زهر الآداب وثمر الألباب

الحُصري القيرواني

الجزء الأول

الجزء الأول مقدمة الناشر احياء التراث العربي، بتحقيقه تحقيقا علميا دقيقا وضبطه وشرح ما غمض من معانيه ومراجعة نصوصه الأصلية؛ مهمة جليلة ومسؤولية بالغة تصدى لها العديد من أكفأ وأخلص رجالات الأدب في عصرنا الحاضر، وفي طليعتهم الدكتور زكي مبارك. .. إن تحقيق هذه الروائع الأدبية وشرحها رسالة سامية ... وكذلك نشرها وتقديمها إلى القارىء العربي بالصورة اللائقة؛ رسالة يتصدى لحملها الناشر الواعي لأهمية تراثنا العربي المقدّر لقيمته، الحريص على إغناء الثقافة العربية، والباذل لكل جهد مهما عظم في سبيل تقديم روائع القديم في أبهى وأحدث حلة تبويبا وإخراجا وطباعة. بين روائع التراث العربي يتألق كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» كالدرة النادرة، وقد زاد من قيمته جهد لا يقارن به جهد بذله الأديب العملاق، الدكتور زكي مبارك في تحقيقه وضبطه وشرح نصوصه. كتاب «جمع كلّ غريبة» . بل خزانة من خزائن الأدب العربي عامرة بأخبار الأدب والأدباء، حافلة بألوان البلاغة والشعر والانشاء وبكل ما يصور بصدق العصر الذي عاش فيه مؤلفه أبو اسحاق ابراهيم بن علي الحصري القيرواني في القرن الخامس الهجري، ويبين بوضوح العادات الاجتماعية التي كانت محمودة في عصره؛ حتى أن دارس الآداب المهتم بذلك العصر ليكتفي بدراسة هذا الكتاب كمرجع رئيسي شامل.

لذلك العصر من حياة الأدب طابع خاص، أظهر سماته إجادة الوصف؛ وصف ما تقع عليه العين من مرئيات أو ما يجري في الخاطر من أفكار، بل ووصف أهواء النفس ونزعاتها الوجدانية، وصفا مفصلا مقصودا، حتى أصبح العصر غنيا إلى درجة مميزة بالتعابير الرائعة الناضجة في معظم أبواب الوصف.. يرافقها تنظيم كامل للأفكار، مما يعوّد القارىء تذوّق الاسلوب البديع ويحبب اليه النثر الجيد وأصوله الفنية. اننا إذا قسنا أعمال أدباء ذلك العصر بالمقاييس العصرية لانطبق عليها مفهوم النظرية الحديثة «الفن للفن» .. فقد عرفوا اللغة معرفة جيدة حتى وقفوا على أسرارها وطرائق تعبيرها، فجمعوا شتاتها لتصبح طوع أفكارهم وأقلامهم في نتاج منسّق متكامل. وان دار الجيل التي تعتز بما قدمت من كتب التراث.. كتاب «العمدة» لابن رشيق تحقيق الاستاذ محيي الدين عبد الحميد، ليزيدها اعتزازا أن تقدم تباعا مجموعة أعمال الدكتور زكي مبارك: النثر الفني، الموازنة بين الشعراء، التصوف الاسلامي، المدائح النبوية، الاخلاق عند الغزالي.. ودرة هذه الأعمال هذا الكتاب الذي تقدمه الدار اليوم: زهر الآداب.. إنه دائرة معارف أدبية، لا غنى للقارىء الأديب الباحث عن المعرفة والمتطلع الى التزيد من بحور الفنون الأدبية، عن اقتنائه. والله الموفق دار الجيل

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحصرى القيروانى، أبو الحسن الحصرى، طرف من أخباره، حياته الأدبية، داليته ودالية شوقى، أبو إسحاق الحصرى: شعره ونثره، طريقته في التأليف، التعريف بزهر الآداب، إغفال المجون، تهذيب كتب المتقدمين، رأى الدكتور طه حسين، تهذيب زهر الآداب، تفصيله وضبطه وشرحه، قيمته الأدبية. الحصرى، القيراونى الحصرى- بضم الحاء المهملة، وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة- نسبة إلى الحصر أو بيعها، كما ذكر ابن خلكان- والقيروانى: نسبة إلى مدينة القيروان. ويعرف تاريخ الآداب رجلين بهذا الاسم، أولهما: أبو الحسن الحصرى وأبو الحسن هذا هو: على بن عبد الغنى، الفهرى، المقرىء، الضرير، القيروانى، وقد كان- كما ذكر ابن بسّام في الذخيرة- بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة. طرأ على الأندلس- كما قال ابن بسام أيضا- في منتصف المائة الخامسة من الهجرة، بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب بأفق الأندلس يومئذ نافق السّوق، معمور الطريق، فتهاداه ملوك الطّوائف تهادى الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار بالأنس المقيم. ولكنه، فيما نقل، لم يطمئن هناك، فاحتمل على مضض بين زمانه،

طرف من أخباره

وبعد قطره، ثم اشتملت عليه مدينة طنجة بعد خلع ملوك الطوائف، وتوفى بها سنة 488 هجرية. طرف من أخباره ذكر أنه لما كان مقيما بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيليّة، واسمها في بلادهم حمص، فأبطأ عنه، وبلغه أن المعتمد لم يحفل به، فقال: نبّه الرّكب الهجوعا ... ولم الدّهر الفجوعا «1» حمص الجنّة قالت ... لغلامى: لا رجوعا رحم الله غلامى ... مات في الجنة جوعا وهذه الأبيات غاية في خفة الروح. وحكى أن المعتمد بن عباد بعث إلى أبى العرب الزبيدى خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهز بها ويتوجّه إليه. وكان بجزيزة صقلّية وهو من أهلها، وبعث مثلها إلى أبى الحسن الحصرى، وهو بالقيروان، فكتب أبو العرب: لا تعجبنّ لرأسى كيف شاب أسى ... واعجب لأسود عينى كيف لم يشب البحر للرّوم لا يجرى السّفين به ... إلا على غرر والبرّ للعرب وكتب له الحصرى: أمرتنى بركوب البحر أقطعه ... غيرى، لك الخير، فاخصصه بذا الداء ما أنت نوح فتنجينى سفينته ... ولا المسيح أنا أمشى على الماء حياته الأدبية ذكروا أنه كان عالما بالقراءات وطرقها، وأنه أقرأ الناس القرآن الكريم

بسبتة وغيرها، وأن له قصيدة نظمها في قراءات نافع، عدد أبياتها 209، وأن له ديوان شعر، وهو القائل: أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مسك رقّته ختام: أمن خدّيك يعصر؟ قال: كلا ... متى عصرت من الورد المدام؟ وأشهر قصائده تلك الدالية التي افتنّ في معارضتها الشعراء «1» ولنذكرها هنا لقيمتها وأثرها في تاريخ الآداب العربية، قال: يا ليل الصبّ متى غده ... أقيام الساعة موعده رقد السّمّار وأرّقه ... أسف للبين يردّده فبكاه النّجم ورقّ له ... مما يرعاه ويرصده كلف بغزال ذى هيف ... خوف الواشين يشرّده نصبت عيناي له شركا ... فى النوم فعزّ تصيدّه وكفى عجبا أنى قنص ... للسّرب سبانى أغيده صنم للفتنة منتصب ... أهواه ولا أتعبّده صاح والخمر جنى فمه ... سكران اللحظ معر بده ينضو من مقلته سيفا ... وكأنّ نعاسا يغمده فيريق دم العشاق به ... والويل لمن يتقلّده كلّا لا ذنب لمن قتلت ... عيناه ولم تقتل يده يا من جحدت عيناه دمى ... وعلى خدّيه تورّده خدّاك قد اعترفا بدمى ... فعلام جفونك تجحده إنى لأعيذك من قتلى ... وأظنك لا تتعمّده

بالله هب المشتاق كرى ... فلعلّ خيالك يسعده ما ضرّك لو دوايت ضنى ... صبّ يدنيك وتبده لم يبق هواك له رمقا ... فليبك؟؟؟ عليه عوّده وغدا يقضى أو بعد غد ... هل من نظر يتزوّده؟ يا أهل الشوق لنا شرق ... بالدمع يفيض مورّده يهوى المشتاق لقاءكم ... وصروف الدهر تبعّده ما أحلى الوصل وأعذبه ... لولا الأيام تنكده بالبين وبالهجران فيا ... لفؤادى كيف تجلّده وممن عارض هذه القصيدة من المتقدمين نجم الدين القمراوى إذ يقول: قد ملّ مريضك عوّده ... ورثى لأسيرك حسّده لم يبق جفاك سوى نفس ... زفرات الشوق تصعّده هاروت بعنعن فن السحر ... إلى عينيك ويسنده وإذا أغمدت اللحظ فتكت فكيف وأنت تجرّده ... كم سهّل خدّك وجه رضا والحاجب منك يعقّده ... ما أشرك فيك القلب فلم فى نار الهجر نحلّده؟ وناصح الدين الأرّجانى إذ يقول: هل أنت بطولك مسعده ... يا ليل فصبحك موعده لا كان قصير الليل فتى ... ميعاد منيّته غده فى صدرى من كلف بكم ... جند للشوق يجنّده أعليل اللحظ وعلته ... منها المتألّم عوّده عيناك لسفك دمى جنتا ... فالصّدغ علام تجعّده ودمى لا يحسن محمله ... فى الناس فلم تتقلّده لم أنس برامة موقفنا ... والشمل أظلّ تبدّده

رشأ قد أفلت من شركى ... والبين غدا يتصيّده سرب قد عنّ بذى سلم ... وغدا بفؤادى أغيده وتطاول يتبعهم نظرا ... صبّ قد طال تبلّده حرّان القلب متيّمه ... حيران الطرف مسهّده وأبرع من عارضها من المعاصرين فخر مصر والشرق أمير الشعراء أحمد شوقى (بك) إذ يقول: مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحّم عوّده حيران القلب معذّبه ... مقروح الجفن مسهّده أودى حرقا إلا رمقا ... يبقيه عليك وتنفده يستهوى الورق تأوّهه ... ويذيب الصخر تنهّده «1» ويناجى النجم ويتبعه ... ويقيم الليل ويقعده ويعلّم كلّ مطوّقة ... شجنا في الدّوج تردّده كم مدّ لطيفك من شرك ... وتأدّب لا يتصيّده فعساك بغمض مسعفه ... ولعلّ خيالك مسعده الحسن حلفت «بيوسفه» ... و «السورة» أنك مفرده قد ودّ جمالك أو قبسا ... حوراء الخلد وأمرده وتمنّت كل مقطّعة ... يدها لو تبعث تشهده جحدت عيناك زكىّ دمى ... أكذلك خدّك يجحده قد عزّ شهودى إذ رمتا ... فأشرت لخدك أشهده وهممت بجيدك أشركه ... فأبى واستكبر أصيده وهززت قوامك أعطفه ... فنبا وتمنّع أملده «2»

سبب لرضاك أمهّده ... ما بال الخصر يعقّده بينى في الحب وبينك ما ... لا يقدر واش يفسده ما بال العاذل يفتح لى ... باب السّلوان وأوصده ويقول: تكاد تجنّ به ... فأقول: وأو شك أعبده مولاى وروحى في يده ... قد ضيّعها، سلمت يده! ناقوس القلب يدقّ له ... وحنايا الأضلع معبده حسّادى فيه أعذرهم ... وأحقّ بعذرى حسّده قسما بثنايا لؤلؤها ... قسم الياقوت منضّده ورضاب يوعد كوثره ... مقتول العشق ومشهده وبخال كاد يحجّ له ... لو كان يقبّل أسوده وقوام يروى الغصن له ... نسبا والرمح يفنّده وبخصر أو هن من جلدى ... وعوادى الهجر تبدّده ما خنت هواك ولا خطرت ... سلوى بالقلب تبرّده وإنما ذكرت حياة أبى الحسن الحصرى، وشيئا من أخباره، لأنى رأيت أكثر الناس يحسبونه صاحب زهر الآداب، ولأنى أحب دائما أن أقدم للقارىء ما يمتع عقله ووجدانه من المعارف الأدبية، لأيّة مناسبة؛ ولأن أبا الحسن الحصرى ابن خالة أبى إسحاق الحصرى صاحب زهر الآداب، وفي هذه القرابة ما يدعو للتنويه به في هذا المقام، والظّفر للقارىء على أىّ حال «1» .

أبو إسحاق الحصرى

أبو إسحاق الحصرى أما أبو إسحاق الحصرى فهو إبراهيم بن على بن تميم، المتوفّى سنة 453 هجرية وقد عنى به كثير من كتّاب التراجم: فتكلم عنه ابن رشيق في الأنموذج، وابن بسّام في الذخيرة، والرشيد بن الزبير في الجنان، وابن خلكان في وفيات الأعيان. وقد كان شباب القيروان- فيما قالوا- يجتمعون عنده، ويأخذون عنه، وكان لديهم من المكرمين. شعره ونثره أورد ابن رشيق من شعره هذين البيتين: إنى أحبّك حبّا ليس يبلغه ... فهم، ولا ينتهى وصف إلى صفته أقصى نهاية علمى فيه معرفتى ... بالعجز منّى عن إدراك معرفته وأورد له ابن بسّام هذين البيتين: أورد قلبى الردى ... لام عذار بدا أسود كالكفر فى ... أبيض مثل الهدى واختار له ياقوت هذه المقطوعة: يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون هتفت سحيرا، والربى ... للقطر رافعة الجفون فكانها صاغت على ... شجوى شجى تلك اللحون دكّرتنى عهدا مضى ... للأنس منقطع القرين فتصرمت أيامها ... وكأنها رجع الجفون

طريقته في التأليف

واختار له أيضا: كتمت هواك حتى عيل صبرى ... وأدنتنى مكاتمتى لرمسى ولم أقدر على إخفاء حال ... يحول بها الأسى دون التأسى وحبك مالك لحظى ولفظى ... وإظهارى وإضمارى وحسى فإن أنطق ففيك جميع نطقى ... وان أسكت ففيك حديث نفسى ولو نقلت إلينا من شعره طائفة صالحة لاستطعنا أن نعيّن منزلته بين الشعراء. أما نثره فمستملح، ويغلب فيه السّجع المقبول، الخالص من شوائب الصنعة والتكلف، والسجع في الأصل حلية وزينة، وإنما يعاب عند الغلوّ والإغراق. وإليكم أنموذجا مما جاء من نثره في مقدمة كتابه، قال: «ولم أذهب في هذا الاختيار، إلى مطولات الأخبار، كأحاديث صعصعة ابن صوحان، وخالد بن صفوان، ونظائرهما؛ إذ كانت هذه (يريد الفقر الصغيرة) أجمل لفظا، وأسهل حفظا، وهو كتاب يتصرف فيه الناظر من نثره، إلى شعره، ومطبوعه، إلى مصنوعه، ومحاورته، إلى مفاخرته، ومناقلته، إلى مساجلته، وخطابه المبهت، إلى جوابه المسكت، وتشبيهاته المصيبة، إلى اختراعاته العريبة، وأوصافه الباهرة، إلى أمثاله السائرة، وجده المعجب، إلى هزله المطرب، وجزله الرائع، إلى رقيقه البارع» . وهذا كما ترى سجع يجمع بين دقّة الصّنع، ورقّة الطبع، فهو في دقته مطبوع، لا مصنوع. طريقته في التأليف الأدب لا موضوع له، كما يقول أستاذنا الجليل الشيخ سيد المرصفى، وكذلك كان يفهمه أبو إسحاق الحصرى، فهو لا يحفل بترتيب المسائل، ولا بتبويب الموضوعات. وإنما يتصرف من الجد إلى الهزل، ومن الأوصاف

التعريف بزهر الآداب

إلى التشبيهات، ومن الشعر إلى النثر، ومن المطبوع إلى المصنوع، وهذه الطريقة من أهم الطّرق في التأليف، وإن عابها من لا يفرق بين الموضوعات العلمية، والموضوعات الأدبية. ذكروا أنه ترك كتابا اسمه «المصون في سر الهوى المكنون» فى مجلد واحد، فيه ملح وآداب، أما كتابه الخالد فهو «زهر الآداب، وثمر الألباب» وإنه ليسجع حتى في تسمية كتبه، وكذلك كان يفعل في عهده المؤلفون. التعريف بزهر الآداب كان المتقدمون لا يصفون زهر الآداب إلا بأنه «جمع كلّ غريبة» وهو وصف صادق، وإنى ذاكز هنا بعض صفات هذا الكتاب، وعلى الأخص الصفات التى تعين منهج مؤلّفه، وتميز اتجاه بعض الأفكار في العصر الذى عاش فيه. وإنا لنجده: أولا: يهتم ببراعة المطلع، وحسن الختام، فيبدأ كتابه بهذه الجملة: «الحمد لله الذى اختص الإنسان بفضيلة البيان، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، المرسل بالنور المبين، والكتاب المستبين، الذى تحدّى الخلق أن يأتوا بمثله، فعجزوا عنه، وأقروا بفضله، وعلى آله وسلم تسليما كثيرا» ويختمه بهذه العبارة: «وقال ابن الأعرابى: أمدح بيت قاله المحدثون قول أبى نواس: أخذت بحبل من حبال محمّد ... أمنت به من طارق الحدثان «1» » . ثانيا: يعنى عناية خاصة بالكلام عن الصحابة والتابعين، فينقل أخبارهم، ويدوّن آثارهم، وكانت هذه فيما يظهر عادة إسلامية، فى ذلك الحين.

ثالثا: يجعل الكلام في المصيبة بأبناء النبوة بابا من أبواب الأدب؛ فينقل هذه التعابير: قد نعي سليل من سلالة النبوة، وفرع من شجرة الرسالة، وعضو من أعضاء الرسول، وجزء من أجزاء الوصىّ والبتول. تجدّد في بيت الرسالة رزء جدد المصائب، واستعاد النوائب. إنها لمصيبة تحيّفت جانب الوحى المنزل، وذكّرت بموت النبى المرسل. إلخ إلخ: ويتصل بهذا عنايته بأوصاف الأشراف، كنقله هذه العبارات: «استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدى الرسالة، وتهدّلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقّأت بيضته من سلالة الطهارة، قد جذب القرآن بضبعه، وشقّ الوحى عن بصره وسمعه» إلخ. وهذا الاتجاه يدل على وجهة سياسية خاصة، فصّلتها بعض التفصيل في كتاب «الأخلاق عند الغزالى» وإلّا فإن النبى يقول: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» بل الله يقول: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ. رابعا: يبدىء الحصرى ويعيد في الكلام عن البلاغة والبلغاء، والشعر والشعراء، والإنشاء والمنشئين، وكذلك كان أهل عصره يهتمون بدر النثر والشعر، ونحن مدينون لهم بما يتصل بهذا الباب من المعارف الأدبية. خامسا: يذكر كثيرا من الآداب الاجتماعية التي كان يحمدها الناس لعهده، فيذكر ما يجمل في معاملة الملوك، ويتحدث عن فضل الليل، والحرص على الأدب، وواجب النّسّاخ، وما إلى ذلك مما يتصل بما على المرء من الواجبات، وما له من الحقوق.

إغفال المجون

إغفال المجون وقد جرى أبو إسحاق الخصرى في زهر الآداب على إغفال المجون، فنحده يقول عن راشد بن أرشد: «وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره، وصنت الكتاب عن ذكره» . وقد صرحت بإنكار هذا المهج فى «مدامع العشاق» وبينت هناك أن حرص الحصرى على الأخلاق ضيّع علينا ما أعرض عنه من الآثار الأدبية، وكنا في حاجة إلى أن نعرف كل ما ترك الأولون! وأحب أن يعلم القارىء أن المجون لون من ألوان الغذاء التي تحيا بها العقول، فكما أن الأجسام تحتاج في تغذيتها إلى المواد المختلفة، والعناصر المتنوعة: من الملح، والحلو، والمرّ، كذلك العقول تحتاج في تغذيتها إلى المعارف المتباينة: من جدّ القول وهزله، وحلوه ومرّه، ولكنّ أكثر الناس لا يفقهون! على أن الحصرى لم يخل كتابه من المجون، بل ومن فاحش المجون، وللقارىء أن يتتبع ما وقع من ذلك في ألفاف الكتاب ليرى كيف غلب لمؤلف على أمره، فأباح ما لا يباح!

تهذيب كتب المتقدمين

تهذيب كتب المتقدمين يهتم كثير من علماء العصر بتهذيب كتب المتقدمين، وهذا التهذيب ينحصر في حذف المجون وضم بعض الموضوعات إلى بعض، وأنا أنكر هذا الأسلوب، والعهد قريب بما كتبه أستاذنا الدكتور طه حسين في نقد مهذّب الأغانى الذى أظهره الأستاذ الكبير محمد بك الخضرى منذ أسابيع، ويرجّح أن يترك المعاصرون هذه الطريقة المنكرة، بعد تلك الحملة التي أصماهم بها صاحب حديث الأربعاء.

تهذيب زهر الآداب

تهذيب زهر الآداب ولقد رأيت أن أترك تلك الطريقة في تهذيب زهر الآداب؛ لأن المؤلف لم يرد أن يكون كتابه ذا فصول وأبواب، وإنما أراد أن يتصرف القارىء فيه من الشعر إلى النثر، ومن الجد إلى الهزل، إلى آخر ما قال. وقد ظلّ بين يدىّ نحو تسعة أشهر، وأنا معتقل في سنة 1920، فقرأته، ثم قرأته، وعنيت بضبطه، وتصحيح ما وقع فيه من الأغلاط؛ ثم رأيت أن أفصله، والتفصيل فيما أريد سو أن أضع عنوانا لكل موضوع، وما أكثر ما في الكتاب من الموضوعات؛ لأن المؤلف وضع قليلا من العناوين، ثم أخذ يستطرد من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى غرض، من غير أن يهتم بالترتيب والتبويب. وأرجو أن لا يجد القارىء في هذا الصّنع تشويها لعمل المؤلف فقد أبقيت الكتاب كما هو، وأبقيت على عناوينه وأبوابه، وفقره وفصوله، ووضعت ما أبدعت من العناوين في بنط خاص، فإذا شاء القارىء أن يعرف كيف وضع الكتاب مؤلفه فليرفع فقط ما جدّ من العناوين.

أهمية هذا التفصيل

أهمية هذا التفصيل على أننى مطمئن إلى ما صنعت؛ فقد كان الكتاب متقاذف الأرجاء، بسبب ما كثر فيه من الاستطراد، فأصبح بفضل هذا التفصيل، محدود الموضوعات، بحيث يهتدى فيه القارىء إلى مئات المسائل الآدبية، من غير أن يكلف نفسه عناء البحث والتنقبب. ولم أحجم عن تكرار العنوان الواحد حين يقتضى المقام ذلك، وربما أضفت كلمة يتميز بها العنوان الجديد «1» . الضبط والشرح كان زهر الآداب مطبوعا على هامش العقد الفريد «2» ، من غير ضبط ولا شرح، وكان يكفى أن يطبع الكتاب طبعة أزهرية ليصبح مثالا في المسخ والتشويه، ولتقذى في قراءته العيون، وتضل في فهمه العقول؛ فأنفقت من جهدى ومن وقتى، فى تحقيق ما جناه مرّ السنين وعبث الجاهلين، ما لا أمنّ به على القارىء إلا وأنا آسف محزون؛ لأنى مدين لمن طبعوه أول مرة على أىّ حال، أحسن الله جزاءهم، وتجاوز عمّا رماهم به الزمن من ألوان الضعف والقصور. فى الطبعة القديمة كثير من الأغلاط، ولا غرابة في ذلك، فقد كان الأدب يوم ظهرت قليل الأنصار، وقد اعتمدت في ضبط هذه الطبعة على مراجعة الأصول التي أخذ منها زهر الأداب، وعلى ما أثق به من مختلف المعاجم والقواميس، فإن استطاع القارىء أن يلفتنى إلى خطإ فاتنى إصلاحه، فإنى بشكره خليق.

أما الشرح فقد اجتهدت في أن يكون غاية في الإيجاز؛ لأن الإطناب في شرح الكتب الأدبية من جملة العيوب، وقد تمر الصفحة بلا شرح، حين تستغنى عن ذلك؛ لأنى أمقت التكلف، وأبغض المتكلّفين. وقد قسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء، وكان المؤلف قسمه إلى ثلاثة، وهي مسألة اعتبارية؛ لأن الكتاب في الأصل مبنى على التنقل والاستطراد.

قيمة زهر الآداب

قيمة زهر الآداب كان المتقدمون يعنون بدراسة الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والنوادر لأبى على القالى، وكانت هذه الكتب أصول الأدب عندهم كما ذكر ابن خلدون، وعندى أن زهر الآداب أغزر مادة، وأكبر قيمة من جميع تلك المصنّفات؛ لأن ذوق الحصرى ذوق أدبىّ صرف، أما أولئك فقد كانت أهواؤهم موزعة بين اللغة، والرواية، والنحو، والتصريف. إن زهر الآداب دائرة معارف أدبية، شاء الله أن تسلم من جناية الليالى، والحمد لله على أن كنت الموفّق إلى إحياء هذا الأثر النفيس. محمد زكى عبد السلام مبارك 22 فبراير سنة 1925

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية موضع زهر الآداب، الوصف عند كتاب القرمه الرابع، نماذج من التعابير الوصفية، نظرية الفن للفن وقيمة الزخرف والصنعة، الخصوصات الأدبية في القرمه الرابع رأى القارىء في مقدمة الطبعة الأولى إشارات إلى الخصائص التي امتاز بها زهر الآداب، ونريد في هذه الكلمة أن ننص على أن هذا الكتاب أريد به أن يكون صورة للعصر الذى عاش فيه مؤلفه رحمه الله، وإنه ليذكر أن أبا الفضل العباس بن سليمان رحل إلى المشرق في طلب الكتب «باذلا في ذلك ماله، مستعذبا فيه تعبه، إلى أن أورد من كلام بلغاء عصره، وفصحاء دهره، طرائف طريفة، وغرائب غريبة» ثم سأله أن يجمع له من مختارها كتابا يكتفى به عن جملتها، وأن يضيف إلى ذلك من كلام المتقدمين ما قار به وقارنه وشابهه وماثله إلخ فغاية الكتاب إذا تخيّر ما طاب من ثمرات العقول في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس. ولنذكر أولا أن الحصرى توفى سنة 453، ولكننا نرجح أنه وضع زهر الآداب قبل وفاته بأكثر من عشرين عاما، فقد حدثنا في أثناء كتابه أنه يعاصر الثعالبى؛ إذ قال «وأبو منصور يعيش إلى وقتنا هذا» حين أشار إلى مختار ما كتبه الميكالى إليه. والثعالبى توفى سنة 429؛ وإنما عيّنا أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس لأن الحصرى أشار إلى أن فيمن نقل عنهم من أدركه بعمره، أو لحقه أهل دهره. ولذلك العهد من حياة الأدب طابع خاص، فصلت خصائصه ومميزاته في كتابى الذى وضعته بالفرنسية عن النثر في القرن الرابع، وإنى لمشير هنا إلى بعض الجوانب البارزة في أدب ذلك العصر؛ ليكون القارىء

على بينة من الروح الذى استوحاه مؤلف زهر الآداب. أظهر ميزة في ذلك العصر هي إجادة الوصف، فقد اهتم كتّابه اهتماما عظيما بوصف ما وقعت عليه أعينهم أو جرى في خواطرهم، ولم يكن الوصف عندهم مما يأتى عفوا عند المناسبات الطارئة، كما كان الحال في أوائل العصر الإسلامى، لا، بل تعمدوا استقصاء الموضوعات الوصفية: فأطالوا الحديث عن الأزهار، والرياض، والنبات، والنسيم، والرياح، والليل، والنجوم، والجداول، والغدران، والأنهار، والبحار، والأحواض، والقصور، ومنازل اللهو، ومجالس الشراب، والنساء، والغلمان، والجوارى السود، والقيان، وآلات الطرب، ومحاسن الشباب، وأهوال المشيب، والرعد والبرق، والمطر والثلج، والصحو، والبلاغة والشعر والنثر، والخيل، والسيوف، والنار، والأفاعى، والثعابين، والطيور، والأطعمة، والفواكه، والسكاكين، والكؤوس، والخواتم، والحلى، والقلائد، والمحابر، والأقلام، والسفن، والذواب، والجيوش، والأساطيل، وأيام الصيف والشتاء والربيع. وأطنبوا في وصف المعانى الوجدانية، كما أطنبوا في وصف المرئيات، فتكلموا عن أهواء النفوس ونزعلتها، فوصفوا الحقد، والبغض، والكرم، والنبل، وعرضوا لما يقع لأهل المهن وللرؤساء من الهنات والعورات. كل ذلك بطريقة مقصودة تدل على أنه كان لهم برنامج خاص لم يعرفه أسلافهم. وهذا المذهب له عيوبه ومزاياه: فعيبه أنه حملهم على التكلف والإسراف، وحسنه أنه حملهم على تنظيم أفكارهم، وترتيب أغراضهم، فإن القارىء يرى لهم قوة في تصوير المرئيات والمعنويات لا يراها لمن سبقوهم، وذلك بفضل هذا الاتجاه الذى جعل في عصرهم مدرسة وصفية لا نراها في عصر الخلفاء ولا عهد بنى أمية ولا أوائل أيام بنى العباس. ولا ننكر أن الكتّاب السابقين أجادوا الوصف في كثير من الموضوعات

ولكننا نقرر أن كتّاب القرن الرابع عمدوا إلى كل ما يقع عليه الحس، أو يجرى في الخاطر، أو ينقده العقل، فوصفوه وصفا مفصلا مقصودا بطريقة لم يفكر في مثلها المتقدمون. وقد قدم لنا صاحب زهر الآداب شواهد كثيرة في مواطن متفرقة من كتابه عن الأوصاف التي عنى بها كتاب ذلك العصر. فلنثبت منها شيئا ليرى القارىء صدق ما نراه من قصد رجال ذلك العهد إلى إجادة الوصف. من ذلك قولهم في وصف الماء: ماء كالزجاج الأزرق. غدير كعين الشمس. ماء كلسان الشمعة، فى صفاء الدمعة، يسبح في الرّضراض، سبح النّضناض. ماء أزرق كعين السّنور، صاف كقضيب البلور. غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الغرائب. وقولهم في وصف سكّين: «سكين كأن القدر سائقها، أو الأجل سابقها، مرهفة الصدر، ممنطقة الخضر، يجول عليها فرند العتق، ويموج فيها ماء الجوهر، كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع من متنها، ركّبت في نصاب آبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغها، وحب القلوب كسته لباسها، أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج، فكانها ليل من تحت نهار، أو مجمر أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض. سكين أحسن من التلاق، وأقطع من الفراق، تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء» .

وقولهم في وصف متكبر: «قد أسكرته خمرة الكبر، واستغرقته لذة التيه، كأن كسرى حامل غاشيته، وقارون وكيل نفقته، وبلقيس إحدى داياته، وكان يوسف لم ينظر إلا بطلعته، وداود لم ينطق إلا بنغمته، ولقمان لم يتكلم إلا بحكمته، والشمس لم تطلع إلا من جبينه، والغمام لم يبد إلا من يمينه» . وكان من أثر ذلك أن أصبح هذا العصر غنيا جدا بالتعابير الوصفية الرائعة فى أكثر أبواب الوصف. ومن ذا الذى يرتاب في جمال قولهم في وصف النثر والنظم مما اختاره صاحب زهر الآداب: نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد. نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق. رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدّرة الرشيقة. نثر كما تفتّح الزّهر، ونظم كما تنفّس السّحر. وقولهم في أوصاف النساء: هى روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض. هى من وجهها في صباح شامس، ومن شعرها في ليل دامس، كأنها فلقة قمر على برج فضة. بدر التّم يضىء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها. لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج. مطلع الشمس من وجهها، ونبت الدر من فمها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادى الليل من شعرها، ومغرس الغصن من قدها، ومهيل الرمل من ردفها ... إلخ.

وقولهم في صفات الغلمان: جاءنا في غلالة تنمّ على ما يستره، وتحنو مع رقتها على ما يظهره. الجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق في خده، ومحاسن الربيع بين سحره ونحره، والقمر فضلة من حسنه. له طرّة كالغسق، على غرة كالفلق. الحسن ما فوق أزراره، والطيب ما تحت إزاره. هو قمر في التصوير، وشمس في التأثير. وجه بماء الحسن مغسول، وطرف عرود السحر مكحول شادن فاتر طرفه، ساحر لفظه، تكاد القلوب تأكله، والعيون تشربه. السحر في ألحاظه، والشّهد في ألفاظه.. إلخ. ولقد ظلت هذه التعابير الوصفية منبعا يستقى منه الكتّاب إلى العصر الحديث، والنقاد في مصر أعجبوا بقول حافظ إبراهيم في وصف الصهباء: خمرة قيل إنهم عصروها ... من خدود الملاح في يوم عرس وهو خيال سبق إليه كتاب القرن الرابع، وردده ابن خفاجة إذ قال: وشربتها عذراء تحسب أنها ... معصورة من وجنتى عذراء وقد ظن أستاذنا الدكتور طه حسين أن حافظ إبراهيم أول من ألمّ بهذا «1» الخيال فنقده وسفّهه حين عرض لنقد ترجمة البؤساء. فلينقل المعركة إذن إلى ميدان القرن الرابع، وإن كنت لا أدرى كيف يعاف الشراب المعصور من خدود الملاح. وكذلك أعجب النقاد بقول السيد توفيق البكرى في وصف النساء «صدور كالإغريض، أو صدور البزاة البيض»

وهي عبارة مأخوذة من قول الثعالبى في وصف آثار السرى الرفاء: «كأنها أطواق الحمام، وصدور البزاة البيض، وأجنحة الطواويس، وسوالف الغزلان، ونهود العذارى الحسان، وغمزات الحدق الملاح» وكذلك يمكن رد أكثر التعابير الوصفية التي يغرم بها كتاب الصنعة في العصر الحاضر من امثال الأساتذة: صادق عنبر، ومحمد السباعى، ومحمد هلال وكان القرن الرابع يؤدى للقرون التي تلته ما أخذه عن القرون التى سبقته، فقد كان كتّابه مولعين بحل الشعر لا يرون معنى بديعا، ولا حيالا طريفا إلا اقتبسوه، وأضافوه إلى ثروتهم النثرية وقد أشاع كتاب القرن الرابع نظرية (الفن للفن) وإن لم يدركوا ما لهذه النظرية من الأوضاع والتقاليد؛ فقد عودوا القراء تذوق الكتابة البديعة، وحببو إليهم النثر المصنوع، فأصبح المتأدبون يتأملون مواقع الألفاظ وقرار التراكيب، وصارت فنون البديع من تورية وجناس وطباق أصولا فنية يجد القارىء لذة ومتعة حين يراها وقعت موقعا حسنا وأصابت الغرض الذى وضعت له، ولو كان غرضا لفظيا لا يتوقف عليه تمام المعنى المقصود ولكن أليس لهذا الزخرف قيمة في فهم ذلك العصر؟ بلى، إنه يدلنا على أن أولئك الناس عرفوا لغتهم معرفة جيدة، ووقفوا على أسرارها وطرائق تعبيرها، وكان همهم أن يرتبوا الألفاظ والمعانى والتعابير والأخيلة، حتى استطاع كاتبهم أن يحشر أرباب الصناعات في صعيد واحد ثم ينطقهم بأسرار البلاغة، كل على طريقته وبأسلوبه الذى يختاره في مقر مهنته ومهد عمله. وما نحسب كتاب القرون الأولى مثلا كانوا يفكرون في جمع شتات اللغة لتصبح طوع أفكارهم وأقلامهم، وإنما كانوا قوما يكتفون في سبيل الوصول إلى أغراضهم بالعبارة

الواضحة الموجزة التي يفهمها عامة الناس وخاصتهم. أما كتاب هذا القرن فقد أصبحوا في حاجة إلى صفوة تقرأ لهم وتفهم عنهم؛ إذ أصبح خيالهم قويا، ولغتهم غنية، لا يدرك أسرارها الجمهور؛ فليس كل قارىء ولا كل سامع بمستطيع أن يتذوق تشبيه الخط الجميل بأزهار الربيع، والألفاظ بقلائد النحر، والمعانى بلآلىء، ولا أن يدرك كيف تتمنى كل جارحة أن تكون أذنا تلتقط درر الكلام وجواهره، أو عينا تجتلى مطالعه ومناظره، أو لسانا يدرس محاسنه ومفاخره إذن فالصنعة التي عرف بها كتاب القرن الرابع لها وجهان: وجه جميل يدل على حذقهم وبراعتهم، ووجه آخر يدل على بعدهم من غاية البيان وهي الوضوح، إذ كان الإغراق في الصنعة بابا من الغموض ومن أهم الجوانب التي تمثل الحياة العقلية في ذلك العصر الخصومات العنيفة التى قامت بين الكتاب؛ فقد كانت بينهم مناوشات ومجادلات نشأت عن أطماعهم فى الحياة المادية، وكانوا يمثلون غالبا طوائف من الأفكار الدينية والسياسية يقومون في الدفاع عنها بما تقوم به الجرائد المغرضة في العصر الحاضر، وكان لهم من القوة ما كان للشعراء؛ فلم يكن بد من أن يتنافس أصحاب الملك في تقريبهم، ولم يكن بد كذلك من أن يتنافس هؤلاء في الاستئثار بالحظوة عند الوزراء والرؤساء والملوك وفي الرسالة التي كتبها بديع الزمان إلى أبى نصر بن المرزبان فقرات مرة تمثل ما كان عليه كتاب ذلك العصر من الطمع في المناصب الرسمية ومن ضعف الخلق عند الغنى، ومن النّبل عند الفقر: إذ «تنسيهم أيام اللدونة، أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة، ساعات الصعوبة» وقد كانوا كما قال: «ما اتسعت دورهم، إلا ضاقت صدورهم، ولا أوقدت نارهم إلا انطفأ نورهم، ولا زاد مالهم إلا

معروفهم، ولا ورمت أكياسهم إلا ورمت أنوفهم، ولا صلحت أحوالهم، إلا فسدت أعمالهم، ولا فاض جاههم، إلا غاضت مياههم، ولا لانت برودهم، إلا صلبت خدودهم» «1» وفي تلك المنافسات الشديدة، وتلك الدسائس الملعونة، التى كانت تقع بين الكتاب، دليل على جشعهم في حب الحياة، وفهمهم لها فهما ماديا يتناسب مع تلك العبقريات الغنية التي ظهرت في فقرهم ورسائلهم وأبحاثهم؛ فإنه من المؤلم أن تظل قوة الحقد ويقظة الأثرة، وشدة العداوة، فى كل عصر من السّمات الغالبة على كبار الكتاب، ومن النادر أن تجد كاتبا كريما يعطف على زملائه، ويحب لهم الخير، ويتمنى لهم السّداد. وقديما أفزعت هذه الظاهرة عبد الحميد بن يحيى- وكان رجلا نبيلا- فكتب وصيته المعروفة يدعو بها الكتاب إلى التعاون ونبذ الأحقاد، وفى أيامنا تبعث تلك الشمائل من جديد؛ فلا نجد كاتبا في العالم العربى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بحيث نظن أن شبوب العبقرية يوحى بالطمع، والاستبداد بالفضل، والاستئثار بالجاه وأهم الخصومات التي وقعت بين كتاب ذلك العصر خصومة الهمذانى والخوارزمى، وخصومة التوحيدى والصاحب بن عباد أما خصومة الهمذانى والخوارزمى فترجع إلى رغبة الهمذانى في الظهور، وطمعه في الانفراد بالشهرة، وأهم مصدر لهذه الخصومة الرسالة المطولة التي كتبها الهمذانى في وصف المناظرة التي قامت بينه وبين الخوارزمى، وهي رسالة مغرضة مملوءة بالتحامل والصّغرنة، وليس فيها أفكار حدية تجعل خصومة بين عقلين، إنما هي محاورات لفظية تدل على غلبة الزخرف وتمكنه في السيطرة على عقول أهل

ذلك الجيل. ولو أن الخوارزمى دوّن بدوره تلك المناظرة لرأينا وجهين في بسط ذلك الحادث الأدبى، واستطعنا أن نستخلص من مقابلة النصين نفس الرجلين، ولكن الهمذانى تكلم وحده؛ فعرفنا فقط مبلغ زهوه وكبريائه وطمعه في كبت كاتب كان يومئذ على رأس الكاتبين. أما خصومة التوحيدى لابن عباد فترجع فيما ذكر كتاب التراجم إلى سبب مادى، وذلك أن التوحيدى رغب في مال ابن عباد وجاهه، فضاق عنه صدر هذا، فكتب التوحيدى كتابه «أخلاق الوزيرين» وهو كتاب جارح كشف به عورات ابن العميد وابن عباد. ثم عاد إليهما بالتجريح أيضا في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» وأسلوبه في الهجاء أسلوب خطر فظيع؛ إذ يختلق الحوادث والإشارات وينطفهما برسائل ومقطوعات تهوى بهما إلى الحضيض. ويعتبر التوحيدى من الوجهة الفنية رجلا خصب الذهن، غنى اللغة، وافر المحصول، قوى الخيال. وقد تنبه المتأدبون إلى تحامل التوحيدى وإسرافه في التعصب والتحامل وشاع الاعتقاد بأن كتابه «أخلاق الوزيرين» كتاب مشئوم، لا يملكه أحد إلا انعكست أحواله، ويذكر ابن خلكان أنه جرب هذا وجر به من يثق به «1» فإذا صح هذا الوهم كان التوحيدى قد عوقب على بغيه وظلمه وبهتانه؛ فقد أنظر الصاحب بن عباد بعبارات مخجلة يندى لها وجه القارى، وينفر منها الطبع والذوق، وإن كانت وضعت بأسلوب شائق خلاب.

تلك، أيها القارىء، كلمة وحيزة أقدم بها الطبعة الثانية، راجيا أن تكون كافية في وصف الاتجاهات الفنية والعقلية التي عمل في ظلالها مؤلف زهر الآداب، وإنى لآمل أن يكون في هذه الطبعة من آثار الجهد والحرص على الصواب بعض ما يجب في خدمة الأدب العربى الذى أصبح إحياؤه ونشره من أظهر محامد مصر فى العصر الحديث؟ زكى مبارك مصر الجديدة في 15 نوفمبر سنة 1929

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الحمد لله الذى اختصّ الإنسان بفضيلة البيان، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، المرسل بالنور المبين، والكتاب المستبين، الذى يحدّى الخلق أن يأتوا بمثله فعجزوا عنه، وأقرّوا بفضله، وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. وبعد؛ فهذا كتاب اخترت فيه قطعة كاملة من البلاغات؛ فى الشعر والخبر، والفصول والفقر «1» ، مما حسن لفظه ومعناه، واستدلّ بفحواه على مغزاه «2» ، ولم يكن شاردا حوشيّا «3» ، ولا ساقطا سوقيّا «4» ، بل كان جميع ما فيه، من ألفاظه ومعانيه، كما قال البحترى «5» : فى نظام من البلاغة ما ش ... كّ امرؤ أنّه نظام فريد «6» حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنّبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد ولم أذهب في هذا الاختيار، إلى مطولات الأخبار، كأحاديث صعصعة

ابن صوحان «1» ، وخالد بن صفوان «2» ، ونظائرهما؛ إذ كانت هذه أجمل لفظا، وأسهل حفظا. وهو كتاب يتصرّف الناظر فيه من نثره إلى شعره، ومطبوعه إلى مصنوعه، ومحاورته إلى مفاخرته، ومناقلته «3» إلى مساجلته «4» ، وخطابه المبهت «5» إلى جوابه المسكت، وتشبيهاته المصيبة إلى اختراعاته الغريبة، وأوصافه الباهرة إلى أمثاله السائرة، وجدّه المعجب «6» إلى هزله المطرب، وجز له الرائع إلى رقيقه البارع. وقد نزعت فيما جمعت عن ترتيب البيوت «7» ، وعن إبعاد الشكل عن شكله، وإفراد الشىء من مثله؛ فجعلت بعضه مسلسلا «8» ، وتركت بعضه مرسلا «9» ؛ ليحصل محرّر النّقد «10» ، مقدّر السّرد «11» ؛ وقد أخذ بطر في التأليف، واشتمل على حاشيتى التصنيف؛ وقد بعز المعنى، فألحق الشّكل بنظائره، وأعلّق الأول بآخره، وتبقى منه بقية أفرّقها فى سائره «12» ليسلم من التطويل المملّ، والتقصير المخلّ، وتظهر في التجميع إفادة الاجتماع؛ وفى التفريق لذاذة

الإمتاع، فيكمل منه ما يونق القلوب والأسماع «1» ؛ إذ كان الخروج من جدّ إلى هزل، ومن حزن إلى سهل «2» أنفى للكلل «3» ، وأبعد من الملل؛ وقد قال إسماعيل بن القاسم [هو أبو العتاهية] «4» : لا يصلح النفس إذ كانت مدابرة ... إلا التنقّل من حال إلى حال «5» وكان السبب الذى دعانى إلى تأليفه، وندبنى إلى تصنيفه، ما رأيته من رغبة أبى الفضل العباس بن سليمان- أطال الله مدّته، وأدام نعمته! - فى الأدب «6» ، وإنفاق عمره في الطلب وماله في الكتب؛ وأن اجتهاده في ذلك حمله على أن ارتحل إلى المشرق بسببها، وأغمض في طلبها «7» ، باذلا في ذلك ماله، مستعذبا فيه تعبه، إلى أن أورد من كلام بلغاء عصره، وفصحاء دهره، طرائف طريفة، وغرائب غريبة، وسألنى أن أجمع له من مختارها كتابا يكتفى به عن جملتها، وأضيف إلى ذلك من كلام المتقدّمين ما قار به وقارنه، وشابهه وماثله؛ فسارعت إلى مراده، وأعنته على اجتهاده، وألّفت له هذا الكتاب، ليستغنى به عن جميع كتب الآداب؛ إذ كان موشّحا من بدائع البديع «8» ، ولآلىء الميكالى، وشهىّ الخوارزمى، وغرائب الصاحب، ونفيس قابوس، وشذور أبى منصور «9» بكلام يمتزج بأجزاء النفس لطافة، وبالهواء رقة، وبالماء عذوبة.

وليس لى في تأليفه من الافتخار، أكثر من حسن الاختيار؛ واختيار المرء قطعة من عقله، تدلّ على تخلّفه أو فضله؛ ولا شكّ- إن شاء الله- فى استجادة ما استجدت، واستحسان ما أوردت؛ إذ كان معلوما أنه ما انجذبت نفس، ولا اجتمع حسّ، ولا مال سر، ولا جال فكر، فى أفضل من معنى لطيف، ظهر فى لفظ شريف؛ فكساه من حسن الموقع، قبولا لا يدفع، وأبرزه يختال من صفاء السبك [ونقاء السّلك] وصحة الدّيباجة، وكثرة المائية، فى أجمل حلة، وأجلى حلية: يستنبط الروح اللطيف نسيمه ... أرجا، ويؤكل بالضمير ويشرب «1» وقد رغبت في التجافى عن المشهور، فى جميع المذكور، من الأسلوب الذى ذهبت إليه، والنحو الذى عوّلت عليه؛ لأن أوّل ما يقرع الآذان، أدعى إلى الاستحسان، مما مجّته «2» النفوس لطول تكراره، ولفظته «3» العقول لكثرة استمراره؛ فوجدت ذلك يتعذّر ولا يتيسر، ويمتنع ولا يتّسع «4» ؛ ويوجب ترك ما ندر إذا اشتهر؛ وهذا يوجب في التصنيف دخلا «5» ، ويكسب التأليف خللا؛ فلم أعرض إلّا عما أهانه الاستعمال، وأذاله الابتذال «6» ؛ والمعنى إذا استدعى القلوب إلى حفظه، ما ظهر من مستحسن لفظه؛ من بارع عبارة «7» ، وناصع استعارة، وعذوبة مورد، وسهوله مقصد، وحسن تفصيل، وإصابة تمثيل؛ وتطابق أنحاء، وتجانس أجزاء، وتمكّن ترتيب، ولطافة تهذيب، مع صحّة طبع وجودة إيضاح، يثقفه تثقيف القداح، ويصوره أفضل تصوير، ويقدّره أكمل تقدير؛ فهو مشرق

فى جوانب السمع، لا يخلقه عوده على المستعيد «1» : وهو المشيّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا وإن كنت قد استدركت على كثير ممن سبقنى إلى مثل ما جريت إليه، واقتصرت في هذا الكتاب عليه، لملح أوردتها كنوافث السحر «2» ؛ وفقر نظمتها كالغنى بعد الفقر، من ألفاظ أهل العصر، فى محلول النثر، ومعقود الشعر؛ وفيهم من أدركته بعمرى، أو لحقه أهل دهرى؛ ولهم من لطائف الابتداع، وتوليدات الاختراع، أبكار لم تفترعها الأسماع «3» ، يصبو إليها القلب والطّرف، ويقطر منها ماء الملاحة والظّرف، وتمتزج بأجزاء النفس، وتسترجع نافر الأنس، تخلّلت تضاعيفه، ووشّحت تأليفه، وطرّزت ديباجه، ورصّعت تاجه، ونظمت عقوده، ورقمت بروده؛ فنورها يرفّ، ونورها يشفّ، فى روض من الكلم مونق، ورونق من الحكم مشرق: صفا ونفى عنه القذى فكانه ... إذا ما استشفّته العيون مصعّد «4» فهو كما قلت: بديع نثر رقّ حتّى غدا ... يجرى مع الرّوح كما تجرى من مذهب الوشى على وجهه ... ديباجة ليست من الشعر «5» كزهرة الدنيا وقد أقبلت ... ترود في رونقها النّضر «6» أو كالنسيم الغض غبّ الحيا ... يختال في أردية الفجر «7» ولعل في كثير مما تركت، ما هو أجود من قليل مما أدركت؛ إذ كان اقتصارا من كلّ على بعض، ومن فيض على برض «8» ؛ ولكنى اجتهدت في اختيار

[إن من البيان لسحرا]

ما وجدت؛ وقد تدخل اللفظة في شفاعة اللفظات، ويمرّ البيت في خلال الأبيات، وتعرض الحكاية في عرض الحكايات، يتمّ بها المعنى المراد، وليست مما يستجاد، ويبعث عليها فرط الضرورة إليها [فى إصلاح خلل] ؛ فمهما تره من ذلك في هذا الاختيار، فلا تعرض عنه بطرف الإنكار؛ وما أقلّ ذلك في جميع المسالك الجارية فى هذا الكتاب، الموسوم ب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لكنى أردت أن أشارك من يخرج من ضيق الاغترار، إلى فسحة الاعتذار: ويسىء بالإحسان ظنّا، لا كمن ... يأتيك وهو بشعره مفتون «1» والله المؤيد والمسدّد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [إنّ من البيان لسحرا] [الزّبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله] روى عن عبد الله بن عبّاس- رضوان الله عليهما! - قال: وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزّبر قان بن بدر وعمرو بن الأهتم؛ فقال الزبرقان: يا رسول الله! أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقّهم، وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك- يعنى عمرا. فقال عمرو: أجل يا رسول الله؛ إنه مانع لحوزته «2» ، مطاع في عشيرته، شديد العارضة فيهم «3» . فقال الزبرقان: أما إنه والله قد علم أكثر مما قال، ولكنه حسدنى شرفى! فقال عمرو: أما لئن قال ما قال؛ فو الله ما علمته إلا ضيّق العطن «4» ، زمر المروءة «5» ، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى.

ترجمة عمرو بن الأهتم

فرأى الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا اختلف قوله؛ فقال: يا رسول الله؛ رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكمة. ويروى لحكما، والأول أصح. والذى روى أهل الثّبت، من هذا الحديث أنّه قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا؛ فعجب الناس لبيانهما؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من البيان لسحرا، أو إن من بعض البيان لسحرا «1» . [ترجمة عمرو بن الأهتم] وعمرو بن الأهتم هو: عمرو بن سنان بن سمىّ [بن سنان بن خالد] ابن منقر ابن عبيد بن الحارث، والحارث هو: مقاعس بن عمرو بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم. وسمّى سنان الأهتم لأنّ قيس بن عاصم المنقرى سيد أهل الوبر ضربه بقوسه فهتم فاه. هذا قول أبى محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة. وقال غيره: بل هتم فوه يوم الكلاب الثانى، وهو يوم كان لبنى تميم على أهل اليمن. وكان عمرو يلقب المكحّل لجماله، وبنو الأهتم أهل بيت بلاغة في الجاهلية والإسلام. وعبد الله بن عمرو بن الأهتم هو جدّ خالد ابن صفوان وشبيب بن شيبة. وكان يقال: الخطابة في آل عمرو، وكان شعره حللا منّشرة عند الملوك تأخذ منه ما شاءت. وهو القائل: ذرينى فإن البخل يا أمّ مالك ... لصالح أخلاق الرجال سروق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكنّ أخلاق الرجال تضيق «2» [ترجمة الزبرقان ابن بدر] والزبرقان: اسمه حصين بن بدر بن امرئ القيس [بن الحارث] بن

عمر بن عبد العزيز وغلام يتقدم وفد قومه

بهدلة بن عوف بن كعب بن سعيد. وسمى الزّبرقان لجماله؛ والزبرقان: القمر [قبل تمامه] وقيل: لأنّه كان يزبرق عمامته، أى يصفّرها في الحرب. وكانوا يسمّون الكلام الغريب «السّحر الحلال» ، ويقولون: اللفظ الجميل من إحدى النّفثات في العقد «1» . [عمر بن عبد العزيز وغلام يتقدم وفد قومه] وذكر بعض الرّواة أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم عليه وفود أهل كل بلد؛ فتقدم إليه وفد أهل الحجاز، فاشرأبّ، منهم غلام للكلام «2» ، فقال عمر: يا غلام؛ ليتكلّم من هو أسنّ منك! فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانا لافظا، وقلبا حافظا، فقد أجاد له الاختيار؛ ولو أن الأمور بالسنّ لكان هاهنا. من هو أحقّ بمجلسك منك. فقال عمر: صدقت، تكلم؛ فهذا السحر الحلال! فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة «3» ، ولم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة؛ لأنّا قد أمنّا في أيامك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا! فسأل عمر عن سنّ الغلام، فقيل: عشر سنين. وقد روى أن محمد بن كعب القرظى كان حاضرا، فنظر وجه عمر قد تهلّل عند ثناء الغلام عليه؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لا يغلبنّ جهل القوم بك معرفتك بنفسك؛ فإنّ قوما خدعهم الثناء، وغرّهم الشكر، فزّلت أقدامهم، فهووا في النار «4» . أعاذك الله أن تكون منهم، وألحقك بسالف هذه الأمة؛ فبكى عمر حتى خيف عليه، وقال: اللهم لا تخلنا من واعظ!

من ابن العميد إلى بعض إخوانه

وقد روى أن عمر قال للغلام: عظنى، فقال هذا الكلام، وفيه زيادة يسيرة ونقص وأخذ قول عمر: «هذا السحر الحلال» أبو تمام فقال يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائى: إذا ما الحاجة انبعثت يداها ... جعلت المنع منك لها عقالا فأين قصائد لى فيك تأبى ... وتأنف أن أهان وأن أذالا هى السّحر الحلال لمجتليه ... ولم أر قبلها سحرا حلالا [من ابن العميد إلى بعض إخوانه] وكتب أبو الفضل بن العميد «1» إلى بعض إخوانه جوابا عن كتاب ورد إليه [فأحمده] : وصل ما وصلتنى به، جعلنى الله فداك، من كتابك، بل نعمتك التامة، ومنّتك العامة؛ فقرّت عينى بوروده، وشفيت نفسى بوفوده، ونشرته فحكى نسيم الرياض غبّ المطر، وتنفّس الأنوار «2» فى السّحر، وتأمّلت مفتتحه، وما اشتمل عليه من لطائف كلمك، وبدائع حكمك؛ فوجدته قد تحمّل من فنون البرّ عنك، وضروب الفضل منك، جدّا وهزلا، ملأ عينى، وعمر قلبى، وغلب فكرى، وبهر لبّى؛ فبقيت لا أدرى: أسموط ذرّ خصصتنى بها، أم عقود جوهر منحتنيها؟ كما لا أدرى أبكرا زففتها فيه، أم روضة جهزتها منه؛ ولا أدرى أخدودا ضرّجت حياء ضمّنته؛ أم نجوما طلعت عشاء أودعته؛ ولا أدرى أجدّك أبلغ وألطف، أم هزلك أرفع وأظرف؛ وأنا أوكّل بتتبّع ما انطوى عليه نفسا لا ترى الحظّ إلا ما اقتنته منه، ولا تعدّ الفضل إلا فيما أخذته عنه، وأمتّع بتأمّله عينا لا تقرّ إلّا بمثله، مما يصدر عن يدك، ويرد من عندك، وأعطيه نظرا لا يمله، وطرفا لا يطرف دونه، وأجعله مثالا أرتسمه وأحتذيه،

من وصف الكلام بالسحر

وأمتّع خلقى برونقه، وأغذّى نفسى ببهجته، وأمزج قريحتى برقّته، وأشرح صدرى بقراءته، ولئن كنت عن تحصيل ما قلته عاجزا، وفي تعديد ما ذكرته متخلفا؛ لقد عرفت أنه ما سمعت به من السّحر الحلال. [من وصف الكلام بالسحر] وقال بعض المحدثين يمدح كاتبا: وإذا جرى قلم له في مهرق ... عجلان في رفلانه ووجيفه «1» نظمت مراشفه قلائد نظّمت ... بنفيس جوهر لفظه وشريفه بدعا من السّحر الحلال تولّدت ... عن ذهن مصقول الذكاء مشوفه «2» مثلا لضاربه وزاد مسافر ... جعلت وتحفة قادم لأليفه [وصف رجل محبوبه] وعلى ذكر قوله «وتحفة قادم» قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: وصف رجل رجلا فقال: كان والله سمحا سهلا، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب، إنما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة عقد. [عود إلى وصف الكلام بالسحر] وأخذ بعض بنى العباس رجلا طالبيّا، فهمّ بعقوبته، فقال الطالبى: والله لولا أن أفسد دينى بفساد دنياك لملكت من لسانى أكثر مما ملكت من سوطك، والله إنّ كلامى لفوق الشعر، ودون السّحر، وإن أيسره ليثقب الخردل، ويحطّ الجندل. وقال على بن العباس «3» يصف حديث امرأة: وحديثها السّحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرّز «4» إن طال لم يملل، وإن هي أو جزت ... ودّ المحدّث أنّها لم توجز شرك العقول، ونزهة ما مثلها ... للمطمئن، وعقلة المستوفز «5»

علية بنت المهدي أخت الرشيد

ألمّ في بيته الآخر بقول الطائى: كواعب أتراب لغيداء أصبحت ... وليس لها في الحسن شكل ولا ترب «1» لها منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحبّ «2» وأول من استثار هذا المعنى امرؤ القيس بن حجر الكندى في قوله: وقد أغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل «3» وقالت عليّة بنت المهدى: اشرب على ذكر الغزال ... الأغيد الحلو الدّلال اشرب عليه وقل له: ... يا غلّ ألباب الرجال «4» [علية بنت المهدي أخت الرشيد] وكانت عليّة لطيفة المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجارى الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه «رشأ» وفيه تقول: أضحى الفؤاد بزينبا ... صبّا كئيبا متعبا فجعلت زينب سترة ... وكتمت أمرا معجبا [قولها: بزينب تريد برشأ] . فنمى الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله، وغلقت بعده بغلام اسمه «طلّ» ، فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لأقتلنّك! فدخل عليها يوما

أشباه لشعر علية بنت المهدي

على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير المؤمنين، فضحك، وقال: ولا كلّ هذا، وهى القائلة: يا عاذلى قد كنت قبلك عاذلا ... حتى ابتليت فصرت صبّا ذاهلا الحب أول ما يكون مجانة ... فإذا تحكّم صار شغلا شاغلا «1» [أرضى فيغضب قاتلى فتعجّبوا ... يرضي القتيل ولا يرضّى القاتلا] وهي القائلة: وضع الحبّ على الجور، فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج «2» [وقليل الحب صرفا خالصا ... لك خير من كثير قد مزج] ليس يستحسن في نعت الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج [أشباه لشعر علية بنت المهدي] وكأنها ذهبت في الأول إلى قول العباس بن الأحنف: وأحسن أيام الهوى يومك الذى ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وقد زاد النميرى في هذا فقال: راحتى في مقالة العذّال ... وشفائى في قيلهم بعد قال لا يطيب الهوى ولا يحسن الحبّ ... لصبّ إلّا بخمس خصال بسماع الأذى، وعذل نصيح، ... وعتاب، وهجرة، وتقال «3» وقال بعض المحدثين: لولا اطّراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردى لى في الوصال قليلا «4» هذا الشراب أخو الحياة وماله ... من لذة حتى يصيب غليلا «5»

وقال آخر: دع الصبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فإنّ الأذى ممن تحبّ سرور «1» غبار قطيع الشاء في عين ذئبها ... إذا ما تلا آثارهنّ ذرور «2» وأنشد الأصمعى [لجميل بن معمر العذرى] «3» : لا خير في الحبّ وقفا لا تحرّكه ... عواض اليأس أو يرتاحه الطّمع لو كان لى صبرها أو عندها جزعى ... لكنت أملك ما آتى وما أدع إذا دعا باسمها داع ليحزننى ... كادت له شعبة من مهجتى تقع «4» وهذا البيت كقول على بن العباس الرومى: لا تكثرنّ ملامة العشاق ... فكفاهم بالوجد والأشواق إن البلاء يطاق غير مضاعف ... فإذا تضاعف كان غير مطاق لا تطفئنّ جوى بلوم؛ إنه ... كالريح تغرى النار بالإحراق ويشبه بيت عليّة الآخر بيت أنشد في شعر روى لأبى نواس، ورواه قوم لعنان جارية الناطفى «5» وهو: حلو العتاب يهيجه الإدلال ... لم يحل إلا بالعتاب وصال لم يهو قطّ ولم يسمّ بعاشق ... من كان يصرف وجهه التّعذال «6»

ما قيل في معنى قيد الأوابد

وجميع أسباب الغرام يسيرة ... ما لم يكن غدر ولا استبدال تصف القضيب على الكثيب قناتها ... ولها من البدر المنير مثال ولربّ لابسة قناع ملاحة ... حسناء سار بحسنها الأمثال كست الحداثة ظرفها وجمالها ... نورا فماء شبابها يختال «1» وكأنها والكأس فوق بنانها ... شمس يمدّ بها إليك هلال حتى إذا ما استأنست بحديثها ... وتكلمت بلسانها الجريال «2» قلنا لها: إن صدّقت أقوالها ... أفعالها وجرى بهنّ الفال قولى فليس تراك عين نميمة ... حضر النصيح وغابت العذّال وضمير ما اشتملت عليه ضلوعنا ... سرّ لدى أبوابه أقفال [ما قيل في معنى قيد الأوابد] وقد أخذ أبو الطيب المتنبى معنى «قيد الأوابد» ، فقال يصف كلبا: نيل المنى وحكم نفس المرسل ... وعقلة الظبى وحتف التّتفل «3» كأنّه من علمه بالمقتل ... علّم بقراط فصاد الأكحل «4» وقال في بنى حمدان: متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشان «5» يتقبّلون ظلال كلّ مطهّم ... أجل الظليم وربقة السّرحان «6» وقال أعرابى يصف فرسا: إنه لدرك الطالب، ومنجى الهارب، وقيد الرّهان، وزين الفناء.

ما يستملح مما قيل في حسن الحديث

وقال بعض أهل العصر في وصف غلام: وجهه قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار. وقال أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد «1» : وقد أغتدى للصّيد غدوة أصيد ... أعاجل فيها الوحش والوحش هجّد «2» فعنّت ظباء خفن تحتى مطلق اليدين ... به أيدى الوحوش تقيّد «3» فأدركتها والسيف لمعة بارق ... ولم يغنها إحضارها حين تجهد «4» وقد رعتها إذ كان شعرى رائعا ... وطرف مشيبى عن عذارى أرمد «5» وما بلغت حدّ الثلاثين مدّتى ... وهذا طراز الشيب فيه يمدّد «6» وأبيات ابن الرومى من أجود ما قيل في حسن الحديث، وقد توسّع الشعراء فى هذا الباب، وكثر إحسانهم، كما كثر افتنانهم، وسأجرى شأوا في محتار ما قيل في ذلك، وأعود إلى ما بدأت به. [ما يستملح مما قيل في حسن الحديث] قال القطامى- واسمه عمير بن شييم التغلبى «7» ، وسمى القطامى لقوله: يحطّهنّ جانبا فجانبا ... حطّ القطامىّ القطا القواربا «8» وقال أبو عبيدة: ويقال للصقر قطامى وقطامى: وفي الخدور غمامات برقن لنا ... حتى تصيّدننا من كلّ مصطاد يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادى «9»

فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذى الغلّة الصّادى «1» وقال أبو حيّة النّميرى، واسمه الهيثم بن الرّبيع: وخبّرك الواشون أن لن أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم وإن دما، لو تعلمين، جنيته ... على الحىّ جانى مثله غير سالم «2» أصدّ وما الصدّ الذى تعلمينه ... عزاء بكم إلا ابتلاع العلاقم «3» حياء وتقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم، أفّ لأهل النّمائم «4» أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم «5» ولكنه والله ما طلّ مسلما ... كغرّ الثنايا واضحات الملاغم «6» إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى ... سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم «7»

رمين فأنفذن القلوب، ولا ترى ... دما مائرا إلا جوى في الحيازم «1» وقال أيضا: حديث- إذا لم تخش عينا- كأنه ... إذا ساقطته الشّهد أو هو أطيب لو انك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب إلى هذا ينظر قول الآخر وإن لم يكن منه: أقول لأصحابى وهم يعذلوننى ... ودمع جفونى دائم العبرات بذكر منى نفسى فبلّوا، إذا دنا ... خروجى من الدنيا، جفوف لهاتى «2» وقال سديف مولى بنى هاشم يصف نساء: وإذا نطقن تخالهنّ نواظما ... درّا يفصّل لؤلؤا مكنونا وإذا ابتسمن فإنهنّ غمامة ... أو أقحوان الرّمل بات معينا «3» وإذا طرفن طرفن عن حدق المها ... وفضلنهنّ محاجرا وجفونا «4» وكأنّ أجياد الظباء تمدّها ... وخصورهنّ لطافة ولدونا «5» وأصحّ ما رأت العيون محاجرا ... ولهنّ أمرض ما رأيت عيونا «6»

وكأنهنّ إذا نهضن لحاجة ... ينهضن بالعقدات من يبرينا «1» وقال الطائى «2» : تعطيك منطقها فتعلم أنّه ... لجنى عذوبته يمرّ بثغرها وأظنّ حبل وصالها لمحبّها ... أوهى وأضعف قوّة من خصرها أخذه أبو القاسم بن هانئ «3» ، فقال يمدح جعفر بن على، إلّا أنه قلبه فقال: قد طيّب الأفواه طيب ثنائه ... من أجل ذا نجد الثغور عذابا وكأنما ضرب السماء سرادقا ... بالزّاب، أو رفع النجوم قبابا «4» أرضا وطئت الدّرّ رضراضا بها ... والمسك تربا والرياض جنابا «5»

وقال الطائى: بسطت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق ومقلة ينبوعا «1» كادت لعرفان النّوى ألفاظها ... من رقّة الشّكوى تكون دموعا ومن جيّد هذا المعنى وقديمه قول النابغة الذبيانى «2» : لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبّد «3» لرنا للهجتها وطيب حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السليم إلى وجوه العوّد «4» ومن مشهور الكلام قول الآخر: وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لى ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها «5» تحلّل أحقادى إذا ما لقيتها ... وترمى بلا جرم علىّ حقودها «6» وقال بشار: وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرّياض كسين زهرا حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا «7» تنسى الغوىّ معاده ... وتكون للحكماء ذكرا وكأنها برد الشراب ... صفا ووافق منك فطرا «8»

وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما جمعت عليه ... ثيابها ذهبا وعطرا «1» وسمع بشار قول كثيّر بن عبد الرحمن «2» : ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين فقال: قاتل الله أبا صخر! يزعم أنها عصا ويعتذر بأنها خيزرانة، ولو قال: عصا مخّ، أو عصا زبد؛ لكان قد هجّنها مع ذكر العصا، هلّا قال كما قلت: ودعجاء المحاجر من معدّ ... كأنّ حديثها ثمر الجنان «3» إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأنّ عظامها من خيزران وبعد قول كثيّر: «ألا إنما ليلى عصا خيزرانة» : تمتّع بها ما ساعفتك، ولا يكن ... عليك شجى في الصّدر حين تبين وإن هي أعطتك اللّيان فإنها ... لآخر من خلّانها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأى عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين وقال البحترى: ولما التقينا واللّوى موعد لنا ... تعجّب رائى الدّرّ حسنا ولا قطه فمن لؤلؤ تجنيه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه وقال المتنبى: أمنعمة بالعودة الظبية التى ... بغير ولىّ كان نائلها الوسمى «4» ترشّفت فاها سحرة فكأننى ... ترشّفت حرّ الوجد من بارد الظلم «5»

فتاة تساوى عقدها وكلامها ... ومبسمها الدّرّىّ في النثر والنظم عاد الحديث الأول- قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجى: حدثنا يوسف بن يعقوب قال: أخبرنى جدّى قراءة عليه، عن أبى داود، عن محمد بن عبيد الله، عن أبى إسحاق، عن البراء يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكما، وإن من البيان لسحرا» قال أبو القاسم: هكذا روينا الخبر، وراجعت فيه الشيخ، فقال: نعم، هو: «إن من الشعر لحكما» بضم الحاء وتسكين الكاف، قال: ووجهه عندى إذا روى هكذا: إن من الشعر ما يلزم المقول فيه كلزوم الحكم للمحكوم عليه؛ إصابة للمعنى، وقصدا للصواب وفي هذا يقول أبو تمام: ولولا سبيل سنّها الشعر مادرى ... بغاة العلى من أين تؤتى المكارم «1» يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويرضى بما يقضى به وهو ظالم انتهى كلام أبى القاسم. وقد وجدنا في الشعر أبياتا يجرى على رسمها، ويمضى على حكمها؛ فقد كان بنو أنف الناقة إذا ذكر أحد عند أحد منهم أنف الناقة- فضلا عن أن ينسبهم إليه- اشتدّ غضبهم عليه؛ فما هو إلا أن قال الحطيئة «2» يمدحهم: سيرى أمام فإن الأكثرين حصى ... والأطيبين إذا ما ينسبون أبا «3»

بنو العجلان والنجاشي الحارثي

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا «1» قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّى بأنف الناقة الذّنبا فصار أحدهم إذا سئل عن انتسابه لم يبدأ إلا به وأنف الناقة: هو جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم. [بنو العجلان والنجاشي الحارثي] وكان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، ويتشرّفون بهذا الوسم؛ إذ كان عبد الله بن كعب جدّهم إنما سمّى العجلان لتعجيله القرى للضّيفان؛ وذلك أن حيّا من طيىء نزلوا به، فبعث إليهم بقراهم عبدا له، وقال له: اعجل عليهم، ففعل العبد، فأعتقه لعجلته، فقال القوم: ما ينبغى أن يسمى إلّا العجلان؛ فسمى بذلك؛ فكان شرفا لهم، حتى قال النجاشى، واسمه قيس بن عمرو بن حرن ابن الحارث بن كعب يهجوهم: أولئك أخوال اللّعين وأسرة الهجين ... ورهط الواهن المتذلّل «2» وما سمّى العجلان إلا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبدوا عجل فصار الرجل منهم إذا سئل عن نسبه قال: كعبى، ويكنى عن العجلان وزعمت الرواة أنّ بنى العجلان استعدوا «3» على النجاشى- لما قال هذا الشعر- عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وقالوا: هجانا، قال: وما قال فيكم؟ فأنشدوه قوله: إذا الله عادى أهل لؤم ورقّة ... فعادى بنى العجلان رهط ابن مقبل فقال: إنّ الله لا يعادى مسلما، قالوا: فقد قال: قبيّلة لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل «4»

فقال: وددت أن آل الخطاب كانوا كذلك! قالوا: فقد قال: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من عوف بن كعب بن نهشل فقال: كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه! قالوا: فقد قال: ولا يردون الماء إلّا عشية ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل «1» فقال: ذلك أصفى للماء، وأقل للزّحام! قالوا: فقد قال: وما سمّى العجلان إلّا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال: سيّد القوم خادمهم!. وكان عمر رضي الله عنه أعلم بما في هذا الشعر، ولكنه درأ الحدود بالشبهات «2» وهؤلاء بنو نمير بن عامر بن صعصعة من القوم أحد جمرات العرب وأشرف بيوت قيس بن عيلان بن مضر. وجمرات العرب ثلاثة؛ وإنما سمّوا بذلك لأنهم متوافرون في أنفسهم، لم يدخلوا معهم غيرهم؛ والتجمير في كلام العرب: التجميع، وهم: بنو نمير بن عامر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة بن أد. فطفئت جمرتان، وهما بنوضبّة لأنها حالفت الرباب، وبنو الحارث لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمير لم تحالف؛ فهى على كثرتها ومنعتها. وكان الرجل منهم إذا قيل له: ممّن أنت؟ قال: نميرى كما ترى! إدلالا بنسبه، وافتخارا بمنصبه، حتى قال جرير ابن [عطية بن] الخطفى لعبيد بن حصين الراعى أحد بنى نمير بن عامر: فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا كعب وكلاب: ابنا ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ يقول: عامرى، ويكنى عن نمير. ومرّت امرأة بقوم من بنى نمير، فأحدّوا النظر إليها، فقال منهم قائل: والله

شريك بن عبد الله النميرى وابن هبيرة الفزارى

إنها لرشحاء «1» ، فقالت: يا بنى نمير، والله ما امتثلتم فىّ واحدة من اثنتين، لاقول الله عز وجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ولا قول الشاعر: فغضّ الطّرف إنّك من نمير [شريك بن عبد الله النميرى وابن هبيرة الفزارى] وساير شريك بن عبد الله النميرى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى، فبرّزت بغلة شريك «2» ، فقال له يزيد: غضّ من لجامها، فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير! فضحك، وقال: ما ذهبت حيث أردت وإنما عرّض بقوله: «غضّ من لجامها» بقول جرير: فغضّ الطّرف إنك من نمير فعرّض له شريك بقول ابن دارة: لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «3» [الفرزدق يهجوا ابن هبيرة] وبنو فزارة يرمون بإتيان الإبل، ولذلك قال الفرزدق ليزيد بن عبد الملك لما ولى عمر بن هبيرة «4» العراق: أمير المؤمنين لأنت مرء ... أمين لست بالطّبع الحريص أولّيت العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص «5» ولم يك قبلها راعى مخاض ... ليأمنه على وركى قلوص «6»

بعض النميريين يجيب جريرا عن شعره

تفيهق بالعراق أبو المثنّى ... وعلّم قومه أكل الخبيص «1» الرافدان: دجلة والفرات. [بعض النميريين يجيب جريرا عن شعره] وقال بعض النميريين يجيب جريرا عن شعره: نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا وإنى إذ أسبّ بها كليبا ... فتحت عليهم للخسف بابا ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم يسمع لشاعرهم جوابا رغبنا عن هجاء بنى كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا فما نفع نميرا، ولا ضرّ جريرا، بل كان كما قال الفرزدق: ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران وقال أبو جعفر محمد بن منذر مولى بنى صبير بن يربوع في هجائه لثقيف: وسوف يزيدكم ضعة هجائى ... كما وضع الهجاء بنى نمير وسمع الراعى «2» منشدا ينشد: وعاو عوى من غير شىء رميته ... بقافية أنفاذها تقطر الدّما «3» خروج بأفواه الرّواة كأنها ... قرى هندوانىّ إذا هزّ صمّما «4» فارتاع له، وقال: لمن هذا؟ قيل: لجرير، قال: لعن الله من يلومنى أن يغلبنى مثل هذا! [فضل الشعر] وقد بنى الشعر لقوم بيوتا شريفة، وهدم لآخرين أبنية منيفة: وما هو إلا القول يسرى فتغتدى ... له غرر في أوجه ومواسم «5» قال أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمى «6» : سمعت أبا عمرو بن العلاء ورجل يقول:

إنما الشعر كالميسم «1» . فقال: وكيف يكون ذلك كذلك؟ والميسم يذهب بذهاب الجلد ويدرس مع طول العهد، والشعر يبقى على الأبناء بعد الآباء، ما بقيت الأرض والسماء! وإلى هذا نحا الطائى في قوله: وأنى رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشّعر والجلد وقال عمر رحمة الله عليه: تعلّموا الشعر؛ فإن فيه محاسن تبتغى، ومساوىء تتقى. وقال أبو تمام: إنّ القوافى والمساعى لم تزل ... مثل النّظام إذا أصاب فريدا هى جوهر نثر فإن ألّفته ... فى الشعر كان قلائدا وعقودا من أجل ذلك كانت العرب الألى ... يدعون هذا سؤددا مجدودا وتندّ عندهم العلا إلا إذا ... جعلت لها مرر القصيد قيودا «2» وقال على بن الرومى:

[شذور من كلام الرسول]

أرى الشعر يحيى الناس والمجد بالذى ... تبقيه أرواح له عطرات وما المجد لولا الشّعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات «1» [شذور من كلام الرسول] رجعت إلى ما قطعت، مما هو أحق وأولى، وأجلّ وأعلى، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم النّجر «2» ، العظيم القدر، الذى هو النهاية في البيان، والغاية في البرهان، المشتمل على جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش، واسترضعت في سعد ابن بكر! وليس بعض كلامه بأولى من بعض بالاختيار، ولا أحقّ بالتقديم والإيثار؛ ولكنى أورد ما تيسّر منه في أول هذا الكتاب استفتاحا، وتيمّنا بذلك واستنجاحا.

وهذه شذور من قوله صلى الله عليه وسلم الصريح الفصيح، العزيز الوجيز، المتضمّن بقليل من المبانى كثير المعانى: قوله للأنصار: إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع. وقوله عليه الصلاة والسلام: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة. إياكم وخضراء الدّمن» . كلّ الصّيد في جوف الفرا «2» - قاله لأبى سفيان صخر بن حرب-. الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا. أصحابى كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور. المرأة كالضلع إن رمت قوامها كسرتها «3» ، وإن داريتها استمتعت بها. اليد العليا خير من اليد السفلى. مطل الغنىّ ظلم. يد الله مع الجماعة. الحياء شعبة من الإيمان. مثل أبى بكر كالقطر، أينما وقع نفع. لا تجعلونى في أعجاز كتبكم كقدح الراكب «4» . أربعة من كنوز الجنة: كتمان الصّدقة والمرض والمصيبة والفاقة. جنة الرجل داره. الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. كفى بالسلامة داء. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم. ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. كلّ ميسّر لما خلق له. اليمين حنث أو مندمة «5» . دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. انصر أخاك ظالما كان

أو مظلوما. احترسوا من الناس بسوء الظّنّ. النّدم توبة. انتظار الفرج عبادة. نعم صومعة الرجل بيته. المستشير معان والمستشار مؤتمن. المرء كثير بأخيه. إنّ للقلوب صدأ كصدإ الحديد وجلاؤها الاستغفار. اليوم الرّهان وغدا السّباق، والجنّة الغاية. كلّ من في الدنيا ضيف، وما في يديه عارّية، والضيف مرتحل، والعاريّة مؤدّاة. ومن جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام ما رواه أهل الصحيح عن علقمة بن وقّاص الليثى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكنانى: سمعت أهل العلم يقولون: هذا الحديث ثلث الإسلام، والثلث الثانى ما رواه النعمان بن بشير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن تركها كان أوفى لدينه وعرضه، ومن واقعها كان كالراتع حول الحمى؛ ألا وإنّ لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه» «1» . قال: و [الثلث] الثالث ما رواه مالك [عن] ابن شهاب عن على ابن حسين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .

وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر وأثاب عليه، وندب حسّان بن ثابت إليه «1» ، وقال: إن الله ليؤيّده بروح القدس ما نافح عن نبيه «2» . ولما انتهى شعر أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب إلى النبى صلى الله عليه وسلم شقّ عليه «3» فدعا عبد الله بن رواحة «4» فاستنشده فأنشده فقال: أنت شاعر كريم، ثم دعا كعب بن مالك فاستنشده فأنشده، فقال: أنت تحسن صفة الحرب، ثم دعا بحسّان بن ثابت فقال: أجب عنى، فأخرج لسانه فضرب به أرنبته «5» ؛ ثم قال: والذى بعثك بالحق ما أحبّ أن لى به مقولا في معدّ؛ ولو أن لسانا فرى الشّعر لفراه «6» . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسّ من أبى سفيان، فقال: وكيف، وبينى وبينه الرّحم التي قد علمت؟ فقال: أسلّك منه كما تسلّ الشّعرة من العجين! فقال: اذهب إلى أبى بكر، وكان أعلم الناس بأنساب قريش، وسائر العرب، وعنه أخذ جبير بن مطعم علم النسب، فمضى حسان إليه فذكر له معايبه، فقال حسّان بن ثابت:

وإنّ سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام، ولم يقرب عجائزك المجد «1» ولست كعبّاس ولا كابن أمّه ... ولكن لئيم لا يقوم له زند «2» وإنّ امرأ كانت سميّة أمّه ... وسمراء مغموز إذا بلغ الجهد «3» وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد «4»

فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبى قحافة «1» يعنى ببنى بنت مخزوم عبد الله وأبا طالب والزبير بنى عبد المطلب بن هاشم [بن عبد مناف] ، أمّهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأخواتهم برّة وأميمة والبيضاء، وهي أم حكيم، والبيضاء جدّة عثمان بن عفان أم أمه. وقوله: «ومن ولدت أبناء زهرة منهم كرام» يعنى أميمة وصفية أم الزبير بن العوام أمّها هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة وقوله: «ولست كعباس ولا كابن أمه» أمّ العباس: نتيلة امرأة من النّمر ابن قاسط، وأخوه لأمه ضرار بن عبد المطلب وقوله: «وإن امرأ كانت سمية أمه» سمية أم أبى سفيان، وسمراء: أم أبيه، وليس هذا موضع إطناب في رفع الأنساب. وكان عبد الأعلى بن عبد الرحمن الأموى عتب على بعض ولد الحارث، فقال له معرّضا بما قال حسان: إخال بالعمّ وبالجدّ ... مفتخرا بالقدح الفرد «2» الهج بحسّان وأشعاره ... فإنها أدعى إلى المجد لولا سيوف الأزد لم تؤمنوا ... ولم تقيموا سورة الحمد فتوعّدوه، فخافهم، فقال: بنى هاشم عفوا عفا الله عنكم ... وإن كان ثوبى حشو ثنييه مجرم «3» لكم حرم الرحمن والبيت والصّفا ... وجمع وما ضمّ الحطيم وزمزم فإن قلتم بادهتنا بعظيمة ... فأحلامكم منها أجلّ وأعظم

النضر بن الحارث

وأسلم أبو سفيان- رحمه الله! - وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وكان ممسكا بغلته حين فرّ الناس، وهو أحد الذين ثبتوا، وهم- على ما ذكره أبو محمد عبد الملك بن هشام- أبو بكر، وعمر، وعلى، والعباس، وأبو سفيان ابن الحارث، وابنه الفضل، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن ابن أم أيمن بن عبيد قتل يومئذ، وبعض الناس يعدّ فيهم قثم بن العباس، ولا يعدّ. أبا سفيان، وكان أبو سفيان من أشعر قريش، وهو القائل: لقد علمت قريش غير فخر ... بأنّا نحن أجودهم حصانا وأكثرهم ذروعا سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا «1» وأدفعهم عن الضّرّاء عنهم ... وأبينهم إذا نطقوا لسانا ويروى أنّ ابن سيرين قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره قد شنق ناقته بزمامها حتى وضعت رأسها عند مفدمة الرّحل إذ قال: يا كعب ابن مالك: احد بنا! فقال كعب: قضينا من تهامة كلّ حقّ ... وخيبر ثم أجممنا السّيوفا «2» نخيّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا فقال عليه السلام: والذى نفسى بيده لهى أشدّ عليهم من رشق النّبل! ويقال: إنّ دوسا أسلمت فرقا «3» من كلمة كعب هذه «4» ، وقالوا: اذهبوا فخذوا لأنفسكم الأمان من قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم! [النضر بن الحارث] وقتل النبى صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث، وكان ممن أسر يوم بدر،

وكان شديد العداوة لله ولرسوله، وقتله علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه صبرا «1» فعرضت النبى صلى الله عليه وسلم أخته قتيلة بنت الحارث- وفى بعض الروايات أن قتيلة أتته فأنشدته: يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح غادية وأنت موفّق «2» أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النّجائب تعنق «3» منّى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق «4» هل يسمعنّى النّضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميّت لا ينطق ظلّت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «5» قسرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «6» أمحمد ها أنت صنو كريمة ... فى قومها والفحل فحل معرق «7» ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق «8» فالنضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق أو كنت قابل فدية فليفدين ... بأعزّ ما يغلى به من ينفق فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها ودمعت عيناه، وقال لأبى بكر: لو كنت سمعت شعرها ما قتلته. والنضر هذا هو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار «9» . قال الزبير بن بكار «10» : وسمعت بعض أهل العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول: إنّها مصنوعة.

