أصنع من سرفة.

أصنع من سرفة. الصنع مر؛ والسرفة بضم السين ويكون الراء المهملتين وبالفاء دويبة، ويقال هي الأرضة، وهي تتخذ بيتا من دقاق العيدان، ثم تلزقه بعود بمثل نسيج العنكبوت إلاّ إنّه أصلب. ثم تلزقه بعودان من أعواد الشجر وقد غطت رأسها وجميعها فتكون فهي ويقال تدخل فيه فتموت. أصنع من تنوطٍ. التنوط بفتح التاء وضم الواو المشددة، وبضمها وكسر الواو: الطائر، والواحدة تنوطية، وهذا الطائر يدلي خيوطا من شجرة وينسج عشه كقارورة الدهن منوطاً بتلك الخيوط فيفرخ فيه. ولذلك سمي التنوط. صابت بقر. الصوب مجيء السماء بالمطر وصاب نزل قال: فلست لأنسى ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب وصابه المطر أي مطر والصوب أيضاً: القصد، تقول: صاب السهم أي قصد ولم يجر؛ والصوب أيضاً واصواب صد الخطأ والقر بضم القاف البرد وقر الرجل بالضم أصابه القر فهو مقرور ويوم قر بالفتح بارد قال: امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم إني افر تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعا صبر إذا ركبوا الخيل وأستلاموا ... تحقت الأرض واليوم قر والقر أيضاً بالضم القرار ومنه قولهم: صابت بقر أي صارت الشدة في قرارها. قال: طرفة: كنت فيكم كالمغطي رأسه ... فانجلى اليوم قناعي وخمر

سادراً أحسب غيي رشداً ... فتناهيت وقد صابت بقر هذا تمام ما وجد من هذا التأليف العجيب، والأسلوب الغريب، بخط الشيخ المؤلف، رحمه الله تعالى ونفعنا به على يد كتابه وناسخه عبد السلام بن عبد الرحمن العدلوني، كان الله له وليا ونصيراً، وفي ثاني عشر من رجب الفرد الحرام، عام أربعة وثلاثين ومائة وألف. الحمد لله! قوبلت هذه النسخة بأصلها، أصل المؤلف رحمه الله تعالى عليه بجد وجد في طرق تصحيحها بذلك منه بفقدها ما وجدته في حيز الضد. والحمد لله الذي هو سنى ذلك حق الحمد حمداً واري الزند سامي البند، ذاكي الرند وصلاة الله العديمة الند الفائحة الند، على من ليس لمن يرتجي شفاعة من الصلاة عليه من بد، وعلى آله ويلم تسليما. قال هذا وكتبه بيده مصححها محمّد بن قاسم بن محمّد أبن زاكور الفاسي عامله الله!

§1/1