[من كلام أبى بكر رضي الله تعالى عنه]

[من كلام أبى بكر رضي الله تعالى عنه] ودخل أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، على النبى عليه الصلاة والسلام وهو مسجّى بثوب «1» ، فكشف عنه الثوب وقال: بأبى أنت وأمى! طبت حيّا وميّتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوّة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء. ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك لجدنا لموتك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء الشؤون «2» . فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا فكمد وإدناف «3» يتحالفان ولا يبرحان. اللهم فأبلغه عنا السلام، اذكرنا يا محمد عند ربّك، ولنكن من بالك؛ فلولا ما خلّفت من السكينة لم نقم لما خلّفت من الوحشة؛ اللهم أبلغ نبيّك عنا واحفظه فينا، ثم خرج. قوله رضي الله عنه: «لولا أن موتك كان اختيارا منك» إنّما يريد قول النبى صلى الله عليه وسلم: لم يقبض نبىّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر. قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعته وقد شخص بصره وهو يقول: فى الرفيق الأعلى! فعلمت أنه خيّر، فقلت: لا يختارنا إذن، وقلت: هو الذى كان يحدثنا. وهو صحيح. وكان أبو بكر لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرضه بالسّنح «4» فتواترت إليه الرسل، فأتى وقد ذهل الناس، فكانوا كالخرس، وتفرقت أحوالهم، واضطربت أمورهم، فكذّب بعضهم بموته، وصمت آخرون فما تكلّموا إلا بعد [التغير] ، وخلط آخرون فلاثوا «5» الكلام بغير بيان، وحق لهم ذلك للرزيّة

حال الصحابة عند ما بلغهم موت الرسول

العظمى، والمصيبة الكبرى، التى هي بيضة العقر «1» ، ويتيمة الدهر، ومدى المصائب، ومنتهى النوائب، فكل مصيبة بعدها جلل عندها «2» ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لتعزّ المسلمين في مصائبهم المصيبة بى. [حال الصحابة عند ما بلغهم موت الرسول] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ممن كذّب بموته، وقال: ما مات، وليرجعنّه الله، فليقطعنّ أيدى المنافقين وأرجلهم، يتمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت؛ وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وهو يأتيكم. وأما عثمان رضي الله عنه فكان ممن أخرس؛ فجعل لا يكلّم أحدا، فيؤخذ بيده ويجاء به فينقاد. وأما على رضي الله عنه فلبط بالأرض «3» فقعد ولم يبرح البيت حتى دخل أبو بكر، وهو في ذلك جلد العقل والمقالة «4» ، فأكبّ عليه، وكشف عن وجهه ومسخه، وقبّل جبينه، وبكى بكاء شديدا، وقال الكلام الذى قدّمته. [خطبة أبي بكر يوم موت الرسول] ولما خرج إلى الناس وهم في شديد غمراتهم، وعظيم سكراتهم، قام فخطب خطبة جلها الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، قال فيها: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو

رثاء فاطمة الزهراء ع لأبيها رسول الله ص

الحقّ المبين. فى كلام طويل، ثم قال: أيها الناس؛ من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت، وإن الله قد تقدّم إليكم في أمره، فلا تدعوه جزعا، وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه، وسنة نبيّه، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرّق بينهما أنكر؛ يأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط، ولا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيكم، ويفتننّكم عن دينكم؛ فعاجلوه بالذى تعجزونه، ولا تستنظروه فيلحق بكم. فلما فرغ من خطبته قال: يا عمر! بلغنى أنك تقول مامات نبىّ الله، أما علمت أنه قال في يوم كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا: قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ؟ فقال عمر: والله لكأنى لم أسمع بها في كتاب الله قبل؛ لما نزل بنا، أشهد أن الكتاب كما نزل، وأن الحديث كما حدّث، وأنّ الله حىّ لا يموت، وإنا لله وإنا إليه راجعون! ثم جلس إلى جنب أبى بكر رحمه الله. قالت عائشة رضوان الله عليها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نجم النّفاق «1» ، وارتدّت العرب، وكان المسلمون كالغنم الشاردة، فى الليلة الماطرة، فحمل أبى مالو حملته الجبال لهاضها «2» فو الله إن اختلفوا في معظم إلا ذهب بحظّه ورشده، وغنائه، وكنت إذا نظرت إلى عمر علمت أنه إنما خلق للاسلام، فكان والله أحوذيّا نسيج وحده «3» ، قد أعدّ للأمور أقرانها. [رثاء فاطمة الزهراء ع لأبيها رسول الله ص] وحدث أبو بكر بن دريد عن عبد الأول بن يزيد قال: حدثنى رجل في مجلس يزيد بن هارون «4» بالبصرة قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عود إلى المختار من كلام أبي بكر

دفن ورجع المهاجرون والأنصار إلى رحالهم، ورجعت فاطمة إلى بيتها؛ فاجتمع إليها نساؤها، فقالت: اغبرّ آفاق السماء، وكوّرت ... شمس النهار، وأظلم العصران «1» فالأرض من بعد النبى كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان «2» فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكل يمان وليبكه الطّور المعظّم جوّه ... والبيت ذو الأستار والأركان يا خاتم الرسل المبارك ضوءه ... صلّى عليك منزّل الفرقان «3» [عود إلى المختار من كلام أبي بكر] وكان أبو بكر- رضي الله عنه! - إذا أثنى عليه يقول: اللهم أنت أعلم بى من نفسى، وأنا أعلم بنفسى منهم، فاجعلنى خيرا مما يحسبون، واغفر لى برحمتك مالا يعلمون، ولا تؤاخذنى بما يقولون. وقال رحمه الله في بعض خطبه: إنكم في مهل، من ورائه أجل، فبادروا في مهل آجالكم، قبل أن تنقطع آمالكم، فتردكم إلى سوء أعمالكم. وذكر أبو بكر الملوك فقال: إن الملك إذا ملك زهّده الله في ماله، ورغّبه في مال غيره، وأشرب قلبه الإشفاق؛ فهو يسخط على الكثير، ويحسد على القليل، جذل الظاهر، حزين الباطن، حتى إذا وجبت نفسه، ونضب عمره، وضحا ظلّه «4» حاسبه فأشدّ حسابه وأقل عفوه. وذكر أنه وصل إلى أبى بكر مال من البحرين، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له: فضّلنا! فقال أبو بكر: صدقتم، إن أردتم أن أفضلكم صار ما عملتموه للدنيا، وإن صبرتم كان ذلك لله عز وجل! فقالوا: والله ما عملنا إلا لله تعالى، وانصرفوا؛ فرقى أبو بكر المنبر، فحمد الله، وأثنى

رثاء عائشة لأبيها

عليه، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: يا معشر الأنصار؛ إن شئتم أن تقولوا: إنّا آويناكم في ظلالنا، وشاطرناكم في أموالنا «1» ، ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإنّ لكم من الفضل مالا يحصيه العدد، وإن طال به الأمد، فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوى «2» : جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت «3» أبوا أن يملّونا ولو أن أمنّا ... تلاقى الذى يلقون منّا لملّت «4» هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلّت فقر من كلامه رضي الله عنه: صنائع المعروف تقى مصارع السوء. الموت أهون مما بعده، وأشد مما قبله. ليست مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة. ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغى، والنكث، والمكر. إن الله قرن وعده بوعيده؛ ليكون العبد راغبا وراهبا. [رثاء عائشة لأبيها] ولما توفى رضي الله عنه وقفت عائشة على قبره؛ فقالت: نضّر الله وجهك يا أبت، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزّا بإقبالك عليها، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر عنك حسن العوض منك، وأنا أستنجز موعود الله تعالى بالصبر فيك، وأستقضيه بالاستغفار لك، أما لئن كانوا قاموا بأمر الدنيا فلقد قمت بأمر الدين لما وهي شعبه «5» وتفاقم صدعه «6» ، ورجفت جوانبه «7» ؛ فعليك

[من كلام عمر]

سلام الله توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك «1» وقال أبو بكر لبلال لما قتل أمية بن خلف وقد كان يسومه سوء العذاب بمكة فيخرجه إلى الرّمضاء «2» ، فيلقى عليه الصخرة العظيمة ليفارق دين الإسلام فيعصمه الله من ذلك: هنيئا زادك الرحمن خيرا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال فلا نكسا وجدت ولا جبانا ... غداة تنوشك الأسل الطوال «3» إذا هاب الرّجال ثبتّ حتى ... تخلط أنت ما هاب الرّجال على مضض الكلوم بمشرفىّ ... جلا أطراف متنيه الصّقال «4» [من كلام عمر] وكتب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه! - إلى ابنه عبد الله: أما بعد؛ فإنه من اتّقي الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن أقرضه جزاه؛ فاجعل التقوى عماد قلبك، وجلاء بصرك، فإنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا خشية له، ولا جديد لمن لا خلق له. ودخل عدىّ بن حاتم على عمر، فسلّم وعمر مشغول، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا عدىّ بن حاتم؛ فقال: ما أعرفنى بك! آمنت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، وأقبلت إذ أدبروا! وقال رجل لعمر: من السيد؟ قال: الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل، الكريم المجالسة لمن جالسه الحسن الخلق لمن جاوره. وقال رضي الله عنه: ما كانت الدنيا همّ رجل قطّ إلا لزم قلبه أربع خصال:

فصول قصار من كلامه رضي الله عنه

فقر لا يدرك غناه، وهمّ لا ينقضى مداه، وشغل لا ينفد أولاه، وأمل لا يبلغ منتهاه. فصول قصار من كلامه رضي الله عنه من كتم سره كان الخيار في يده. أشقى الولاة من شقيت به رعيّته. أعقل الناس أعذرهم للناس. ما الخمر صرفا «1» بأذهب لعقول الرجال من الطمع. لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا. مرذوى القرابات أن يتزاوروا، ولا يتجاوروا. قلّما أدبر شىء فأقبل. أشكو إلى الله ضعف الأمين، وخيانة القوىّ تكثّروا من العيال فإنكم لا تدرون بمن ترزقون. لو أن الشكر والصبر بعيران ما باليت أيّهما أركب. من لا يعرف الشرّ كان أجدر أن يقع فيه. [وصف صعصعة بن صوحان لعمر بن الخطاب] وقال معاوية بن أبى سفيان لصعصعة بن صوحان: صف لى عمر بن الخطاب؛ فقال: كان عالما برعيّته، عادلا في قضيّته، عاريا من الكبر، قبولا للعذر، سهل الحجاب، مصون الباب، متحرّيا للصواب، رفيقا بالضعيف، غير محاب للقريب، ولا جاف للغريب. [عمر يذكر ماضيه وحاضره] وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجّ فلما كان بضجنان «2» قال: لا إله إلا الله العلىّ العظيم، المعطى من شاء ما شاء، كنت في هذا الوادى في مدرعة صوف أرعى إبل الخطّاب، وكان فظّا يتعبنى إذا عملت، ويضربنى إذا قصرت، وقد أمسيت الليلة ليس بينى وبين الله أحد، ثم تمثل: لا شىء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد» لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح له ... والجنّ والإنس فيما بينها ترد

من شعر عمر يوم فتح مكة

أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل صوب إليها وافد يفد «1» حوض هنالك مورود بلا كدر ... لا بدّ من ورده يوما كما وردوا [من شعر عمر يوم فتح مكة] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم فتح مكة: ألم تر أن الله أظهر دينه ... على كل دين قبل ذلك حائد «2» وأمكنه من أهل مكة بعدما ... تداعوا إلى أمر من الغيّ فاسد غداة أجال الخيل في عرصاتها ... مسوّمة بين الزبير وخالد «3» فأمسى رسول الله قد عزّ نصره ... وأمسى عداه من قتيل وشارد يريد الزبير بن العوام «4» حوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد ابن الوليد سيف الله تعالى في الأرض «5» . [زوجة عمر ترثيه] ولما قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل زوجته ترثيه: عين جودى بعبرة ونحيب ... لا تملّى على الأمين النّجيب فجعتنى المنون بالفارس المعلم يوم الهياج والتثويب «6» عصمة الناس والمعين على الدّهر وغيث المحروم والمحروب «7» قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب «8» وقالت أيضا ثرثيه: وفجّعنى فيروز لا درّ درّه ... بأبيض تال للكتاب منيب

ترجمة عاتكة بنت زيد بن عمرو زوجة عمر

رءوف على الأدنى غليظ على العدا ... أخى ثقة في النائبات نجيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريع إلى الخيرات غير قطوب [ترجمة عاتكة بنت زيد بن عمرو زوجة عمر] وعاتكة هذه: هى أخت سعيد بن زيد أحد العشرة الذين شهد لهم النبى صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكانت تحت عبد الله بن أبى بكر، فأصابه سهم في غزوة الطائف فمات منه، فتزوّجها عمر رضي الله عنه فقتل عنها، فتزوجها الزبير ابن العوام فقتل عنها؛ فكان علىّ رضي الله عنه يقول: من أحبّ الشهادة الحاضرة فليتزوّج بعاتكة! ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما يزع الله بالسّلطان، أكثر مما يزع بالقرآن «1» . سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عىّ بيانا؛ وأنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال، قاله في أول خلافته وقد صعد المنبر وأرتج عليه «2» . وكتب إلى على رضي الله عنه وهو محصور: أما بعد، فقد بلغ السّيل الزّبى، وجاوز الحزام الطّبيين «3» ، وطمع فىّ من كان لا يدفع عنه نفسه، ولم يعجزك كلئيم، ولم يغلبك كمغلّب «4» ؛ فأقبل إلىّ، معى كنت أو علىّ، على أىّ أمريك أحببت. فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلى ... وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق وهذا البيت للممزّق العبدى، وبه سمى الممزّق، واسمه شأس، وإنما تمثل به عثمان رضي الله عنه؛ وخذّاق أهل النظر يدفعون هذا، ويستشهدون على فساده بأحاديث تناقضه ليس هذا موضعها.

قالوا: وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله أن يسعى في أمره علىّ، وعلىّ أتقى لله أن يسعى في أمر عثمان، وهذا من قوله عليه السلام: أشقى الناس من قتله نبى أو قتل نبيّا. ومن كلام عثمان رضي الله عنه وأكرم نزله، وقد تنكر له الناس: أمر هؤلاء القوم رعاع عير، تطأطأت لهم تطأطأ الدلاء وتلددت لهم تلدد المضطر، رأيتهم ألحف إخوانا، وأوهمنى الباطل لهم شيطانا. أجررت المرسون رسنه، وأبلغت الراتع مسعاته، فتفرقوا علىّ فرقا ثلاثا، فصامت صمته أنفذ من صول غيره، وشاهد أعطانى شاهده ومنعنى غائبه، ومتهافت في فتنة زيّنت في قلبه، فأنا منهم بين ألسن لداد، وقلوب شداد، عذيرى الله منهم، ألا ينهى عالم جاهلا، ولا ينذر حليم سفيها؟ والله حسبى وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. سئل الحكم بن هشام فقال: كان والله خيار الخيرة. أمير البررة، قتيل الفحرة، منصور النصرة، مخذول الخذلة، مقتول القتلة. ونظير البيت الذى أنشده قول صخر الجعد: فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلى ... فإن منايا القوم أكرم من بعض قال المتوكل: أتيت بأسارى، فسمعت امرأة منهم تقول: أمير المؤمنين سما إلينا ... سموّ الليث أخرجه العريف فإن نسلم فعون الله نرجو ... وإن نقتل فقاتلنا شريف وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يعرف لعثمان شعر، وأنشد له بعضهم: غنى النفس يغنى النفس حتى يكفّها ... وإن عضّها حتّى يضرّ بها الفقر وما عسرة- فاصبر لها إن تتابعت- ... بباقية إلّا سيتبعها يسر وقول عثمان رضي الله عنه فيما روى: «ولم يغلبك كمغلّب» من قول امرىء القيس:

ومن كلام على بن أبى طالب رضي الله عنه

فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب وقال أبو تمام وذكر الخمر: وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت، كذلك قدرة الضّعفاء ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخّر التوبة لطول الأمل. ويقول فى الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطى منها لم يشبع، وإن منح لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتى.، ويبتغى الزيادة فيما بقى، ينهى ولا ينتهى، ويأمر بما لا يأتى، يحبّ الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم؛ يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له، إن سقم ظلّ نادما، وإن صحّ أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفى، ويقنط إذا ابتلى، تغلبه نفسه على ما يظنّ، ولا يغلبها على ما يستيقن، ولا يثق من الرزق بما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه، إن استغنى بطروفتن، وإن افتقر قنط وحزن، فهو من الذّنب والنعمة موقر «1» ، يبتغى الزيادة ولا يشكر، ويتكلّف من الناس ما لم يؤمر، ويضيع من نفسه ما هو أكثر، ويبالغ إذا سأل، ويقصّر إذا عمل، يخشى الموت، ولا يبادر الفوت، يستكثر من معصية غيره ما يستقلّ أكثره من نفسه؛ ويستكثر من طاعته ما يستقله من غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، اللّغو مع الأغنياء أحبّ إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره، وهو يطاع ويعصى، ويستوفى ولا يوفى. وسئل رضي الله عنه عن مسألة فدخل مبادرا، ثم خرج في حذاء ورداء، وهو يتبسّم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سئلت عن مسألة كنت فيها كالسّكة المحماة «2» ! فقال: إنى كنت حاقنا ولا رأى لحاقن «3» ، ثم أنشأ يقول:

وصف ضرار الصدائي لمعاوية عليا

إذا المشكلات تصدّين لى ... كشفت حقائقها بالنّظر وإن برقت فى مخيل الصوا ... ب عمياء لا تجتليها الذكر «1» مقنعة بأمور الغيوب ... وضعت عليها صحيح الفكر لسانا كشقشقة الأرحبىّ ... أو كالحسام اليمانى الذّكر «2» وقلبا إذا استنطقته العيون ... أمرّ عليها بواهى الدرر «3» ولست بإمّعة في الرّجال ... أسائل عن ذا وذا ما الخبر «4» ولكننى ذرب الأصغرين ... أبيّن مع ما مضى ما غبر «5» [وصف ضرار الصدائي لمعاوية عليا] وقال معاوية رضي الله عنه لضرار الصّدائى: يا ضرار، صف لى عليّا، فقال: أعفنى يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، فقال: أما إذ أذنت فلا بدّ من صفته: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا «6» ، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدّمعة، طويل الفكرة، يقلب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن- مع تقريبه إيّانا، وقربه منا- لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوىّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضا على لحيته يتململ تململ السليم «7» ، ويبكى بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا إليك

علي ع يرثي خباب ابن الأرت

عنّى! غرّى غيرى، ألى نعرّضت، أم إلىّ تشوّفت؟ هيهات! قد باينتك ثلاثا، لا رجعة لى عليك؛ فعمرك قصير، وخطرك حقير، وخطبك يسير؛ آه من قله الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق! فبكى معاوية حتى أخضلت دموعه لحيته؛ وقال: رحم الله أبا الحسن! فلقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها! وقال علىّ رضوان الله عليه: رحم الله عبدا سمع فوعى، ودعى إلى الرشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا «1» ، وراقب ربّه، وخاف ذنبه، وقدّم خالصا، وعمل صالحا، واكتسب مذخورا، واجتنب محذورا، ورمى غرضا، وكابر هواه، وكذّب مناه، وحذر أجلا، ودأب عملا، وجعل الصبر رغبة حياته، والتّقى عدّة وفاته، يظهر دون ما يكتم، ويكتفى بأقلّ مما يعلم، لزم الطريقة الغرّاء، والمحجّة البيضاء، واغتنم المهل، وبادر الأجل، وتزوّد من العمل. [علي ع يرثي خباب ابن الأرت] ولما رجع رضي الله عنه من صفّين، فدخل أوائل الكوفة إذا قبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: خبّاب بن الأرتّ «2» ، فوقف عليه، وقال: رحم الله خبّابا! أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلى في جسمه أحوالا، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا. [علي ع أمام القبور] ومضى فإذا هو بقبور، فوقف عليها، وقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وبكم- عما قليل- لاحقون؛ اللهمّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنا وعنهم بعفوك! طوبى

علي ع يصف الدنيا

لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف. ثم التفت رضي الله عنه إلى أصحابه، فقال: أما إنهم لو تكلّموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التّقوى. [علي ع يصف الدنيا] وذمّ رجل الدنيا بحضرة علىّ رضي الله عنه، فقال: دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مهبط وحى الله، ومصلّى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمّها، وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، وذكّرت بسرورها السرور، وببلائها البلاء، ترغيبا وترهيبا، فيأيّها الذامّ لها، المعلّل نفسه بغرورها، متى خدعتك الدّنيا؟ أم بماذا استذمّت إليك «1» ، أبمصرع آبائك في البلى؟ أم بمضجع أمهاتك في الثرى، كم مرّضت بكفيّك، وكم عللت بيديك، تطلب له الشفاء، وتستوصف الأطباء، غداة لا ينفعه بكاؤك، ولا يغنى دواؤك. [من قصار كلام علي ع] فقر من كلامه رضي الله عنه: [البشاشة فخ المودة. والصبر قبر المغبون. والغالب بالظلم مغلوب. والحجر المغصوب بالدار رهن بخرابها. وما ظفر من ظفرت به الأيام. فسالم تسلم] . رأى الشيخ خير من مشهد الغلام «2» . الناس أعداء ما جهلوا. بقية عمر المؤمن لا ثمن لها، يدرك بها ما أفات [ويحيى ما أمات] . نقل هذا الكلام بعض أهل العصر، وهو أبو الفتح علىّ بن محمد البستى «3» .

بقية العمر عندى ما لها ثمن ... وإن غدا وهو محبوب من الثمن يستدرك المرء فيها ما أفات ويحيى ما أمات ويمحو السوء بالحسن الدنيا بالأموال، والآخرة بالأعمال. لا تخافنّ إلا ذنبك، ولا ترجونّ إلا ربك. وجّهوا آمالكم إلى من تحبه قلوبكم. الناس من خوف الذل في الذل. من أيقن بالخلف جاد بالعطية. بقيّة السيف أنمى عددا، وأنجب ولدا- وقد تبينت صحّة ما قال في بنيه وبنى المهلب- إنّ من السكوت ما هو أبلغ من الجواب. الصبر مطيّة لا تكبو، وسيف لا ينبو «1» . خير المال ما أغناك، وخير منه ما كفاك، وخير إخوانك من واساك، وخير منه من كفاك شره. وقال بعض أهل العصر ما يشاكل هذا وهو أبو الحسن محمد بن لنكك البصرىّ: عدّيا في زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم أبو الطيب: إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه. قيمة كلّ امرىء ما يحسن. ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هذه الكلمة في كتاب البيان فقال: فلو لم نقف من هذا الكتاب إلّا على هذه الكلمة لوجدناها شافية، كافية، ومجزية مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، غير مقصّرة عن الغاية؛ وأفضل الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه ظاهرا في لفظه، وكأنّ الله قد ألبسه من ثياب الجلالة، وغشّاه من نور الحكمة، على حسب نيّة صاحبه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع،

دعاء علي ع في الحروب

بعيدا من الاستكراه، منزّها عن الاختلال، مصونا عن التكلف؛ صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصّلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله عز وجل من التوفيق، ومنحها من التّأييد، ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة «1» . [دعاء علي ع في الحروب] ومن دعائه رضي الله عنه في حروبه: اللهم أنت أرضى للرضا، وأسخط للسّخط، وأقدر على أن تغيّر ما كرهت، وأعلم بما تقدر، لا تغلب على باطل، ولا تعجز عن حق، وما أنت بغافل عما يعمل الظالمون. [من شعر علي ع] وقال على رضي الله عنه: لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما فيموردها في الصّف حتى تردها ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما جزى الله قوما قاتلوا في لقائهم ... لدى الروع قوما ما أعزوأ كرما وأطيب أخبارا وأفضل شيمة ... إذا كان أصوات الرجال تغمغما «2» حضين الذى ذكره هو: أبو ساسان الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشى وكان صاحب رايته يوم صفّين. ويروى عنه أنه قال بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها: أرى علل الدنيا علىّ كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وإنّ الذى دون الممات قليل وإنّ افتقادى فاطما بعد أحمد ... دليل على ألا يدوم خليل

ولما قتل عمرو بن عبد ودّ سقط فانكشفت عورته «1» ، فتنحّى عنه وقال: آلى ابن عبد- حين شدّ- أليّة ... وحلفت فاستمعوا من الكذّاب «2» ألّا بفرّ ولا يملل فالتقى ... أسدان يضطربان كلّ ضراب «3» اليوم يمنعنى الفرار حفيظتى ... ومصمّم في الرّأس ليس بناب «4» أعرضت حين رأيته متقطّرا ... كالجذع بين دكادك وروابى «5» وعففت عن أثوابه ولو اننى ... كنت المقطّر بزّنى أثوابى «6» نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بصواب «7» لا تحسبنّ الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب فى أبيات غير هذه، وبعض الرواة ينفيها عن على رضي الله عنه. وعمرو هذا هو: ابن عبدودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى، وكان قد جزع المذاد، وهو موضع حفر فيه الخندق يوم الأحزاب، وفي ذلك يقول الشاعر: عمرو بن ودّ كان أول فارس ... جزع المذاد وكان فارس يليل «8» ولما صار مع المسلمين في الخندق دعا [إلى] البراز، وقال: ولقد بجحت من الندا ... ء بجمعهم هل من مبارز «9» ووقفت إذ نكل الشجا ... ع بموقف البطل المناجز «10»

إنى كذلك لم أزل ... متسرّعا نحو الهزاهز «1» إنّ السماحة والشجا ... عة في الفتى خير الغرائز «2» فبرز على بن أبى طالب رضي الله عنه، فقال: يا عمرو! إنك عاهدت الله لقريش ألّا يدعوك أحد إلى خلّتين إلا أخذت إحداهما، فقال: أجل! قال: فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك، قال: فإنى أدعوك إلى المبارزة، فقال: يا ابن أخى ما أحبّ أن أقتلك! قال على: لكنى والله أحبّ أن أقتلك، فحمى عمرو، فاقتحم عن فرسه وعرقبه «3» ثم أقبل إلى على: فتجاولا كغمامتين تكنّفت ... متنيهما ريحا صبا وشمال «4» فى موقف كادت نفوس كماته ... تبتز قبل تورّد الآجال «5» وعلت بينهما غبرة سترتهما فلم يرع المسلمين إلا التكبير؛ فعلموا أن عليّا قتله. ولما قتل عمرو جاءت أخته فقالت: من قتله؟ فقيل: على بن أبى طالب، فقالت: كفء كريم! ثم انصرفت وهي تقول: لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكى عليه آخر الأبد لكنّ قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديما بيضة البلد من هاشم في ذراها وهي صاعدة ... إلى السماء تميت الناس بالحسد قوم أبى الله إلا أن يكون لهم ... مكارم الدّين والدّنيا بلا أمد يا أم كلثوم بكّيه ولا تدعى ... بكاء معولة حرّى على ولد أم كلثوم: بنت عمرو بن عبدودّ. و «بيضة البلد» تمدح به العرب

وتذمّ؛ فمن مدح به جعله أصلا، كما أن البيضة أصل الطائر. ومن ذم به أراد أن لا أصل له. قال الراعى يهجو عدىّ بن الرقاع العاملى «1» : يا من توعّدنى جهلا بكثرته ... متى تهددنى بالعزّ والعدد أنت امرؤ نال من عرضى وعزته ... كعزة العير يرعى تلعة الأسد «2» لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يابن الرّفاع ولكن لست من أحد تأبى قضاعة أن ترضى لكم نسبا ... وابنا نزار؛ فأنتم بيضة البلد وقال أبو عبيدة: عاملة بن عدى بن الحارث بن مرة بن أد [بن زياد] ابن يشجب، يطعن في نسبه من قحطان، ويقال: هو عاملة بن معاوية بن قاسط ابن أهيب؛ فلذلك قال الراعى هذا. ويقال: إن جندل بن الراعى قالها وقد قال يحيى بن أبى حفصة الأموى في عاملة: ولسنا نبالى نأى عاملة التى ... أجدّبها من نحو بصرى انحدارها تدافعها الأحياء حتى كأنها ... ثياب بدا للمشترين عوارها قذفنا بها لمّا نأت قذف حاذف ... بسود حصى خفّت عليه صغارها ويشبه قول على رضي الله عنه «وعففت عن أثوابه» قول عنترة بن شداد العبسى: هلّا سألت الخيل يابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمى يخبرك من شهد الوقيعة أننى ... أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم وقال حبيب بن أوس الطائى: إنّ الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب «3»

[رجع إلى كلام أهل البيت]

والمجد يندب بهجته، ومهابط الوحى والرسالة تحنى ظهورها أسفا، ومآقى الإمامة والوصية والرسالة تذرى دموعها لهفا؛ وذلك أن حادث قضاء الله استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروءة. [رجع إلى كلام أهل البيت] ووقع بين الحسن ومحمد بن الحنفيّة «1» لحاء، ومشى الناس بينهما بالنّمائم، فكتب إليه محمد بن الحنفية: أمّا بعد فإن أبى وأباك علىّ بن أبى طالب؛ لا تفضلنى فيه ولا أفضلك، وأمى امرأة من بنى حنيفة، وأمّك فاطمة الزّهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ملئت الأرض بمثل أمى لكانت أمّك خيرا منها؛ فإذا قرأت كتابى هذا فأقدم حتى تترضّانى، فإنك أحقّ بالفضل منى. وخطب الحسين بن علىّ رضوان الله عليهما غداة اليوم الذى استشهد فيه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه؛ ثم قال: يا عباد الله، اتّقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لو بقيت على أحد [أو بقى عليها أحد] لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، وأولى بالرّضاء، [وأرضى] بالقضاء؛ غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهرّ «2» ، منزل تلعة، ودار قلعة «3» ؛ فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتّقوا الله لعلكم تفلحون.

وكان لمعاوية بن أبى سفيان عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من أمور الناس وقريش، فكتب إليه: إنّ الحسين بن علىّ أعتق جارية له وتزوّجها؛ فكتب معاوية إلى الحسين: من أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن علىّ. أمّا بعد، فإنه بلغنى أنك تزوّجت جاريتك، وتركت أكفاءك من قريش، ممّن تستنجبه للولد، وتمجد به في الصّهر، فلا لنفسك نظرت، ولا لولدك انتقيت. فكتب إليه الحسين بن على: أمّا بعد، فقد بلغنى كتابك، وتعييرك إيّاى بأنى تزوّجت مولاتى، وتركت أكفائى من قريش، فليس فوق رسول الله منتهى في شرف، ولا غاية في نسب؛ وإنما كانت ملك يمينى، خرجت عن يدى بأمر التمست فيه ثواب الله تعالى؛ ثم ارتجعتها على سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، ووضع عنّا به النقيصة؛ فلا لوم على امرىء مسلم إلّا في أمر مأثم، وإنما اللوم لوم الجاهلية. فلما قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد فقرأه، وقال: لشدّ ما فخر عليك الحسين! قال: لا، ولكنها ألسنة بنى هاشم الحداد التي تفلق الصّخر، وتغرف من البحر! والحسين- رضي الله عنه! - هو القائل: لعمرك إنّنى لأحبّ دارا ... تحلّ بها سكينة والرّباب أحبّهما وأبذل كلّ مالى ... وليس للائم عندى عتاب سكينة: ابنته، والرباب: أمّها، وهي بنت امرىء القيس [بن الجرول] الكلبية. وفي سكينة يقول عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى كذبا عليها «1» :

قالت سكينة والدموع ذوارف ... تجرى على الخدّين والجلباب ليت المغيرىّ الذى لم أجزه ... فيما أطال تصيّدى وطلابى كانت تردّ لنا المنى أيّامنا ... إذ لا نلام على هوى وتصاب خبّرت ما قالت فبتّ كأنما ... يرمى الحشى بنوافذ النّشّاب أسكين ما ماء الفرات وطيبه ... منّى على ظمأ وفقد شراب بألذّ منك، وإن نأيت، وقلّما ... ترعى النساء أمانة الغيّاب إن تبذلى لى نائلا أشفى به ... داء الفؤاد فقد أطلت عذابى وعصيت فيك أقاربى وتقطعت ... بينى وبينهم عرى الأسباب فتركتنى لا بالوصال ممتّعا ... منهم، ولا أسعفتنى بثواب فقعدت كالمهريق فضلة مائه ... فى حرّ هاجرة للمع سراب وكانت سكينة من أجمل نساء زمانها وأعقلهنّ، وكان مصعب بن الزبير قد جمع بينها وبين عائشة بنت طلحة بن عبيد الله؛ فلما قتل مصعب قالت سكينة: فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذى ... يرى الموت إلا بالسيوف حراما وقبلك ما خاض الحسين منيّة ... إلى القوم حتى أو ردوه حماما وقال على بن الحسين «1» رحمه الله: لو كان الناس يعرفون جملة الحال فى فضل الاستبانة، وجملة الحال في فضل التبيين، لأعربوا عن كل ما بتلجلج فى صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى

حالهم، على أنّ إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدّة، والفكرة القصيرة المدّة، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبّت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم. وقال رضي الله عنه: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّ العقدة الوثيقة، وأقلّ ما فيه أن تكون به المغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة. ومن دعائه: اللهم ارزقنى خوف الوعيد، وسرور رجاء الموعود، حتى لا أرجو إلا ما رجّيت، ولا أخاف [إلا] ما خوّفت. وحجّ هشام بن عبد الملك، أو الوليد أخوه، فطاف بالبيت وأراد استلام الحجر فلم يقدر، فنصب له منبر فجلس عليه؛ فبينا هو كذلك إذ أقبل علىّ بن الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنه في إزار ورداء، وكان أحسن الناس وجها، وأعطرهم رائحة، وأكثرهم خشوعا، وبين عينيه سجّادة «1» ، كأنها ركبة عنز، وطاف بالبيت، وأتى ليستلم الحجر، فتنحّى له الناس هيبة وإجلالا، فغاظ ذلك هشاما؛ فقال رجل من أهل الشام: من الّذى أكرمه الناس هذا الإكرام، وأعظموه هذا الإعظام؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يعظم في صدور أهل الشام؛ فقال الفرزدق وكان حاضرا: هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا النقيّ التقىّ الطاهر العلم هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهى الكرم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم «2»

فى كفّه خيزران ريحه عبق ... فى كفّ أروع في عرنينه شمم «1» يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم مشتقّة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم «2» ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم «3» ينجاب نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم «4» حمّال أثقال أقوام إذا اقترحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا الله فضّله قدما وشرّفه ... جرى بذاك له في لوحه القلم من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم عمّ البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغيابة والإملاق والظّلم «5» كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما العدم «6» سهل الخليقة لا تخشى بوارده ... تزينه الاثنتان الحلم والكرم لا يخلف الوعد ميمون بغرّته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم «7» ما قال «لا» قطّ إلا في تشهّده ... لولا التشهّد كانت لاءه نعم من معشر حبّهم دين، وبغضهم ... كفر، وقربهم منجى ومعتصم يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويستربّ به الإحسان والنّعم «8» مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ... فى كل بدء ومختوم به الكلم إن عدّ أهل التّقي كانوا أئمّتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... الأسد أسد الشّرى والبأس محتدم «1» يأبى لهم أن يحلّ الذّمّ ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالنّدى هضم «2» لا ينقص العسر بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا أىّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأوليّة هذا أو له نعم «3» من يعرف الله يعرف أوليّته ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم وقد روى أن الحزين الكنانى وفد على عبد الله بن عبد الملك بن مروان وهو أمير على مصر فأنشده قصيدة منها: لما وقفت عليه في الجموع ضحى ... وقد تعرّضت الحجّاب والخدم حيبته بسلام وهو مرتفق ... وضجّة القوم عند الباب تزدحم «4» فى كفه خيرزان....- والبيت الذى يليه. ويقال: إنها لداود بن سلم في قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وهو الذى يقول فيه الأخطل: ولقد غدوت على التّجار بمسمح ... هرّت عواذله هرير الأكلب «5» لذّ يقبّله النعيم، كأنما ... مسحت ترائبه بماء مذهب «6» لبّاس أردية الملوك تروقه ... من كل مرتقب عيون الرّبرب «7» ينظرن من خلل السّتور إذا بدا ... نظر الهجان إلى الفنيق المصعب «8»

ويقال: بل قالها في على بن الحسين اللّعين المنقرى، وسمى اللعين لأن عمر سمعه ينشد شعرا والناس يصلّون، فقال: من هذا اللعين؟ فعلق به هذا الاسم «1» وليقله من شاء، فقد أحسن ما شاد وأجاد وزاد «2» . وقال ذو الرمة في بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى: من آل أبى موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان عاينّ بازيا «3» فما يعرفون الضّحك إلّا تبسّما ... ولا ينبسون القول إلا تناجيا «4» وما الفحش منه يرهبون، ولا الخنا ... عليه، ولكن هيبة هي ماهيا فتى السّنّ، كهل الحلم، يسمع قوله ... يوازن أدناه الجبال الرّواسيا ومن أجود ما للمحدثين في ذلك قول أبى عبادة البحترى في الفتح ابن خاقان: ولما حضرنا سدّة الإذن أخّرت ... رجال عن الباب الذى أنا داخله فأفضيت من قرب إلى ذى مهابة ... أقابل بدر التّم حين أقابله بدا لى محمود السجيّة شمّرت ... سرابيله عنه وطالت حمائله «5» كما انتصب الرّمح الرّدينىّ ثقّفت ... أنابيبه واهتزّ للطعن عامله «6» وكالبدر وافته لتمّ سعوده ... وتمّ سناه واستهلت منازله فسلّمت فاعتاقت جنانى هيبة ... تنازعنى القول الذى أنا قائله «7»

إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما ... لديه لأضحى حاتم وهو عاذله فلما تأمّلت الطّلاقة وانثنى ... إلىّ ببشر آنستنى مخايله «1» دنوت فقبّلت النّدى من يد امرىء ... جميل محيّاه سباط أنامله «2» صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقّت كما رقّ النّسيم شمائله ووقعت حرب بالجزيرة بين بنى تغلب، فتولى الإصلاح بينهم الفتح بن خاقان فقال البحترى فيما تعلّق بعضه بذكر الهيبة: بنى تغلب أعزز علىّ بأن أرى ... دياركم أمست وليس لها أهل «3» خلت دمنة من ساكنيها وأوحشت ... مرابع من سنجار يهمى بها الوبل «4» إذا ما التقوا يوم الهياج تحاجزوا ... وللموت فيما بينهم قسمة عدل كفىّ من الأحياء لاقى كفيّه ... ومثل من الأقوام زاحفه مثل «5» إذا ما أخ جرّ الرماح انتهى له ... أخ لا بليد في الطّعان ولا وغل «6» تخوطهم البيض الرّقاق، وضمّر ... عتاق، وأنساب بها يدرك التّبل «7» بطعن يكبّ الدّارعين دراكه ... وضرب كما ترغو المخزّمة البزل «8» تجافى أمير المؤمنين عن التى ... علمتم، وللجانين في مثلها الثّكل «9»

وكانت يد الفتح بن خاقان عندكم ... يد الغيث عند الأرض أجدبها المحل «1» ولولاه طلّت بالعقوق دماؤكم ... فلا قود يعطى الأذلّ ولا عقل «2» تلافيت يا فتح الأراقم بعد ما ... سقاهم بأوحى سمّه الأرقم الصّلّ «3» وهبت لهم بالسّلم باقى نفوسهم ... وقد أشرفوا أن يستتمّهم القتل «4» أتاك وفود الشكر يثنون بالّذى ... تقدّم من نعماك عندهم قبل فلم أر يوما كان أكثر سوددا ... من اليوم ضمّتهم إلى بابك السّبل «5» تراءوك من أقصى السّماط فقصّروا ... خطاهم، وقد جازوا السّتور وهم عجل «6» ولمّا قضوا صدر السلام تهافتوا ... على يد بسّام سجيّته البذل إذا شرعوا في خطبة قطعتهم ... جلالة طلق الوجه جانبه سهل» إذا نكسوا أبصارهم من مهابة ... ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل «8» نصبت لهم طرفا حديدا، ومنطقا ... سديدا، ورأيا مثل ما انتضى النّصل «9» وسلّت سخيمات الصدور فعالك ... الكريم، وأبرا غلّها قولك الفصل «10» بك التأم الشّعب الذى كان بينهم ... على حين بعد منه، واجتمع الشّمل «11» فما برحوا حتى تعاطت أكفّهم ... قراك، فلا ضغن لديهم ولا ذحل «12» وجرّوا ذيول العصب تضفو ذيولها ... عطاء كريم ما تكاءده بخل «13»

وما عمّهم عمرو بن غنم بنسبة ... كما عمّهم بالأمس نائلك الجزل فمهما رأوا من غبطة في اصطلاحهم ... فمنك بها النّعمى جرت ولك الفضل عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط. وللطائيين [أبى تمام والبحترى] فى ذلك أشعار كثيرة مختارة، منها قول البحترى يحذّر عاقبة الحرب «1» : أما لربيعة الفرس انتهاء ... عن الزلزال فيها والحروب «2» وكانوا رقّعوا أيام سلم ... على تلك الضغائن والندوب «3» إذا ما الجرح رمّ على فساد ... تبيّن فيه تفريط الطبيب رزيّة هالك جلبت رزايا ... وخطب بات يكشف عن خطوب يشقّ الجيب ثمّ يجىء أمر ... يصغّر فيه تشقيق الجيوب وقبر عن أيامن برقعيد ... إذا هي ناحرت أفق الجنوب «4» يسحّ ترابه أبدا عليها ... عهادا من مراق دم صبيب «5» فهل لابنى عدىّ من رشيد ... يردّ شريد حلمهما العزيب «6» أخاف عليهما إمرار مرعى ... من الكلإ الذى عقباه توبى «7» وأعلم أنّ حربهما خبال ... على الدّاعى إليها والمجيب لعلّ أبا المعمّر يتّليها ... ببعد الهمّ والصّدر الرّحيب «8»

فكم من سؤدد قد بات يعطى ... عطية مكثر فيها مطيب أهيثم يابن عبد الله، دعوى ... مشير بالنصيحة أو مهيب «1» تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذنوب ... إذا قد من من الذّنوب «2» فللسّهم السديد أحبّ غبّا ... إلى الرامى من السهم المصيب «3» متى أحرزت نصر بنى عبيد ... إلى إخلاص ودّ بنى حبيب فقد أصبحت أغلب تغلبىّ ... على أيدى العشيرة والقلوب يناسب قوله: إذا ما الجرح رمّ على فساد قول أبى الطيب المتنبى لعلىّ بن إبراهيم التنوخى أحد بنى القصيص: فلا تغررك ألسنة موال ... تقلّبهن أفئدة أعادى «4» وكن كالموت لا يرثى لباك ... بكى منه، ويروى وهو صاد فإنّ الجرح ينغر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد «5» وفي هذه القصيدة: كأنّ الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلّا في فؤاد كأنّ البيت الأوّل من هذين ينظر إلى قول مسلم بن الوليد من طرف خفىّ ولو أنّ قوما يخلقون منيّة ... من بأسهم كانوا بنى جبريلا قوم إذا احمرّ الهجير من الوغى ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا «6»

وإنما أخذه [أبو الطيب] من قول منصور النميرى، وذكر سيفا: ذكر، برونقه الدّماء، كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع «1» وترى مساقط شفرتيه كأنها ... ملح تبدّد من وراء الدّراع وتراه معتمّا إذا جرّدته ... بدم الرّجال على الأديم الناقع «2» وكأنّ وقعته بجمجمة الفتى ... خدر المدامة أو نعاس الهاجع «3» أردت هذا البيت، وقول النميرى: وتراه معتّما إذا جرّدته يشير إليه قول أبى الطيب، وذكر سيفا: يبس النّجيع عليه فهو مجرّد ... من غمده وكأنما هو مغمد «4» ريان لو قذف الذى أسقيته ... لجرى من المهجات بحر مزبد «5» وبنو عبيد، وبنو حبيب- اللذان ذكرهما البحترى- هم: بنو عبيد ابن الحارث بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وحبيب بن الهجرس ابن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وفيهم حبيب بن حرقة بن تغلب بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، فلا أدرى أيهما أراد!

وقال البحترى: أسيت لاخوالى ربيعة أن عفت ... مصايفها منها، وأقوت ربوعها «1» بكرهى أن باتت خلاء ديارها ... ووحشا مغانيها، وشتّى جميعها «2» إذا افترقوا من وقعة جمعتهم ... دماء لأخرى ما يطلّ نجيعها «3» تذمّ الفتاة الرّود شيمة بعلها ... إذا بات دون الثّأر وهو ضجيعها «4» حميّة شعب جاهلىّ وعزّة ... كلابية أعيا الرجال خضوعها وفرسان هيجاء تجيش صدورهم ... بأحقادها حتى تضيق دروغها تقتّل من وتر أعزّ نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها «5» إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكّرت القربى ففاضت دموعها شواجر أرماح تقطّع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها «6» فكنت أمين الله مولى حياتها ... ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها وقال أبو تمام الطائى: مهلا بنى مالك لا تجلبنّ إلى ... حىّ الأراقم ذؤلول ابنة الرقم «7» لم يألكم مالك صفحا ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحيّ في فحم «8» أخرجتموه بكره من سجيّته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم «9» أو طأتموه على جمر العقوق، ولو ... لم يحرج الليث لم يخرج من الأجم «10»

لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين السيف والقلم لا تجعلوا البغى ظهرا إنه جمل ... من القطيعة يرعى وادى النّقم وقال أيضا: مهلا بنى عمرو بن غنم؛ إنكم ... هدف الأسنّة والقنا تتحطّم «1» ما منكم إلا مردّى بالحجى ... أو مبشر بالأحوذيّة مؤدم «2» عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب بن ... سعد سهمكم لا يمهم «3» خلقت ربيعة من لدن خلقت يدا ... جشم بن بكر كفّها والمعصم «4» تغزو فتغلب تغلب مثل اسمها ... وتسيح غنم في البلاد فتغنم وستذكرون غدا صنائع مالك ... إن جلّ خطب أو تدوفع مغرم «5» مالى رأيت ثراكم ببسالة ... مالى أرى أطوادكم تتهدّم؟ «6» ما هذه القربى التي لا تصطفى ... ما هذه الرحم التي لا ترحم؟ حسد القرابة للقرابة قرحة ... أعيت عوائدها وجرح أقدم «7» تلكم قريش لم تكن آباؤها ... تهفو ولا أجلامها تتقسّم «8» حتى إذا بعث النّبىّ محمد ... فيهم غدت شحناؤهم تتضرّم «9» عزبت عقولهم، وما من معشر ... إلّا وهم منه ألبّ وأحزم «10» لما أقام الوحى بين ظهورهم ... ورأوا رسول الله أحمد منهم

ومن الحزامة لو تكون حزامة ... ألّا تؤخّر من به تتقدّم «1» ومالك هو: ابن طوق «2» بن مالك بن عتاب بن زفر بن مرّة بن شريح ابن عبد الله بن عمرو بن كلثوم بن مالك [بن عتاب] بن سعد بن [زهير ابن] جشم بن بكر [بن وائل] بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وفيه يقول دعبل «3» يهجوه: الناس كلّهم يغدو لحاجته ... من بين ذى فرح منها ومهموم ومالك ظلّ مشغولا بنسبته ... يرمّ منها بناء غير مرموم «4» يبنى بيوتا خرابا لا أنيس بها ... ما بين طوق إلى عمرو ابن كلثوم والتكثير من المعنى المعترض، يزيح عن ثغرة الغرض «5» ، لكنى أجرى منه إلى حلبة الإجادة، وأقصد قصد الإفادة، ثم أعود حيث أريد. وقال ابن الخياط المكى- واسمه عبد الله بن سالم- فى باب الهيبة، فى مالك ابن أنس «6» الفقيه، رحمة الله عليه؛ وقيل: إن هذا من قول ابن المبارك:

يابى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان «1» أدب الوقار، وعزّ سلطان التّقى، ... فهو المهيب وليس ذا سلطان وقول الفرزدق: يكاد يمسكه عرفان راحته قد تجاذبه جماعة من الشعراء؛ قال أشجع بن عمرو السلمى «2» لجعفر البرمكى: لأشجع السلمى حبّذا أنت قادما ترد الشام ... فتختال بين أرحل عيرك إنّ أرضا تسرى إليها لو اسطاعت ... لسارت إليك من قبل سيرك وإليه أشار أبو تمام الطائى في قوله: ديمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث بها الثّرى المكروب لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب وفى هذه القصيدة في وصف الدّيمة، ومدح محمد بن عبد الملك الزيات «3» :

لذّ شؤيوبها وطاب فلو تس ... طيع قامت فعانقتها القلوب «1» فهو ماء يجرى وماء يليه ... وعزال تنشا وأخرى تصوب «2» أيّها الغيث حىّ أهلا بمغدا ... ك وعند السّرى وحين تؤوب «3» لأبى جعفر خلائق تحكيهنّ قد يشبه النجيب النجيب وأنشدها أبا جعفر بن الزيات، فقال: يا أبا تمام؛ والله إنك لتحلّى شعرك من جواهر لفظك وبدائع معانيك، ما يزيد حسنا على بهىّ الجواهر فى أجياد الكواعب؛ وما يدّخر لك شىء من جزيل المكافأة إلّا يقصر عن شعرك في الموازنة. وكان بحضرته رجل من الفلاسفة، فقال: هذا الفتى يموت شابا! فقيل له: من أين حكمت عليه بهذا؟ فقال: رأيت فيه من الحدّة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل عمره كما يأكل السيف المهند غمده! قال الصولى: مات وقد نيّف على الثلاثين. وقال في أبى دلف العجلى القاسم بن محمد بن عيسى «4» : تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوّذها بنغمة طالب تكاد مغانيه تهشّ عراصها ... فتركب من شوق إلى كل راكب «5»

رجع ما انقطع

وقال البحترى: لو أنّ مشتاقا تكلف فوق ما ... فى وسعه لمشى إليك المنبر وقال أبو الطيب المتنبى لبدر بن عمار: طربت مراكبنا فخلنا أنها ... لولا حياء عاقها رقصت بنا لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدّت محيية إليك الأغصنا رجع ما انقطع قال أعرابى لأبى جعفر محمد بن على بن الحسين «1» رضي الله عنه: هل رأيت الله حين عبدته؟ فقال: لم أكن لأعبد من لم أره، قال: فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواسّ، ولا يشبّه بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجوز فى القضيّات، ذلك الله الذى لا إله إلا هو. فقال الأعرابى: الله أعلم حيث يجعل رسالته. قال الجاحظ: قال محمد بن على: صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين؛ لأنّ صلاح شأن جميع الناس [فى التعايش و] التعاشر وهو ملء مكيال: ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل. قال الجاحظ: لم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير، ولا حظا من الصلاح؛ لأن الإنسان لا يتغافل عن شىء إلا وقد عرفه وفطن له، قال الطائى: ليس الغبىّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابى وقال ابن الرومى لأبى محمد بن وهب بن عبيد الله بن سليمان: تظلّ إذا نامت عيون ذوى العمى ... وإن حدّدوا زرقا إليك جواحظا «2»

تغاضى لهم وسنان، بل متواسنا، ... وتوقظهم يقظان بل متياقظا «1» [وأبو جعفر هذا هو الباقر] ، وكان أخوه زيد بن على رضي الله عنه ديّنا، شجاعا، ناسكا، من أحسن بنى هاشم عبارة، وأجملهم شارة. وكانت ملوك بنى أمية تكتب إلى صاحب العراق أن امنع أهل الكوفة من حضور زيد بن على؛ فإنّ له لسانا أقطع من ظبة السيف وأحدّ من شبا الأسنة «2» ، وأبلغ من السحر والكهانة «3» ، ومن كل نفث في عقدة. وقيل لزيد بن على: الصمت خير أم الكلام؟ فقال: قبّح الله المساكتة، ما أفسدها للبيان، وأجلبها للعىّ والحصر «4» ! والله للمماراة أسرع في هدم العىّ «5» من النار في يبس العرفج، ومن السيل إلى الحدور «6» . وقال له هشام بن عبد الملك: بلغنى أنّك تروم الخلافة وأنت لا تصلح لها لأنك ابن أمة؟ قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ابن أمة، وإسحاق ابن حرّة؛ فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم! فقال له: قم! فقال: إذا والله لا ترانى إلّا حيث تكره! فلما خرج من الدار قال: ما أحبّ أحد الحياة قط إلّا ذلّ، فقال له سالم مولى هشام: لا يسمعنّ هذا الكلام منك أحد، وكان زيد كثيرا ما ينشد: شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «7» منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد «8»

قد كان فى الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد وقد رويت هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وقد رويت لأخيه موسى. قال عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد: حدثنى رجل من بنى هاشم قال: كنا عند محمد بن على بن الحسين، وأخوه زيد جالس، فدخل رجل من أهل الكوفة فقال له محمد بن علىّ: إنك لتروى طرائف من نوادر الشعر، فكيف قال الأنصارى لأخيه؟ فأنشده: لعمرك ما إن أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه ولا بألدّ له نازع ... يعادى أخاه إذا ما نهاه ولكنّه غير مخلافة ... كريم الطبائع حلو نثاه «1» وإن سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه فوضع محمد يده على كتف زيد، فقال: هذه صفتك يا أخى؛ وأعيذك بالله أن تكون قتيل أهل العراق! وكانت بين جعفر بن الحسن بن الحسين بن على وبين زيد رضوان الله عليهم منازعة في وصيّة، فكانا إذا تنازعا انثال الناس عليهما ليسمعوا محاورتهما؛ فكان الرجل يحفظ على صاحبه اللّفظة من كلام جعفر، ويحفظ الآخر اللفظة من كلام زيد. فإذا انفصلا وتفرّق الناس عنهما قال هذا لصاحبه: قال في موضع كذا وكذا، وقال الآخر: قال في موضع كذا وكذا؛ فيكتبون ما قالا، ثم يتعلّمونه كما يتعلّم الواجب من الفرض، والنادر من الشعر، والسائر من المثل! وكانا أعجوبة دهرهما وأحدوثة عصرهما. ولما قتل زيدا يوسف بن عمر «2» وصلب جثّته بالكناسة «3» وبعث برأسه

مع شبّة بن عقال، وكلّف آل أبى طالب البراءة من زيد، وقام خطباؤهم بذلك؛ فكان أول من قام عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على رحمة الله عليه فأوجز فى كلامه ثم جلس، وقام عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب فأطنب- وكان شاعرا خطيبا لسنا ناسبا- فانصرف الناس وهم يقولون: ابن الطيار من أخطب الناس، فقيل لعبد الله بن الحسن في ذلك؛ فقال: لو شئت أن أقول لقلت، ولكن لم يكن مقام سرور، وإنما كان مقام مصيبة! وعبد الله هذا هو: أبو محمد وإبراهيم الخارجين على أبى جعفر المنصور، وهو القائل لابنه محمد أو إبراهيم: أى بنىّ! إنى مؤدّ حقّ الله في تأديبك، فأدّ إلىّ حقّ الله في الاستماع منى؛ أى بنىّ! كفّ الأذى، وارفض البذى «1» واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام، فإنّ للقول ساعات يضرّ فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصّواب، واحذر شورة الجاهل. وإن كان ناصحا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشّا؛ لأنه يرديك بمشورته؛ واعلم يا بنىّ أن رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما، ووجدت هواك يقظان، فإياك أن تستبدّ برأيك، فإنه حينئذ هواك؛ ولا تفعل فعلا إلا وأنت على يقين أنّ عاقبته لا ترديك، وأن نتيجته لا تجنى عليك. وهو القائل: إياك ومعاداة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم، أو معاداة لئيم. وكتب إلى صديق له: أوصيك بتقوى الله تعالى، فإنّ الله تعالى جعل لمن اتّقاه المخرج من حيث يكره، والرزق من حيث لا يحتسب وعبد الله هو القائل:

أنس حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهنّ حرام «1» يحسبن من لين الحديث دوانيا ... ويصدّهنّ عن الخنا الإسلام «2» قال: وهذا كما روى أنّ عبد الملك بن مروان استقبل عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى، فقال له: قد علمت قريش أنّك أطولها صبوة، وأبعدها توبة، ويحك! أمالك في نساء قريش ما يكفيك من نساء بنى عبد مناف «3» ؟ ألست القائل: نظرت إليها بالمحصّب من منى ... ولى نظر لولا التحرّح عارم «4» فقلت: أصبح أم مصابيح راهب ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم «5» بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم «6» فقال: يا أمير المؤمنين، فإنّ بعد هذا: طلبن الهوى حتى إذا ما وجدنه ... صدرن وهنّ المسلمات الكرائم «7» فاستحيا منه عبد الملك، وقضى حوائجه ووصله. وقال آخر في هذا المعنى: تعطّلن إلا من محاسن أوجه ... فهنّ حوال في الصفات عواطل «8» كواس عوار صامتات نواطق ... بعفّ الكلام باخلات بواذل «9» برزن عفافا واحتجبن تستّرا ... وشيب بحقّ القول منهنّ باطل «10»

فذو الحلم مرتاد وذو الجهل طامع ... وهنّ عن الفحشاء حيد نواكل «1» وقال العديل بن الفرخ فيما يتطرف طرفا من هذا المعنى: لعب النعيم بهنّ في أطلاله ... حتى لبسن زمان عيش غافل «2» يأخذن زينتهنّ أحسن ما ترى ... فإذا عطلن فهنّ غير عواطل وإذا خبأن خدودهن أريننى ... حدق المها وأخذن نبل القاتل «3» يرميننا لا يستترن بجنّة ... إلا الصّبا وعلمن أين مقاتلى «4» يلبسن أردية الشباب لأهلها ... ويجرّ باطلهنّ ذيل الباطل وتعرّض لعبد الله بن الحسن رجل بما يكره، فقال فيما أنشده ثعلب: أظنّت سفاها من سفاهة رأيها ... أن اهجوها لما هجتنى محارب «5» فلا وأبيها إننى بعشيرتى ... ونفسى عن ذاك المقام لراغب «6» وأنشد هذين البيتين أبو العباس المبرّد لرجل لم يسمّه في رجل يعرف بابن البعير، وقبلهما: يقولون أبناء البعير وما لهم ... سنام ولا في ذروة المجد غارب «7» وساير عبد الله بن الحسن أبا العباس السفاح بظهر مدينة الأنبار وهو ينظر إلى بناء قد بناه أبو العباس ويدور به، فأنشد عبد الله: ألم تر جوشنا لما تبنّى ... بناء نفعه لبنى بقيله يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله وكان أبو العباس له مكرما، ولحقّه معظّما؛ فتبسّم مغضبا، وقال: لو علمنا

لاشترطنا حقّ المسايرة! فقال عبد الله: بوادر الخواطر، وأغفال المسانح؛ والله ما قلتها عن رويّة، ولا عارضنى فيها فكر؛ وأنت أجلّ من أقال، وأولى من صفح، قال: صدقت؛ خذ في غير هذا. ولما قتل المنصور ابنه محمدا- وكان عبد الله في السجن- بعث برأسه إليه مع الربيع حاجبه؛ فوضع بين يديه، فقال: رحمك الله أبا القاسم فقد كنت من «الّذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب» ! ثم تمثل: فتى كان يحميه من الذلّ سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها ثم التفت إلى الربيع فقال له: قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا مدة، ومن نعيمك مثلها؛ والموعد الله تعالى! قال الربيع: فما رأيت المنصور قطّ أكثر انكسارا منه حين أبلغته الرسالة «1» . أخذ العباس بن الأحنف «2» هذا المعنى، وقيل: عمارة بن عقيل بن بلال ابن جرير» فقال: فإن تلحظى حالى وحالك مرة ... بنظرة عين عن هوى النفس تحجب تجد كلّ يوم مرّ من بؤس عيشتى ... يمرّ بيوم من نعيمك يحسب ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله اعترضته امرأة معها صبيان، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا امرأة محمد بن عبد الله، وهذان ابناه، أيتمهما سيفك، وأضرعهما خوفك «4» . فناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تصعّر لهما خدّك،

أو ينأى عنهما رفدك «1» ؛ ولتعطفك عليهما شوابك النسب، وأواصر الرّحم «2» فالتفت إلى الربيع، فقال: اردد عليهما ضياع أبيهما، ثم قال: كذا والله أحبّ أن تكون نساء بنى هاشم. وكان أهل المدينة لما ظهر محمد أجمعوا على حرب المنصور، ونصر محمد؛ فلما ظفر المنصور أحضر جعفر بن محمد بن على بن الحسين الصادق، فقال له: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربى، وقد رأيت أن أبعث إليهم من يغوّر عيونهم «3» ، ويجمّر نخلهم «4» . فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين؛ إنّ سليمان أعطى فشكر، وإنّ أيوب ابتلى فصبر، وإنّ يوسف قدر فغفر؛ فاقتد بأيّهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون، فقال أبو جعفر: إنّ أحدا لا يعلّمنا الحلم، ولا يعرّفنا العلم، وإنما قلت هممت، ولم ترنى فعلت؛ وإنك لتعلم أن قدرتى عليهم تمنعنى من الإساءة إليهم. وعزّى جعفر بن محمد رجلا، فقال: أعظم بنعمة في مصيبة جلبت أجرا وأفظع بمصيبة في نعمة أكسبت كفرا هذا كقول الطائى: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنّعم وكان جعفر بن محمد يقول: إنّى لأملق أحيانا فأتاجر الله بالصدقة فيربحنى. وقال جعفر رضي الله عنه: من تخلّق بالخلق الجميل وله خلق سوء أصيل فتخلّقه لا محالة زائل، وهو إلى خلقه الأوّل آيل، كطلى الذهب على النحاس ينسحق وتظهر صفرته للناس. وهذا كقول العرجى: يأيها المتحلّى غير شيمته ... ومن خلائقه الإقصار والملق «5»

ارجع إلى خلقك المعروف وارض به ... إنّ التخلق يأتى دونه الخلق «1» وكان يقول: ما توسّل إلىّ أحد بوسيلة هي أقرب إلىّ من يد سبقت منى إليه أتبعها أختها لتحسن ربّها وحفظها «2» ؛ لأنّ منع الأواخر يقطع لسان الأوائل. وقيل لجعفر رحمه الله: إنّ أبا جعفر المنصور لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إلّا الخشن، ولا يأكل إلا الجشب «3» . فقال: يا ويحه! مع ما مكّن له من السلطان، وجبى إليه من الخراج! قالوا: إنما يفعل ذلك بخلا وجمعا للمال. فقال: الحمد لله الذى حرمه من دنياه ما ترك له من دينه. انتهى. قال: ومن دعاء جعفر رضي الله عنه: اللهم إنك بما أنت أهل له من العفو أولى بما أنا أهل له من العقوبة. وكان عبد الله [بن معاوية بن عبد الله] بن جعفر عالما، ناسبا، وكان خطيبا مفوها، وشاعرا مجيدا، وكتب إلى بعض إخوانه: أما بعد، فقد عاقنى الشكّ في أمرك عن عزيمة الرّأى فيك، وذلك أنك ابتدأتنى بلطف عن غير خبرة؛ ثم أعقبتنى جفاء عن غير جريرة؛ فأطمعنى أوّلك فى إخائك، وأيأسنى آخرك عن وفائك؛ فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطّراحا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة؛ فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأى فيك؛ فاجتمعنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف، والسلام. وهو القائل: رأيت فضيلا كان شيئا ملفّعا ... فكشّفه التمحيص حتى بدا ليا «4»

فأنت أخى ما لم تكن لى حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا كلانا غنىّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا فلا زاد ما بينى وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديا فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أنّ عين السخط تبدى المساويا والقائل أيضا: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتّكل نبنى كما كانت أوائلنا ... تبنى ونفعل مثل ما فعلوا وهذا كقول عامر بن الطفيل، قال أبو الحسن على بن سليمان الأخفش: أنشدنى محمد الحسن بن الحرون لعامر بن الطفيل «1» : تقول ابنة العمرىّ: مالك بعد ما ... أراك صحيحا كالسليم المعذّب «2» فقلت لها: همّى الذى تعرفينه ... من الثّأر في حيّى زبيد وأرحب إن اغز زبيدا أغز قوما أعزّة ... مركّبهم في الحىّ خير مركب وإن أغز حيّى خثعم فدماؤهم ... شفاء وخير الثّأر للمتأوّب «3» فما أدرك الأوتار مثل محقّق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذّب «4»

وأسمر خطىّ وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوّب «1» وإنى وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السرّ منها والصّريح المهذّب فما سوّدتنى عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب ولكننى أحمى حماها، وأتقى ... أذاها، وأرمى من رماها بمنكب وقال أيضا يهنّىء بعض الهاشميين بإملاك «2» : زاد الله في نعمته، وبارك فى فواضله، وجميل نوافله؛ ونسأل الله- الذى قسم لكم ما تحبّون من السرور- أن يجنّبكم ما تكرهون من المحذور، ويجعل ما أحدثه لكم زينا، ومتاعا حسنا، ورشدا ثابتا، ويجعل سبيل ما أصبحت عليه، تماما لصالح ما سموت إليه؛ من اجتماع الشّمل، وحسن موافقة الأهل؛ ألّف الله ذلك بالصلاح، وتممه بالنجاح، ومدّ لك في ثروة العدد، وطيب الولد، مع الزيادة في المال، وحسن السلامة في الحال، وقرّة العين، وصلاح ذات البين. وهجا أبو عاصم محمد بن حمزة الأسلمى المدنى الحسن بن زيد بن الحسين «3» بن على ابن أبى طالب رحمة الله عليه، فقال: له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول فلما ولى الحسن المدينة أتاه متنكّرا في زى الأعراب، فقال: ستأتى مدحتى الحسن بن زيد ... وتشهد لى بصفّين القبور «4» قبور لم تزل مذ غاب عنها ... أبو حسن تعاديها الدهور قبور لو بأحمد أو علىّ ... يلوذ مجيرها حمى المجير هما أبواك من وضعا فضعه ... وأنت برفع من رفعا جدير

فقال: من أنت؟ قال: أنا الأسلمى. قال: ادن حيّاك الله! وبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وكان الحسن بن زيد قد عوّد داود بن سلم مولى بنى تيم أن يصله، فلما مدح داود جعفر بن سليمان بن على- وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعد- أغضبه ذلك «1» ، وقدم الحسن من حجّ أو عمرة، فدخل عليه داود بن سلم مهنئا، فقال: أنت القائل في جعفر بن سليمان بن على: وكنا حديثا قبل تأمير جعفر ... وكان المنى في جعفر أن يؤمّرا «2» حوى المنبرين الطاهرين كليهما ... إذا ما خطا عن منبر أمّ منبرا «3» كأن بنى حوّاء صفّوا أمامه ... فخيّر في أنسابهم فتخيّرا فقال داود: نعم، جعلنى الله فداك، فكنتم خيرة اختياره! وأنا القائل: لعمرى لئن عاقبت أو جدت منعما ... بعفو عن الجانى وإن كان معذرا «4» لأنت بما قدمت أولى بمدحة ... وأكرم فخرا إن فخرت وعنصرا هو الغرة الزهراء من فرع هاشم ... ويدعو عليا ذا المعالى وجعفرا «5» وزيد الندى والسبط سبط محمد ... وعمّك بالطّفّ الزكىّ المطهّرا وما نال منها جعفر غير مجلس ... إذا ما نفاه العزل عنه تأخرا «6» بحقكم نالوا ذراها وأصبحوا ... يرون به عزّا عليكم ومظهرا فعادله الحسن بن زيد إلى ما كان عليه، ولم يزل يصله ويحسن إليه إلى أن مات.

وقوله: «وإن كان معذرا» ، لأن جعفرا أعطاه على أبياته الثلاثة ألف دينار. ولما ولى الحسن بن زيد المدينة دخل عليه إبراهيم بن على بن هرمة، فقال له الحسن: يا إبراهيم؛ لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك، أو خوف ذمك، فقد رزقنى الله تعالى بولادة نبيه صلى الله عليه وسلم الممادح، وجنّبنى المقابح، وإنّ من حقه علىّ ألا أغضى على تقصير في حقّ وجب؛ وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدّا للخمر، وحدّا للسكر؛ ولأزيدنّ لموضع حرمتك بى، فليكن تركك لها لله عز وجل تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة، وهو يقول: نهانى ابن الرسول عن المدام ... وأدّبنى بآداب الكرام وقال لى أصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبّرى عنها وحبى ... لها حبّ تمكّن في عظامى أرى طيف الخيال علىّ خبثا ... وطيب العيش في خبث الحرام وكان إبراهيم منهوما في الخمر، وجلده خيثم بن عراك «1» صاحب شرطة المدينة لرباح بن عبد الله الحارثى في ولاية أبى العباس. ولما وفد على أبى جعفر المنصور ومدحه استحسن شعره ووصله، وقال له: سل حاجتك، قال: تكتب لى إلى عامل المدينة ألّا يحدّنى إذا أتى بى سكران فقال أبو جعفر: هذا حدّ من حدود الله تعالى لا يجوز أن أعطله، قال: فاحتل لى يا أمير المؤمنين! فكتب إلى عامل المدينة: «من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة، واجلد ابن هرمة ثمانين» . فكان الشّرط يمرّون به مطروحا في سكك المدينة، فيقولون: من يشترى مائة بثمانين؟! وقال موسى بن عبد الله «2» بن على بن أبي طالب:

إذا أنا لم أقبل من الدهر كلّ ما ... تكرّهت منه طال عتبى على الدّهر إلى الله كلّ الأمر في الخلق كلهم ... وليس إلى المخلوق شىء من الأمر تعودت مسّ الضر حتى ألفته ... وأسلمنى طول البلاء إلى الصبر ووسّع صدرى للأذى الأنس بالأذى ... وإن كنت أحيانا يضيق به صدرى وصيّرنى يأسى من الناس راجيا ... لسرعة لطف الله من حيث لا أدرى وموسى بن عبد الله هو القائل: تولّت بهجة الدنيا ... فكل جديدها خلق «1» وخان الناس كلّهم ... فما أدرى بمن أثق رأيت معالم الخيرا ... ت سدّت دونها الطرق فلا حسب ولا نسب ... ولا دين ولا خلق فلست مصدّق الأقوا ... م في شىء وإن صدقوا وكان المنصور حبسه لخروجه عليه مع أخويه، ثم ضربه ألف سوط، فما نطق بحرف واحد؛ فقال الربيع: عذرت هؤلاء الفساق في صبرهم؛ فما بال هذا الفتى الذى نشأ في النعمة والدّعة؟ فقال: إنّى من القوم الذين يزيدهم ... جلدا وصبرا قسوة السلطان وولدت هند بنت أبى عبيدة بن عبد الله بن زمعة موسى، ولها ستّون سنة، ولا يعلم امرأة ولدت بنت ستين سنة إلا قرشيّة. اجتاز على بن محمد العلوى بالجسر بحدثان «2» قتل عمر بن يحيى بن عبد الله ابن الحسين، وقاتله الحسين بن إسماعيل هناك قد جرّد رجلا للقتل، فلما رأت أمّ الرجل عليا سألته أن يشفع فيه، فمال علىّ إلى الحسين فأنشده:

قتلت أبرّ من ركب المطايا ... وجئتك أستلينك بالكلام وعزّ علىّ أن ألقاك إلّا ... وفيما بيننا حدّ الحسام ولكنّ الجناح إذا أصيبت ... قوادمه يرف على الإكام «1» فقال له: وما حاجتك؟ قال: العفو عن ابن هذه المرأة! فتركه. وسئل العباس بن الحسين عن رجل، فقال لجليسه: أطرب من الإبل على الحداء، ومن الثمل على الغناء. وذكر العباس رجلا فقال: ما الحمام على الأحرار، وطول السّقم في الأسفار، وعظم الدّين على الإقتار، بأشدّ من لقائه. وقال العباس بن الحسين للمأمون: يا أمير المؤمنين؛ إن لسانى ينطلق بمدحك غائبا، وقد أحببت أن يتزيّد عندك حاضرا، أفتأذن لى يا أمير المؤمنين في الكلام؟ فقال له: قل؛ فو الله إنك لتقول فتحسن، وتحضر فتزبّن، وتغيب فتؤتمن، فقال: ما بعد هذا كلام يا أمير المؤمنين! أفتأذن بالسكوت؟ قال: إذا شئت. وذكر رجلا بليغا فقال: ما شبّهت كلامه إلا بثعبان ينهال بين رمال، وماء يتغلغل بين جبال. وسمع المنتجع بن نبهان كلام العباس بن الحسين، فقال: هذا كلام يدلّ سائره على غابره «2» وأوله على آخره. وسأل المأمون العباس بن الحسين عن رجل؟ فقال: رأيت له حلما وأناة، ولم أسمع لحنا ولا إحالة «3» ؛ يحدّثك الحديث على مطاويه «4» ، وينشدك الشعر على مدارجه.

وكان المأمون يقول: من أراد أن يسمع لهوا بلا حرج فليسمع كلام العباس والعباس بن الحسين بن أشعر الهاشميين؛ وهو يعدّ في طبقة إبراهيم ابن المهدى، وهو القائل: أتاح لك الهوى بيض حسان ... سبينك بالعيون وبالشعور «1» نظرت إلى النحور فكدت تقضى ... وأولى لو نظرت إلى الخصور «2» وهو القائل أيضا: صادتك من بعض القصور ... بيض نواعم في الخدور حور تحور إلى صبا ... ك بأعين منهنّ حور «3» وكأنما بثغورهنّ ... جنى الرّضاب من الخمور «4» يصبغن تفّاح الخدو ... د بماء رمّان الصّدور وهو: العباس بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن على بن أبى طالب رضي الله عنه، وأم عبيد الله جدّة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عم محمد بن على أبى الخلفاء. وكان الرشيد والمأمون يقرّبان العباس غاية التقريب؛ لنسبه وأدبه؛ قال أبو دلف: دخلت على الرشيد وهو في طارمة على طنفسة «5» ومعه عليها شيخ جميل المنظر؛ فقال لى الرشيد: يا قاسم؛ ما خبر أرضك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خراب يباب، أخربها الأكراد والأعراب. فقال قائل: هذا آفة الجبل، وهو أفسده، فقلت: أنا أصلحه، قال الرشيد: وكيف ذلك؟ قلت: أفسدته وأنت علىّ وأصلحه وأنت معى! قال الشيخ: إن همته لترمى به من وراء سنّه

مرمى بعيدا؛ فسألت عن الشيخ فقيل: العباس بن الحسين، وكان أبو دلف ذلك الوقت صغير السنّ. ولقى موسى بن جعفر «1» رضي الله عنه محمد بن الرشيد الأمين بالمدينة وموسى على بغلة، فقال للفضل بن الربيع: عاتب هذا، فقال له الفضل: كيف لقيت أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طلبت عليها لم تسبق، وإن طلبت عليها تلحق، فقال: لست أحتاج أن أطلب، ولا إلى أن أطلب؛ ولكنها دابّة تنحط عن خيلاء الخيل، وترتفع عن ذلة العير «2» ، وخير الأمور أوسطها. أصيب على بن موسى بمصيبة، فصار إليه الحسن بن سهل، فقال: إنا لم نأتك معزّين؛ بل جئناك مقتدين؛ فالحمد لله الذى جعل حياتكم للناس رحمة، ومصائبكم لهم قدوة. وكان علىّ بن موسى الرضا رحمه الله قد ولّاه المأمون عهده، وعقد له الخلافة بعده، ونزع السّواد عن بنى العباس، وأمرهم بلباس الخضرة «3» ، ومات على بن موسى فى حياة المأمون بطوس، فشقّ [المأمون] قبر الرشيد ودفن فيه تبرّكا به، وكان الرشيد قد مات بطوس فدفن هناك «4» ؛ ولذلك قال دعبل بن على الخزاعى: اربع بطوس على قبر الزكىّ بها ... إن كنت تربع من دين على وطر «5» ما ينفع الرّجس من قرب الزكى، ولا ... على الزكىّ بقرب الرجس من ضرر هيهات كلّ امرىء رهن بما كسبت ... له يداه فخذ من ذاك أو فذر

قبران في طوس: خير الناس كلهم ... وقبر شرّهم، هذا من العبر وكان دعبل مداحا لأهل البيت، كثير التعصّب لهم، والغلوّ فيهم. وله المرثية المشهورة، وهي من جيد شعره، وأولها: مدارس آيات عفت من تلاوة ... ومنزل وحى مقفر العرصات «1» لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالبيت والتّعريف والجمرات ديار علىّ والحسين وجعفر ... وحمزة والسّجّاد ذى الثّفنات قفا نسأل الدّار التي خفّ أهلها ... متى عهدها بالصّوم والصلوات وأين الأولى شطّت بهم غربة النّوى ... أفانين في الآفاق مفترقات «2» أحبّ قصىّ الدار من أجل حبّهم ... وأهجر فيهم أسرتى وثقاتى وهي طويلة. ولما دخل المأمون بغداد أحضر دعبلا بعد أن أعطاه الأمان، وكان قد هجاه وهجا أباه، فقال: يا دعبل، من الحضيض الأوهد! فقال: يا أمير المؤمنين، قد عفوت عمن هو أشدّ جرما منى! أراد المأمون قول دعبل يهجوه: إنّى من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد يفتخر عليه بقتل طاهر بن الحسين بن مصعب ذى اليمينين أخاه محمدا، وطاهر مولى لخزاعة، فاستنشده هذه القصيدة التائيّة «3» ، فاستعفاه، فقال: لا بأس عليك، وقد رويتها، وإنما أحببت أن أسمعها منك، فأنشدها دعبل؛ فلما انتهى إلى قوله: ألم تر أنى مذ ثلاثين حجّة ... أروح وأغدو دائم الحسرات

ألفاظ لأهل العصر في أوصاف الأشراف لها في هذا الموضع موقع

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما ... وأيديهم من فيئهم صفرات «1» إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم ... أكفا عن الأوتار منقبضات وآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد غلّظ القصرات «2» بنات زياد في القصور مصونة ... وبنت رسول الله في الفلوات بكى المأمون، وجدّد له الأمان، وأحسن له الصّلة. والشىء يستدعى ما قرع بابه، وجذب أهدابه «3» ، قال سليمان بن قتيبة: مررت على أبيات آل محمد ... فلم أر ما عهدى بها يوم حلّت «4» فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلّت «5» وكانوا رجاء ثم عادوا رزية ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت «6» وإن قتيل الطّفّ من آل هاشم ... أذلّ رقاب المسلمين فذلّت «7» ويشبه قوله: «وكانوا رجاء ثم عادوا رزية» قول امرأة من العرب مرّت بالجسر بجثّة جعفر بن يحيى البرمكى مصلوبا «8» ؛ فقالت: لئن أصبحت نهاية في البلاء، لقد كنت غاية في الرجاء. ألفاظ لأهل العصر في أوصاف الأشراف لها في هذا الموضع موقع فلان من شرف العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ،

وفرع شامخ، ومجد باذخ «1» ، وحسب شادخ. فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين، قد ركّب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محل الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم. المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفى شرف الأرومة «2» بكرم الأبوّة والأمومة، وشرف الخؤولة والعمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة «3» ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابرا عن كابر، وأخذ الفخر عن أسرّة ومنابر: شرف تنقّل كابرا عن كابر ... كالرمح أنبوبا على أنوب «4» استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدى الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعه الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشّرف والسيادة «5» ، وتفقّأت بيضته عن سلالة الطّهارة «6» ، قد جذب القرآن بضبعه «7» وشقّ الوحى عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب، منتخب من أشرف العناصر، مرتضى من أعلى المحاتد «8» ، مؤثر من أعظم العشائر، قد ورث الشرف جامعا عن جامع، وشهد له نداء الصوامع، هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزّها، ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحنّ إلى المكارم بوراثة وخلق؛ يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نجره وطبعه، وهو الطيّب أصله وفرعه، الزّاكى بذره وزرعه، يجمع

إلى عزّ النّصاب، مزيّة الآداب، لا غرو أن يجرى الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النجيب فرعا مشيدا لأصله. له مع نباهة شرفه، نزاهة سلفه، ومع كرم أرومته وحزمه، مزية أدبه وعلمه، لن تخلف ثمرة غرس ارتيد لها من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها وأنماها؛ قد جمع شرف الأخلاق، إلى [شرف الأعراق، وكرم الآداب، إلى] كرم الأنساب؛ له في المجد أول وآخر، وفي الكرم تليد وطارف، وفي الفضل حديث وقديم؛ لا غرو أن يغمر فضله، وهو نجل الصّيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم «1» دوحة رسب عرقها، وسمق فرعها «2» ، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيّأت ظلالها، وتهدّلت ثمارها، وتفرّعت أغصانها، وبرد مقيلها. مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجم كلّ مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه بأفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق. ولسان الثناء بفضله نطوق. فلك المجد عليه يدور، ويد العلا إليه تشير. محلّه شاهق، ومجده باسق.

بدء الكتاب

بدء الكتاب قد تمّ ما استفتحت به التأليف، وجعلته مقدمة التصنيف، مع ما اقترن به، وانضاف إليه، والتفّ به، وانعطف عليه، ورأيت أن أبتدىء مقدّمات البلاغات بغرر التحاميد وأوصافها «1» ، وما يتعلّق بأثنائها وأطرافها. وقد قال سهل بن هارون في أول كتاب عمله: يجب على كلّ مبتدىء مقالة أن يبتدىء بحمد الله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها. ولأهل العصر: أولى ما فغر به الناطق فمه «2» وافتتح به كلمه، حمد الله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه. حمد الله خير ما ابتدىء به القول وختم، وافتتح به الخطاب وتمّم. وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله: إنّ الله جلّ ثناؤه لا يمثّل بنظير، ولا يغلب بظهير «3» ، جلّ عن موقع تحصيل أدوات البشر، ولطف عن ألحاظ خطرات الفكر، لا يحمد إلا بتوفيق منه يقتضى حمدا، فمتى تحصى نعماؤه، وتكافأ آلاؤه؟ عجز أقصى الشكر عن أداء نعمته، وتضاءل ما خلق في سعة قدرته؛ قدر فقدّر، وحكم فأحكم؛ وجعل الدّين جامعا لشمل عباده، والشرائع منارا على سبيل طاعته؛ يتبعها أهل اليقين به، ويحيد عنها أهل الشك فيه. أخذ أبو العباس قوله: «ولا يحمد إلا بتوفيق منه يقتضى حمدا» من قول محمود بن الحسن الوراق: إذا كان شكرى نعمة الله نعمة ... علىّ له في مثلها يجب الشّكر فكيف بلوغ الشّكر إلّا بفضله ... وإن طالت الأيام واتّصل العمر

إذا عمّ بالسّرّاء عم سرورها ... وإن مسّ بالضراء أعقبها الأجر فما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبرّ والبحر وإنما أخذه محمود من قول أبى العتاهية: أحمد الله فهو ألهمنى الحمد ... على الحمد والمزيد لديه كم زمان بكيت فيه فلمّا ... صرت في غيره بكيت عليه وقد اضطربت الرواية في هذين البيتين وقائلهما، وهذا البيت الثانى كثير «1» ، قال إبراهيم بن العباس: كذاك أيّامنا لا شكّ نندبها ... إذا تقضّت ونحن اليوم نشكوها آخر: وما مرّ يوم أرتجى فيه راحة ... فأفقده إلّا بكيت على أمس ومحمود هو القائل أيضا: تعصى الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في القياس بديع لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحب لمن أحبّ مطيع وكان كثيرا ما ينقل أخبار الماضين، وحكم المتقدّمين، فيحلّى بها نظامه، ويزيّن بها كلامه، وهو القائل: إنى وهبت لظالمى ظلمى ... وشكرت ذاك له على علمى ورأيته أسدى إلىّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمى رجعت إساءته عليه، ولى ... فضل فعاد مضاعف الجرم فكانما الإحسان كان له ... وأنا المسىء إليه في الزّعم ما زال يظلمنى وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم

[البيان والبلاغة]

وهو القائل: أرانى إذا ما ازددت مالا وثروة ... وخيرا إلى خير تزيّدت في الشرّ فكيف بشكر الله إن كنت إنما ... أقوم مقام الشّكر لله بالكفر بأىّ اعتذار أو بأيّة حجّة ... يقول الذى يدرى من الأمر ما أدرى إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خير من العذر [البيان والبلاغة] ولابن المعتز: البيان ترجمان القلوب، وصيقل العقول، ومجلّى الشبهة، وموجب الحجة، والحاكم عند اختصام الظنون، والمفرّق بين الشّكّ واليقين، وهو من سلطان الرّسل الذى انقاد به المصعب «1» ، واستقام الأصيد «2» ، وبهت الكافر، وسلّم الممتنع، حتى أشب الحقّ بأنصاره «3» ، وخلا ربع الباطل من عمّارة؛ وخير البيان ما كان مصرّحا عن المعنى؛ ليسرع إلى الفهم تلقّيه، وموجزا ليخفّ على اللفظ تعاطيه. وفضل القرآن على سائر الكلام معروف غير مجهول، وظاهر غير خفىّ؛ يشهد بذلك عجز المتعاطين، ووهن المتكلّفين «4» ، وتحيّر الكذابين، وهو المبلّغ الذى لا يمل، والجديد الذى لا يخلق «5» ، والحق الصادع، والنور الساطع، والماحى لظلم الضلال، ولسان الصّدق النافى للكذب، ونذير قدّمته الرحمة قبل الهلاك، وناعى الدنيا المنقولة، وبشير الآخرة المخلّدة، ومفتاح الخير، ودليل الجنة. إن أوجز كان كافيا، وإن أكثر كان مذكّرا، وإن أومأ «6» كان مقنعا، وإن أطال كان مفهما، وإن أمر فناصحا، وإن حكم فعادلا، وإن أخبر فصادقا، وإن بيّن فشافيا، سهل على الفهم، صعب على المتعاطى «7» ، قريب المأخذ،

تفسير الرماني للبلاغة

بعيد المرام، سراج تستضىء به القلوب، حلو إذا تذوّقته العقول، بحر العلوم، وديوان الحكم، وجوهر الكلم، ونزهة المتوسّمين، وروح قلوب المؤمنين، نزل به الرّوح الأمين على محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، فخصم الباطل، وصدع بالحق، وتألف من النّفرة، وأنقذ من الهلكة، فوصل الله له النصر، وأضرع به خدّ الكفر «1» . [تفسير الرماني للبلاغة] قال على بن عيسى الرمانى «2» : البلاغة ما حطّ التكلف عنه «3» ، وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه من القافية، بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج، مع قرب المتناول؛ وعذوبة اللفظ، مع رشاقة المعنى؛ وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء، وحسن الوصل، كحسن القطع، فى المعنى والسمع، وكانت كلّ كلمة قد وقعت في حقّها، وإلى جنب أختها، حتى لا يقال: لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى لا يكون فيه لفظ مختلف، ولا معنى مستكره؛ ثم ألبس بهاء الحكمة، ونور المعرفة، وشرف المعنى، وجزالة اللّفظ، وكانت حلاوته في الصدر وجلالته في النفس تفتّق الفهم، وتنثر دقائق الحكم، وكان ظاهر النفع، شريف القصد، معتدل الوزن، جميل المذهب، كريم المطلب، فصيحا في معناه، بيّنا في فحواه؛ وكلّ هذه الشروط قد حواها القرآن، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام.

ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن

ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن القرآن حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظلّه العميم، وصراطه المستقيم، وحجّته الكبرى، ومحجته الوسطى، وهو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذى من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنه ضلّ وهوى؛ فضائل القرآن لا تستقصى في ألف قرن، حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الجاهل، ويعمل العامل، ويتنبّه الساهى، ويتذكّر اللاهى، بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور؛ من فضائله أنه يقرأ دائما، ويكتب، ويملى، ولا يملّ. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن [إمامه، وتصوّر الموت أمامه، طوبى لمن جعل القرآن] مصباح قلبه، ومفتاح لبّه. من حق القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله. قال بعض الحكماء: الحكمة موقظة للقلوب من سنة «1» الغفلة، ومنقذة للبصائر من سكرة الحيرة، ومحيية لها من موت الجهالة، ومستخرجة لها من ضيق الضّلالة؛ والعلم دواء للقلوب العليلة، ومشحذ للأذهان الكليلة «2» ، ونور في الظلمة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسمير في الخلوة، ووصلة في المجلس، ومادّة للعقل، وتلقيح للفهم، وناف للعىّ المزرى بأهل الأحساب، المقصّر بذوى الألباب؛ أنطق الله سبحانه أهله بالبيان الذى جعله صفة لكلامه في تنزيله، وأيّد به رسله إيضاحا للمشكلات، وفصلا بين الشبهات؛ شرّف به الوضيع، وأعزّ به الذليل، وسوّد به المسود، من تحلّى بغيره فهو معطّل، ومن تعطّل منه فهو مغفّل، لا تبليه الأيام، ولا تخترمه الدهور، يتجدّد على الابتذال، ويزكو على الإنفاق؛ لله على ما منّ به على عباده الحمد والشّكر.

[أقوال في البلاغة]

[أقوال في البلاغة] [رأي عمرو بن عبيد في البلاغة] قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار، وبصّرك مواقع رشدك، وعواقب غيّك. قال السائل: ليس هذا أريد، قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يستمع، ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أريد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء فينا بكء» أى قلّة كلام «1» ؛ وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله، قال السائل: ليس هذا أريد، قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت، وسقطات الصّمت، قال: ليس هذا أريد، قال عمرو: يا هذا؛ فكأنت تريد تحبير اللفظ «2» فى حسن الإفهام، قال: نعم، قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله عزّ وجل في عقول المكلّفين، وتخفيف المؤونة عن المستمعين، وتزيين تلك المعانى في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة في الأذهان، رغبة في سرعة إجابتهم، ونفى الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة- كنت قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، واستوجبت من الله جزيل الثواب، فقيل لعبد الكريم بن روح الغفارى: من هذا الّذى صبر له عمرو هذا الصبر؟ قال: سألت عن ذلك أبا حفص الشمرى، فقال: ومن يجترىء عليه هذه الجرأة إلّا حفص بن سالم؟ وعمرو بن عبيد بن باب هو رئيس المعتزلة في وقته، وهو أوّل من تكلّم على المخلوق، واعتزل مجلس الحسن البصرى، وهو أول المعتزلة.

ودخل عمرو بن عبيد على أبى جعفر المنصور، فقال: عظنى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها؛ يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الأمر لو كان باقيا لأحد قبلك ما وصل إليك، ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد! قال: فبكى المنصور حتى بلّ ثوبه. ثم قال: حاجتك يا أبا عثمان! وكان المنصور لمّا دخل عليه طرح عليه طيلسانا، فقال: يرفع هذا الطيلسان عنى! فرفع، فقال أبو جعفر: لا تدع إتياننا! قال: نعم، لا يضمّنى وإياك بلد إلّا دخلت إليك، ولا بدت لى حاجة إلّا سألتك، ولكن لا تعطنى حتى أسألك، ولا تدعنى حتى آتيك، قال: إذا لا تأتينا أبدا! وقد روى مثل هذا لابن السماك مع الرشيد وقوله «لو كان هذا الأمر باقيا لأحد قبلك ما وصل إليك» كقول ابن الرومى: لعمرك ما الدّنيا بدار إقامة ... إذا زال عن عين البصير غطاؤها وكيف بقاء الناس فيها وإنما ... ينال بأسباب الفناء بقاؤها؟ ووعظ شبيب بن شبة المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الله لم يجعل فوقك أحدا، فلا تجعل فوق شكره شكرا. ودخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده المهدى فقال له: هذا ابن أخيك المهدى، ولىّ عهد المسلمين، فقال: سميّته اسما لم يستحقّ حمله، ويفضى إليك الأمر وأنت عنه مشغول «1» وكان عمرو بن عبيد يقول: اللهم أغنى بالافتقار إليك، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك. وقال له المنصور: يا أبا عثمان؛ أعنّى بأصحابك: قال: يا أمير المؤمنين؛ أظهر الحقّ يتبعك أهله. وقال عمر الشمرى: كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلّم، وإن تكلّم لم يكد

البلاغة عند أهل الهند

يطيل؛ وكان يقول: لا خير في المتكلّم إذا كان كلامه لمن يشهده دون قائله، وإذا طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف، ولا خير في شىء يأتيك به التكلف «1» . [البلاغة عند أهل الهند] قال معمر بن الأشعث: قلت لبهلة الهندىّ أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكننى لا أحسن ترجمتها، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسى بالقيام بخصائصها، ولطيف معانيها. قال ابن الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش «2» ، ساكن الجوارح، قليل الّلحظ، متخيّر اللفظ، لا يكلّم سيد الأمّة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقّق المعانى كلّ التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التنقيح، ولا يصفّيها كل التصفية، ولا يهذّبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما، أو فيلسوفا عليما، ومن قد تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ؛ وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة التصفح والاعتراض «3» ، ووجه التظرّف والاستظراف. [البلاغة عند ابن المقفع] قال إسحاق بن حسان بن قوهى: لم يفسر أحد البلاغة تفسير عبد الله ابن المقفع إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجرى في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا،

[الإطالة والإيجاز]

ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا، ومنها ما يكون رسائل؛ فغاية هذه الأبواب الوحى فيها والإشارة إلى المعنى؛ والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب فيما بين السّماطين «1» وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل «2» ، والإطالة في غير إملال، ولكن ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذى إذا سمعت صدره عرفت قافيته (كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التّواهب، حتى يكون لكل فنّ من ذلك صدر يدل على عجزه «3» ) فإنه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذى إليه قصدت، والغرض الذى إليه نزعت. فقيل له: فإن ملّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها أحقّ بذلك الموضع؟ قال: إذا أعطيت كلّ مقام حقّه، وقمت بالذى يجب من سياسة الكلام، وأرضيت من يعرف حقوق ذلك، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيان بشىء؛ فأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شىء لا ينال. [الإطالة والإيجاز] وقد مدحوا الإطالة في مكانها، كما مدحوا الإيجاز في مكانه. قال أبو داود [ابن جرير] فى خطباء إياد: يرمون بالخطب الطوال، وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء «4» قال أبو وجزة السعدى يصف كلام رجل:

يكفى قليل كلامه، وكثيره ... ثبت، إذا طال النّضال، مصيب «1» وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد «2» ولم يسمّ قائله، وهو مولّد ولم ينقصه توليده من حظّ القديم شيئا: طبيب بداء فنون الكلام ... لم يعى يوما ولم يهذر فإن هو أطنب في خطبة ... قضى للمطيل على المنزر «3» وإن هو أوجز في خطبة ... قضى للمقلّ على المكثر وقال آخر يصف خطيبا: فإذا تكلّم خلته متكلّما ... بجميع عدّة ألسن الخطباء فكأن آدم كان علّمه الّذى ... قد كان علّمه من الأسماء وكان أبو داود يقول: تلخيص المعانى رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشدق في الإعراب نقص، والنظر في عيون الناس عيّ، ومسّ اللحية هلك، والخروج عما بنى عليه الكلام إسهاب. وقال بعضهم يهجو رجلا بالعى: ملىء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع «4» ووصف العتابى «5» رجلا بليغا فقال: كان يظهر ما غمض من الحجّة،

ويصوّر الباطل في صورة الحق، ويفهمك الحاجة من غير إعادة ولا استعانة. قيل له: وما الاستعانة؟ قال: يقول عند مقاطع كلامه يا هناة، واسمع، وفهمت! وما أشبه ذلك. وهذا من أمارات العجز، ودلائل الحصر! وإنما ينقطع عليه كلامه فيحاول وصله بهذا، فيكون أشدّ لانقطاعه. وكان أبو داود يقول: رأس الخطابة الطّبع، وعمودها الدّربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ؛ والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: قال بعض جهابذة الألفاظ، ونقّاد المعانى: المعانى القائمة في صدور الناس، المختلجة في نفوسهم، والمتصوّرة في أذهانهم المتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفيّة، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلّا بغيره، وإنما يحيى تلك المعانى ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقرّبها من الفهم، وتجلّيها للعقل، وتجعل الخفىّ منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تلخّص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيّدا، والمقيد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشىّ مألوفا، [والغفل موسوما «1» ، والموسوم معلوما] ؛ وعلى قدر وضوح الدلالة، وصواب

الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كانت أنفع وأنجع في البيان. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفى هو البيان الذى سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحثّ عليه؛ بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. والبيان: اسم لكل شىء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضى السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أى جنس كان ذلك الدليل؛ لأنّ مدار الأمر والغاية التى إليها يجرى القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأىّ شىء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع. ثم اعلم- حفظك الله! - أنّ حكم المعانى خلاف حكم الألفاظ؛ لأنّ المعانى مبسوطة إلى غير غاية، وأسماء المعانى محصورة معدودة، ومحصّلة محدودة. وجميع أصناف الدلالات على المعانى من لفظ أو غيره خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللّفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخطّ، ثم الحال التي تسمى نصبة. والنّصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات. ولكل واحدة من هذه الدلائل الخمسة صورة بائنة «1» من صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها؛ وهي التي تكشف لك عن أعيان المعانى في الجملة، وعن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصها وعامّها، وعن طبقاتها في السارّ والضار، وعما يكون منها لغوا بهرجا «2» ، وساقطا مطّرحا.

وفي نحو قول أبى عثمان «إنّ المعانى غير مقصورة ولا محصورة» يقول أبو تمام الطائى لأبى دلف القاسم بن عيسى العجلّى: ولو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت ... حياضك منه في العصور الذّواهب «1» ولكنه فيض العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب كما أشار إلى قول أوس بن حجر الاسدى: أقول بما صبّت على غمامتى ... وجهدى في حبل العشيرة أحطب «2» وقال بعض البلغاء: فى اللسان عشر خصال «3» محمودة، أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، وناطق يردّ الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، ومعرب يشكر به الإحسان، ومعزّ تذهب به الأحزان، وحامد يذهب الضغينة ومونق يلهى الأسماع. وقال أبو العباس بن المعتز: لحظة القلب أسرع خطرة من لحظة العين، وأبعد مجالا، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر، والمتأمّلة لوجوه العواقب، والجامعة بين ما غاب وحضر، والميزان الشاهد على ما نفع وضرّ، والقلب كالمملى للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، والعاقل يكسو المعانى وشى الكلام في قلبه، ثم يبديها بألفاظ كواس في أحسن زينة، والجاهل يستعجل بإظهار المعانى قبل العناية بتزيين معارضها، واستكمال محاسنها. وقيل لجعفر بن يحيى البرمكى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويكشف عن مغزاك، ويخرجه من الشركة، ولا يستعان عليه

بالفكر، ويكون سليما من التكلّف، بعيدا من الصّنعة، بريئا من التعقيد، غنيّا عن التأويل. وذكر سهل بن هارون «1» - وقيل ثمامة بن أشرس- جعفر بن يحيى فقال: قد جمع في كلامه وبلاغته الهذّ والتمهل «2» والجزالة والحلاوة، وكان يفهم إفهاما يغنيه عن الإعادة للكلام. ولو كان يستغنى مستغن عن الإشارة بمنطقة لاستغنى عنها جعفر. كما استغنى عن الإعادة فإنه لا يتحبّس «3» ولا يتوقّف في منطقه ولا يتلجلج، ولا يتسعّل، ولا يترقّب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يتلمس معنى قد عصاه بعد طلبه له. وقيل لبشّار بن برد: بم فقت أهل عمرك، وسبقت أهل عصرك، فى حسن معانى الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأنى لم أقبل كلّ ما تورده علىّ قريحتى، ويناجينى به طبعى، ويبعثه فكرى، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلّفها ولا والله ما ملك قيادى قطّ الإعجاب بشىء مما آتى به. وكان بشار بن برد خطيبا، شاعرا، راجزا، سجّاعا، صاحب منثور ومزدوج، ويلقب بالمرعّث لقوله:

[وصية أبى تمام للبحترى]

من لظبى مرعّث ... ساحر الطرف والنظر «1» قال لى لن تنالنى ... قلت أو يغلب القدر وليس هذا موضع استقصاء ذكره، واختيار شعره، وسأستقبل ذلك إن شاء الله. [وصية أبى تمام للبحترى] وقال الوليد بن عبيد البحترى: كنت في حداثتى أروم الشّعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتّكلت في تعريفه عليه؛ فكان أول ما قال لى: يا أبا عبادة؛ تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شىء أو حفظه في وقت السّحر؛ وذلك أن النّفس قد أخذت حظّها من الراحة، وقسطها من النوم، وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رشيقا، والمعنى رقيقا، وأكثر فيه من بيان الصّبابة، وتوجّع الكابة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيّد ذى أياد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقامه، ونضدّ المعانى «2» ، واحذر المجهول منها، وإيّاك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة، ولتكن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلّا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذّريعة «3» إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة

نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله. قال: فأعلمت نفسى فيما قال فوقفت على السياسة «1» . وقالوا: البليغ من يحوك الكلام على حسب الأمانى، ويخيط الألفاظ على قدود المعانى. ولذكر الطائى الليل ذكر بعض أهل العصر- وهو أبو على محمد بن الحسن ابن المظفّر الحاتمى «2» - الليل فقال: فيه تجمّ الأذهان «3» ، وتنقطع الأشغال، ويصح النظر، وتؤلّف الحكمة، وتدرّ الخواطر، ويتّسع مجال القلب، والليل أضوأ فى مذاهب الفكر، وأخفى لعمل البر، وأعون على صدقة السر، وأصح لتلاوة الذكر، ومدبّر والأمور يختارون الليل على النهار، فيما لم تصف فيه الأناة لرياضة التدبير وسياسة التقدير، فى دفع الملّم، وإمضاء المهمّ، وإنشاء الكتب، وتصحيح المعانى، وتقويم المبانى، وإظهار الحجج، وإيضاح المنهج، وإصابة نظم الكلام، وتقريبه من الأفهام. وقال بعض رؤساء الكتّاب: ليس الكتاب في كل وقت على غير

نسخة لم تحرّر بصواب؛ لأنه ليس أحد أولى بالأناة وبالرويّة من كاتب يعرض عقله، وينشر بلاغته؛ فينبغى له أن يعمل النسخ ويرويها، ويقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس أعداء له، عارفون بكتابه، منتقدون عليه، متفرغون إليه. وقال آخر: إنّ لابتداء الكلام فتنة تروق، وجدة تعجب، فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمّل، وصفت النّفس، فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه، مساويا لغمّه بإساءته؛ فقد قالت الخوارج لعبد الله بن وهب الراسبى: نبايعك الساعة فقد رأينا ذلك، فقال: دعوا الرأى حتى يبلغ أناته، فإنه لا خير في الرأى الفطير، والكلام القضيب «1» . وقال معاوية بن أبى سفيان رحمه الله لعبد الله بن جعفر: ما عندك في كذا وكذا؟ فقال: أريد أن أصقل عقلى بنومة القائلة «2» ، ثم أروح فأقول بعد ما عندى قال الشاعر: إن الحديث تغرّ القوم جلوته ... حتى يغيّره بالوزن مضمار «3» فعند ذلك تستكفى بلاغته ... أو يستمرّ به عىّ وإكثار وقالوا: كل مجر بالخلاء يسرّ «4» ، وقال أبو الطيب المتنبى: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطّعن وحده والنّزالا وكان قلم بن المقفع يقف كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم فى صدرى، فيقف قلمى ليتخيّر.

أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة أقوام من أهل الصناعات

وقالوا: الكتاب يتصفّح أكثر مما يتصفّح الخطاب؛ لأنّ الكاتب متخيّر، والمخاطب مضطرّ، ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أأسرعت فيه أم أبطأت؛ وإنما ينظر أأخطأت أم أصبت؛ فإبطاؤك غير قادح في إصابتك، كما إن إسراعك غير مغطّ على غلطك. ووصف بعض الكتّاب النسخ فقال: ينبغى أن يصحبها الفكر إلى استقرارها، ثم تستبرأ بإعادة النظر فيها بعد اختيارها «1» ، ويوسّع بين سطورها، ثم تحرر على ثقة بصحتها، وتتأمل بعد التحرير حرفا حرفا إلى آخرها. فقد كتب المأمون مصحفا اجتمع عليه؛ فكان أوله: بسم الله الرحيم، فأغفلوا الرحمن؛ لأنّ العين لا تعتبر ذلك؛ ثقة أنه لا يغلط فيه، حتى فطن المأمون له. وقال محمد بن عبد الملك الزيات للحسن بن وهب: حرّر هذه النسخة وبكّر بها، فتصبّح الحسن «2» فقال له: لم تصبّحت؟ قال: حتى تصفحت! وقال أحمد بن إسماعيل بطاحة: كان بعض العلماء الأغبياء ينظر في نسخه بعد نفوذ كتبه، فقال بعض الكتاب: مستلب اللّب غوىّ الشباب ... عذّبه الهجر أشد العذاب يؤمل الصبر وأنّى له ... به وقد مكّن منه التّصاب كناظر في نسخة يبتغى ... إصلاحها بعد نفوذ الكتاب أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة أقوام من أهل الصناعات قال بعض من ولّد عقائل هذا المنثور، وألّف فواصل هذه الشذور: تجمّع

قوم من أهل الصناعات، فوصفوا بلاغاتهم، من طريق صناعاتهم «1» : فقال الجوهرى: أحسن الكلام نظاما ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ووصل جوهر معانيه في سموط «2» ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة. وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه، ففاح نسيم نشقه، وسطعت رائحة عبقه، فتعلقت به الرّواة، وتعطّرت به السّراة. وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكير الفكر «3» ، وسبكته بمشاعل النّظر، وخلّصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز «4» ، فى معنى وجيز. وقال الصيرفى «5» : خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، وجلته عين الرويّة، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيّفه «6» ، ولا سماع يبهرجه «7» وقال الحداد: أحسن الكلام ما نصبت عليه منفخة القريحة، وأشعلت عليه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم «8» الإفحام، ورقّقته بفطّيس الإفهام «9» . وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار بابا لبيت البيان، وعارضة لسقف اللسان. وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه «10» ، وحسنت مطارح

معانيه، فتنزهت في زرابىّ محاسنه عيون الناظرين» ، وأصاخت لنمارق «2» بهجته آذان السامعين. وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه ببكرة معانيه «3» ، ثم أرسلته في قليب الفطن «4» فمتحت به سقاء يكشف الشهات، واستنبطت به معنى يروى من ظمأ المشكلات. وقال الخياط: البلاغة قميص؛ فجربّانه البيان «5» ، وجيبه المعرفة، وكمّاه الوجازة، ودخاريصه الإفهام «6» ، ودروزه الحلاوة «7» ، ولابس جسده اللفظ، وروحه المعنى. وقال الصّباغ: أحسن الكلام ما لم تنض بهجة إيجازه «8» ، ولم تكشف صبغة إعجازه، قد صقلته يد الرويّة من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألّف عذارى الألباب. وقال الحانك: أحسن الكلام ما اتّصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه «9» فخرج مفوّفا منيّرا، وموشّى محبّرا. وقال البزاز «10» : أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طىّ. وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حدّ التّخليع «11» ، إلى منزلة

فقر في وصف البلاغة لغير واحد

التّقريب «1» إلا بعد الرياضة، وكان كالمهر الذى أطمع أوّل رياضته في تمام ثقافته. وقال الجمّال: البليغ من أخذ بخطام كلامه، فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالا، والإيجاز له مجالا، فلم يندّ عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان. وقال المخنّث: خير الكلام ما تكسّرت أطرافه، وتثنّت أعطافه، وكان لفظه حلّة، ومعناه حلية. وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفّاه راووق الفهم، وضمّته دنان الحكمة، فتمشّت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقّته، وفي العقول حدّته. وقال الفقاعى: خير الكلام ما روّحت ألفاظه غباوة الشكّ، ورفعت رقّته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مصّ جرعه. وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر [دواء] بيانه سقم الشّبهة استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفى من سوء التفهم، وأورث صحة التوهّم. وقال الكحّال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فكذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة «2» بمرود اليقظة. ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه «3» اخضرت أحماؤه «4» . فقر في وصف البلاغة لغير واحد قال أعرابى: البلاغة التقرب من البعيد، والتباعد من الكلفة، والدلالة بقليل على كثير.

قال عبد الحميد بن يحيى: البلاغة تقرير المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام. ابن المعتز: البلاغة البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام. سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول، وروض القلوب، وقال: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم. إبراهيم بن الإمام: يكفى من البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. العتّابى: البلاغة مدّ الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف إذا طال. أعرابى: البلاغة إيجاز في غير عجز، وإطناب في غير خطل. [وكتب إبراهيم بن المهدى إلى كاتب له ورآه يتبع وحشىّ الكلام: إياك وتتبع الوحشى طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك العىّ الأكبر، وعليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل. وقال الصولى: وصف يحيى بن خالد رجلا فقال: أخذ بزمام الكلام، فقاده أسهل مقاد، وساقه أجمل مساق؛ فاسترجع به القلوب النافرة، واستصرف به الأبصار الطامحة. وسمع أعرابى كلام الحسن البصرى رحمه الله، فقال: والله إنه لفصيح إذا نطق، نصيح إذا وعظ. قال الجاحظ: ينبغى للكاتب أن يكون رقيق حواشى الكلام، عذب ينابيع اللسان؛ إذا حاور سدّد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم الخاصة بكلام العامة، ولا العامة بكلام الخاصة. وقال أبو العباس المبرد: قال الحسن بن سهل لسالم الحرارى: ما المنزلة التي إذا نزل بها الكاتب كان كاتبا في قوله وفعله واستحقاقه؟ قال: أن يكون مطبوعا على المعرفة، محتنكا بالتجربة، عارفا بحلال الكتاب وحرامه، وبالدهور في تصرفها

ومن كلام أهل العصر، في صفة البلاغة والبلغاء

وأحكامها، وبالملوك في سيرها وأيامها، وأجاس الخط، وبادية الأقلام، مع تشاكل اللفظ وقرب المأخذ. قال الحسن: فليس في الدنيا إذا كاتب] . وقيل لليونانى: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومى: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندى: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقيل للفارسى: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقال على بن عيسى الرّمّانى: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. ومن كلام أهل العصر، في صفة البلاغة والبلغاء [قال على بن عيسى الرمانى] : أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه. أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويوئس مضيّعه. البليغ من يجتنى من الألفاظ أنوارها «1» ، ومن المعانى ثمارها. ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، أو يبسط رهان القول وميدانه، بل هي أن يبلغ أمد المراد بألفاظ أعيان، ومعان أفراد، من حيث لا تزيّد على الحاجة، ولا إخلال يفضى إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان. فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأنّ الألفاظ تتحاسد فى التسابق إلى خواطره، والمعانى تتغاير في الانثيال على أنامله. هذا كقول أبى تمام الطائى: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل

فلان مشرفى المشرق، وصيرفىّ المنطق. البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنما أوحى بالتوفيق إلى صدره، وحسن الصواب بين طبعه وفكره. فلان يحزّ مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذنابا لا رءوسا، وأجسادا لا نفوسا. فلان يرضى بعفو الطّبع، ويقنع بما خفّ على السمع، ويوجز فلا يخلّ، ويطنب فلا يملّ، لله فلان أخذ بأزمّة القول يقودها كيف أراد، ويجذبها أنّى شاء، فلا تعصيه بين الصّعب والذّلول، ولا تسلمه عند الحزونة والسّهول، كلامه يشتدّ مرّة حتى تقول الصّخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس، يقول فيصول، ويجيب فيصيب، ويكتب فيطبّق المفصل، أو ينسّق الدرّ المفصّل، ويرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامّة لم ترنّق «1» ، خاطره البرق أو أسرع لمعا، والسّيف أو أحدّ قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا؛ هو ممن يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعانى على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعيه، ويستنبط المشرع العميق بيسير جريه، لسانه يفلق الصّخور، ويغيض البحور، ويسمع الصّم، ويستنزل العصم «2» ، خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشّى في خطابه رنة، ولا تتحيّف بيانه عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة. فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة «3» لو وضع لسانه على الشعر حلقه، أو

على الصّخر فلقه، أو على [الجمر أحرقه، أو على] الصّفا خرقه «1» ؛ قد أحسن السّفارة، واستوفى العبارة، وأدّى الألفاظ، واستغرق الأغراض، وأصاب شواكل المراد «2» ، وطبّق مفاصل السّداد، وبسط لسان الخطاب، ومدّ أطناب الإطناب «3» ، وطلب الأمد في الإسهاب، قال حتى قال الكلام: لو أعفيت! وكتب حتى قالت الأقلام: قد أحفيت، قد اتّسع له مشرع الإطناب، وانفرج له مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى له من عنانه، قال وأطال، وجال في بسط الكلام كلّ مجال، إذا اسحنفر فى الكلام طفح آذيّه، وسال أتيّه «4» ، وانثال عليه الكلام كانثيال الغمام، واستجاب له الخطاب كصوب الرّباب «5» . ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فكّ عان «6» ! ألفاظ كما نوّرت الأشجار، ومعان كما تنفّست الأسحار، ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب بين الاحباب، واستلانت كتشكّى العشّاق يوم الفراق. كلام قريب شاسع «7» ومطمع مانع، كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء؛ أو كالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام لا تمجّه الآذان، ولا تبليه الأزمان، كالبشرى مسموعة، أو أزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالرّيحان والراح. كلام سهل متسلسل، كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام. كلام كبرد الشّراب على الأكباد الحرار، وبرد الشباب في خلع العذار. كلام كثير العيون، سلس المتون، رقيق الحواشى، سهل النواحى.

كلام هو السّحر الحلال، والماء الزّلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب النّاضر. نظرت منه إلى صورة الظّرف بحتا، وصورة البلاغة سبكا ونحتا، ألفاظ هى خدع الدهر، وعقد السحر. كلام يسرّ المحزون، ويسهّل الحزون «1» ، ويعطل الدرّ المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقىّ من الكلف «2» كلام كما تنفس السّحر عن نسيمه، وتبسم الدرّ عن نظيمه. ألفاظ تأنّق الخاطر في تذهيبها، ومعان عنى الفهم بتهذيبها. ألفاظ حسبتها من رقّتها منسوخة فى صحيفة الصّبا، وظننتها من سلاستها مكتوبة في نحر الهوى. كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع به سمع الشيخ العقيم. كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، وقرب حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم [سما و] علا حتى صار بالمنزل الأعلى. رقيق المزاج، حلو السماع، نقىّ السّبك، مقبول اللّفظ. قرأت لفظا جليّا، حوى معنى خفيّا، وكلاما قريبا، رمى غرضا بعيدا. لو أنّ كلاما أذيب به صخر، أو أطفىء به جمر، أو عوفى به مريض، أو جبر به مهيض «3» لكان كلامه الذى يقود سامعيه إلى السجود، ويجرى في القلوب كجرى الماء في العود. ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلامه يصغى إليه المقبور، وينتفض له العصفور. كلام يقضى حقّ البيان، ويملك رقّ الحسن والإحسان، كلام منه يجتنى الدّر، وبه يعقد السّحر، وعنده يعتب الدهر «4» وله ينشرح الصدر.

ومن ألفاظهم في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء

ومن ألفاظهم في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء نثر كنثر الورد، نظم كنظم العقد. نثر كالسّحر أو أدقّ، ونظم كالماء أو أرقّ. رسالة كالرّوضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدّرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفا، وقصيدة تمزج بماء الرّاح لطفا. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجمان. نثر كما تفتّح الزهر، ونظم كما تنفّس السّحر. نثر ترقّ نواحيه وحواشيه، ونظم تروق ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتّحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة تورّدت أسرار خدّها «1» . رسالة تضحك عن غرر وزهر، وقصيدة تنطوى على حبر ودرر. لم ترض في برّك، بأخوات النّثرة من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشّعرى من شعرك «2» . كلام كما هبّ نسيم السحر، على صفحات الزّهر، ولذّ طعم الكرى بعد برح السّهر» . وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر. كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، وشعر من حلّة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق. قصيدة، فى فنّها فريدة، هى عروس كسوتها القوافى، وحليتها المعانى. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع. شعر لا مزية الإعجاز أخطأته، ولا فضيلة الإيجاز تخطّته. شعر رويته لما رأيته، وحفظته لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعا على الزمان لتحلّى بها مكاثرا، وتجلّى فيها مفاخرا. شعر راقنى، حتى شاقنى، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، ممرّ النظام «4» ، قوى الأسر «5» ، صافى البحر. نظم قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشّى من الحضارة سجاحتها «6» ؛ فإن

شئت قلت عبيد ولبيد، وإن شئت حبيب والوليد «1» . قصيدته روضة تجتنى بالأفكار، ونقل يتناول بالأسماع والأبصار «2» ، ونقل العلم والأدب، ألذّ من نقل المأكل والمشرب، وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض كالجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرّقاد. قصيدة لم أر غيرها بكرا، استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدربة «3» ؛ فعليها رونق الشباب، ولها قوّة المذكيات الصّلاب «4» ، روح الشعر، وتاج الدهر، ومقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتّبريز، ويشبّه في صفاء سبكه بالذّهب الإبريز. شعر تاتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان له أصدافا. لله درّه ما أحلى شعره! وأنقى درّه، وأعلى قدره، وأعجب أمره! قد أخذ برقاب القوافى، وملك رقّ المعانى، فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. فلان يغرب بما يجلب، ويبدع فيما يصنع، حسن السبك، محكم الرّصف، بديع الوصف، مرغوب في شعره، متنافس في سحره. هو ضارب في قداح الشعر بأعلى السهام، آخذ في عيون الفضل بأوفى الأقسام، شعاره أشعاره، ودابه آدابه، هو ممن يبتده فيبتدع، طبعه يملى عليه، ما لا يملّ الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع «5» ، وخيم غير وخيم، لبيد عنده بليد، وعبيد لديه من العبيد، والفرزدق عنده أقل من فرزدقة خمير «6» ، وجرير يقاد إليه بجرير «7» قد نسج حلالا لا يبلى جدّتها الجديدان، ولا تزداد إلا حسنا على

وهذه جملة من فصول أهل العصر تليق بهذا الموضع

تردّد الأزمان. نظمه قد نظم حاشيتى البرّ والبحر، وأدرك ناحيتى الشرق والغرب. أشعار قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال، سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعاره سارت مسير الشمس، وهبّت هبوب الريح، وطبّقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالى تحفظها، والجنّ تدرسها، والطير تتغنّى بها. أبيات أسفر عنها طبع المجد، فعلمت كيف يتكسّر الزّهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدرّ في رياض المهارق «1» . شعر قد أحسن خدمته بكمال فكره، ووقف كيف شاء عند عالى أمره. شعر يعلّق في كعبة المجد، ويتوّج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها عزّة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيماء العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحقّ، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشّعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرّة الدهر، ويشرح في جبهة الشمس [والبدر] . وهذه جملة من فصول أهل العصر تليق بهذا الموضع كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى محمد خلاد الرامهرمزى القاضى «وصل كتابك الذى وصلت جناحه بفنون صلاتك وتفقّدك، وضروب برّك وتعهّدك؛ فارتحت لكلّ ما أوليت، وابتهجت بجميع ما أهديت، وأضفت إحسانك في كلّ فصل إلى نظائره التي وكلت بها ذكرى، ووقفت عليها شكرى، وتأمّلت النظم فملكنى العجب به، وبهرنى التعجّب منه، وقد رمت أن أجرى على العادة في تشبيهه بمستحسن من زهر جنىّ، وحلل وحلىّ، وشذور الفرائد، فى نحور الخرائد.

والعذارى غدون في الحلل البي ... ض وقد رحن في الخطوط السّود فلم أره لشىء عدلا، ولا أرضى ما عددته له مثلا؛ والله يزيدك من فضله ولا يخليك من إحسانه، ويلهمك من برّ إخوانك ما تتمّم به صنيعك لديهم، ويربّ معه إحسانك إليهم. وكتب أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب إلى أبى سعيد الشبيبى: «قد رأى شيخ الدولتين كيف الكلف بسادتى من أهل ميكال- أيّدهم الله! - بين ودّ أضمره على البعد، وإيثار أظهره على تراخى المزار، وتقريظ يمليه علىّ الملوان «1» ، ومدح أنطق فيه بلسان الزّمان، حتى إن ذكرهم إذا جرى على لسانى اهتزّت له نفسى، وفضلهم إذا جرى على سمعى انفرج له صدرى، فتلك عصبة خير فضلها باهر، وشرفها على شرف النماء زاهر، وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء [ناظر] ، والله يتمّم أعدادها، ولا يعدمنى ودادها، وإذا كان إكبارى لهم هذا الإكبار فكلّ منتسب إلى جنبهم أثير لدىّ «2» ، كثير في يدىّ. وطرأ علىّ فلان منتسبا إلى جملتهم، وحبذا الجملة، ومعتزيا إلى خدمتهم، ونعمت الخدمة، ففررناه عن طبع سمح «3» ، ولفظ عذب، وصلة نثر بنظم؛ فإن شاء قال: أنا الوليد، وإن شاء قال: أنا عبد الحميد؛ ولم أعظم بمن خرّجته تلك النعمة ونتجته تلك السّدّة أن يأخذ من كلّ حسنة بعروة، ويقدح فى كل نار بجدوة؛ وآنسنا بالمقام مدة، أكّدتها شوافع عدّة، إلى أن تذكّر معاهد رأى فيها الدّهر طلقا، والزمان غلاما، والفضل رهنا، والإفضال لزاما؛ فحنّ حنين الرّكاب، وركب عزيم الإياب «4» . فصل [من كتاب] كتبه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحد الميكالى إلى

أبى القاسم الداوودى جوابا عن كتاب له ورد عليه. وأبو الفضل رئيس نيسابور وأعمالها في وقتنا هذا «1» ، وسيمرّ من كلامه ونثره ونظامه ما يغنى عن التنويه، ويكفى عن التنبيه، ويجلّ عن التشبيه، ويكون كما قال أبو الحسن الأخفش على بن سليمان: [استهدى إبراهيم بن المدبّر] أبا العباس محمد بن يزيد جليسا يجمع إلى تأديب ولده الإمتاع بإبناسه؛ فندبنى لذلك، وكتب إليه معى: قد أنفذت إليك- أعزّك الله- فلانا، وجملة أمره أنه كما قال الشاعر: إذا زرت الملوك فإن حسبى ... شفيعا عندهم أن يخبرونى وفصل أبى الفضل: وقفت على ما أتحفنى به الشيخ: من نظمه الرائق البديع، وخطّه المزرى بزهر الربيع، موشّحا بغرر ألفاظه، التى لو أعيرت حليتها لعطّلت قلائد النحور، وأبكار معانيه التي لو قسّمت حلاوتها لأعذبت موارد البحور، فسرّحت طرفى منها في رياض جادتها سحائب العلوم والحكم، وهبّ عليها نسيم الفضل والكرم، وابتسمت عنها ثغور المعالى والهمم، ولم أدر- وقد حيّرتنى أصنافها، وبهرتنى ثغورها وأوصافها، حتى كستنى اهتزازا وإعجابا، وأنشأت بينى وبين التماسك سترا وحجابا، ولم أدر «2» أدهتنى لها نشوة راح، أم ازدهتنى نغمة ارتياح، وانتظم عندى منها عقد ثناء وقريض «3» ، أم قرع سمعى منها غناء معبد وغريض، وكيفما كان فقد حوى رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جارحة إلا وهي تودّ لو كانت أذنا فتلتقط درره وجواهره، أو عينا تجتلى مطالعه ومناظره، أو لسانا يدرس محاسنه ومفاخره. وله فصل من كتاب إلى أبى منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبى: «وصل كتاب مولاى وسيدى، أبدع الكتب هوادى وأعجازا «4» ، وأبرعها بلاغة

وإعجازا، فحسبت ألفاظه درّ السحاب، أو أصفى قطرا وديمة، ومعانيه درّ السّخاب «1» ، بل أوفى قدرا وقيمة. وتأملت الأبيات فوجدتها فاثقة النّظم والرّصف، عبقة النسيم والعرف، فائزة بقداح الحسن والظّرف، مالكة لزمام القلب والطّرف؛ ولا غرو أن يصدر مثلها عن ذلك الخاطر، وهو هدف الفقر والنوادر، وصدف الدرر والجواهر، والله يمتّعه بما منحه من هذه الغرر والأوضاح، كما أطلق فيه ألسنة الثناء والامتداح. وأبو منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا [على طريق التخمين لا على حقيقة اليقين] وهو فريد دهره، وقريع عصره، ونسيج وحده، وله مصنفات في العلم والأدب، تشهد له بأعلى الرتب، وقد فرّقت ما اخترته منها في هذا الكتاب، مع ما تعلّق بشاكلته من الخطاب «2» ؛ منها كتاب سماه «سحر البلاغة» قال في صدر هذا الكتاب: «أخرجت بعضه من غرر نجوم الأرض، ونكت أعيان الفضل، من بلغاء العصر، فى النثر، وحللت بعضه من نظم أمراء الشعر، الذين أوردت ملح أشعارهم في كتابى المترجم بيتيمة الدهر، فلفقت جميع ذلك وحرّرته، وسقته ونسّقته، وأنفقت عليه ما رزقته، وعملته بكدّ الناظر، وجهد الخاطر، وتعب اليمين، وعرق الجبين، وتعمّدت فيه لذّة الجدة، ورونق الحداثة، وحلاوة الطّراوة، ولم أشبه بشىء من كلام غير أهل العصر، إلا في قلائل وقلائد من ألفاظ الجاحظ وابن المعتز، تخلّلت أثناءه، وتوشّحت تضاعيفه، ولم أخل كلماته- التى هي وسائط الآداب، وصياقل الألباب، وما تستمتعه أنفس

الأدباء، وتلذّ أعين الكتاب- من لفظ صحيح، أو معنى صريح، أو تجنيس أنيس، أو تشبيه بلا شبيه، أو تمثيل بلا مثيل ولا عديل، أو استعارة مختارة، أو طباق، ذى رونق باق؛ فمن رافق هذا الكتاب قرب تناوله من الكتّاب، إذا وشّوا ديباجة كلامهم بما يقتبسونه من نوره، وسماحة قياده لأفراد الشعراء إذا رصّعوا عقود نظامهم بما يلتقطونه من شذوره، فأمّا المخاطبات والمحاورات، فإنها تتبرّج بغرّة من غرره، وتتوّج بدرة من درره. وقد ذكر جملة من أخرج معظم كتابه من نثرهم ونظمهم، وهم: الصابيان «1» ، والخالديّان «2» ، وبديع الزمان، وأبو نصر بن المرزبان [وعلى بن عبد العزيز القاضى، وأبو محمد القاضى، وأبو القاسم الزعفرانى، وأبو فراس الحمدانى] ، وابن أبى العلاء الأصبهانى، وأبو الطيب المتنبى، وأبو الفتح البستى، وأبو الفضل الميكالى، وشمس المعالى، والصاحب بن عباد، وجماعة يكثر بهم التعداد، قد ذكرهم في كتابه، فكل ما مرّ أو يمر من ذكر ألفاظ أهل العصر فمن كتابه نقلت، وعليه عوّلت. وفي أبى منصور يقول أبو الفتح على بن محمد البستى: قلبى رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ له صحائف أخلاق مهذبة ... من الحجا والعلا والظّرف تنتسخ وأما الذين ذكر أسماءهم في كتابه فسأظهر من سرائر شعرهم الرصين، وأجلو من جواهر نثرهم الثمين، ما أخذ من البلاغة باليمين.

فصل لأبى الفضل: وصل كتاب الشيخ المبشر من خبر سلامته التي هي غرّة الزمان البهيم «1» ، وعذر الدهر المليم «2» ، بما أشرقت له آفاق الفضل والكرم، وتمّت به نفائس الآلاء والنعم، فسرّحت طرفى من محاسن ألفاظه، فى أنوار تروق أزاهرها، وقلائد تروع دررها وجواهرها، ومبارّ يسترقّ الرّقاب باطنها وظاهرها «3» وله إلى أبى سعيد بن خلف الهمدانى: وصل كتابك متحملا من أخبار سلامتك، وآثار نعم الله بساحتك، ما أدّى روح البرّ ونسيمه، وجمع فنون الفضل وتقاسيمه، ومجدّدا عندى من عمر مواصلته، ومعسول كلامه ومحاورته، ما ترك غصن المقة غضّا تروق أوراقه «4» ، ووجه الثقة طلقا يتهلّل إشراقه، فكم جنيت عنه من ثمر مسرة كانت عوائق الأيام تحاذ بنيه، وحويت به من علق مضنّة قلما يجود الدهر بمثله لبنيه «5» . وله فصل إلى بعض الحكام بجوين «6» : وصل كتاب الحاكم وقد وشّحه بمحاسن فقره، ونتائج فكره، من لفظ شهىّ أعطته القلوب فضل المقادة، ومعنى سنىّ جاده صوب الإصابة والإجادة، وبرّ هنىّ اتّفقت على الاعتراف بفضله ألسنة الثناء والشهادة، فسرّحت طرفى فيما حواه من بدائع وطرف، قد جمعت في الحسن والإحسان بين واسطة وطرف، حتى لم تبق في البلاغة يتيمة إلا جبرتها وتمّمتها. وله إلى الأمير السيد أبيه يهنئه بالقدوم. كتبت وأنا بمنزلة من ارتدّ إليه شبابه بعد المشيب، وارتدى برداء من العمر

قشيب «1» ، والحمد لله رب العالمين، وصل كتاب مولاى مبشّرا من خبر عوده إلى مقرّ عزّه وشرفه، محروسا في حفظ الله وكنفه، بما لم تزل الآمال تتنسّم روائحه، وتترقّب غادى صنع الله فيه ورائحه، واثقة بأنّ عادة الله الكريمة عنده تسايره وترافقه، وتلزم جنابه فلا تفارقه، حتى تخرجه من غمرة الغماء خروج السيف من الغمد، والبدر بعد السّرار «2» إلى الانجلاء، فعددت يوم وروده عيدا، أعاد عهد السّرور جديدا، وردّ طرف الحسود كليلا وقد كان حديدا، ولم أشبّهه في إهداء الرّوح والشفاء، وتلافى الرّوح بعد أن أشفى على المكروه كل الإشفاء» إلّا بقميص يوسف حين تلقّاه يعقوب عليه السلام من البشير، وألقاه على وجهه فنظر بعين البصير، فكم أوسعته لثما واستلاما، والتقطت منه بردا وسلاما، حتى لم تبق غلّة في الصدر إلا برّدتها، ولا غمّة في النفس إلا طردتها، ولا شريعة من الأنس إلا وردتها. وله فصل من رسالة: وكان فرط التعجب مرّة وعظم الإعجاب تارة يقف بى عند أول فصل من فصوله، ويثبّطنى عن استيفاء غرره وحجوله، ويوهمنى أنّ المحاسن ما حوته قلائده، ونظمته فرائده؛ فليس في قوس إحسان وراءها منزع «4» ، ولا لاقتراح جنان فوقها متطلّع، حتى إذا جاوزته إلى لففه وتزيينه، وأجلت فكرى فى نكته وعيونه، رأيت ما يحيّر الطّرف، ويعجز الوصف، ويعلو على الأول محلّا ومكانا، ويفوقه حسنا وإحسانا، فرتعت كيف شئت في رياضه وحدائقه، واقتبست نور الحكم من مطالعه ومشارقه، وسلّمت لمعانيه وألفاظه فضيلة السّبق

والبراعة، وتلقّيتها بواجبها من النّشر والإذاعة؛ فإنها جمعت إلى حسن الإيجاز درجة الإعجاز، وإلى فضيلة الإبداع جلالة الموقع في القلوب والأسماع. وله من فصل: وصل كتاب الشيخ فنشر عندى من جلل إفضاله وإكرامه، ومحاسن خطابه وكلامه، ما لم أشبّهه إلا بأنوار النّجود «1» ، وحبر البرود، وقلائد العقود. وذكر أبو منصور الثعالبى الأمير أبا الفضل في كتاب ألّفه، فقال في بعض فصوله: من أراد أن يسمع سرّ النظم، وسحر الشعر، ورقية الدهر، ويرى صوب العقل، وذوب الظّرف، ونتيجة الفضل؛ فليستنشد ما أسفر عنه طبع مجده، وأثمره عالى فكره، من ملح تمتزج بالنفوس لنفاستها، وتشرب بالقلوب لسلاستها: قواف إذا ما رواها المشو ... ق هزّت لها الغانيات القدودا كسون عبيدا ثياب العبيد ... وأضحى لبيد لديها بليدا وايم الله ما مرّ يوم أسعفنى فيه الزمان بمواجهة وجهه، وأسعدنى بالاقتباس من نوره والاغتراف من بحره، فشاهدت ثمار المجد والسؤود تنتثر من شمائله، ورأيت فضائل الدّهر عيالا على فضائله، وقرأت نسخة الفضل والكرم من ألحاظه، وانتهبت فضائل الفوائد من ألفاظه، إلّا تذكرت ما أنشدنيه أدام الله تأييده لابن الرّومى: لولا عجائب صنع الله ما ثبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصب وقول الطائى: فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطّباع

وقول كشاجم: ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين وربّعت بقول أبى الطيب: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال ثم استعرت فيه بيان أبى إسحاق الصابى حيث يقول للصاحب «ورّثه الله أعمارها، كما بلّغه في البلاغة أنوارها» الله حسبى فيك من كل ما ... تعوّد العبد على المولى فلا تزل ترفل في نعمة ... أنت بها من غيرك الأولى وقال في فصل منه: وما أنس لا أنس أيامى عنده بفيروزاباد إحدى قراه برستاق جوين، سقاها الله ما يحكى أخلاق صاحبها من سيل القطر، فإنها كانت- بطلعته البدرية، وعشرته العطريّة، وآدابه العلوية، وألفاظه الّلؤلؤية مع جلائل نعمه المذكورة، ودقائق كرمه المشكورة، وفوائد مجالسه المعمورة، ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون- أنموذجات من الجنة، التى وعد المتقون، وإذا تذكرتها في المرابع التي هي مراتع النّواظر، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طرائف مطارفها، طوى لها الديباج الخسروانى، ونفى معها الوشى الصّنعانى، فلم تشبّه إلا بشيمه، وآثار قلمه، وأزهار كلمه، تذكرت سحرا وسيما، وخيرا عميما، وارتياحا مقيما، وروحا وريحانا ونعيما. وكثيرا ما أحكى للاخوان أنى استغرقت أربعة أشهر بحضرته، وتوفّرت على خدمته، ولازمت في أكثر أوقاتى عالى مجلسه، وتعطّرت [عند ركوبه] بغبار موكبه؛ فبالله يمينا كنت غنيّا عنها لو خفت حنثا فيها إنى ما أنكرت طرفا من أخلاقه؛ ولم أشاهد إلا مجدا وشرفا من أحواله. وما رأيته اغتاب

غائبا، أو سبّ حاضرا، أو حرم سائلا، أو خيّب آملا، أو أطاع سلطان الغضب في الحضر، أو تسلّى بنار الضّجر في السّفر، أو بطش بطش المتجبّر؛ ولا وجدت المآثر إلا ما يتعاطاه، والمآثم إلا ما يتخطّاه. وقال في فصل منه يصفه: وأما فنون الأدب فهو ابن بجدتها «1» ، وأخو جملتها، وأبو عذرتها «2» ، ومالك أزمّتها، وكأنما يوحى إليه في الاستئثار بمحاسنها، والتفرّد ببدائعها، ولله هو إذا غرس الدّرّ فى [أرض] القراطيس، وطرّز بالظلام رداء النهار، وألقت بحار خواطره جواهر البلاغة على أنامله، فهناك الحسن برمّته، والحسن بكلّيته. وذكر عمر بن على المطوعى في كتاب ألّفه فى «3» شعر أبى الفضل ومنثوره والشعراء، فقال: رأيت أهل هذه الصناعة قد تشعبوا على طرق، وانقسموا على ثلاث فرق، فمنهم من اكتسى كلامه شرف الاكتساب دون شرف الانتساب كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح، المترشحين بها لأخذ الجوائز والمنائح، وهم الأكثرون من أهل هذه الصناعة؛ ومنهم من شرفت بنات فكره عند أهل العقول، وجلبت لديهم فضائل القبول، لشرف قائلها، لا لكثرة عقائلها، وكرم واشيها، لالرقّة حواشيها، كالعدد الكثير، والجم الغفير، من الخلفاء والأمراء والجلّة والوزراء؛ ومنهم من أخذ بحبل الجودة من طرفيه، وجمع رداء الحسن من حاشيتيه، كامرىء القيس ابن حجر الكندى في المتقدمين، وهو أمير الشعراء غير منازع، وسيدهم غير مجاذب ولا مدافع، وعبد الله بن المعتز بالله أمير المؤمنين فى المولدين، وهو أشعر أبناء الخلافة الهاشمية، وأبرع أنشاء الدولة العباسية، ومن

وهذه مقطعات لأهل العصر في وصف البلاغة

جلّ كلامه في التشبيه، عن أن يمثّل بنظير أو شبيه، وعلت أشعاره في الأوصاف. عن أن تتعاطاها ألسنة الوصّاف؛ والأمير أبى فراس بن حمدان فارس البلاغة. ورجل الفصاحة، ومن حكمت له شعراء العصر قاطبة بالسيادة، واعترفت لكلامه بالإحسان والإجادة، حتى قال أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب: بدىء الشعر بملك وختم بملك، يعنى امرأ القيس وأبا فراس؛ وهذه الطائفة أشهر الثلاثة تقدّما، وأثبتها في مواطن الفخر ومواطىء الشرف قدما، وأسبق الشعراء فى ميدان البلاغة، وأرجحهم في ميدان البراعة؛ فإنّ الكلام الصادر عن الأعيان والصدور، أقرّ للعيون وأشفى للصدور، فشرف القلائد بمن قلّدها، كما أن شرف العقائل بمن ولّدها: وخير الشّعر أكرمه رجالا ... وشرّ الشّعر ما قال العبيد وإذا اتفق من اجتمعت فيه هذه الشرائط، وانتظمت عنده هاتيك المحاسن، كان خليقا بأن تخلّد في صحائف القلوب أشعاره، وتدوّن في ضمائر النفوس آثاره، وتكتب على الأحداق والعيون أخباره، وجديرا بأن يختصّ بسرعة المجال في المجالس، وخفّة المدار في المدارس، كالأمير الجليل السيد مولانا: أبى الفضل من نال السماء بفضله ... ومن وعدته نفسه بمزيد تودّ عقود الدرّ لو كنّ لفظه ... فينظمها من توأم وفريد وهذه مقطعات لأهل العصر في وصف البلاغة قال أبو الفتح البستى: مدحتك فالتامت قلائد لم يفز ... بأمثالها الصّيد الكرام الأعاظم لأنك بحر والمعانى لآلىء ... وفكرى غوّاص وشعرى ناظم وقال أيضا: ما إن سمعت بنوّار له ثمر ... فى الوقت يمتع سمع المرء والبصرا

حتى أتانى كتاب منك مبتسم ... عن كل لفظ ومعنى يشبه الدّررا فكان لفظك في لألائه زهرا ... وكان معناه في أثنائه ثمرا تسابقا فأصابا القصد في طلق ... لله من ثمر قد سابق الزّهرا وقال أيضا: لمّا أتانى كتاب منك مبتسم ... عن كلّ برّ ولفظ غير محدود «1» حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالى السّود كأنه ألمّ بقول الطائى: يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كستها يد المأمول حلّة خائب وأحسن من نور تفتّحه الصّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب وقال أبو الفتح البستى في أبى نصر أحمد بن على الميكالى: جمع الله في الأمير أبى نص ... ر خصالا تعلوبها الأقدار راحة برّة وصدرا فضاء ... وذكاء تبدو له الأسرار «2» خطّه روضة، وألفاظه الأز ... هار يضحكن، والمعانى ثمار وقال عمر بن على المطوعى يمدح أبا الفضل الميكالى من قصيدة: وإلى الأمير ابن الأمير المعتلى ... بكمال سؤدده على الأمراء وطئت بى الوجناء وجنة مهمه ... متقاذف الاكناف والارجاء «3» كيما ألاحظ منه في أفق العلا ... فلكا يدير كواكب العلياء كالبدر غير دوامه متكاملا ... كالبحر غير عذوبة وصفاء بالفضل يكنى وهو فيه كامن ... كالرّى يكمن في زلال الماء يا من إذا خطّ الكتاب يمينه ... أهدى إلينا الوشى من صنعاء

لم تجر كفّك في البياض موقّعا ... إلّا تجلّت عن يد بيضاء قرم يداه وقلبه ما منهما ... فى النظم والإعطاء إلا الطائى «1» وقال فيه أيضا: كلام الأمير النّدب في ثنى نظمه ... ينوب عن الماء الزلال لمن يظما «2» فنروى متى نروى بدائع نظمه ... ونظما إذا لم نرو يوما له نظما وكتب إليه أيضا: أقول وقد جادت جفونى بأدمع ... كأنى قد استمليتهنّ من السّحب وقد علقت بى للنزاع نوازع ... كتبن معاناة العناء على قلبى إلى سيّد أوفى على الشّمس قدره ... وزادت معاليه ضياء على الشهب أبى الفضل من راحت فواضل كفّه ... وراحته تربى على عدد الترب «3» سقى الله أرضا حلّ فيها سحائبا ... كنائله الفيّاض أو لفظه العذب سحائب يحدوها نسيم كخلقه ... ويقدمها برق كصارمه العضب «4» ولا زال أفلاك السعود مطيفة ... بحضرته تنتابها وهو كالقطب وقال أبو منصور الثعالبى للأمير أبى الفضل: لك في الفضائل معجزات جمّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع بحران بحر في البلاغة شابه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعى «5» كالنّور أو كالسّحر أو كالدّرّ أو ... كالوشى في برد عليه موشّع «6» شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع «7»

وإذا تفتّق نور شعرك ناضرا ... فالحسن بين مرصّع ومصرّع أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أمجد مبدع ونقشت في فصّ الزمان بدائعا ... تزرى بآثار الربيع الممرع «1» [وقال في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه] : يا مهدى الطّرف الجواد كأنما ... قد أنعلوه بالرياح الأربع «2» لا شىء أسرع منه إلّا خاطرى ... فى شكر نائلك اللطيف الموقع ولو أنّنى أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الأروع «3» أنظمته حبّ القلوب لحبّه ... وجعلت مربطه سواد المدمع وخلعت ثم قطعت غير مضيّق ... برد الشباب لجلّه والبرقع وكتب إليه في جواب كتاب ورد عليه: أنسيم الرياض حول الغدير ... مازجته ريّا الحبيب الأثير «4» أم ورود البشير بالنّجح من ف ... كّ أسير أو يسر أمر عسير قى ملاء من الشباب جديد ... تحت أيك من التّصابى نضير «5» أم كتاب الأمير سيدنا الفر ... د؛ فيا حبذا كتاب الأمير وثمار الصدور ما أجتنيه ... من سطور فيها شفاء الصدور نمّقتها أنامل تفتق الأن ... وار والزهر في رياض السطور كالمنى قد جمعن في النّعم الغ ... رّ مع الأمن من صروف الدهور يا أبا الفضل وابنه وأخاه ... جلّ باريك من لطيف خبير شيم يرتضعن درّ المعالى ... ويعبّرن عن نسيم العبير

وسجايا كأنهنّ لدى النش ... ر رضاب الحيا بأرى منشور «1» ومحيا لدى الملوك محيّا ... صادق البشر مخجل للبدور فأجابه أبو الفضل بأبيات يقول فيها في صفة أبياته: وهدىّ زفّت إلى السّمع بكر ... تتهادى في حلية وشذور «2» عجب الناس أن بدت من سواد ... فى بياض كالمسك في الكافور نظمت في بلاغة ومعان ... مثل نظم العقود فوق النحور كم تذكّرت عندها من عهود ... للتلاقى في ظلّ عيش نضير فذممت الزمان إذ ضنّ عنا ... باجتماع يضمّ شمل السرور ولئن راعنا الزمان ببين ... ألبس الأنس ذلّة المهجور فعسى الله أن يعيد اجتماعا ... فى أمان من حادثات الدهور إنه قادر على ردّ مافا ... ت وتيسير كلّ أمر عسير وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابى في الوزير المهلّبى: قل للوزير أبى محمد الّذى ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافه لك في المجالس منطق يشفى الجوى ... ويسوغ في أذن الأذيب سلافه «3» وكأنّ لفظك جوهر متنخّل ... وكأنما آذاننا أصدافه «4» والمهلبى هذا هو أبو محمد الحسن بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد ابن حاتم بن قبيصة بن المهلّب، وزر لأحمد بن بويه الدّيلمى، وكانت وزارته سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان أبو محمد من سروات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعفّائهم؛ وفيه يقول أبو إسحاق الصابى:

نعم الله كالوحوش فما تأ ... لف إلا الأخاير النّسّاكا نفّرتها آثام قوم وصيّرن ... لها البرّ والتّقى أشراكا وكان قبل اتّصاله بالسلطان سائحا في البلاد، على طريق الفقر والتصوّف، قال أبو على الصوفى: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في إحدى طرقاته، فضجر لضيق الحال، فقال: ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش مالا خير فيه ألا رحم المهيمن نفس جرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه ثم تصرّف بما يرضيه الدهر، وبلغ المهلى مبلغه. قال أبو على: دخلت البصرة فاجتزت بسرّ من رأى، وإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيّارات في عدّة وعدد، فسألت: لمن هذا؟ فقيل: للوزير المهلبى، ونعتوا لى صاحبى؛ فوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت إليه رقعة، وتوصّلت حتى دخلت فسلّمت، وجلست حتى خلا مجلسه، فدفعت إليه الرقعة وفيها: ألا قل للوزير بلا احتشام ... مقال مذكّر ما قد نسيه أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... «ألا موت يباع فأشتريه» فنظر إلىّ وقال: نعم، ثم نهض وأنهضنى معه إلى مجلس الأنس، وجعل يذاكرنى ما مضى، ويذكر لى كيف ترقّت حاله، وقدّم الطعام فطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر «1» ، ومع الآخر تخوت وثياب، ومع الآخر طيب، وبخور، وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل؛ فقال: يا أبا على؛ تفضّل بقبول هذا، ولا تتخلّف عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت، فلما هممت بالخروج من الباب استردّنى وأنشدنى بديها: رقّ الزمان لفاقتى ... ورثى لطول تحرّقى

وأنالنى ما أرتجى ... وأجار ممّا أتّقى فلأغفرنّ له الكث ... ير من الذنوب السّبّق إلّا جنايته التى ... فعل المشيب بمفرقى «1» قال بعض العلماء: العقول لها صور مثل صور الأجسام، فإذا أنت لم تسلك بها سبيل الأدب حارت وضلّت، وإن بعثتها في أوديتها كلّت وملّت، فاسلك بعقلك شعاب المعانى «2» والفهم، واستبقه بالجمام للعلم «3» ، وارتد لعقلك أفضل طبقات الأدب، وتوقّ عليه آفة العطب؛ فإنّ العقل شاهدك على الفضل، وحارسك من الجهل. واعلم أنّ مغارس العقول كمغارس الأشجار؛ فإذا طابت بقاع الأرض للشجر زكا ثمرها، وإذا كرمت النفوس للعقول طاب خيرها، فاغمر نفسك بالكرم، تسلم من الآفة والسّقم. واعلم أنّ العقل [الحسن] فى النفس اللئيمة، بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة، ينتفع بثمرها على خبث المغرس؛ فاجتن ثمر العقول وإن أتاك من لئام الأنفس. [وقال النبى عليه السلام: «ربّ حامل فقه إلى من هو أوعى له» . وقيل: رب حامل فقه غير فقيه، ورب رمية من غير رام] . وقيل: الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها أخذها. وسمع الشّعبىّ الحجاج ابن يوسف وهو على المنبر يقول: أمّا بعد، فإنّ الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرّنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، وأقصروا من الأمل، لقصر الأجل.

[وصف الكتب]

فقال: كلام حكمة خرج من قلب خراب! وأخرج ألواحه فكتب وقد روى ذلك عن سفيان الثورى. وقد سمع إبراهيم بن هشام وهو يخطب على المنبر ويقول: إن يوما أشاب الصغير، وأسكر الكبير، ليوم شرّه مستطير! [وصف الكتب] قال الجاحظ: الكتاب وعاء ملىء علما، وظرف حشى ظرفا، وبستان يحمل في ردن «1» ، وروضة تقلّب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء. وقال: من صنّف كتابا فقد استهدف «2» ؛ فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف «3» . وقال: لا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، وأقلّ جناية، ولا أقلّ إملالا وإبراما، ولا أقلّ خلافا وإجراما، ولا أقلّ غيبة، ولا أبعد من عضيهة» ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقل صلفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد فى جدال، ولا أكفّ عن قتال، من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أقلّ مئونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا فى كل أوان، ولا أوجد في غير إبّان، من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنّه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب.

ودخل الرشيد على المأمون وهو ينظر في كتاب، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب يشحذ الفكرة، ويحسن العشرة. فقال: الحمد لله الذى رزقنى من يرى بعين قلبه أكثر مما يرى بعين جسمه. وقيل لبعض العلماء: ما بلغ من سرورك بأدبك وكتبك؟ فقال: هى إن خلوت لذّتى، وإن اهتممت سلوتى، وإن قلت: إنّ زهر البستان، ونور الجنان، يجلوان الأبصار، ويمتعان بحسنهما الألحاظ؛ فإن بستان الكتب يجلو العقل، ويشحذ الذّهن، ويحيى القلب، ويقوّى القريحة، ويعين الطبيعة، ويبعث نتائج العقول، ويستثيرد فائن القلوب، ويمتع في الخلوة، ويؤنس في الوحشة، ويضحك بنوادره، ويسرّ بغرائبه، ويفيد ولا يستفيد، ويعطى ولا يأخذ، وتصل لذّته إلى القلب، من غير سآمة تدركك، ولا مشقة تعرض لك. وقال أبو الطيب المتنبى: وللسّرّ منّى موضع لا يناله ... نديم، ولا يفضى إليه شراب وللخود منى ساعة، ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب «1» وما العشق إلّا غرّة وطماعة ... يعرّض قلب نفسه فيصاب وغير فؤادى للغوانى رميّة ... وغير بنانى للرّخاخ ركاب «2» تركنا لأطراف القنا كلّ لذّة ... فليس لنا إلّا بهنّ لعاب «3» نصرّفه للطّعن فوق سوابح ... قد انقصفت فيهنّ منه كعاب «4» أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزّمان كتاب

فقر في الكتب

فقر في الكتب إنفاق الفضّة على كتب الآداب، يخلفك عليه ذهب الألباب. إنّ هذه الآداب شوارد، فاجعلوا الكتب لها أزمّة. كتاب الرجل عنوان عقله، ولسان فضله. ابن المعتز: من قرأ سطرا من كتاب قد خطّ عليه فقد خان كاتبه؛ لأن الخطّ يحرز ماتحته. بزرجمهر: الكتب أصداف الحكم، تنشقّ عن جواهر الكلم بعض الكتاب: إعجام الخطّ يمنع من استعجامه، وشكله يؤمن من إشكاله. كأن هذا الكاتب نحا إلى قول أبى تمام: ترى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه، ومشكولا إذا كان مشكلا ما كتب قرّ، وما حفظ فرّ. الخطوط المعجمة، كالبرود المعلمة. وقال ابن المعتز يصف كتابا: وذى نكت موشّى نمقّته ... وحاكته الأنامل أىّ حوك بشكل يرفع الإشكال عنه ... كأن سطوره أغصان شوك جملة من ألفاظ أهل العصر فى صفة الكتب وتهاديها، وما يتعلق بأسمائها ومعانيها حضرة مولاى تجلّ عن أن يهدى إليها غير الكتب، التى لا يترفّع عنها كبير، ولا يمتنع منها خطير، وقد فكّرت فيما أنفذت به مقيما للرّسم في جملة الخدم، وحافظا للاسم في غمار الحشم، فلم أجد إلا الرّقّ الذى سبق ملكه له، والمال الذى منحه وخوّله، فعدلت إلى الأدب الذى تنفق سوقه بباب سيدنا ولا تكسد، وتهبّ ريحه بجانبه ولا تركد. وأنفذت كتابى هذا راجيا أن أشرّف بقبوله، ويوّقع إلىّ بحصوله؛ ولمّا وجب على ذوى الاختصاص لسيدنا إهداء ما جرت العادة بتسابق الأولياء إلى الاجتهاد في إهدائه «1» ، وجب العدول في إقامة رسم الخدمة إلى اتباع

ما صدر عنه من الرخصة فيما تسهل كلفته، وتجلّ عند ذوى الألباب قيمته، وتحلو ثمرته؛ وهو علم يقتنى، وأدب يجتنى. قال أبو الحسن بن طباطبا العلوى: لا تنكرن إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه فالله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه وأهدى أحمد بن يوسف «1» إلى المأمون في يوم مهرجان هدية قيمتها ألف ألف درهم، وكتب: على العبد حقّ فهو لابدّ فاعله ... وإن عظم المولى وجلّت فضائله ألم ترنا نهدى إلى الله ماله ... وإن كان عند ذا غنى وهو قابله وقال أبو الفتح البستى: لا تنكرنّ إذا أهديت نحوك من ... علومك الغرّ أو آدابك النّتفا فقيّم الباغ قد يهدى لمالكه ... برسم خدمته من باغه التّحفا «2» وكتب أبو إسحاق الصابى إلى عضد الدولة في هذا المعنى: العبيد تلاطف ولا تكاثر الموالى في هداياها، والموالى تقبل الميسور منها قبولا هو محسوب في عطاياها. ولما كان- أدام الله تعالى عزّه! - مبرّزا على ملوك الأرض في الخطر الذى قصّروا عنه شديدا، والسعى الذى وقفوا منه بعيدا، والآداب التي عجزوا عن استعلامها فضلا عن علمها، والأدوات التي نكلوا «3» عن استفهامها فضلا عن فهمها، وجب أن يعدل عن اختياراتهم فيما تحظى به الجسوم البهيمية، إلى اختياره

فيما تحظى به النفوس العليّة، وعما ينفق في سوقهم العامية، إلى ما ينفق في سوقه الخاصية، إفرادا لرتبته العليا، وغايته القصوى، وتمييزا له عمن لا يجرى معه في هذا المضمار، ولا يتعلّق منه بالغبار؛ وقد حملت إلى الخزانة- عمرها الله! - شيئا من الدفاتر وآلة النجوم، فإن رأى مولانا أن يتطوّل «1» على عبده بالإذن فى عرض ذلك عليه مشرّفا له وزائدا في إحسانه إليه فعل إن شاء الله تعالى. وأهدى أبو الطيب المتنبى إلى أبى الفضل بن العميد في يوم نوروز قصيدة مدحه فيها «2» يقول في آخرها: كثر الفكر كيف نهدى كما ته ... دى إلى ربّها الرئيس عباده والّذى عندنا من المال والخيل ... فمنه هباته وقياده فبعثنا بأربعين مهار ... كلّ مهر ميدانه إنشاده فارتبطها فإنّ قلبا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده وفي هذه الكلمة يقول وقد احتفل فيها، واجتهد في تجويد ألفاظها ومعانيها، فعقّب عليه أبو الفضل في مواضع وقف عليها فقال «3» : هل لعذرى إلى الهمام أبى الفضل ... قبول سواد عينى مداده أنا من شدّة الحياء عليل ... مكرمات المعلّه عوّاده «4» ما كفانى تقصير ما قلت فيه ... عن علاه حتى ثناه انتقاده

[فقر في وصف الكتب]

ما تعوّدت أن أرى كأبى الفض ... ل، وهذا الّذى أتاه اعتياده عمرتنى فوائد شاء منها ... أن يكون الكلام ممّا أفاده ما سمعنا بمن أحبّ العطايا ... فاشتهى أن يكون منها فؤاده وقد كان مدحه بقصيدته التي أولها: باد هواك صبرت أم لم تضبرا ... وبكاك إن لم يجردمعك أو جرى وفيها معان مخترعة، وأبيات مبتدعة، يقول فيها: من مبلغ الأعراب أنّى بعدها ... جالست رسطاليس والإسكندرا ومللت نحر عشارها فأضافنى ... من ينحر البدر النّضار لمن قرى «1» وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملّكا متبديا متحضرا «2» ورأيت كلّ الفاضلين كأنما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا وفيها يقول: فدعاك حسّدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعى من أبصرا أخذه من قول الطائى يصف قصائده: بقرب يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع «3» [فقر في وصف الكتب] كتاب كتب لى أمانا من الدّهر، وهنّانى في أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد فوق الأعداد، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد. كتاب النظر فيه

نعيم مقيم، والظفر به فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من الكتب الميامين «1» ، التى تأتى من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره «2» ، واعتددته من فرص العيش وغرره «3» . كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلّع، وأحسن واقع، وأجلّ متوقع. كتاب لو قرىء على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طيّا ونشرا، وقبّلته ألفا، ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الرّوض والزّهر، وغفرت للزمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. كتاب أملته هزّة المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل عن لسانك. أنا ألتقط من كلّ حرف تديره أنا ملك تحفة، وآخذ من كل سطر تتجشّم تخطيطه نزهة. إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبى خفّا «4» ، وإذا تأمّلت من كلامك لفظا، ازددت من أنسى حظّا. كتاب كتب لى أمانا من الزمان، وتوقيع وقع مىّ موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلّة المسافر «5» ، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز «6» . كتاب هو رقية القلب السليم «7» ، وغرّة العيش البهيم «8» . كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتّعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود «9» ، ووكلت طرفى من سطوره بوشى مهلّل، وتاج مكلّل، وأودعت سمعى من محاسنه

ما أنسانى سماع الأغانى من مطربات الغوانى «1» . نشأت سحابة من لفظك، غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة، سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب «2» ؛ فاهتزّت وربت، واكتست ما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطا إلىّ من السماء، اهتزازا لمطلعه، وابتهاجا بحسن موقعه، تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفضّ الرّحيق المختوم «3» . كتاب كالمشترى شرف به المسير، وقميص يوسف جاء به البشير. كتاب هو من الحسن، روضة حزن، بل جنّة عدن، وفي شرح النفس وبسط الأنس برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. قد أهديت إلىّ محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلى والحلل محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شمّ الولد. ورد منك المسك ذكيا، والزهر جنيّا، والماء مريّا «4» ، والعيش هنيّا، والسحر بابليّا «5» كتاب مطلعه أهلّة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد. كتاب وجدته قصير العمر، كليالى الوصال بعد الهجر، لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر منه الأوّل. كتاب منتقض الأطراف، منقطع الأكتاف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح، كتاب كأنه توقيع متحرّز، أو تعريض متبرز «6» ، كاد يلتقى طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب التقت طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا. ما أظننى

[المحادثة والمجالسة]

ابتدأته حتى ختمته، ولا استفتحته حتى أتممته، ولا لمحته حتى استوفيته، ولا نشرته حتى طويته، وأحسبنى لو لم أجوّد ضبطه، ولم ألزم يدىّ حفظه، لطار حتى يختلط بالجو، فلا أرى منه إلا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدى لخفته، ويلطف عن حسّى لقلته، وعجبت كيف لم تحمله الرياح قبل وصوله إلىّ، وكيف لم يختلط بالهواء عند وصوله لدىّ. كتاب قصّ الاقتصار أجنحته، فلم يدع له قوادم ولا خوافى، وأخذ الاختصار جثته، فلم يبق ألفاظا ولا معانى. طلع كتابك كإيماء بطرف، أو وحى بكفّ. وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز: استعرت من على بن يحيى المنجم جزءا فيه أخبار معبد بخط حماد بن إسحاق الموصلى، وكان وعدنى به، فبعث إلى بستّ ورقات لطاف، فرددتها وكتبت إليه: «إن كنت أردت بقولك جزءا الجزء الذى لا يتجزّأ فقد أصبت، وإن كنت أردت جزءا فيه فائدة للقارىء، ومتعة للسامع، فقد أحلت «1» ؛ وقد رددته عليك بعد أن طار اللّحظ عليه طيرة» . فأجابنى: إذا كان السّفر عندك منجاة فما أصنع «2» ؟ [المحادثة والمجالسة] وقال أبو العباس: دخل رجل على الحسن بن سهل بعد أن تأخّر عنه أياما، فقال: ما ينقضى يوم من عمرى لا أراك فيه إلا علمت أنه مبتور القدر، منحوس الحظّ، مغبون الأيام. فقال الحسن: هذا لأنّك توصل إلى بحضورك سرورا لا أجده عند غيرك،

وأتنسّم من أرواح عشرتك ما تجد الحواسّ به بغيتها، وتستوفى منه لذّتها، فنفسك تألف منى مثل ما آلفه منك. وكان يقال: محادثة الرّجال تلقيح الألباب «1» . وقال ابن الرومى: ولقد سئمت مآربى ... فكأنّ أطيبها خبيث إلّا الحديث؛ فإنّه ... مثل اسمه أبدا حديث قال مخارق: لقينى أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم قبل نسكه، فقال: أنا والله صبّ بك، ولوع إليك، مغمور القلب «2» بشكرك، واللسان بذكرك، متشوّف إلى رؤيتك ومفاوضتك، وقد طالت الأيام على ما أعد به نفسى من الاجتماع معك، ومن قضاء الوطر منك؛ فما عندك؟ أنا الفداء لك! وتزورنى أم أزورك؟ قلت: جعلنى الله فداك! ما يكون عند من هو منك بهذا الموضع وفي هذا المحلّ إلا الانقياد إلى أمرك، والسمع والطاعة لك، ولولا أن أسىء الأدب في أمر بدأت فيه بالفضل لقلت: إن كثير ما ابتدأت به من القول يقلّ فيما عندى من الشوق إليك، والشّعف بك، دون ما حرّك هذا القول منى، فوجبت لك به المنّة علىّ، وأنا بين يديك، فاثن عنانى إلى ما أردت، وقدنى كيف شئت، تجدنى كما قال القائل: ما تشتهيه فإنى اليوم فاعله ... والقلب صبّ فما جشّمته جشما وذكر سهل بن هارون رجلا، فقال: لم أر أحسن منه فهما لجليل، ولا تفهما لدقيق أشار إليه أبو تمام فقال: وكنت أعزّ عزّا من قنوع ... تعرّضه صفوح من ملول فصرت أذلّ من معنى دقيق ... به فقر إلى ذهن جليل «3»

وقال سعيد بن مسلم للمأمون: لو لم أشكر الله تعالى إلّا على حسن ما أبلانى من أمير المؤمنين من قصده إلىّ بحديثه، وإشارته إلىّ بطرفه؛ لقد كان فى ذلك أعظم الرّفعة، وأرفع ما توجبه الحرمة. فقال: يفعل أمير المؤمنين ذلك؛ لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدّثت وحسن الفهم إذا حدّثت ما لا يجده عند أحد ممن مضى، ولا يظنّ أنه يجده عند أحد ممن بقى، فإنك لتستقصى حديثى، وتقف عند مقاطع كلامى، وتخبر بما كنت أغفلته منه. وقال المتوكل لأبى العيناء: ما تحسن؟ قال: أفهم وأفهم. وقال بعض الحكماء لتلميده، وقد ضرب الموسيقى: أفهمت؟ قال: نعم، قال: بل لم تفهم؛ لأنى لا أرى عليك سرور الفهم! وقد قيل: من نظر إلى الربيع وأنواره، والروض وأصباغه، ولم يبتهج كان عديم حسّ، أوسقيم نفس. ومر أبو تمام بايرشهر من أرض فارس، فسمع جارية تغنّى بالفارسية، فشاقه شجىّ الصوت، فقال: ومسمعة تروق السمع حسنا ... ولم تصممه، لا يصمم صداها! لوت أوتارها فشجت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها ولم أفهم معانيها، ولكن ... ورت كبدى فلم أجهل شداها فكنت كأننى أعمى معنّى ... يحبّ الغانيات ولا يراها قال أبو الفضل أحمد بن أبى طاهر: قلت لأبى تمام: أخذت هذا المعنى من أحد؟ قال: نعم، أخذته من قول بشار بن برد: يا قوم أذنى لبعض الحىّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا: بمن لا ترى تهذى؟ فقلت لهم: ... الأذن كالعين توفى القلب ما كانا وقال بشار أيضا في هذا المعنى: قالت عقيل بن كعب إذ تعلّقها ... قلبى فأضحى به من حبّها أثر:

أنّى ولم ترها تهذى! فقلت لهم: ... إنّ الفؤاد يرى مالا يرى البصر وقال: يزهّدنى في حبّ عبدة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبى فقلت: دعوا قلبى وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الّلبّ وما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذنان إلا من القلب وقد قال أبو يعقوب الخريمى في هذا المعنى، وكان قد أعور ثم عمى، وقيل: إنها للخليل بن أحمد: قالت أتهز أبى غداة لقيتها ... يا للرجال لصبوة العميان فأجبتها: نفسى فداؤك إنما ... أذنى وعينى في الهوى سيّان وقريب من هذا قول الحكم بن قنبر، وإن لم يكن منه: إن كنت لست معى قالذكر منك معى ... يرعاك قلبى وإن غيّبت عن بصرى العين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر وقال آخر: أما والّذى لو شاء لم يخلق الهوى ... لئن غبت عن عينى فما غبت عن قلبى ترينيك عين الوهم حتى كأننى ... أناجيك من قرب وإن لم تكن قربى «1» وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم: لئن كان عن عينىّ أحمد غائبا ... فما هو عن عين الضمير بغائب له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولم تتخطّفها أكفّ النوائب

إذا ساءنى منه شحوط مزاره ... وضاقت بقلبى في نواه مذاهبى «1» عطفت على شخص له غير نازح ... محلّته بين الحشا والتّرائب «2» وذكر أبو عبيدة كيسان مستمليه في بعض الأمر، فقال: ما فهم، ولو فهم لوهم «3» . وكان كيسان يوصف بالبلادة والغفلة. قال الجاحظ: كان يكتب غير ما يسمع، ويستقنى غير ما يكتب، ويقرأ غير ما يستفتى «4» ، ويملى غير ما يقرأ، أمليت عليه يوما: عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمر فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستقنى أبا زيد. قال أبو عباد: للمحدث على جليسه، السامع لحديثه، أن يجمع له باله، ويصغى إلى حديثه، ويكتم عليه سرّه، ويبسط له عذره. وقال: ينبغى للمحدث إذا أنكر عين السامع أن يستفهمه عن معنى حديثه، فإن وجده قد أخلص له الاستماع أتم له الحديث، وإن كان لاهيا عنه حرمه حسن الإقبال عليه، ونفع المؤانسة له، وعرفه بسوء الاستماع والتقصير في حق المحدث. وقال: نشاط المحدّت على قدر فهم المستمع. وكان عبد الله بن مسعود «5» - رضي الله عنه! - يقول: حدّث الناس ما حدّجوك بأسماعهم «6» ، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فتورا فأمسك. وقال أبو الفتح البستى: إذا أحسست في لفظى فتورا ... وحفظى والبلاغة والبيان

فلا ترتب بفهمى إنّ رقصى ... على مقدار إيقاع الزّمان وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. وقال الحسن- وقد سمع متكلّما يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقّ لها-: يا هذا؛ إن بقلبك لشرّا، أو بقلبى! وقال محمد بن صبيح المعروف بابن السماك لجاريته: كيف ترين ما أعظ الناس به؟ قالت: هو حسن، إلا أنك تكرره، قال: إنما أكرّره ليفهمه من لم يكن فهمه، قالت: إلى أن يفهمه البطىء يثقل على سمع الذكى. واستعيد ابن عباس حديثا فقال: لولا أنى أخاف أن أغضّ من بهائه، وأريق من مائه، وأخلق من جدّة روائه، لأعدته. وقال أبو تمام الطائى يصف قصائده: منزّهة عن السّرق المؤدّى ... مكرّمة عن المعنى المعاد أخذه البحترى فقال: لا يعمل اللّفظ المكرّر فيه واللفظ المردّد والإطالة مملولة كما يملّ التكرير. وقد قال الحسن بن سهل: الآداب عشرة؛ فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربيّه، وواحدة أربت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصّوالج. وأما الأنوشروانية فالطّب، والهندسة، والفروسية. وأما العربية فالشّعر، والنّسب، وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهنّ: فمقطعات الحديث، والسمر، وما يتلقّاه الناس بينهم في المجالس. وكان يقال: خذ من العلوم نتفها، ومن الآداب طرفها. وكان يقال: مقطّعات الأدب، قراضات الذهب.

وحضر بشار بن برد مجلسا فقال: لا تجعلوا مجلسنا غناء كلّه، ولا شعرا كله، ولا سمرا كله، ولكن انتهبوه انتهابا. وقال الحسن رحمه الله: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدّثور، واقدعوا «1» هذه الأنفس فإنها طلعة «2» ؛ وإنكم إلّا تزعوها «3» تنزع بكم إلى شرّ غاية. وقال أزدشير بن بابك: إن للأذهان كلالا، وللقلوب ملالا، ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استجماما. ويروى في حكمة آل داود: لا ينبغى للعاقل أن يخلى نفسه من أربع: عدّة لمعاده، وصلاح لمعاشه، وفكر يقف به على ما يصلحه من فساده، ولذة في غير محرّم يستعين بها على الحالات الثلاث. وما أحسن ما قال أبو الفتح بن كشاجم «4» : عجبى ممّن تناهت حاله ... وكفاه الله ذلّات الطلب كيف لا يقسم شطرى عمره ... بين حالين نعيم وأدب؟ ساعة يمتع فيها نفسه ... من غذاء وشراب منتخب ودنوّ من دمى هنّ له ... حين يشتاق إلى اللّعب لعب «5» فإذا ما نال من ذا حظّه ... فحديث ونشيد وكتب مرة جدّ، وأخرى راحة ... فإذا ما غسق الليل انتصب فقضى الدنيا نهارا حقّها ... وقضى لله ليلا ما وجب

[عود إلى الإطالة والإيجاز]

تلك أقسام متى يعمل بها ... دهره يسعدو يرشد ويصب وقال أبو العباس محمد بن يزيد: قسّم كسرى أيامه فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس لقضاء الحوائج. قال الحسن بن خالويه «1» : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولكن نبيّنا صلى الله عليه وسلم قد جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس؛ فكان يستعين بالخاصّة على العامة، وكان يقول: أبلغونى حاجة من لا يستطيع إبلاغى؛ فانه من أبلغ [ذا سلطان] حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله تعالى يوم الفزع الأكبر. [عود إلى الإطالة والإيجاز] وقال شبيب بن شيبة «2» : إن ابتليت بمقام لابد لك فيه من الإطالة فقدّم إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل، قبل التقدّم من إحكام البلوغ في

شرف التّجويد؛ ثم إياك أن تعدل بالسلامة شيئا، فقليل كاف خير لك من كثير غير شاف. وكان جعفر بن يحيى يقول لكتّابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كلّه مثل التوقيع فافعلوا. وقال ثمامة بن أشرس: لم أرقط أنطق من جعفر بن يحيى بن خالد، وكان صاحب إيجاز. وكان أبو وائلة إياس بن معاوية- على تقدّمه في البلاغة، وفضل عقله وعلمه- بالإكثار معيبا، وإلى التطويل منسوبا، وقال له عبد الله بن شبرمة: أنا وأنت لا نتفق، أنت لا تشتهى أن تسكت، وأنا لا أشتهى أن أسمع. وقيل له: ما فيك عيب إلا كثرة كلامك، قال: أفتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا: بل صوابا، قال: فالزيادة في الخير خير. قال الجاحظ: وليس كما قال، بل للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والكلال؛ فذلك هو الفضال «1» والهذر والخطل والإسهاب الذى سمعت الخطباء يعيبونه. وذكر الأصمعى أن ابن هبيرة لما أراد إياسا على القضاء قال: إنى والله لا أصلح له، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّى دميم حديد، ولأنى عيىّ، قال ابن هبيرة: أما الحدّة فإن السّوط يقوّمك؛ وأما العىّ فقد عبّرت عما تريد؛ وأما الدّمامة فإنى لا أريد أن أحاسن بك. ولم يصفه أحد بالعىّ، وإنما كان يعاب بالإكثار، ولكنه أراد المدافعة عن نفسه والحديث ذو شجون «2» .

قال أبو العيناء، ذكرت لبعض القيان فعشقتنى على السماع، فلما رأتنى استقبحتنى، فقلت: وشاطرة لما رأتنى تنكّرت ... وقالت: قبيح أحول ما له جسم فإن تنكرى منى أحولا لا فإنّنى ... أديب أريب لا عيىّ ولا فدم «1» [فاتصل بها الشعر،] فكتبت إلى: إنّا لم نرد أن نولّيك ديوان الزمام! وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتب إلى عدى بن أرطاة «2» : إن قبلك رجلين من مزينة- يعنى بكر بن عبد الله، وإياس بن معاوية- فولّ أحدهما قضاء البصرة؛ فأحضرهما، فقال بكر: والله ما أحسن القضاء؛ فإن كنت صادقا فما تحلّ توليتى، وإن كنت كاذبا فذلك أوجب لتركى، فقال إياس: نكم وقفتموه على شفير جهنّم، فافتدى منها بيمين يكفرها، ويستغفر الله تعالى امنها، فقال له عدىّ: أما إذ اهتديت لها فأنت أحقّ بها، فولّاه. ودخل إياس الشام وهو غلام صغير، فقدّم خصما له إلى بعض القضاة، وكان الخصم شيخا، فصال عليه إياس بالكلام، فقال له القاضى: خفّض عليك فإنه شيخ كبير، قال: الحقّ أكبر منه، قال: اسكت! قال: فمن ينطق بحجّتى؟ قال: ما أراك تقول حقّا، قال: لا إله إلا الله! فدخل القاضى على عبد الملك فأخبره؛ فقال: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام لا يفسد أهلها «3» ! وقال أحمد بن الطيب السّرخسى تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندى «4» :

[الملح]

كنت يوما عند العباس بن خالد، وكان ممن حبّب الله إليه أن يتحدّث، فأخذ يحدّثنى، وينتقل من حديث إلى حديث، وكنا في صحن له، فلما بلغتنا الشمس انتقلنا إلى موضع آخر، حتى صار الظلّ فيئا؛ فلما أكثر وأضجر، ومللت حسن الأدب في حسن الاستماع، وذكرت قول الأوزاعى: إن حسن الاستماع قوة للمحدث، قلت له: إذا كنت وأنا أسمع قد عييت مما لا كلفة علىّ فيه، فكيف أراك وأنت المتكلم؟ فقال: إنّ الكلام يحلّل الفضول اللّزجة الغليظة التي تعرض فى اللهوات وأصل اللسان ومنابت الأسنان، فوثبت وقلت: لا أرانى معك اليوم إلا «إيارج الفيقرا» ؛ فأنت تتغر غربى! فاجتهد في أن أجلس فلم أفعل. قال أحمد بن الطيب: كنا مرّة عند بعض إخواننا، فتكلّم وأعجبه من نفسه البيان، ومنّا حسن الاستماع، حتى أفرط، فعرض لبعض من حضر ملل، فقال: إذا بارك الله في الشىء لم يفن، وقد جعل الله تعالى في حديث أخينا البركة!. ولعبد الله بن سالم الخياط في رجل كثير الكلام: لى صاحب في حديثه البركه ... يزيد عند السكون والحركه لو قال لا في قليل أحرفها ... لردّها بالحروف مشتبكه ومن طرائف التطويل ما أنشأه البديع، وسيمرّ من كلامه ما هو آنق من زهر الربيع. [الملح] قال الأصمعى: بالعلم وصلنا، وبالملح نلنا، وقال الأصمعى أيضا: أنشدت محمد بن عمران قاضى المدينة، وكان أعقل من رأيته: يأيها السائل عن منزلى ... نزلت في الخان على نفسى

يغدو علىّ الخبز من خابز ... لا يقبل الرّهن ولا ينسى «1» آكل من كيسى ومن كسرتى ... حتى لقد أوجعنى ضرسى فقال: اكتب لى هذه الأبيات، فقلت: أصلحك الله! هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروى مثل هذا الأحداث، فقال: اكتبها فالأشراف تعجبهم الملح. وقد قال أبو الدّرداء رحمه الله تعالى: إنى لأستجمّ نفسى ببعض الباطل، ليكون أقوى لها على الحقّ. [وقال ابن مسعود رحمه الله: القلوب تمل كما تمل الأبدان، فاطلبوا لها طرائف الحكمة] . وقال ابن الماجشون: لقد كنّا بالمدينة وإن الرجل ليحدّثنى بالحديث من الفقه فيمليه علىّ، ويذكر الخبر من الملح فأستعيده فلا يفعل، ويقول: لا أعطيك ملحى، وأهبك ظرفى وأدبى. وقال ابن الماجشون: إنى لأسمع بالكلمة المليحة ومالى إلا قميص واحد؛ فأدفعه إلى صاحبها، وأستكسى الله عزّ وجلّ. وقال الزبير بن بكار «2» : رؤى الغاضرىّ ينازع أشعب الطمع عند بعض الولاة، ويقول: أصلح الله الأمير! إنّ هذا يدخل علىّ في صناعتى، ويطلب مشاركتى في بضاعتى، وهيأته هيأة قاض، والأمير يضحك، وكانا جميعا فرسى رهان ورضيعي لبان في بيانهما؛ إلا أنّ الغاضرى [كان] لا يتخلّق بالطّمع تخلّق أشعب. وأتى الغاضرىّ يوما الحسن بن زيد فقال: جعلت فداك! إنى عصيت الله ورسوله، قال: بئس ما صنعت! وكيف ذلك؟ قال: لأن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة، وأنا أطعت امرأتى، فاشتريت غلاما فهرب. قال الحسن: فاختر واحدة من ثلاث: إن شئت فثمن الغلام، قال: بأبى أنت! قف عند هذه ولا تتجاوزها! قال: أعرض عليك الخصلتين، قال: لا، حسبى هذه. وقد روى نحو هذا عن أشعب، أنه قال له بعض إخوانه: لو صرت إلىّ العشيّة نتفرج؟ قال: أخاف أن يجىء ثقيل، قلت: ليس معنا ثالث، فمضى معى، فلمّا صلينا الظهر ودعوت بالطعام، فإذا بداقّ يدقّ الباب، قال: ترى أن قد صرنا إلى ما نكره، قلت له: إنه صديق، وفيه عشر خصال إن كرهت واحدة منهن لم آذن له، قال: هات، قلت: أولها أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك! قل له يدخل! ورأى سفيان الثّورى «1» الغاضرىّ وهو يضحك الناس؛ فقال: يا شيخ أو ما علمت أن لله يوما يخسر فيه المبطلون؟ فوجم الغاضرى، وما زال ذاك يعرف فيه حتى لقى الله عزّ وجلّ. وأشعب الطّمع هو أشعب بن جبير، مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس، قال الزبير بن أبى بكر: كان أهل المدينة يقولون: تغيّر كلّ شىء إلا ملح أشعب، وخبز أبى الغيث، ومشية برّة «2» ؛ وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة، وبرّة بنت سعيد بن الأسود كانت من أجمل النساء وأحسنهنّ مشية، وأشعب يضرب به المثل في الطّمع، وكان أشعب قد نشأ في حجر عائشة

بنت عثمان- رحمها الله! - مع أبى الزناد «1» ، قال أشعب: فلم يزل يعلو وأنحطّ حتى بلغنا الغاية. وقال أشعب: أسلمتنى أمى إلى بزّاز، فسألتنى بعد سنة، أين بلغت؟ فقلت: فى نصف العمل، قالت: وكيف؟ قلت: تعلمت النّشر وبقى الطّىّ، قالت: أنت لا تفلح. وسألته صديقة له خاتما، فقالت: أذكرك به، قال: اذكرى أنك سألتنى ومنعتك! وقيل له: كم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر؟ قال: ثلاثمائة عشر درهما! ثم تنسّك في آخر عمره، وغزا ومات على خير، رحمه الله تعالى!. وقيل لأشعب: أرأيت أطمع منك؟ قال: نعم، كلبة آل فلان، رأت رجلين يمضغان علكا «2» ، فتبعتهما فرسخين تظنّ أنهما يأكلان شيئا. وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤى إلى إسماعيل الأعرج قالوذجة وأشعب حاضر، فقال: كل يا أشعب، فأكل منها؛ فقال: كيف تراها؟ فقال: عليه الطلاق إن لم تكن عملت قبل أن يوحى ربّك إلى النّحل! أى: ليس فيها حلاوة «3» . وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس الحسن بن هانىء على يحيى بن خالد فقال له: أنشدنى بعض ما قلت، فأنشده: إنى أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في علمى حكاية من حكى أتتبّع الظّرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا

فقال له يحيى [بن خالد] : إن [أول] زندك ليورى بأوّل قدحة، فقال ارتجالا في معنى قول يحيى: أما وزند أبى علىّ إنه ... زند إذا استوريت سهل قدحكا إنّ الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدّك للسماح ومنحكا تأبى الصنائع همّتى وقريحتى ... من أهلها وتعاف إلّا مدحكا ووصف أبو عبد الله الجماز أبا نواس فقال: كان أظرف النّاس منطقا، وأغزرهم أدبا، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جوابا، وأكثرهم حياء، وكان أبيض اللّون، جميل الوجه، مليح النغمة والإشارة، ملتفّ الأعضاء، بين الطويل والقصير، مسنون الوجه «1» ، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك «2» ، حلو الصّورة، لطيف الكفّ والأطراف؛ وكان فصيح اللسان، جيّد البيان، عذب الألفاظ، حلو الشمائل، كثير النوادر، وأعلم الناس كيف تكلمت العرب، راوية للأشعار، علّامة بالأخبار، كأن كلامه شعر موزون. وأقبل أبو شراعة العبسى، والجمّاز في حديثه، وكان أقبح الناس وجها، وكانت يد أبى شراعة كأنها كربة نخل «3» ؛ فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبى شراعة لتمّ حسنه؛ فغضب أبو شراعه وانصرف يشتمه. والجماز هو: أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون أنّهم من حمير، نالهم سباء في خلافة أبى بكر، رضي الله عنه، وهم مواليه، وسلم الخاسر عمه «4» ، وكان الجماز من أحلى الناس حكاية، وأكثرهم نادرة. قال بعض جلساء المتوكّل: كنا نكثر عند المتوكل ذكر الجماز حتى

اشتاقه، فكتب في حمله إليه، فلما دخل أفحم، فقال له المتوكل: تكلّم فإنّى أريد أن أستبرئك، فقال: بحيضة أو بحيضتين يا أمير المؤمنين؟ فقال له الفتح «1» : قد كلّمت أمير المؤمنين يولّيك على القرود والكلاب! قال: أفلست سامعا مطيعا؟ فضحك المتوكل وأمر له بعشرة آلاف درهم وكان لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه؛ فدعا ثلاثة، فجاءه ستّة، وقرعوا الباب، ووقفوا على رجل رجل فعدّ أرجلهم من خلف الباب؛ فلما حصلوا عنده، قال: اخرجوا عنى، فإنما دعوت ناسا ولم أدع كراكيّ. وقال الطائى في عمرو بن طوق التغلبى: الجدّ شيمته، وفيه فكاهة ... سجح ولا جدّ لمن لم يلعب «2» شرس، ويتبع ذاك لين خليقة ... لا خير في الصّهباء ما لم تقطب «3» وقال في الحسن بن وهب: لله أيام خطبنا لينها ... فى ظلّه بالخندريس السّلسل «4» بمدامة نغم السماع خفيرها ... لا خير في المعلول غير معلّل «5» يغشى عليها وهو يجلو مقلتى ... باز، ويغفل وهو غير مغفّل لا طائش تهفو خلائقه، ولا ... خشن الوقار كأنّه في محفل فكه يجمّ الجدّ أحيانا، وقد ... ينضى ويهزل عيش من لم يهزل وقال فيه: ولقد رأيتك والكلام لآلىء ... توم فبكر في النّظام وثيّب «6» وكأن قسّا في عكاظ يخطب ... وابن المقفّع في اليتيمة يسهب «7»

[المزاح]

وكأنّ ليلى الأخيلية تندب ... وكثير عزة يوم بين ينسب يكسو الوقار ويستخفّ موقرا ... طورا فيبكى سامعيه ويطرب وقال أبو الفتح البستى: أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة ... براح، وعلّله بشىء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما نعطى الطعام من الملح [المزاح] وما زال الأشراف يمزحون، ويسمحون بما لا يقدح في أديانهم، ولا يغضّ من مروءاتهم. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السّمحة. وقال: إنى لأمزح ولا أقول إلا حقّا. وقيل لسعيد بن المسيّب «1» : إنّ قوما من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر فقال: لقد نسكوا نشكا أعجميّا. وقيل لابن سيرين: إنّ قوما يزعمون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، فأنشد: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رشح استه لاستقرّت «2» وقام يصلّى! وقيل: بل أنشد: أنبئت أنّ عجوزا جئت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصّوم في الطّول [النسيب] وقيل لأبى السائب المخزومى: أترى أحدا لا يشتهى النسيب؟ فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.

وروى مصعب بن عبد الله الزبيرى «1» عن عروة بن عبيد الله بن عروة الزبيرى قال: كان عروة بن أذينة «2» نازلا في دار أبى بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه: إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها فيك الذى زعمت بها، وكلا كما ... أبدى لصاحبه الصّبابة كلّها ولعمرها لو كان حبّك فوقها ... يوما وقد ضحيت إذن لأظلّها «3» فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها بيضاء باكرها النّعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها «4» لمّا عرضت مسلّما، لى حاجة ... أخشى صعوبتها، وأرجو ذلّها «5» منعت تحيّتها فقلت لصاحبى: ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها فدنا وقال: لعلّها معذورة ... فى بعض رقبتها، فقلت: لعلّها «6» قال: فأتانى أبو السائب المخزومى فقلت له بعد التّرحيب به: ألك حاجة.

فقال: نعم أبيات لعروة بلغنى أنك سمعته ينشدها، فأنشدته الأبيات، فلما بلغت قوله: فدنا وقال لعلّها معذورة ... البيت طرب، وقال: هذا والله الدائم الصّبابة، الصادق العهد، لا الذى يقول: إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عنّى فأهلى بى أضنّ وأرغب لقد عدا هذا الأعرابى طوره، وانى لأرجو أن يغفر [الله] لصاحب هذه الأبيات لحسن الظنّ بها، وطلب العذر لها؛ قال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعاما حتى الليل، وانصرف. وكان أبو السائب غزير الأدب، كثير الطّرب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة، وكان جدّه يكنى أبا السائب أيضا، وكان خليطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكره قال: نعم الخليط كان أبو السائب! لا يشارى ولا يمارى «1» واسم أبى السائب عبد الله، وكان أشراف أهل المدينة يستظرفونه ويقدمونه لشرف منصبه، وحلاوة ظرفه. وكان عروة بن أذينة- على زهده، وورعه، وكثرة علمه وفهمه- رقيق الغزل كثيره، وهو القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدى ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبنى بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقّد؟ وقد روى هذان البيتان لغيره

ومرّت به سكينة بنت الحسين بن علىّ بن أبى طالب- رضي الله عنهم! - فقالت له: أنت الذى تزعم أنّك غير عاشق، وأنت تقول «1» : قالت وأبثثتها سرّى فبحت به ... قد كنت عندى تحبّ السّتر فاستتر ألست تبصر من حولى؟ فقلت لهم ... غطّى هواك وما ألقى على بصرى والله ما خرج هذا من قلب سليم فط. وروى الزّبير عن رجل لم يسمّه، قال: قال لى أبو السائب: أنشدنى للأحوص «2» فأنشدته: قالت- وقلت: تحرّحى وصلى ... حبل امرىء بوصالكم صبّ-: صاحب إذن بعلى؟ فقلت لها: ... الغدر شىء ليس من ضربى «3» شيئان لا أدنو لوصلهما ... عرس الخليل وجارة الجنب أمّا الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصانى به ربّى عوجا كذا نذكر لغانية ... بعض الحديث مطيّكم صحبى «4» ونقل لها: فيم الصّدود ولم ... نذنب، بل انت بدأت بالذّنب؟ إن تقبلى نقبل وننزلكم ... منّا بدار السّهل والرّحب أو تهجرى تكدر معيشتنا ... وتصدّعى متلائم الشّعب فقال: هذا والله المحبّ حقا، لا الذى يقول: وكنت إذا حبيب رام هجرى ... وجدت وراى منفسحا عريضا

ثم قال: اذهب، فلا صحبك الله، ولا وسّع عليك «1» ! وخرج أبو حازم يوما يرمى الجمار، فإذا هو بامرأة حاسر «2» قد فتنت الناس بحسن وجهها، وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم، فاتقى الله واستترى؛ فإنّ الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: (وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ) ؛ فقالت: إنى من اللاتى قيل فيهن: أماطت كساء الخزّعن حرّوجهها ... وأرخت على المتنين بردا مهلهلا من الّلاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البرىء المغفّلا «3» الشعر للحارث بن خالد المخزومى. فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة ألّا يعذبها الله تعالى بالنار! فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمّنون، فبلغ ذلك الشعبى، فقال: ما أرقّكم يأهل الحجاز وأظرفكم! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اعزبى عليك لعنة الله! وكان أبو حازم من فضلاء التابعين، وله مقامات جميله من الملوك، وكلام محفوظ يدلّ على فضله وعقله، وهو القائل: كل عمل تكره من أجله الموت فاتركه، ولا يضرك متى متّ. وكان يقول: ما أحببت أن يكون معك غدا فقدّمه اليوم. وكان يقول: إنما بينى وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وإياهم من غد على وجل؛ وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟ وقال أبو العتاهية: حتى متى نحن فى الأيام نحسبها ... وإنما نحن فيها بين يومين يوم تولّى، ويوم نحن نأمله ... لعلّه أجلب اليومين للحين «4»

وروى الزبير بن أبى بكر قال: قدمت امرأة من هذيل المدينة، وكانت جميلة، ومعها ابن لها صغير، وهي أيّم «1» ، فخطبها الناس وأكثروا، فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أحبّك حبّا لا يحبّك مثله ... قريب ولا في العالمين بعيد أحبّك حبّا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد وحبك يا أم العلاء متيّمى ... شهيدى أبو بكر فذاك شهيد ويعلم وجدى القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد ويعلم ما أخفى سليمان كلّه ... وخارجة يبدى لنا ويعيد متى تسألى عما أقول فتخبرى ... فللحبّ عندى طارف وتليد فقال له سعيد بن المسيّب: قد أمنت أن تسألنا، ولو سألتنا ما شهدنا لك بزور. وكان عبيد الله أحد الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم علم المدينة، وقد ذكرهم عبيد الله في هذه الأبيات؛ وهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومى. والقاسم بن [محمد بن] أبى بكر الصديق، وعروة بن الزبير ابن العوام، وسعيد بن المسيب بن حزن، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد ابن ثابت الأنصارى. وقيل لعبيد الله: أتقول الشعر على شرفك؟ فقال: لابد للمصدر أن ينفث «2» ؛ وعبيد الله هو القائل: شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم والتأم الفطور «3» تغلغل حبّ عثمة في فؤادى ... فباديه مع الخافى يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور

أخذه سلم بن عمرو الخاسر فقال: سقتنى بعينيها الهوى وسقيتها ... فدبّ دبيب الخمر في كل مفصل وقال أبو نواس: أحبّ اللوم فيها ليس إلّا ... لترداد اسمها فيها ألام ويدخل حبّها في كل قلب ... مداخل لا تغلغلها المدام» ومنه قول المتنبى: وللسرّ منّى موضع لا يناله ... نديم، ولا يفّضى إليه شراب وقال بعض المحدثين: ما زلت تغوينى وتطلب خلّتى ... حتى حللت بحيث حلّ شرابى «2» ثم انصرفت بغير جرم كان لى ... ما هكذا الأحباب للأحباب أخذ أبو نواس قوله: «أحب اللوم فيها» ... البيت من قول [أبى محمد] ابن أبى أمية: وحدّثنى عن مجلس كنت زينة ... رسول أمين، والنساء شهود فقلت له ردّ الحديث الذى مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد أناشده بالله إلّا أعدته ... كأنى بطىء الفهم عنه بعيد وقول أبى نواس في البيت الأول كقوله: إذا غاديتنى بصبوح لوم ... فممزوجا بتسمية الحبيب فإنى لا أعدّ اللّوم فيها ... عليك، إذا فعلت، من الذنوب ولا أنا إن عمدت أرى جنانا ... وإن ضنت بمبخوس النصيب مقنعة بثوب الحسن ترعى ... بغير تكلّف ثمر القلوب وفي جنان هذه يقول أبو نواس:

يا ذا الذى عن جنان ظلّ يخبرنا ... بالله قل وأعد يا طيّب الخبر قالوا اشتكتك وقالت ما ابتليت به ... أراه من حيث ما أقبلت في أثرى ويرفع الطّرف نحوى إن مررت به ... حتى ليخجلنى من شدة النظر وإن وقفت له كيما يكلّمنى ... فى الموضع الخلو لم ينطق من الحصر «1» ما زال يفعل بى هذا ويدمنه ... حتى لقد صار من همّى ومن وطرى «2» وفي جنان أيضا يقول أبو نواس، وكان بها صبّا، ولها محبّا: جنان تسبّنى ذكرت بخير ... وتزعم أننى رجل خبيث وأن مودّتى كذب ومين ... وأنى للذى تطوى بثوث «3» وليس كذا، ولا ردّ عليها، ... ولكنّ الملول هو النّكوث ولى قلب ينازعنى إليها ... وشوق بين أضلاعى حثيث رأت كلفى بها وقديم وجدى ... فمّلتنى، كذا كان الحديث [وكانت جنان مولاة لبعض الثقفيين] . وفي معنى قول ابن أبى أمية يقول العباس بن الأحنف: وحدثتنى يا سعد عنها فزدتنى ... جنونا فزدنى من حديثك يا سعد وأهل المدينة أكثر الناس ظرفا، وأكثرهم طيبا، وأحلاهم مزاجا، وأشدّهم اهتزازا للسماع، وحسن أدب عند الاستماع. وقال عبد الله بن جعفر: إن لى عند السماع هزّة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت لأبليت. وروى أبو العيناء قال: قال الأصمعى: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا شيخ قديم من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب عليه شملة تستره، فسلّمت عليه، وجلست إليه؛ فبينما أنا كذلك إذ طلعت علينا سويداء

تحمل قربة، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها، فقال لها: بالله غنّى صوتا. فقالت: إن موالىّ أعجلونى، فقال: لا بدّ من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفى فلا، قال: فأنا أحملها، فأخذ القربة منها، فاندفعت تغنّى: فؤادى أسير لا يفكّ، ومهجتى ... تفيض، وأحزانى عليك تطول ولى مقلة قرحى لطول اشتياقها ... إليك، وأجفانى عليك همول فديتك، أعدائى كثير، وشقّتى ... بعيد، وأشياعى لديك قليل «1» فطرب وصرخ صرخة، وضرب بالقربة إلى الأرض فشقّها؛ فقامت الجارية تبكى، وقالت: ما هذا بجزائى منك؛ أسعفتك بحاجتك فعرّضتنى لما أكره من موالىّ. قال: لا تغتمى فإنّ المصيبة علىّ حصلت، ونزع الشّملة ووضع يدا من خلف ويدا من قدّام، وباع الشّملة وابتاع لها قربة جديدة، وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رجل من ولد علىّ بن أبى طالب- رضي الله تعالى عنه! - فعرف حاله، فقال: يا أبا ريحانة! أحسبك من الذين قال الله تعالى فيهم: (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) . قال: لا يابن رسول الله، ولكنى من الذين قال الله تعالى فيهم: (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فضحك، وأمر له بألف درهم. ومرّ بالأوقص المخزومى، وهو قاضى المدينة، سكران [وهو] يتغنّى بليل، فأشرف عليه، وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنّيت خطأ؛ خذه عنى، وأصلح له الغناء. وسمع سعيد بن المسيب منشدا ينشد: فلم تر عينى مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات «2»

مررن بفخ، ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرّحمن مؤتجرات «1» ولما رأت ركب النميرى أعرضت ... وكنّ من أن يلقينه حذرات دعت نسوة شمّ العرانين بزّلا ... نواعم، لا شعثا ولا غبرات «2» فأبرزن لما قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسّىّ والحبرات «3» تضوّع طيبا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات «4» فقال سعيد: هذا والله مما يلذّ استماعه، ثم قال: وليست كأخرى وسّعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجمرات وغالت ببان المسك وحفا مرجّلا ... على مثل بدر لاح في الظّلمات «5» وقامت تراءى بين جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات قال: فكانوا يرون أنّ الشعر الثانى له، والأول لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفى يقوله في زينب بنت يوسف أخت الحجاج؛ [وطلبه الحجاج] حتى ظفر به فقال: أنت القائل ما قلت؟ قال: وهل قلت أصلح الله الأمير إلّا: يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات قال له: كم كنتم إذ تقول: ولما رأت ركب النميرى أعرضت

[من أدب ابن المعتز]

قال: والله ما كنت إلا أنا وصاحب لى على حمار هزيل! فضحك وعفا عنه، وهو القائل: أهاجتك الظّعائن يوم بانوا ... بذى الزّىّ الجميل من الأثاث «1» ظعائن أسلكت في بطن قوّ ... تحثّ إذا رنت أى احتثاث كأنّ على الهوادج يوم بانوا ... نعاجا ترتعى بقل البراث «2» يهيّجك الحمام إذا تغنّى ... كما سجع النّوادب بالمراثى [من أدب ابن المعتز] وقال ابن المعتز: وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طوّاحة طرّاحة، آسية جرّاحة، كم راقد في ظلّها قد أيقظته، وواثق بها قد خانته، حتى يلفظ نفسه، ويودّع دنياه، ويسكن رمسه، وينقطع عن أمله، ويشرف على عمله، وقد رجح الموت بحياته «3» ، ونقض قوى حركاته، وطمس البلى جمال بهجته، وقطع نظام صورته، وصار كخطّ من رماد تحت صفائح أنضاد «4» ؛ وقد أسامه الأحباب، وافترش التّراب، فى بيت نجرته المعاول «5» ، وفرشت فيه الجنادل، ما زال مضطربا في أمله، حتى استقرّ فى أجله، ومحت الأيام ذكره، واعتادت الألحاظ فقده. وكتب وهو معتقل إلى أستاذه أبى العباس أحمد بن يحيى ثعلب «6» يتشوّقه: ما وجد صاد بالحبال موثق ... بماء مزن بارد مصفّق «7» .

بالرّيح لم يكدر ولم يرنّق ... جادت به أخلاف دجن مطبق «1» بصخرة إن تر شمسا تبرق ... ماد عليها كالزّجاج الأزرق «2» صريح غيث خالص لم يمذق ... إلّا كوجدى بك، لكن أتقى «3» يا فاتحا لكل باب مغلق ... وصيرفيا ناقدا للمنطق «4» إن قال هذا بهرج لم ينفق ... إنّا على البعاد والتفرّق لنلتقى بالذكر إن لم نلتق فأجابه: أخذت أطال الله بقاءك أول هذه الأبيات مما أمليته عليك من قول جميل «5» : وما صاديات حمن يوما وليلة ... على الماء يخشين العصىّ حوانى كواعب لم يصدرن عنه لوجهة ... ولا هنّ من برد الحياض دوانى يرين حباب الماء والموت دونه ... فهنّ لأصوات السّقاة روانى بأكثر منى غلّة وصبابة ... إليك، ولكنّ العدوّ عرانى وأخذت آخرها من قول رؤبة بن العجاج «6» :

إنّى وإن لم ترنى فإنّنى ... أخوك والرّاعى إذا استرعيتنى أراك بالودّ وإن لم ترنى قال: فاستخفّنى في ذلك ونسب إلىّ سوء الأدب. وكان أبو العباس عبد الله بن المعتز في المنصب العالى من الشعر والنثر، وفي النهاية في إشراق ديباجة البيان، والغاية من رقّة حاشية اللسان. وكان كما قال ابن المرزبان: إذا انصرف من بديع الشعر إلى رقيق النّثر أتى بحلال السحر، وليس بعد ذى الرّمة «1» أكثر افتنانا وأكبر تصرّفا وإحسانا في التشبيه منه. وإنما فرقت جملة ما اخترت من شعره ونثره في جملة هذا الكتاب؛ لئلّا أخرج عما تقدّم به الشرط في البسط، وآتى ههنا ببعض ما أختاره له، قال: وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطّلوع كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع وقال أيضا: فى ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدّى مثل وقف العاج «2» والصبح يتلو المشترى فكأنّه ... عريان يمشى في الدّجا بسراج «3» وقال أيضا يصف فرسا: ولقد غدوت على طمرّ سابح ... عقدت سنابكه عجاجة قسطل «4»

متلثّم لجم الحديد يلوكها ... لوك الفتاة مساوكا من إسحل «1» ومحجّل غير اليمين كأنّه ... متبختر يمشى بكمّ مسبل وقال: قد أغتدى بقارح ... مسوّم يعبوب «2» ينفى الحصى بحافر ... كالقدح المكبوب قد ضحكت غرّته ... فى موضع التّقطيب «3» وقال أيضا: ولقد وطئت الغيث يحملنى ... طرف كلون الصبح حين وفد حمّاع أطراف الصّوار فما الأخ ... رى عليه إذا جرى بأشد «4» يمشى فيعرض في العنان كما ... صدف المعشّق ذو الدّلال وصد فكأنه موج يذوب إذا ... أطلقته فإذا حبست جمد وقال أيضا يصف سيفا: ولى صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلّا لسفك دماء ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقية غيم رقّ دون سماء وقال يصف نارا: مشهّرة لا يحجب النخل ضوءها ... كأنّ سيوفا بين عيدانها تجلى يفرّج أغصان الوقود اضطرامها ... كما شقّت الشقراء عن متنهاجلّا «5»

وقال بعض أهل العصر، وهو السّرى الموصلىّ «1» : يوم رذاذ ممسّك الحجب ... يضحك فيه السرور من كثب «2» ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب وقد جرت خيل راحنا خببا ... فى حليها أو هممن بالخبب «3» والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب إذا ارتمت بالشرار فاطّردت ... على ذراها مطارد اللهب رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير عنها قراضة الذهب فانهض إلى المجلس الذى ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الفرج الببغا «4» : فحما قدّم الغلام فأهدى ... فى كوانينه حياة النّفوس كان كالآبنوس غير محلّى ... فغدا وهو مذهب الآبنوس لقى النار في ثياب حداد ... فكسته مصبّغات عروس وقال أبو الفضل الميكالى: كأن الشّرار على نارنا ... وقد راق منظرها كلّ عين سحالة تبر إذا ما علا فإمّا هوى ففتات اللّجين «5» وقال ابن المعتز يصف سحابة:

وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادى فوق أعناق الرّياح «1» فباتت ليلها سحّا ووبلا ... وهطلا مثل أفواه الجراح كأن سماءها لما تجلّت ... خلال نجومها عند الصباح رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتّح بينه نور الأقاح «2» وقال: ولجّة للمنايا خضت غمرتها ... بصارم ذكر صمصامة خذم «3» وقارح صبغ الخيلان دهمته ... بشهبة كاختلاط الصّبح بالظّلم «4» وقال: وليل ككحل العين خضت ظلامه ... بأزرق لمّاع وأبيض صارم ومضبورة الأعضاد حرف كأنها ... تصافح رضراض الحصى بمناسم «5» وقال يصف حيّة: نعتّ رقطاء لا تحيا لديغتها ... لو قدّها السّيف لم يعلق به بلل «6» تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل وقال أيضا: وأسأر منى الدّهر عضبا مهنّدا ... يفلّ شبا حظّى، وقلبا مشيّعا «7» ورأيا كمرآة الصّناع أرى به ... سرائر غيب الدهر من حيث ما سعى

أخذه من قول المنصور لابنه المهدى: لا تبرمنّ أمرا حتى تفكّر فيه؛ فإن فكرة العاقل مرآته، تريه قبحه وحسنه. ولما دفن المنصور وقف الربيع على قبره فقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين، وغفر لك! فقد كان لك حمي من العقل لا يطير به الجهل، وكنت ترى باطن الأمر بمرآة من الرأى، كما ترى ظاهره. ثم التفت إلى يحيى بن محمد أخى المنصور فقال: هذا كما قال أبو دهبل الجمحى «1» : عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم «2» وبعده «3» : متهلل بنعم، بلا متباعد ... سيّان منه الوفر والعدم «4» نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمنا، وليس بجسمه سقم «5» أخذ البيت الأخير من قول ليلى الأخيلية «6» : لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف ... إن ظالما يوما وإن مظلوما

قوم رباط الخيل حول بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوما وممزّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللواء رأيته ... يوم الهياج على الخميس زعيما «1» وقال: يشبّهون ملوكا في تجلتهم ... وطول أنصبة الأعناق واللّمم «2» إذا بدا المسك يجرى في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم وقال أبو على الحاتمى: وما أحسن أبياتا أنشدها أبو عمر المطرز غلام ثعلب يعترض في أثنائها هذا المعنى: تخالهم للحلم صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التّهاتر «3» ومرضى إذا لاقوا حياء وعفّة ... وعند الحروب كالليوث الخوادر «4» لهم عزّ إنصاف وذلّ تواضع ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر كأنّ بهم وصما يخافون عاره ... وليس بهم إلّا اتقاء المعاير «5» وأنشد: أحلام عاد لا يخاف جليسهم ... - وإن نطق العوراء- عيب لسان إذا حدّثوا لم يخش سوء استماعهم ... وإن حدّثوا أدّوا بحسن بيان

وقال ابن المعتز: وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعانى مخطف الخصر ميّاس «1» سقانى عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس وقال: يا ليلة نسى الزمان بها ... أحداثه، كونى بلا فجر فاح المساء ببدرها، ووشت ... فيها الصّبا بمواقع القطر ثم انقضت والقلب يتبعها ... فى حيث ما سقطت من الدّهر «2» وقال: يا ربّ إخوان صحبتهم ... لا يملكون لسلوة قلبا لو تستطيع قلوبهم نفرت ... أجسامهم فتعانقت حبّا «3» هذا كقول ابن الرومى: أعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه، وهل بعد العناق تدانى؟ وألثم فاه كى تزول حرارتى ... فيشتدّ ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذى بى من الهوى ... ليرويه ما ترشف الشّفتان كأنّ فؤادى ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان ومن منثوره: لا يزال الإخوان يسافرون في المودّة، حتى يبلغوا الشّقة، فإذا بلغوها ألقوا عصا التّسيار، واطمأنّت بهم الدار، وأقبلت وفود النصائح، وأمنت خبايا الضمائر، فحلّوا عقد التحفّظ، ونزعوا ملابس التّخلّق. وله: سار فلان في جيوش عليهم أردية السيوف، وأقمصة الحديد،

وكأنّ رماحهم قرون الوعول «1» ، وكأنّ دروعهم زبد السيول، على خيل تاكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنّقع سرادقها «2» ، قد نشرت في وجوهها غرر كأنها صحائف الرّق «3» ، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللّجين «4» ، وقرّطت عذرا كأنها الشّنف «5» ، تتلقّف الأعداء أوائله ولم تنهض أواخره، قد صبّ عليهم وقار الصبر، وهبّت معهم ريح النّصر. وله في عليل: آذن الله في شفائك، وتلقّى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجّه وفد السلامة إليك، وجعل علّتك ماجية لذنوبك، مضاعفة لثوابك. وكتب إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب «6» فى يوم عيد: أخّرتنى العلّة عن الوزير أعزّه الله، فحضرت بالدعاء في كتابى لينوب عنى، ويعمر ما أخلته العوائق منى، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة على الوزير، ودون الأعياد المستقبلة فيما يحبّ ويحبّ له، ويقبل ما توسل به إلى مرضاته، ويضاعف الإحسان إليه، على الإحسان منه، ويمتّعه بصحبة النعمة ولباس العافية، ولا يريه في مسرّة نقصا، ولا يقطع عنه مزيدا، ويجعلنى من كل سوء فداء، ويصرف عيون الغير عنه، وعن حظّي منه.

[وصف الماء وما يتصل به]

وله إلى بعض الرؤساء: لا تشن حسن الظّفر بقبح الانتقام، وتجاوز عن كل مذنب لم يسلك من الإعذار طريقا «1» حتى اتّخذ من رجاء عفوك رفيقا. وله اعتذار إلى القاسم بن عبيد الله: ترفّع عن ظلمى إن كنت بريئا، وتفضّل بالعفو إن كنت مسيئا، فو الله إنى لأطلب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة مما لا أعرفه؛ لتزداد تطوّلا، وأزداد تذلّلا؛ وأنا أعيذ حالى عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّى منك، بقدر ودّى لك؛ ومحلّى من رجائك، بحيث أستحقّ منك. وله إليه: لو كان في الصّمت موضع يسع حالى لخففت عن سمع الوزير ونظره، ولم أشغل وجها من فكره، وما زالت الشكوى، تعرب عن لسان البلوى، ومن اختلّت حالته، كان في الصّمت هلكته، وقد كان الصبر ينصرنى على ستر أمرى حتى خذلنى. وهذا كقول أحمد بن إسماعيل: فصاحة الشكوى، على قدر البلوى، إلا أن يكون بالشاكى انقباض، وبالمشكوّ إليه إعراض. [وصف الماء وما يتصل به] وقد أحسن أبو العباس بن المعتز في صفة الماء في أرجوزته التي أنشدتها آنفا، وقد قال في قصيدة له وذكر إبلا: فتبدّى لهنّ بالنّجف المد ... بر ماء صافى الجمام عرىّ «2»

يتمشّى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجلىّ «1» وإذا داخلته درّة شمس ... خلته كسّرت عليه الحلىّ وقال «2» : لا مثل منزلة الدّويرة منزل ... يا دار جادك وابل وسقاك «3» بؤسا لدهر غيّرتك صروفه ... لم يمح من قلبى الهوى ومحاك لم يحل للعينين بعدك منظر ... ذمّ المنازل كلّهنّ سواك أىّ المعاهد منك أندب طيبه ... ممساك بالآصال أم ممداك أم برد ظلّك ذى الغصون وذى الجنى ... أم أرضك الميثاء أم ريّاك «4» وكأنما سطعت مجامر عنبر ... أو فتّ فأر المسك فوق ثراك «5» وكأنما حصباء أرضك جوهر ... وكأنّ ماء الورد دمع نداك [وكأنما أيدى الربيع ضحيّة ... نشرت ثياب الوشى فوق رباك] «6» وكأن درعا مفرغا من فضّة ... ماء الغدير جرت عليه صباك «7» وعشقت عاتكة المرية ابن عمّ لها فراودها عن نفسها فقالت: فما طعم ماء أىّ ماء تقوله ... تحدّر عن غرّ طوال الذوائب بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فما إن به عيب تراه لشارب بأطيب ممن يقصر الطّرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب وأنشد الأصمعى قال: أنشدنى أبو عمرو بن العلاء لجابر بن الأرق، وقال: هو أحسن ما قيل في معناه:

[وصف الدور والقصور]

أياويح نفسى كلما التحت لوحة «1» ... على شربة من ماء أحواض مارب «2» بقايا نطاف أودع الغيم صفوها ... مصقّلة الأرجاء زرق المشارب «3» ترقرق دمع المزن فيهن والتوت ... عليهن أنفاس الرياح الغرائب وأنشد إسحاق بن إبراهيم للأبيرد اليربوعى، ورويت لمضرّس بن ربعى الأسدى: فألقت عصا التّسيار عنها، وخيّمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافره أزال القذى عن مائه وافد الصّبا ... يروح عليه ناسما ويباكره وأول من أتى بهذا زهير بن أبى سلمى في قوله: فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصىّ الحاضر المتخيّم «4» وقال ابن الرومى: وماء جلت عن حرّ صفحته القذى ... من الريح معطار الأصائل والبكر به عبق ممّا تسحّب فوقه ... نسيم الصبا يجرى على النّور والزّهر [وصف الدور والقصور] ويتعلق بهذا الباب قول البحترى يصف بركة الجعفرى «5» وهو قصر ابتناه المتوكل في سرّ من رأى:

يا من رأى البركة الحسنا ورونقها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها «1» ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... فى الحسن طورا وأطوارا تباهيها! إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها «2» فحاجب الشمس أحيانا يغازلها ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها «3» إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء زكّبت فيها كأنما الفضّة البيضاء سائلة ... من السّبائك تجرى في مجاريها تنصبّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها «4» كأنّ جنّ سليمان الّذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا في معانيها فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض ... قالت: هى الصّرح تمثيلا وتشبيها «5» [لا يبلغ السمك المقصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها] يعمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطّير تنشر في جوّ خوافيها ولم ينفق أحد من خلفاء بنى العباس في البناء ما أنفقه المتوكل؛ وذلك أنه أنفق في أبنيته ثلاثمائة ألف ألف، وفي أبنيته يقول على بن الجهم «6» :

وما زلت أسمع أنّ الملوك ... تبنى على قدر أخطارها وأعلم أنّ عقول الرجا ... ل يقضى عليها بآثارها صحون تسافر فيها العيون ... فتحسر من بعد أقطارها «1» وقبّة ملك كأنّ النجو ... م تفضى إليها بأسرارها إذا أوقدت نارها بالعراق ... أضاء الحجاز سنا نارها لها شرفات كأنّ الربيع ... كساها الرّياض بأنوارها فهنّ كمصطحبات خرجن ... لفصح النّصارى وإفطارها «2» نظمن القسىّ كنظم الحلى ... بعون النساء وأبكارها «3» فمن بين عاقصة شعرها ... ومصلحة عقد زنّارها «4» وللبحترى فيها شعر كثير منه: أرى المتوكليّة قد تعالت ... مصانعها وأكملت التماما «5» قصور كالكواكب لا معات ... يكدن يضئن للسارى الظّلاما وروض مثل برد الوشى فيه ... جنى الحوذان ينشر والخزامى «6» غرائب من فنون النّور فيها ... جنى الزهر الفرادى والتّؤاما تضاحكها الضحى طورا وطورا ... عليه الغيم ينسجم انسجاما «7» ولو لم يستهلّ لها غمام ... بريّقه لكنت لها غماما «8» وقال أيضا: قد تمّ حسن الجعفرىّ ولم يكن ... ليتمّ إلّا للخليفة جعفر

ملك تبوّأ خير دار أنشئت ... [فى خير مبدى للأنام ومحضر] [فى رأس مشرفة حصاها لؤلؤ] ... وترابها مسك يشاب بعنبر «1» مخضرّة والغيث ليس بساكب ... ومضيئة والليل ليس بمقمر رفعت بمنحرق الرياح، وجاورت ... ظلّ الغمام الصيّب المستعبر «2» وبعده: ورفعت بنبانا كأن زهاءه ... أعلام رضوى أو شواهق ضيبر «3» عال على لحظ العيون ن كأنما ... ينظرن منه إلى بياض المشترى «4» ملأت جوانبه الفضاء، وعانقت ... شرفاته قطع السحاب الممطر وتسيل دجلة تحته ففناؤه ... من لجة فرشت وروض أخضر شجر تلاعبه الرياح فتنثنى ... أعطافه في سائح متفجّر أخذ أبو بكر الصنبورى «5» قول البحترى في صفة البركة فقال يصف موضعا: سقى حلبا سافك دمعه ... بطىء الرّقوء إذا ما سفك «6» ميادينه بسطهنّ الرياض ... وساحاته بينهن البرك ترى الريح تنسج من مائه ... دروعا مضاعفة أو شبك كأن الزجاج عليها أذيب ... وماء اللّجين بها قد سبك هى الجوّ من رقّة غير أنّ ... مكان الطيور يطير السّمك وقد نظم الزهر نظم النجوم ... فمفترق النّظم أو مشتبك

كما درّج الماء مرّ الصّبا ... ودبّج وجه السماء الحبك يباهين أعلام قمص القيان ... ونقش عصائبها والتّكك وأخذ قوله: إذا النّجوم تراءت في جوانبها فقال: ولما تعالى البدر وامتدّ ضوءه ... بدجلة في تشرين في الطّول والعرض وقد قابل الماء المفضض نوره ... وبعض نجوم الليل يقفو سنا بعض «1» توهّم ذو العين البصيرة أنه ... يرى باطن الأفلاك من ظاهر الأرض ولأهل العصر في هذا النّحو كلام كثير: قال الأمير أبو الفضل الميكالى، يصف بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على مهو مطلّ «2» عليها يقول: أما ترى البركة الغراء قد لبست ... نورا من الشمس في حافاتها سطعا والمهو من فوقها يلهيك منظره ... كأنه ملك في دسته ارتفعا والماء من تحته ألقى الشعاع على ... أعلى سماواته فارتجّ ملتمعا كأنه السيف مصقولا تقلّبه ... كفّ الكمىّ إلى ضرب الكميّ سمى «3» وقال على بن محمد الإيادى يمدح المعزّ ويصف دار البحر بالمنصورية «4» : ولما استطال المجد واستولت البنى ... على النّجم واشتدّ الرواق المروّق «5» بنى قبة للملك في وسط جنّة ... لها منظر يزهى به الطّرف مونق بمعشوقة الساحات، أمّا عراصها ... فخضر، وأمّا طيرها فهى نطّق «6»

تحفّ بقصر ذى قصور كأنما ... ترى البحر في أرجائه وهو متأق «1» له بركة للماء ملء فضائه ... تخبّ بقصريها العيون وتعنق «2» لها جدول ينصبّ فيها كأنه ... حسام جلاه القين بالأرض ملصق «3» لها مجلس قد قام في وسط مائها ... كما قام في فيض الفرات الخورنق «4» كأنّ صفاء الماء فيها وحسنه ... زجاج صفت أرجاؤه فهو أزرق إذا بثّ فيها الليل أشخاص نجمه ... رأيت وجوه الزنج بالنار تحرق وإن صافحتها الشمس لاحت كأنها ... فرند على تاج المعزّ ورونق كأن شرافات المقاصر حولها ... عذارى عليهنّ الملاء الممنطق يذوب الجفاء الجعد عن وجه مائها ... كما ذاب آل الصّحصحان المرقرق «5» وقال عبد الكريم بن إبراهيم: يا ربّ فتيان صدق رحت بينهم ... والشمس كالدّنف المعشوق في الأفق مرضى أصائلها حسرى شمائلها ... تروّح الغصن الممطور في الورق معاطيا شمس إبريق إذا مزجت ... تقلّدت عقد مرجان من النّزق عن ماحل طافح بالماء معتلج ... كأنما نفسه صيغت من الحدق تضمّه الرّيح أحيانا، وتفرقه ... فالماء ما بين محبوس ومنطلق من أخضر ناضر والطّلّ يلحقه ... وأبيض تحت قيظىّ الضحى يقق «6» تهزّه الريح أحيانا فيمنحها ... للزّجر خفق فؤاد العاشق القلق كأنّ خافاته نطّقن من زبد ... مناطقا رصّعت من لؤلؤ نسق

ألفاظ لأهل المصر في وصف الماء وما يتصل به

كأن قبّته من سندس نمط ... حسناء مجلوّة اللبّات والعنق إذا تبلّج فجر فوق زرقته ... حسبته فرسا دهماء في بلق «1» أو لازوردا جرى في متنه ذهب ... فلاح في شارق من مائه شرق عشية كملت حسنا وساعدها ... ليل يمدّد أطنابا على الأفق تجلى بغرّة وضّاح الجبين له ... ما شئت من كرم واف ومن خلق ألفاظ لأهل المصر في وصف الماء وما يتصل به ماء كالزّجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد، وماء كلسان الشمعة، فى صفاء الدّمعة، يسبح في الرّضراض، سبح النّضناض، ماء أزرق كعين السّنّور «2» ، صاف كقضيب البلّور، ماء إذا مسّته يد النسيم حكى سلاسل الفضة، ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدّرع كالمسيح، كأنّ الغدير بتراب الماء رداء مصندل، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة، كانّها مرآة مجلوّة، على ديباجة خضراء، بركة ماء كأنها مرآة الصّناع «3» ، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الغرائب، ماء زرق جمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، وتلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده، يتسلسل كالزرافين «4» ، ويرضع أولاد الرّياحين، انحلّ عقد السماء، ووهى عقد الأنواء، انحلّ سلك القطر عن درّ البحر، أسعد السحاب جفون العشّاق «5» ، وأكفّ الأجواد، وانحلّ خيط السماء، وانقطع

ولهم في مقدمات المطر

شريان الغمام، سحابة يتجلّى عليها ماء البحر، وتفضّ علينا عقود الدّر، سحاب حكى المحبّ في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جمالا، وتمدّ من الأمطار حبالا، سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا، تحللت عقد السماء بالدّيمة الهطلاء، غيث أجشّ «1» يروى الهصاب والآكام «2» ، ويحيى النبات والسّوام «3» ، غيث كغزرة فضلك، وسلاسة طبعك، وسلامة عقدك، وصفاء ودّك، وبل كالنبل، سحابة يضحك من بكائها الرّوض، وتخضرّ من سوادها الأرض، سحابة لا تجفّ جفونها ولا يخف أنينها، ديمة روّت أديم الثرى، ونبهت عيون النّور من الكرى، سحابة ركبت أعناق الرياح، وسحّت كأفواه الجراح، مطر كافواه القرب، ووحل إلى الركب، أندية منّ الله معها على البيوت بالثّبوت، وعلى السقوف بالوقوف، أقبل السّيل ينحدر انحدارا، ويحمل أحجارا وأشجارا، كأن به جنة، أو في أحشائه أجنّة. وبعض ما مر من هذه الألفاظ محلول نظام ما تقدم إنشاده. ولهم في مقدمات المطر لبست السماء جلبابها، وسحبت السحائب أذيالها، قد احتجبت الشمس في سرداق الغيم، ولبس الجوّ مطرفه الأدكن، باحت الريح بأسرار النّدى، وضربت خيمة الغمام، ورش جيش النسيم، وابتل جناح الهواء، واغرورقت مقلة السماء، وبشّر النسيم بالندى، واستعدت الأرض للقطر، هبت شمائل الجنائب، لتأليف شمل السحائب. تألفت أشتات الغيوم، وأسبلت السّتور على النجوم.

وفي الرعد والبرق

وفي الرعد والبرق قام خطيب الرّعد، ونبض عرق البرق، سحابة ارتجزت «1» رواعدها، وأذهبت ببروقها مطاردها، نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق، فالرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب، ابتسم البرق عن قهقهة الرعد، زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق، رعدت [سيوف] الغمائم، وبرقت، وانحلت عزالىّ السماء فطبقت، هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها. كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق. ويتصل بهذه الأنحاء ما حكاه عمر بن على المطوعى قال: رأى الأمير السيد أبو الفضل عبيد الله ابن أحمد- أدام الله عزه! - أيام مقامه بجوين أن يطالع قرية من قرى ضياعه تدعى نجاب على سبيل التنزّه والتفرّج، فكنت في جملة من استصحبه إليها من أصحابه، واتّفق أنا وصلنا والسماء مصحية، والجوّ صاف لم يطرز ثوبه بعلم الغمام، والأفق فيروزج لم يعبق به كافور السحاب؛ فوقع الاختيار على ظلّ شجرة باسقة الفروع «2» ، متّسقة الأوراق والغصون، قد سترت ما حواليها من الأرض طولا وعرضا، فنزلنا تحتها مستظلّين بسماوة أفنانها «3» ، مستترين من وهج الشمس بستارة أغصانها، وأخذنا نتجاذب أذيال المذاكرة، ونتسالب أهداب المناشدة والمحاورة؛ فما شعرنا بالسّماء إلا وقد أرعدت وأبرقت، وأظلمت بعد ما أشرقت، ثم جادت بمطر كأفواه القرب فأجادت، وحكت أنامل الأجواد ومدامع العشاق «4» ، بل

أوفت عليها وزادت، حتى كاد غيثها يعود عيثا «1» ، وهمّ وبلها أن يستحيل ويلا فصبرنا على أذاها، وقلنا: سحابة صيف عما قليل تقشّع، فإذا نحن بها قد أمطرتنا بردا كالّثغور، لكنها من ثغور العذاب، لا من الثغور العذاب، فأيقنّا بالبلاء، وسلّمنا لأسباب القضاء؛ فما مرت إلا ساعة من النهار، حتى سمعنا خرير الأنهار، ورأينا السّيل قد بلغ الزّبى» ، والماء قد غمر القيعان والرّبى «3» ؛ فبادرنا إلى حصن القرية لائذين من السّيل بأفنيتها، وعائذين من القطر بأبنيتها، وأثوابنا قد صندل كافوريّها ماء الوبل، وغلّف طرازيّها طين الوحل، ونحن نحمد الله تعالى على سلامة الأبدان، وإن فقدنا بياض الأكمام والأردان، ونشكره على سلامة الأنفس والأرواح، شكر التاجر على بقاء رأس المال إذا فجع بالأرباح؛ فبتنا تلك الليلة في سماء تكف ولا تكفّ «4» ، وتبكى علينا إلى الصباح بأدمع هوام «5» ، وأربعة سجام؛ فلما سلّ سيف الصبح من غمد الظلام، وصرف بوالى الصحو عامل الغمام، رأينا صواب الرأى أن نوسع الإقامة بها رفضا، ونتخذ الارتحال عنها فرضا؛ فما زلنا نطوى الصحارى أرضا فأرضا، إلى أن وافينا المستقر ركضا؛ فلما نفضنا غبار ذلك المسير، الذى جمعنا في ربقة الأسير، وأفضينا إلى ساحة التيسير، بعد ما أصبنا بالأمر العسير، وتذاكرنا ما لقينا من التعب والمشقّة، فى قطع ذلك الطريق وطىّ تلك الشّقة، أخذ الأمير السيد- أطال الله بقاءه! - القلم فعلق هذه الأبيات ارتجالا: دهتنا السماء غداة السّحاب ... بغيث على أفقه مسبل فجاء برعد له رنّة ... كرنّة ثكلى ولم تثكل

وثنّى بوبل عدا طوره ... فعاد وبالا على الممحل «1» وأشرف أصحابنا من أذاه ... على خطر هائل معضل فمن لائذ بفناء الجدار ... وآو إلى نفق مهمل «2» ومن مستجير ينادى: الغريق ... هناك، ومن صارخ معول وجادت علينا سماء السقوف ... بدمع من الوجد لم يهمل كأنّ حراما لها أن ترى ... يبيسا من الأرض لم يبلل وأقبل سيل له روعة ... فأدبر كلّ عن المقبل يقلّع ما شاء من دوحة ... وما يلق من صخرة يحمل كأنّ بأحشائه إذ بدا ... أجنّة حبلى ولم تحبل فمن عامر ردّه غامرا ... ومن معلم عاد كالمجهل «3» كفانا بليّته ربّنا ... فقد وجب الشكر للمفضل فقل للسماء ارعدى وابرقى ... فإنّا رجعنا إلى المنزل «4» أخذ المطوعى قوله: «فلما سلّ سيف الصبح من غمد الظلام» من قول أبى الفتح البستى: رب ليل أغمد الأنوار إلّا ... نور ثغر أو مدام أو ندام قد نعمنا بدياجيه إلى أن ... سل سيف الصبح من غمد الظلام [وقال بعض أهل العصر، وهو أبو العباس الناشىء] : خليلى هل للمزن مقلة عاشق ... أم النار في أحشائها وهي لا تدرى أشارت إلى أرض العراق فأصبحت ... وكاللؤلؤ المنثور أدمعها تجرى

سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد ... فعاجت له نحو الرياض على قبر تسّر بل وشيا من حزون تطرزت ... مطارفها طرزا من البرق كالتّبر فوشى بلا رقم، ورقم بلا يد، ... ودمع بلا عين، وضحك بلا ثغر وقال آخر: أرقت لبرق شديد الوميض ... ترامى غواربه بالشّهب كأنّ تألّقه في السماء ... سطور كتبن بماء الذهب وقال ابن المعتز: كأن الرّباب الجون دون سحابه ... خليع من الفتيان يسحب مئزرا «1» إذا لحقته خيفة من رعوده ... تلفّت واستلّ الحسام المذكّرا وقد قال حسان بن ثابت: كأن الرّباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل «2» وقال ابن المعتز: باكية يضحك فيها برقها ... موصلة بالأرض مرخاة الطّنب رأيت فيها برقها منذ بدا ... كمثل طرف العين أو قلب يجب «3» جرت بها ريح الصبا حتى بدا ... منها لى البرق كأمثال الشهب «4» تحسبه طورا إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب «5» وتارة تحسبه كأنه ... أبلق مال جله حين وثب «6»

وتارة تحسبه كأنه ... سلاسل مفصولة من الذهب وقال الطائى: ياسهم للبرق الذى استطارا ... صار على رغم الدّجى نهارا آض لنا ماء وكان نارا «1» وينشد أصحاب المعانى: نار تجدد للعينين نضرتها ... والنار تلفح عيدانا فتحترق وقال ابن المعتز يمدح الشّرب في الصّحو، ويذمّه في المطر: أنا لا أشتهى سماء كبطن العير ... والشّرب تحتها في خراب «2» بين سقف قد صار منخل ماء ... وجدار ملقى وتلّ تراب وبيوت يوقّع الوكف فيهنّ ... وإيقاعه بغير صواب «3» إنما أشتهى الصّبوح على وجه ... سماء مصقولة الجلباب ونسيم من الصّبا يتمشّى ... فوق روض ند جديد الشّباب وكأنّ الشمس المضيئة دينا ... ر جبته حدائد الضّرّاب فى غداة وكأسها مثل شمس ... طلعت في ملاءة من شراب «4» أو عروس قد ضمّخت بخلوق ... فهى صفراء في قميص حباب وغناء لا عذر للعود فيه ... بتندّى الأوتار والمضراب ونقاء البساط من وضر الطّين ... ومسح الأقدام في كلّ باب ونشاط الغلمان إن عرضت حا ... جاتنا في مجيئهم والذّهاب وجفاف الريحان والنرّجس الغضّ ... بأيدى الخلان والأصحاب لا تندّى أنوفهم كلما حيّوا ... بضعث ندى أنوف الكلاب

[وصف رجل حازم لابن المقفع]

ذاك يوم أراه غنما وحظّا ... من عطاء المهيمن الوهّاب وقال الصّنوبرى: أنيس ظباء بوحش الظبا ... وصبغ حيا مثل صبغ الحيا ويوم تكلّله الشمس من ... صفاء الهوى وصفاء الهوا بشمس الدّنان وشمس الفيان ... وشمس الجنان وشمس السّما وشبيه بالأبيات التي كتبها ثعلب إلى أبى العباس بن المعتز لجميل «1» قول الآخر: وما وجد ملواح من الهيم خلّيت ... عن الورد حتى جوفها يتصلصل «2» تحوم وتغشاها العصىّ وحولها ... أقاطيع أنعام تعلّ وتنهل بأكثر منّى لوعة وصبابة ... إلى الورد إلّا أنّنى أتجمّل «3» وقال أبو حيّة النميرى: كفى حزنا أنّى أرى الماء معرضا ... لعينى ولكن لا سبيل إلى الورد «4» وما كنت أخشى أن تكون منيتى ... بكفّ أعزّ الناس كلهم عندى [وصف رجل حازم لابن المقفع] قال ابن المقفّع: كان لى أخ أعظم الناس في عينى «5» ، وكان رأس ما عظّمه فى عينى صغر الدنيا في عينه، وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهى مالا

يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا تدعوه إليه مؤنة، ولا يستخف له رأيا ولا بدنا. وكان لا يتأثر عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة. وكان خارجا من سلطان لسانه، فلا يتكلّم بما لا يعلم، ولا يمارى فيما علم، وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يتقدّم «1» أبدا إلا على ثقة بمنفعة، وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بزّ القائلين «2» ، وكان ضعيفا مستضعفا، فإذا جدّ الجدّ «3» فهو اللّيث عاديا «4» . وكان لا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء «5» ، ولا يدلى بحجّة حتى يرى قاضيا فهما «6» وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا فيما يكون العذر في مثله حتى يعلم ما عذره. وكان لا يشكو وجعه إلّا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير صاحبا إلا أن يرجو منه النصيحة. وكان لا يتبرّم «7» ولا يتسخّط، ولا يتشكّى ولا يتشهّى، ولا ينتقم من العدوّ، ولا يغفل عن الولىّ، ولا يخصّ نفسه بشىء دون إخوانه من اهتمامه وحيلته وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع. وعلى ذكر قوله: «وإن قال بزّ القائلين» قال ابن كناسة- واسمه محمد بن عبد الله، ويكنى أبا يحيى- فى إبراهيم بن أدهم «8» الزاهد: رأيتك لا ترضى بما دونه الرضا ... وقد كان يرضى دون ذاك ابن أدهما

ألفاظ لأهل العصر في ذكر التقى والزهد

وكان يرى الدّنيا صغيرا عظيمها ... وكان لأمر الله فيها معظّما وأكثر ما تلقاه في الناس صامتا ... وإن قال بزّ القائلين فأفحما يشيع الغنى في الناس إن مسّه الغنى ... وتلقى به البأساء عيسى بن مريما أهان الهوى حتى تجنّبه الهوى ... كما اجتنب الجانى الدم الطالب الدّما ألفاظ لأهل العصر في ذكر التقى والزهد فلان عذب المشرب، عفّ المطلب، نقىّ الساحة من المآثم، برىء الذمة من الجرائم، إذا رضى لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق، يرجع إلى نفس أمّارة بالخير، بعيدة من الشر، مدلولة على سبيل البرّ؛ أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الآخرة ومتعها. كفّ كفّه عن زخرف الدنيا ونصرتها، وغضّ طرفه عن متاعها وزهرتها؛ وأعرض عنها وقد تعرّضت له بزينتها، وصدّ عنها وقد تصدّت له في حليتها. فلان ليس ممن يقف في ظلّ الطمع، فيسفّ إلى حضيض الطبع «1» ، نقىّ الصحيفة، علىّ عن الفضيحة، عفّ الإزار، طاهر من الأوزار، قد عاد لإصلاح المعاد، وإعداد الزاد. وكان ابن المقفع من أشراف فارس، وهو من حكماء زمانه، وله مصنّفات كثيرة، ورسائل مختارة؛ وكان محجما عن قول الشعر، وقيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذى أرضاه لا يجيئنى، والذى يجىء لا أرضاه «2» .

[ألطف تعريض، وأدق فهم]

أخذ هذا بعضهم فقال: أبى الشعر إلّا أن يفىء رديّه ... إلىّ، ويأبى منه ما كان محكما فيا ليتنى إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما «1» وكان ظريفا في دينه «2» ، وذكر أنه مرّ ببيت النار فقال: يا بيت عاتكة الّذى أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل «3» أصبحت أمنحك الصدود، وإننى ... قسما إليك مع الصدود لأميل «4» البيتان للأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح الأنصارى أخى بنى عمرو بن عوف. وعاصم بن ثابت حمىّ الدّبر «5» قتله بنولحيان من هذيل يوم الرجيع، فأرادوا أن يبعثوا برأسه إلى مكة، وكانت سلافة بنت سعد نذرت لتشربنّ في رأسه الخمر، وكان قتل بعض ولدها من طلحة بن أبى طلحة أحد بنى عبد الدار يوم أحد، فلما أرادوا أخذ رأسه حمته الدّبر- وهي النحل- فلم يجدوا إليه سبيلا، وجعلوا يقولون: إنّ الدّبر لو قد أمسى صرنا إلى حشو استه، فلما أمسوا بعث الله أتيّا فواراه منهم «6» . وعاتكة التي ذكر هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية. [ألطف تعريض، وأدق فهم] ولما دخل أبو جعفر المنصور المدينة قال للربيع: أبغنى رجلا عاقلا عالما بالمدينة ليقفنى على دورها؛ فقد بعد عهدى بديار قومى؛ فالتمس له الربيع فتى

[الحسد والحساد]

من أعقل الناس وأعلمهم، فكان لا يبتدىء، بإخبار حتى يسأله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة، وأجود بيان، وأوفى معنى، فأعجب المنصور به، وأمر له بمال، فتأخّر عنه، ودعته الضرورة إلى استنجازه، فاجتاز ببيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين؛ هذا بيت عاتكة الذى يقول فيه الأحوص: «يا بيت عاتكة الذى أتعزّل» ... البيت، ففكر المنصور في قوله، وقال: لم يخالف عادته بابتداء الإخبار دون الاستخبار إلا لأمر، وأقبل يردّد القصيدة ويتصفحها بيتا بيتا حتى انتهى إلى قوله فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل «1» فقال: يا ربيع، هل أوصلت إلى الرجل ما أمرنا له به؟ فقال: أخّرته عنه- لعلّة ذكرها الربيع- فقال: عجّله له مضاعفا، وهذا ألطف تعريض من الرجل، وحسن فهم من المنصور. [الحسد والحساد] ومن كلام ابن المقفع: الحاسد لا يزال زاريا على نعمة الله ولا يجد لها مزالا، ومكدّرا على نفسه ما به من النعمة فلا يجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يترضّاه، ومتسخّطا لما [لا] ينال، فهو كظوم هلوع جزوع، ظالم أشبه شىء بمظلوم، محروم الطّلبة، منغّص العيشة، دائم التسخّط، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلّب في فضل نعم الله مباشرا للسرور. ممهلا فيه إلى مدّة لا يقدر الناس لها على قطع ولا انتقاص، ولو صبر الحاسد على ما به لكان خيرا له؛ لأنه كلما أراد أن يطفىء نور الله أعلاه ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.

قال الطائى: لولا التّخوّف للعواقب لم تزل ... للحاسد النّعمى على المحسود وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود أخذه البحترى فقال: ولن تستبين الدّهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد ولقد أحسن القائل: إن يحسدونى فإنى غير لائمهم ... قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لى ولهم ما بى وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد أنا الذى يجدونى في صدورهم ... لا أرتقى صدرا عنها ولا أرد «1» وقال ابن الرومى لصاعد بن مخلد: وضدّ لكم لا زال يسفل جدّه ... ولا برحت أنفاسه تتصعّد «2» يرى زبرج الدنيا يزفّ إليكم ... ويغضى عن استحقاقكم فهو يفأد «3» ولو قاس باستحقاقكم ما منحتم ... لأطفأ نارا في الحشا تتوقّد وآنق من عقد العقيلة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرّد «4» وقال معن بن زائدة: إنى حسدت فزاد الله في حسدى ... لا عاش من عاش يوما غير محسود ما يحسد المرء إلّا من فضائله ... بالعلم والظّرف، أو بالبأس والجود

ألفاظ لأهل العصر في ذكر الحسد

ألفاظ لأهل العصر في ذكر الحسد دبّت عقارب الحسدة، وكمنت أفاعيهم بكلّ مرصد. فلان معجون من طينة الحسد والمنافسة، مضروب في قالب الضّيق والمناقشة. قد وكل بى لحظا ينتضل بأسهم الحسد. فلان جسد كلّه حسد، وعقد كلّه حقد. الحاسد يعمى عن محاسن الصّبح، بعين تدرك حقائق القبح. [التلطف في الطلب] كتب محمد بن حماد يعرّض في حاجة له ببيتى شعر إلى الواثق يقول: جذبت دواعى النفس عن طلب المنى ... وقلت لها كفّى عن الطّلب المزرى فإنّ أمير المؤمنين بكفّه ... مدار رحى بالرزق دائبة تجرى فوقّع تحتها: جذبك نفسك عن امتحانها بالمسألة دعانى إلى صونك بسعة فضلى عليك، فخذ ما طلبت هنيئا. قال على بن عبيدة: أتيت الحسن بن سهل بفم الصلح؛ فأقمت ببابه ثلاثة أشهر لا أحظى منه بطائل، فكتبت إليه: مدحت ابن سهل ذا الأيادى وماله ... بذاك يد عندى ولا قدم بعد وماذنبه، والناس- إلا أقلّهم- ... عيال له، إن كان لم يك لى جدّ سأحمده للناس حتى إذا بدا ... له فىّ رأى عاد لى ذلك الحمد فكتب إلىّ: باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلال: عقل وصبر ومال، فقلت للواسطة: تؤدّى عنى؟ قال: نعم. قلت: تقول له: لو كان لى مال لاغنانى عن الطلب إليك، أو صبر لصبرت عن الذّلّ ببابك، أو عقل لا ستدللت به على النزاهة عن رفدك! فأمر لى بثلاثين ألف درهم.

وقال على بن عبيدة الريحانى يوما، وقد رأى جارية يهواها: لولا البقيا على الضمائر لبحنا بما تجنّه السرائر، لكن نيران الحبّ تتدارك بالإخفاء، ولا تعاجل بالإبداء؛ فإن دوامها مع إغلاق أبواب الكتمان، وزوالها في فتح مصارع الإعلان. وقد قال محمد بن يزيد الأموى: لا وحبّيك لا أصا ... فح بالدّمع مدمعا من بكى حبّه استرا ... ح وإن كان موجعا ومن كلام علىّ بن عبيدة: اجعل أنسك آخر ما تبذل من ودّك، وصن الاسترسال منك، حتى تجد له مستحقا؛ فإن الأنس لباس العرض، وتحفة الثقة، وحباء الأكفاء، وشعار الخاصّة، فلا تخلق جدّته إلا لمن يعرف قدر ما بذلت له منك. وقال: لولا حركات من الابتهاج أجد حسّها عند رؤيتك في نفسى لا أعرف لها مثيرا من مظانّها إلّا مؤانستك لى، لأبقيت عليك من العناء، وخفّفت عنك مؤونة اللقاء؛ لكنى أجد من الزيادة بك عندى أكثر من قدر راحتك في تأخّرك عنى، فأضيق عن احتمال الخسران بالوحدة منك. وقال: لوجلى من طلوع الملالة بكرّ اللّقاء أستخفّ التّجافى مع شدّة الشوق، لتبقى جدّة الحال عند من أحبّ دوامه لى؛ وردّ طرف الشوق باطنا أيسر من معاناة الجفاء مع الودّ ظاهرا. وقال بعض المحدثين: كم استراح إلى صبر فلم يرح ... صبّ إليكم من الأشواق في ترح تركتم قلبه من حزن فرقتكم ... لو يرزق الوصل لم يقدر على الفرح وقال أعرابى: ألا قل لدار بين أكثبة الحمى ... وذات الغضى: جادت عليك الهواضب «1»

[الأدب في مجلس الحكم]

أجدّك لا آتيك إلّا تتابعت ... دموع، أضاعت ما حفظت، سواكب ديار تنسّمت المنى نحو أرصها ... وطاوعنى فيها الهوى والحبائب ليالى لا الهجران محتكم بها ... على وصل من أهوى ولا الظّن كاذب [الأدب في مجلس الحكم] تنازع إبراهيم بن المهدى وابن بختيشوع الطبيب بين يدى أحمد بن أبى داود فى مجلس الحكم في عقار بناحية السّواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ له، فأحفظ ذلك ابن أبى داود، فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرءا فلا أعلمنّ أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمما «1» ، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، مع وفاء مجالس الخليفة حقوقها من التّعظيم، والتوقير، والاستكانة، والتوجّه إلى الواجب؛ فإن ذلك أشكل بك، وأشمل لمذهبك في محتدك، وعظيم خطرك، ولا تعجلنّ، فربّ عجلة تهب ريثا، والله يعصمك من خطل القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمّها على أبو يك من قبل، إن ربك حكيم عليم. فقال إبراهيم: أصلحك الله تعالى؛ أمرت بسداد، وحضضت على رشاد؛ ولست عائدا لما يثلم مروءتى عندك، ويسقطنى من عينك، ويخرجنى من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فهأنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، معترف بجرمه، ولا يزال الغضب يستفزنى بمواده، فيردنى مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك؛ وقد جعلت حقّى من هذا العقار لابن بختيشوع، فليت ذلك يكون وافيا بأرش الجناية عليه «2» ؛ ولم يتلف مال أفاده موعظة؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل «3» .

[حكمة أردشير وحضه على العلم]

[حكمة أردشير وحضه على العلم] لما استوثق أمر أردشير بن بابك وجمع ملوك الطوائف وتمّ له ملكه، جمع الناس فخطبهم خطبة حضّ فيها على الألفة والطاعة، وحذّرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصفّ الناس أربعة صفوف؛ فخرّوا له سجّدا، وتكلّم متكلّمهم فقال: لازلت أيها الملك محبوّا من الله تعالى بعزّ النصر، ودرك الأمل، ودوام العافية، وتمام النّعمة، وحسن المزيد، ولازلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذمامات «1» حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، وتصل إلى دار القرار التي أعدّها الله تعالى لنظرائك من أهل الزّلفى عنده والمكانة منه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر، زائدين زيادة النجوم والأنهار، حتى تستوى أقطار الأرض كلها في علوّ قدرك عليها، ونفاذ أمرك فيها، فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمّنا عموم ضياء الصبح، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتّصل بأنفسنا اتصال النسيم؛ فأصبحت قد جمع الله بك الآيدى بعد افتراقها، وألّف القلوب بعد توقد نيرانها، ففضلك الذى لا يدرك بوصف، ولا يحدّ بنعت. فقال أردشير: طوبى للمدوح إذا كان للمدح مستحقّا، وللداعى إذا كان للاجابة أهلا. وقيل لأردشير: أيّها الملك الرفيع الذى حلب العصور، وجرّب الدّهور، أى الكنوز أعظم قدرا؟ قال: العلم الذى خفّ محمله، فثقلت مفارقته، وكثرت مرافقته، وخفى مكانه، فأمن من السّرق عليه؛ فهو في الملأ جمال، وفي الوحدة أنيس، يرأّس به الخسيس، ولا يمكن حاسدك عليه انتقاله عنك. قيل له: فالمال؟ قال: ليس كذلك. محمله ثقيل، والهمّ به طويل؛ إن كنت فى ملأ شغلك الفكر فيه، وإن كنت في خلّوة أتعبتك حراسته.

[أخلاق الملوك]

[أخلاق الملوك] قال الجاحظ: حدثنى الفضل بن سهل قال: كانت رسل الملوك إذا جاءت بالهدايا يجعل اختلافهم إلىّ، فتكون المؤامرات فيما معهم من ديوانى، فكنت أسأل رجلا رجلا منهم عن سير ملوكهم، وأخبار عظمائهم، فسألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم، فقال: بذل عرفه، وجرّد سيفه، فاجتمعت عليه القلوب رغبة ورهبة، لا ينظر جنده، ولا يحرج رعيّته؛ سهل النّوال، حزن النكال، الرجاء والخوف معقودان في يده. قلت: فكيف حكمه؟ فقال: يردّ الظّلم، ويردع الظالم، ويعطى كلّ ذى حق حقّه؛ فالرعية اثنان: راض، ومغتبط. قلت: فكيف هيبتهم له؟ قال: يتصور في القلوب، فتغضى له العيون. قال: فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائى إليه، وإقبالى عليه، فسأل الترجمان: ما الذى يقوله الرومىّ؟ قال: يذكر ملكهم، ويصف سيرته؛ فتكلّم مع الترجمان بشىء، فقال لى الترجمان: إنه يقول: إنّ ملكهم ذو أناة عند القدرة، وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة، وذو عقوبة عند الاجترام، قد كسا رعيّته جميل نعمته، وخوّفهم عسف نقمته؛ فهم يتراءونه رأى الهلال خيالا، ويخافونه مخافة الموت نكالا، وسعهم عدله، وردعتهم سطوته، فلا تمتهنه مزحة، ولا تؤمّنه غفله؛ إذا أعطى أوسع، وإذا عاقب أوجع؛ فالناس اثنان: راج وخائف، فلا الراجى خائب الأمل، ولا الخائف بعيد الأجل. قلت: فكيف هيبتهم له؟ قال: لا ترفع إليه العيون أجفانها، ولا تتبعه الأبصار إنسانها، كأنّ رعيته قطا رفرفت عليها صقور صوائد. فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال: كم قيمتهما عندك؟ قلت: ألفا درهم. قال: يا فضل؛ إن قيمتهما عندى أكثر من الخلافة، أما عرفت قول علىّ بن

أبى طالب كرّم الله وجهه: قيمة كلّ امرىء ما يحسن. أفتعرف أحدا من الخطباء البلغاء يحسن أن يصف أحدا من خلفاء الله الراشدين المهديين بهذه الصّفة؟ قلت: لا. قال: فقد أمرت لهما بعشرين ألف دينار، واجعل العذر مادة بينى وبينهما في الجائزة [على المعوز] ؛ فلولا حقوق الإسلام وأهله لرأيت إعطاءهما ما في بيت مال الخاصة والعامة دون ما يستحقّانه. وقال الجاحظ: حدّثنى حميد بن عطاء قال: كنت عند الفضل بن سهل، وعنده رسول ملك الخزر، وهو يحدّثنا عن أخت لملكهم، قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرّ المصائب، وصنوف الآفات؛ ففزع الناس إلى الملك، فلم يدر ما يجيبهم به، فقالت أخته: أيها الملك؛ إن الخوف لله خلق لا يخلق جديده، وسبب لا يمتهن عزيزه، وهو دالّ الملك على استصلاح رعيّته، وزاجره عن استفسادها، وقد فزعت إليك رعيّتك بفضل العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزّا، ولا ينقصه العود بالإحسان إليهم ملكا، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الموصّى، ولا بركوب الدلالة من الدّال، ولا بحسن الرعاية من الرّاعى. ولم تزل في نعمة لم تغبرها نقمة، وفي رضا لم يكدّره سخط، إلى أن جرى القدر بما عمى عنه البصر، وذهل عنه الحذر، فسلب الموهوب، والواهب هو السالب؛ فعد إليه بشكر النعم، وعذبه من فظيع النّقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلنّ الحياء من التذلل للمعزّ المذل سترا بينك وعين رعيتك، فتستحق مذموم العاقبة؛ ولكن مرهم ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار له بكنه القدرة، وبتذلل الألسن في الدعاء بمحض الشّكر له؛ فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن سيّئ فعل إلى صالح عمل، أو ليبعثه على دائب شكر ليحرز به فضل أجر. فأمرها الملك أن تقوم فيهم فتنذرهم بهذا الكلام، ففعلت، فرجع القوم وقد

قطعة صادرة من أقوال الملوك دالة على فضل كرمهم وبعد هممهم

علم الله منهم قبول الوعظ في الأمر والنهى؛ فحال عليهم الحول وما مهم مفتقد نعمة كان سلبها، وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصّنع؛ فاعترف لها الملك بالفضل، فقلدها الملك؛ فاجتمعت الرعية لها على الطاعة في المكروه والمحبوب قال: وهذا وهم أعداء الله تعالى، وضرائر نعمته، ومستوجبو نقمته، أعاد لهم بالشكر ما أرادوا، وأعطاهم بالإقرار له بكنه قدرته ما تمنّوا، فكيف بمن يجمعه على الشكر نوران اثنان: قرآن منزل، ونبىّ مرسل، لو صدقت النيّات، واجتمعت على الافتقار إليه الطلبات؛ لكنهم أنكروا ما عرفوا، وجهلوا ما علموا، فانقلب جدهم هزلا، وسكوتهم خبلا. قطعة صادرة من أقوال الملوك دالة على فضل كرمهم وبعد هممهم غضب كسرى أنوشروان على بعض مرازبته، فقال: يحطّ عن مرتبته، ولا ينقص من صلته؛ فإن الملوك تؤدّب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان. واصطنع أنو شروان رجلا فقيل له: إنه لا قديم له. قال: اصطناعنا إياه شرّفه. قال معاوية رضي الله عنه: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع. وكان يقول: إنى لآنف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوى، وحاجة لا يسعها جودى. عبد الملك بن مروان- أفضل الناس من تواضع عن رفعة، وعفا عن قدرة؛ وأنصف عن قوّة. زياد- استشفعوا لمن وراءكم؛ فليس كلّ أحد يصل إلى السلطان، ولا كلّ من وصل إليه يقدر على كلامه. المهلب- عجبت لمن يشترى المماليك بماله، كيف لا يشترى الأحرار

ومن كلام أهل العصر

بمعروفه! وقد روى هذا لابن المبارك. وقال لبنيه: يا بنى؛ أحسن تيابكم ما كان على غيركم. قال أبو تمام الطائى يستهدى فروا، وعرّض بقول المهلب: فهل أنت مهديه بمثل شكيرة ... من الشّكر يعلو مصعدا ويصوّب «1» فأنت العليم الطّب أىّ وصية ... بها كان أوصى في الثياب المهلّب «2» يزيد بن المهلب- استكثروا من الحمد؛ فإنّ الذمّ قلّ من ينجو منه. السفاح- ما أقبح ينا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤنا خالون من أثرها. المأمون- إنما تطلب الدنيا لتملك، فإذا ملكت فلتوهب. وقال: إنما يتكثّر بالذهب والفضة من يقلّان عنده. الحسن بن سهل- الأطراف منازل الأشراف؛ يتناولون ما يزيدون بالقدرة، وينتابهم من يريدهم بالحاجة. وتعرض له رجل فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذى أحسنت إلىّ يوم كذا وكذا. فقال: مرحبا بمن توسّل إلينا بنا. ولما أراد المعتصم أن يشرّف أشناس التركى بعقب فتح الخزمية أمر أصحاب المراتب بالترجّل إليه، فترجّل إليه الحسن بن سهل، فنظر إليه حاجبه يمشى ويتعثر فى مشيه، فبكى، فقال: ما يبكيك؟ إن الملوك شرّفتنا وشرفت بنا. ومن كلام أهل العصر للأمير شمس المعالى قابوس بن وشمكير «3» - من أقعدته نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام؛ ومن ألبسه الليل ثوب ظلماته نزعه النهار عنه بضيائه.

ومن كلام الملوك الجارى مجرى الأمثال

وله: ابتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذّكر الجميل بالسّعى في الخطب الجليل. الصاحب بن عباد: وقائلة: لم عزتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت: ذرينى لما أشتكى ... فإنّ الهموم بقدر الهمم أبو الطيب البستى: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن أبو الفتح البستى: صاحب السلطان لا بدّ له ... من هموم تعتريه وغمم والّذى يركب بحرا سيرى ... قحم الأهوال من بعد قحم «1» ومن كلام الملوك الجارى مجرى الأمثال أردشير- إذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعيّة عن الطاعة. أفريدون- الأيام صحائف آجالكم، فخلّدوها أحسن أعمالكم. وقيل للإسكندر: ما بال تعظيمك لمؤدّبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأنّ أبى سبب حياتى الفانية ومؤدّبى سبب حياتى الباقية. ودخل محمد بن زياد مؤدّب الواثق على الواثق، فأظهر إكرامه، وأكثر إعظامه، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال هذا أول من فتق لسانى بذكر الله، وأدنانى من رحمة الله. وأشير على الإسكندر بتبييت الفرس «2» ، فقال: لا أجعل غلبتى سرقة. وقيل له: لو تزوّجت بنت دارا؟ فقال: لا تغلبنى امرأة غلبت أباها.

انوشروان- الملك إذا كثر ماله مما يأخذ من رعيّته كان كمن يعمر سطح بيته بما يقتلعه من قواعد بنيانه. أبرويز- أطع من [فوقك يطعك من] دونك. السفاح- إن من أدنى الناس ووضعائهم من عدّ البخل حزما، والعفو ذلّا. وكان يقول: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، والصبر حسن إلا على ما أوقع بالدّين، وأوهى السلطان؛ والأماة محمودة إلا عند إمكان الفرصة. وقد قال ابن المعتز: كم فرصة ذهبت فعادت غصّة ... تشجى بطول تلهّف وتندّم «1» ولما عزم المنصور على الفتك بأبى مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى، فكتب إليه: إذا كنت ذا رأى فكن ذا تدبّر ... فإن فساد الرّأى أن تتعحّلا فأجابه المنصور: إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمة ... فإنّ فساد الرأى أن تتردّدا ولا تمهل الأعداء يوما بغدوة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا «2» وهذا في موضعه كقول الإمام على كرّم الله وجهه: من فكر في العواقب لم يشجع وقال سعد بن ناشب فأفرط «3» .

عليكم بدارى فاهدموها؛ فإنها «1» ... تراث كريم لا يخاف العواقبا «2» إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا سأغسل عنى العار بالسيف جالبا ... علىّ قضاء الله ما كان جالبا ويصغرفى عينى تلادى إذا انثنت ... يمينى بإدراك الذى كنت طالبا وكان سعد من مردة العرب وشياطين الإنس، وفيه يقول الشاعر: وكيف يفيق الدهر سعد بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلّة يصرع كتب مروان بن محمد الجعدىّ إلى عبد الله بن علىّ يسأله حفظ حرمه، فقال له: الحقّ لنا في دمك، وعلينا في حرمك. وقال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: إياك والدالّة «3» فإنها تفسد الحرمة، ومنها أتى البرامكة. وقال المأمون: الملوك تحتمل كلّ شىء إلّا ثلاثا: إفشاء السر، والقدح فى الملك، والتعرض للحرم. المعتصم إذا نصر الهوى بطل الرّأى. المنتصر- لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّى؛ وذلك أن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذّة التشفى يلحقها ذمّ الندم.

والمنتصر يقول عن تجربة؛ لأنه قتل أباه المتوكل، والأمر في ذلك أشهر من أن يذكر، ولكنى ألمع منه باليسير: كان المتوكّل قد عقد لولده المنتصر والمعتزّ والمؤيّد ولاية العهد، ثم تغيّر على المنتصر دون أخويه، وكان يسميّه المنتظر، ويقول له: أنت تتمنّى موتى، وتنتظر وقتى! ويأمر الندماء أن يعبثوا به، إلى أن أوغر صدره، وأقلّ صبره؛ فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين كان المتوكّل يشرب مع الفتح في قصره المعروف بالجعفرى، ومعه جماعة من الندماء والمغنّين، وكان المنتصر معهم، فلما انصرمت ثلاث ساعات من الليل قال لزرافة التركى: ألا تسعنى ساعة حتى أشكو إليك ما يمرّ بى؟ قال: بلى، وجعل يماطله ويطاوله، وغلّق بغا الشرابىّ الأبواب كلها إلا باب الماء، ومنه دخل الذين قتلوه، فأوّل من ضربه باغر التركى ضربة قطع بها حبل عاتقه، وتلقّاه الفتح بنفسه فأكبّ عليه، فقتلا جميعا، وبويع المنتصر من ساعته، وكانت مدّة المنتصر في الخلافة مدة شيرويه ابن كسرى- حين قتل أباه- ستة أشهر. وقال إبراهيم بن أحمد الأسدى يرثى المتوكّل: هكذا فلتكن منايا الكرام ... بين ناى ومزهر ومدام بين كأسين أروتاه جميعا ... كأس لذّاته وكأس الحمام يقظ في السرور حتى أتاه ... - قدّر الله- حتفه في المنام والمنايا مراتب يتفاضلن ... وبالمرهفات موت الكرام لم يرر نفسه رسول المنايا ... بصنوف الأوجاع والأسقام هابه معلنا فدبّ إليه ... فى ستور الدّجى بحدّ الحسام أخذ هذا المعنى عبد الكريم بن إبراهيم التيمى، فقال يرثى عيسى بن خلف صاحب خراج المغرب، وكان قد تناول دواء فمات بسببه: منايا سددت الطّرق عنها ولم تدع ... لها من ثنايا شاهق متطلّعا

فلما رأت سور المهابة دونها ... عليك ولما لم تجد فيك مطمعا ترقّت بأسباب لطاف ولم تكد ... تواجه موفور الجلالة أروعا فجاءتك في سرّ الدواء خفيّة ... على حين لم تحذر لداء توقّعا فلم أر مالا يتّقى مثل سهمها ... ولا مثلها لم تخش كيدا فترجعا وقد رثاه البحترى ويزيد المهلبى بمرثيتين من أجود ما قيل في معناهما، وكانا حاضرين ليلة قتله. فاختفى أحدهما في طىّ الباب، والآخر في قناة الشاذروان؛ فمن قصيدة البحترى: تغيّر حسن الجعفرىّ وأنسه ... وقوّض بادى الجعفرىّ وحاضره تحمّل عنه ساكنوه فجاءة ... فآضت سواء دوره ومقابره «1» ولم أر مثل القصر إذريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره «2» وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت ... على عجل أستاره وستائره إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره فأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهى الدهر فيهم وآمره» تخفّى له مغتاله تحت غرّة ... وأولى لمن يغتاله لو يجاهره صريع تقاضاه السيوف حشاشة ... يجود بها والموت حمر أظافره حرام علىّ الراح بعدك أو أرى ... دما بدم يجرى على الأرض مائره وهل يرتجى أن يطلب الدم طالب ... مدى الدهر والموتور بالدم واتره «4» فلا ملّى الباقى تراث الذى مضى ... ولا حمّلت ذاك الدعاء منابره

وهي طويلة «1» ، وكان أبو العباس ثعلب يقول فيها: ما قيلت هاشمية أحسن منها، وقد صرّح فيها تصريح من أذهلته المصائب عن تخوّف العواقب. وقد كان البحترى يرتاح في كثير من شعره إلى ذكره وذكر الفتح بن خاقان، فمن ذلك قوله لبعض من يمدحه: تداركنى الإحسان منك، ونالنى ... على فاقة ذاك النّدى والتطوّل ودافعت عنى حين لا الفتح يرتجى ... لدفع الأذى عنى ولا المتوكّل وقال: مضى جعفر والفتح بين موسّد ... وبين قتيل في الدماء مضرّج أأطلب أنصارا على الدهر بعد ما ... ثوى منهما في الترب أوسى وخزرجى «2» وقال في غلام له: عسى آيس من رجعة الوصل يوصل ... ودهر تولّى بالأحبّة يقبل أيا سكنا فات الفراق بنفسه ... وحال التّعادى دونه والتّزيل أتعجب لمّا لم يغل جسمى الضّنا ... ولم يخترم نفسى الحمام المعجّل فقبلك بان الفتح منى مودّعا ... وفارقنى شفعا له المتوكّل فما بلغ الدّمع الذى كنت أرتجى ... ولا فعل الوجد الذى خلت يفعل وقال أبو خالد يزيد بن محمد المهلبى في قصيدة أولها: لا وجد إلا أراه دون ما أجد ... ولا كمن فقدت عيناى مفتقد

يقول فيها: لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى من عضاه الزّبية الأسد «1» جاءت منيّته والعين هادية ... هلّا أتته المنايا والقنا قصد «2» فخرّ فوق سرير الملك منجد لا ... لم يحمه ملكه لمّا انقضى الأمد لا يدفع الناس ضيما بعد ليلتهم ... إذ لا يهزّ إلى الجانى عليك يد علنك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصّمد إذا بكيت فإن الدمع منهمل ... وإن رثيت فإنّ الشعر مطّرد إنّا فقد ناك حتى لا اصطبار لنا ... ومات قبلك أقوام فما فقدوا قد كنت أسرف في مالى فتخلفه ... فعلّمتنى الليالى كيف أقتصد وقال فيها يذكر الأتراك، ويحضّ على اصطناع العرب: لما اعتقدتم أناسا لا حفاظ لهم ... ضعتم وضيعتم من كان يعتقد ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم الذّادة المنسوبة الحشد «3» قوم هم الأصل والأسماء تجمعكم ... والدين والمجد والأرحام والبلد إن العبيد إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا وقال أبو حيّة النميرى «4» : رمته فتاة من ربيعة عامر ... نؤوم الصّحى في مأتم أىّ مأتم «5»

فقلن لها في السرّ: نفديك لا يرح ... صحيحا وإلّا تقتليه فألممى فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم وقالت فلما أفرغت في فؤاده ... وعينيه منها السحر قالت له نم فأصبح لا يدرى أفى طلعة الضحى ... تروّح أم داج من الليل مظلم «1» أخذ قوله: «فألقت قناعا دونه الشمس» من قول النابغة الذبيانى: قامت تراءى بين سجفى كلّة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد «2» سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقّتنا باليد وقال أبو حية يرثى سلمة بن عياش: كأنّ أبا حفص فتى البأس لم يجب ... به الليل والبيض القلاص النجائب إلى الغاية القصوى، ولم تهد فتية ... كراما وتخطوه الخطوب النوائب ويعمل عتاق العيس حتى كأنها ... إذا وضعت عنها العلايا المشاجب «3»

[مجنون بنى عامر]

بعيد مثانى الهمّ يمسى وماله ... سوى الله والعضب السّريجى صاحب «1» يروم جسيمات العلا فينالها ... فتى في جسيمات المكارم راغب فإن يمس وحشا بابه فلربما ... تواتر أفواجا إليه المواكب «2» يحيّون بسّاما كأنّ جبينه ... هلال بدا وانجاب عنه السحائب وما غائب من غاب يرجى إيابه ... ولكنه من ضمّن اللّحد غائب وزعم الصولى أن أباحيّة إنما قالها في محمد بن سليمان بن على بن عبيد الله بن العباس. وكان أبو حيّة جيد الطبع، مألوف الكلام، رقيق حواشى الشعر. [مجنون بنى عامر] وسئل الأصمعى عن قيس بن الملوح المجنون، فقال: لم يكن مجنونا، وإنما كانت به لوثة كلوثة أبى حيّة «3» ، وهو القائل: رمتنى وستر الله بينى وبينها ... عشية أحجار الكناس رميم رميم التي قالت لجارات بيتها: ... ضمنت لكم ألّا يزال يهيم ألا ربّ يوم لو رمتنى رميتها ... ولكنّ عهدى بالنضال قديم فيا عجبا من قاتل لى أوده ... أشاط دمى شخص علىّ كريم «4» يرى الناس أنى قد سلوت، وإننى ... لمدنف أحناء الضلوع سقيم «5» وأنشدنى إسحاق بن إبراهيم الموصلى في مثله، ولم يسم قائله: هل الأدم كالآرام والزّهر كالدمى ... معاودتى أيامهنّ الصوالح «6»

فقر تتصل بهذه الأبيات، فى وصف الشباب

زمان سلاحى بينهن شبيبتى ... لها سائف من حسنهن ورامح «1» فأقسمن لا يسقيننى قطر مزنة ... لشيبى ولو سالت بهن الأباطح وقال هارون بن على بن يحيى المنجّم: «2» الغانيات عهودهنّ إلى انصرام وانقضاب من شاب شبن له المودّة ... بالخديعة والكذاب «3» فانعم بهنّ وزند سنّك ... في الشبيبة غير خابى «4» ما دمت في روق الصّبا ... وغصونه الخضر الرّطاب «5» فافخر بأيام الصبا ... واخلع عذارك في التصابى واعط الشباب نصيبه ... ما دمت تعذر بالشباب وقال أشجع بن عمرو السلمى: وما لى لا أعطى الشباب نصيبه ... وغصناه يهتزّان في عوده الرّطب رأيت الليالى ينتهبن شبيبتى ... فأسرعت باللذات في ذلك النّهب فإنّ بنات الدّهر يخلسن لذتى ... فقد جزن سلمى وانتهين إلى حربى وقد حوّلت حالى الليالى وأسرجت ... على الرأس أمثال الفتيل من العطب وموت الفتى خير له من حياته ... إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبى وقال آخر: ما العيش إلا أن تحب ... وأن يحبك من تحبّه فقر تتصل بهذه الأبيات، فى وصف الشباب أطاع الشباب وغرّته، وأجاب الصبا وشرّته. جرّ إزار الصبا، وأذال

ويتعلق بهذه الألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشحهم للمعالى

ذيول الهوى «1» ، وركض «2» فى ميدان التصابى، وجنى ثمرات الملاهى. هو في اقتبال شبابه، وحداثة أترابه «3» ، وريعان عمره، وعنفوان أمره، هو في إبّان شبابه واعتداله وريعان إقباله واقتباله. بعثه على ذلك أشر الصبا، ولين الغصن، وشرخ الشبيبة وسكر الحداثة. فتىّ السّن، رطيب الغصن، عمره في إقباله، ونشاطه في استقباله، وشبابه في اقتباله، وماؤه بحاله. فلان في حكم الأطفال، الذين لم يعضّوا على نواجذ الرجال. هو في عنفوان شبيبة تخاف سقطاتها وهفواتها، ولا يؤمن جيحاتها ونزواتها. هو في سكرى الشباب والشراب، وبين نزوات الشبان، ونزغات الشيطان. شبابه أعمى عن الرشد، أصمّ عن العذل، قد لبّى داعى هواه، وانغمس في لجّة صباه. قد هجم بسكر الحداثة على سكرات الحوادث، يجرى إلى الصّبا جرى الصّبا. فلان غفل من سمة التّجربة، جامح في عذار الغفلة، صعب الرأس «4» على لجام العظة. هو من سلطان الصّبا في النّوبة الأولى، قد خلع عذاره ومقوده، وألقى إلى البطالة باعه ويده. هو بين خمار الغداة وسكر العشى «5» لا يعرف الصّحو، ولا يفارق اللهو. فلان لا يفيق، ولا يذكر التوفيق، هو بين غرر الشباب، وغرر الأحباب. ويتعلق بهذه الألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشحهم للمعالى قد جمع نضارة الشباب إلى أبّهة المشيب، وهو على حدوث ميلاده وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سنّ وشيبة. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتمل، قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأى جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه مواعد، أرى له في فصل ضمان الأيام وودائع الحظوظ

[مما قيل في أثر الأيام والليالى]

والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح، قد استكمل قوّة الفضل، ولم يتكامل له سنّ الكهل. ما زالت مخايله وليدا وناشئا، وشمائله صغيرا ويافعا، نواطق بالحسن عنه وضوامن النّجح فيه! قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التى لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال. حمدت عزائمه، قبل أن حلّت تمائمه، وشهدت مكرماته، قبل أن تدرج لداته «1» . وقال البحترى: لا تنظرنّ إلى العباس من صغر ... فى السّن وانظر إلى المجد الذى شادا إنّ النجوم نجوم الأفق أصغرها ... فى العين أذهبها في الجوّ إصعادا وقال آخر: رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على قدر السنينا فلو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا وقال الفضل بن جعفر الكاتب: فإن خلّفته السنّ فالعقل بالغ ... به رتبة الكهل المؤهّل للمجد فقد كان يحيى أوتى الحكم قبله ... صبيّا وعيسى كلّم الناس في المهد [مما قيل في أثر الأيام والليالى] وكان أبو حيّة كثير الرواية عن الفرزدق، وعمّر حتى التقى بابن مناذر فاستنشده شعره، فأنشده أبو حيّة: ألا حىّ من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللّياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شىء لا يملّ التّقاضيا حنتك الليالى بعد ما كنت مرة ... سوىّ العصا لو كنّ يبقين باقيا

فقال ابن مناذر: أو شعر هذا؟ فقال أبو حيّة: ما في شعرى عيب، غير أنك تسمعه. وفي هذه القصيدة يقول أبو حية: ولما أبت إلا التواء بودّها ... وتكديرها الشّرب الذى كان صافيا شربت برنق من هواها مكدّر ... وكيف يعاف الرّنق من كان صاديا «1» وقد قال عمرو بن قميئة «2» فى معنى قول أبى حية: كانت قناتى لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربى في السلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السّلامة داء وقال النّمر بن تولب «3» : يودّ الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل يعود الفتى من بعد حسن وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل «4» وقد روى في الحديث الشريف: «كفى بالسلامة داء» . وقد أحسن حميد بن ثور في قوله: أرى بصرى قد رابنى بعد صحة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما

ولمن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وهذان البيتان من قصيدة طويلة، وهى أجود شعر حميد «1» ، ومن أجود ما فيها: وما هاج هذا الشوق إلّا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنّما تروح عليه والها ثم تغتدى ... مولّهة تبغى له الدّهر مطعما تؤمل منه مؤنسا لانفرادها ... وتبكى عليه إن زقا وترنّما كأنّ على إشراقه نور خمرة ... إذا هو مدّ الجيد منه لبطعما فلمّا اكتسى الرّيش السّحام ولم تجذ ... لها معه في ساحة الحىّ مجثما «2» تنحّت قريبا فوق غصن تذأبت ... به الريح صرفا أىّ وجه تيمّما «3» فأهوى لها صقر مسفّ فلم يدع ... لها ولدا إلا رماما وأعظما فأوفت على غصن ضحيّا ولم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما «4» فلم أر مثلى شاقه صوت مثلها ... ولا عربيّا شاقه صوت أعحما ومن حبيث الهجاء قوله في هذه القصيدة يخاطب رجلين بعثهما: وقولا إذا جاورتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما تريعان من جرم بن زيّان أنهم ... أبوا أن يريقوا في الهزاهز محجما «5» وما هجيت جرم بأشدّ من هذا، يريد أنهم لذلتهم لم يتروا أحدا فيطالبهم بذحل.

وقال الأصمعى: قيل لبعض الصالحين: كيف حالك؛ فال: كيف حال من يفنى ببقائه، ويسقم بسلامته، ويؤتى من مأمنه وقال محمود الوراق: يحب الفتى طول البقاء كأنّه ... على ثقة أن البقاء بقاء إذا ما طوى يوما طوى اليوم بعضه ... ويطويه- إن جنّ المساء- مساء زيادته في الجسم نقص حياته ... وأنى على نقص الحياة نماء «1» جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء وقال المتنبى: زيادة شيب وهي نقص زيادتى ... وقوّة عشق وهي من قوّتى ضعف وبيت محمود الأخير كقول البحترى: أناة أيّها الفلك المدار ... أنهب ما تصرّف أم جبار «2» ستفنى مثل ما تفنى وتبلى ... كما تبلى فيدرك منك ثار تناب النائبات إذا تناهت ... ويدمر في تصرّفه الدّمار وما أهل المنازل غير ركب ... مطاياهم رواح وابتكار ويقول فيها: لنا في الدّهر آمال طوال ... نرجّيها وأعمار قصار أما وأبى بنى حار بن كعب ... لقد طرد الزمان بهم فساروا أصاب الدّهر دولة آل وهب ... ونال الليل منهم والنهار أعارهم رداء العزّ حتى ... تقاضاهم فردّوا ما استعاروا وقد كانوا وأوجههم بدور ... لمبصرها وأيديهم بحار «3» أخذ قوله: «ستفنى مثل ما تفنى» أبو القاسم بن هانىء فقال: تفنى النجوم الزّهر طالعة ... والنّيّران الشّمس والقمر

ولئن تبدّت في مطالعها ... منظومة فلسوف تنتثر ولئن سعى الفلك المدار بها ... فلسوف يسلمها وينفطر وقد استقصى على بن العباس الرومى المعنى الأول فقال: والدّهر يبلى الفتى من حيث ينشئه ... حتى تكرّ عليه ليلة القرب «1» يغذوه في كلّ آن وهو يأكله ... ويحتسى نغبا منه على نغب «2» يودى بحال فحال من شبيبته ... تسرّب الماء في مستانف الكتب «3» حسب امرىء من خنى دهر تطاوله ... وإن أجمّ فلم ينكب ولم ينب فى هدنة الدّهر كاف من وقائعه ... والعمر أقدح مبراة من الوصب وقال أيضا: يابانى الحصن أرساه وشيّده ... حرزا لشلو من الأعداء مشجون «4» انظر إلى الدهر هل فاتته بغيته ... فى مطمح النسر أوفى مسبح النون «5» ومن تحصّن منخوبا على وجل ... فإنما حصنه سجن لمسجون أشكو إلى الله جهلا قد أضرّ بنا ... بل ليس جهلا ولكن علم مفتون وقال الطائى: وإن تبن حيطان عليه فإنما ... أولئك عقّالاته لا معاقله ودخل يحيى بن خالد على الرشيد وقد ابتدأت حاله في التغيّر، فأخبر أنه مشغول، فرجع، فبعث إليه الرشيد: خنتنى فاتهمتنى، فقال: إذا انقضت المدّة كان الحتف في الحيلة، والله ما انصرفت إلا تخفيفا. أخذه ابن الرومى فقال وقد فصده بعض الأطباء، فزعم أن الفصد زاد في علته: غلط الطبيب علىّ غلطة مورد ... عجزت محالته عن الإصدار «6»

[وصف الثغور]

والناس يلحون الطبيب، وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار [وصف الثغور] وقال أبو حيّة النميرى: سقتنى بكأس الحبّ صرفا مروّقا ... رقاق الثنايا عذبة المترنّق «1» وخمصانة تفترّ عن متنشق ... كنور الأقاحى طيب المتذوّق «2» إذا امتضغت بعد امتتاع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق «3» سقت شعب السواك ماء غمامة ... فضيضا بخرطوم الرّحيق المروّق «4» وأنشد الثورى: ترى الدّر منثورا إذا ما تكلّمت ... وكالدّر منظوما إذا لم تكلّم تعبّد أحرار القلوب بدلّها ... وتملأ عين الناظر المتوسم والبيت الأول من هذين كقول البحترى: فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه «5» وقد تقدّم. قال أبو الفرج الرياشى: سمعت الأصمعى يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذى الرمة: وتجلو بفرع من أراك كأنّه ... من العنبر الهندىّ والمسك يصبح «6»

ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه النّدى من رامة المتروّح هجان الثّنايا معرب لو تبسّمت ... لأخرس عنه كاد بالقول يفصح «1» ومن قديم هذا المعنى وجيّده قول النابغة الذبيانى في صفة المتجرّدة امرأة النعمان بن المنذر: تجلو بقاد متى حمامة أيكة ... بردا أسفّ لثاته بالإنمد «2» كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندى زعم الهمام بأنّ فاها بارد ... عذب مقبّله شهىّ المورد زعم الهمام ولم أذقه أنه ... يشفى بريّاريقها العطش الصّدى ومن قوله: «ولم أذقه» أخذ كلّ من أتى بهذا المعنى، ففتقه الناس بعده، قال المتوكل الليثى: كأنّ مدامة صهباء صرفا ... ترقرق بين راووق ودنّ تعلّ بها الثّنايا من سليمى ... فراسة مقلتى وصحيح ظنّى وقال بشّار: يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... ثنّى ولا تجعليها بيضة الدّيك يا رحمة الله حلّى في منازلنا ... حسبى برائحة الفردوس من فيك وقيل لبشار: يا أبا معاذ، كم بين قولك، وأنشد هذه الأبيات وبين أن تقول: إنما عظم سليمى خلّتى ... قصب السكر لا عظم الجمل وإذا قرّب منها بصل ... غلب المسك على ريح البصل

[تفضيل السواد]

فقال: إنما الشاعر المطبوع كالبحر: مرة يقذف صدفه، ومرة يقذف جيفه «1» . [تفضيل السواد] وقد تناول هذا المعنى أبو الحسن علىّ بن العباس الرومى من أقرب متناول فقال وكشفه بأوضح عبارة- فى صفته لجارية أبى الفضل عبد الملك بن صالح السوداء بعد أن استوفى جميع صفاتها وكان قد اقترح عليه وصفها: وصفت فيها الّذى هويت على ال ... وهم ولم نختبر ولم نذق إلّا بأخبارك التي رفعت ... منك إلينا عن ظبية البرق «2» حاشا لسوداء منظر سكنت ... ذراك إلا عن مخبر يقق «3» وهذه الأبيات من قصيدة له وصف فيها السواد، واحتجّ بتفضيله على البياض، حتى أغلق فيه الباب بعده، ومنع أن يقصد فيه أحد قصده، إلّا كان مقّصر السهم عن غرض الإحسان. وقد نبّه على بن عبد الله بن العباس [المسيب على] فضائلها، وأجاد التشبيه، وكشف عن وجوه الإبداع، وضروب الاختراع وقد مدح الناس السواد والسّود فأكثروا؛ فمن جيذ ما قالوا فيه قول أبى حفص الشطرنجى: أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده فأخذ ابن الرومى هذا المعنى، وأضاف إليه أشياء أخر توسعا واقتدارا، فقال: يذكرك المسك والغوالى والسّكّ ذوات النسيم والعبق «4»

وهذه الأشياء وإن كانت ناقصة عن المسك، فهى ممدوحة بالطيب، غير مستغنى عن ذكرها في التشبيه؛ فأما زيادته على جميع من تعاطى مدح السواد فقوله: سوداء لم تنتسب إلى برص الشّقر ولا كلفة ولا بهق «1» والأبيض الشديد البياض معيب، وقد دلّ عليه قوله: وبعض ما فضّل السواد به ... والحقّ ذو سلّم وذو نفق ألّا يعيب السّواد حلكته ... وقد يعاب البياض بالبهق «2» قوله: «الحق ذو سلّم وذو نفق» أراد أنّ الحقّ يتصرّف في جهات، وضرب الصعود والنزول لذلك مثلا؛ ثم قصد لوصف هذه السوداء بالكمال في الصفة؛ ومن عيب السّودان أن أكفّهم عابسة «3» متشقّقة، وأطرافهم ليست بناعمة لينة، وكذلك لا يزال الفلح في شفاههم، وهي الشقوق المذمومة الموجودة في أكثر السودان في أوساط الشفاه، وأيضا فإن الأسود مهجو بخبث العرق، فنفى هذه الصفات المذمومة الموجودة في أكثر السودان عنها، فقال: ل يست من العبس الأكفّ ولا ال ... فلح الشّفاه الخبائث العرق ثم عاج بخاطره على وصف هذه السوداء بأضداد تلك الصفات المذمومة، فقال: فى لين سمّورة تخيّرها الفرّاء ... أو لين جيّد الدّلق «4» ومن بديع مدح السوداء قوله: أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق فانصرفت نحوها الضمائر وال ... أبصار يعشقن أيّما عشق فأخبر أنّ القلوب إنما أحبتها بالمجانسة التي بينها وبين حبّ القلوب من السواد، وكذلك الحدق.

ومن جيّد نشبيهات أبى نواس وقد نبّه نديما للصبوح فأخبر عن حاله وقال: فقام والليل يجلوه الصباح كما ... جلا التبسم عن غر التّليّات ولعلى بن العباس عليه التقدم بقوله: يفتّر ذاك السواد عن يقق ... من ثغرها كاللالىء النّسق «1» كأنها والمزاح يضحكها ... ليل تعرّى دجاه عن فلق «2» وفضل هذا الكلام على ذاك أن هذا قدّم لمعناه في التشبيه مقدمة أيّدته، ووطّأت له الآذان «3» ، وأصغت الأفهام إلى الاستحسان، وهي قوله: يفترّ ذاك السواد عن يقق وفي هذه السوداء يقول، وقد سأله أبو الفضل الهاشمى أن يستغرق صفات. محاسنها الظاهرة والباطنة، فقال: لها حر يستعير وقدته ... من قلب صبّ وصدر ذى حنق «4» كأنما حرّه لخابره ... ما ألهبت في حشاه من حرّق يزداد ضيقا على المراس كما ... تزداد ضيقا أنشوطة الوهق «5» ثم فكّر فيما فكّر فيه النابغة، وقد أمره النعمان بوصف المتجرّدة، فوصف ما يجوز ذكره من ظاهر محاسنها، ثم كره أن يذكر من فضائلها مالا يسوغ بمثله أن يذكر منها، فردّ الإخبار عن تلك الفضائل إلى صاحبها، وهو الملك، فقال: زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب إذا قبّلته قلت ازدد فاحتذى علىّ بن العباس هذا، فقال بعد ما سأله أن يستغرق في وصف فضائلها الظاهرة والباطنة: خذها أبا الفضل كسوة لك من ... خزّ الأماديح لا من الخرق

وصفت فيها التي هويت على ال ... وهم ولم نختبر ولم نذق إلّا بأخبارك التي وقعت ... منك إلينا عن ظبية البرق حاشا لسوداء منظر سكنت ... ذراك إلّا عن مخبر يقق وهذا المعنى أومأ إليه النابغة إيماء خفيّا تذهب معرفته عن أكثر الناس، ولو آثر النابغة ترك الاختصار، وهمّ بكشف المعنى وإيضاحه، ما زاد على هذا الكشف الذى كشفه ابن الرومى: وأصحاب المعانى ينشدون للفرزدق: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي بطنه من دارم ذو حفيظة ... لو ان المنايا أنسأته لياليا «1» ومعناه عندهم أنه رثى امرأة توفّيت حاملا، فقال على بن العباس وقد وصف هذه المرأة السوداء: أخلق بها أن تقوم عن ذكر ... كالسيف يفرى مضاعف الحلق إنّ جفون السيوف أكثرها ... أسود والحقّ غير مختلق فهذه زيادة بينة، وعبارة واضحة، لم تحتج إلى تفاسير أصحاب المعانى، وقال مما لم ينشده المتنبى: غصن من الآبنوس ركّب فى ... مؤتزر معجب ومنتطق يهتزّ من ناهديه فى ثمر ... ومن دواجى ذراه في ورق وهذا معنى قد بلغ قائله من الإجادة، فوق الإرادة، وامتثل أبو الفضل الهاشمى ما أشار به ابن الرومى، فأولدها، فأنجبت. وفي معنى قول الفرزدق قال الطائى وأحسن وذكر ولدين توأمين ماتا لعبد الله ابن طاهر:

وعلى ذكر التوأمين ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بتوأمين

إن ترز في طرفى نهار واحد ... رزأين هاجا لوعة وبلايلا فالثّقل ليس مضاعفا لمطيّة ... إلا إذا ما كان وهما بازلا «1» لهفى على تلك المشاهد منهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا لغدا سكونهما حجى، وصباهما ... حكما، وتلك الأريحيّة نائلا إن الهلال إذا رأيت نماءه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا وعلى ذكر التوأمين ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بتوأمين تيسّرت منحتان في وطن، وانتظمت موهبتان في قرن «2» ، طلع في أفق الكمال نجما سعد، وشهابا عزّ، وكوكبا مجد، فتأهّلت بهما ربوع المحاسن، ووطّئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرّة والمنابر. بلغنى خبر الموهبة المشفوعة بمثلها، والنّعمة المقرونة بعد لها «3» فى الفارسين المقبلين، رضيعى العزّ والرفعة، وقرينى المجد والمنعة، فشملنى من الاغتباط ما يوجبه ازدواج البشرى، واقتران غادية «4» بأخرى. والشىء يذكر بما قارب ناحية من أنحائه، وجاذب حاشية من ردائه «5» . [شىء من الهجاء يشتمل على تضمين] وقال بعض أهل العصر يهجو رجلا وضمّن قول النابغة: كالأقحوان غداة غبّ سمائه

وأزاحه عن بابه؛ فجاء مليحا في الطبع، مقبولا في السمع: يا سائلى عن جعفر، عهدى به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد «1» كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندى «2» ومن مستحسن ما روى في هذا التضمين قول الآخر وضمن بيتا لمهلهل ابن ربيعة: وسائلة عن الحسن بن وهب ... وعمّا فيه من كرم وخير فقلت هو المهذب، غير أنى ... أراه كثير إرخاء الستور وأكثر ما يغنيّه فتاه ... حسين حين يخلو بالسّرور فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور وهذا البيت لمهلهل مما يعدّونه من أول كذب العرب، وكانت قبل ذلك لا تكذب في أشعارها «3» ، وكان بين الموضع الذى كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حجر وهي قصبة باليمامة مسافة بعيدة، فأخرجه هذا الشاعر بقوة منّته، ونفاذ فطنته، إلى معنى آخر مستظرف في بابه. وهذا المذهب أحسن مذاهب

[عود إلى وصف الثغور ونقائها]

التضمين. ومن مليح ما في هذا الباب تضمينات الحمدونى في طيلسان أحمد بن حرب المهلبى، وسيأتى ما أختاره من ذلك في غير هذا الموضع. [عود إلى وصف الثغور ونقائها] وقد جاء في صفة الثغور والأفواه والرّيق شعر كثير. قال جميل: تمنيت منها نظرة وهي واقف ... تريك نقيّا واضح الثغر أشنبا «1» كأنّ عريضا من فضيض غمامة ... هزيم الذّرى تمرى له الريح هيدبا «2» يصفّق بالمسك الذكىّ رضابه ... إذا النّجم من بعد الهدو تصوّبا «3» وقال: وكأن طارقها على علل الكرى ... والنجم وهنا قد بدا لتغوّر يستاف ريح مدامة معلولة ... يرضاب مسك في ذكىّ العنبر وقال عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى: يمجّ ذكىّ المسك منها مفلّج ... نقىّ الثنايا دو غروب مؤشّر «4» يرفّ إذا تفترّ عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منوّر وقال الهذلى: وما صهباء صافية لضبّ ... كلون الصّرف منجاب قذاها تشجّ بنطفة من ماء مزن ... أحلّته برضراض عراها بأطيب مشرعا من طعم فيها ... إذا ما طار عن سنة كراها

وقال آخر: وشقّ عنها قناع الخزّ عن برد ... كالدّرّ لا كسس فيه ولا ثعل «1» كأنه أقحوان بات بضربه ... طلّ من الدّجن سقّاط النّدى هطل كأنّ صرفا كميت اللّون صافية ... شجّت بماء سماء شنّه جبل «2» فوها إذا ما قضت من نومها سنة ... أو اعتراها سبات النّوم والكسل وقال الآخر: هجان اللّون واضحة المحيّا ... قطيع الصّوت آنسة كسول «3» تبسّم عن أغرّ له غروب ... فرات الرّيق ليس به فلول «4» كأنّ صبيب غادية لصبّ ... تشجّ به شآمية شمول على فيها إذا الجوزاء عالت ... محلّقة وأردفها رعيل «5» وقال ابن المعتز: يا نديمىّ اشربا واسقيانا ... قد بدا الصبح لنا واستبانا «6» واقتلا همى بصرف عقار ... واتركا الدّهر فما شاء كانا إن للمكروه لذعة شرّ ... فإذا دام على المرء هانا وامزجا كأسى بريقة ألمى ... طاب للعطشان وردا وحانا من فم قد غرس الدّرّ فيه ... ناصح الريق إذا الرّيق خانا «7» وقال ابن الرومى: يا ربّ ريق بات بدر الدّجى ... يمجّه بين ثناياكا

يروى ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: وإذا سألتك رشف ريقك قلت لى: ... أخشى عقوبة مالك الأملاك ماذا عليك؟ جعلت قبلك في الثّرى! ... من أن أكون خليفة المسواك أيجوز عندك أن يكون متيّم ... صبّ بحبّك دون عود أراك وهذا المعنى يجاوز الإحصاء، ويفوت الاستقصاء؛ وكلّه مأخوذ من قول امرىء القيس: كأنّ المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر «1» يعلّ به برد أنيابها ... إذا طرّب الطائر المستحر «2» فجمع ما فرّقوه، وأخذه الجعفرى فقصّر عنه: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى وذوب العسل يعلّ به برد أنيابها ... إذا النّجم وسط السماء اعتدل ويلحق بهذه المعانى من شعر أهل العصر قول أبى على محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمى- وذكر خمرا: من كفّ ساق أهيف حركاته ... فتن تقنّع بالملاحة واعتجر «3» ناولته كأسى وكسر جفونه ... يوحى إلىّ أن ارتقبهم واصطبر فثنى لها أقلام درّ رخصة ... تهوى إلى أفراد درّ ذى أشر «4» فتحدّرت من كأسه في ثغره ... كالشمس تغرب في هلال من قمر وأهدى أبو الفتح كشاجم لبعض القيان مسواكا وكتب إليها: قد بعثناه لكى تجلو به ... واضحا كاللؤلؤ الرّطب أغرّ

[شعر عمر بن أبى ربيعة، وشعر الحارث بن خالد]

طاب منه العرف حتّى خلته ... كان من ريقك يسقى في الشّجر «1» وأما والله لو يعلم ما ... حظه منك لأثنى وشكر ليتنى المهدى فيروى عطشى ... برد أنيابك في كلّ سحر «2» [شعر عمر بن أبى ربيعة، وشعر الحارث بن خالد] وكان ذكر بحضرة ابن أبى عتيق شعر عمر بن أبى ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين، فقال رجل من ولد خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة: صاحبنا الحارث أشعر، فقال ابن أبى عتيق: دع قولك يابن أخى، فلشعر ابن أبى ربيعة لوطة بالقلب «3» ، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة ليس لشعر الحارث؛ وما عصى الله بشعر قطّ أكثر مما عصى بشعر ابن أبى ربيعة، فخذ عنى ما أصف لك: أشعر قريش من رقّ معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطّفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه، فقال الذى من ولد خالد بن العاص: صاحبنا الذى يقول: إنى وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تئودها العقل «4» لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيردّه الإقواء والمحل «5» لعرفت مغناها بما احتملت ... منى الضلوع لأهلها قبل فقال ابن أبى عتيق: يابن أخى، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا، أما تطيّر الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله، ما بقى إلا أن يسأل الله حجارة من سجّيل وعذابا أليما. ابن أبى ربيعة كان أحسن الناس للرّبع مخاطبة وأجمل مصاحبة إذ يقول:

سائلا الرّبع بالبلىّ وقولا ... هجت شوقا لى الغداة طويلا أين أهل حلّوك إذ أنت مسرو ... ربهم آهل أراك جميلا قال: ساروا، وأمعنوا، واستقلّوا ... وبكرهى لو استطعت سبيلا سئمونا وما سئمنا مقاما ... واستحبّوا دماثة وسهولا «1» وهاهنا حكاية تأخذ بطرف الحديث، دخل مزيد المدنى على مولى لبعض أهل المدينة، وهو جالس على سرير ممهّد، ورجل من ولد أبى بكر الصديق وآخر من ولد عمر- رضي الله عنهما! - جالسان بين يديه على الأرض؛ فلما رأى المولى مزيدا تجهّمه، وقال: يا مزيد ما أكثر سؤالك! وأشدّ إلحافك! جئت تسألنى شيئا؟ قال: لا والله، ولكنى أردت أن أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد: إنّى وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تئودها العقل لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو فلما رأيتك ورأيت هذين بين يديك عرفت معنى الذى قال. فقال: اعزب في غير حفظ الله! وضحك أهل المجلس. وأخذ الحارث قوله: لعرفت مغناها بما احتملت ... منى الضلوع لأهلها قبل من قول امرىء القيس؛ قال على بن الصباح ورّاق بن أبى محلم قال لى أبو محلم: أتعرف لامرىء القيس أبياتا سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير قصيدته التي أولها:

ألمّا على الرّبع القديم بعسعسا فقلت: لا أعرف غيرها، فقال: أنشدنى جماعة من الرّواة: لمن طلل درست آيه ... وغيّره سالف الأحرس «1» تنكّره العين من حادث ... ويعرفه شغف الأنفس وقد أخذه طريح بن إسماعيل الثقفى، فقال: تستخبر الدّمن القفار ولم تكن ... لتردّ أخبارا على مستخبر فظللت تحكم بين قلب عارف ... مغنى أحبّته وطرف منكر وقال الحسن بن وهب، إشارة إلى هذا المعنى: أبليت جسمى من بعد جدّته ... فما تكاد العيون تبصره كأنّه رسم منزل خلق ... تعرفه العين ثم تنكره وقال يحيى بن منصور الذهلى: أما يستفيق القلب إلا انبرى له ... تذكّر طيف من سعاد ومربع أخادع من عرفانه العين؛ إنه ... متى تعرف الأطلال عينى تدمع وقال آخر: هى الدار التي تعر ... ف لم لا تعرف الدّارا ترى منها لأحبابك ... أعلاما وآثارا فيبدى القلب عرفانا ... وتبدى العين إنكارا وقال أبو نواس، وتعلق أول قوله بهذا المعنى، وأنا أنشد الأبيات كلها لملاحتها؛ إذ كان الغرض في هذا التصرف هو إرادة الإفادة: ألا لا أرى مثلى امترى اليوم في رسم ... تغضّ به عينى ويلفظه وهمى «2» أتت صور الأشياء بينى وبينه ... فظنّى كلا ظنّ وعلمى كلا علم

[شعر أبى نواس]

فطب بحديث من حبيب مساعد «1» ... وساقية بين المراهق والحلم «2» ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنّها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم يفوّق مالى من طريف وتالد ... تفوّقى الصهباء من حلب الكرم «3» وإنى لآتى الوصل من حيث يبتغى ... وتعلم قوسى حين أنزع من أرمى «4» [شعر أبى نواس] وروى أبو هفان قال: كان أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابى «5» يطعن على أبى نواس، ويعيب شعره، ويضعّفه، ويستلينه؛ فجمعه مع بعض رواة شعر أبى نواس مجلس والشيخ لا يعرفه، فقال له صاحب أبى نواس: أتعرف- أعزّك الله! - أحسن من هذا؟ وأنشده: «ضعيفة كرّ الطّرف ... » الأبيات فقال: لا والله، فلمن هو؟ قال: للذى يقول: رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفّى عليه بكا عليك طويل يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحّط بينهنّ قتيل فطرب الشيخ، وقال: ويحك! لمن هذا؟ فو الله ما سمعت أجود منه لقديم

ولا لمحدث! فقال: لا أخبرك أو تكتبه؛ وكتب الأول، فقال: للذى يقول: ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس الكرى فانتشى المسقىّ والساقى كأنّ أرؤسهم والنّوم واضعها ... على المناكب لم تخلق بأعناق ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة ... حتى أناخوا إليكم قبل إشراقى من كل جائلة الطرفين ناجية ... مشتاقة حملت أوصال مشتاق فقال: لمن هذا؟ وكتبه. فقال: للذى تذمّه، وتعيب شعره، أبى على الحكمى! قال: اكتم علىّ، فو الله لا أعود لذلك أبدا. أخذ قوله: «كأنّ أرؤسهم والنوم واضعها» أبو العباس بن المعتز، فقال يصف شربا: كأنّ أباريق الّلجين لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام وقد شربوا حتى كأن رؤوسهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام البيت الأول من هذين من قول علقمة بن عبدة «1» : كأنّ إبريقهم ظبى على شرف ... مفدّم بسبا الكتّان ملثوم «2» أراد بسبائب «3» ، فحذف. وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله: إبريقنا سلب الغزالة جيدها ... وحكى المدير بمقلتيه غزالا يسقيك بالألحاظ كأس صبابة ... ويديرها من كفّه جريالا «4»

[تشبيب الحارث بن خالد]

وأنشد الحارث بن خالد أبياته: إنى وما نحروا غداة منى...... لعبد الله بن عمر، فلما بلغ إلى قوله: لعرفت معناها بما احتملت ... منّى الضلوع لأهلها قبل قال له ابن عمر: قل إن شاء الله، قال: إذا يفسد الشعر يا أبا عبد الرحمن، فقال: لا خير في شىء يفسده إن شاء الله. [تشبيب الحارث بن خالد] وكان الحارث بن خالد أحد المجيدين في التشبيب، ولم يكن يعتقد شيئا من ذلك، وإنما يقوله تظرّفا وتخلّعا؛ وكان أكثر شعره في عائشة بنت طلحة، فلما قتل عنها مصعب بن الزبير قيل له: لو خطبتها! قال: إنى لا كره أن يتوهّم الناس علىّ أنى كنت معتقدا لما أقول فيها، وهو القائل: يا أمّ عمران ما زالت وما برحت ... بنا الصّبابة حتى مسّنا الشّفق «1» القلب تاق إليكم كى يلاقيكم ... كما يتوق إلى منجاته الغرق «2» توفيك شيئا قليلا وهي خائفة ... كما يمسّ بظهر الحيّة الفرق «3» أخذ هذا الطائى فحسّنه فقال: تأبى على التّصريد إلّا نائلا ... إلّا يكن ماء قراحا يمذق «4» نزرا كما استكرهت عابر نفجة ... من فأرة المسك التي لم تفتق وحجّت عائشة بنت طلحة، فوجّه إليها يستأذنها في الزيارة، فقالت: نحن حرام، فأخّر ذلك حتى نحلّ، فلما أحلت أدلجت ولم يعلم، فكتب إليها: ما ضرّكم لو قلتم سددا ... إنّ المنيّة عاجل غدها «5» ولها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها

[من أخبار ابن أبى عتيق وعائشة بنت طلحة]

لو تمّمت أسباب نعمتها ... تمّت بذلك عندنا يدها إنى وإياها كمفتتن ... بالنار تحرقه ويعبدها [من أخبار ابن أبى عتيق وعائشة بنت طلحة] وابن أبى عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، رضي الله عنه! وكان من أفاضل زمانه علما وعفافا، وكان أحلى الناس فكاهة، وأظرفهم مزاحا، وله أخبار مستظرفة سيمرّ منها ما يستحسن إن شاء الله. روى الزبير بن أبى بكر أنه دخل على عائشة- يعنى بنت طلحة، رضي الله عنهما! - وهي لمابها؛ فقال: كيف أنت جعلت فداك؟ قالت: فى الموت، قال: فلا إذا، إنما ظننت في الأمر فسحة، فضحكت، وقالت: ما تدع مزحك بحال. وفيه يقول عمر بن أبى ربيعة القرشى: ليت شعرى هل أقولن لركب ... بفلاة هم لديها خشوع طالما عرّستم فاستقلّوا ... حان من نجم الثريّا طلوع إنّ همّى قد نفى النوم عنّى ... وحديث النفس منّى يروع قال لى فيها عتيق مقالا ... فجرت مما يقول الدموع قال لى: ودّع سليمى ودعها ... فأجاب القلب: لا أستطيع لا تلمنى في اشتياقى إليها ... وابك لى مما تجنّ الضّلوع [مثل من التعريض] قال أبو العباس محمد بن يزيد «1» قوله: «حان من نجم الثريا طلوع» كناية، وإنما

يريد الثريا بنت على بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر، وكانت موصوفة بالجمال، وتزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهرى، فنقلها إلى مصر، وفي ذلك يقول عمر، وضرب لهما المثل بالنجمين: أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هى شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يمانى فمات سهيل عنها، أو طلّقها، فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة دمشق تطلب في دين عليها، فبينا هي عند أمّ البنين ابنة عبد العزيز إذ دخل الوليد فقال: من هذه عندك؟ قالت: الثريا، جاءتك تطلب في دين ارتكبها، فأقبل الوليد عليها، فقال: أتروين من شعر عمر بن أبى ربيعة شيئا؟ قالت: نعم، أما إنه رحمه الله كان عفيفا، عفيف الشعر، أروى له قوله: ما على الرّسم بالبليين لو ب ... يّن رجع السلام أولو أجابا فإلى قصر ذى العشيرة بالصا ... ئف أمسى من الأنيس يبابا وبما قد أرى به حىّ صدق ... ظاهرى العيش نعمة وشبابا وحسانا جواريا خفرات ... حافظات عند الهوى الأحسابا لا يكثّرن بالحديث ولا يتبعن ... ينعقن بالبهام الظّرابا «1» فلما خلا الوليد بأم البنين قال: لله درّ الثريا؛ أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدت من شعر عمر؟ قالت: لا، قال: فإنّى لما عرّضت لها بعمر عرّضت بأن أمى أعرابية؛ وأم الوليد ولّادة ابنة العباس بن جزء بن الحارث بن زهير العبسى، وهي أمّ سليمان، ولا تعلم امرأة ولدت خليفتين في الإسلام غيرها، وغير الخيزران، وهي سبيّة من خرشنة، ولدت موسى الهادى وهارون الرشيد ابنى محمد المهدى، وشاهسفرم بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز؛ فإنها

[بعض أخبار عمر بن أبى ربيعة وغزله]

ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم بن الوليد المخلوع؛ جلس في الخلافة بعد أخيه يزيد مدة يسيرة، ثم جاء مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بنى أمية فخلعه وولّى بعده. وشبيه بقول الثريا في باب التعريض أنه دخلت عزّة على عبد الملك بن مروان، فقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: أنا أم بكر الضّمرية، قال لها: يا عزّة؟ هل تروين من شعر كثيّر شيئا؟ قالت: ما أعرفه، ولكن سمعت الرواة ينشدون له: قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها قال: فتروين قوله: وقد زعمت أنى تغيرت بعدها ... ومن ذا الذى يا عزّ لا يتغير تغير حالى والخليقة كالذى ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر قالت: ما سمعت هذا، ولكن سمعتهم ينشدون: كأنّى أنادى صخرة حين أعرضت ... من الصّمّ لو تمشى بها العصم زلّت «1» غضوبا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت «2» [بعض أخبار عمر بن أبى ربيعة وغزله] قال: وكلّ ما ذكر ابن أبى ربيعة في شعره من عتيق، أو أبى عتيق، فإنما هو ابن أبى عتيق، وكان عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة، واسم أبى ربيعة حذيفة، ابن المغيرة بن عبد الله [بن عمر] بن مخزوم، ويكنى أبا الخطاب، أمه أم ولد سبيّة من حضرموت، ويقال من حمير، ومن ثم أتاه الغزل؛ لأنه يقال: «عشق يمانى، ودلّ حجازى» . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى:

إن قلبى بالتلّ تلّ عزاز ... مع ظبى من الظّباء الجوازى «1» شادن لم ير العراق وفيه ... مع ظرف العراق دلّ الحجاز وقال الطائى وذكر نفسه: قد ثقّفت منه الحجاز، وسهّلت ... منه العراق، ورقّقته المشرق «2» وهجرت الثريا عمر، فقال: قال لى صاحبى ليعلم ما بى: ... أتحبّ القتول أخت الرّباب؟ قلت: وجدى بها كوجدك بالما ... ء إذا ما فقدت برد الشّراب أزهقت أمّ نوفل إذ دعتها ... مهجتى، ما لقاتلى من متاب أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمس كواعب أتراب وهي مكنونة تحدّر منها ... فى أديم الخدّين ماء الشباب ثم قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا ... عدد الرّمل والحصى والتّراب ولما بلغ ابن أبى عتيق قوله: من رسولى إلى الثريّا؟ فإنى ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب قال: إياى أراد، وبى هتف ونوّه، لا جرم لا ذقت طعاما أو أشخص إليها، وأصلح بينهما؛ قال مولى لبنى تميم: فنهض ونهضت معه، ثم خرج إلى السوق إلى الضمرتين، فأتى قوما من بنى الديل بن بكر يكرون النجائب، فقال: بكم تكروننى راحلتين إلى مكة؟ قالوا: بكذا وكذا درهما، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئا، فقال ابن أبى عتيق: ويحك! إنّ المكاس ليس من أخلاق الناس «3» . ثم ركب واحدة وركبت أخرى، وأجدّ السير، فقلت: ارفق بنفسك،

فقال: ويحك! أبادر حبل الوصل أن يتقضّبا. وما أملح الدنيا إذا تمّ الوصل بين عمر والثريا! فقدمنا مكة وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زوّارا، فقال: أجل، ولكن جئت برسالة، يقول لك ابن عمك عمر: ضقت ذرعا بهجرها والكتاب. فلامه عمر، فقال ابن أبى عتيق: إنما رأيتك مبادرا تلتمس رسولا، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابى أن أشكر. ووصف ابن أبى عتيق لعمر امرأة من قومه، وذكر جمالا رائعا، وعقلا فائقا، فرآها عمر، فشبّب بها؛ فغضب ابن أبى عتيق وقال: تشبّب بامرأة من قومى؟ فقال عمر: لا تلمنى عتيق حسبى الّذى بى ... إنّ بى يا عتيق ما قد كفانى إن بى مضمرا من الحب قد أب ... لى عظامى مكنونه وبرانى لا تلمنى فأنت زيّنتها لى فقال ابن أبى عتيق: أنت مثل الشيطان للانسان فقال عمر: هكذا وربّ الكعبة قلت. فقال ابن أبى عتيق: إن شيطانك وربّ القبر ربما ألم بى! وحجّت رملة بنت عبد الله بن خلف أخت طلحة الطلحات، فقال عمر فيها: أصبح القلب في الحبال رهينا ... مقصدا يوم فارق الظاعينا ولقد قلت يوم مكة سرّا ... قبل وشك من بينكم نولينا أنت أهوى العباد قربا وبعدا ... لو تواتين عاشقا محزونا قاده الحين يوم سرنا إلى الح ... جّ جهارا ولم يخف أن يحينا فإذا نعجة تراعى نعاجا ... ومها نجّل النواظر عينا فسبتنى بمقلة وبجيد ... وبوجه يضىء للناظرينا

قلت من أنتم فصدّت وقالت ... أمبدّ سؤالك العالمينا «1» قلت بالله ذى الجلالة لما ... أن تبلت الفؤاد أن تصدقينا أىّ من تجمع المواسم أنتم ... فأبينى لنا ولا تكذيبنا فرأت حرصى الفتاة، فقالت ... أخبريه بعلم ما تكتمينا نحن من ساكنى العراق، وكنّا ... قبلها قاطنين مكة حينا قد صدقناك إذ سألت فمن ... أنت عسى يجرّ شأن شؤونا ونرى أنّنا عرفناك بالنعت ... ظنونا وما قتلنا يقينا بسواد الثّنيّتين ونعت ... قد نراه لناظر مستبينا قولها: «وكنا قبلها قاطنين مكّة حينا» أرادت إذ كانت مكة لخزاعة. وكان آخر من نبذ مفتاح الكعبة من خزاعة أبو غبشان، فباعه من قصىّ بزقّ خمر؛ فقيل في المثل: «أخسر صفقة من أبى غبشان» . وكان أبو غبشان إذ باع المفتاح قصيّا مريضا قد يئس من نفسه، فلما أبلّ من مرضه لامه قومه، وسألوه استرجاعه، وذلك الذى هاج الحرب بين خزاعة وقريش، فظفر قصىّ واستولى على مكة، وجمع قريشا بها؛ ولذلك سمى مجمعا، قال مطرف الخزاعى: أبوكم قصىّ كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر وقال الطائى: ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الدهر ما يتوقّع غدا ليس يدرى كيف يصنع معدم ... ذرى دمعه في خدّه كيف يصنع ولم أنس سعى الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقلّ ويظلع «2» وتكبيره خمسا عليه معا لنا ... وإن كان تكبير المصلين أربع وما كنت أدرى يعلم الله قبلها ... بأنّ النّدى في أهله يتشيّع

غدؤا في زوايا نعشه وكأنّما ... قريش قريش يوم مات مجمّع وقال الشاعر في أمر قصىّ وأبى غبشان: أبو غبشان أظلم من قصىّ ... وأظلم من بنى فهر خزاعه فلا تلحوا قصيّا في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه وكان عمر أسود الثنيتين. قال مولى ابن أبى عتيق بلال: أتيت الثريّا مسلما عليها، فقالت: أنشدنى لعمر، فأنشدتها: أصبح القلب في الحبال رهينا فقالت الثريا: إى والله، لئن سلمت له لأردّنّ من شأوه، ولأثنينّ من عنانه، ولأعرفنّه نفسه! فمررت فيها حتى انتهيت إلى قوله: قلت من أنتم فصدّت وقالت ... أمبدّ سؤالك العالمينا فقالت: أو قد أجابته بهذا؟ أى وقت؟ فلما انتهيت إلى قوله: وترى أننا عرفناك بالنّعت قالت: جاءت النّوكاء بآخر ما عندها في موقف واحد «1» . وسأله أخوه الحارث- وهو المعروف بالقباع، وكان من أفاضل أهل دهره- أن يترك الشعر، ورغب إليه في ذلك، ووعظه، فقال: أما ما دمت بمكة فلا أقدر، ولكنى أخرج إلى اليمن، فخرج؛ فلما سار إلى هناك لم تدعه نفسه وترك الشعر، فقال: هيهات من أمة الوهّاب منزلنا ... إذا نزلنا بسيف البحر من عدن «2» واحتلّ أهلك أجيادا، وليس لنا ... إلا التذكّر أو حظّ من الحزن بل ما نسيت غداة الخيف موقفها ... وموقفى، وكلانا ثمّ ذو شجن

وقولها للثريا وهي مطرقة ... والدمع منها على الخدّين ذو سنن «1» بالله قولى له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها ... فما أخذت بترك الحجّ من ثمن فلما بلغ الشعر الحارث قال: قد علمنا أنه لا يفى «2» . وروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج قال: لزمنى دين مرّة فضاقت ساحتى وبلادى بى، فتوجّهت إلى معن بن زائدة باليمن، فقال: ما أقدمك هذه البلدة؟ قلت: دين طردنى عن وطنى، قال: يقضى دينك، وترد إلى وطنك محبوّا محبورا، قال: فأفمت عنده، ثم رأيت الناس يرحلون إلى الحج، فحننت إلى مكة، وذكرت قول ابن أبى ربيعة، وذكر الأبيات ... فأتيت باب معن، فقلت للحاجب: استأذن لى على الأمير، فلما دخلت عليه قال: إنّ لك لحادث خبر! قلت: أستودع الله الأمير وأستحفظه عليه. قال: وما هاج هذا منك؟ فقلت: رأيت خروج الناس إلى الحج، وذكرت قول عمر؛ فحننت إلى مكّة، فقال: أنت وحنينك، وإن كنت بفراقك ضنينا، وسيتبعك ما تحتاج إليه؛ فسر مصاحبا، قال: فسرت إلى رحلى، فأتبعنى بمال وثياب ومطايا ودوابّ، وسرت إلى مكّة من فورى. وكان عمر- على غزله، وما يذكره في شعره- عفيفا. حدّث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: دخلت مع أبى مكة، فجاءه عمر، فسلّم عليه، وأنا غلام شابّ وعلىّ جبّة، فجعل يأخذ بخصلة من شعرى فتمتدّ في يده، ثم يرسلها فترجع، فيقول: واشباباه! فقال لى: يا بن أخى، قد سمعت قولى: «قلت لها وقالت لى» ؛ وكلّ مملوك لى حرّ إن كنت قطّ كشفت عن فرج حرام! قال: فقمت وفي

نفسى من يمينه شىء؛ فسألت عن رقيقه، فقيل لى: أما في هذا الحول فسبعون. ويستحسن قول عمر في المساعدة: وخلّ كنت عين النّصح منه ... إذا نظرت ومستمعا مطيعا أطاف بغيّة فنهيت عنها ... وقلت له: أرى أمرا شنيعا أردت رشاده جهدى، فلمّا ... أبى وعصى أتيناها جميعا وهذا مأخوذ من قول دريد بن الصّمة الجشمى «1» : أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشد إلّا ضحا الغد فقلت لهم: ظنّوا بألفى مدجّج ... سراتهم في الفارسىّ المسرّد «2» فلما عصونى كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأننى غير مهتدى وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد ومن جيد شعره: يقولون إنى لست أصدق في الهوى ... وإنى لا أرعاك حين أغيب فما بال طرفى عفّ عما تساقطت ... له أنفس من معشر وقلوب عشية لا يستنكر القوم أن يروا ... سفاه حجى ممن يقال لبيب ولا فتنة من ناسك أو مضت له ... بعين الصبا كسلى القيام لعوب «3» تروّح يرجو أن تحطّ ذنوبه ... فآب وقد زيدت عليه ذنوب وما النّسك أسلانى، ولكنّ للهوى ... على العين منّى والفؤاد رقيب ونظر عمر بن أبى ربيعة إلى فتى من قريش يكلّم امرأة في الطواف، فعاب ذلك عليه، فذكر أنها ابنة عمه، فقال: ذلك أشنع لأمرك، قال: إنى خطبتها

إلى عمى، وإنه زعم أنه لا يزوّجنى حتى أصدقها أربعمائة دينار، وأنا غير قادر على ذلك، وذكر من حاله وحبّه لها؛ فأتى عمر عمّه، فكلّمه في أمرها، فقال: إنه مملق، فزوّجه، وساق عمر عنه المهر. وكان عمر حين أسنّ حلف ألّا يقول بيتا إلا أعتق رقبة، فانصرف إلى منزله يحدّث نفسه، فجعلت جاريته تكلّمه ولا يجيبها؛ فقالت: إن لك لشأنا، وأراك تريد أن تقول شعرا، فقال: تقول وليدتى لما رأتنى ... طربت: وكنت قد أقصرت حينا أراك اليوم قد أحدثت أمرا ... وهاج لك الهوى داء دفينا وكنت زعمت أنك ذو عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا لعمرك هل رأيت لها سميّا ... فشاقك أم لقيت لها خدينا فقلت: شكا إلىّ أخ محبّ ... كبعض زماننا إذ تعلمينا فقصّ علىّ ما يلقى بهند ... فذكّر بعض ما كنا نسينا وذو الشوق القديم وإن تعزّى ... مشوق حين يلقى العاشقينا فكم من خلّة أعرضت عنها ... لغير قلى، وكنت بها ضنينا أردت بعادها فصددت عنها ... وإن جنّ الفؤاد بها جنونا ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم. قال عثمان بن إبراهيم: حججت أنا وأصحاب لنا، فلما رجعنا من مكّة مررنا بالمدينة، فرأينا عمر بن أبى ربيعة، وقد نسك وترك قول الشعر، فقال بعضنا لبعض: هل لكم فيه؟ فملنا إليه، وسلّمنا عليه، وجلسنا وهو ساكت لا يكلمنا. فقال له بعضنا: أيعجبك قول الفرزدق: سرت لعينك سلمى بعد مغفاها ... فبتّ مستلهيا من بعد مسراها فقلت: أهلا وسهلا! من هداك لنا؟ ... إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها تأتى الرياح التي من نحو بلدتكم ... حتى نقول: دنت منا بريّاها

وقد تراخت بهم عنّا نوى قذف ... هيهات مصبحها من بعد ممساها «1» من أجلها أتمنّى أن يلاقينى ... من نحو بلدتها ناع فينعاها كيما أقول: افتراق لا اجتماع له، ... وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها ولو تموت لراعتنى وقلت لها: ... يا بؤس للدهر ليت الدهر أبقاها فلم يهش لذلك! فقال الآخر: أيعجبك قول العذرى: لو حزّ بالسيف رأسى في مودّتها ... لمرّ يهوى سريعا نحوها راسى ولو بلى تحت أطباق الثرى جسدى ... لكنت أبلى وما قلبى لكم ناسى أو يقبض الله روحى صار ذكركم ... روحا أعيش به ما عشت في الناس لولا نسيم لذكراكم يروّحنى ... لكنت محترقا من حرّ أنفاسى فتحرك ثم قال: يا ويحه! أبعد ما يحز رأسه يميل إليه؟ ثم أنشأ يحدثنا، فقال: أتانى خالد الدليل، فقال: إن هندا وأترابها بموضع كذا وكذا من الصحراء أيام الربيع، فقلت: كيف الحيلة؟ فقال: تتلثم وتكتفل «2» كانك طالب ضالة، ففعلت، فدفعت إليهن، فقلن: يا أعرابى، ما تطلب؟ قلت: ضالة لى، فقلن: قد كللت يا أعرابى، فلو جلست فأصبت من حديثنا وأصبنا من حديثك، ولعلك تروح إلى وجود ضالتك، فنزلت؛ فلما امتد الحديث بنا حسرت هند لثامى، وقالت: أتراك خدعتنا؟ نحن والله خدعناك، وبعثنا إليك خالدا، رأينا خلاء ومنظرا فأردناك، ونظرت في درعى فأعجبنى ما رأيت، فقلت: يا أبا الخطاب! قال عمر: فقلت: لبّيك، وفي ذلك أقول: ألم تسأل الأطلال والمتربّعا ... ببطن حليّات دوارس بلقعا «3»

إلى السّرح من وادى المغمّس بدّلت ... معالمه وبلا ونكباء زعزعا «1» فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما ... نكأن فؤادا كان قدما موجّعا «2» لهند وأتراب لهند إذ الهوى ... جميع وإذ لم نخش أن يتصدّعا وإذ لا نطيع العاذلين ولا نرى ... لواش لدينا يطلب الهجر مطمعا وإذ نحن مثل الماء كان مزاجه ... كما صفّق الساقى الرحيق المشعشعا تنوعتن حتى عاود القلب خبله ... وحتى تذكّرت الحبيب المودّعا فقلت لمطريهن بالحسن: إنما ... ضررت، فهل تسطيع نفعا فتنفعا؟ وأشريت فاستشرى وقد كان قد صحا ... فؤاد بأمثال المها كان مولعا «3» لئن كان ما حدّثت حقّا فما أرى ... كمثل الألى أطريت في الناس أربعا «4» فقال: فقم فانظر، فقلت: وكيف لى ... أخاف حديثا أن يشاع فيشنعا فقال: اكتفل ثم التثم فأت باغيا ... فسلّم ولا نكثر بأن تتورّعا فأقبلت أهوى مثل ما قال صاحبى ... لموعده أبغى قلوصا موقّعا «5» فلما تواقفنا وسلّمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا تبالهن بالعرفان لمّا رأيننى ... وقلن: امرؤ باغ أكلّ وأوضعا «6» وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم ... يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا فلما تنازعن الأحاديث قلن لى ... أخفت علينا أن نغرّ ونخدعا

[من لا ترى ستر الوجه من النساء، واحتجاجها لذلك]

فبالأمس أرسلنا بذلك خالدا ... إليك، وبينا له الأمر أجمعا فما جئتنا إلّا على وفق موعد ... على ملأ منّا خرجنا له معا رأينا خلاء من عيون ومنظرا ... دميث الربى سهل المحلة ممرعا «1» وقلن: كريم نال وصل كرائم ... فحقّ له في اليوم أن تمتّعا وقوله: «وجوه زهاها الحسن أن تنقنعا» يقول: هذه الوجوه مدلّة بجمالها فلا تختمر، فتستر شيئا عن الناظرين إليها. وقد أشار إلى هذا المعنى الشماخ بن ضرار «2» يصف ناقته: كأنّ ذراعيها ذراع مدلّة ... بعيد الشباب حاولت أن تعذّرا «3» من البيض أعطافا إذا اتّصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا بها شرق من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا [من لا ترى ستر الوجه من النساء، واحتجاجها لذلك] قال: وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله لا تستر وجهها، فلما دخلت على مصعب بن الزبير قال لها في ذلك، فقالت: إن الله تعالى وسمنى بميسم جمال، فأحببت أن يراه الناس، والله مابى وصمة أستتر لها. وقال على بن العباس الرومى يصف قينة: لم يعتصم عودها بزامرة ... ولا انضوى وجهها إلى الستر وقد ردد معنى قوله: «لم يعتصم عودها بزامرة» فقال: يصف برعة الكبيرة: غنت فلم تحوج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه

[ستر الرأس لإخفاء الصلع]

كأنما غنّت لشمس الضحى ... فألبستها حسنها خلعه كأنما رنّة مسموعها ... رقة شكوى سبقت دمعه تهدى إلى قلبك ما يشتهى ... كأنها قد أطلعت طلعه يجتمع الظرف لجلّاسها ... والحسن والإحسان في بقعه طفّل على من حصلت عنده ... فبعض تطفيل الفتى رفعه «1» ربيع غيث فانتجع روضه ... فلن يعاب الحرّ بالنجعه «2» [ستر الرأس لإخفاء الصلع] وكان ابن الرومى لا يزال معتمّا، وكان يغضب إذا سئل عن ذلك، وسأله بعض الرؤساء: لم تعتم؟ فقال بديها: يأيّها السائلى لأخبره ... عنّى لم لا أراك معتجرا أستر شيئا لو كان يمكننى ... تعريفه السائلين ما سترا وقد بين العلة التي أوجبت اهتمامه في قوله: تعممت إحصانا لرأسى برهة ... من القرّ يوما والحرور إذا سفع فلما دهى طول التّعمم لمّتى ... وأودى بها بعد الإطالة والفرع عزمت على لبس العمامة حيلة ... لتستر ما جرّت علىّ من الصّلع فيالك من جان علىّ جناية ... جعلت إليه من جنايته الفزع وأعجب شىء كان دائى جعلته ... دوائى على عمد وأعجب بأن نفع وهذا كقوله، وإن لم يكن في معناه، وقد رأيت من ينسبه إلى كشاجم: طربت إلى المراة فروّعتنى ... طوالع ثيبتين ألمّتا بى فأما شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض حبّا للتّصابى

[من كلام الأعراب]

وأما شيبة فصفحت عنها ... لتشهد بالبراءة من خضابى فأعجب بالدّليل على مشيبى ... أقمت به الدّليل على شبابى وهو القائل في صفة رجل أصلع: يجذب من نقرته طرّة ... إلى مدى يقصر عن ميله فوجهه يأخذ من رأسه ... أخذ نهار الصّيف من ليله وقال أعرابى: قد ترك الدّهر صفاتى صفصفا ... فصار رأسى جبهة إلى القفا «1» كأنه قد كان ربعا فعفا [من كلام الأعراب] قال أعرابىّ لسليمان بن عبد الملك: إنى أكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله، فإنّ وراءه إن قبلته ما تحبه، قال: هاته يا أعرابى؛ فنحن نجود بسعة الاحتمال على من لا نأمن غيبته، ولا نرجو نصيحته، وأنت المأمون غيبا، الناصح جيبا «2» . قال: فإنى سأطلق لسانى بما خرست عنه الالسن، تأدية لحق الله تعالى؛ إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه؛ فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة كسفا وخسفا، وأنت مسئول عما اجترموا، وليسوا مسئولين عما اجترمت؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظم الناس عند الله غبنا من باع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان: أما أنت يا أعرابى فقد سللت لسانك وهو سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.

وروى العتبى عن أبيه عن مولى لعمرو بن حريث قال: شخصت إلى سليمان ابن عبد الملك، فقيل لى: إنك ترد على أفصح العرب، وسيسألك عن المطر، فانظر ما تجيبه، فقلت: ما عندى من الجواب إلّا ما عند العامّة، فقيل لى: ما ذلك بمقنع عنده، فلقينى أعرابى فقلت: هل لك في درهمين؟ فقال: إنّى والله محتاج إليهما، حريص عليهما، فما شأنك؟ فقلت: لو سألك سائل عن هذا المطر بم كنت تجيبه؟ قال. أو يعيا بهذا أحد؟ قلت: نعم، سائلك! قال: أتعيا أن تقول: أصابتنا سماء، عمد لها الثّرى، واتّصل بها العرى، وقامت منها الغدر، وأتتك في مثل وجار الضّبع، فكتبت الكلام، وأعطيته درهمين؛ فكان هجّيراى على الرّاحلة «1» ؛ فإذا نزلت أقبلت عليه وأمثل نفسى كأنى واقف بين يديه، وقد سلّمت عليه بالخلافة وهو يسألنى عن المطر! فلما انتهيت إليه سألنى فاقتصصت الكلام، فكسر إحدى عينيه، وقال: إنى لأسمع كلاما ما أنت بأبى عذرته «2» . قلت: صدقت! وحياتك يا أمير المؤمنين اشتريته بدرهمين! فاستغرب ضحكا، ثم أحسن صلتى. وقال أعرابى يمدح رجلا: حليم مع التّقوى، شجاع مع الجدا ... ندحين لا يندى السّحاب سكوب ويجل أمورا لو تصيّفن غيره ... لمات خفاتا أو لكاد يذوب شديد مناط القلب في الموقف الذى ... به لقلوب العالمين وجيب فتى هو من غير التخلّق ماجد ... ومن غير تأديب الرّجال أديب وقال بعض المحدثين يمدح:

جملة من كلام أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانى بديع الزمان

فتى يجعل المعروف قبل سؤاله ... ويجعل دون العذر فضل التّكرّم أغرّ متى تقصد به فضل حظه ... تصب ومتى تطلب به الغنم تغنم على رأيه ينضمّ منصدع الصّفا ... وبنحلّ من عقد العرى كل مبرم له عزمة أغنى من الجيش في الوغى ... وخطرة رام كالحسام المصمّم جملة من كلام أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانى «1» بديع الزمان وهذا اسم وافق مسمّاه، ولفظ طابق- معناه، وكلام غضّ المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفا، والهوى يعشقه ظرفا ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدى «2» أغرب بأربعين حديثا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للافكار والضمائر، فى معارض أعجمية، وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسّع فيها؛ إذ صرّف ألفاظها ومعانيها، فى وجوه مختلفة، وضروب متصرفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفا، وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، وعطف مساجلتها، ووقف مناقلتها، بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندرى، وجعلهما يتهاديان الدّر، ويتنافثان السّحر، فى معان تضحك الحزين، وتحرّك الرّصين، يتطلّع منها كلّ طريفة، ويوقف منها على كلّ لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية،

وخصّ أحدهما بالرواية؛ وسأذكر منها ما لا يخلّ طوله بالشرط المعقود، ولا ينافى حصوله الغرض المقصود «1» . كتب إلى أبى نصر أحمد بن على الميكالى: كتابى- أعز الله الأمير! - وبودّى أن أكونه، فأسعد به دونه، ولكنّ الحريص محروم، لو بلغ الرزق فاه، لولّاه قفاه. فرّق الله بين الأيام، تفريقها بين الكرام، وألهمها أن تورد بعقل، وتصدر بتمييز، وما ذلك على الله بعزيز، وأنا فى مفاتحة الأمير، بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك؟ والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، ومن رأى من السيف أثره، فقد عاين أكثره، والليث وإن لم ألقه، فلم أجهل خلقه، وماوراء ذلك من تالد أصل وحسب، وطارف فضل وأدب، وبعد همة وصيت، فمعلوم تشهد به الدفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تصدق به الآثار، والعين أقلّ الحواس إدراكا، والأذن أكثرها استمساكا، وإن بعدت الدار فلا ضير؛ إنّ أيسر البعدين بعد الدارين، وخير القربين قرب القلبين. وكتب إليه في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة: الأمير الفاضل، والشيخ الرئيس، رفيع مناط الهمة، بعيد منال الحرمة، وفسيح مجال الفضل، رحيب منخرق الجود، رطيب مكسر العود

فلو نظمت الثربا ... والشّعريين قريضا وكاهل الأرض ضربا ... وشعب رضوى عروضا وصغت للدر ضدّا ... وللهواء نقيضا بل لو جلوت عليه ... سود النوائب بيضا أو ادّعيت الثريّا ... لأخمصيه حضيضا والبحر عند لهاه ... يوم العظاء مغيضا لما كنت إلّا في ذمة القصور، وجانب التقصير، فكيف وأنا قاعد الحالة فىّ المدح، قاصر الآلة عن الشّرح؟ ولكنى أقول: الثناء منجح أنّى سلك، والسخى جوده بما ملك، وإن لم تكن غرّة لائحة فلمحة دالة، وإن لم يكن صدّاء فماء «1» ، وإن لم يكن خمر فخلّ، وإن لم يصبها وابل فطلّ، وبذل الموجود غاية الجود، وبعض الجهد آخر المجهود، وماش خير من لاش «2» ، ووجود ما قلّ خير من عدم ما جلّ. وقليل في الجيب خير من كثير في الغيب، وجهد المقل خير من عذر المخل، وحمار أيس خير من فرس ليس «3» ، وكوخ في العيان خير من قصر في الوهم. وزيت «4» خير من ليت، وما كان أجود من لو كان، وقد قيل: عصفور في الكف أجود من كركى في الجو، ولأن «5» تقطف خير من أن تقف، ومن لم يجد الجميم رعى الهشيم «6» ، ومن لم يحسن صهيلا نهق، ومن لم يجد ماء تيمّم؛ والأمير الرئيس- أدام الله نعماه! - لا ينظر في قوافى صنيعته إلى ركاكة ألفاظها، وبعد أغراضها، ولكن إلى كثرة جذرها «7» ، وثقل مهرها، وقلّة

كفئها، وإننى منذ فارقت قصبة جرجان، ووطئت عتبة خراسان، ما زففتها إلا إليه، ولا وقفتها إلا عليه، هذا على تمرغى في أعطاف المحن، وضرورتى إلى أبناء الزمن، وإن كان الأمير الرئيس يرفع لكل لفظ حجاب سمعه، ويفسح لكل شعر فناء طبعه، فهاك من النثر ما ترى، ومن النظم ما يترى: أدهق الكاس فعرف الفجر ... قد كاد يلوح فهو للناس صباح ... ولذى الرأى صبوح والذى يمرح بى في ... حلبة اللهو جموح فاسقنيها والأمانىّ ... لها عرف يفوح إنّ للأيام أسرارا ... بها سوف تبوح لا يغرنّك جسم ... صادق الحس وروح إنما نحن إلى الآجال ... نغدو ونروح ويك هذا العمر تبريح ... وهذا الروح ريح بينما أنت صحيح الجسم ... إذ أنت طريح فاسقنيها مثل ما يلفظه ... الدّيك الذّبيح قبل أن يضرب في الدّهر ... بى القدح السّنيح «1» إنما الدّهر غرور ... ولمن أصغى نصيح ولسان الدّهر بالوعظ ... لواعيه فصيح نستبيح الدّهر والأيّام ... منا تستبيح نحن لاهون وآجال ... المنايا لا تريح يا غلام الكأس فاليأ ... س من الناس مريح ضاع ما نحميه من أنفسنا ... وهو مبيح

وقنوعا فمقام الذّ ... ل بالمرء قبيح أنا يا دهر بأبنا ... ئك شقّ وسطيح «1» وبأبكار القوافى ... لا على كفء شحيح يا بنى ميكال والجو ... د لعلّاتى مزيح شرفا إن مجال الفضل ... فيكم نفسيح وعلى قدر سنا ... الممدوح يأتيك المديح فهناك الشرف الأر ... فع والطّرف الطّموح والنّدى والخلق الطا ... هر والخلق الصّبيح مرتقى مجد يحار الطّرف ... فيه ويطيح أيّهذا الكرم الما ... ثل والخلق السّجيح «2» كان هذا الجود ميتا ... عاده منك المسيح هذه- أطال الله بقاء الأمير! - هدية الوقت، وعفو الساعة، وفيض البديهة، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الحدّة، وثمرات المدّة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطّبع للسّمع، ومجاذبة الجنان للبيان، والشعر إذا لم تقدمه روّية، ولم تنضجه نيّة، لم يفتح له السمع بابه، ولم يرفع له القلب حجابه، وإذا لبس الأمير هذه على علاتها رجوت أن يكون بعدها ما هو أفتن وأحسن وأرصن، فرأيه أيده الله في الوقوف عليها موقفا إن شاء الله. وله إليه معاتبة: لئن ساءنى أن نلتنى بمساءة ... لقد سرّنى أنّى خطرت ببالك الأمير الفاضل الشيخ الرئيس، أطال الله بقاءه إلى آخر الدعاء، فى حال برّه وجفائه متفضّل، وفي يومى إعاده وإدنائه متطوّل. وهنيئاله من حمانا ما يحلّه،

ومن عرانا ما يحله، ومن أعراضنا ما يستحلّه؛ بلغنى أنه- أدام الله عزّه! - استزاد صنيعته، وكنت أظننى مجنيّا عليه، مساء إليه، فإذا أنافى قرارة الذّنب، وبمثابة العتب، وليت شعرى أىّ محظور في العشرة حضرته، أو مفروض من الخدمة رفضته، أو واجب في الزيارة أهملته؟ وهل كنت إلا ضيفا أهداه بلد شاسع، وأدّاه أمل واسع، وحداه فضل وإن قلّ، وهداه رأى وإن ضلّ، ثم لم يلق إلّا في آل ميكال رحله، ولم يصل إلّا بهم حبله، ولم ينظم إلا فيهم شعره، ولم يقف إلا عليهم شكره؛ ثم ما بعدت صحبة إلا دنت مهانة، ولا زادت حرمة إلا نقصت صيانة، ولا تضاعفت منة إلا تراجعت منزلة، ولم تزل الضّعة بنا حتى صار وابل الإعظام قطرة، وعاد قميص القيام صدرة، وذلك التقرب أزورارا، وطويل السلام اختصارا، والاهتزاز إيماء، والعبارة إشارة؛ وحين عاتبته آمل إعتابه، وكاتبته أنتظر جوابه، وسألته أرجو إيجابه، أجاب بالسكوت، وأعتب بالقنوت، فما ازددت إلّا له ولاء، وعليه ثناء؛ لا جرم إنى اليوم أبيض وجه العهد، واضح محجّة الودّ، طويل عنان القول، رفيع حكمة العذر؛ وقد حمّلت فلانا من الرسالة ما تجافى عنه القلم؛ والأمير الرئيس أطال الله بقاءه ينعم بالإصغاء لما يورده موفقا إن شاء الله. وله إليه في هذا الباب: أنا في خدمة الأمير الرئيس- أطال الله بقاءه! - مترجّح بين أن أشربها رنقة ولا أسيغها، وألجلج منها مضغة ولا أجيزها، وبين أن أطويها على عرّها، ولا أرتضع أخلاف درّها. فلا نفسى تطاوعنى لرفض ... ولا هممى توطّننى لخفض وبقى أن أقرصه بأنامل العتب، وأحشمه بألحاظ العذل، وأعرفه أنى ما أطوى مسافة مزار إلّا متجّشما، ولا أطأ عتبة دار إلا متبرّما؛ ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستعديا؛ فإن كان الأمير الرئيس- أيّده الله! - يسرح طرفه منّى في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظرا.

قطعة من مفردات الأبيات لأهل العصر في معان شتى تجرى مجرى الأمثال

فما الفقر من أرض العشيرة ساقنى ... إليك، ولكنّا بقرباك ننجح وأجدنى كلما استقزنى الشوق إلى تلك المحاسن، أطير إليها بجناحين عجلا، وأرجع بعرجاوين خجلا، ولولا أنّ الرضا بذلك ضرب من سقوط الهمّة، وأن العتاب نوع من أنواع الخدمة، لصنت مجلسه عن قلمى، كما أصونه عن قدمى، ولملت إلى أرض الدعاء فهو أنجع، وإلى جانب الثناء فهو أوسع، وسأفعل لتخفّ مؤنتى، ولا تثقل وطأتى إذا ما عتبت فلم تعتب ... وهنت عليك فلم تعن بى «1» سلوت، ولو كان ماء الحياة ... لعفت الورود ولم أشرب قطعة من مفردات الأبيات لأهل العصر في معان شتى تجرى مجرى الأمثال أبو فراس الحمدانى: إذا كان غير الله للمرء عدّة ... أتته الرّزايا من وجوه المكاسب وله: عفافك عىّ، إنما عفّة الفتى ... إذا عفّ عن لذّاته وهو قادر «2» وقال المتنبى: كلّ حلم أنى بغير اقتدار ... حجّة لا جىء إليها اللّئام وله: وإذا كانت النّفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام

وله: وإذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشّهادة لى بأنى كامل وله: لا يعجبنّ مضيما حسن بزّته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن؟ وله: من أطاق التماس شىء غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا وله: والظّلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم وله: ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ... أنى بما أنا باك منه محسود وله: ذكر الفتى عمره الثانى، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال والمتنبى أكثر المحدثين افتنانا وإحسانا في الإغراب بهذا الباب؛ والاستقصاء يخرج عن شرط الكتاب. وقال السرى الموصلى: خذوا من العيش فالأعمار فائتة ... والدهر منصرم والعيش منقرض وله: فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النّسيم على الرّياض وقال أبو إسحاق الصابى: الضبّ والنّون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللبّ والذّهب «1» وقال ابن نباتة: مثل خلعت على الزمان زداءه ... عوز الدّراهم آفة الأجواد

وله: يهوى الثناء مبرز ومقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان وقال أبو الحسن السّلامى: تبسّطنا على اللّذّات لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذّنوب وقال ابن لنكك البصرى: وماذا أرجّى من حياة تكدّرت ... ولو قد صفت كانت كأحلام نائم وقال أبو طالب المأمونى: لى في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار وقال أبو الفضل بن العميد: الرأى يصدأ كالحسام لعارض ... يطرا عليه وصقله التذكير وقال أبو الفتح: بطرتم فطرتم والعصا زجر من عصى ... وتقويم عبد الهون بالهون رادع وله: إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح وقال الصاحب إسماعيل بن عباد: إن أمّ الصقر في الود ... د لمقلاة نزور وله: من لم يعدنا إذا مرضنا ... إن مات لم نشهد الجنازه وله: حفظ اللسان راحة الإنسان ... فاحفظه حفظ الشكر للاحسان وقال إسماعيل الناشى: وكنت أرى أنّ التجارب عدّة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب

وقال أبو الفتح البستى: لا ترج شيئا خالصا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث «1» وله: ولم أر مثل الشكر جنّة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جبّة لابس وله: وطول مقام الماء في مستقرّه ... يغيره ريحا ولونا ومطعما وله: ما استقامت قناة رأيى إلّا ... بعد ما عوّج المشيب قناتى وقال أبو الفضل الميكالى: هو الشوك لا يعطيك وافر منّة ... يد الدهر إلّا حين تضربه جلدا وله: ذو الفضل لا يسلم من قدح ... وإن غدا أقوم من قدح وقال شمس المعالى: وفي السماء نجوم مالها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر هذا مأخوذ من قول الطائى: إن الرياح إذا ما استعصفت قصفت ... عيدان نجد فلم يعبأن بالرتم «2» بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرّقم وقال أبو الحسن على بن عبد العزيز القاضى: الهجر أروح من وصل على حذر ... والموت أطيب من عيش على غرر وقال أبو بكر الخوارزمى: لا تغرّنك هذه الأوجه الغرّ ... فياربّ حيّة في رياض

[من تبطره النعمة لم يؤسف على زوالها عنه]

[من تبطره النعمة لم يؤسف على زوالها عنه] قال أبو العيناء: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه علىّ في ولايته الوزارة، فلما صرف رهبنى، فلقينى فسلّم علىّ فأحفى. فقلت لغلامى: من هذا؟ قال: أبو موسى؛ فدنوت منه وقلت: أعزّك الله، والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النّعمة، فلقد أصابت فيك النّقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك، ولله المّنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزّور فيك، فقد والله أسأت حمل النّعم، وما شكرت حق المنعم، فقيل له: يا أبا عبد الله؛ لقد بالغت في السبّ، فما كان الذنب؟ قال: سألته حاجة أقل من قيمته، فردّ عنها بأقبح من خلقته. وقال علىّ بن العباس الرومى لأبى الصقر إسماعيل بن بلبل لما نكبه الموفق ابن أحمد وألمّ في بعض قوله بقول أبى العيناء: لا زال يومك عبرة لعدك ... وبكت بشجو عين ذى حسدك فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلّا ليوم فتّ في عضدك يا نعمة ولّت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك فلقد غدت بردا على كبدى ... لمّا غدت حرّا على كبدك ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النّقص في عددك ولقد تمنّت كل صاعقة ... لو أنها صبّت على كتدك «1» لم يبق لى مما يرى جسدى ... إلّا بقاء الرّوح في جسدك

وله فيه أهج كثيرة لما نكب، منها قوله: خفض أبا الصّقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق زوّجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق «1» وكان أبو الصقر لمّا ولى الوزارة مدحه ابن الرومى بقصيدته النونية التي أولها: أجنينك الورد أغصان وكثبان ... فيهن نوعان تفّاح ورمان وفوق ذينك أعناب مهدّلة ... سود لهنّ من الظّلماء ألوان وتحت هاتيك عنّاب تلوح به ... أطرافهن قلوب القوم قنوان غصون بان عليها الزهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان ونرجس بات سارى الطّل يضربه ... وأقحوان منير اللّون ريّان ألّفن من كل شىء طيّب حسن ... فهنّ فاكهة شتّى وريحان ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها ... لكنها حين تبلو الطّعم خطبان «2» ولا يدمن على عهد لمعتقد ... والغانيات كما شبّهن بستان يميل طورا بحمل ثم يعدمه ... ويكتسى ثم يلفى وهو عريان وهي أكثر من مائتى بيت، مرّ له فيها إحسان كثير، فأنشدها أبا الصقز، فلما سمع قوله: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلّا لعمرى ولكن منه شيبان قال: هجانى، قيل له: إنّ هذا من أحسن المدح؛ ألا تسمع ما بعده: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان

قال: أنا بشيبان لا شيبان بى. فقيل له فقد قال: ولم أقصّر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان فقال: لا والله لا أثيبه على هذا الشعر، وقد هجانى. قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولى: كنت يوما عند عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر، وقد ذكروا قصيدة ابن الرومى هذه النونية، فقال: هذه دار البطيخ، فاقرءوا تشبيهاتها تعلموا ذلك! فضحك جميع من حضر. وفي هذه القصيدة يقول من المختار في النسيب: يا ربّ حسّانة منهن قد فعلت ... سوءا، وقد يفعل الأسواء إحسان تشكى المحبّ وتلفى الدّهر شاكية ... كالقوس تصمى الرّمايا وهي مرنان «1» وهذا كقوله في قصيدة يصف فيها قوس البندق: لها رنّة أولى بها من تصيبه ... وأجدر بالإعوال من كان موجعا يقول فيها: لا تلحيانى وإيّاها على ضرعى ... وزهوها، لجّ مفتون وفتّان إنى ملكت فبى للرّقّ مسكنة ... وملّكت فلها بالملك طغيان لى مذ نأت وجنة ريّا بمشربها ... من عبرتى وفم ما عشت ظمآن وفيها في مدح بنى شيبان: قوم سماحتهم غيث، ونجدتهم ... غوث، وآراؤهم في الخطب شهبان تلقاهم ورماح الخطّ حولهم ... كالأسد ألبسها الآجام خفّان «2» صانوا النفوس عن الفحشاء وابتذلوا ... منهنّ في سبيل العلياء ما صانوا

المنعمون وما منّوا على أحد ... يوما بنعمى، ولو منّوا لما مانوا «1» يقول فيها في أبى الصقر: يفديه من فيه عن مقدار فديته ... عن المفاداة. تقصير ونقصان قوم كأنهم موتى إذا مدحوا ... ومالهم من حبير الشعر أكفان صاحى الطباع إذا سالت هواجسه ... وإن سألت يديه فهو نشوان يصحيه ذهن ويأبى صحوه كرم ... مستحكم فهو صاح وهو سكران فرد جميع يراه كل ذى بصر ... كأنه الناس طرّا وهو إنسان وهذا كقول أبى الطيب: ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا وقد تقدم. وقال: فإن يك سيّار بن مكرم انقضى ... فإنّك ماء الورد إن ذهب الورد مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمّعت واحد فرد وقال البحترى: ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى المجد، حتى عدّ ألف بواحد ومدحه وعاتبه بقصائد كثيرة فما أنجحت، فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة يمدحه: فى وجهه روضة للحسن مونقة ... ماراد في مثلها طرف ولا سرحا «2» طلّ الحياء عليها ساقط أبدا ... كاللؤلؤ الرّطب لو رقرقته سفحا

أنا الزعيم لمكحول بغرّته ... ألّا يرى بعدها بؤسا ولا ترحا مهما أتى الناس من طول ومن كرم ... فإنما دخلوا الباب الّذى فتحا يعطى المزاح ويعطى الجدّ حقّهما ... فالموت إن جد، والمعروف إن مزحا وافى عطارد والمرّيخ مولده ... فأعطياه من الحظّين ما اقترحا إن قال: لا، قالها للآمريه بها ... ولم يقلها لمن يستمنح المنحا فى كفّه قلم ناهيك من قلم ... نبلا، وناهيك من كفّ بما اتّشحا يمحو ويثبت أرزاق العباد به ... فما المقادير إلا ما محا ووحى «1» كأنما القلم العلوى في يده ... يجريه في أى أنحاء البلاد نحا لما تبسّم عنك المجد قلت له ... قهقه فلا نغلا تبدى ولا قلحا «2» أثنى عليك بنعماك التي عظمت ... وقد وجدت بها في القول منفسحا أمطر بذاك جنانى تكسه زهرا ... أنت المحيّا بريّاه إذا نفحا أنشدتها على متوالى الاختيار، وكذلك أجرى في كثير من الأشعار. وقال يعاتبه ويستبطئه: عقيد النّدى، أطلق مدائح جمّة ... حبائس حسرى قد أبت أن تسرّحا وكنت متى تنشد مديحا ظلمته ... يرى لك أهجى ما يرى لك أمدحا عذرتك لو كانت سماء تقشّعت ... سحائبها أو كان روض تصوّحا ولكنها سقيا حرمت رويّها ... وعارضها ملق كلاكل جنّحا «3» وأكلاء معروف حرمت مريعها ... وقد عادمنها السهل والحزن مسرحا عرضت لأورادى وبحرك زاخر ... فلمّا أردن الورد ألفين ضحضحا فلو لم ترد أذواد غيرى غماره ... لقلت: سراب بالمتان توضّحا «4»

فيالك بحرا لم أجد فيه مشربا ... وإن كان غيرى واجدا فيه مسبحا مديحى عصا موسى، وذلك أننى ... ضربت به بحر النّدى فتضحضحا سأمدح بعض الباخلين لعلّه ... إذا اطّرد المقياس أن يتسمّحا فيا ليت شعرى إن ضربت به الصفا ... أيبعث لى منه جداول سيّحا كتلك التي أبدت ثرى الأرض يابسا ... وشقّت عيونا في الحجارة سفّحا ملكت فأسجح يا أبا الصقر إنه ... إذا ملك الأحرار مثلك أسجحا وما ضرع إلى أحد هذه الضّراعة، ولا في طوقه هذا الاحتمال؛ وهذه الأبيات الأخيرة إنما ولّد أكثرها من قول أبى تمام الطائى لمحمد بن عبد الملك الزيات: فلو حاردت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدرّ والضّرع حافل أكابرنا عطفا علينا؛ فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل وفيه يقول: هذا مقامى يا بنى وائل ... من مستجير بكم عائذ أنشب فيه الدهر أظفاره ... وعضّه بالناب والناجذ فأنصفوا منه أخا حرمة ... لاذ بكم منه مع اللائذ فما أرى الدهر على جوره ... يخرج من حكمكم النافذ وقال أيضا: يأيها السيد الذى وهنت ... أنصار أمواله ولم يهن فأصبحت في يد الضّعيف وذى ال ... قوّة والباقلىّ واللّسن «1» غيرى- على أننى مؤملك ال ... أقدم- سائل بذاك وامتحن مادح عشرين حجة كملا ... محرومها عنك غير مضطغن فضلك أو عدلك الذى ائتمن الله ... عليه أجلّ مؤتمن إن كنت في الشعر ناقدا فطنا ... فلتعطنى حق حصة الفطن وإن أكن فيه ساقطا زمنا ... فلتعطنى حق حصة الزّمن

[ترجمة أبى العيناء وطرف من أحياره]

سم بى ديوانك الذى عدلت ... جدواه بين الصحيح والضّمن «1» كثر بشخصى من استطعت من ال ... ناس فإن لم أزنك لم أشن ما حقّ من لان صدره لك بال ... ود لقاء بجانب خشن وقال أبو العباس الرومى لرجل مدحه في كلمة: أبعد لقاى دونك كلّ قفر ... يدق الشخص فيه أن يلاقى وإعمالى إليك به المطايا ... وقد ضرب الظلام له رواقا ورفضى النوم إلا أن ترانى ... أعانق واسط الكور اعتناقا تسوق بنا الحداة فليس تدرى ... أسوقا كان ذلك أم سياقا أصادف درّة المعروف شكرى ... لديك ولا أذوق لها ذواقا «2» يقول فيها: غدا يعلو الجياد وكان يعلو ... - إذا ما استقره- السّبت الرّقاقا «3» أعنّتها الشّسوع فإن عراها ... حفاء الكدّ أنعلها طراقا «4» فزوّج بعد قفر منه نعمى ... أرانى الله صبحتها الطّلاقا [ترجمة أبى العيناء وطرف من أحياره] قال أبو القاسم علىّ بن حمزة بن شمردل: حدثنى أبى قال: سألت أبا العيناء عن نسبه، فقال: أنا محمد بن القاسم بن خلّاد بن ياسر بن سليمان، وأصل قومى من بنى حنيفة من أهل اليمامة، ولحقهم سباء في أيام المنصور؛ فلمّا صار ياسر فى قيده أعتقه، فولاؤنا لبنى هاشم؛ وكان أبو العيناء ضرير البصر؛ ويقال: إنّ جده الأكبر لقى على بن أبى طالب- رضي الله عنه! - فأساء مخاطبته؛ فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكلّ من عمى مهم صحيح اللسب!

قال الصولى: حدثنى أبو العيناء، قال: لما أدخلت على المتوكل فدعوت له وكلمته استحسن كلامى، وقال لى: بلغنى أن فيك شرّا! فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشرّ ذكر المحسن بإحسانه والمسىء بإساءته فقد زكّى الله تعالى وذمّ، فقال في التزكية: (نعم العبد إنّه أوّاب) ، وقال في الذم: (همّاز مشّاء بنميم منّاع للخير معتد أثيم) . وقال الشاعر: إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذّمما «1» ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لى الله المسامع والفما؟ وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السّنىّ والدنىّ بطبع لا بتمييز فقد صان الله عبدك عن ذلك! فقال لى: بلغنى أنك رافضىّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، وكيف أكون رافضيّا وبلدى البصرة ومنشئى في مسجد جامعها، وأستاذى الأصمعى، وليس يخلو القوم أن يكونوا أرادوا الدين أو الدنيا؛ فإن كانوا أرادوا الدّين فقد أجمع الناس على تقديم من أخّروا، وتأخير من قدموا، وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلّا بك، ولا دنيا إلّا معك. قال: كيف ترى دارى هذه؟ قال: قلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. فقال لى: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ قلت: نعم العبد لله ولك؛ مقسّم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة قال: فما تقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ - وكان قد علم أنّى

واجد عليه بتقصير وقع منه في أمرى- فقلت: يا أمير المؤمنين، يد تسرق واست تضرط! وهو مثل اليهودىّ سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى، وإحجام بما أبقى، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلّف! قال: قد أردتك لمجالستى، قلت: لا أطيق ذاك، وما أقول ذلك جهلا بمالى في هذا المجلس من الشرف، ولكنى محجوب، والمحجوب تختلف عليه الإشارة، ويخفى عليه الإيماء، ويجوز أن يتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض أو بكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، قال: صدقت، ولكن تلزمنا، قلت: لزوم الفرض الواجب اللازم، فوصلنى بعشرة آلاف درهم. ولأبى العيناء مع المتوكّل مجالس أدخل الرواة بعضها في بعض، وسأورد مستظرفها إن شاء الله: قال له المتوكل يوما: يا أبا العيناء؛ لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إن لى في بصرى لشغلا عن الوقيعة فيهم، قال: ذلك أشد لحيفك في أهل العافية! وقال له يوما: هل رأيت طالبيا حسن الوجه قطّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت أحدا قطّ سأل ضريرا عن هذا؟ قال: لم تكن ضريرا فيما تقدم، وإنما سألتك عما سلف، قال: نعم، رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، قال المتوكّل: تجده كان مؤاجرا، وتجدك كنت قوّادا عليه! فقال أبو العيناء: وفرغت لهذا يا أمير المؤمنين، أترانى أدع موالىّ على كثرتهم، وأقود على الغرباء؟ قال: اسكت يا مأبون؟ قال: مولى القوم منهم! قال المتوكل: أردت أن أشتفى به منهم فاشتفى لهم منّى. وكان أبو العيناء أحدّ الناس خاطرا، وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جوابا، وأبلغهم خطابا. والمتوكل أوّل من أظهر من خلفاء بنى العباس الانهماك على شهوته، وكان أصحابه يتسخّفون ويستخفون بحضرته، وكان يهاتر الجلساء، ويفاخر الرؤساء،

وهو مع ذلك من قلوب الناس محبب، وإليهم مقرّب؛ إذ أمات ما أحياه الوائق من إظهار الاعتزال، وإقامة سوق الجدال. قال محمد بن مكرم الكاتب: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبى العيناء إذا أحسّ بكرم، أو شرع في طمع، فقد ظلم. كتب إلى أبى عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباه المعتمد، وهما يطالبان بمال يبيعان له ما يمنكانه من عقار وأثاث وعبد وأمة، وقد أعطى بخادم أسود لعبيد الله خمسون دينارا: قد علمت- أصلحك الله! - أن الكريم المنكوب أجرأ على الأحرار من اللئيم الموفور؛ لأنّ اللئيم يزيد مع النّعمة لؤما، والكريم لا يزيد مع المحنة إلّا كرما، هذا متّكل على رازقه، وهذا يسىء الظنّ بخالقه، وعبدك إلى ملك «كافور» فقير، وثمنه على ما اتّصل بى يسير؛ لأنه بخدمته السلطان يعرّفنى الرؤساء والإخوان؛ ولست بواجد ذلك في غيره من الغلمان؛ فإن سمحت به فتلك عادتك، وإن أمرت بأخذ ثمنه فمالك مادّتى، أدام الله دولتك، واستقبل بالنعمة نكبتك. فأمر له به. وسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلت حيلته، قال: ما أغفلك عن أبى العيناء! وكتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان: أنا- أعزّك الله تعالى! - وولدى وعيالى زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى؛ وقد مستنى منك جفاء بعد برّ، وإغفال بعد تعاهد، حتى تكلّم عدوّ، وشمت حاسد، ولعبت بى ظنون رجال كنت بهم لاعبا، ولهم مجرّسا «1» ، ولله در أبى الأسود في قوله: لا تهنّى بعد إذا أكرمتنى ... وشديد عادة منتزعه فوقّع فى رقعته: أنا- أسعدك الله! - على الحال التي عهدت، وميلى إليك كما

قطعة من خطابه وجوابه:

علمت، وليس من أنسأناه أهملناه، ولا من أخّرناه تركناه، مع اقتطاع الشغل لنا، واقتسام زماننا، وكان من حقّك علينا أن تذكّرنا بنفسك، وتعلمنا أمرك؛ وقد وقّعت لك برزق شهرين؛ لتريح غلّتك، وتعرفنى مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقى أرزاقك، إن شاء الله، والسلام. وكان إذا خرج من داره يقول: اللهم إنّى أعوذ بك من الرّكب والرّكب، والآجرّ والخشب، والرّوايا والقرب. قطعة من خطابه وجوابه: دخل على أبى الصقر بعد ما تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حمارى، قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك! قال: فلم لم تأتنا على غيره؟ قال: قعدبى عن الشراء قلّة يسارى، وكرهت ذلّة المكارى، ومنّة العوارى وزحمه رجل بالجسر على حماره، فضرب بيديه على أذنى الحمار، وقال: يا فتى، قل للحمار الذى فوقك يقول: الطّريق! ودخل على إبراهيم بن المدبر، وعنده الفضل بن اليزيدى، وهو يلقى على ابنه مسائل من النحو، فقال: فى أى باب هذا؟ قال: فى باب الفاعل والمفعول به، قال: هذا بابى وباب الوالدة حفظها الله! فغضب الفضل وانصرف؛ وكان البحترى حاضرا فكتب بعد ذلك بقصيدته إلى إبراهيم بن المدبر التي أولها: ذكّر تنيك روحة للشمول ... أوقدت لوعتى وهاجت غليلى أى شىء ألهاك عن سر من را ... ء وظلّ للعيش فيها ظليل «1» وفيها يقول: أفتصارا على أحاديث فضل ... وهو مستكره كثير الفضول فعلام اصطفيت منكسف البا ... ل معاد المخراق نزر القبول «2»

إن تزره تجده أخلق من شي ... ب الغوائى ومن تعفّى الطّلول مسرجا ملجما وما متع الصّب ... ح ادّلاجا للشّحذ والتّطفيل «1» غير أنّ المعلمين على حا ... ل قليلو التمييز ضعفى العقول فإذا ما تذاكر النّاس معنى ... من متبن الأشعار والمجهول قال: هذا لنا ونحن كشفنا ... غيبه للسؤال والمسئول ضرب الأصمعىّ فيهم أم الأحم ... ر أم ألقحوا بأير الخليل «2» جلّ ما عنده التردد في الفا ... عل من والديه والمفعول وعزّى بعض الأمراء، فقال: أيّها الأمير؛ كان العزاء لك لا بك، والفناء لنا لا لك، وإذا كنت البقيّة فالرزيّة عطية، والتعزية تهنية. وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق، فقال: لو كان في زمن بنى إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره! قيل: فأخوه عمر؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وكان موسى بن عبد الملك قد اغتال نجاح بن سلمة في شراب شربه عنده، فقال المتوكّل بعد ذلك لأبى العيناء: ما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: ما قال الله تعالى: فوكزه موسى فقضى عليه! فاتّصل ذلك بموسى، فلقى الوزير عبيد الله ابن يحيى ابن خاقان، فقال: أيّها الوزير، أردت قتلى فلم تجد إلى ذلك سبيلا إلّا بإدخال أبى العيناء إلى أمير المؤمنين مع عداوته لى؛ فعاتب عبيد الله أبا العيناء في ذلك، فقال: والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته لك؛ فأمسك عنه. ثم دخل بعد ذلك أبو العيناء على المتوكل فقال: كيف كنت بعد؟ قال: فى أحوال مختلفة، خيرها رؤيتك وشرّها غيبتك، فقال: قد والله اشتقتك!

قال: إنما يشتاق العبد؛ لأنه يتعذّر عليه لقاء مولاه، وأما السيّد فمتى أراد عبده دعاه. وقال له المتوكل: من أسخى من رأيت؟ قال: ابن أبى داود، قال المتوكّل: تأتى إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء؟ قال: إنّ الصدق يا أمير المؤمنين ليس فى موضع من المواضع أنفق منه في مجلسك؛ وإنّ الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود؛ لأنّ سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد، وسخاء الفضل والحسن ابنى سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبى داود منسوب إلى المعتصم؛ فإذا نسب الناس الفتح وعبيد الله ابنى يحيى إلى السخاء فذلك سخاؤك يا أمير المؤمنين، قال: صدقت؛ فمن أبخل من رأيت؟ قال: موسى بن عبد الملك، قال: وما رأيت من بخله؟ قال: رأيته يخدم القريب كما يخدم البعيد، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة، فقال له: قد وقعت فيه عندى مرتين، وما أحبّ لك ذلك؛ فألقه واعتذر إليه، ولا يعلم أنّى وجهت بك، قال: يا أمير المؤمنين، من يستكتمنى بحضرة ألف؟ قال: لن تخاف، قال: على الاحتراس من الخوف. فصار إلى موسى فاعتذر كلّ واحد منهما إلى صاحبه، وافترقا عن صلح؛ فلقيه بعد ذلك بالجعفرى، فقال: يا أبا عبد الله، قد اصطلحنا، فمالك لا تأتينا؟ قال: أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالأمس؟ فقال موسى: ما أرانا إلا كما كنا. وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصرانى واجد عليك، قال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم! قال: إن جماعة من الكتاب يلومونك! فقال: إذا رضيت عنّى كرام عشيرتى ... فلا زال غضبانا علىّ لئامها قال المتوكل له: أكان أبوك في البلاغة مثلك؟ قال: لو رأى أمير المؤمنين أبى لرأى عبدا له لا يرضانى عبدا له.

وقيل لأبى العيناء: إن المتوكل قال: لولا أنّه ضرير البصر لنادمته، فقال: إن أعفانى من رؤية الأهلّة، وقراءة نقش الفصوص، فأنا أصلح للمنادمة. ولقيه رجل من إخوانه في السّحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال: أراك تشاركنى في الفعل وتفردنى بالتعجّب! ووقف به رجل من العامّة فأحس به، فقال: من هذا؟ قال: رجل من بنى آدم! قال: مرحبا بك، أطال الله بقاك! وبقيت في الدنيا، ما ظننت هذا النّسل إلا قد انقطع! ودخل على عبيد الله بن سليمان فقال: اقرب منّى يا أبا عبد الله، فقال: أعزّ الله الوزير، تقريب الأولياء، وحرمان الأعداء، قال: تقريبك غنم، وحرمانك ظلم؛ وأنا ناظر في أمرك نظرا يصلح من حالك إن شاء الله. وقال له يوما: اعدرنى فإنّى مشغول، فقال له: إذا فرغت من شغلك لم نحتج إليك، وأنشده: فلا تعتذر بالشّغل عنّا؛ فإنّما ... تناط بك الأمال ما اتّصل الشّغل ثم قال: يا سيّدى قد عذرتك، فإنه لا يصلح لشكرك من لا يصلح لعذرك. وأقبل إليه يوما فقال: من أين يا أبا عبد الله؟ قال: من مطارح الجفاء! وقال له مرة: نحن في العطلة مرحومون، وفي الوزارة محرومون، وفي القيامة كلّ نفس بما كسبت رهينة. وسار يوما إلى باب صاعد بن مخلد، فقيل: هو مشغول يصلّى، قال: لكلّ جديد لذّة! وكان صاعد نصرانيا قبل الوزارة. ودخل إلى عبيد الله بن سليمان، فشكا إليه حاله، ققال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصّر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة محن الدّهر، فأخففته في طلبتى! قال: أنت اخترته؟ قال: وما علىّ- أعزّ الله الوزير! - فى ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين

[إبراهيم بن المدبر]

رجلا، فما كان منهم رشيد، واختار النبىّ صلى الله عليه وسلم ابن أبى سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا، وإختار علىّ بن أبى طالب أبا موسى حاكما له فحكم عليه! [إبراهيم بن المدبر] وكان إبراهيم بن المدبر أسره صاحب الزّنج بالبصرة وحبسه؛ فاحتال حتى نقب السّجن وهرب، فلذلك ذكر أبو العيناء ذلّ الأسر، وكان قد ضرب فى وجهه ضربة بقى أثرها إلى أن مات؛ ولذلك قال البحترى: ومبينة شهر المنازل وسمها ... والخيل تكبو في العجاج الكابى كانت بوجهك دون عرضك إذ رأوا ... أنّ الوجوه تصان بالأحساب ولئن أسرت فما الإسار على امرىء ... نصر الإسار على الفرار بعاب» نام المضلّل عن سراك ولم تخف ... عين الرقيب وقسوة البوّاب فركبتها هولا متى تخبر بها ... يقل الجبان: أتيت غير صواب ما راعهم إلا استراقك مصلتا ... فى مثل برد الأرقم المنساب «2» تحمى أغيلمة وطائشة الخطى ... تصل التّلفّت خشية الطّلّاب قد كان يوم ندى بطولك باهرا ... حتى أضفت إليه يوم ضراب «3» ذكر من البأس استعذت إلى الّذى ... أعطيت في الأخلاق والآداب ووحيدة أنت انفردت بفضلها ... لولاك ما كتبت على الكتّاب [حديث صاحب الزنج، ودعواه، وبطلانها] قال أبو بكر الصولى: حدثنى محمد بن أبى الأزهر، وقد ذاكرته خبر على صاحب الزنج، قال: ادّعى أنه على بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن على

ابن الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم، فنظرت مولده ومولد محمد ابن أحمد الذى ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه على مات بعد هذا المدعى اسمه ونسبه بزمان. ثم رجع عن هذا النسب فادّعى أنه على بن محمد بن عبد الرحيم بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان ابن زيد بن على. قال أبو عبيدة محمد بن على بن حمزة: ولم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره؛ لأنّه قتل ابن ثمانى عشرة سنة ولا ولد له. قال بشر بن محمد بن السّرىّ بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبى لحّا على بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من أهل ورتين من ضياع الرىّ، وهو القائل لبنى العباس: بنى عمنا إنا وأنتم أنامل ... تضمنها من راحتيها عقودها بنى عمّنا ولّيتم الترك أمرنا ... ونحن قديما أصلها وعمودها فما بال عجم الترك تقسم فيئنا ... ونحن لديها في البلاد شهودها فأقسم لاذقت القراح وإن أذق ... فبلغة عيش أو يباد عميدها «1» وقال أيضا: لهف نفسى على قصور ببغدا ... د وما قد حوته من كلّ عاص وخمور هناك تشرب جهرا ... ورجال على المعاصى حراص لست بابن الفواطم الزّهر إن لم ... أقحم الخيل بين تلك العراص وله في هذا المعنى شعر كثير قد ناقضه البغداديون، وكانت مدّته حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف.

[عود إلى ملح أبى العيناء]

[عود إلى ملح أبى العيناء] وذكر أبو العيناء رجلا، فقال: ضحك كالبكاء، وتودّد كالعزاء، ونوادر كندب الموتى! وكان يهاتر ابن مكرم كثيرا، وكتب إليه ابن مكرم يوما: قد ابتعت لك غلاما من بنى ناشر، ثم من بنى ناعظ، ثم من بنى نهد. فكتب إليه: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. وولد لأبى العيناء ولد، فأتى ابن مكرم فسلم عليه، ووضع حجرا بين يديه وانصرف، فأحس به، فقال: من وضع هذا؟ فقيل: ابن مكرم، قال: لعنه الله! إنما عرّض بقول النبى صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لابن مكرم، وقد قدم من سفر: مالك لم تهد إلينا هدية؟ قال: لم آت بشىء، وإنما قدمت في خف. قال: لو قدمت في خف لخلّفت روحك! وأتى إلى باب إبراهيم بن رياح، فحجب، فقال: إذا شغل بكأس يمناه وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف أباه، لا يحفل بحجاب من أتاه. وقدّم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباحة، فجعل لا تقع يده إلا على عظم؛ فقال: جعلت فداك! هذه قدر أو قبر؟. ودعا ضريرا ليعشيه، فلم يدع شيئا إلّا أكله، فقال: يا هذا، دعوتك رحمة فتركتنى رحمة. قد تم- بحول الله وقوته، وحسن معونته- الجزء الأول من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبن إسحاق الحصرى، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثانى، مفتتحا بقول المصنف «ألفاظ لأهل العصر في صفات الطعام ومقدماته، وموائده وآلاته» نسأل الله- جلت قدرته! - أن يعين على إكماله، إنه ولى ذلك.

فهرست الجزء الأول من كتاب زهر الآداب

فهرست الجزء الأول من كتاب زهر الآداب صفحة الموضوع مقدمة الطبعة الأولى مقدمة الطبعة الثانية 3 مقدمة المؤلف 40 إن من البيان لسحرا 40 عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم 41 ترجمة عمرو بن الأهتم - ترجمة الزبرقان بن بدر 42 غلام يتكلم في حضرة عمر بن عبد العزيز 43 كتاب من ابن العميد لبعض إخوانه 44 السحر الحلال 44 وصف رحل محبوب 45 علية بنت المهدى 48 قيد الأوابد 49 عود إلى حلاوة الحديث 55 الشعر والبيان 55 تفسير حديث وضبطه - الحطيئة وبنو أنف النافة 56 بنو العجلان والنجاشى 56 حكومة عمر في الشعر 57 جمرات العرب 57 انتقام امرأة 58 تعريض قادح صفحة الموضوع 59 جواب على شعر جرير 59 فضل الشعر 60 شذور من كلام الرسول 63 شعراء الرسول 65 أبو سفيان بن الحارث 65 شعر كعب بن مالك 65 قصة النضر بن الحارث 67 رثاء أبى بكر لرسول الله 67 مناقب أبى بكر 68 خطبة أبى بكر يوم مات الرسول 69 رثاء فاطمة الزهراء لأبيها رسول الله 70 عود إلى المختار من كلام أبى بكر 71 رثاء عائشة أم المؤمنين لأبيها 72 عمر بن الخطاب 74 بكاء عمر 75 عاتكة بنت زيد 75 عثمان بن عفان 78 على بن أبى طالب 83 عمرو بن عبدود 84 بيضة البلد 85 هوان قبيلة عاملة 86 كلام الصحابة والتابعين 86 آثار معاوية

88 الأحنف بن قيس ومعاوية 90 شعر زهير 91 التهنئة والتعزية 94 أهل البيت 95 وصف قريش وبنى هاشم 97 الحسن بن على وحبيب بن مسلمة 99 المصيبة بأبناء النبوة 100 بين الحسن ومحمد بن الحنفية 100 الدنيا في رأى الحسين 101 معاوية والحسين 102 ابن أبى ربيعة وسكينة بنت الحسين 102 على بن الحسين زين العابدين 103 قصيدة الفرزدق في على بن الحسين 106 لذى الرمة يمدح بلال بن أبى بردة - للبحترى يمدح الفتح بن خاقان 109 عاقبة الحرب 112 للبحترى في قتال الأقارب 112 لأبى تمام في المعنى 114 لابن الخياط يمدح مالك بن أنس 115 لأشجع السلمى - من شعر أبى تمام 117 محمد بن على بن الحسين الباقر 118 مصرع زيد بن على 120 عبد الله بن الحسن 121 بين عبد الملك بن مروان وعمر بن أبى ربيعة 122 للعديل بن الفرخ 122 عود إلى عبد الله بن الحسن 123 امرأة محمد بن عبد الله 124 جعفر بن محمد 125 عبد الله بن معاوية 127 الحسن بن زيد 129 إبراهيم بن هرمة 130 موسى بن عبد الله 130 بين على بن محمد العلوى والحسين بن إسماعيل 131 العباس بن الحسين الهاشمى 133 موسى بن جعفر 133 على بن موسى 134 دعبل بن على يرثى آل البيت 135 أوصاف الأشراف 138 الابتداء بحمد الله 139 من شعر محمود الوراق 140 البيان والبلاغة 140 فضل القرآن على سائر الكلام 141 ماهية البلاغة لابن الرمانى 142 ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن 143 أقوال في البلاغة 143 عمرو بن عبيد 145 البلاغة عند أهل الهند 145 البلاغة في رأى ابن المقفع 146 الإطالة والإيجاز 148 المعانى والألفاظ 151 بشار بن برد 152 وصية أبى تمام للبحترى 153 فضل الليل للحاتمى 154 فضل التروى والأناة 155 واجب النساخ 155 صور مختلفة للبلاغة

160 صفة البلاغة والبلغاء 164 وصف النثر والشعر 165 كتاب لابن العميد 167 كتاب للصاحب بن عباد 168 أبو الفضل الميكالى 169 أبو منصور الثعالبى 171 رسائل الميكالى 173 وصف أبى الفضل الميكالى 176 وصف البلاغة 176 لأبى الفتح البستى 177 للمطوعى يمدح الميكالى 178 للثعالبى يمدح الميكالى 179 للثعالبى في وصف فرس 179 للثعالبى يجيب الميكالى 180 للميكالى يجيب الثعالبى 180 الوزير المهلبى 181 الحكمة ضالة المؤمن 182 وصف الكتاب للجاحظ 185 تهادى الكتب 188 أوصاف الكتب 193 المحادثة والمجالسة 193 الفهم والإفهام 195 واجب الجليس 196 الحديث المعاد 196 أنواع الأدب 198 تقسيم الأيام 199 إياس بن معاوية يحتج للاطناب - الجاحظ يرد عليه - ابن هبيرة يريد إياسا على القضاء 200 أبو العيناء وقبنة 200 فطنة إياس بن معاوية وفوة لسنه 200 الفرار من الحديث المملول 201 طرف أدبية 202 ملح الغاضرى 203 ملح أشعب 204 أبو نواس 205 الجماز 206 أبو تمام يمدح عمرو بن طوق - ويمدح الحسن بن وهب 207 رواية الشعر والنسيب 208 عروة بن أذينة 177 أبو السائب المخزومى 209 عود إلى عروة بن أذينة 210 حب الأحوص 211 ظرف أهل الحجاز ورقهم 179 أبو حازم 212 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة 180 فقهاء المدينة السبعة 213 لأبى نواس 181 لأبى محمد بن أبى أمية 214 ظرف أهل المدينة 216 لتشبيب بأخت الحجاج 185 وصف الدنيا لابن المعتز 218 بين ابن المعتز وثعلب 219 شعر ابن المعتز 220 وصف النار للببغاء 221 عود إلى شعر ابن المعتر 161 رثاء المنصور 223 وصاف الرجال 225 نثر ابن المعتز

217 وصف الماء وما يتصل به 229 كة الجعفرى للبحترى 199 قصور المتوكل لابن الجهم 231 وصف موضع للبحترى 232 صنوبرى يصف موضعا في حلب 233 الميكالى يصف بركة - لعلى بن محمد الإيادى يصف دارا بالمنصورية 235 المياه والغدران 237 وصف الرعد والبرق 241 الشرب في الصحو 242 وصف شدة الشوق 210 وصف رجل حازم لابن المقفع 243 إبراهيم بن أدهم 244 وصف التقى والزهد لابن كناسة 212 من أخبار ابن المقفع 245 ترجمة الأصوص 213 فهم المنصور 246 بلية الحسد لابن المقفع 247 ألسنة الحساد 216 وصف الحسد 248 التلطف في الطلب 249 من كلام على بن عبيدة الريحانى 250 بين إبراهيم بن المهدى وأحمد بن أبى داود وبختيشوع الطبيب 251 أردشير بن بابك 252 أخلاق الملوك 253 أخت ملك الخزر 254 أقوال الملوك والحكماء 257 همة سعد بن ناشب 258 كلام الخلفاء 256 مقتل المتوكل 260 وفاء البحترى 261 رثاء المتوكل للمهلبى 262 أبو حية النميرى 233 وصف الشباب لهارون بن يحيى 265 فقر في وصف الشباب 267 بين ابن مناذر وأبى حية النميرى 236 أعباء الكهولة لعمرو بن قميئة 268 للنمر بن تولب 269 من شعر حميد بن ثور 270 لمحمود الوراق - للمتنبى - للبحترى - لابن هانى 271 لابن الرومى - لأبى تمام 272 وصف الثغر 274 وصف الجوارى السود 275 لتهنئة بنوأمين 280 وصف الأفواه 286 شعر أبى نواس 287 طرفة أدبية 288 تظرف الحارث بن خالد 257 من أخبار عائشة بنت طلحة 289 مثل من التعريض 290 الثريا بنت على 291 عزة كثير 292 ظرف ابن أبى عتيق 293 كمثل الشيطان

261 رملة بنت عبد الله 294 صفقة أبى غبشان الذى باع مفتاح الكعبة بزق خمر 295 عفة ابن أبى ربيعة 296 بين ابن جريج ومعن بن أوس 301 عائشة بنت طلحة 302 امامة ابن الرومى 303 سليمان بن عبد الملك وأعرابى 304 وصف رجل ماجد 305 البديع الهمذانى، وكيف استوحى صنع المقامات 306 كتابه إلى أبى نصر الميكالى 309 عتابه للميكالى 311 أبيات مختارة في معان شتى 283 أبو العيناء 315 بين أبى الصقر وابن الرومى 321 ترجمة أبى العيناء، وطرف من أخباره 322 أحاديثه مع المتوكل 323 المتوكل أول من أظهر الانكباب على الشهوات من العباسين.. 324 منزلة أبى العيناء في الكتابة - من أبى العيناء لعبيد الله بن سليمان 325 نوادره، وفكاهاته، وأجوبته 326 إبراهيم بن المدبر 329 صاحب الزنج 330 عود إلى ملح أبى العيناء تمت فهرس الجزء الأول من «زهر الآداب» والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

الجزء الثاني

زهر الآداب وثمر الألباب لأبى إسحاق إبراهيم بن على، الحصرى، القيروانى، المتوفى في عام 453 من الهجر مفصل ومضبوط ومشروح بقلم المرحوم الدكتور زكى مبارك الجزء الثانى دار الجيل بيروت

الجزء الثاني

ألفاظ لأهل العصر في صفات الطعام ومقدماته، وموائده، وآلاته افرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. لا يطيب حضور الخوان، إلّا مع الإخوان. البخل بالطّعام، من أخلاق الطّغام. الكريم لا يحظر، تقديم ما يحضر. قد قامت خطباء القدور. قدور أبكار، بخواتم النّار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها. دهماء تهدر كالفنيق «1» ، وتفوح كالمسك الفتيق. مائدة كدارة البدر، تباعد بين أنفاس الجلّاس. مائدة مثل عروس. مائدة لطيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيّبات. مائدة كأنما عملها صنّاع صنعاء، تجمع بين أنوار «2» الربيع، وثمار الخريف. وقال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنّها زمن البرامكة على العفاة! وذمّ آخر رجلا فقال: لا يحضر مائدته إلا أكرم الخلق وألأمهم- يريد الملائكة والذّباب. وقال ابن الحجاج لرجل دعاه وأخّر الطعام: قد جنّ أصحابك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده ولبعض أهل العصر يذم رجلا: خوان لا يلمّ به ضيوف ... وعرض مثل منديل الخوان رغفان كالبدور الممنطقة بالنّجوم. حمل ذهبىّ الدّثار، فضّىّ الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلّت الشمس الحمل «3» . جدى كأنما ندف على جبينه القزّ. زيرباجة، هى للمائدة ديباجة، تشفى السّقام، ولونها لون السقيم. سكباجة تفتق

الشهوة، واسفيذباجة تغذّى القرم «1» ، وطباهجة يتفكّه بها، وخبيص يختم بخير. طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك، وقليّة كالعود المطرّى. مغمومة تفرج غمّ الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط قزّ مشتبكة، كأنّ المرّى «2» عليها عصارة المسك على سبيكة الفضة. أرزة ملبونة، فى السكر مدفونة. شواء رشراش «3» وفالوذج رجراج «4» . طباهجة تغذى، وفالودجة تعزى، واسفيذباجة تصفع قفا الجوع «5» . لا فراش للنبيذ، كالحمل الحنيذ «6» . دجاجة سميطة، لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشرة. دجاجة ديناريّة ثمنا ولونا. وهذا محلول من قول على بن العباس الرومى يصف طعاما أكله عند أبى بكر الباقطانى: وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زفّها لك حزور «7» عظمت فكادت أن تكون أوزّة ... وغلت فكاد إهابها يتفطّر طفقت تجود بذوبها جوذابة ... فأتى لباب اللّوز فيها السكر ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها ... فكانّ تبرا عن لجين يقشر وتقدّمتها قبل ذاك ثرائد ... مثل الرّياض بمثل ذاك تصدّر ومرقّقات كلّهنّ مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدثّر وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... ترضي اللهاة بها ويرضي الحنجر ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيان من الدّهان يعصّر

قال البديع: حدثنى عيسى بن هشام قال: اشتهيت الأزاذ، وأنا ببغداذ «1» ، وليس معى عقد، على نقد «2» ، فخرجت أنتهز محالّه، حتى أحلّنى الكرخ «3» ؛ فإذا أنا بسوادىّ يحدو بالجهد حماره، ويطرّف بالعقد إزاره «4» ؛ فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحيّاك الله أبا زيد! من أين أقبلت؟ وأين نزلت؟ ومتى وافيت، فهلمّ إلى البيت. فقال السّوادى: لست بأبى زيد، وإنما أبو عبيد! فقلت: نعم لعن الله الشيطان، وأبعد النّسيان، أنسانى طول العهد بك، كيف أبوك، أشابّ كعهدى، أم شاب بعدى؟ «5» قال: قد نبت المرعى على دمنته «6» ، وأرجو أن يصيّره الله إلى جنّته، فقلت: إنّا لله، ولا قوة إلا بالله، ومددت يد البدار، إلى الصّدار «7» أريد تمزيقه، وأحاول تخريقه «8» فقبض السوادىّ على خصرى بجمعه «9» ؛ وقال: نشدتك بالله لا مزّقته، فقلت: فهلم إلى البيت نصب غداء، أو إلى السوق نشترى شواء؛ والسوق أقرب، وطعامه

أطيب، فاستفزّته حمة القرم «1» ، وعطفته عطفة النّهم، وطمع، ولم يعلم أنه وقع، ثم أتيت شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا، ويتسايل جوذابه مرقا «2» ، فقلت: أبرز لأبى زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر من تلك الأطباق، ونضّد عليها أوراق الرقاق، وشيئا من ماء السّمّاق «3» ؛ ليأكله أبو زيد هنيا. فأنحى الشّوّاء بساطوره «4» ، على زبدة تنّوره، فجعلها كالكحل سحقا، وكالطحين دقّا، ثم جلس وجلست، ولا نبس ولا نبست، حتى استوفيناه، وقلت لصاحب الحلواء: زن لأبى زيد من اللوزينج رطلين «5» ، فإنه أجرى في الحلوق، وأسرى في العروق، وليكن ليلىّ العمر، يومىّ النّشر «6» ، رقيق القشر، كثيف الحشو، لؤلؤىّ الدهن، كوكبى اللون، يذوب كالصّمغ، قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيّا. فوزنه، ثم قعد وقعدت، وجرّد وجرّدت «7» ، واستوفيناه، ثم قلت: يا أبا زيد، ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج، ليقمع هذه الصّارة «8» ، ويفثأ هذه اللّقم الحارة «9» ؛ اجلس أبا زيد حتى آتيك بسقّاء، يحيينا بشربة من ماء، ثم خرجت، وجلست بحيث أراه ولا يرانى، أنظر ما يصنع به. فلما أبطأت عليه قام السّوادى إلى حماره، فاعتلق الشّوّاء بإزاره.

وقال: أين ثمن ما أكلت؟ قال: ما أكلته إلا ضيفا! قال الشّوّاء: هاك وآك متى دعوناك؟ زن يا أخا القحبة عشرين، وإلا أكلت ثلاثا وتسعين! فجعل السوادىّ يبكى ويمسح دموعه بأردانه، ويحلّ عقده بأسنانه، ويقول: كم قلت لذلك القريد، أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد!؟ فأنشدت: اعمل لرزقك كلّ آله ... لا تقعدنّ بذلّ حاله وانهض بكلّ عزيمة ... فالمرء يعجز لا المحالة» ومن مليح ما قيل في القطائف قول علىّ بن يحيى بن أبى منصور المنجم: قطائف قد حشيت باللّوز ... والسكر الماذىّ حشو الموز «2» يسبح في آذىّ «3» دهن الجوز ... سررت لما وقعت في حوزى سرور عبّاس بقرب فوز «4» ومن ألفاظ أهل العصر في الحلواء: فالوذج بلباب البرّ، ولعاب النّحل، كأنّ اللوز فيه كواكب درّ، فى سماء عقيق. ولم يقل أحد في صفة اللوزينج أحسن من قول ابن الرومى: لا يخطئنّى منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو عجّبا لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسهّل الطّيب له مذهبا لم تغلق الشّهوة أبوابها ... إلّا أبت زلفاه أن يحجبا يدور بالنّفحة في جامه ... دورا ترى الدّهن له لولبا «5»

عاون فيه منظر مخبرا ... مستحسن ساعد مستعذبا مستكثف الحشو ولكنّه ... أرقّ جلدا من نسيم الصّبا «1» كأنما قدّت جلابيبه ... من نقطة القطر إذا حبّبا «2» يخال من رقّة خرشائه «3» ... شارك في الأجنحة الجندبا «4» لو أنّه صوّر من خبزه ... ثغر لكان الواضح الأشنبا «5» من كلّ بيضاء يودّ الفتى ... أن يجعل الكفّ لها مركبا مدهونة زرقاء مدقوقة «6» ... صهباء تحكى الأزرق الأشهبا قرة عين «7» وفم حسّنت ... وطيّبت حتى صبا من صبا ديف له اللوز؛ فما مرّة ... مرّت على الذائق إلا أبى «8» وانتقد السّكّر نقّاده ... وشاوروا في نقده المذهبا فلا إذا العين رأته نبت ... ولا إذا الضّرس علاه نبا لا تنكروا الإدلال من وامق ... وجّه تلقاءكم المطلبا هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح فيها أبا العباس أحمد بن محمد ابن عبد الله بن بشر المرئدى، ويهنيه بابن ولده، وأولها: شمس وبدر ولدا كوكبا ... أقسمت بالله لقد أنجبا قال أبو عثمان سعيد بن محمد الناجم: دخلت على أبى الحسن وهو يعمل هذه

القصيدة، فقلت: لو تفاءلت فيها لأبى العباس بسبعة من الولد؛ لأن أبا العباس منكوسا سابع، لجاء المعنى ظريفا، فقال: وقد تفاءلت له زاجرا ... كنيته، لا زاجرا ثعلبا إنّى تأمّلت له كنية ... إذا بدا مقلوبها أعجبا يضوغها العكس أبا سابع ... لا كذّب الله ولا خيّبا بل ذاك فال ضامن سبعة ... مثل الصّقور استشرفت مرقبا يأتون من صلب فتى ماجد ... وذاك فأل لم يعد معطبا وقد أتانا منهم واحد ... فلننتظرهم ستّة غيّبا فى مدّة تغمرها نعمة ... يجعلها الله له ترتبا «1» حتى نراه جالسا بينهم ... أجلّ من رضوى ومن كبكبا «2» كالبدر وافى الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاحتبى «3» وليشكر النّاجم عن هذه ... فإنّها من بعض ما بوّبا سدّى وألحمت أخ لم أزل ... أشكر ما أسدى وما سبّبا وكان ابن الرومى منهوما في المآكل، وهي التي قتلته، وكان معجبا بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدى أن يبعث إليه كلّ يوم بوظيفة لا تنقطع، فبعث إليه يوم سبت، ثم قطعه، فقال: ما لحيتاننا جفتنا وأنّى ... أخلف الزائرون منتظريهم جاء في السّبت زورهم فأتينا ... من حفاظ عليه ما يكفيهم «4»

وجعلناه يوم عيد عظيم ... فكأنّا اليهود أو نحكيهم وأراهم مصمّمين على الهجر ... فلم يسخطون من يرضيهم قد سبتنا وما أتتنا وكانوا ... يوم لا يسبتون لا تأتيهم فاتّصل ذلك بالناجم، فكتب إلى ابن الرومى: أبا حسن أنت من لا تزا ... ل نحمد في الفضل رجحانه فكم تحسن الظنّ بالمرثدىّ ... وقد قلّل الله إحسانه ألم تدر أنّ الفتى كالسّراب ... إذا وعد الوعد إخوانه فبحر السراب يفوت الطّلوب ... فقل في طلابك حيتانه وخرج ابن الرومى إلى بعض المتنزهات وقصدوا كرما رازقيّا، فشربوا هناك عامّة يومهم، وكانوا يتهمونه في شعره، فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئا، فقال: لا تريموا حتى أقول فيه، وأنشدهم لوقته: ورازقىّ مخطف الخصور ... كأنه مخازن البلّور قد ضمّنت مسكا إلى الشطور ... وفي الأعالى ماء ورد جورى «1» بلا فريد وبلا شذور ... له مذاق العسل المشور «2» وبرد مسّ الخصر المقرور ... ونكهة المسك مع الكافور «3» ورقّة الماء على الصدور ... باكرته والطّير في الوكور بفتية من ولد المنصور ... أملأ للعين من البدور حتى أتينا خيمة النّاطور ... قبل ارتفاع الشمس للذّرور «4»

ألفاظ تناسب هذا النحو لأهل العصر في صفات الفواكه والثمار

فانحطّ كالطّاوى من الصّقور ... بطاعة الرّاغب لا المقهور والحرّ عبد الحلب المشطور ... حتى أتانا بضروع حور «1» مملوءة من عسل محصور ... والطّلّ مثل اللؤلؤ المنثور ثمّ جلسنا جلسة المحبور ... بين حفافى جدول مسجور «2» أبيض مثل المهرق المنشور ... أو مثل متن المنصل المشهور «3» ينساب مثل الحيّة المذعور ... بين سماطى شجر مسطور «4» ناهيك للعقود من ظهور ... فنيلت الأوطار في سرور وكل ما يقضى من الأمور ... تعلّة من يومنا المنظور ومتعة من متع الغرور ألفاظ تناسب هذا النحو لأهل العصر في صفات الفواكه والثمار كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمّهات الرّاح. عنقود كالثريّا، وعنب كمخازن البلّور، وضروب النّور، وأوعية السرور. أمّهات الرحيق، فى مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب كأنها شهدة بالعقيق مقنّعة، وبالعقيان مقمّعة. رمّان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيبا، ومنظرا حسنا عجيبا، كأنه زئبر «5» الخزّ الأغبر، على الديباح الأصفر. تفّاح نفّاح «6» ، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العبير، وطعم الكر، رسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على عسل. مشمش كأنه الشّهد في بيادق الذهب.

[بعض ما جاء في وصف الليل]

[بعض ما جاء في وصف الليل] قال بعض الرواة: أنشدت أعرابيا قول جرير بن عطية بن الخطفى: أبدّل الليل لا تسرى كواكبه ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا فقال: هذا حسن في معناه، وأعوذ بالله من مثله؛ ولكنى أنشدك في ضدّه من قولى، وأنشدنى: وليل لم يقصّره رقاد ... وقصّر طوله وصل الحبيب نعيم الحبّ أورق فيه حتّى ... تناولنا جناه من قريب بمجلس لذّة لم نقو فيه ... على شكوى ولا عدّ الذّنوب بخلنا أن نقطّعه بلفظ ... فترجمت العيون عن القلوب فقلت له: زدنى، فما رأيت أظرف منك شعرا؛ فقال: أمّا هذا الباب فحسبك، ولكن أنشدك من غيره: وكنت إذا علقت حبال قوم ... صحبتهم وشيمتى الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا أشاء سوى مشيئتهم فآتى ... مشيئتهم وأترك ما أشاء قال الأصمعى: قرأت على أبى محذر خلف بن حيّان الأحمر شعر جرير، فلما بلغت إلى قوله: ويوم كإبهام القطاة محبّب ... إلىّ صباه غالب لى باطله رزقنا به الصّيد العزيز ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله فيالك يوم خيره قبل شرّه ... تغيّب واشيه وأقصر عاذله فقال خلف: ويحه! فما ينفعه خير يؤول إلى شرّ؟ فقلت له: كذا قرأته على أبى عمرو بن العلاء، فقال لى: وكذا قال جرير، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلّا ما سمع، قلت: فكيف كان يجب أن يكون؟ قال: الأجود أن

وصف منبج

يقول: خيره دون شرّه، فاروه كذلك، فقد كانت الرواة قديما تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه بعدها إلّا كذا. ومن أجود ما قيل في قصر الليل قول إبراهيم بن العباس: وليلة من الليالى الغرّ ... قابلت فيها بدرها ببدرى لم تك غير شفق وفجر ... حتى تقضّت وهي بكر الدّهر وقال محمد بن أحمد الأصبهانى فيما يتعلق بهذا المعنى وإن كان في ذكر النهار: كيف يرجى لمقلتىّ هدوّ ... ورقادى لطرف عينى عدوّ بأبى من نعمت منه بيوم ... لم يزل للسرور فيه نموّ يوم لهو قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشىّ فيه غدوّ إذ لشخص الرقيب فيه ثناء ... ولبدر السّماء منّى دنوّ وقال ابن المعتز: يا رب ليل سحر كلّه ... مفتضح البدر عليل النّسيم تلتقط الأنفاس برد النّدى ... فيه فنهديه لحرّ الهموم لا أعرف الإصباح لما بدا ... فى ضوئه إلا بسكر النّديم لبست فيه بالتذاذ الهوى ... ولذة الرّاح ثياب النعيم وصف منبج «1» أخذ قوله: «سحر كله» من قول عبد الملك بن صالح بن علىّ، وقد قال له الرشيد لما دخل منبج: أهذا منزلك «2» ؟ قال: هو لك، ولى بك يا أمير المؤمنين، قال: كيف بناؤه؟ قال: دون منازل أهلى، وفوق منازل الناس، قال:

ألفاظ في هذا المعنى لأهل العصر

وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسّى به، وأقفو أثره، وأحذو وحذوه، قال: فكيف طيب منبج؟ قال: عذبة الماء، قليلة الأدواء، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله «1» ؟ وأخذ هذا الطائى فقال: أيامنا مصقولة أطرافها ... بك، والليالى كلّها أسحار ولأهل العصر، قال أبو على محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمى: يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... كعارض البرق في أفق الدّجابرقا قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشّفقا كأنّما طرفاه طرف اتفق الج ... فنان منه على الإطباق وافترقا ألفاظ في هذا المعنى لأهل العصر ليلة من حسنات الدهر، هواؤها صحيح، ونسيمها عليل. ليلة كبرد الشباب، وبرد الشراب. ليلة من ليالى الشباب، فضّيّة الأديم، مسكيّة النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرّة الدهر. ليلة مسكيّة الأديم، كافوريّة النجوم. ليلة رقد الدّهر عنها، وطلعت سعودها، وغابت عذّالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. ليلة هي باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار.

[سعيد بن هريم، وصلته بالفضل بن سهل]

[سعيد بن هريم، وصلته بالفضل بن سهل] كان سبب اتصال سعيد بن هريم بذى الرياستين الفضل «1» - وسمى ذا الرياستين لأنه جمع بين رياسة القلم ورياسة التدبير للمأمون- أنه دخل عليه يوما، فقال: «الأجل آفة الأمل، والمعروف ذخر الأبد، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخى القدرة، وإنّا لم نصن وجوهنا عن سؤالك، فصن وجهك عن ردّنا، وضعنا من إحسانك بحيث وضعنا أنفسنا من تأميلك» . فأمر أن يكتب كلامه، وسماه سعيدا الناطق، ووصله المأمون «2» فخصّ به. فلحقته في بعض الأوقات جفوة من الفضل، فكتب إليه: «يا حافظ من يضع نفسه عنده، ويا ذاكر من نسى نصيبه منه، ليس كتابى إذا كتبت استبطاء، وما إمساكى إذا أمسكت استغناء؛ فكتبت مذكّرا لا مستقصرا فعلك» فوصله وأحسن إليه وقد روى بعض هذا الكلام المنسوب إلى سعيد بن هريم لأبى حفص الكرمانى مع ذى الرّياستين. ويقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التميمى: لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عظموا للفضل إلّا صنائع ترى عظماء الناس للفضل خشّعا ... إذا ما بدا، والفضل لله خاشع تواضع لمّا زاده الله رفعة ... وكلّ جليل عنده متواضع وقال إبراهيم بن العباس: لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل

فباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل وبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل أخذه ابن الرومى فقال لإبراهيم بن المدبر: اصبحت بين ضراعة وتجمّل ... والمرء بينهما يموت هزيلا فامدد إلى يدا تعوّد بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا وقال يمدح عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وزاد في هذا المعنى تشبيها ظريفا: مقبّل ظهر الكفّ وهّاب بطنها ... لها راحة فيها الحطيم وزمزم فظاهرها للناس ركن مقبّل ... وباطنها عين من العرف عيلم» وكان ذو الرياستين يقبل صواب القائلين بما في قوّته من صفاء الغريزة، وجودة النّحيزة «2» فهو كما قال أبو الطيب: ملك منشد القريض نديه ... يضع الثّوب في يدى بزّاز وكانت مخايل فضله، ودلائل عقله، ظهرت ليحيى بن خالد وهو على دين المجوسية، فقال له: أسلم أجد السبيل إلى اصطناعك، قال: فأسلم على يد المأمون، ولم يزل في جنبته «3» ، إلى أن رقى إلى رتبته. وذكره يحيى عند الرشيد فأجمل الثناء، فأمر بإحضاره، فلما رآه أفحم؛ فنظر الرشيد إلى يحيى كالمستفهم؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من أدلّ دليل على فراهة المملوك أن تملك هيبة مولاه لسانه وقلبه، فقال الرشيد: لئن كنت سكتّ لكى تقول هذا فقد أحسنت، ولئن كان هذا شيئا اعتراك عند الحصر لقد أجدت؛ وزاد في إكرامه وتقريبه، وجعل لا يسأله بعد ذلك عن شىء إلا أجابه بأفصح لسان، وأجود بيان.

قال سهل بن هارون: ومما حفظ من كلام ذى الرياستين مما رأينا تخليده فى الكتب؛ ليؤتمّ به، وينتفع بمقول حكمته، قوله: من ترك حقّا فقد غبن حظّا: ومن قضى حقّا فقد أحرز غنما، ومن أتى فضلا فقد أوجب شكرا، ومن أحسن توكّلا لم يعدم من الله صنعا، ومن ترك لله شيئا لم يجد لما ترك فقدا، ومن التمس بمعصية الله حمدا عاد ذلك على ملتمسه ذمّا، ومن طلب بخلاف الحقّ له دركا عاد ما أدرك من ذلك له موبقا «1» ؛ وذلك أوجب الفلاح- للمحسنين، وجعل سوء العاقبة للمسيئين المقصّرين. ووقّع في رقعة ساع: نحن نرى قبول السعاية شرّا منها؛ لأنّ السّعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شىء وأخبر به كمن قبله وأجازه؛ فاتّقوا السّاعى؛ فإنّه لو كان في سعايته صادقا لكان في صدقه آثما؛ إذ لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة. والشىء يقرن مع جنسه: كتب محمد بن على إلى محمد بن يحيى بن خالد، وكان واليا على أرمبنية للرشيد: إنّ قوما صاروا إلى سبيل النّصح فذكروا ضياعا بأرمينية قد عفت ودرست «2» ، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وإنى وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك. فكتب إليه: قرأت هذه الرقعة المذمومة، وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السّعاة في أيامنا كليلة خاسئة؛ فإذا قرأت كتابى هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك؛ فإنّا لم نولّك الناحية، لتتّبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبنى وتجنّب بيت جرير يخاطب الفرزدق:

وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا وأجر أمورك على ما يكسب الدّعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدّة تنتهى، وأيام تنقضى، فإمّا ذكر جميل، وإما خزى طويل. وقال رجل للمهدى: عندى نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن نصيحتك هذه؟ لنا، أم لعامّة المسلمين، أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين «1» ، قال: ليس الاعى بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة، فلا نشفى غيظك، أو عدوّا فلا نعاقب لك عدوّك! ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه لله رضا، وللمسلمين صلاح؛ فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب؛ ومن استتر عنّا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته؛ فإنى أرى التأديب بالصّفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع المعاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم. ووقّع ذو الرياستين إلى تميم بن خزيمة: الأمور بتمامها، والأعمال بخواتمها، والصنائع باستدامتها، وإلى الغاية يجرى الجواد؛ فهناك كشفت الخبرة قناع الشّكّ؛ فحمد السابق، وذمّ الساقط وذو الرياستين هو القائل: أنضيت أحرف «لا» مما لفظت بها ... فحوّلى رحلها عنّا إلى نعم أو صيّريها إليها منك منعمة ... إن كنت حاولت فيها خفة الكلم «2»

[بعض أوصاف الخيل]

قستم علينا فعارضنا قياسكم ... يا أحسن الناس من قرن إلى قدم ولما قتل ذو الرياستين دخل المأمون على أمّه فقال: لا تجزعى فإنّى ابنك بعد ابنك. فقالت: أفلا أبكى على ابن أكسبنى ابنا مثلك؟ [بعض أوصاف الخيل] ووصف ابن القرّيّة «1» فرسا أهداه الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فقال: حسن القدّ، أسيل الخدّ، يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف. وأهدى عبد الله بن طاهر إلى المأمون فرسا وكتب إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصّعداء، ويجاوز الظّباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جرى الماء، فهو كما قال تأبّط شرا: ويسبق وفد الرّيح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شدّه المتدارك وقال رجل لبعض النخاسين: اشتر لى فرسا جيّد القميص، حسن الفصوص، وثيق القصب، نقىّ العصب، يشير بأذنيه، ويندس برجليه «2» ، كأنه موج في لجّة، أو سيل في حدور. جمع محمد بن الحسين «3» هذين الكلامين وزاد فقال يصف فرسا: هو حسن القميص، جيّد الفصوص، وثيق القصب، نقىّ العصب، يبصر بأذنيه، ويتبوّع بيديه «4» ؛ ويداخل برجليه، كأنه موج في لجّة، أو سيل في حدور، يناهب المشى قبل أن يبعث، وبلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز جوارى الظباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جرى الماء، إن عطف جار، وإن أرسل طار، وإن كلّف السير أمعن وسار، وإن حبس صفن «5» ، وإن استوقف فطن، وإن رعى أبن «6» ؛ فهو كما قال تأبّط شرّا، وذكر البيت.

وأول هذه الأبيات: وإنى لمهد من ثنائى فقاصد ... به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك أهزّ به في ندوة الحىّ عطفه ... كما هزّ عطفى بالهجان الأوارك «1» قليل التّشكّى للملّم يصيبه ... كثيرا الهوى شتّ النّوى والمسالك يظلّ بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك «2» ويسبق وفد الرّيح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شده المتدارك إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالىء من قلب شيحان فاتك «3» إذا طلعت أولى العدو فنفره ... إلى سلّة من صارم الغرب باتك ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى ضربة من حدّ أخلق صائك «4» إذا هزّه في عظم قرن تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدى ... بحيث اهتدت أمّ النجوم الشّوابك «5» وأهدى عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرسا من سوابق خيل مصر، فعرضت عليه، وعنده عقبة بن سنان بن يزيد الحارثى، فقال له معاوية: كيف ترى هدايانا يا أبا سعيد؟ فإن أخاك عمرا قد أطنب في وصفها، فقال: أراها يا أمير المؤمنين على ما وصف، وإنها لمخيّلة «6» بكلّ خير؛ إنها لسامية العيون، لاحقة البطون، مصغية الآذان، قبّاء الأسنان «7» ، ضخام الرّكبات، مشرفات

الحجبات «1» ، رحاب المناخر، صلاب الحوافر، وقعها تحليل، ورفعها تعليل «2» فهذه إن طلبت سبقت، وإن طلبت لحقت. قال له معاوية: اصرفها إلى رحلك؛ فإنّ بنا عنها غنى، وبفتيانك إليها حاجة. وقال النابغة الجعدىّ: وإنّا أناس لا نعوّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا وننكر يوم الرّوع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا «3» فليس بمعروف لنا أن نردّها ... صحاحا، ولا مستنكر أن تعقّرا وقال بعض العرب: ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل «4» فدعوا: نزال! فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ووصف أعرابى فرسا فقال: لما أرسلت الخيل جاءوا بشيطان في أشطان «5» ، فأرسلوه، فلمع لمع البرق، واستهلّ استهلال الودق «6» ، فكان أقربهم إليه الذى يقع عينه من بعد عليه. وذكر أعرابى رجلا فقال: عنده فرس طويل العذار، أمين العثار؛ فكنت إذا رأيته عليه ظننته بازيا على مربأ، عليه رمح طويل يقصّر به الآجال. وقال بعض المحدثين في هذا التطابق: لقيناهم بأرماح طوال ... تبشّرهم بأعمار قصار

ووصف أعرابى خيلا لبنى يربوع فقال: خرجت علينا خيل من مستطير نقع «1» ، كأن هواديها أعلام، وآذانها أقلام، وفرسانها أسود آجام «2» . ولما أنشد العمّانى الرشيد يصف فرسا: كأنّ أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة أو قلما محرّفا ولحن، ففهم ذلك أكثر من حضر؛ فقال الرشيد: اجعل مكان «كأن» تخال، فعجبوا لسرعة تهدّيه. وللطائيين في هذا النوع أشعار كثيرة منعنى من اختبارها كثرة اشتهارها؛ وسأنشد بعض ذلك، قال أبو تمام: ما مقرب «3» يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق «4» بحوافر حفر وصلت أصلت «5» ... وأشاعر شعر «6» وخلق أخلق ذو أولق تحت العجاج، وإنّما ... من صحة إفراط ذاك الأولق» صافى الأديم كأنما ألبسته ... من سندس بردا ومن إستبرق إمليسة إمليدة لو علّقت ... فى صهوتيه العين لم تتعلّق «8» مسود شطر مثل ما اسودّ الدجى ... مبيضّ شطر كابيضاض المهرق «9»

وقال أبو عبادة: وأغرّ في الزّمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل «1» وافى الضلوع يشدّ عقد حزامه ... يوم اللقاء على معمّ مخول يهوى كما هوت العقاب إذا رأت ... صيدا وينتصب انتصاب الأجدل «2» متوحّش بدقيقتين كأنما ... تريان من ورق عليه موصّل «3» كالرائح النّشوان أكثر مشيه ... عرض على السّنن البعيد الأطول ويظنّ ريعان الشباب يروعه ... من نشوة أو جنّة أو أفكل «4» هزج الصهيل كانّ في نبراته ... نغمات معبد في الثّقيل الأوّل تتوهّم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرة وجهه المتهلّل صافى الأديم كأنّما عنيت له ... بصفاء نقبته مداوك صيقل «5» وكأنما كسى الخدود نواعما ... مهما تلاحظها بلحظ يخجل وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان «6» أو قطرّ بل «7»

ملك العيون؛ فإن بدا أعطينه ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل وقال إسحاق بن خلف النهروانى لأبى دلف، وكان له فرس أدهم يسميه غرابا: كم كم تجرّعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك له الفم من كل منبت شعرة من جلده ... خطّ ينمّقه الحسام المخذم «1» ما تدرك الأرواح أدنى جريه ... حتى يفوت الريح وهو مقدّم رجعته أطراف الأسنّة أشقرا ... واللون أدهم حين ضرّجه الدّم وكأنما عقد النّجوم بطرفه ... وكأنّه بعرى المجرّة ملجم وقال أبو الطيب: جفتنى كأنّى لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشّهب في صور الدّهم وقال أبو الفتح كشاجم: قد راح تحت الصّبح ليل مظلم ... إذ لاح في السّرج المحلّى الأدهم ديباج ألوان الجياد، ولم يكن ... ليخصّ بالديباج إلّا الأكرم ضحك اللّجين على سواد أديمه ... وكذا الظلام تنير فيه الأنجم فكأنه ببنات نعش ملبب ... وكأنّما هو بالثريّا ملجم قلت: هذا من قول ابن المعتزّ: ألا فاسقيانى والظلام مقوّض ... ونجم الدّجى تحت المغارب يركض

كأنّ الثريا في أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضض وقال أبو الفتح: من شكّ في فضل الكميت فبينه ... فيه وبين يقينه المضمار فى منظر مستحسن محمودة ... أخباره إذ تبتلى الأخبار ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر فيه فنار وإذا عطفت به على ناورده ... لتديره فكأنّه بركار وصف الخلوق أديمه فكأنّما ... أهدى الخلوق لجلده عطار «1» قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرّسغ، وهي من العتاق قصار وكأنما هاديه جذغ مشرف ... وكأنما للضبع فيه وجار «2» يرد الضّحاضح غير ثانى سنبك ... ويرود طرفك خلفه فتحار «3» لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... حاكته من أشكالها الأطيار وقال ابن المعتز: وخيل طواها القود حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبّل صببنا عليها- ظالمين- سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل قوله: «ظالمين» من أبدع حشو جرى في بيت، وكأنّ ابن المعتز أشار إلى قول أعرابى مولد: وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقى من معاهدها ذكر «4» فقلت له: ذلفاء- ويحك! - سبّبت ... لك الضّرب، فاصبر إن عادتك الصّبر «5» وقال ابن المعتر: أراجعتى فداك بأعوجىّ ... كقدح النّبع في الرّيش الّلؤام «6»

بأدهم كالظّلام أغرّ يجلو ... بغرّته دياجير الظّلام ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في جوّ الغمام وقال أيضا: قد أغتدى والصّبح كالمشيب ... فى أفق مثل مداك الطّيب بقارح مسوّم يعبوب ... ذى أذن كخوصة العسيب «1» أو آسة أوفت على قضيب ... يسبق شاو النظر الرّحيب أسرع من ماء إلى تصويب ... ومن رجوع لحظة المريب «2» وقال: ربّ ركب عرّسوا ثم هبّوا ... نحو إسراج وشدّ رحال وعدونا بأعنّة خيل ... تأكل الأرض بأيد عجال زينتها غرر ضاحكات ... كبدور في وجوه ليال وقال على بن محمد الإيادى: مسح الظلام بعرفه يده ... ومشى فقبّل وجهه البدر وقال الناشىء أبو العباس عبد الله بن محمد: أحوى عليه مسائح من ليطة ... شهب تسيل على نواشر ساقه «3» فكأنه متلفّع قبطيّة ... أئناؤها مشدودة بنطاقه فسواده كالّليل في إظلامه ... وبياضه كالصّبح في إشراقه صافى الأديم كريمة أنسابه ... أخلاقه عين على أعراقه

كتب أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبى إلى الأمير أبى الفضل عبد الله بن أحمد بن ميكال، وقد زاره الأمير في داره: لا زال مجدك للسّماك رسيلا ... وعلوّ جدّك بالخلود كفيلا «1» يا غرّة الزمن البهيم إذا غدا ... أهل العلا لزمانهم تحجيلا يا زائرا مدّت سحائب طوله ... ظلّا علىّ من الجمال ظليلا وأتت بصوب جواهر من لفظه ... حتى انتظمن لمفرقى إكليلا بأبى وغير أبى هلال نوره ... يستعجل التسبيح والتهليلا نقشت حوافر طرفه في عرصتى ... نقشا محوت رسومه تقبيلا ولو استطعت فرشت مسقط خطوه ... بعيون عين لا ترى التّكحيلا ونثرت روحى بعد ما ملكت يدى ... وخررت بين يدى هواه قتيلا وقال أبو القاسم بن هانىء يصف خيل المعز: له المقربات الجرد ينعلها دما ... إذا فرعت هام الكماة السّنابك يريق عليها اللؤلؤ الرطب ماءه ... ويسبك فيها ذائب التّبرسابك صقيلات أجسام البروق كأنما ... أمرّت عليها بالشموس المداوك وقال يصف فرسا لجعفر بن على بن حمدون: تهلّل مصقول النواحى كأنه ... إذا جال ماء الحسن فيه غريق من البهم ورد اللون شيب بكمتة ... كما شيب بالمسك الفتيق خلوق «2» فلو ميز منه كلّ لون بذاته ... جرى سبج منه وذاب عقيق «3» وقال في قصيدة يمدح بها أبا الفرج الشيبانى: فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدّكم فلق الصّباح المسفر

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنّصر من ورق الحديد الأخضر أبنى العوالى السّمهريّة والسيو ... ف المشرفيّة والعديد الأكثر من منكم الملك المطاع كأنّه ... تحت السّوابغ تبّع في حمير القائد الخيل العتاق شوازبا ... خزرا إلى لحظ السّنان الأخزر «1» شعث النّواصى حسرة آذانها ... قبّ الأياطل داميات الأنسر «2» تنبو سنابكهن عن عفر الثرى ... فيطأن في خدّ العزيز الأصعر «3» فى فتية صدأ الحديد عبيرهم ... وخلوقهم علق النّجيع الأحمر «4» لا يأكل السّرحان شلو عقيرهم ... مما عليه من القنا المتكسّر «5» وقال في قصيدة يمدح بها إبراهيم بن جعفر بن على: فخر لطرف أعوجى أنت فى ... صهواته والحسن والتّطهيم «6» يبدى لعزّك نخوة، فكأنّه ... ملك تدين له الملوك عظيم هاد على الخيل العتاق، كأنّه ... بين الدّجنّة والصباح صريم «7»

سامى القذال بمسمعيه عيافة ... تحت الدّجى ولطرفه تنجيم «1» أذن مؤلّلة، وقلب أصمع ... وحشا أقبّ، وكلكل ماموم «2» فالطّود من صهواته متزلزل ... والجيش من أنفاسه مهزوم خرق العيون فضلّ عنها لونه ... وصفا فقلنا ما عليه أديم فكأنما جمدت عليه مزنة ... وابحاب عنه عارض مركوم «3» وكأنما نحرت عليه بوارق ... وكأنما كسفت عليه نجوم وكأنّك ابن المنذر النعمان فو ... ق سراته، وكأنه اليحموم «4» وقال على بن محمد الإيادى يصف فرس أبى عبد الله جعفر بن أبى القاسم القائم: وأقبّ من لحق الجياد، كأنه ... قصر تباعد ركنه من ركنه «5» لبست قوائمه عصائب فضّة ... وغدت بسمر صفا المسيل ودكنه وكأنما انفجر الصّباح بوجهه ... حسنا، أو احتبس الظلام بمتنه «6» قيد العيون إذا بصرن بشخصه ... ورضا القلوب إذا اصطلين بضغنه متسيطر بالراكبين، كأنّه ... باز تروح به الجنوب لوكنه «7»

يستوقف اللحظات في خطراته ... بكمال خلقته ودقّة حسنه حلو الصّهيل تخال في لهواته ... حاد يصوغ بدائعا من لحنه «1» متجبّر ينبى بعتق نجاره ... إشراف كاهله ودقّة أذنه «2» ذو نخوة شمخت به عن ندّه ... وشهامة طمحت به عن قرنه «3» وكأنّه فلك إذا حرّكته ... جار على سهل البلاد وحزنه قد راح يحمل جعفر بن محمد ... حمل النسيم لوابل من مزنه وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبى: ويوم كلون العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشّمس أيّان تغرب «4» وعينى إلى أذنى أغرّ كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب «5» له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجىء على صدر رحيب وتذهب «6» شققت به الظّلماء، أدنى عنانه ... فيطغى، وأرخيه مرارا فيلعب «7» وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب «8» وما الخيل إلا كالصّديق قليلة ... وإن كثرت في عبن من لا يجرّب إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب «9»

وينخرط في سلك هذا المعنى مقامة «1» من مقامات الإسكندرى في الكدية «2» مما أنشأه بديع الزمان وأملاه في شهور سنة خمس وثمانين وثمانين وثلاثمائة. قال البديع: حدّثنا عيسى بن هشام قال: حضرنا مجلس سيف الدولة يوما وقد عرض عليه فرس متى ما ترقّ العين فيه تسهّل «3» فلحظته الجماعة؛ فقال سيف الدولة: أيكم أحسن صفته، جعلته صلته؛ فكلّ جهد جهده، وبذل ما عنده؛ فقال أحد خدمه: أصلح الله الأمير! رأيت بالأمس رجلا يطأ الفصاحة بنعليه «4» ، وتقف الأبصار عليه، يسلّى الناس، ويشفى الياس، ولو أمر الأمير بإحضاره، لفضلهم بحضاره «5» . فقال سيف الدولة: علىّ به في هيئته، فصار الخدم في طلبه، فجاءوا للوقب به، ولم يعلموه لأىّ حال دعي به، ثمّ قرّب واستدنى، وهو في طمرين قد أكل الدهر عليهما وشرب «6» ، وحين حضر السّماط، لثم البساط، ووقف. فقال سيف الدولة: بلغتناعنك عارضة «7» ، فاعرضها في هذا الفرس وصفه. فقال: أصلح الله الأمير! كيف به قبل ركوبه ووثوبه، وكشف عيوبه [وغيوبه] ؟ فقال: اركبه، فركبه وأجراه، ثم قال: أصلح الله الأمير! هو طويل الأذنين،

قليل الاثنين، واسع المراث «1» ، ليّن الثّلاث، غليظ الأكرع «2» ، غامض الأربع، شديد النّفس، لطيف الخمس، ضيق القلت «3» ، رقيق السّتّ، حديد السّمع، غليظ السّبع، رقيق اللسان «4» ، عريض الثّمان، شديد الضّلع «5» ، قصير التّسع، واسع السّحر «6» ، بعيد العشر، يأخذ بالسّابح، ويطلق بالرّامح، ويطلع بلائح، ويضحك عن قارح، يحزّ وجه الكديد «7» ، بمداقّ الحديد، يحضر كالبحر إذا ماج، والسيل إذا هاج. فقال سيف الدولة: لك الفرس مباركا فيه. فقال: لا زلت تأخذ الأنفاس، وتمنح الأفراس، ثم انصرف، وتبعته، وقلت: لك علىّ ما يليق بهذا الفرس من خلعة إن فسّرت ما وصفت، فقال: سل عما أحببت فقلت: ما معنى قولك: بعيد العشر؟ فقال: بعيد النظر، والخطو، وأعالى الجنبين «8» ، وما بين الوقبين والجاعرتين، وما بين الغرابين، والمنخرين، وما بين الرّجلين، وما بين النقبة والصّفاق، وبعيد القامة في السباق. فقلت: لا فضّ فوك! فما معنى قولك: قصير التّسع؟ قال: هاك: قصير الشّعرة، قصير الأطرة، قصير العسيب، قصير القضيب، قصير العضدين، قصير الرّسغين، قصير النّسا، قصير الظّهر، قصير الوظيف. فقلت: لله أنت! فمات معنى قولك: عريض الثّمان؟ قال: عريض الجبهة، عريض الصّهوة، عريض الكتف، عريض الجنب، عريض الورك، عريض العصب، عريض البلدة، عريض صفحة العنق. فقلت: أحسنت، فما معنى قولك: غليظ السّبع؟ قال: غليظ الذراع،

غليظ المحزم، غليظ العكوة، غليظ الشّوى، غليظ الرّسغ، غليظ الفخذين، غليظ الحبال «1» . فقلت: لله درّك! فما معنى قولك: رقيق الستّ؟ فقال: رقيق الجفن، رقيق السّالفة، رقيق الجحفلة، رقيق الأديم، رقيق أعلى الأذنين، رقيق الغرضين «2» . فقلت: أجدت، فما معنى قولك: لطيف الخمس؟ قال: لطيف الزّور، لطيف النّسر، لطيف الجبّة، لطيف العجاية، لطيف الرّكبة. فقلت: حياك الله! فما معنى قولك: غامض الأربع؟ قال: غامض أعالى الكتفين، غامض المرفقين، غامض الحجاجين، غامض الشّظى. قلت: فما معنى قولك: ليّن الثلاث؟ قال: ليّن المردغتين، ليّن العرف، ليّن العنان قلت: فما معنى قولك: قليل الاثنين؟ قال: قليل لحم الوجه، قليل لحم المتنين. قلت فمن أين نبات هذا العلم؟ قال: من الثغور الأموية، وبلاد الإسكندرية. فقلت له: أنت مع هذا الفضل، تعرّض وجهك لهذا البذل؟! فأنشأ يقول: ساخف زمانك جدّا ... فالدهر جدّ سخيف دع الحميّة نسيا ... وعش بخير وريف وقل لعبدك هذا ... يجئ لنا برغيف سقط عنا تفسيره فى «ليّن الثلاث» «3» ، وأكثر هذا التفسير يحتاج إلى

تفسير، ولم يرد بما أورد إفهام العوامّ، والبلاغة لمحة دالة، وبلاغة النتر أخت بلاغة الشعر؛ وقد قال البحترى: والشعر لمح تكفى إشارته ... وليس بالهذر طوّلت خطبه وسأقول في شرحه بكلام وجيز زيادة في الإفادة: الوقبان: نقرتان فوق العينين. والجاعرتان من الفرس: موضع الرّقمتين من الحمار، وهما منتهى ضربه بذنبه إذا حرّكه. والغرابان: الناتئان من أعلى الوركين، وذكر النقبة هنا، وهو الذى يعرف بالمنفب، وهو من السّرّة حيث ينقب البيطار. والصّفاق: الخاصرة، وقد قيل: جلد البطن كلّه صفاق، والذى أراده الخاصرة. وأراد ببعد القامة في السباق امتداده إذا جرى مع الأرض. والأطرة هنا: طرف الابهر، وهي طفطفة غليظة. والأبهر: عرق يستبطن الظّهر، فيتّصل بالقلب، وقيل: هو الأكحل. والعسيب: عظم الذنب. والرّسغ من الفرس: موضع القيد. والنّسا: عرق مستبطن الفخذين، وقصره محمود في جرى الفرس، ولكنه لا يسمح بالمشى. والوظيف لكل ذى أربع: ما فوق الرّسغ إلى الساق. والصّهوة: الظهر. والبلدة: ما بين عينيه. والعكوة: مغرز الذّنب. والشّوى: الأطراف. والحبال: حبلا العاتق والظّهر. والجحفلة من ذوات الحافر: كالشفة من الإنسان. والغرضان من الفرس: ما انحدر من قصبة الأنف من جانبيها والزور: الصدر. والنّسر في الحافر: لحمة يابسة أسفله يشبهها الشعراء بالنّوى. والجبّة: التى فيها الحوشب. والحوشب: حشو الحافر. والعجاية: عصب في قوائم الفرس والبعبر مركّب فيه فصوص من عظام كأمثال الكعاب تكون عند الرّسغ. والحجاجان: العظمان المطيفان بالعين. والشّظى: عظم لاصق بالذراع. والمتنان: جانبا الظهر؛ وسقط عنّا تفسير الثّلاث من نفس المقامة «1» .

[قولهم في الوعد ومنزلة إنجازه]

[قولهم في الوعد ومنزلة إنجازه] قال الجاحظ: قال أبو القاسم بن معن المسعودى لعيسى بن موسى: أيّها الأمير؛ ما انتفعت بك منذ عرفتك، ولا إلى خير وصلت منك منذ صحبتك، فقال: ولم؟ ألم أكلّم لك أمير المؤمنين في كذا وكذا؟ قال: بلى! فهل استنجزت ما وعدت، وعاودت ما ابتدأت؟ فقال: حالت دون ذلك أمور قاطعة، وأحوال عاذرة. قال: أيّها الأمير، فما زدتنى على أن نبّهت الهمّ من رقدته، وأثرت الحزن من ربضته، إنّ الوعد إذا لم يصحبه إنجاز يحقّقه كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه. وكلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل، فقال: عده قضاءها. قال: فقلت: أصلحك الله! وما يدعوك إلى العدة مع وجود القدرة؟ فقال: هذا قول من لا يعرف موضع الصّنائع من القلوب، إنّ الحاجة إذا لم يتقدّمها موعد ينتظر به نجحها لم تتجاذب الأنفس سرورها؛ إنّ الوعد تطعّم والإنجاز طعام؛ وليس من فاجأه طعام كمن وجد رائحته، وتمطّق به، وتطعمّه ثم طعمه؛ فدع الحاجة تختم بالوعد؛ ليكون بها عند المصطنع حسن موقع، ولطف محلّ. ووعد المهدىّ عيسى بن دأب جارية، ثم وهبها له، فأنشده عبد الله بن مصعب الزبيرى معرّضا يقول مضرّس الأسدى: فلا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدما بين أيد تبادره فضحك المهدى، وقال: ادفعوا إلى عبد الله فلانة، لجارية أخرى؛ فقال عبد الله بن مصعب: أنجز خير الناس قبل وعده ... أراح من مطل وطول كدّه فقال ابن دأب: ما قلت شيئا، هلّا قلت:

حلاوة الفضل بوعد ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز فقال المهدى: الوعد أحسن ما يكو ... ن إذا تقدّمه ضمان وقد قال أبو قابوس النصرانى يمدح يحيى بن خالد: رأيت يحيى، أتمّ الله نعمته ... عليه، يأتى الّذى لم يأته أحد ينسى الّذى كان من معروفه أبدا ... إلى الرّجال، ولا ينسى الذى يعد وقال أبو الطيب المتنبى: قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم كأنما يولد النّدى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم إذا تولّوا عداوة كشفوا ... وإن تولّوا صنيعة كتموا تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا «1» ودخل أبو علىّ البصير على الفضل بن يحيى، فأنشده: وصف الصدّ لمن أهوى فصد ... وبدا يمزح بالهجر. فجدّ ماله يعدل عنّى وجهه ... وهو لا يعد له عندى أحد لا تريدوا غرّة الفضل، ومن ... يطلب الغرّة في خيس الأسد «2» ملك ندفع ما نخشى به ... وبه نصلح منّا ما فسد ينجز الناس إذا ما وعدوا ... وإذا ما أنجز الفضل وعد وقال ابن الرومى في هذا المعنى: له مواعد بالخيرات بادرة ... لكنها تسبق الميعاد بالصّفد «3» يعطيك في اليوم حقّ اليوم مبتدئا ... ولا يضيّع بعد اليوم حقّ غد

[من عرف قدر النعمة استدامها]

[من عرف قدر النعمة استدامها] خطب سليمان بن عبد الملك فقال: أيها الناس، من لم يعلم أبواب مدخله فى الكرامة، وجهل طريقته التي وقعت به على النّعمة كان بعرض رجوع إلى دار هوان، وانقلاب بفادح خسران. فقام إليه أبو وائلة السدوسى، وهو حاجبه، فقال: يا أمير المؤمنين كنا كما قال الله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، ثم صرنا كما قال زهير: يد الملك الجليل تناولتهم ... بإحسان فليس لها مزيل لأنّ الخير أجمع في يديه ... وربّى بالجزاء له كفيل فقال سليمان: هذه والله المعرفة بقدر النّعمة، والعلم بما يجب للمنعم. ورؤى يونس بن المختار في دار المأمون، ومرتبته في أعلى مراتب بنى العباس، قاعدا على الأرض، فقال الحاجب: ارتفع يا أبا المعلّى إلى مرتبتك، قال: قد رفعنى الله إليها بأمير المؤمنين، وليس لى عمل يفى بها، فلم لا أكرمها عن القعود عنها «1» إلى أن يتهيّأ لى الشكر عليها؟ فبلغ الكلام المأمون؛ فقال: هذا والله غاية الشكر، وبمثله تدرّ النّعم. وقال رجل للمعلّى بن أيوب، وقد رفعه المعتصم إلى مرتبة أهل بيته: ما يزيدك التقريب إلا تباعدا. فقال: يا هذا؛ إنى أصون تقريبه إياى بتباعدى منه؛ لئلا تفسد حرمتى عنده بقلّة الشكر على نعمته. ولما استعان المنصور بالحارث بن حسّان قال له: يا حارث؛ إنّى قد مكّنتك من حسن رأيى فيك، فاحفظه بترك إغفال ما يجب عليك! قال: يا أمير

المؤمنين، من أغفل سبب حلول النعمة، ولها عن الحال التي أصارته إليها، استصحب الياس من نيل مثلها، وانقطع رجاؤه من الزيادة فيها، فقال أبو جعفر: من كانت عنده هذه المعرفة دامت النعمة له، وبقى الإحسان إليه. ولما قال المأمون لعبد الله بن طاهر عند قدومه من مصر: ما سرّنى الله مند ولّيت الخلافة بشىء عظم موقعه عندى، بعد جميل عافية الله، هو أكثر من سرورى بقدومك، فقال عبد الله: إيذن لى يا أمير المؤمنين في تفريق أموالى من طارف وتالد. قال: ولم؟ قال: شكرا على هذه الكلمة؛ وإلا قصّر بى الحياء عن النظر إلى أمير المؤمنين، فقال المأمون لمن حضر من أهل بيته وقوّاده: ما شىء من الخلافة يفى لعبد الله ببعض شكره. وقال أبو نواس: قد قلت للعباس معتذرا ... عن ضعف شكريه ومعترفا أنت امرؤ جللتنى نعما ... أوهت قوى شكرى فقد ضعفا «1» فإليك منى اليسوم تقدمة ... تلقاك بالتّصريح منكشفا لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا عارضه الناشىء واعترض معناه، فقال: إن أنت لم تحدث إلىّ يدا ... حتى أقوم بشكر ما سلفا لم أحظ منك بنائل أبدا ... ورجعت بالحرمان منصرفا وقال ابن الرومى: عاقنا أن نعود أنّك أوليت ... أمورا يضيق عنها الجزاء غمرتنا منك الأيادى اللّواتى ... ما لمعشارها لدينا كفاء

ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبر

فنهانا عنك الحياء طويلّا ... ثمّ قد ردّنا إليك الحياء ولما حقّ إن قربت التّنائى ... ولما حقّ إن برزت الجفاء غير أنّا أنضاء شكر أريحت ... وقديما أريحت الأنضاء «1» ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبر عندى من برّه ما ملك الاعتذار بأزمّته، وقبض ألسنة أمراء الكلام وأئمّته. عندى له مبارّ «2» أعجزنى شكرها، كما أعوزنى حصرها. شكره شأو بعيد له تبلغه أشواطى، ولا أتلافى التفريط في حقّه بإفراطى. إحسانه يعيد العرب عجما، والفصحاء بكما. قد زحمنى من مكارمه ما يحصر عنه المبين، ويصحبه العىّ وبئس القرين «3» . وقال أعرابى: رهنت يدى بالعجز عن شكر برّه ... وما فوق شكرى للشكور مزيد ولو كان شيئا يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد وقال يحيى بن أكثم: كنت عند المأمون، فأتى برجل ترعد فرائصه «4» ؛ فلما مثل بين يديه قال المأمون: كفرت نعمتى، ولم تشكر معروفى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ وأين يقع شكرى في جنب ما أنعم الله بك علىّ، فنظر إلىّ المأمون وقال متمثّلا: ولو كان يستغنى عن الشكر ماجد ... لرفعة قدر أو علوّ مكان لما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لى أيّها الثّقلان

ثم التفت إلى الرجل فقال: هلّا قلت كما قال أصرم بن حميد: ملكت حمدى حتى إنّنى رجل ... كلّى بكل ثناء فيك مشتغل خوّلت شكرى لما خوّلت من نعم ... فحرّ شكرى لما خوّلتنى خول «1» وقال أبو الفتح البستى: لئن عجزت عن شكر برّك قوّتى ... وأقوى الورى عن شكر برّك عاجز فإنّ ثنائى واعتقادى وطاقتى ... لأفلاك ما أو ليتنها مراكز وقال أبو القاسم الزعفرانى: لى لسان كأنه لى معادى ... ليس ينبى عن كنه ما في فؤادى حكم الله لى عليه فلو أن ... صف قلبى عرفت قدر ودادى وقال إسماعيل بن القاسم، أبو العتاهية، يمدح عمر بن العلاء: إنى أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حرّ الوجوه نعالا ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمر، ولو يوما تزول لزالا إنّ المطايا تشتكيك لأنّها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا فإذا وردن بنا وردن مخفّة ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا وهي قصيدة سهلة الطبع، سلسلة النظام، قريبة المتناول. وروى أنّ عمر بن العلاء وصله عليها بسبعين ألف درهم، فحسدته الشعراء، وقالوا: لنا بباب الأمير أعوام نخدم الآمال، ما وصلنا إلى بعض هذا! فاتصل ذلك به، فأمر بإحضارهم، فقال: بلغنى الذى قلتم؛ وإنّ أحدكم يأتى فيمدحنى بالقصيدة يشبّب فيها فلا يصل إلى المدح حتى تذهب لذّة حلاوته، ورائق طلاوته؛

وإنّ أبا العتاهية أتى فشبب بأبيات يسيرة، ثم قال: إنّ المطايا تشتكيك لأنّها ... وأنشد الأبيات. وكان أبو العتاهية لمّا مدحه بهذا الشعر تأخّر عنه برّه قليلا، فكتب إليه يستبطئه: أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغى التمائم والنّشر «1» أصابتك عين في سخائك صلبة ... ويا ربّ عين صلبة تفلق الحجر سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسّور وقال: يابن العلاء ويابن القرم مرداس ... إنى مدحتك في صحبى وجلّاسى «2» أثنى عليك ولى حال تكذّبنى ... فيما أقول فأستحيى من النّاس حتى إذا قيل: ما أولاك من صفد ... طأطأت من سوء حالى عندها راسى «3» فأمر حاجبه أن يدفع إليه المال، وقال: لا تدخله علىّ، فإنى أستحيى منه. وذكر بعض الرواة أنّ المهدى خرج متصيّدا، فسمع رجلا يتغنّى من القصيدة التى مرّت منها الأبيات في عمر بن العلاء آنفا: يا من تفرّد بالجمال فما ترى ... عينى على أحد سواه جمالا أكثرت في قولى عليك من الرّقى ... وضربت في شعرى لك الأمثالا فأبيت إلّا جفوة وقطيعة ... وأبيت إلّا نخوة ودلالا بالله قولى إن سألتك واصدقى ... أوجدت قتلى في الكتاب حلالا أم لا، ففيم جفوتنى وظلمتنى ... وجعلتنى للعالمين نكالا كم لائم لو كنت أسمع قوله ... قد لامنى ونهى وعدّ وقالا

[من أخبار أبى العتاهية]

فقال المهدىّ: علىّ به، فجاءه، فقال: لمن هذا الشعر؟ قال: لإسماعيل ابن القاسم أبى العتاهية، قال: لمن يقوله؟ قال: لعتبة جارية المهدى، قال: كذبت، لو كانت جاريتى لوهبتها له، وكانت عتبة لريطة بنت أبى العباس السفاح، وكان أبو العتاهية قد بلغ من أمرها كل مبلغ، وكلّ ذلك فيما زعم الرواة تصنّع، وتخلّق؛ ليذكر بذلك. [من أخبار أبى العتاهية] قال يزيد [بن] حوراء المغنى: كلّمنى أبو العتاهية أن أكلّم المهدى في عتبة؛ فقلت: إنّ الكلام لا يمكننى، ولكن قل شعرا أغنيه إياه، فقال: نفسى بشىء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهدىّ يكفيها إنّى لأيأس منها ثم يطمعنى ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها فعملت فيه لحنا وغنّيته المهدى؛ فقال: لمن هذا؟ فأخبرته خبر أبى العتاهية، فقال: ننظر في أمره، فأخبرت بذلك أبا العتاهية؛ فمكث أشهرا، ثم أتانى فقال: هل حدث خبر؟ فقلت: لا، فقال: غنّه بهذا الشعر: ليت شعرى ما عندكم ليت شعرى ... إنّما أخّر الجواب لأمر ما جواب أولى بكلّ جميل ... من جواب يردّ من بعد شهر قال يزيد: فغنّيت به المهدى، فقال: علىّ بعتبة، فأحضرت، فقال: إنّ أبا العتاهية كلّمنى فيك، وعندى لك وله ما تحبّان؛ فقالت له: قد علم مولاى أمير المؤمنين ما أوجبه من حق مولاتى، فأريد أن أذكر لها ذلك؛ قال: فافعلى؛ فأعلمت أبا العتاهية بما جرى، ومضت الأيام؛ فسألنى معاودة المهدى، فقلت له: قد عرفت الطريق فقل ما شئت حتى أغنيه، فقال: أشربت قلبى من رجائك ماله ... عنق إليك يخبّ بى ورسيم «1»

وأملت نحو سماء صوبك ناظرى ... أرعى مخايل برقها وأشيم «1» ولقد تنسّمت الرياح لحاجتى ... وإذا لها من راحتيك نسيم ولربما استيأست ثم أقول: لا ... إنّ الذى ضمن النجاح كريم فغنيته بالشعر، فقال: علىّ بعتبة، فأتت؛ فقال: ما صنعت؟ قالت: ذكرت ذلك لمولاتى فأبته وكرهته، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد، فقال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه، فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال: قطّعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حلّ ومن ترحال ما كان اشأم إذ رجاؤك قادنى ... وبنات وعدك يعتلجن ببالى ولئن طمعت لربّ برق خلّب ... مالت بذى طمع ولمعة آل «2» وقد نقلت هذه الحكاية على غير هذا الوجه، والله أعلم بالحقّ في ذلك. وضرب المهدى أبا العتاهية مائة سوط لقوله: ألا إنّ ظبيا للخليفة صادنى ... ومالى على ظبى الخليفة من عدوى وقال: أبى يتمرّس «3» ، ولحرمى يتعرّض، وبنسائى يعبث؟ ونفاه إلى الكوفة. وفي ضربه يقول أبو دهمان: لولا الّذى أحدث الخليفة ... للعشاق من ضربهم إذا عشقوا لبحت باسم الذى أحبّ، ول ... كنّى امرؤ قد ثنانى الفرق «4»

وكان أبو العتاهية بالكوفة لما نفى يذكر عتبة، ويكنّى باسمها، فمن ذلك قوله: قل لمن لست أسمّى ... بأبى أنت وأمّى بأبى أنت لقد أص ... بحت من أكبر همّى ولقد قلت لأهلى ... إذ أذاب الحبّ لحمى وأرادوا لى طبيبا ... فاكتفوا منّى بعلمى: من يكن يجهل ما ألقى ... فإنّ الحبّ سقمى إنّ روحى لببغدا ... د، وفي الكوفة جسمى وقوله: أمسى ببغداد ظبى لست أذكره ... إلّا بكيت إذا ما ذكره خطرا إنّ المحبّ إذا شطّت منازله ... عن الحبيب بكى أو حنّ أو ذكرا يا رب ليل طويل بتّ أرقبه ... حتى أضاء عمود الصّبح فانفجرا ما كنت أحسب إلّا مذ عرفتكم ... أنّ المضاجع ممّا تنبت الإبرا واللّيل أطول من يوم الحساب على ... عين الشّجىّ إذا ما نومه نفرا ولما قدمت عتبة ببغداد قدم معها أبو العتاهية، وتلطّف حتى اتّصل بالرشيد في خلافة أبيه المهدى؛ وتمكّن منه، وبلغ المهدىّ خبره، فأحضره؛ فقال: يا بائس؛ أنت مستقتل، وسأله عن حاله؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها: أنت المقابل والمدا ... بر في المناسب والعديد بين العمومة والخئو ... لة والأبوّة والجدود فإذا انتميت إلى أبي ... ك فأنت في المجد المشيد وإذا انتمى خال فما ... خال بأكرم من يزيد

يريد يزيد بن منصور؛ وكانت أم المهدىّ أم موسى بنت منصور الحميرى وأنشده: علم العالم أنّ المنايا ... سامعات لك فيمن عصاكا فإذا وجّهتها نحو طاغ ... رجعت ترعف منه قناكا «1» ولو أنّ الريح بارتك يوما ... فى سماح قصّرت عن نداكا وأنشده: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها ولو لم تطعه بنات القلوب ... لما قبل الله أعمالها فقال له المهدى: إن شئت أدّبناك بضرب وجيع؛ لإقدامك على ما نهيت عنه، وأعطيناك ثلاثين ألف درهم جائزة على مدحك لنا. وإن شئت عفونا عنك فقط. فقال: بل يضيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميل معروفه؛ ومكرمتان أكثر من واحدة، وأمير المؤمنين أولى من شفع نعمته وأتمّ كرمه. فأمر له بثلاثين ألف درهم وعفا عنه. ولما قدم الرشيد الرّقّة أظهر أبو العتاهية الزّهد والتصوف وترك الغزل، فأمره الرشيد أن يتغزّل، فأبى، فحبسه، فغنّى بقوله: خليلىّ مالى لا تزال مضرّتى ... تكون على الأقدار حتما من الحتم كفاك بحقّ الله ما قد ظلمتنى ... فهذا مقام المستجير من الظلم ألا في سبيل الله جسمى وقوّتى ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمى

فأمر بإحضاره وقال: بالأمس ينهاك أمير المؤمنين المهدى عن الغزل، فتأبى إلّا لجاجا ومحكا؛ واليوم آمرك بالقول فتأبى جرأة علىّ وإقداما، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الحسنات يذهين السيئات، كنت أقول الغزل ولى شباب وجدة، وبى حراك وقوّة، وأنا اليوم شيخ ضعيف لا يحسن بمثلى تصاب؛ فردّه إلى حبسه؛ فكتب إليه: أنا اليوم لى، والحمد لله، أشهر ... يروح علىّ الغمّ منك ويبكر تذكّر، أمين الله، حقّى وحرمتى ... وما كنت تولينى، لعلّك تذكر ليالى تدنى منك بالقرب مجلسى ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر فمن لى بالعين التي كنت مرة ... إلىّ بها من سالف الدّهر تنظر فبعث إليه: لا بأس عليك؛ فقال: كأنّ الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس أمين الله إنّ الحبس بأس ... وقد وقّعت: ليس عليك باس فأخرجه. أخذ البيت الأول من هذين علىّ بن جبلة وزاد فيه، فقال لأبى غانم الطوسى: دجلة تسقى وأبو غانم ... يطعم من تسقى من النّاس والخلق جسم، وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الرّاس وكان عمر بن العلاء ممدّحا، وفيه يقول بشار بن برد: إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم دعانى إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضم

ولولا الذى ذكروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شم فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يسرب الماء إلّا بدم «1» أخذ هذا البيت أبو سعيد المخزومى «2» ، فقال: وما يريدون، لولا الجبن، من رجل ... بالليل مشتمل بالجمر مكتحل لا يضرب الماء إلا من قليب دم «3» ... ولا يبيت له جار على وجل وقال أبو الطيب: تعوّد ألّا تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق «4» ولا ترد الغدران إلّا وماؤها ... من الدّم كالرّيحان تحت الشّقائق «5» وقال أبو القاسم بن هانىء:

[رجع إلى عمر بن العلاء]

من لم ير الميدان لم ير معركا ... أشبا، ويوما بالأسنة أكهبا «1» وكتائبا تردى غواربها العدى ... وفوارسا تعدو صوالجها الظّبا لا يوردون الماء سنبك سابح ... أو يكتسى بدم الفوارس طحلبا «2» [رجع إلى عمر بن العلاء] قال: وبلغ عمر بن العلاء أن أبا العتاهية عاتب عليه في هنات نالها منه فى مجلس، وكان كثير الانقطاع إليه، فتخلّف عنه، فساء ذلك عمر، فكتب إليه: قد بلغنى الذى كان من تجنّبك فيما استخفّك به سوء الأدب عن علم حقيقة منى، فصرت متردّدا من العمى في يلاميع الشبهة «3» ؛ ولو كان معك من علمك داع إلى لقائى لكشفت لك مورد الأمر ومصدره، لترجع إلى الصّلة، فتقال أو تأبى إلا الصّريمة فتصرم؛ وقد قال الأول: ومستعتب أبدى على الظنّ عتبه ... وأخرج منه المحفظات غليل كشفت له عذرا فأبصر وجهه ... فعاد إلى الإنصاف وهو ذليل فأجابه أبو العتاهية: لم أجز بعتبى الحقيقة إلى الشبهة، ولم أجد سعة مع عظيم قدرتك إلى حمل اللائمة، فقصّر بى الخوف من سخطك، على ترك معاتبتك؛ لأنّ المعاتبة لا تجتنى إلّا من المساوى، ولو رغبت عن الصلة إلى القطيعة لتقاضيتك ذلك عن طول الصّحبة، وسالف المدّة، وأنا أقول: رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... وليس لمثلى بالملوك يدان وكنت امرأ أخشى العقاب وأتّقى ... مغبّة ما تجنى يدى ولسانى فهل من شفيع منك يضمن توبتى ... فإنى امرؤ أوفى بكلّ ضمان فتراجعا إلى أحسن ما كانا عليه

وإنما ألم أبو العتاهية في قوله «إنّ المطايا تشتكيك ... وما يليه» بقول أبى الحجناء نصيب الأكبر: فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب وقال أبو الطيب في أبى العشائر الحمدانى: تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن مالهنّ أفواه إذا مررنا على الأصمّ بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه وهذا المعنى من النّصبة «1» الدالة بذاتها التي ذكرتها عن الجاحظ في أقسام البيان. وقال بعض الخطباء: أشهد أن في السموات والأرض آيات ودلالات، وشواهد قائمات؛ كلّ يؤدى عنك الحجّة، ويشهد لك بالربوبية. ونظير هذا قول أبى العتاهية، وروى أنه جلس في دكان ورّاق، وأخذ كتابا فكتب على ظهره: فواعجبا كيف يعصى الملي ... ك أم كيف يجحده الجاحد ولله في كلّ تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد وفي كلّ شىء له آية ... تدلّ على أنّه واحد وانصرف، فاجتاز أبو نواس بالموضع فرأى الأبيات، فقال: لمن هذا؟ فلوددتها لى بجميع شعرى، فقيل: لإسماعيل بن القاسم، فوقع تحتها: سبحان من خلق الخلق من ضعيف مهين فصاغه من قرار ... إلى قرار مكين يحول شيئا فشيئا ... فى الحجب دون العيون «2» حتى بدت حركات ... مخلوقة من سكون

ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال

وقال الفضل بن عيسى الرّقاشى: سل الأرض من غرس أشجارك، وشقّ أنهارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا. وهذا شبيه بقول عدىّ بن زيد، وقد نزل النعمان بن المنذر تحت سرحة «1» ؛ فقال: أتدرى ما تقول هذه السّرحة أيها الملك؟ قال: وما تقول؟ قال: تقول: ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزّلال ثم أضحوا لعب الدّهر بهم ... وكذاك الدّهر حالا بعد حال ويروى «عكف الدّهر بهم فثووا «2» » . فتكدّر حال النّممان وما كان فيه من لذّة. ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال لو سكت الشّاكر لنطقت المآثر. لو صمت المخاطب لأثنت الحقائب، ولشهدت شواهد حاله على صدق مقاله. إن جحدت ما أولانيه، وكفرت ما أعطانيه، نطقت آثار أياديه علىّ، ولمعت أعلام عوارفه «3» لدىّ. ولأبى الفضل الميكالى من رسالة: ورد فلان فتعاطى من شكره على نعمه التى ألبسه جمالها، وأسحبه أذيالها، ما لو لم يتحدّث به ناشرا ومثنيا، ومعيدا ومبديا، لأثنت به حاله، وشهدت به رحاله، حتى لقد امتلأت بذكره المحافل، وسارت بحبره الرّكبان والقوافل، وصارت الألسنة على الشكر والثناء لسانا، والجماعة على النّشر والدعاء أنصارا وأعوانا، على أنه وإن بالغ في هذا الباب، وجاوز حدّ الإكثار والإسهاب، نهايته القصور دون واجبه، والسقوط عن أدنى درجاته ومراتبه.

[من أخبار نصيب وشعره]

ومما يقترن لهم بهذا المعنى من ذكر الشكر: قال أبو الفتح البستى: الحرّ نحل الشكر، إن أجناه المرء من خيره شكرا أجناه من برّه شهدا. غيره: الشكر ترجمان النيّة، ولسان الطّويّة، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص. الشكر نسيم النّعم، وهو السبب إلى الزيادة، والطريق إلى السعادة. الشكر قيد النّعمة، ومفتاح المزيد، وثمن الجنة. من شكر قليلا، استحقّ جزيلا. شكر المولى، هو الأولى. الشكر قيد النّعم وشكالها، وعقالها، وهو شبيه بالوحش التي لا تقيم مع الإيحاش، ولا تريم «1» مع الإيناس. موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف، إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم. الشكر غرس إذا أودع سمع الكريم أثمر الزيادة، وحفظ العادة. الشكر تعرّض للمزيد السائغ، والنّعم السّوابغ. شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه. أثنى عليه ثناء الرّوض الممحل، على الغيث المسبل. أثنى عليه ثناء لسان الزّهر، على راحة المطر. أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزّلال البارد. شكره شكر الأرض للدّيم «2» ، وزهير لهرم. بسط لسان الثناء والدعاء، وبلغ عنان الشكر عنان السماء. شكره شكرا ترتاح له المكارم، وتهتزّ له المواسم. لأشكرنّه شكرا تشيع أنواعه، وتنبسط أبواعه «3» ، ويلذ ذكره وسماعه. شكر ملأ القلب واللسان، كشكر حسّان لآل غسّان. أطال عنان الشكر، وفسح مجاله، ورفع أعمدته، ومدّ أروقته. شكر كأنفاس الأحباب، أو أنفاس الأسحار، أو أنفاس الرّياض غبّ القطار. [من أخبار نصيب وشعره] رجع ما انقطع: كان سبب قول نصيب:

فعاجوا فأثنوا بالّذى أنت أهله أنه كان مع الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك، فقال سليمان بن عبد الملك: يا فرزدق؛ من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: لماذا؟ قال بقولى: وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لهاترة من جذبها بالعصائب سروا وسرت نكباء وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوارذات الحقائب «1» إذا آنسوا نارا يقولون: ليتها، ... وقد خصرت أيديهم نار غالب يريد أباه- وهو غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع- فأعرض عنه سليمان كالمغضب؛ لأنه إنما أراد أن ينشد مدحا فيه؛ ففهم نصيب مراده، فقال: يا أمير المؤمنين؛ قد قلت أبياتا على هذا الروىّ ليست بدونها، فقال: هاتها؛ فأنشأ نصيب يقول: أقول لركب قافلين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب «2» فقد أخبرونى عن سليمان أننى ... لمعروفه من آل ودّان طالب «3» فعاجوا فأثنوا بالّذى أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فقالوا: تركناه وفي كلّ ليلة ... يطيف به من طالبى العرف راكب ولو كان فوق الناس حىّ فعاله ... كفعلك أو للفعل منك يقارب لقلنا: له شبه، ولكن تعذّرت ... سواك عن المستشفعين المطالب هو البدرو الناس الكواكب حوله ... وهل تشبه البدر المنير الكواكب فقال سليمان: أحسنت، والتفت إلى الفرزدق، فقال: كيف تسمع يا أبا فراس؟ قال: هو أشعر أهل جلدته، قال: وأهل جلدتك؛ فخرج الفرزدق وهو يقول:

[من المديح]

وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشرّ الشعر ما قال العبيد [من المديح] قال أبو العباس محمد بن يزيد: وهذا باب في المدح حسن متجاوز مبتدع لم يسبق إليه. قول نصيب: «من أهل ودّان» . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: ذكر محمد ابن كناسة والزبيدى أنّ نصيبا من أهل ودّان، وكان عبد الرجل من بنى كنانة هو وأهل بيته، وزعم أبو هفّان أنه عبد لعبد العزيز بن مروان، وكان نصيب شديد السواد، وهو القائل: كسيت- ولم أملك- سوادا، وتحته ... قميص من القوهيّ «1» بيض بنائقه فما ضرّ أثوابى سوادى، وإنّنى ... لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقه وقال سحيم عبد بنى الحسحاس: أشعار عبد بنى الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق إن كنت عبدا فنفسى حرّة كرما ... أو أسود اللّون إنى أبيض الخلق وقال أبو الطيب المتنبى لكافور الإخشيدى: إنّما الجلد ملبس وابيضاض الخلق خير من ابيضاض القباء وقال نصبب لبعض ملوك بنى أمية: إن لى بنات نفضت عليهن من سوادى، فقال: ما أحسن ما تلّطفت لهنّ! وأمر له بصلة. وكان أبو تمام حبيب بن أوس لما مدح أبا جعفر محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي أولها: لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا وهي من أحسن شعره، وقّع له على ظهرها: رأيتك سمح البيع سهلا، وإنما ... يغالى إذا ما ضنّ بالشىء بائعه

فأما إذا هانت بضائع بيعه ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه هو الماء إن أجممته طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح مشارعه فأجابه بقصيدة طويلة، واحتجّ عليه واعتذر إليه في مدحه لغيره؛ فقال في بعض ذلك: أمّا القوافى فقد حصّنت غرّتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب منعت إلّا من الأكفاء أيّمها ... وكان منك عليها العطف والحدب ولو عضلت عن الأكفاء أيّمها ... ولم يكن لك في إظهارها أرب «1» كانت بنات نصيب حين ضنّ بها ... على الموالى ولم تحفل بها العرب وقد قيل إن أبا تمام أجابه بقوله: أبا جعفر إن كنت أصبحت شاعرا ... أسامح في بيعى له من أبايعه فقد كنت قبلى شاعرا تاجرا به ... تساهل من عادت عليك منافعه فصرت وزيرا والوزارة مكرع ... يغصّ به بعد اللّذاذة كارعه «2» كم من وزير قد رأينا مسلّطا ... فعاد وقد سدّت عليه مطالعه ولله قوس لا تطيش سهامها ... ولله سيف لا تفلّ مقاطعه قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولى: ويقال إن هذه الأبيات منحولة لحبيب، وليس مثل أبى جعفر في جلالة قدره واصطناعه لحبيب يعامل بمثل هذا الجواب،

ولا ينتهى جهل حبيب أن يقابل مأموله ومن يرتجى جليل الفائدة منه بهذه الأبياب. وقد قيل: بل قالها، ولم ينشدها أحدا؛ وإنما ظهرت بعد موته. وكان ابن الزيات كما قال شاعرا، ومدح الحسن بن سهل في وزارته للمأمون؛ وأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسنى التّحجيل والغررا ما كان ذلك إلا أنّنى رجل ... لا أقرب الورد حتى أعرف الصدرا قال الصولى: وكان السبب الذى أوجد «1» أبا جعفر على أبى تمام حتى قال «لقد رأيتك سهل البيع- الأبيات» قول أبى تمام قصيدته المشهورة في ابن أبى داود التي أولها: سقى عهد الحمى سبل العهاد ... وروّى حاضر منه وباد «2» نزحت به ركىّ الدمع لما ... رأيت الدمع من خير العتاد «3» يقول فيها في مدحه: هم عظم الأثافى من نزار ... وأهل الهضب منها والنّجاد «4» معرّس كلّ معضلة وخطب ... ومنبت كلّ مكرمة وآد «5»

إذا حدث القبائل ساجلوهم ... فإنهم بنو المجد التّلاد «1» تفرّج عنهم الغمرات بيض ... جلاد تحت قسطلة الجلاد «2» وحشو حوادث الأيام منهم ... معاقل مطرد وبنو طراد «3» لهم جهل السباع إذا المنايا ... تمشّت في الوغى وحلوم عاد لقد أنست سلوّى كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبى دواد متى تحلل به تحلل جنابا ... رضيعا للسّوارى والغوادى «4» وما اشتبهت سبيل المجد إلّا ... هداك لقبلة المعروف هاد وما سافرت في الآفاق إلّا ... ومن جدواك راحلتى وزادى مقيم الظنّ عندك والأمانى ... وإن قلقت ركابى في البلاد وهذه النكت «5» التى أحقدت أبا جعفر، وأعتبته على أبى تمام، وفي هذه القصيدة يقول معتذرا إليه في الذى قرف «6» به عنده من هجاء مضر: أتانى عائر الأنباء تسرى ... عقاربه بداهية نآد «7» نثا خبرا كأنّ القلب منه ... يجرّ به على شوك القتاد بأنّى نلت من مضر وخبّت ... إليك شكيّتى خبب الجواد

[من أخبار ابن أبى دواد]

وما ربع القطيعة لى بربع ... ولا نادى الأذى منّى بناد وأين يجوز عن قصد لسانى ... وقلبى رائح برضاك غاد ومما كانت الحكماء قالت: ... لسان المرء من خدم الفؤاد وقد ما كنت معسول القوافى ... ومأدوم المعانى بالسّداد [من أخبار ابن أبى دواد] وكان ابن أبى دواد غاليا في التعصّب لإياد وإلحاقها بنزار، على مذهب نسّاب العدنانيين. قال: وكلّ من بالعراق من إياد دخلوا في النّخع، وإليهم ينسبون؛ ومن كان بالشام فملمّ «1» على نسبهم في نزار، وابن أبى دواد يرمى بالدعوة؛ والتكثير من أخباره يخرج إلى ما أخافه من تطويل التصرّف، فى مملول التكلّف. وكان ابن أبى دواد عالما بضروب العلم والأدب، متصرّفا في صناعة الجدال، على مذهب أهل الاعتزال، وكانت العداوة بينه وبين ابن الزيّات بيّنة، والنفاسة فى الرياسة بينهما متمكّنة، وقال له بعض الشعراء: أكلّ أبى دواد من إياد ... فكلّ أبى ذؤيب من هذيل قال مسلم: ما تاه إلّا وضيع، ولا فاخر إلا سقيط، ولا تعصّب إلّا دخيل. وقال مدنى لرجل: ممن أنت؟ فقال: من قريش، والحمد لله، قال: بأبى أنت! التحميد هاهنا ريبة! واسم أبى دواد دعمىّ، قال أبو اليقظان: وهم من قبيلة يقال لها بنو زهرة إخوة بنى جدّان، وقد ذكره الطائى في قوله: والغيث من زهر سحابة رأفة ... والركن من شيبان طود حديد ذكر شيبان، لأن خالد بن يزيد الشيبانى شفع له عند ابن أبى دواد فيما ينساق الحديث إليه من موجدته عليه. قال محمود الوراق: كنت جالسا بطرف الجسر مع أصحاب لى، فمرّ بنا أبو تمام، فجلس إلينا، فقال له رجل منا: يا أبا تمّام، أىّ رجل أنت لو لم تكن من اليمن! قال: ما أحبّ أنّى بغير الموضع الذى اختاره الله لى، فممّن «2» تحبّ أن

أكون؟ قال: من مضر، قال: إنما شرفت مضر بالنبىّ صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وأذوائنا، وفينا كذا، ومنّا كذا- يفخر؛ وذكر أشياء عاب بها مضر، ونمي الخبر إلى ابن أبى دواد وزيد فيه، فقال: ما أحبّ أن يدخل علىّ، فقال يعتذر إليه بقصيدة أولها: سعدت غربة النّوى بسعاد ... فى طلوع الإتهام والإنجاد يقول فيها: بعد أن أصلت الوشاة سيوفا ... قطعت فىّ وهي غير حداد فنفى عنك زخرف القول سمع ... لم يكن فرضه لغير السّداد ضرب الحلم والوقار عليه ... دون عور الكلام بالأسداد ملأتك الأحساب أىّ حياة ... وحيا أزمة وحيّة واد عاتق معتق من الرقّ إلّا ... من مقاساة مغرم أو نجاد للحمالات والحمائل فيه ... كلحوب الموارد الأعداد «1» فما رضى عنه حتى تشفّع إليه بخالد بن يزيد بن مزيد الشيبانى، فقال فى قصيدة: أسرى طريدا للحياء من التى ... زعموا، وليس لقوله بطريد «2» كنت الربيع، أمامه ووراءه ... قمر القبائل خالد بن يزيد وغدا تببّن ما براءة ساحتى ... لو قد نفضت تهائمى ونجودى لله درّك أىّ باب ملمّة ... لم يرم فيه إليك بالإقليد «3»

[من براعة خالد بن عبد الله القسرى]

لما أظلّتنى غمامك أصبحت ... تلك الشهود علىّ وهي شهودى من بعد ما ظنّوا بأن سيكون لى ... يوم بزعمهم كيوم عبيد يريد عبيد بن الأبرص الأسدى، وكان النعمان بن المنذر لقيه يوم بؤسه فقتله. وكان ابن أبى داود كريما فصيحا جزلا. قال أبو العيناء: كنا عند ابن أبى دواد ومعنا محمود الورّاق وجماعة من أهل الأدب والعلم؛ فجاءه رسول إيتاخ فقال: إن الحاجب أبا منصور يقرأ على القاضى السلام، ويقول: القاضى يتعنّى «1» ويجىء في الأوقات؛ وقد تفاقم الأمر بينه وبين كاتب أمير المؤمنين، يريد ابن الزيات، فصار يضرّنا عند قصده القاضى، وما أحبّ أن يتعنّى إلىّ لهذا السبب؛ إذ كنت لا أصل إلى مكافأته. فقال: أجيبوه عن رسالته، فلم ندر ما نقول، ونظر بعضنا إلى بعض، فقال: أما عندكم جواب! قلنا: القاضى- أعزّه الله، أعلم بجوابه منا، فقال للرسول: اقرأ عليه السلام، وقل له: ما أتيتك متكثّرا بك من قلّة، ولا معتزّزا بك من ذلّة، ولا طالبا منك رتبة، ولا شاكيا إليك كربة، ولكنك رجل ساعدك زمان، وحرّكك سلطان، ولا علم يؤلف، ولا أصل يعرف؛ فإن جئتك فبسلطانك، وإن تركتك فلنفسك! فعجبنا من جوابه. [من براعة خالد بن عبد الله القسرى] صعد خالد بن عبد الله القسرى المنبر يوم جمعة، فخطب وهو إذ ذاك أمير على مكة، فذكر الحجّاج فأحمد طاعته، وأثنى عليه خيرا، فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجّاج وذكر

عيوبه، وإظهار البراءة منه، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له بذلك فضلا، وكان الله تعالى قد علم من غشّه ما خفى عن الملائكة، فلما أراد الله فضيحته ابتلاه «1» بالسجود لآدم؛ فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم فلعنوه؛ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنّا نرى له بذلك فضلا، وكان الله عزّ وجل أطلع أمير المؤمنين من غلّه وخبثه على ما خفى عنا، فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدى أمير المؤمنين، فالعنوه، لعنه الله. ثم نزل. وكان أبو تمام قد مدح الأفشين التركى، واسمه خيذر «2» بن كاوس، وكان من أجلّ قوّاد المعتصم، وأبلى في أمر بابك الخرّمىّ بلاء حمده له؛ فلما سخط المعتصم عليه لما نسب إليه من سوء السيرة، وقبح السريرة، وأنه يخطب درجة بابك، ويريد التحصّن بموضع يخلع فيه يده عن الطاعة، وأظهر القاضى أحمد بن أبى دواد عليه أنه على غير الإسلام، قال أبو تمام معتذرا للمعتصم من تقديمه واجتبائه، ولنفسه من مدحه وإطرائه: ما كان لولا فحش غدرة خيذر ... ليكون في الإسلام عام فجار هذا الرسول وكان صفوة ربّه ... من خير باد في الأنام وقار قد خصّ من أهل النفاق عصابة ... وهم أشدّ أذى من الكفّار واختار من سعد لعين بنى أبى ... سرح لعمر الله غير خيار حتى استضاء بشعلة السّور التى ... رفعت له سترا من الأستار ثم ذكر في هذه القصيدة أن قتل الأفشين لبابك لم يكن بصدق بصيرة، ولا لصحة سريرة، فقال:

[المنافقون في عهد النبى صلى الله عليه وسلم]

والهاشمون المستقلة ظعنهم ... عن كربلاء بأثقل الأوزار فشفاهم المختار منه ولم يكن ... فى دينه المختار بالمختار [المنافقون في عهد النبى صلى الله عليه وسلم] أما من ذكر من أهل النفاق، فقد كانوا يظهرون غير ما يسرّون، حتى أطلع الله نبيّه عليه السلام على أخبارهم، ونشر له مطوىّ أسرارهم. وأما ابن أبى سرح فهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح بن الحسام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك [بن حسل] بن عامر بن لؤىّ، أسلم قبل الفتح، واستكتبه النبىّ عليه السلام؛ فكان يكتب موضع «الغفور الرحيم» العزيز الحكيم، وأشباه ذلك؛ فأطلع الله عليه النبىّ عليه السلام، فهرب إلى مكة مرتدّا؛ وأنزل فيه: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) . فأهدر النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه، فهرب من مكّة، فاستأمن له عثمان رضي الله عنه؛ فأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عثمان من الرّضاعة، وأسلم فحسن إسلامه، وولّى مصر سنة أربع وعشرين، فأقام عليها إلى أن حصر عثمان، ومات بقيسارية الشام، ولم يدخل في شىء من الفتن الحجازية في ذلك الوقت. وأما المختار الذى ذكره فهو المختار بن أبى عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير ابن عوف بن عفدة بن عروة بن عوف بن قسىّ وهو ثقيف؛ وكانت لأبيه في الإسلام آثار جميلة، وأخت المختار صفية بنت أبى عبيد زوج ابن عمر، والمختار هو كذّاب ثقيف الذى جاء فيه الحديث، وكان يزعم أنه يوحى إليه في قتلة الحسين؛ فقتلهم بكل موضع، وقتل عبيد الله بن زياد، وله أسجاع يصنعها، وألفاظ يبتدعها، ويزعم أنها تنزل عليه، وتوحى إليه. وقيل للأحنف بن قيس: إنّ المختار يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق، وتلا: (وإنّ الشّياطين ليوحى بعضهم إلى بعض) . وأخباره كثيرة ليس هذا موضعها. لما هزم أمية بن خالد بن أسيد لم يدر الناس كيف يقولون له، فدخل عبد الله بن الأهتم عليه، فقال: الحمد لله الذى نظر لنا أيّها الأمير عليك،

ويتعلق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب

ولم ينظر لك علينا، فقد تعرّضت للشهادة بجهدك، إلّا أن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك. فصدر الناس عن كلامه. ويتعلق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب كتب حمدون بن نهران إلى عامل عزل عن عمله: بلغنى أعزّك الله انصرافك عن عملك، ورجوعك إلى منزلك؛ فسررت بذلك، ولم أستفظعه وأجزع له؛ لعلمى بأنّ قدرك أجلّ وأعلى من أن يرفعك عمل تتولّاه، أو يضعك عزل عنه؛ وو الله لو لم تختر الانصراف وترد الاعتزال لكان في لطف تدبيرك، وثقوب رويّتك، وحسن تأتّيك، ما تزيل به السبب الداعى إلى عزلك، والباعث على صرفك؛ ونحن إلى أن نهنئك بهذه الحال أولى بنامن أن تعزّيك؛ إذ أردت الانصراف فأوتيته، وأحببت الاعتزال فأعطيته، فبارك الله لك في منقلبك، وهنّاك النعم بدوامها، ورزقك الشّكر الموجب لها الزائد فيها. وكتب ابن مكرم إلى نصرانى أسلم: أمّا بعد فالحمد لله الذى وفّقك لشكره، وعرّفك هدايته، وطهّر من الارتياب قلبك، وما زالت مخايلك ممّثلة لنا حقيقة ما وهب الله فيك، حتى كأنّك لم تزل بالإسلام موسوما، وإن كنت على غيره مقيما، وكنا مؤمّلين لما صرت إليه، مشفقين مما كنت عليه، حتى إذا كاد إشفاقنا أن يستعلى رجاءنا أنت السعادة بما لم تزل الأنفس تعدّ منك؛ فأسأل الله الذى أضاء لك سبيل رشدك أن يوفّقك لصالح العمل، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويقيك عذاب النار. قال بعض الكتاب: من الحقّ ما يستحسن تركه، ويستهجن عمله، وقد يقع من ذلك فيما يحلّه الشرع، ويكرهه الأدباء؛ وكثير ممن يغلب على طبعه هذا المعنى يراه سموّ نفس، وعلوّ همة، حتى رأينا من لا يحضر تزويج

كريمته، ويولّى أمرها غير نفسه، ورأينا من يجاوز ذلك إلى ألّا ينكح مستنكحا، وزاد به العلوّ إلى ترك ما ذكره أولى؛ وكنا عرفنا حال إنسان تزوّجت أمه؛ فعظم لذلك همّه، وانفرد عن أودّائه، وتوارى عن أصفيائه؛ حياء من لقائهم، وكرها لتهنئتهم له أو عزائهم، واضطرّته الوحشة إلى قصد من ظنّ به منهم المسكة في تحامى خطابه فيما اجتنب لأجله خلّانه، وفارق بسببه إخوانه، وتخيّل ذلك المقصود أنه إنما لجأ إليه ليسلّيه؛ فأفاض معه فيما قدّر أنه قصد له من المعنى الذى جعله وحيدا خوف المفاوضة. ثم مضت الأيام واختلف الحال، ورجع إلى العشرة وأبناء المودّة؛ فكان عنده من لم يخاطبه أحظى، وفي نفسه أوفى، وعلى قلبه أخفّ، وفي نفسه أشفّ، ونقم على ذلك الصديق وعتب؛ إذ لكلّ من الناس- إلا من طاب محتده وطال سؤدده- حال من الإلف والرغبة تحسّن المساوى، ثم حال من الملل والزّهادة تقبّح المحاسن؛ واعتذر المتكلّف من التسلية بما لم يلزمه، ولم يرده صفيّه، فإنه فعل ما أوجبته الأخوّة، وحقوق الخلطة، وأسباب العشرة، وانبساط المفاوضة؛ ودبّت عقارب الظنون والوشاية، إلى أن خرجا بالملاحاة إلى المعاداة؛ فلما وقع بعض الناس بينهما من معاودة الحسنى، ومراجعة الأولى؛ جاهر هذا الماقت بقرع سنّ الأسف على تخيّل النهى والوقار من الممقوت، وظاهر الممقوت بتقريع الماقت، بتزويج أمّه الذى تجشّم من كلامه فيه فضلا، وتكلّف من خطابه عليه ما من حسرة خلا؛ فأفضى الأمر بينهما إلى الأوتار، وطلب الثّار. فإن اضطرّ إلى القول في هذا المعنى أحد بأمر قاهر من السلطان، أو حوادث الأزمان، أو تطارح الإخوان، فليقل وليكتب ما مثّلنا إن لم يجد منه بدّا: أنت- بفضل الله عليك وإحسان تبصيره إياك- من أهل الدّين، وخلوص اليقين، فكما لا تتّبع الشهوة فى محظور تبيحه، فكذا لا تتّبع الأنفة في مباح تحظره؛ وقد اتّصل بنا اختاره الله والقضاء لذات الحقّ عليك، المنسوبة- بعد نسبك إليها- إليك،

مما كرهه إباؤك الدّنيوى لك ولها، [ورضيه الحلال الدينى له ولها] ، فنحن نعزّيك عن فائت محبوبك، ونهنّئك في الخيرة في اختيار القدر لك، ونسأل الله أن يجعلها أبدا معك فيما رضيت وكرهت، وأبيت وأتيت. فهذا ونحوه أصوب وأسلم، إن اضطررت إليه، وتركه أحسن وأحزم، إن ملكت رأيك فيه؛ والتلطف للكتابة عما يستهجن ولا يستحسن التواجه به من أحسن الأشياء وأسدّها. وكتب أبو الفضل بن العميد في بابه: الحمد لله الذى كشف عنا ستر الحيرة. وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومنع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات، استنزالا للنفوس الأبيّة، عن حميّة الجاهلية. ثم عرّض للجزيل من الأجر من استسلم لمواقع قضائه؛ وعوّض جزيل الثواب لمن صبر على نازل بلائه؛ وهنّاك الله، الذى شرح للتقوى صدرك، ووسّع في البلوى صبرك، ما ألهمك من التسليم بمشيئته، والرضا بقضّيته، ووفّقك له من قضاء الواجب في أحد أبو يك، ومن عظم حقّه عليك؛ وجعل الله تعالى حدّه «1» ما تجرّعته من أنف «2» ، وكظمته من أسف، معدودا يعظّم الله عليه أجرك، ويجزل به ذخرك؛ وقرن بالحاضر من امتعاضك لفعلها المنتظر من ارتماضك لدفنها «3» ، وعوّضك من أسرّة فرشها أعواد نعشها؛ وجعل ما ينعم به عليك من بعدها من نعمة معرّى من نقمة، وما يوليك بعد قبضها من منحة مبرأ من محنة.

ألفاظ لأهل العصر في التهانى بالبنات

ألفاظ لأهل العصر في التهانى بالبنات هنأ الله سيدى ورد الكريمة عليه، وثمّر بها أعداد النّسل الطيّب لديه؛ وجعلها مؤذنة بإخوة بررة، يعمرون أندية الفضل، ويغبرون «1» بقيّة الدّهر. اتصل بى خبر المولودة، كرّم الله غرّتها وأنبتها نباتا حسنا، وما كان من تغيّرك بعد اتّضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر، وقد علمت أنهنّ أقرب من القلوب، وأنّ الله تعالى بدأ بهنّ في الترتيب، فقال جل من قائل: (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) . وما سمّاه هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى. أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء، وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون. فلو كان النّساء كمثل هذى ... لفضّلت النّساء على الرّجال فما التّأنيث لاسم الشّمس عيب ... ولا التّذكير فخر للهلال والله يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة في موقعها، فادّرع اغتباطا، واستأنف نشاطا. الدنيا مؤنّثة، والرجال يخدمونها. والنار مؤنثة، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذّرية. والسماء مؤنثة، وقد حلّيت بالكواكب، وزيّنت بالنجوم الثواقب. والنفس مؤنّثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنّثة، ولولاها لم تتصرّف الأجسام ولا عرف الأنام. والجنّة مؤنّثة، وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون؛ فهنأك الله ما أوليت، وأوزعك شكر ما أعطيت، وأطال الله بفاءك ما عرف النّسل والولد، وما بقى العصر والأبد؛ إنه فعال لما يشاء.

[بعض مالا يمدح النساء به]

[بعض مالا يمدح النساء به] والتصرف في النساء ضيّق النطاق، شديد الخناق، وأكثر ما يمدح به الرجال ذمّ لهن، ووصم عليهن، قال ابن الرومى: ما للحسان مسيئات بنا، ولنا ... إلى المسيئات طول الدّهر تحنان فإن يبحن بعهد قلن: معذرة ... إنّا نسينا، وفي النسوان نسيان لا نلزم الذّكر، إنّا لم نسمّ به ... ولا منحناه، بل للذّكر ذكران فضل الرجال علينا أن شيمتهم ... جود وبأس وأحلام وأذهان وأنّ منهم وفاء لا نقوم له ... وهل يكون مع النّقصان رجحان؟ وقال أبو الطيب المتنبى: بنفسى الخيال الزّائرى بعد هجعة ... وقولته لى: بعدنا الغمض تطعم سلام فلولا البخل والخوف عنده ... لقلنا أبو حفص علينا المسلّم ألا ترى أنّ الجود، والوفاء بالعهود، والشجاعة والفطن، وما جرى في هذا السّنن، من فضائل الرجال، لو مدح النساء به لكان نقصا عليهن، وذمّا لهنّ؟ ولمديح النساء أبواب تفرّقت في الكتاب: أنشد رجل زبيدة بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور: أزبيدة بنة جعفر ... لوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكفّ من الرّغاب فوثب إليه الخدم يضربونه، فمنعتهم من ذلك، وقالت: أراد خيرا وأخطأ، وهو أحبّ إلينا ممن أراد شرا فأصاب، سمع قولهم «شمالك أندى من يمين غيرك» فظن أنه إذا قال هكذا كان أبلغ، أعطوه ما أمّل، وعرّفوه ما جهل. وقال كثير: ولما قضينا من منّى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ما سح

وشدّت على حدب المطايا رحالنا ... ولا يعلم الغادى الذى هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطىّ الأباطح نقعنا قلوبا بالأحاديث واشتفت ... بذاك صدور منضجات قرائح «1» ولم نخش ريب الدّهر في كلّ حالة ... ولا راعنا منه سنيح وبارح وقال: تفرّق ألّاف الحجيج على منى ... وشتّتهم شحط النوى مشى أربع فريقان منهم سالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع ظهر تضرع فلم أر دارا مثلها دار غبطة ... ولهو إذا التفّ الحجيج بمجمع أقلّ مقيما راضيا بمكانه ... وأكثر جارا ظاعنا لم يودّع فأصبح لا تلقى خباء عهدته ... بمضربه أوتاده لم تنزّع فشاقوك لما وجّهوا كلّ وجهة ... فبانوا وخلّوا عن منازل بلقع ودخل كثيّر على عزّة يوما، فقالت: ما ينبغى أن نأذن لك في الجلوس، فقال: ولم ذلك؟ قالت: لأنى رأيت الأحوص ألين جانبا عند الغوانى منك في شعره، وأضرع خدّا للنساء، وأنه الذى يقول: يأيها اللأئمى فيها لأصرمها ... أكثرث لو كان يغنى عنك إكثار أكثر فلست مطاعا إذ وشيت بها ... لا القلب سال ولا في حبّها عار ويعجبنى قوله: أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم مادرت حيث أدور وما كنت زوّارا، ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم لا يزر لا بدّ أن سيزور لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإنى إلى معروفها لفقير

ويعجبنى قوله: كم من دنىّ لها قد كنت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لى تبعا لا أستطيع نزوعا عن محبّتها ... أو يصنع الحبّ بى فوق الذى صنعا أدعو إلى هجرها قلبى فيتبعنى ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا وزادنى رغبة في الحبّ أن منعت، ... أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا وقوله: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا وإنى لأهواها وأهوى لقاءها ... كما يشتهى الصّادى الشراب المبرّدا علاقة حبّ لجّ في سنن الصّبا ... فأبلى، وما يزداد إلّا تجدّدا هذان البيتان ألحقهما العتبى وغيره بشعر الأحوص، وأنشدها أبو بكر بن دريد لأعرابى، فقال كثير: قد والله أجاد فما استقبحت من قولى؟ قالت: قولك: وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسى ... وأظهرن منّى هيبة لا تجهّما يحاذرن منّى غيرة قد عرفنها ... قديما، فلا يضحكن إلّا تبسّما تراهنّ إلا أن يخالسن نظرة ... بمؤخر عين أو يقلّبن معصما كواظم لا ينطقن إلا محورة ... رجيعة قول بعد أن يتفهما وكنّ إذا ما قلن شيئا يسرّه ... أسرّ الرضا في نفسه وتحرّمّا وقولك: وددت وبيت الله أنك بكرة ... هجان، وأنى مصعب ثم نهرب «1»

[من الأمانى]

كلانا به عرّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدى وأجرب «1» نكون لذى مال كثير مغفّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا فما ننفكّ نؤذى ونضرب «2» ويحك! لقد أردت بى الشقاء، أفما وجدت أمنية أوطأ من هذه؟ فخرج خجلا. [من الأمانى] وقد تمنّى بمثل هذه الأمنية الفرزدق. وأغرب من هذا قول أبى صخر الهذلى: تمنّيت من حبّى عليه أنّنا ... على رمث في البحر ليس لنا وفر «3» على دائم لا يعبر الفلك موجه ... ومن دوننا الأهوال والّلجج الخضر فنقضى همّ النفس في غير رقبة ... ويغرق من نخشى نميمته البحر وقيل: الأمل رفيق مؤنس؛ إن لم يبلغك فقد ألهاك. وقال مسلم بن الوليد. وأكثر أفعال الليالى إساءة ... وأكثر ما تلقى الأمانى كواذبا وقال آخر: منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا أمانىّ من ليلى حسان كأنما ... سقتنى يها ليلى على ظمإ بردا وقال آخر رفعت عن الدنيا المنى غير حبها ... فلا أسأل الدنيا ولا أستزيدها وقيل لأعرابى: ما أمتع لذّات الدنيا؟ فقال: ممازحة المحب، ومحادثة الصديق،

[بعض أخبار كثير وعزة]

وأمانىّ تقطع بها أيامك، وأنشد: علّلينى بموعد ... وامطلى ما حييت به ودعينى أفوز من ... ك بنجوى تطلبه فعسى يعثر الزّما ... ن بحظّي فينتبه [بعض أخبار كثير وعزّة] وكان كثيّر بن عبد الرحمن بن أبى جمعة الخزاعى- ويعرف بعزّة، على حدّة خاطره، وجودة شعره- أحمق الناس. دخل عليه نفر من قريش وهو عليل يهزءون به، قال بعضهم: فقلت له: كيف تجدك؟ قال: بخير، هل سمعتم الناس يقولون شيئا؟ فقلت: نعم، سمعتهم يقولون: إنك الدجال. فقال: والله لئن قلت ذلك إنى لأجد في عينى اليمنى ضعفا منذ أيام. وكان رافضيّا يدين بالرّجعة، ويقول بإمامة محمد بن الحنفية، والروافض يزعمون أنه دخل في شعب باليمن في أربعين من أصحابه، ولا بدّ من ظهوره، وفي ذلك يقول: ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء علىّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الخيل يقدمها اللّواء تغيّب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وكان خلفاء بنى أمية يعلمون ذلك منه، ويلبسونه عليه. دخل يوما على عبد الملك بن مروان فقال: نشدتك بحقّ على بن أبى طالب، هل رأيت أعشق منك؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو سألتنى بحقّك لأخبرتك، نعم، بينا أنا أسير في بعض الفلوات إذا أنا برجل قد نصب حبائله، فقلت له:

ما أجلسك هاهنا؟ قال: أهلكنى وأهلى الجوع، فنصبت حبائلى لأصيب لهم ولنفسى ما يكفينا سحابة يومنا، قلت: أرأيت إن أقمت معك فأصبنا صيدا، أتجعل لى منه جزءا؟ قال: نعم، فبينما نحن كذلك إذ وقعت ظبية، فخرجنا مبتدرين، فأسرع إليها فحلّها وأطلقها؛ فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: دخلتنى لها رقّة لشبهها بليلى، وأنشأ يقول: أيا شبه ليلى لا تراعى فإنّنى ... لك اليوم من وحشيّة لصديق أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... لأنت- لليلى- ما حييت طليق وروى الكلبى وابن دأب أنه لمّا حلّها قال: اذهبى في كلاءة الرّحمن ... أنت منى في ذمّة وأمان لا تخافى بأن تهاجى بسوء ... ما تغنّى الحمام في الأغصان ترهبينى والجيد منك لليلى ... والحشا والبغام والعينان؟ وقال قيس بن الملوّح: راحوا يصيدون الظّباء وإننى ... لأرى تصيّدها علىّ حراما أشبهن منك محاجرا وسوالفا ... فأرى علىّ لها بذاك ذماما أعزز علىّ بأن أروع شبيهها ... أو أن يذقن على يدىّ حماما ومن جيد شعر كثيّر: وكانت لقطع الحبل بينى وبينها ... كناذرة نذرا فأوفت وحلّت فقلت لها: يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت ولم يلق إنسان من الحبّ ميعه ... تعمّ ولا غمّاء إلّا تجلّت أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلّت تلاعا لم تكن قبل حلّت هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت وو الله ما قاربت إلا تباعدت ... بهجر، ولا استكثرت إلّا أقلت

وما مرّ من يوم علىّ كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلت فيا عجبا للقلب كيف اعترافه ... وللنفس لما وطّنت كيف ذلّت وإنّى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت مما بيننا وتخلّت لكالمرتجى ظلّ الغمامة، كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت وكان كثير قصيرا دميما، ولذلك قال: فإن أك معروق العظام فإننى ... إذا ما وزنت القوم وازن «1» ودخل كثير على عبد الملك بن مروان في أول خلافته، فقال: أنت كثيّر؟ فقال: نعم، فاقتحمه، وقال: تسمع بالمعيدىّ لا أن تراه «2» ! فقال: يا أمير المؤمنين، كلّ إنسان عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالى السّناء، وأنشد يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطّرير إذا تراه ... فيخلف ظنّك الرجل الطرير «3» بغاث الطير أطولها رقابا ... ولم تطل البزاة ولا الصقور «4» خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأمّ الباز مقلاة نزور «5»

[قولهم في الطول والقصر]

ضعاف الأسد أكثرها زئيرا ... وأصرمها اللّواتى لا تزير وقد عظم البعير بغير لبّ ... فلم يستغن بالعظم البعير ينوّخ ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرف لديه ولا نكير يقوّده الصبىّ بكلّ أرض ... ويصرعه على الجنب الصغير «1» فما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينهم حسب وخير «2» فقال: قاتله الله! ما أطول لسانه، وأمد عنانه، وأوسع جنانه؛ إنى لأحسبه كما وصف نفسه «3» . [قولهم في الطول والقصر] وأنشد أحمد بن عبيد الله لشاعر قديم: وعاذلة هبّت بليل تلومنى ... ولم يغتمرنى قبل ذاك عذول «4» تقول: اتئد لا يدعك الناس مملقا ... وتزرى بمن يابن الكرام تعول فقلت: أبت نفس علىّ كريمة ... وطارق ليل عند ذاك يقول ألم تعلمى يا عمرك الله أننى ... كريم على حين الكرام قليل وأنى لا أخزى إذا قيل مملق ... سخىّ، وأخزى أن يقال بخيل فلا تتبعى النفس الغويّة وانظرى ... إلى عنصر الأحساب كيف بئول ولا تذهبن عيناك في كل شرمح ... له قصب جوف العظام أسيل «5» عسى أن تمنّى عرسه أننى لها ... به، حين يشتدّ الزمان، بديل

إذا كنت في القوم الطوال فطلتهم «1» ... بعارفة حتى يقال طويل «2» ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقول فكائن رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم تحيهن أصول فإلّا يكن جسمى طويلا فإننى ... له بالفعال الصالحات وصول ولم أر كالمعروف: أمّا مذافه ... فحلو، وأمّا وجهه فجميل وقال ابن الرومى: ونصيف من الرجال نحيف ... راجح الوزن عند وزن الرجال فى أناس أوتوا حلوم العصافير ... فلم تغنهم جسوم البغال أخذه من قول حسان بن ثابت، وقال له بنو الديان الحارثيون: قد كنّا ونحن نطول بأحسامنا على العرب حتى قلت: دعوا التّخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إنّ الرجال ذوو قدّ وتذكير «3» لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير فتركتنا لا نرى أجسامنا شيئا والعرب تمدح الطول، وتثنى عليه، وقال عنترة بن شداد: بطل كأنّ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم قوله «ليس بتوأم» يريد ليس ممن زوحم في الرّحم فضعف، كمال قال الشعبى، وقد دخل على عبد الملك بن مروان، فجعل ينظر إليه، وكان الشعبى قد ولد توأما مع أخيه، فكان نحيفا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى زوحمت في الرحم، وقال:

[عود إلى أخبار كثير عزة]

ولما التقى الصفّان واختلف القنا ... نهالا، وأسباب المنايا نهالها تبيّن لى أن القماءة ذلة ... وأنّ أعزاء الرجال طوالها وقال أبو نواس: وكنا إذا ما الحائن الجدّ غرّه ... سنى برق غاد أو ضجيج رعاد تردّى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضى الظّبى يزهاه طول نجاد أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناد وجياد «1» ومن هذا البيت أخذ أبو الطيب المتنبى قوله: وملمومة زرد ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل [عود إلى أخبار كثير عزة] ودخل كثيّر على عبد العزيز بن مروان وهو عليل، وأهله يتمنّون أن يتبسم، فقال: لولا أن سرورك لا يتمّ بأن تسلم وأسقم لدعوت الله أن يصرف مابك إلىّ، ولكنى أسأل الله أيها الأمير العافية لك ولى في كنفك؛ فضحك وأمر له بمال فخرح وهو يقول: ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التشكّى كان بالعوّاد لو كان تقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفى وتلادى قال محمد بن سلام الجمحى: قال أبى: ذاكرت مروان بن أبى حفصة شعر جرير والفرزدق وكثيّر، فذهب إلى تقديم كثيّر، وجعل يطريه ويقول: هو أمدحهم للخلفاء، فقلت: أمن جودة مدحه للخلفاء قوله لعبد الملك بن مروان: ترى ابن أبى العاصى وقد صفّ دونه ... ثمانون ألفا قد توافت كمولها يقلّب عينى حيّة بمفازة ... إذا أمكنته شدّة لا يقيلها فقال هذا للخليفة ودونه ثمانون ألفا، وجعله يقلّب عينى حية.

فصول قصار

وقوله: وإن أمير المؤمنين هو الذى ... غزا كامنات الودّ منى فنالها زعم أن أمير المؤمنين استعطفه حتى غزا كامنات صدره. وقوله لعبد العزيز بن مروان: وما زالت رقاك تسلّ ضغنى ... وتخرج من مكامنها ضبابى ويرقينى لك الحاوون حتى ... أجابك حيّة تحت الحجاب زعم أن عبد العزيز ترضّاه، واحتال له ورقاه، حتى أجابه؛ أكذا تمدح الملوك؟ فأسكته «1» . فصول قصار من كان له من نفسه واعظ، كان من الله عليه حافظ. العبد حرّ إذا قنع، والحرّ عبد إذا طمع. الأمانى تخدعك، وعند الحقائق تدعك. إذا كان الطمع هلاكا، كان اليأس إدراكا. ليس يعدّ حكيما، من لم يكن لنفسه خصيما. تعزّ عن الشىء إذا منعته، بقلة ما يصحبك إذا منحته. تجرّع مضض الصبر تطفىء نار الضر. الحكمة حفظ ما كلفت، وترك ما كفيت. الصّبر عن محارم الله، أيسر من الصبر على عذاب الله. شذور لأهل الصر في معان شتّى قطعة من كلام الأمير قابوس بن وشمكير شمس المعالى في أثناء رسائله: بزند الشفيع تورى نار النجاح، ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح،

الوسائل أقدام ذوى الحاجات، والشفاعات مفاتيح الطّلبات العفو عن المجرم من موجبات الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشّيم. وبالقوادم والخوافى قوّة النجاح، وبالأسنة والعوالى عمل الرماح. الدنيا دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، والناس متصرّفون بين كل ورد وصدر، وصائرون خبرا بعد أثر. غاية كل متحرّك إلى سكون، ونهاية كل متكون ألّا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على الهالك؟. حشو الدهر أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم. إذا سمح الدهر بالحباء، فأبشر بوشك الانقضاء، وإذا أعار، فأحسبه قد أغار. الدهر طعمان حلو ومرّ، والأيام ضربان عسر ويسر. لكل شىء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بلغ المدى. ترك الجواب، داعية الارتياب، والحاجة إلى الاقتضاء، كسوف في وجه الرجاء. همّ المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيرا طويل. النجيب إذا جرى لم يشقّ غباره، وإذا سرى لم تلحق آثاره. ومن أين للضباب صوب السحاب، وللغراب هوىّ العقاب، وهيهات أن تكتسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء. وقد ترجم عن شمس المعالى أبو منصور الثعالبى في كتاب ألّفه له؛ قال في أوله: أمّا على أثر حمد الله الذى هو أوّل كتابه، وآخر دعوى ساكنى دار ثوابه، والصلاة على خيرته من بريّته، وعلى الصّفوة من ذرّيته، فإنّ خير الكلام ما شغل بخدمة من جمع الله له عزّة الملك إلى بسطة العلم، ونور الحكمة إلى نفوذ الحكم، وجعله مميّزا على ملوك العصر، ومدبّرى الأرض وولاة الأمر، بخصائص من العدل، وجلائل من الفضل، ودقائق من الكرم المحض، لا يدخل أيسرها تحت العادات، ولا يدرك أقلّها بالعبارات؛ ومحاسن [سير] الأنام «1» ، تحرسها أسنّة الأقلام، وتدرسها ألسنة الليالى والأيام، وهذه صفة تغنى

عن تشبيه الموصوف لاختصاصه بمعناها، واستحقاقه إياها، واستئثاره على جميع الملوك بها، ولعلم سامعها ببديهة السّماع أنها للأمير، شمس المعالى، خالصة، وعليه مقصورة، وبه لائقة، وعن غيره نافرة؛ إذ هو- بمعاينة الآثار، وشهادة الأخيار، وإجماع الأولياء، واتفاق الأعداء- كافل المجد، وكافى الخلق، وواحد الدهر، وغرّة الدنيا، ومفزع الورى، وحسنة العالم، ونكتة الفلك الدائر؛ فبلّغه الله أقصى نهاية العمر، كما بلّغه أقصى غاية الفخر؛ وملكه أزمّة الأمر، كلما ملّكه أعنّة الفضل؛ وأدام حسن النظر للعباد والبلاد، بإدامة أيامه التي هي أعياد الدّهر، ومواسم اليمن والأمن، ومطالع الخير والسّعد، وزاد دولته شبابا ونموّا، كما زاده في الشرف علوّا ... حتى تكون السعادات وفد بابه، والبشائر قرى سمعه، والمسارّ غذاء نفسه، ويترامى به الإقبال إلى حيث لا يبلغه أمل، ولا يقطعه أجل. نحافى قوله «وهذه صفة تغنى عن الموصوف» إلى قول أبى الطيب يرنى أخت سيف الدولة: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النّسب أجلّ قدرك أن تسمى مؤثّثة ... ومن دعاك فقد سمّاك للعرب وفي شمس المعالى يقول الأمير أبو الفضل الميكالى: لا تعصين شمس العلا قابوسا ... فمن عصى قابوس لاقى بوسا وله يقول بديع الزمان في قصيدة نظمها في تضاعيف رسالة موشحة: إنّ من كنت من مناه بمرأى ... وتعدّاك سيّىء الاقتراح بين بشر يردّ غائض جاهى ... وقبول يعيد ريش جناحى

[من رسائل بديع الزمان]

وبساط وردت مشرعة الأن ... س به وادّرعت برد النجاح فاقض أو طارا التقت والمعالى ... فى نظام من النّهى وتصاح ملك دونه تقطّع أبصا ... ر الليالى يوما ندى وكفاح ملك لو يشاء مدّ على النّج ... م رواقا وردّ وفد الرّياح تارة في خشونة الدّهر تلقا ... هـ وطورا في حسن ذات الوشاح ملك كلّما بدا نقف الأف ... لاك عجبا به وفرط ارتياح هكذا هكذا تكون المعالى ... طرق الجدّ غير طرق المزاح وهي طويلة، كتبتها على طريق الاختيار. [من رسائل بديع الزمان] رقعة لبديع الزمان إلى شمس المعالى، وقد ورد حضرته: لم تزل الآمال- أطال الله بقاء الأمير السيد شمس المعالى، وأدام سلطانه- تعدنى هذا اليوم، والأيام تمطلنى بألسنة صروفها، على اختلاف صنوفها، بين حلو استرقّنى، ومرّ استخفّنى، وشر صار إلىّ، وخير صرت إليه، وأنا في خلال هذه الأحوال أذرع الآفاق فأكون طورا مشرقا للمشرق الأقصى، وطورا مغربا للمغرب، ولا مطمح إلّا حضرته الرفيعة، وسدّته المريعة، ولا وسيلة إلا المنزع الشّاسع، والأمل الواسع؛ وقد صرت- أطال الله بقاء الأمير مولانا- بين أنياب النوائب، وتجشّمت هول الموارد، وركبت أكتاف المكاره، ورضعت أخلاف العوائق، ومسحت أطراف المراحل، حتى حضرت الحضرة البهيّة أو كدت، وبلغت الأمنية أو زدت، وللأمير السيد في الإصغاء إلى المجد، والبسط من عنان الفضل، بتمكين خادمه من المجلس يلقاه بقدمه، والبساط يلثمه بفمه، تفضّله، فله الرأى العالى إن شاء الله. وله إلى بعض الرؤساء وقد وعد بحضور مجلسه بالغداة وأمره أن يزفّ إليه ما أنشأه، فبعث به وكتب إليه: مرحبا بسلام الشيخ سيّدى ومولاى أطال الله بقاه، ولا كالمرحب

بطلعته؛ وقد وصلت تحيّته فشكرتها، وعدته الجميلة بالحضور غدا فانتظرتها؛ ودعوت الله أن يطوى ساعات النهار، ويزجّ الشمس في المغار، ويقرّب مسافة الفلك الدّوّار، ويرفع البركة من سيره، ويجهز الحركة إلى دوره؛ ويسرّنى بوفد الظلام وقد نزل، ثم لم يلبث إلّا ريثما رحل؛ وقد بعثت بما طلب سمعا لأمره وطاعة، والنسخة أسقم من أجفان الغضبان، والشيخ سيدى- أدام الله عزّه- يركض قلمه في إصلاحها، وحبّذا هو في غد، وقد طلع كالصبح إذا سطع، والبرق إذا لمع: يا مرحبا بغد ويا أهلا به ... إن كان إلمام الأحبّة في غد وله إلى أبى الطيب سهل بن محمد يسأله أن يصله بأبى إبراهيم إسماعيل بن أحمد: لو كان للكرم عن جناب الشيخ منصرف لانصرفت، أو للأمل منحرف إلى سواه لا نحرفت، أو للنّجح باب سواه لولجت، أو للفضل خاطب غيره لزوّجت، ولكن أبى الله أن يعقد إلا عليه الخنصر، أو يتحلّى إلا بفواضله الدهر، ولا يزال كذا يتّسم المجد بسمته، ويجذب العلاء بهمّته، ويسعد الدين بنظره، والدنيا بجماله، وغلامه أنا لو استعار الدّهر لسانا، واتّخذ الريح ترجمانا، ليشيع إنعامه حق الإشاعة، لقصرت به يد الاستطاعة، فليس إلا أن يلبس مكارمه صافية سابغة، ويرد مشارعه صافية سائغة، ويحيل الجزاء على يد قصور، والشكر على لسان قصير؛ ثم إنّ حاجاتى، إذا لم يعر من قلائد المجد نحرها، ولم يعطل من حلى المجد صدرها، كبر مهرها، وعزّ كفؤها، ولم أجد لها إلا واحدا أخضر الجلدة فى بيت العرب، أو ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب «1» . وهذه حاجة أنا أزفّها إلى الشيخ الإمام حرص الله مهجته، وأسوقها منظومة من الصّدر إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز «2» ؛ وأنا من مفتتح اليوم إلى مختتمه، ومن

[من أخبار البرامكة]

قرن النهار إلى قدمه، قاعد كالكركىّ «1» ، أو الديك الهندى، فى هذا الأدحىّ «2» ، يمرّ بى أولو الحلى والحلل، ويجتاز ذوو الخيل والخول «3» ، وما أنا والنّظر إلى مالا يلينى، والسؤال عما لا يعنينى، واليوم، لما افتضضنا عذرة الصباح، ملأت جفونى من منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله، فقلت لمن حضر: من هذا؟ فأخذوا يحرّكون الرءوس استظرافا لحالى، ويتغامزون تعجّبا من سؤالى، وقالوا: هذا الشيخ الفاضل أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد، فقلت: حرس الله مهجته، وأدام غبطته؛ فكيف الوصول إلى خدمته، وأنّى مأتى معرفته؟ قالوا: إن الشيخ الإمام- أدام الله تأييده- يضرب في مودّته بالقدح المعلّى، ويأخذ في معرفته بالحظّ الاعلى، فإن رأى الشيخ- أطال الله بقاه- أن تجعل عنايته حرف الصلة، وتفضّله لام المعرفة، فعل، إن شاء الله. [من أخبار البرامكة] قال الرشيد ليحيى بن خالد: يا أبت، إنى أردت أن أجعل الخاتم الذى في يد الفضل إلى جعفر، وقد احتشمت منه فاكفنيه. فكتب إليه يحيى: قد أمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن يحوّل الخاتم من يمينك إلى شمالك. فأجاب الفضل: قد سمعت ما قاله أمير المؤمنين في أخى، وقد اطّلعت على أمره، وما انقلبت عنى نعمة صارت إليه، ولا عزبت «4» عنى رتبة طلعت عليه. فقال جعفر: لله أخى! ما أنفس نفسه، وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه، وأرحب بها جنابه. يوجب على نفسه ما يجب له، ويحمل بكرمه فوق طاقته.

وذكر جعفر بن يحيى في مجلس ثمامة بن أشرس فقال: ما رأيت أحدا من خلق الله كان أبسط لسانا، ولا ألحن بحجة، ولا أقدر على كلام، بنظم حسن، وألفاظ عذبة، ومنطق فصيح، من جعفر بن يحيى، كان لا يتوقّف، ولا يتحبّس، ولا يصل كلامه بحشو من الكلام، ولا يعبد لفظا ولا معنى، ولا يخرج من فنّ إلى غيره، حتى يبلغ آخر ما فيه؛ وكان لا يرى شيئا إلا حكاه، ولا يحكى شيئا إلا كان أكثر منه، ولا يمرّ بذهنه شىء إلا حفظه، وكان إذا شاء أضحك الثّكلى، وأذهل الزاهد، وخشّن قلب العابد. قلت: فكيف كانت معرفته؟ قال: كان من أعلم النّاس بالخبر الباهر، والشعر النادر، والمثل السائر، والفصاحة التامة، واللسان البسيط. قال سهل بن هارون، وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفرا، فقال: لو كان الكلام متصوّرا درّا، ويلقيه المنطق جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من ألفاظهما. ولقد غبرت معهما، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهما، وهم يرون البلاغة لم تستكمل إلا فيهما، ولم تكن مقصورة إلا عليهما، ولا انقادت إلا لهما. وإنهما للباب الكرم، عتق منظر، وجودة مخبر، وسهولة لفظ، وجزالة منطق، ونزاهة نفس، وكمال خصال؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهما، والمأثور من خصائصها جميع أيام من سواهما من لدن آدم إلى أن ينفخ في الصور، ويبعث أهل القبور- حاشا أنبياء الله الكرام، وسلف عباده الصالحين- لما باهت إلا بهما، ولا عوّلت في الفخر إلا عليهما، ولقد كانا- مع تهذيب أخلاقهما، ومعسول مذاقهما، وسنا إشراقهما، وكمال الخير فيهما- فى محاسن المأمون كالنّقطة في البحر، والخردل في القفر ووقّع جعفر بن يحيى لرجل اعتذر عنده من ذنب: قد قدمت طاعتك، وظهرت نصيحتك، ولا تغلب سيئة حسنتين.

ووقّع- وقد قرأ كتابا فاستحسن خطّه-: الخطّ خيط الحكمة، ينظم فيه منثورها، ويفصّل فيه شذورها. واختصم رجلان بحضرته، فقال لأحدهما: أنت خلىّ، وهذا شجىّ؛ فكلامك يجرى على برد العافية، وجوابه يجرى على حرّ المصيبة. ودخل مروان بن أبى حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده: أبرّ فما ترجو الجياد لحاقه ... أبو الفضل سبّاق الأضاميم جعفر وزير إذا ناب الخلافة حادث ... أشار بما عنه الخلافة تصدر فقال جعفر: أنشدنى مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده: أقمنا باليمامة أو نسينا ... مقاما ما نريد به زوالا وقلنا: أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النّوال فلا نوالا؟ وكان الناس كلّهم لمعن ... إلى أن زار حفرته- عيالا حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه على خدّيه، فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده؟ قال: لا، قال: فلو كان معن حيّا، ثم سمعها منك، كم كان يثيبك عليها؟ قال: أربعمائة دينار، قال: فإنّا كنّا نظنّ أنه لا يرضى لك بذلك، وقد أمرنا لك عن معن- رحمه الله- بالضّعف مما ظننته، وزدناك مثل ذلك؛ فاقبض من الخازن ألفا وستمائة دينار قبل أن تخزح، فقال مروان- يذكر جعفرا وما سمح به عن معن-: نفحت مكافئا عن جود معن ... لنا فيما تجود به سجالا فعجّلت العطية يابن يحيى ... لناد به ولم ترد المطالا فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذلت نوالا بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا كأنّ البرمكىّ لكلّ مال ... تجود به يداه يفيد مالا «1»

أخذ هذا من قول زهير: تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الّذى أنت سائله وهذا البيت لزهير من قصيدة يقول فيها: وذى نعمة تمّمتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحقّ باطله دفعت بمعروف من الحقّ صائب ... إذا ما أضسلّ القائلين مفاصله وذى خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلما، وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ نوافله «1» غدوت عليه غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصّريم عواذله يفدّينه طورا، وطورا يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله فأعرضن عنه عن كريم مرزّا ... جموح على الأمر الذى هو فاعله أخى ثقة لا يذهب الخمر ماله ... ولكنّه قد يذهب المال نائه قال أبو الفرج قدامة بن جعفر، فى معنى أبيات زهير الأولى: لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان، على ما عليه أهل الألباب من الاتّفاق في ذلك، إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيبا، وبما سواها مخطئا؛ وقد قال زهير: أخى ثقة لا يتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله فوصفه بالعفّة لقلة إمعانه في اللذات، وأنه لا ينفد فيها ماله، وبالسّخاء لإهلاك ماله في النوال، وانحرافه إلى ذلك عن اللذات، وذلك هو العدل، ثم قال: تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذى أنت سائله

فزاد في وصف السخاء بأنه يهشّ ولا يلحقه مضض ولا تكرّه لفعله ثم قال: فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر يحاوله فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل؛ فاستوفى ضروب المدح الأربعة، التى هي فضائل الإنسان على الحقيقة، وزاد الوفاء، وإن كان داخلا في الأربعة؛ فكثير من الناس لا يعلم وجه دخوله فيها حيث قال «أخى ثقة» فوصفه بالوفاء؛ والوفاء داخل في هذه الفضائل التي قدّ مناها. وقد يتفنّن الشعراء فيعدّون أنواع الفضائل الأربع وأقسامها، وكلّ ذلك داخل في جملتها؛ مثل أن يذكروا ثقابة المعرفة، والحياء، والبيان، والسياسة، والصّدع بالحجّة، والعلم، والحلم عن سفاهة الجهلة؛ وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى، وهو من أقسام العقل. وكذكرهم القناعة، وقلّة الشّره، وطهارة الإزار؛ وغير ذلك أيضا من أقسام العفّة. وكذكرهم الحماية، والأخذ بالثّار، والدفاع، والنّكاية، والمهابة، وقتل الأقران، والسير في المهامه والقفار؛ وما يشاكل ذلك، وهو من أقسام الشجاعة؛ وكذكرهم السماحة، والتغابن، والانظلام، والتبرّع بالنائل، وإجابة السائل، وقرى الأضياف؛ وما جانس هذه الأشياء، وهو من أقسام العدل. فأمّا تركيب بعضها على بعض فتحدث منها ستة أقسام: يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة: الصبر على الملمات، ونوازل الخطوب، والوفاء بالوعود. وعن تركيب العقل مع السخاء: إنجاز الوعد، وما أشبه ذلك. وعن تركيب العقل مع العفة: التنزه والرغبة عن المسألة، والاقتصار على أدنى معيشة، وما أشبه ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع السخاء: الإخلاف، والإتلاف، وما أشبه ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع العفّة: إنكار الفواحش، والغيرة على الحرم. ومن السخاء مع العفة:

[مثل من التجنيس]

الإسعاف بالقوت، والإيثار على النفس، وما شاكل ذلك. وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع وسط بين طرفين مذمومين «1» وقد قال أبو جعفر محمد بن مناذر لما حجّ الرشيد مع البرامكة: أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار، ويا حسن منظر لهم رحلة في كلّ عام إلى العدا ... وأخرى إلى البيت العتيق المشهّر فتظلم بغداد، ويجلو لنا الدّجى ... بمكة ما حجّوا ثلاثة أقمر إذا نزلوا بطحاء مكة اشرقت ... بيحّيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فما خلقت إلّا لجود أكفّهم ... وأقدامهم إلّا لأعواد منبر إذا راض يحيى الأمر ذلّت صعابه ... وحسبك من راع له ومدبّر ترى الناس إجلالا له وكأنهم ... غرانيق ماء تحت باز مصرصر «2» [مثل من التجنيس] قطعة من شعر الأمير أبى الفضل الميكالى في طرف اخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل، قال: لقد راعنى بدر الدّجى بصدوده ... ووكّل أجفانى يرعى كواكبه فيا جزعى، مهلا عساه يعود لى ... ويا كبدى، صبرا على ما كواك به وقال: مواعيده في الفضل أحلام نائم ... أشبّهها بالقفر أو بسرابه فمن لى بوجه لو تحيّر في الدّجى ... أخو سفر في ليل غيم سرى به

وقال: صل محبّا أعياه وصف هواه ... فضناه ينوب عن ترجمانه كلما راقه سواك تصدّت ... مقلتاه بدمعه ترجمانه وقال: يا ذا الذى أرسل من طرفه ... علىّ سيفا قدّنى لو فرا شفاء نفسى منك تخميشة ... تغرس في خدّك نيلوفرا وقال: يا مبتلى بضناه يرجو رحمة ... من مالك يشفيه من أوصابه [أوصاك سحر جفونه بتسهّد ... وتبلّد، فقبلت ما أوصى به] اصبر على مضض الهوى فلربّما ... تحلو مرارة صبره أوصابه وقال: كتبت إليه أستهدى وصالا ... فعلّلنى بوعد في الجواب ألا ليت الجواب يكون خيرا ... فيطفىء ما أحاط من الجوى بى وقال: إن كنت تأنس بالحبيب وقربه ... فاصبر على حكم الرقيب وداره إنّ الرقيب إذا صبرت لحكمه ... بوّاك في مثوى الحبيب وداره وقال: شكوت إليه ما الا في فقال لى: ... رويدا، ففى حكم الهوى أنت موتلى «1» فلو كان حقا ما ادّعيت من الهوى ... لقلّ بما تلقى إذا أن تموت لى وقال: نوى لى بعد إكثار السؤال ... حبيب أن يسامح بالنّوال فلما رمت إنجازا لوعدى ... عليه أبى الوفاء بما نوى لى وكان القرب منه شفاء نفسى ... فقد قضت النوائب بالنّوى لى

وقال: سقيا لدهر مضى والوصل يجمعنا ... ونحن نحكى عناقا شكل تنوين فصرت إذ علقت كفّى خبائلكم ... فسهم هجرك ترمى ثم تنوينى وقال: صدف الحبيب بوصله ... فجفا رقادى إذ صدف ونثرت لؤلؤ أدمع ... أضحى لها جفنى صدف وقال: يا من يقول الشعر غير مهذّب ... ويسومنى التعذيب في تهديبه لو أنّ كلّ النّاس فيك مساعدى ... لعجزت عن تهذيب ما تهذى به وقال: أراد أن يخفى هواه وقد ... نمّ بما تخفى أساريره وكيف يخفى داءه مدنف ... قد ذاب من فرط الأسى ريره «1» وقال: ومهفهف تهفو بل ... بّ المرء منه شمائل فالرّدف دعص هائل ... والقدّ غصن مائل والخدّ نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل والعرف نشر حدائق ... تمّت بهنّ شمائل والطّرف سيف ماله ... إلا العذار حمائل ولأبى الفتح البستى في هذا المذهب: إن لى في الهوى لسانا كتوما ... وجنانا يخفى حريق جواه غير أنى أخاف دمعى عليه ... ستراه يفشى الذى ستراه

ولأبى الفتح البستى في مذهب هذا البيت الأخير: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعانى أمت بما أودعانى وله: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكلّ الأنام ... فمستحسن من ذوى الجاه لين وله: إلى حتفى سعى قدمى ... أرى قدمى أراق دمى فما أنفكّ من ندمى ... وليس بنافعى ندمى وله: إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كمىّ هرّ عامله وإن أقرّ على رقّ أنامله ... أقرّ بالرّق كتّاب الأنام له وقال لمن استدعاه إلى مودّته: فديتك قلّ الصديق الصّدوق ... وقلّ الخليل الحفىّ الوفى ولى راغب فيك إمّا وفيت ... فهل راغب أنت في أن تفى وللأمير أبى الفضل: أهلا بظبى حواه قصر ... كجنّة قد حوت نعيما طرقته لا أهاب سوءا ... أباحنى حبّه الحريما فجاد من فيه لى براح ... تنفى حريقا به قديما أفدى حريقا أباح ريقا ... لا بل حريما أباح ريما وله: من لى بشمل المنى والأنس أجمعه ... بشادن حلّ فيه الحسن أجمعه

فقر في ذكر العلم والعلماء

مازال يعرض عن وصلى وأخدعه ... فالآن قد لان بعد الصدّ أخدعه «1» وقال: بأبى غزل نام عن وصبى به ... ومراق دمعى للنّوى وصبيبه يا ليته يرثى على ولهى به ... لغرام قلبى في الهوى ولهيبه وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاما مخمورا خمش وجهه: هبه تغيّر حائلا عن عهده ... ورمى فؤادى بالصدود فأزعجا ما بال نرجسه تحوّل وردة ... والورد في خدّيه عاد بنفسجا وله في هذا المعنى: وريم على السّكر خمّشته ... بقرص بعارضه أثّرا فأصح نرجسه وردة ... ووردة خدّيه نيلوفرا وقال في وصف العذار: ظبى كسا رأس الشهاب بعارض ... نمّ العذار بحافتيه فلاحا فكأنما أهدى لعارض خدّه ... شعرى ظلاما واستعاض صباحا وقال في غلام افتصد: ومهفهف غرس الجما ... ل نحدّه روضا مريعا فصد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعى ذريعا وأمسّنى وقع الحديد ... بعرقه ألما وجيعا فأريته من عبرتى ... ما سال من دمه نجيعا فقر في ذكر العلم والعلماء العلماء ورثة الأنبياء. والعلماء أعلام الإسلام. العلماء في الأرض كالنجوم فى السماء.

ابن المعتز- العلماء غرباء، لكثرة الجهل. وله: العلم جمال لا يخفى، ونسب لا يجفى. وله: زلّة العالم كانكسار سفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير. غيره- إذا زلّ العالم، زلّ بزلّته عالم. غيره: الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. من لم يحتمل ذلّ التعلم ساعة، بقى في ذلّ الجهل أبدا. ماصين العلم بمثل بذله لاهله. من كتم علما فكأنه جاهله. العلم يمنع أهله ... أن يمنعوه أهله «1» ابو الفتح كشاجم: لا تمنع العلم امرأ ... والعلم يمنع جانبه أما الغبىّ فليس يفهم ... لطفه وغرائبه وتكون حاضرة الفوا ... ئد عنده كالغائبه وأخو الحصافة مستحقّ ... أن ينال مطالبه فبحقّه أعطيته ... من فضل علمك واجبه ومن رقّ وجهه عند السؤال، رقّ علمه عند الرجال. علم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر. كما لا ينبت المطر الكثير الصّخر، كذلك لا ينفع البليد كثرة التعلم. من ترفّع بعلمه وضعه الله بعمله. الجاهل صغير وإن كان كبيرا، والعالم كبير وإن كان صغيرا. من أكثر مذاكرة العلماء، لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم. ابن المعتز: المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. إذا علمت فلا تذكر من دونك من الجهال، واذكر من فوقك من العلماء. النار لا ينقصها ما أخذ منها، ولكن ينقصها ألّا تجد حطبا، كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس منه، وفقد الحاملين له سبب عدمه.

استعارات فقهية تليق بهذا المكان

مات خزنة الأموال وهم أحياء، وعاش خزّان العلم وهم أموات. مثل علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه. أزهد الناس في عالم جيرانه. وقيل للصّلت بن عطاء، وكان مقدّما عند البرامكة: كيف غلبت عليهم وعندهم من هو آدب منك؟ قال: ليس للقرباء طرافة الغرباء، وكنت امرأ بعيد الدار، نائى المزار، غريب الاسم، قليل الجرم، كثير الالتواء، شحيحا بالإملاء؛ فرغّبهم فىّ رغبتى عنهم، وزهّدنى فيهم رغبتهم فىّ. علم لا يعبر معك الوادى، لا يعمر بك النادى. لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف. إذا ازدحم الجواب خفى الصواب. الغلط تحت اللّغط. خرق الإجماع خرق. المحجوج بكلّ شىء ينطق استعارات فقهية تليق بهذا المكان دخل أبو تمام الطائى على أحمد بن أبى داود في مجلس حكمه، وأنشده أبياتا يستمطر نائله، وينشر فضائله، فقال: سيأتيك ثوابها يا أبا تمام، ثم اشتغل بتوقيعات في يده؛ فأحفظ ذلك أبا تمام، فقال: احضر أيدك الله فإنك غائب، واجتمع فإنك مفترق، ثم أنشده: إنّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجى من الصّفد كما الدنانير والدراهم في ال ... صّرف حرام إلا يدا بيد فأمر بتوفير حبائه، وتعجيل عطائه. ولما ولى طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه، وفيهم تمام بن أبى تمام فأنشده: هنّاك ربّ الناس هنّاكا ... مامن جزيل الملك اعطاكا قرّت بما أعطيت يا ذا الحجى ... والبأس والإنعام عيناكا أشرقت الأرض بما نلته ... وأورق العود بجدواكا فاستضعف الجماعة شعره، وقالوا: يا بعد ما بينه وبين ابيه! فقال طاهر

[ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان، وسببها]

لبعض الشعراء: أجبه، فقال: حيّاك ربّ الناس حيّاكا ... إن الذى أمّلت أخطاكا فقلت قولا فيه ما زانه ... ولو رأى مدحا لآساكا فهاك إن شئت بها مدحة ... مثل الذى أعطيت أعطاكا فقال تمام: أعز الله الأمير، وإنّ الشّعر بالشعر ربا، فاجعل بينهما صنجا من الدراهم، حتى يحلّ لى ولك! فضحك وقال: إلا يكن معه شعر أبيه، فمعه ظرف أبيه؛ أعطوه ثلاثة آلاف درهم! فقال عبد الله بن إسحاق: لو «1» لم يعط إلا لقول أبيه في الأمير أبى العباس- رحمه الله- يريد عبد الله بن طاهر: يقول في قومس صحبى وقد أخذت ... منّا السّرى وخطا المهريّة القود: أمطلع الشمس تبغى أن تؤمّ بنا؟ ... فقلت: كلا، ولكن مطلع الجود فقال: ويعطى بهذا ثلاثة آلاف. [ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان، وسببها] وكان سبب ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدّث به أبو العيناء قال: كنا عند أحمد بن دواد، فجاء الخبر أن الكتب وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر، وأن الواثق يعزّى عنه، وأنه قد ولّى مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم، وكان عدوّا له لا نخراطه في سلك ابن الزيات؛ فلبس ثيابه ومضى، وقال: لا تبرحوا حتى أعود إليكم؛ فلبث قليلا، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد الله وجلس، قال: فقال لى الواثق: قد ولّينا إسحاق خراسان، فما عندك؟ قلت: وفق الله أمير المؤمنين ولا نذمّه. قال: قل ما عندك فى هذا. قلت: أمر قد أمضى، فما عسيت أن أقول فيه. قال: لتفعلنّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، خراسان منذ ثلاثين سنة فى يد طاهر وابنه، وكلّ من بها صنائعهم، وقد خلّف عبد الله عشر بنين أكثرهم رجال، وجميع جيش خراسان

لهم عبيد أو موال أو صنائع، وسيقولون: أما كان فينا مصطنع؟ وكان يجب أن يجرّبنا أمير المؤمنين، فإن وفينا بما كان يفى به أبونا وجدّنا، وإلّا استبدل منا بعد عذر فينا؛ ويقدم خراسان إسحاق وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء، ويتعصّب أهلها لهم؛ فينتقض ما أبرم، ويفسد ما أصلح قال: صدقت يا أبا عبد الله، والرأى ما قلت، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد الله على خراسان. فكتبت كتب طاهر، وخرقت كتب إسحاق، فخرجت الزنج تطير بها، ثم لقينى إسحاق داخلا، فقلت: يا أبا الحسن، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة. ومدح ابن الرومى أبا العباس بن ثوابة، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها، فقال ابن الرومى: أليس القوافى بنات الفتى ... إذا صورة الحقّ لم تمسخ فلا تقبلنّ أماديحه ... حرام نكاح بنات الأخ ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم: السيف أصدق أنباء من الكتب قال له: لقد جلوت عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحور العين لكان حسن إصغائك إليها من أوفى مهورها. وقال الأمير أبو الفضل الميكالى: أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكمىّ ملكت الحسن أجمع في قوام ... فأدّ زكاة منظرك البهىّ وذلك أن تجود لمستهام ... بريق من مقبّلك الشّهىّ فقال: أبو حنيفة لى إمام ... فعندى لا زكاة على الصّبىّ وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال: أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظه قلب الجليد

ملكت الحسن أجمع في قوام ... فلا تمنع وجوبا عن وجود وذلك أن تجود لمستهام ... برشف رضابك العذب البرود فقال: أبو حنيفة لى إمام ... فعندى لا زكاة على الوليد وقال: بنفسى غزال صار للحسن قبلة ... يحجّ من البيت العتيق ويقصد دعانى الهوى فيه فلبّيت طائعا ... وأحرمت بالإخلاص والسّعى يشهد فطرفى بالتسهيد والدّمع قارن ... وقلبى عليه بالصبابة مفرد وقال أبو الفتح كشاجم: فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة من ذلك الخبر فلم يزل خدّها ركنا أطوف به ... والخل في خدّها يغنى عن الحجر وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبى نصر بن المرزبان: كتابى أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم، والحمد لله رب العالمين، كيف تقلّب الشيخ في درع العافية، وأحواله بتلك الناحية؛ فإنى ببعده منغّص شرعة العيش، مقصوص أجنحة الأنس. ورد كتابه المشتمل من خبر سلامته، على ما أرغب إلى الله في إدامته، وسكنت إليه بعد انزعاجى لتأخّره؛ وقد كان رسم أن أعرّفه سبب خروجى من جرجان، ووقوعى بخراسان، وسبب غضب السلطان؛ وقد كانت القصة أنى لما وردت من ذلك السلطان حضرته، التى هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجّاج، ومستقرّ الكرم، لا مشعر الحرم، وقبلة الصّلات، لا قبلة الصلاة، ومنى الضّيف، لا منى الخيف، وجدت بها ندماء من نبات العام «1» ، اجتمعوا

قيضة كلب «1» على تلفيق خطب، أزعجنى عن ذلك الفناء، وأشرف بى على الفناء، لولا ما تدارك الله بجميل صنعه، وحسن دفعه؛ ولا أعلم كيف احتالوا، ولا ما الّذى قالوا؛ وبالجملة غيّروا رأى السلطان، وأشار علىّ إخوانى، بمفارقه مكانى، وبقيت لا أعلم أيمنة أضرب أم شآمة، ونجدا أقصد أم تهامة! ولو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجّاج علىّ دليل وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيّم لم يرج صحوه، وماء إذا تغيّر لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه، وليس بين رضاه والسخط عوجة، كما ليس بين غضبه والسيف فرجة، وليس من وراء سخطه مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز؛ فهو سيّد يغضبه الجرم الخفىّ، ولا يرضيه العذر الجلى؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصّبح؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب عن هذه العذر وله برهان؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح؛ ودو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزحه بين القدّ والقطع، وجده بين السيف والنّطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون؛ ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدى من التأنيب إلا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضى عن السقطة، كجرم النقطة؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولى إلا بفمه، ولا العدو إلا بدمه؛ والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما أنّ الأجسام بين حله ووثاقه؛ فنظرت فإذا أنا بين

[أبو على البصير وشىء من أدبه]

جودين: إما أن أجود ببأسى، وإمّا أن أجود برأسى؛ وبين ركوبين: إمّا المفازة، وإمّا الجنازة؛ وبين طريقين: إما الغربة، وإمّا التربة؛ وبين فراقين: إمّا أن أفارق أرضى، أو أفارق عرضى؛ وبين راحلتين: إمّا ظهور الجمال، وإمّا أعناق الرجال؛ فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن؛ وأنشدت: إذا لم يكن إلّا المنية مركب ... فلا رأى للمحمول إلا ركوبها ولّد ما ذكر من «كعبة [المحتاج، لا كعبة] الحجّاج» ، من قول أبى تمام: بيتان حجّههما الأنام؛ فهذه ... حجّ الغنىّ، وتلكم للمعدم [أبو علىّ البصير وشىء من أدبه] وشتم بعض الطالبيين أبا علىّ الفضل بن جعفر البصير، فقال أبو علىّ: والله ما نعيا عن جوابك، ولا نعجز عن مسابّك؛ ولكنّا نكون خيرا لنسبك منك، ونحفظ منه ما أضعت؛ فاشكر توفيرنا ما وفّرنا منك، ولا يغرّنّك بالجهل علينا حلمنا عنك. وسأل أبو على البصير بعض الرؤساء حاجة ولقيه؛ فاعتذر إليه من تأخّرها؛ فقال أبو علىّ: فى شكر ما تقدّم من إحسانك شاغل من استبطاء ما تأخّر منه. وأبو علىّ أحد من جمع له حظّ البلاغة في الموزون والمنثور، وهو القائل: ألمّت بنا يوم الرحيل اختلاسة ... فأضرم نيران الهوى النّظر الخلس تأبّت قليلا وهي ترعد خيفة ... كما تتأبّى حين تعتدل الشمس فخاطبها صمتى بما أنا مضمر ... وأنبست حتى ليس يسمع لى حسّ وولّت كما ولى الشباب لطيّة ... طوت دونها كشحا على يأسها النفس وقال يصف بلاغة الفتح بن خاقان وشعره: سمعنا بأشعار الملوك؛ فكلّها ... إذا عضّ متنيه الثّقاف تأوّدا سوى ما رأينا لامرئ القيس؛ إننا ... نراه- متى لم يشعر الفتح- أوحدا

أقام زمانا يسمع القول صامتا ... ونحسبه إن رام أكدى وأصلدا [فلما امتطاه راكبا ذلّ صعبه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجدا] والفتح بن خاقان يقول: وإنى وإياها لكالخمر، والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد إذا ازددت منها زاد وجدى بقربها ... فكيف احتراسى من هوى متجدّد وكتب إلى أبى الحسن عبيد الله بن يحيى: وإن أمير المؤمنين لمّا استخلصك لنفسه، وائتمنك على رعيّته؛ فنطق بلسانك، وأخذ وأعطى بيدك، وأورد وأصدر عن رأيك، وكان تفويضه إليك بعد امتحانه إياك، وتسليطه الحقّ على الهوى فيك، وبعد أن مثّل بينك وبين الذين سموا لمرتبتك، وجروا إلى غايتك، فأسقطهم مضاؤك، وخفّوا في ميزانك، ولم يزدك- أكرمك الله- رفعة وتشريفا إلّا ازددت له هيبة وتعظيما، ولا تسليطا وتمكينا، إلا زدت نفسك عن الدنيا عزوفا وتنزيها، ولا تقريبا واختصاصا، إلا ازددت بالعامة رأفة وعليها حدبا، لا يخرجك فرط النصح له عن النظر لرعيّته، ولا إيثار حقّه عن الأخذ بحقّها عنده، ولا القيام بما هو له عن تضمين ما هو عليه، ولا يشغلك معاناة كبار الأمور عن تفقّد صغارها، ولا الجدّ في صلاح ما يصلح منها عن النظر في عواقبها؛ تمضى ما كان الرّشد في إمضائه، وترجىء ما كان الحزم في إرجائه، وتبذل ما كان الفضل في بذله، وتمنع ما كانت المصلحة في منعه، وتلين في غير تكبّر، وتخصّ في خير ميل، وتعمّ في غير تصنّع، لا يشقى بك المحقّ وإن كان عدوّا، ولا يسعد بك المبطل وإن كان وليّا؛ فالسلطان يعتدّ لك من الغناء والكفاية، والذّبّ والحياطة، والنّصح والأمانة، والعفّة والنزاهة، والنصب فيما أدّى إلى الراحة، بما يراك معه- حيث انتهى إحسانه إليك- مستوجبا للزيادة وكافة الرعية- إلا من غمط منهم النّعمة- مثنون عليك بحسن السيرة، ويمن النقيبة، ويعدّون من مآثرك أنك لم تدحض لأحد حجّة؛ ولم تدفع حقّا

[بعض ما يبعث على الرحيل]

لشبهة؛ وهذا يسير من كثير، لو قصدنا لتفصيله، لأنفدنا الزمان قبل تحصيله، ثم كان قصدنا الوقوف دون الغاية منه وله إلى عبيد الله بن يحيى: يقطعنى عن الأخذ بحظّى من لقائك، وتعريفك ما أنا عليه عن شكر إنعامك، وإفرادى إياك بالتأميل دون غيرك، نخلفى عن منزلة الخاصّة، ورغبتى عن الحلول محلّ العامة، وأنى لست معتادا للخدمة ولا الملازمة، ولا قويّا على المغاداة والمراوحة؛ فلا يمنعك ارتفاع قدرك، وعلو أمرك، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة، من أن تتطوّل بتجديد ذكرى، والإصغاء إلى من يحضّك على وصلى وبرّى، ويزغبك في إسداء حسن الصنيعة عندى. وله إليه آخر فصل من كتاب: وأنا أسأل الله الذى رحم العباد بك، على حين افتقار منهم إليك، أن يعيذهم من فقدك، ولا يعبدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك. [بعض ما يبعث على الرحيل] ولقى رجل رجلا خارجا من مصر يريد المغرب، فقال: يا أخى؛ أتتّبع القطر، وتدع مجرى السيول؟ فقال: أخرجنى من مصر حقّ مضاع، وشحّ مطاع، وإقتار الكريم، وحركة اللئيم، وتغيّر الصديق، بين السعة والضّيق، والهرب إلى النّزر بالعز، خير من طلب الوفر بذلّ العجز. [من الوصايا لمن اعتزم السفر] وأوصى بعض الحكماء صديقا له، وقد أراد سفرا، فقال: إنك تدخل بلدا لا يعرفك أهله؛ فتمسّك بوصيتى تنفق بها فيه: عليك بحسن الشمائل فإنها تدلّ على الحرية؛ ونقاء الأطراف فإنها تشهد بالملوكية؛ ونظافة البرّة فإنها تنبىء عن النّشء في النّعمة؛ وطيب الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون

قدرك، والزم الحياء والأنفة؛ فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة، وإن أنفت عن الغلبة، لم يتقدمك نظير في مرتبة. قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يوصى آخر أراد سفرا؛ فقال: آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذى يدعوك إلى الهدى، ويجنّبك من الرّدى، واحبس هواك عن الفواحش، وأطلقه في المكارم؛ فإنك تبرّ بذلك سلفك، وتشيد به شرفك. وأوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: يا بنى؛ إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء، ولعلّك لا تلقى غير الأعداء؛ فخالط الناس بجميل البشر، واتّق الله في العلانية والسرّ. وقال بعض الملوك لحكيم وقد أراد سفرا: قفنى على أشياء من حكمتك أعمل بها في سفرى؛ فقال: اجعل تأنيك أمام عجلتك، وحلمك رسول شدّتك، وعفوك مالك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب رعيّتك، مالم تحرجهم بالشدة عليهم، أو تبطرهم بالإحسان إليهم. وقال أبان بن تغلب: شهدت أعرابية توصى ولدا لها أراد سفرا وهي تقول: أبى بنى! اجلس أمنحك وصيتى، وبالله توفيقك، قال أبان: فوقفت مستمعا لكلامها، مستحسنا لوصيّتها، فإذا هي تقول: أى بنى! إياك والنّميمة، فإنها تزرع الضغينة، وتفرّق بين المحّبين، وإياك والتعرض للعيوب فتتّخذ غرضا، وخليق ألّا يثبت الغرض على كثرة السهام؛ وقلّما اعتورت السهام غرضا إلّا كلمته، حتى يهى ما اشتدّ من قوّته؛ وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك؛ وإذا هززت فاهزز كريما يلن لمهزّتك؛ ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجّر ماؤها، ومثّل بنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه؛ فإن المرء لا يرى عيب نفسه؛ ومن كانت مودّته بشره، وخالف منه ذلك فعله، كان صديقه منه على مثل الريح في تصرّفها.

فقر في مدح السفر

ثم أمسكت، فدنوت منها، فقلت لها: بالله يا أعرابية، إلّا ما زدته في الوصية؛ قالت: أو قد أعجبك كلام العرب يا حضرى؟ قلت: نعم! قالت: الغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلّة ريطتها وسربالها. فقر في مدح السفر أبو القاسم بن عباد الصاحب: الخبر المنقول أنّ المقبوض غريبا شهيد. وفي الحديث: سافروا تغنموا. السفر أحد أسباب العيش التي بها قوامه، وعليها نظامه. إنّ الله لم يجمع منافع الدنيا في الأرض؛ بل فرّقها وأحوج بعضها إلى بعض. المسافر يسمع العجائب، ويكسب التجارب، ويجلب المكاسب. الأسفار مما تزيدك علما بقدرة الله وحكمته، وتدعوك إلى شكر نعمته. ليس بينك وبين بلد نسب؛ فخير البلاد ما حملك. السفر يسفر عن أخلاق الرجال. أوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أنسك، واهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك. ربما أسفر السفر عن الظّفر، وتعذّر في الوطن قضاء الوطر، وأنشد: ليس ارتحالك تزتاد الغنى سفرا ... بل المقام على خسف هو السفر وهذا كقول الطائى: وما القفر بالبيد الفضاء، بل التى ... نبت بى وفيها ساكنوها هي القفر أخذه المتنبى فقال: إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... ألّا تفارقهم فالرّاحلون هم نقيض ذلك في ذم السفر والغربة فى الحديث إن المسافر وماله لعلى، قلت: إلّا ما وقى الله، أى على هلاك. شيئان لا يعرفهما إلا من ابتلى بهما: السفر الشاسع، والبناء الواسع. السفر والسّقم والقتال ثلاث متقاربة؛ فالسفر سفينة الأذى، والسّقم حريق الجسد،

[العزل والإبعاد والحجب بعد التقريب والمؤانسة]

والقتال منبت المنايا. إذا كنت في غير بلدك فلا تنس نصيبك من الذّل. الغربة كربة. النّقلة مثلة. الغريب كالغرس الذى زايل أرضه، وفقد شربه؛ فهو ذاو لا يثّمر، وذابل لا ينضر الغريب كالوحش النائى عن وطنه؛ فهو لكل سبع فريسة، ولكل رام رميّة؛ وأنشد: لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسّع في اغتراب وقال أبو الفتح البستى: لا يعدم المرء شيئا يستعين به ... ومنعه بين أهليه وأصحابه ومن نأى عنهم قلّت مهابته ... كالليث يحقر لمّا غاب عن غابه [العزل والإبعاد والحجب بعد التقريب والمؤانسة] كتب أبو عبيد الله إلى المهدى بعد عزله إياه عن الدواوين: لم ينكر أمير المؤمنين حالى في قرب المؤانسة وخصوص الخلطة، وحالى عنده قبل ذلك في قيامى بواجب خدمته، التى أذنتنى من نعمته، فلم أبدّل- أعزّ الله أمير المؤمنين- حال التبعيد، ويقرّب في محل الإقصاء، وما يعلم الله منى فيما قلت إلّا ما علمه أمير المؤمنين، فإن رأى أكرمه الله أن يعارض قولى بعلمه بدءا وعاقبة فعل إن شاء الله. فلما قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبه، فقال: ظلمنا أبا عبيد الله، فيردّ إلى حاله، ويعلم ما تجدّد له من حسن رأيى فيه. ولما أمر المأمون أن يحجب عنه الفضل بن الربيع لسبب تألّم قلبه منه كتب إليه: يا أمير المؤمنين! لم ينسنى التقريب حالى أيام التبعيد، ولا أغفلتنى المؤانسة عن شكر الابتداء؛ فعلى أىّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين، ويلحقنى ذمّ التقصير في واجب خدمته؟ وأمير المؤمنين أعدل شهودى على الصّدق فيما وصفت؛ فإن رأى أمير المؤمنين ألا يكنم شهادتى فعل إن شاء الله. وقال أبو جعفر المنصور لأبى مسلم حين أزمع قتله: هل كنت قبل قيامك بدولتنا جائز الأمر على عبدين؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين. قال: فلم لم تعرض

جملة من شعر أبى الفتح كشاجم في لأوصاف

حالى عسرتك ومهانتك على أيامنا، وتعرف لنا ما يعرف غيرك من إجلالنا وإعظامنا، حتى لا ينازعك الحين عنان الطمأنينة؟ قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين: ولكنّ الزمان وإساءته قلبا ما كان من حسن صنيعتى، قال: فلا مرغوب فيك، ولا مأسوف عليك، وفي الله خلف منك! وأمر بقتله «1» جملة من شعر أبى الفتح كشاجم في لأوصاف قال يصف أجزاء من القرآن: من يتب خشية العقاب فإنى ... تبت أنسا بهذه الأجزاء بعثتنى على القراءة والنّس ... ك وما خلتنى من القرّاء حين جاءت تروقنى باعتدال ... من قدود وصيغة واستواء سبعة أشبهت لى السبعة الأن ... جم ذات الأنوار والأضواء «2» كسيت من أديمها الحالك اللّو ... ن «3» غشاء أحبب به من غشاء مشبها صبغة الشّباب ولمّا ... ت العذارى ولبسة الخطباء ورأت أنها تحسن بالضدّ ... فتاهت بحلية بيضاء فهى مسودّة الظهور، وفيها ... نور حقّ يجلود جى الظّلماء مطبقات على صحائف كالرّيط ... تخيّرنّ من مسوك الظباء «4» وكأنّ الخطوط فيها رياض ... شاكرات صنيعة الأنواء وكأنّ البياض والنّقط السّو ... د عبير رششته في ملاء وكأن العشور والذّهب السا ... طع فيها كواكب في سماء

وهي مشكولة بعدّة أشكا ... ل ومقروءة على أنحاء فإذا شئت كان حمزة فيها ... وإذا شئت كان فيها الكسائى خضرة في خلال حمر وصفر ... بين تلك الأضعاف والأثناء مثل ما أثّر الدّبيب من الذّرّ ... على جلد بضّة عذراء «1» ضمّنت محكم الكتاب كتاب الله ... ذى المكرمات والآلاء فحقيق علىّ أن أتلو القر ... آن فيهنّ مصبحى ومسائى وقال يصف التخت الذى يضرب عليه حساب الهند: وقلم مداده تراب ... فى صحف سطورها حساب يكثر فيها المحو والإضراب ... من غير أن يسوّد الكتاب حتى يبين الحقّ والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب فيه ولا شكّ ولا ارتياب وقال يصف بركارا استهداه: «2» جدلى ببركارك الذى صنعت ... فيه يدا قينه «3» الأعاجيبا ملتئم الشّعبتين «4» معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا شخصان في شكل واحد قدرا ... وركّبا بالعقول تركييا أشبه شيئين في اشتكالهما «5» ... بصاحب لا يزال مصحوبا أوثق مسماره وغيّب عن ... نواظر الناقدين تغييبا فعين من يجتليه يحسبه ... فى قالب الإعتدال مصبوبا قد ضمّ قطريه «6» محكما لهما ... ضمّ محبّ إليه محبوبا يزداد حرصا عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا

ذو مقلة بصّرته مذهبه «1» ... لم تأله رقّة وتهذيبا ينظر فيها إلى الصواب فما ... بها يزال الصواب مطلوبا لولاه ما صحّ خطّ دائرة «2» ... ولا وجدنا الحساب محسوبا [الحق فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا] لو عين إقليدس به بصرت ... خرّ له بالسجود مكبوبا فابعثه واجنبه لى بمسطرة ... تلف الهوى بالثناء مجنوبا وقال يصف بيكاتا «3» : روح من الماء في جسم من الصّفر ... مولّد بلطيف الحسّ والنظر مستعبر لم يغب عن طرفه سكن ... ولم يبت من ذوى ضغن على حذر له على الظهر أجفان محجّرة ... ومقلة دمعها جار على قدر تنشا له حركات من أسافله ... كأنها حركات الماء في الشجر وفي أعاليه حسبان يفصّله ... للناظرين بلا ذهن ولا فكر إذا بكى دار فى أحشائه فلك ... خافى المسير وإن لم يبك لم يدر مثرجم عن مواقيت يخبّرنا ... بها فيوجد فيها صادق الخبر تقضى به الخمس في وقت الوجوب وإن ... غطّي على الشمس ستر الغيم والمطر وإن سهرت لأوقات تؤرّقنى ... عرفت مقدار ما ألقى من السّهر محدّد كلّ ميقات تخيّره ... ذوو التّخيّر للأسفار والحضر ومخرج لك بالأجزاء ألطفها ... من النهار وقوس الليل والسّحر نتيجة العلم والتفكير صورته ... يا حبّذا أبدع الأفكار في الصور

وقال يصف اسطرلابا: ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كلّ رافعة الأشكال مصفوح صلب يدار على قطب يثّبته ... تمثال طرف بشكر الحذق مكبوح ملء البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم من أقطارها الفيح «1» تلفى به السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح تنبيك عن طائح الأبراج هيئته ... بالشمس طورا، وطورا بالمصابيح وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم فيه مشروح وإن تعرّض في وقت يقدره ... لك التشكك جلّاه بتصحيح مميز في قياسات الضلوع به ... بين المشائم منها والمناجيح له على الظهر عينا حكمة بهما ... يحوى الضياء وتنجيه من اللوح وفي الدواوين من أشكاله حكم ... تنقّح العقل فيها أىّ تنقيح لا يستقلّ لما فيه بمعرفة ... إلّا الحصيف اللطيف الحسّ والرّوح حتى ترى الغيب فيه وهو مغلق ... الأبواب عمن سواه جدّ مفتوح نتيجة الذهن والتفكير صوّره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح وكان أبو شجاع فناخسرو عضد الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابى، على تقدمه في الكتابة، ومكانه في البلاغة، واستصفى أمواله من غير إيقاع به في نفسه، فأهدى إليه في يوم مهرجان اسطرلابا في دور الدرهم، وكتب إليه: أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... فى مهرجان عظيم أنت تعليه

[من أوصاف النساء]

لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شىء يساميه لم يرض بالأرض يهديها إليك، فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه [من أوصاف النساء] وقول أبى الفتح: «ملء البنان...... البيت» نظير قول على ابن العباس الرومى يصف هن امرأة «1» : يسع السبعة الأقاليم طرّا ... وهو في أصبعين من إقليم كضمير الفؤاد يلتهم الدنيا ... وتحويه دفّتا حيزوم وإنما أخذه ابن الرومى من قول بعض الشعراء يذكر كاتبا فى كفه أخرس ذو منطق ... بقافه واللام والميم شبر إذا قيس، ولكنه ... فى فعله مثل الأقاليم محذّف الرّأس ومسودّه ... كإبرة الرّوق من الرّيم «2» وهذا البيت الأخير مقلوب من قول عدى بن الرقاع العاملى، وقد وصف قرن ريم، وشبهه بقلم عليه مداد، وذكر ظبية. ترجى أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها وقلب المعنى إذا تمكن الشاعر من إخفائه لا يجرى مجرى السرقة. وقد ترى تكثير الشعراء من تشبيه أوراك النسوان بالرّمل والكثبان، قال الشاعر: وبيض نضيرات الوجوه كأنما ... تازّرن دون الأزر رملات عالج خدال الشّوى لا تحتشى غير خلقها ... إذا الرّسح لم يصبرن دون المنافج «3»

يذرن مروط الخزّ ملأى كأنها ... قصار وإن طالت بأيدى النّواسج وهذا المعنى متداول متناقل في الجاهلية والإسلام، فأغرب ذو الرمة في قلبه وأحسن، فقال يصف رملا: ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جلّلته المظلمات الحنادس وكذلك مدحهم ضمور الكشح، وجولان الوشح، وصموت القلب والخلخال، وامتناع الخدام من المجال؛ قال خالد بن يزيد بن معاوية، وذكر رملة بنت الزبير بن العوام: تجول خلاخيل النساء، ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا «1» أحبّ بنى العوّام طرّا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا وقال النابغة: على أنّ حجليها وإن قلت أوسعا ... صموتان من ملء وقلة منطق وقال الطائى: مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلّا أنّ تلك ذوابل من الهيف لو أنّ الخلاخيل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل «2» وقال ابن أبى زرعة الدمشقى: استكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظلام به فما نطقا حتى إذا ريح الصّبا نسمت ... ملأ العبير بسيرها الطّرقا وقال المتنبى: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا قلب هذا كله أبو عثمان الناجم، فقال يهجو قينة:

مسلولة الكلّ غير بطن ... مثقّل فهى عنكبوت حجولها الدّهر في اصطخاب ... ووشحها كظّم صموت وقال أبو عثمان يمدح قينة: محسنة في كلّ ألحانها ... لا كالتى تحسن في النّدره ثم قلبه في هجاء، فقال: عجبت منها ويحها كيف لا ... تخطئ بالإحسان في النّدره وهذا مأخوذ من قول محمد بن مناذر يهجو خالد بن طليق، وكان قد تقلد قضاء البصرة: يا عجبا من خالد كيف لا ... يخطئ فينا مرّة بالصواب كان قضاة الناس فيما مضى ... من رحمة الله، وهذا عذاب وهذا أيضا من قلب الهجاء مديحا، والمديح هجاء؛ كما قال مسلم بن الوليد يهجو قوما: قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم بقبح المخبر قلبه أبو الطيب المتنبى فقال: وأستكثر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر وقال أبو تمام: عبأ الكمين له فضلّ لحينه ... وكمينه المخفى عليه كمين قلبه البحترى فقال: لا ييأس المرء أن ينجيه ... ما يحسب الناس أنه عطبه وقال أبو تمام: وحشيّة ترمى القلوب إذا غدت ... وسنى فما تصطاد غير الصّيد قلبه البحترى فقال: على أننى أخشى على دار أمنها ... فوارس يصطاد الفوارس صيدها

[من المعانى ما لا ينقلب]

وقال أبو تمام: يشنأ الغيث وهو جدّ حبيب ... ربّ حزم في بغضة الموموق قلبه البحترى فقال: يسرّنى الشىء قد يسوءكم ... نوّه يوما بخامل لقبه قال أبو الفضل أحمد بن أبى طاهر: المعنى في المصراع الأول أبين منه في الثانى؛ ألا ترى أنه لو قال: إنه ليسوءك الشىء قد يسر، كان مثل ذلك المعنى مستويا، إلا أنه قلبه لحاجته. قال ابن الرومى يهجو مغنية: قينة ملعونة من أجلها ... رفض اللهو معا من رفضه فإذا غنّت ترى في حلقها ... كلّ عرق مثل بيت الأرضه فقلبه ابن المعتز فقال يصف أرضة أكلت له كتابا. تثنى أنابيب لها فيها سبل ... مثل العروق لا ترى فيها خلل وهذا كثير يكتفى منه باليسير. [من المعانى ما لا ينقلب] ومن المعانى مالا ينقلب: ألا ترى أنك تقول: نام القوم حتى كأنهم موتى، ولا يحسن أن تقول: ماتوا حتى كأنهم نيام؛ وقد أخذ على أبى نواس قوله يصف دارا وقف بها: كأنها إذ خرست جارم ... بين يدى تفنيده مطرق قالوا: إنما يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه فسكت وانقطعت حجّته بالدار الخالية التي لا تجيب. وأخذوا عليه قوله: كأن نيراننا في جنب حصنهم ... معصفرات على أرسان قصّار وقد تبعه أبو تمام الطائى فقال في الأفشين لما أحرق: ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سرّ الزّناد الوارى نار يساور جسمه من حرّها ... لهب كما عصفرت شقّ إزاز

قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم

طارت له شعل يهدّم لفحها ... أركانه هدما بغير غبار فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكلّ فقار صلّى لها حيّا، وكان وقودها ... مبتا، ويدخلها مع الكفار وكذاك أهل النار في الدنيا هم ... يوم القيامة جلّ أهل النّار أردت البيت الثانى، قالوا: وإنما تشبه الثياب المعصفرة بالنار؛ فهذا وما أشبهه لا يتوازن انعكاسه، وتتضادّ قضاياه؛ وإنما يصح القلب فيما يتحقق تضادّه أو يتقارب. قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم قال أبو الفتح البستى: قد غضّ من أملى أنى أرى عملى ... أقوى من المشترى في أوّل الحمل وأننى راحل عمّا أحاوله ... كأننى أستدرّ الحظّ من زحل وقال: إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب ألم تر الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا برج نجم اللهو والطّرب وقال: وقد تدنى الملوك لدى رضاها ... وتبعد حين تحتقد احتقادا كما المرّيخ في التثليث يعطى ... وفي التربيع يسلب ما أفادا وقال: ألا فثقوا بى فإنى كما ... تمدّحت فليمتحن من يحب فما كوكبى راجعا في الوفاء ... ولا برج قلبى بالمنقلب «1» وقال: لئن كسفونا بلا علّة ... وفازت قداحهم بالظفر فقد يكسف المرء من دونه ... كما يكسف الشمس جرم القمر

وقال: شرف الوغد بوغد مثله ... مثل ما فيه بزيغ وخلل ودليل الصدق فيما قلته ... شرف المرّيخ في بيت زحل وقال: قل للذى غرّته عزّة ملكه ... حتى أخلّ بطاعة النّصحاء شرف الملوك بعلمهم وبرأيهم ... وكذاك أوج الشمس في الجوزاء وقال: وقد يفسد المرء بعد الصلاح ... فساد الأماكن، والشرّ يعدى كما السّعد يقبل طبع النحوس ... إذا كان في موضع غير سعد وقال: ما أنس ظمآن بماء بارد ... من بعد طول العهد بالموارد إلا كأنسى بكتاب وارد ... من سيد محض النّجار ماجد كأنما استملاه من عطارد وقال: يا معشر الكتّاب لا تتعرضوا ... لرياسة، وتصاغروا، وتخادموا إن الكواكب كنّ في أشرافها ... إلا عطارد حين صوّر آدم وقال: دعانى إلى بيته سيّد ... له الخلق الأشرف الأظرف فلازمت بيتى ولا طفته ... بعذر هو الأظرف الأطرف عطارد نجمى، ولا شكّ أن ... عطارد في بيته أشرف وقال: لئن تنقّلت من دار إلى دار ... وصرت بعد ثواء رهن أسفار فالحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ... والشّمس في كل برج ذات أنوار

وقال: لئن صدّع الدهر المشتّت شملنا ... وللدهر حكم للجميع صدوع فللنّجم من بعد الرجوع استقامة ... وللشمس من بعد الغروب طلوع وقال لمحبوس: حبست ومن بعد الكسوف تبلّج ... تضىء به الآفاق للبدر والشمس فلا تعتقد للحبس غمّا ووحشة ... فأول كون المرء في أضيق الحبس وقال أيضا: بامن ثولى المشترى تدبيره ... حاشاك أن تنقاد للمرّيخ وقال: لا تفزعن من كل شىء مفزع ... ما كلّ ندبير البروج بضائر وقال يرثى أبا القاسم الصاحب: فقدناه لما تمّ واعتمّ بالعلا ... كذاك كسوف البدر عند تمامه وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن درست لأبى الفضل الميكالى: إذا ما غاب وجه البدر عنا ... فوجهك عندنا البدر المقيم فإن رجعت نجوم السّعد يوما ... فوجهك نجم سعد مستقيم وقال مسكويه الخالدى: لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... مازاد ذلك شيئا في فضائلها وقال أبو بكر الخوارزمى: رأيتك إن أيسرت خيّمت عندنا ... لزاما، وإن أعسرت زرت لماما فما أنت إلا البدر: إن قلّ ضوءه ... أغبّ، وإن زاد الضياء أقاما وهذا كقول إبراهيم بن العباس الصولى في محمد بن عبد الملك الزيات: أسد ضار إذا ما نعته ... وأب برّ إذا ما قدرا يعرف الأبعد إن أثرى، ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا

[الأصمعى وبعض الأعراب]

وقال ابن المعتز: إذا ما أراد الحاسدون انهدامه ... بناه إله غالب العزّ قاهره وماذا يريد الحاسدون من امرىء ... تزينهم أخلاقه ومآثره إذا ما هو استغنى اهتدى لافتقارهم ... ولا تهتدى يوما إليهم مفاقره وكانوا كرام كوكبا ببصاقه ... فردّ عليهم وبله ومواطره وهذا البيت كما قال بعض العرب في إحدى الروايات: رمانى بأمر كنت منه ووالدى ... بريّا ومن جال الطّوىّ رمانى الجول والجال: الناحية، والطوىّ: البئر؛ يريد رمانى بما عاد عليه، والرواية المشهورة: ومن أجل الطّوىّ، فعلى هذا تسقط المناسبة بينه وبين قول ابن المعتز. [الأصمعى وبعض الأعراب] قال بعض الرواة: كنا مع أبى نصر راوية الأصمعى في رياض من المذاكرة نجتنى ثمارها، ونجتلى أنوارها، إلى أن أفضنا في ذكر أبى سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعى؛ فقال: رحم الله الأصمعىّ! إنه لمعدن حكم، وبحر علم، غير أنه لم نرقطّ مثل أعرابى وقف بنا فسلّم، فقال: أيكم الأصمعى؟ فقال: أنا ذاك، فقال: أتأذنون بالجلوس؟ فأذنّا له، وعجبنا من حسن أدبه مع جفاء أدب الأعراب. قال: يا أصمعى، أنت الذى يزعم هؤلاء النّفر أنك أثقبهم معرفة بالشعر والعربية، وحكايات الأعراب؟ قال الأصمعى: فيهم من هو أعلم منى، ومن هو دونى، قال: تنشدوننى من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسه على شعر أصحابنا؟ فأنشده شعرا لرجل امتدح به مسلمة بن عبد الملك: أمسلم أنت البحر إن جاء وارد ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها وأنت كيف الهند وانىّ إن غدت ... حوادث من حرب يعبّ عبابها وما خلقت أكرومة في امرىء له ... ولا غاية إلّا إليك مآبها

كأنك ديّان عليها موكّل ... بها، وعلى كفّيك يجرى حسابها إليك رحلنا العيس إذا لم نجد لها ... أخا ثقة يرجى لديه ثوابها قال: فتبّسم الأعرابى، وهزّ رأسه، فظننّا أنّ ذلك لاستحسانه الشعر، ثم قال: يا أصمعىّ؛ هذا شعر مهلهل خلق النّسج، خطؤه أكثر من صوابه، يغطى عيوبه حسن الرّوىّ، ورواية المنشد؛ يشبّهون الملك إذا امتدح بالأسد، والأسد أبخر شتيم المنظر «1» ، وربما طرده شرذمة من إمائنا، وتلاعب به صبياننا، ويشبّهونه بالبحر، والبحر صعب على من ركبه، مرّ على من شربه، وبالسيف وربما خان فى الحقيقة، ونبا عند الضّريبة! ألا أنشدتنى كما قال صبىّ من حيّنا! قال الأصمعى: وماذا قال صاحبكم؟ فأنشده: إذا سألت الورى عن كل مكرمة ... لم يعز إكرامها إلا إلى الهول فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنّيل يشكر منه كثرة النّيل الموت يكره أن يلقى منيّته ... فى كرّه عند لفّ الخيل بالخيل وزاحم الشمس أبقى الشمس كاسفة ... أو زاحم الصّمّ ألجاها إلى الميل أمضى من النجم إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السّيل لا يستريح إلى الدنيا وزينتها ... ولا تراه إليها ساحب الذّيل يقصّر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصّر عن أفعاله قولى! قال أبو نصر: فأبهتنا والله ما سمعنا من قوله، قال: فتأنّى الأعرابى، ثم قال للأصمعى: ألا تنشدنى شعرا ترتاح إليه النفس، ويكن إليه القلب؟ فأنشده لابن الرّقاع العاملى: وناعمة تجلو بعود أراكة ... مؤشّرة يسبى المعانق طيبها كأنّ بها خمرا بماء غمامة ... إذا ارتشفت بعد الرّقاد غروبها أراك إلى نجد تحنّ، وإنما ... منى كلّ نفس حيث كان حبيبها

فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة

فتبسّم الأعرابى وقال: يا أصمعى، ما هذا بدون الأول، ولا فوقه، ألا أنشدتنى كما قلت؟ قال الأصمعى: وما قلت؟ جعلت فداك! فأنشده: تعلّقتها بكرا، وعلّقت حبّها ... فقلبى عن كلّ الورى فارغ بكر إذا احتجبت لم يكفك البدر ضوءها ... وتكفيك ضوء البدر إن حجب البدر وما الصبر عنها، إن صبرت، وجدته ... جميلا، وهل في مثلها يحسن الصّبر؟ [وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر] ولو أنّ جلد الذّر لامس جلدها ... لكان لمسّ الذّر في جلدها أثر ولو لم يكن للبدر ضدّا جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدر قال أبو نصر: قال لنا الأصمعى: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكباد!. قال: وأقام عندنا شهرا، فجمع له الأصمعىّ خمسمائة دينار، وكان يتعاهدنا فى الحين بعد الحين، حتى مات الأصمعى وتفرّق أصحابنا! فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة قال الجاحظ: ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشدّ اتّصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للّسان، ولا أجود تقويما البيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء. قال ابن المقفع، وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: أى حكمة تكون أبلغ، أو أحسن، أو أغرب، أو أعجب، من غلام بدوىّ لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام؛ يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوى إلى القفر واليرابيع والظّباء، وقد خالط الغيلان، وأنس بالجان؛ فإذا قال الشعر وصف ما لم يره،

ولم يغذّ به «1» ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساويها، ويمدح ويهجو، ويذمّ ويعاتب، ويشبّب ويقول ما يكتب عنه، ويروى له، ويبقى عليه. وقال بعض الأعراب: وإنى لأهدى بالأوانس كالدّمى ... وإنى بأطراف القنا للعوب «2» وإنى على ما كان من عنجهيّتى ... ولوثة أعرابيتى لأديب «3» كأنّ الأدب غريب من الأعراب، فافتخر بما عنده منه. وقال الطائى في فطنتهم، يستعطف مالك بن طوق على قومه بنى تغلب: لارقة الحضر اللّطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلة الآداب ووصف أعرابى رجلا فقال: هو أطهر من الماء، وأرقّ طباعا من الهواء، وأمضى من السيل، واهدى من النّجم. ووصف أعرابىّ رجلا فقال: ذاك والله من ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمر أظلمه. وقال أعرابى: جلست إلى قوم من أهل بغداد فما رأيت أرجح من أحلامهم، ولا أطيش من أقلامهم. وذكر أعرابى من بنى كلاب رجلا فقال: كان والله الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين؛ ولم أر أحدا أرتق لخلل رأى، ولا ابعد مسافة روّبة، ومراد طرف منه؛ إنما كان يرمى بهمّته حيث أشار إليه الكرم، وما زال يتحسّى مرارة أخلاق الإخوان، ويسقيهم عذوبة أخلاقه. وذكر أعرابىّ رجلا فقال: والله لكأنّ القلوب والألسن ريضت له، فما تعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلّا بحمده.

وقال أعرابى: أقبح أعمال المقتدرين الانتقام، وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. قال الأصمعى: وخطبنا أعرابى بالبادية، فقال: أيّها الناس؛ إن الدنيا دار مفرّ، والآخرة دار مقرّ؛ فخذوا من مفرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم. قال المعافر بن نعيم: وقفت أنا ومعبد بن طوق العنبرى على مجلس لبنى العنبرى، وأنا على ناقة وهو على حمار، فقاموا فبدءونى فسلّموا علىّ؛ ثم انكفئوا على معبد، فقبض يده عنهم؛ وقال: لا، ولا كرامة! بدأتم بالصغير قبل الكبير، وبالمولى قبل العربىّ، وبالمفحم قبل الشاعر، فأسكت القوم، فانبرى إليه غلام، فقال: بدأنا بالكاتب قبل الأمىّ، وبالمهاجر قبل الأعرابى، وبراكب الراحلة قبل راكب الحمار. ووصف أعرابى قومه فقال: ليوث حرب، وغيوث جدب، إن قاتلوا أبلوا، وإنّ بذلوا أغنوا. ووصف أعرابى قوما فقال: إذا اصطفّوا سفرت ببنهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغر فمه الحمام. وسئل أعرابىّ عن صديق له، فقال: صفرت عياب الودّ بينى وبينه بعد امتلائها «1» ، واكفهرّت وجوه كانت بمائها. وقال الأصمعى: وسمعت أعرابيا يقول: إنّ الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب غرّ من رآه، وأخلف من رجاه، ومن كان الليل والنهار مطيّته أسرعا السير والبلوغ به. والمرء يفرح بالأيام يقطعها ... وكلّ يوم مضى يدنى من الاجل

وذكر أعرابىّ مصيبة نالته، فقال: إنها والله مصيبة جعلت سود الرءوس بيضا، وبيض الوجوه سودا، وهوّنت المصائب، وشيّبت الذوائب. وهذا كقول عبد الله بن الزّبير الأسدى: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا «1» فردّ شعورهنّ السّود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا وإنك لو رأيت بكاء هند ... ورملة إذ تصكاّن الخدودا بكيت بكاء معولة حزين ... أصاب الدهر واحدها الفقيدا «2» ونظير هذا التطابق بين السواد والبياض، وإن لم يكن من هذا المعنى، قول ابن الرومى: يا بياض المشيب سوّدت وجهى ... عند بيض الوجوه سود القرون فلعمرى لأخفينّك جهدى ... عن عيانى وعن عيان العيون ولعمرى لأمنعنّك أن تضح ... ك في رأس آسف محزون بسواد فيه ابيضاض لوجهى ... وسواد لوجهك الملعون سأل أعرابيان رجلا، فحرمهما، فقال أحدهما لصاحبه: نزلت والله بواد غير ممطور، وأتيت رجلا بك غير مسرور، فلم تدرك ما سألت، ولا نلت ما أمّلت؛ فارتحل بندم، أو أقم على عدم. قال الأصمعى: وسمعت أعرابيا يقول: غفلنا ولم يغفل الدهر عنا، فلم نتّعظ بغيرنا حتى وعظ غيرنا بنا، فقد أدركت السعادة من تنبّه، وأدركت الشقاوة من غفل، وكفى بالتجربة واعظا وقال أعرابى لرجل: اشكر للمنعم عليك، وأنعم على الشاكر لك، تستوجب من ربك زيادته، ومن أخيك مناصحته.

ومدح أعرابى رجلا فقال: ذلك والله فسيح الأدب، مستحكم السبب، من أىّ أقطاره أتيته تثنى عليه بكرم فعال، وحسن مقال. وذمّ أعرابى رجلا فقال: أفسد آخرته بصلاح دنياه، ففارق ما أصلح غير راجع إليه، وقدم على ما أفسد غير منتقل عنه، ولو صدق رجل نفسه ما كذبته، ولو ألقى زمامه أوطأه راحلته وقال أعرابى: خرجت حين انحدرت أيدى النجوم، وشالت أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر. وقال أعرابى: وقد تعاللت ذميل العنس ... بالسّوط في ديمومة كالتّرس «1» إذ عرّج الليل بروج الشّمس ومن مليح الاستعارة في نحو هذا قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه الجوزاء؛ فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحفنى قميص الشّمس. وقال أعرابى لصاحبه في شىء ذكره: قل إن شاء الله، فإنها ترضي الربّ، وتسخط الشيطان، وتذهب الحنث «2» ، وتقضى الحاجة. وروى العتبىّ عن أبيه قال: سمعت أعرابيا يقول لأخيه في معاتبة جرت بينهما: أما والله لربّ يوم كتنّور الطاهى، رقّاص بالحمامة، قد رميت نفسى في أجيج سمومه، أحتمل منه ما أكره لما أحبّ. قال أبو العباس محمد بن يزيد: وأحسب العتبى صنع هذا الكلام، وأخذه من قول بشّار: ويوم كتنّور الإماء سجرنه ... وأوقدن فيه الجزل حتى تضرّما رميت بنفسى في أجيج سمومه ... وبالعيس حتى بضّ منخرها دما

أخذ هذا المعنى بعض أصحاب أبى العباس ثعلب فقال يهجو المبرد: ويوم كتنّور الطّهاة سجرته ... على أنه منه أحرّ وأوقد ظللت به عند المبرّد جالسا ... فمّا زلت في ألفاظه أتبرّد قال الأصمعى: حجّت أعرابية ومعها ابن لها، فأصيبت به، فلما دفن قامت على قبره، وهي موجعة فقالت: والله يا بنىّ لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النّضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثّرى جسدا هامدا، ورفاتا سحيقا، وصعيدا جرزا؛ أى بنى! لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفناء، وأسكنتك دار البلى، ورمتنى بعدك نكبة الرّدى، أى بنى! لقد أسفر لى وجه الدنيا عن صباح داج ظلامه. ثم قالت: أى ربّ ومنك العدل، ومن خلقك الجور، وهبته لى قرّة عين، فلم تمتّعنى به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا؛ ثم أمرتنى بالصبر، ووعدتنى عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فرحم الله من ترحّم على من استودعته الرّدم، ووسّدته الثّرى؛ اللهم ارحم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تكشف الهنات والسّوءات. فلما أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره، فقالت! أى بنىّ! إنى قد تزوّدت لسفرى، فليت شعرى ما زادك لبعد طريقك، ويوم معادك؟ اللهم إنى أسألك له الرضا برضائى عنه. ثم قالت: استودعتك من استود عنيك في أحشائى جنينا؛ واثكل الوالدات! ما أمضّ حرارة قلوبهن، وأقلق مصاجعهنّ، وأطول ليلهنّ، وأقصر نهارهن، وأقلّ أنسهن، وأشدّ وحشتهنّ، وأبعدهنّ من السرور، وأقربهن من الأحزان. لم تزل تقول هذا ونحوه حتى أبكت كلّ من سمعها. وحمدت الله عز وجل واسترجعت وصلت ركعات عند قبره وانطلقت.

وأنشد المفضّل الضبىّ لامرأة من العرب ترثى ابنا لها: يا عمرو مالى عنك من صبر ... يا عمرو يا أسفى على عمرو لله يا عمرو، وأىّ فتى ... كفّنت يوم وضعت في القبر؟ أحثو التراب على مفارقه ... وعلىّ غضارة وجهه النّضر «1» حين استوى وعلا الشباب به ... وبدا منير الوجه كالبدر ورجا أقاربه منافعه ... ورأوا شمائل سيّد غمر «2» وأهمّه همّى فساوره ... وغدا مع الغادين في السّفر تغدو به شقراء سامية ... مرطى الجراء شديدة الأسر «3» ثبت الجنان به، ويقدمها ... فلج يقلّب مقلتى صقر «4» رّبيته دهرا أفتّقه ... فى اليسر أغذوه وفي العسر حتى إذا التأميل أمكننى ... فيه قبيل تلاحق الثغر وجعلت من شغفى أنقّله ... فى الأرض بين تنائف غبر «5» أدع المزارع والحصون به ... وأحلّه في المهمه القفر ما زلت أصعده وأحدره ... من قتر موماة إلى قتر «6» هربا به والموت يطلبه ... حيث انتويت به ولا أدرى «7» حتى دفعت به لمصرعه ... سوق المعيز تساق للعتر «8» ما كان إلا أن هجعت له ... ورمى فأغفى مطلع الفجر ورمى الكرى رأسى ومال به ... رمس يساور منه كالسّكر

إذ راعنى صوت هببت به ... وذعرت منه أيّما ذعر وإذا منيته تساوره ... قد كدّحت في الوجه والنّحر وإذا له علق وحشرجة ... مما يجيش به من الصّدر والموت يقبضه ويبسطه ... كالثوب عند الطىّ والنّشر فدعا لأنصره وكنت له ... من قبل ذلك حاضر النّصر فعجزت عنه وهي زاهقة ... بين الوريد ومدفع السّحر فمضى وأىّ فتى فجعت به ... جلّت مصيبته عن القدر لو قيل تفديه بذلت له ... مالى وما جمّعت من وفر أو كنت مقتدرا على عمرى ... آثرته بالشّطر من عمرى قد كنت ذا فقر له، فعدا ... ورمى علىّ وقد رأى فقرى لو شاء ربّى كان متّعنى ... بابنى وشدّ بأزره أزرى بنيت عليك بنىّ، أحوج ما ... كنّا إليك، صفاثح الصّخر لا يبعدنك الله يا عمرى ... إمّا مضيت فنحن بالإثر هذى سبيل الناس كلّهم ... لا بدّ سالكها على سفر أولا تراهم في ديارهم ... يتوقّعون وهم على ذعر والموت يوردهم مواردهم ... قسرا؛ فقد ذلّوا على القسر وقال أعرابى يمدح رجلا: يمدّ نجاد السّيف حتّى كأنه ... بأعلى سنامى فالج يتطوّح ويدلج في حاجات من هو نائم ... ويورى كريمات الندى حين يقدح إذا اعتمّ بالبرد اليمانى حسبته ... هلالا بدا في جانب الأفق يلمح يزيد على فضل الرجال فضيلة ... ويقصر عنه مدح من يتمدّح

وأنشد ابن أبى طاهر لأعرابى: وقبلى أبكى كلّ من كان ذاهوى ... هتوف البواكى والديار البلاقع «1» وهنّ على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضلّ منها المدامع مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدّرّ خضر روائع ترى طرزا بين الخوافى كأنها ... حواشىّ برد زينتها الوشائع ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع ومن جيد ما قيل في الحمام قول ابن الرومى: وقفت بمطراب العشيّات والضّحى ... فظلت أسحّ الدمع منى وأسجم حليفة شجو هاج مابى وما بها ... تباريح شوق يشتكيها المتيّم فباح به فوها وأخفته عينها ... وباحت به عينى وكتّمه الفم ودخل أعرابى على الرشيد، فأنشده أرجوزة مدحه بها، وإسماعيل بن صبيح يكتب كتابا بين يديه- وكان من أحسن الناس خطّا، وأسرعهم يدا- فقال الرشيد للأعرابى: صف الكاتب فقال: رقيق حواشى العلم حين تبوره ... يريك الهوينا والأمور تطير «2» له قلما بؤسى ونعمى كلاهما ... سحابته في الحالتين درور يناجيك عما في ضميرك خطّه ... ويفتح باب النّجح وهو عسير فقال الرشيد: قد وجب لك يا أعرابى عليه حق، كما وجب لك علينا يا غلام؛ ادفع له دية الحرّ، فقال إسماعيل: وعلى عبدك دية العبد. وقال أعرابى من بنى عقيل: أحنّ إلى أرض الحجاز، وحاجتى ... خيام بنجد دونها الطّرف يقصر وما نظرى نحو الحجاز بنافعى ... فتيلا، ولكنى على ذاك أنظر

أفى كلّ يوم نظرة ثم عبرة ... لعينيك يجرى ماؤها يتحدّر متى يستريح القلب إمّا مجاور ... حزين وإمّا نازح يتذكّر وقال أعرابى: وإنى لأغضى مقلتىّ على القذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا وإنّى لأدعو الله والأمر ضيّق ... علىّ، فما ينفكّ أن يتفرّجا وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها من دعوة الله مخرجا وقال آخر: ذكرتك ذكرى هائم بك تنتهى ... إليك أمانيه وإن لم يكن وصل وليست بذكرى ساعة بعد ساعة ... ولكنها موصولة مالها فصل وقال آخر: أريتك إن شطّت بك العام نيّة ... وعالك مضطاف الحمى ومرابعه أترعين ما استودعت أم أنت كالذى ... إذا ما نأى هانت عليك ودائعه ألا إن حسيا دونه قلّة الحمى ... منى النفس لو كانت تنال شرائعه «1» أخذت أزد العتيك شاعرا من قيس بن ثعلبة اسمه المعذّل في دم، فأتاه البيهس بن ربيعة فحمله، وأمره أن ينجو بنفسه، وأسلم نفسه مكانه، فقال له المعذل: أخيّرك بين أن أمدحك أو أمدح قومك؛ فاختار مدح قومه فقال: جزى الله فتيان العتيك، وإن نأت ... بى الدّار عنهم، خير ما كان جازيا هم خلطونى بالنفوس وأحسنوا الصّ ... حابة لما حمّ ما كان آتيا متاعهم فوضى فضا في رحالهم ... ولا يحسنون الشّر إلّا تباديا كأن دنانيرا على قسماتهم ... إذا الموت في الأبطال كان تحاميا وذكرت الرواة أنّ المهلب بن أبى صفرة عرض جنده بخراسان، فعرض جيش

[بعض أخبار أبى نواس]

بكر بن وائل، فمر به المعذّل فقال: هذا المعذل القيسى الذى يقول، وأنشد الأبيات، فقالوا: أيها الأمير؛ احسبه علينا، فانطلق مائة منهم، فجاءوا بمائة وصيف ووصيفة، فقالوا: أعطه هذا وليعذرنا. قوله «كأنّ دنانيرا على قسماتهم» نظير قول أبى العباس الأعمى: ليت شعرى من أين رائحة المس ... ك وما إن إخال بالخيف إنسى؟ حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بنى عبد شمس خطباء على المنابر، فرسا ... ن عليها، وقالة غير خرس فى حلوم إذا الحلوم استفزّت ... ووجوه مثل الدنانير ملس [بعض أخبار أبى نواس] ولما خلع المأمون أخاه محمد بن زبيدة ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته، كان يعمل كتبا بعيوب أخيه تقرأ على المنابر بخراسان؛ فكان مما عابه به أن قال: إنه استخلص رجلا شاعرا ماجنا كافرا، يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه ليشرب معه الخمر، ويرتكب المآثم، ويهتك المحارم، وهو الذى يقول: ألا فاسقنى خمرا وقل لى هي الخمر ... ولا تسقنى سرّا إذا أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعنى عن الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر ويذكر أهل العراق فيقول: أهل فسوق وخمور، وماخور وفجور؛ ويقوم رجل بين يديه فينشد أشعار أبى نواس في المجون؛ فاتصل ذلك بابن زبيدة؛ فنهى الحسن عن الخمر، وحبسة ابن أبى الفضل بن الربيع؛ ثم كلّمه فيه الفضل، فأخرجه بعد أن أخذ عليه ألّا يشرب خمرا، ولا يقول فيها شعرا، فقال: ما من يد في الناس واحدة ... كيد أبو العباس مولاها نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسى فأحياها قد كنت خفتك، ثم آمننى ... من أن أخافك، خوفك الله فعفوت عنى عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها

ومن قوله في ترك الشراب: أيّها الرائحان باللّوم لوما ... لا أذوق المدام إلّا شميما نالنى بالملام فيها إمام ... لا أرى لى خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواى؛ فإنّى ... لست إلّا على الحديث نديما جلّ حظى منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشمّ النسيما فكأنى وما أزيّن منها ... قعدىّ يزيّن التحكيما [كلّ عن حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألّا يقيما] القعديّة: فرقة من الخوارج، يأمرون بالخروج ولا يخرجون؛ وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال: عين الخليفة بى موكّلة ... عقد الحذار بطرفها طرفى صحّت علانيتى له، وأرى ... دين الضمير له على حرف ولئن وعدتك تركها عدة ... إنى عليك لخائف خلفى سلبوا قناع الدّن عن رمق ... حى الحياة مشارف الحتف فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الرّيحان في الأنف أخذ قوله: «ولئن وعدتك تركها عدة» الحسن بن على بن وكيع فقال: متى وعدتك في ترك الصّبا عدة ... فاشهد على عدتى بالزّور والكذب أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب وجدّ في أثر الجوزاء يطلبها ... فى الجوّ ركضا هلال دائم الطلب كصولجان لجين في يدى ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذهب فقم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنها نار بلا لهب عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب

وقال أبو الفضل الميكالى في اقتران الهلال بالزهرة: أما ترى الزّهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكى اللهب ككرة من فضّة مجلوّة ... وافى عليها صولجان من ذهب وعلى قول أبى نواس: صحّت علانيتى له، وأرى ... دين الضمير له على حرف كتب أبو العباس بن المعتز إلى أبى الطيب القاسم بن محمد النميرى: يأيها الجافى ويستجفى ... ليس تجنّيك من الظّرف إنّك في الشوق إلينا كمن ... يؤمن بالله على حرف محوت آثارك من ودّنا ... غير أساطيرك في الصّحف فإن تحاملت لنا زورة ... يوما تحاملت على ضعف وحدث أبو عمر الزاهد قال: ذلك بعض الزهاد المرائين جبهته بثوم وعصبها، ونام ليصبح بها كأثر السجود، فانحرفت العصابة إلى صدغه، فأخذ الأثر هناك، فقال له ابنه: ما هذا يا أبت؟ فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف! وقال أبو نواس في الباب الأول: غنّنا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك الثناء الثمينا من سلاف كأنها كلّ شىء ... يتمنّى مخيّر أن يكونا أكل الدّهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لبابها المكنونا فإذا ما اجتليتها فهباء ... يمنع الكفّ ما يبيح العيونا ثم شجّت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمّعن في يد لاقتنينا فى كئوس كأنهنّ نجوم ... دائرات بروجها أيدينا طالعات مع السّقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا

لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قوما من قرّة يصطلونا «1» وغزال يديرها ببنان ... ناعمات يزيدها الغمز لينا كلما شئت علّنى برضاب ... يترك القلب للسرور قرينا ذاك عيش، لو دام لى، غير أنى ... عفته مكرها وخفت الأمينا وقال: أعاذل أعتيت الإمام وأعتبا ... وأعربت عمّا في الضمير وأعربا وقلت لساقيها: أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا فجوّزها عنى سلافا ترى لها ... لدى الشّرف الأعلى شعاعا مطنّبا إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا يدور بها رطب البنان ترى له ... على مستدار الخدّ صدغا معقربا سقاهم ومنّانى بعينيه منية ... فكانت إلى قلبى ألذّ وأطيبا قال الحسين بن الضحاك الخليع: أنشدت أبا نواس قولى: وشاطرىّ اللسان مختلق التّكريه شاب المجون بالنّسك فلما بلغت فيه: كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك نعر نعرة منكرة، فقلت: ما لك، فقد رعتنى؟ قال: هذا المعنى أنا أحقّ به منك؛ ولكن سترى لمن يروى! ثم أنشد بعد أيام: إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا فقلت: هذه مطالبة «2» يا أبا على! فقال: أتظنّ أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟ وقال ابن الرومى فكان أحسن منهما ومهفهف كملت محاسنه ... حتى تجاوز منية النفس

[من أخبار بشار]

تصّبو الكؤس إلى مراشفه ... وتضجّ في يده من الحبس أبصرتها والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس فكأنّها وكأن شاربها ... قمر يقبّل عارض الشمس وقال أبو الفتح كشاجم: وسحاب يجرّ في الأرض ذيلى ... مطرف زرّه على الأرض زرّا «1» برقه لمحة، ولكن له رع ... د بطىء يكسو السامع وقرا كخلىّ منافق للّذى يه ... واه يبكى جهرا ويضحك سرّا قد سقتنى المدام فيها فتاة ... سحرتنى وليس تحسن سحرا فإذا ما رأيتها تشرب الرّا ... ح أرتنى شمسا تقبّل بدرا [من أخبار بشار] وإنما احتذى أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشراب وطاعته لأمر الأمين مثال بشّار بن برد، وصب على قالبه؛ وذاك أنّ بشارا لما قال: لا يؤيسنّك من مخبّأة ... قول تغلّظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا بلغ ذلك المهدى فغاظه؛ وقال: يحرّض النساء على الفجور، ويسهّل السبيل إليه! فقال له خاله يزيد بن منصور الحميرى: يا أمير المؤمنين؛ قد فتن النساء بشعره، وأىّ امرأة لا تصبو إلى مثل قوله: عجبت فطمة من نعتى لها ... هل يجيد النعت مكفوف النّظر بنت عشر وثلاث قسّمت ... بين غصن وكثيب وقمر درّة بحريّة مكنونة ... مازها التاجر من بين الدرر أذرت الدمع وقالت: ويلتى ... من ولوع الكفّ ركّاب الخطر أمتى بدّد هذا لعبى ... ووشاحى حلّه حتى انتثر

فدعينى معه يا أمتى ... علّنا في خلوّة نقضى الوطر أقبلت في خلوة تضربها ... واعتراها كجنون مستعر بأبى والله ما أحسنه ... دمع عين غسّل الكحل قطر أيها النّوّام هبّوا ويحكم ... وسلونى اليوم ما طعم السّهر فأمره المهدى ألّا يتغزل، فقال أشعارا في ذلك، منها: يا منظرا حسنا رأيته ... من وجه جارية فديته لمعت إلىّ تسومنى ... ثوب الشباب وقد طويته والله ربّ محمد ... ما إن غدرت ولا نويته أمسكت عنك، وربما ... عرض البلاء وما ابتغيته إنّ الخليفة قد أبى ... وإذا أبى شيئا أبيته ويشوقنى بيت الحبي ... ب إذا غدوت، وأين بيته قام الخليفة دونه ... فصبرت عنه وما قليته «1» ونهانى الملك الهما ... م عن النساء فما عصيته بل قد وفيت ولم أضع ... عهدا، ولا رأيا رأيته وقال أيضا: والله لولا رضا الخليفة ما ... أعطيت ضيما علىّ في شجن قد عشت بين النّدمان والرّاح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن ثم نهانى المهدىّ فانصرفت ... نفسى، صنع الوفّق اللقن وقال: أفنيت عمرى وتقضّى الشباب ... بين الحميّا والجوارى العذاب فالآن شفّعت إمام الهدى ... وربما طبت لحبّ وطاب لهوت حتى راعنى داعيا ... صوت أمير المؤمنين المجاب لبّيك لبّيك! هجرت الصّبا ... ونام عذّالى ومات العتاب

أبصرت رشدى وتركت المنى ... وربما ذلّت لهنّ الرّقاب فى كلمة طويلة يقول فيها: يا حامد القول، ولم يبله ... سبقت بالسّيل مساك السّحاب «1» الفعل أولى بثناء الفتى ... ما جاءه من خطأ أو صواب دع قول واء وانتظر فعله ... يثنى على اللّقحة ما في الحلاب «2» إذا غدا المهدىّ في جنده ... وراح في آل الرسول الغضاب بدا لك المعروف في وجهه ... كالظّلم يجرى في الثنايا العذاب «3» ومن شعر بشار في الغزل: أيها الساقيان صبّا شرابى ... واسقيانى من ريق بيضاء رود «4» إنّ دائى الصّدى، وإنّ شفائى ... شربة من رضاب ثغر برود عندها الصبر عن لقائى، وعندى ... ز فرات يأكلن قلب الجليد ولها مبسم كغر الأقاحى ... وحديث كالوشى وشى البرود نزلت في السواد من حبة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد ثم قالت: نلقاك بعد ليال ... والليالى يبلين كلّ جديد لا أبالى من ضنّ عنى بوصل ... إن قضى الله منك لى يوم جود وقال: تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفزّ حشا الرّائى بإرعاد كأنما صوّرت من ماء لؤلؤة ... فكلّ جارحة وجه بمرصاد وقال: وهبت له على المسواك ريقا ... فطاب له بطيب ثنيّتيك

أقبّله على الذكرى كأنّى ... أقبّل فيه فاك ومقلتيك «1» وقال: لا أستطيع الهوى وهجرتها ... قلبى ضعيف وقلبها حجر كأنّ وجدى بها وقد حجبت ... فى الرأس والعين والحشا سكر وأنشد له أبو تمام، وكان يقول: ما رأيت شعرا أغزل منه: زوّدينا يا عبد قبل الفراق ... بتلاق، وكيف لى بالتّلاق «2» أنا والله أشتهى سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق أمتى من بنى عقيل بن كعب ... موضع السّلك في طلا الأعناق وقال: لقد عشقت أذنى كلاما سمعته ... رخيما، وقلبى للمليحة أعشق ولو عاينوها لم يلوموا على البكى ... كريما سقاه الخمر بدر محلّق وكيف تناسى من كأنّ حديثه ... بأذنى وإن عنيت قرط معلّق وقال: وقد كنت في ذاك الشباب الذى مضى ... أزار ويدعونى الهوى فأزور فإن فاتنى إلف ظللت كأنما ... يدير حياتى في يديه مدير ومرتجّة الأرداف مهضومة الحشا ... تمور بسحر عينها وتدور إذا نظرت صبّت عليك صبابة ... وكادت قلوب العالمين تطير خلوت بها لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصّبح دونى حاجب وستور ومن هذا أخذ على بن الجهم قوله: صلينى وحبل الوصل لم يتشعّب ... ولا تهجرى أفديك بالأمّ والأب رعى الله دهرا ضمّنا بعد فرقة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب

عناقا وضمّا والتزاما كأنما ... يرى جسدانا جسم روح مركب فبتنا وإنا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرّب وشعره في هذا المعنى كثير. وروى أنه قال: أنا أشعر الناس؛ لأنّ لى اثنى عشر ألف قصيدة، فلو اختير من كل قصيدة بيت لاستندر، ومن ندرت له اثنا عشر ألف بيت فهو أشعر الناس «1» ؛ وقد نثرت نظمه في أضعاف الكتاب استدعاء لنشاط القارىء وكراهة في إملاله. وكان بشار أرقّ المحدثين ديباجة كلام، وسمّى أبا المحدثين؛ لأنه فتق لهم أكمام المعانى، ونهج لهم سبيل البديع، فاتّبعوه؛ وكان ابن الرومى يقدمه، ويزعم أنه أشعر من تقدّم وتأخر. وهو يتعلق في شعره بولاء عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويفتخر بالمضرية. قال له المهدى: فيمن تعتزى؟ قال: أمّا اللسان فعربىّ، أما الأصل فكما قلت في شعرى! قال: وما قلت؟ فأنشده: ونبّئت قوما لهم إحنة ... يقولون من ذا وكنت العلم ألا أيها السائلى جاهلا ... ليعرفنى أنا إلف الكرم «2» نمت في المكارم بى عامر ... فروعى وأصلى قريش العجم وإنى لأغنى مقام الفتى ... وأصبى الفتاة فلا تعتصم البيت الأول من هذه الأبيات ينظر إلى قول جميل: إذا ما رأونى طالعا من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفونى

وفي هذه القصيدة يقول بشار: وبيضاء يضحك ماء الشبا ... ب في وجهها لك إذ تبتسم دوار العذارى إذا زرنها ... أطفن بحوراء مثل الصّنم يرحن فيمسحن أركانها ... كما يمسح الحجر المستلم أصفراء ليس الفتى صخرة ... ولكنه نصب همّ وغمّ صببت هواك على قلبه ... فضاق وأعلن ما قد كتم ويقال: إنه مولى لأم الظباء السّدوسية، ولذلك قال أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزّال رئيس المعتزلة لما هجاه بشار: أما لهذا الأعمى الملحد المشنّف المكتنى بأبى معاذ من يقتله؟ والله لولا أنّ الغيلة من سجايا الغالية، لبعثت إليه من ببعج بطنه في جوف منزله، ولا يكون إلا سدوسيّا، أو عقيليّا. وكان واصل بن عطاء أحد أعاجيب الدنيا؛ لأنه كان ألثغ في الراء، فأسقطها من جميع كلامه وخطبه؛ إذ كان إمام مذهب، وداعى نحلة، وكان محتاجا إلى جودة البيان، وفصاحة اللّسان. قال الجاحظ: فانظر كثرة ترداد الراء في هذا الكلام وكيف أسقطها؟ قال: الأعمى، ولم يقل الضرير، وقال: الملحد، ولم يقل الكافر، وقال: المشنّف، ولم يقل المرعّث، وقال: المكتنى: بأبي معاذ، ولم يقل بشارا ولا ابن برد، وقال: الغالية، ولم يقل المغيرية، ولا المنصورية، وهم الذين أراد، وقال: نبعثت، ولم يقل لأرسلت، وقال: يبعج، ولم يقل يبقر، وقال: فى جوف منزله، ولم يقل في داره، وأراد بذكر عقيل وسدوس ما ذكر من اعتزائه إليهم. وزعم الجاحظ أن بشارا كان يدين بالرّجعة، ويكفّر جميع الأمة؛ وأنشد له أشعارا صوّب بها رأى إبليس في تقديم النار على الطين، منها قوله: الأرض مظلمة، والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار وقال داود بن رزين: أتينا بشارا، فأذن لنا والمائدة بين يديه، فلم يدعنا إلى الطعام، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصلّ، ودعا بطست فبال

بحضرتنا، فقلنا له: أنت أستاذنا، وقد رأينا منك أشياء أنكرناها، قال: ماهى؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا، قال: إنما أذنت لتأكلوا، ولو لم نرد ذلك لم نأذن لكم، قلنا له: ودعوت بالطّست ونحن حضور، قال: أنا مكفوف، وأنتم مأمورون بغضّ الأبصار دونى، قلنا: وحضرت الصلاة فلم تصلّ! قال: الذى يقبلها تفاريق يقبلها جملة! هذا وهو القائل: كيف يبكى لمحبس في طلول ... من سيفضى لحبس يوم طويل إنّ في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دار محيل وقال: ذكرت بها عيشا فقلت لصاحبى: ... كأن لم يكن ما كان حين يزول وما حاجتى لو ساعد الدهر بالمنى ... كعاب عليها لؤلؤ وشكول بدا لى أن الدهر يقدح في الصّفا ... وأنّ بقائى إن حييت قليل فعش خائفا للموت أو غير خائف ... على كل نفس للحمام دليل خليلك ما قدّمت من عمل التّقى ... وليس لأيّام المنون خليل وكان بشّار حاضر الجواب، سجّاعا، خطيبا، صاحب منثور ومزدوج ورجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام، ودخل على عقبة بن مسلم بن قتيبة، فأنشده مديحا وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزة، ثم أقبل على بشار فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ! فقال: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك! ثم غدا على عقبة من الغد، فأنشده أرجوزته: ياطلل الحىّ بذات الصّمد ... بالله خبّر كيف كنت بعدى يقول فيها: صدّت بخدّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتدّ وصاحب كالدّمّل الممدّ ... حملته في رقعة من جلدى حتى اغتدى غير فقيد الفقد ... وما درى ما رغبتى من زهدى

وهذا كقول الآخر: يودّون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا يدفع الموت النفوس الشحائح وفيها يقول: الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ أسلم وحيّيت أبا الملدّ ... مفتاح باب الحدث المنسدّ والبس طرازى غير مستردّ ... لله أيامك في معدّ وهي طويلة، فأجزل صلته، فلما سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبى وجدّى فتحنا الغريب للناس، وإنى لخليلق أن أسدّه عليهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله! قال: تستخفّ بى، وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال: إذا أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا! فضحك كلّ من حضر. ودخل على المهدى وعنده خاله يزيد بن منصور الحميرى، فأنشده قصيدة، فلما أتمّها قال له يزيد: ما صناعتك يا شيخ؟ قال: أثقب اللّؤلؤ، فقال له المهدى: أتهزأ بخالى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، فما يكون جوابى لمن يرى شيخا أعمى ينشد شعرا فيسأله عن صناعته؟ وقال جوارى المهدى للمهدى: لو أذنت لبشّار يدخل إلينا يؤانسنا وينشدنا فهو محجوب البصر، لا غيرة عليك منه، وأمره فدخل إليهن واستظرفنه، وقلن له: وددنا والله يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقك، قال: ونحن على دين كسرى «1» ! فأمر المهدى ألّا يدخل عليهن. وكأن المتنبى نظر إلى هذا فقال: يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثمّ أرقّ منك وأرحم يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أنّ المجوس تصيب فيما تحكم

[كلمات مأثورة]

[كلمات مأثورة] قال على بن عبيدة الريحانى: المودّة تعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، وحنين النفوس إلى مثابة السرائر، والاسترواح بالمستكنّات في الغرائز، ووحشة الأشخاص عند تباين اللقاء، وظاهر السرور بكثرة التّزوار، وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون اتفاق الخصال. وقال: العتاب حدائق المتحابّين، وثمار الأودّاء، ودليل الظنّ، وحركات الشّوق، وراحة الواجد، ولسان المشفق. قال بعض الكتاب: العتاب علامة الوفاء، وحاصّة الجفاء، وسلاح الأكفاء. وقال على بن عبيدة: التجنّى رسول القطيعة، وداعى القلى، وسبب السلوّ، وأوّل التجافى، ومنزل التهاجر. وقال: الصدق ربيع القلب، وزكاة الخلق، وثمرة المروءة، وشعاع الضمير وعن جلالة القدر عبارته، وإلى اعتدال وزن العقل ينسب صاحبه، وشهادته قاطعة في الاختلاف، وإليه ترجع الحكومات. وقال: الكذب شعار الخيانة، وتحريف العلم، وخواطر الزّور، وتسويل أضغاث النفس، واعوجاج التركيب، واختلاف البنية، وعن خمول الذكر ما يكون صاحبه. وعلى بن عبيدة كثير الإغارة، على ما كان غيره قد استثاره. فقر في الكذب لغير واحد بعض الفلاسفة: الكذّاب والميّت سواء؛ لأن فضيلة الحىّ النّطق، فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته. الحسن بن سهل: الكذّاب لصّ؛ لأن اللصّ يسرق مالك، والكذّاب يسرق عقلك، ولا تأمن من كذب لك أن يكذب عليك، ومن اغتاب غيرك عندك

فلا تأمن أن يغتابك عند غيرك. قال إبراهيم بن العباس في هذا النحو. إنى متى أحقد بحقدك ... لا أضرّ به سواكا ومتى أطعتك في أخيك ... أطعت فيك غدا أخاكا حتّى أرى متقسّما ... يومى لذا، وغدا لذاكا حسب الكاذب بعقله سقما وبقلبه خصما ابن المعتز: علامة الكذاب جوده باليمين لغير مستحلف، وقال: وفي اليمين على ما أنت فاعله ... ما دلّ أنك في الميعاد متّهم وقال: اجتنب مصاحبة الكذّاب، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه، ولا تعلمه أنك تكذّبه، فينتقل عن ودّه، ولا ينتقل عن طبعه. يعترى حديث الكذّاب من الاختلاف مالا يعترى الجبان من الارتعاد عند الحرب. لا تصحّ للكذّاب رؤيا؛ لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير، فتريه في النوم ما لا يكون، وأنشد: لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء، أو من قلّة الأدب ولأهل العصر: فلان منغمس في عيبه، يكذب لذيله على جيبه، يقول بهتا، وزورا بحتا، قد ملأ قلبه رينا، وقوله مينا؛ يدين بالكذب مذهبا، ويستثير الزّور مركبا، أقاويل يتمشّى الزّور في مناكبها، ويبرز البهتان في مذاهبها. وقال أعرابى لابنه وسمعه يكذب: يا بنى، عجبت من الكذّاب المشيد بكذبه، وإنما يدلّ على عيبه، ويتعرّض للعقاب من ربّه؛ فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادّة، إن قال حقا لم يصدّق، وإن أراد خيرا لم يوفّق؛ فهو الجانى على نفسه بفعاله، والدّالّ على فضيحته بمقاله. فما صحّ من صدقه نسب إلى غيره، وما صحّ من كذب غيره نسب إليه، فهو كما قال الشاعر: حسب الكذوب من المها ... نة بعض ما يحكى عليه ما إن سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه

[جزاء الشكر]

[جزاء الشكر] كتب الحسن بن سهل إلى المأمون، بعد أن زفّت إليه بوران وتوهّم القواد أن هذا التزويج قد أنسى الحسن حاله قبل ذلك: قد تولّى أمير المؤمنين من تعظيم عبده في قبول أمته شيئا لا يتّسع له الشكر عنه إلا بمعونة أمير المؤمنين، أدام الله عزّه، فى إخراج توقيعه بتزيين حالى في العامة والخاصة، بما يراه فيه صوابا إن شاء الله. فخرج التوقيع: الحسن بن سهل زمام على ما جمع أمور الخاصة، وكنف أسباب العامة، وأحاط بالنفقات، ونفذ بالولاة، وإليه الخراج والبريد واختيار القضاة، جزاء بمعرفته بالحال التي قرّبته منا، وإثابة لشكره إيانا على ما أولينا. [من خطب النكاح] قال يحيى بن أكثم: أراد المأمون أن يزوّج ابنته من الرضا فقال: يا يحيى؛ تكلم، فأجللته أن أقول: أنكحت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر، والإمام الأعظم، وأنت أولى بالكلام، فقال: الحمد لله الذى تصاغرت الأمور بمشيئته، ولا إله إلا هو إقرارا بربوبيته، وصلى الله على محمد عند ذكره. أما بعد، فإنّ الله قد جعل النكاح دينا، ورضيه حكما، وأنزله وحيا؛ ليكون سبب المناسبة؛ ألا وإنى قد زوّجت ابنة المأمون من علىّ بن موسى، وأمهرتها أربعمائة درهم، اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهاء إلى ما درج إليه السّلف، والحمد لله رب العالمين. قال الأصمعى: كانوا يستحبّون من الخاطب إلى الرجل حرمته الإطالة؛ لتدلّ على الرغبة، ومن المخطوب إليه الإيجاز، ليدلّ على الإجابة. وخطب رجل من بنى أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فأطال؛ فقال عمر:

[الكتب والأقلام والخط]

الحمد لله ذى الكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء؛ أما بعد فإن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة منا فيك أجابت، وقد زوّجناك على كتاب الله: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وخطب رجل إلى فوم فأتى بمن نحطب له، فاستفتح بحمد الله وأطال، وصلّى على النبىّ عليه السلام وأطال، ثم ذكر البدء وخلق السموات والأرض، واقتصّ ذكر القرون حتى ضجر من حضر، والتفت إلى الخاطب، فقال: ما اسمك أعزّك الله؟ فقال: والله قد أنسيت اسمى من طول خطبتك، وهي طالق إن تزوجتها بهذه الخطبة؛ فضحك القوم، وعقدوا في مجلس آخر. [الكتب والأقلام والخط] وقال ابن المعتز: الكتاب والج الأبواب، جرىء على الحجّاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم، به يشخص المشتاق، إذا أقعده الفراق، والقلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة، ويسكت واقفا، وينطق سائرا، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضىء، وكأنه يقبّل بساط سلطان أو يفتح نوّار بستان. وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله، قال الصولى: لما عرض القاسم بن عبيد الله ليخلف أباه: قال ابن المعتز: قلم ما أراه أم فلك يج ... رى بما شاء قاسم ويسير خاشع في يديه يلثم قرطا ... ساكما قبّل البساط شكور ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم ... حتف وعيش تضمّ تلك السّطور نقشت بالدّجا نهارا فما أد ... رى أخطّ فيهنّ أم تصوير هكذا من أبوه مثل عبيد الله ... ينمى إلى العلا ويصير عظمت منّة الإله عليه ... فهناك الوزير وهو الوزير

وقال بعض البلغاء: صورة الخطّ في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال أبو الطيب المتنبى: دعانى إليك العلم والحلم والحجى ... وهذا الكلام النّظم والنّائل النّثر وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيضّ من نورها الحبر وقال ابن المعتز في عبيد الله بن سليمان بن وهب: عليم بأعقاب الأمور، كأنه ... بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... يفتّح نورا أو ينظّم جوهرا فاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف، إن تمّ مراده وإلا فإلى السيف معاده؛ أما سمعت قول أبى تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب بيض الصفائح لا سود الصّحائف فى ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب وقال أبو الطيب: ما زلت أضحك إبلى كلّما نظرت ... إلى من احتضنت أخفافها بدم أسيرها بين أصنام أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفّة الصّنم حتى رجعت وأقلامى قوائل لى ... المجد للسّيف ليس المجد للقلم اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم هذا مقلوب من قول على بن العباس النوبختى، وقد رواه أبو القاسم الزجاجى لابن الرومى، وإنما وهم لاتّفاق الاسمين: إن يخدم القلم السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت- والموت لا شىء يغالبه- ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم بذا قضى الله للأقلام مذبريت ... أنّ السيوف لها- مذ أرهفت- خدم

وقال ابن الرومى: لعمرك ما السّيف سيف الكمىّ ... بأخوف من قلم الكاتب له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سرّه الغائب أداة المنيّة في جانبيه ... فمن مثله رهبة الرّاهب سنان المنية في جانب ... وحدّ المنيّة في جانب ألم تر في صدره كالسّنان ... وفي الرّدف كالمرهف القاضب وقال أبو الفتح البستى: إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدّوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتّاب مجدا ورفعة ... مدى الدّهر أنّ الله أقسم بالقلم وقد قيل: صرير الأقلام، أشدّ من صليل الحسام. قال الصولى: أنشدنى طلحة بن عبيد الله: وإذا أمرّ على المهارق كفّه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا «1» متقاصرا متطاولا ومفصّلا ... وموصلا ومشتّتا ومؤلّفا ترك العداة رواجفا أحشاؤها ... وقلاعها قلعا هنالك رجّفا كالحية الرّقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطفا يرمى به قلما يمجّ لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقّفا وقال محمود بن أحمد الأصبهانى: أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كل ما شئت من الأمر يذرى على قرطاسه دمعة ... يبدى بها السرّ وما يدرى كعاشق أخفى هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجرى تبصره في كلّ أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعرى يرى أسيرا في دواة وقد ... أطلق أقواما من الأسر

أخرق لو لم تبره لم يكن ... يرشق أقواما وما يبرى كالبحر إذا يجرى، وكالليل إذ ... يغشى، وكالصارم إذ يفرى وقال أحمد بن جرار: أهيف ممشوق بتحريكه ... يحلّ عقد السّرّ إعلان له لسان مرهف حدّه ... من ريقة الكرسف ريّان ترى بسيط الفكر في نظمه ... شخصا له حدّ وجثمان كأنما يسحب في إثره ... ذيلا من الحكمة سحبان لولاه ما قام منار الهدى ... ولا سما للملك ديوان ومن أجود ما قيل في صفة القلم قول أبى تمام لمحمد بن عبد الملك الزيات: لك القلم الأعلى الّذى بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشّرق والغرب وابل لعاب الأفاعى القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل له الخلوات اللاء لولا بحيّها ... لما اختلفت للملك تلك المحافل وقال الأمير تميم بن المعز: وذى عجب من طول صبرى على الذى ... ألاقى من الأرزاء وهو جليل يقولون: ما تشكو؟ فقلت: متى شكا ... شبا السيف عضب الشفرتين صقيل وإنّ امرأ يشكو إلى غير نافع ... ويسخو بما في نفسه لجهول عذابى أن أشكو إلى الناس أننى ... عليل ومن أشكو إليه عليل ويمنعنى الشكوى إلى الله علمه ... بجملة ما ألقاه قبل أقول سأسكت صبرا واحتسابا فإننى ... أرى الصّبر سيفا ليس فيه فلول وقال: يا دهر ما أقساك من متلوّن ... فى حالتيك، وما أقلّك منصفا أتروخ للنّكس الجهول ممهّدا ... وعلى اللبيب الحرّ سيفا مرهفا؟

[الصدق في النصيحة]

وإذا صفوت كدرت، شيمة باخل، ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا لا أرتضيك، وإن كرمت؛ لأننى ... أدرى بأنك لا تدوم على الصّفا زمن إذا أعطى استردّ عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرّفا ما قام خيرك يا زمان بشرّه ... أولى بنا ما قلّ منك وما كفى [الصدق في النصيحة] وكان أحمد بن يوسف منصرفا عن غسّان بن عباد، وجرت بينهما هنات بحضرة المأمون، فقال يوما بحضرة خاصّة أصحابه: أخبرونى عن غسّان بن عباد؛ فإنى أريده لأمر جسيم؛ وكان قد عزم على تقليده السّند مكان بشر بن داود؛ فتكلّم كلّ فريق بما عنده في مدحه؛ فقال أحمد بن يوسف: هو يا أمير المؤمنين رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا يتطرّف به أمر إلّا تقدّم فيه، ومهما تخوّف عليه فإنه لن يأتى أمرا يعتذر منه؛ لأنه قسم أيامه بين أفعال الفضل؛ فجعل لكلّ خلق نوبة، إذا نظرت في أمره لم تدر أى حالاته أعجب؛ أما هداه إليه عقله أم ما اكتسبه بأدبه؟ فقال له المأمون: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قال: لأنى في أمير المؤمنين كما قال الشاعر: كفى ثمنا لما أسديت أنى ... نصحتك في الصديق وفي عدائى وأنى حين تندبنى لأمر ... يكون هواك أغلب من هوائى قال الصولى: وقد روى هذا لغير أحمد، ولعلّ أحمد استعاره؛ فأعجب المأمون ذلك منه، وشكره غسان بن عبّاد له، وتأكّدت الحال بينهما. وكان أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح مولى عجل بن لجيم عالى الطبقة فى البلاغة، ولم يكن في زمانه أكتب منه، وله شعر جيد مرتفع عن أشعار الكتاب، ووزر للمأمون بعد أحمد بن أبى خالد، وكان أول ما ارتفع به أحمد أن

المخلوع محمد بن الرشد لما قتل أمر طاهر بن الحسين الكتّاب أن يكتبوا إلى المأمون؛ فأطالوا، فقال طاهر: أريد أخصر من هذا فوصف له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة، فأحضره لذلك، فكتب: أمّا بعد فان كان المخلوع قسم أمير المؤمنين في النّسب واللّحمة، فقد فرّق بينهما حكم الكتاب في الولاية والخدمة، بمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين؛ لقول الله عزّ وجل فيما اقتص [علينا] من نبأ نوح وابنه: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ، ولا طاعة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت القطيعة في ذات الله؛ وكتابى إلى أمير المؤمنين وقد أنجز الله له ما كان ينتظر من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقّه، الكائد له فيمن ختر عهده، ونقض عقده، حتى ردّ به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، وأضاء به أعلام الدين بعد دروسا؛ وقد بعثت إليك بالدنيا وهي رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البردة والقضيب؛ والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين حقّه، الراجع إليه تراث آبائه الراشدين. وكان أحمد بن أبى خالد كثيرا ما يصف أحمد للمأمون ويحثّه عليه، فأمره المأمون بإحضاره، فلما وقف بين يديه قال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذى استخصّك فيما استحفظك من دينه، وقلّدك من خلافته، بسوابغ نعمه، وفضائل قسمه، وعرّفك من تيسير كلّ عسير حاولك عليه متمرّد، حتى ذلّ لك ما جعله تكملة لما حباك به من موارد أموره بنجح مصادرها، حمدا ناميا زائدا لا ينقطع أولاه، ولا ينقضى أخراه، وأنا أسأل الله يا أمير المؤمنين من إتمام بلائه لديك، ومننه عليك، وكفايته ما ولّاك واسترعاك، وتحصين ما حاز لك، والتمكين من بلاد عدوّك، ما يمنع به بيضة الإسلام، ويعزّ بك أهله، ويبيح بك حمى الشّرك، ويجمع لك متباين الألفة، وينجز بك في أهل العناد والضلالة وعده؛ إنه سميع الدعاء، فعّال لما يشاء.

فقال المأمون: أحسنت، بووك عليك ناطقا وساكتا! ثم قال بعد أن بلاه واختبره: يا عجبا لأحمد بن يوسف! كيف استطاع أن يكتم نفسه! وكتب إلى المأمون يستجدى لزوّار على بابه: إن داعى نداك، ومنادى جدواك، جمعا ببابك الوفود، يرجون نائلك العتيد، فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلى بسالف خدمة، وقد أجحف بهم المقام؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه، ويحقّق ظنّهم بطوله، فعل. فوقّع المأمون في عرض كتابه: الخير متّبع، وأموال الملوك مظانّ لطلّاب؟؟؟؛ فاكتب أسماءهم، وبيّن مرتبة كلّ واحد منهم، ليصير إليه على قدر استحقاقه؛ ولا تكدّرن، معروفنا بالمطل والحجاب؛ فقد قال الشاعر: فإنّك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به طرف الهوان ولم تجلب مودّة ذى وفاء ... بمثل الودّ أو بذل اللّسان قال أحمد بن يوسف: أمرنى المأمون أن أكتب في زيادة قناديل شهر رمضان؛ فأعيا علىّ، ولم أجد مثالا أحتذى عليه؛ فبتّ مغموما، فأتانى آت فى النوم فقال: اكتب: فإنّ فيها إضاءة للمتهجّدين، ونفيا لمكان الرّيب، وأنسا للسابلة، وتنزيها لبيوت الله من وحشة الظّلم، فأخبرت بذلك المأمون، فاستظرفه، وأمر أن تمضى الكتب عليه. وأهدى إلى المأمون في يوم نوروز طبق جزع عليه ميل من ذهب، فيه اسمه منقوش، وكتب إليه: هذا يوم جرت فيه العادة، بإلطاف العبيد السادة، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين طبق جزع فيه ميل. فلما قرأ المأمون الرقصة قال: أجاءت هدية أحمد بن يوسف؟ قالوا: نعم. قال: هى في دارى أم دارى فيها؟ فلما رفع المنديل استظرف الهدّية واسترجح مهديها.

ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين

وأهدى إلى إبراهيم بن المهدى هدية وكتب إليه: الثقة بك قد سهّلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم. وكتب إلى بنى سعيد بن سلم: لولا أنّ الله عزّ وجل ختم نبوّته بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتبه بالقرآن، لنزّل فيكم نبىّ نقمة، وأنزل فيكم قرآن غدر؛ وما عسيت أن أقول في قوم محاسنهم مساوى السّفل، ومساويهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقولة بالعىّ، وأيديهم معقودة بالبخل، وهم كما قال الشاعر: لا يكبرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا وغنّى مغنّ بحضرة أحمد بن يوسف ولم يكن محسنا، فلم ينصتوا له، وتحدّثوا مع غنائه، فغضب المغنّى؛ فقال أحمد بن يوسف: أنت عافاك الله تحمّل الأسماع ثقلا، والقلوب مللا، والأعين قباحة، والأنف نتانة، ثم تقول: اسمعوا منى، وأنصتوا إلىّ! هذا إذا كانت أفهامنا مقفلة، وآذاننا صدئة، فإما رضيت بالعفو منا، وإلا قمت مذموما عنا. ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين يترنّم فيتعب ولا يطرب. إذا غنّى عنّى، وإذا أدّى آذى. يميت الطّرب، ويحيى الكرب. ضربه يوجب ضربه: من عجائب غنائه أنه يورد الشتاء في الصيف. ما رؤى قطّ في دار مرتين. وحضر جحظة مجلسا فيه علىّ بن بسام، فتفرّق القوم المخادّ، فقال جحظة: فما لى لم تعطونى مخدّة؟ فقال على بن بسام: غنّ فالمخادّ كلها إليك تصير! وفيه يقول ابن بسام: يا من هجوناه فغنّانا ... أنت، وبيت الله، أهجانا سيّان إن غنّى لنا جحظة ... أو مرّ مجنون فزنّانا

[عود إلى أحمد بن يوسف]

وكان خالد يستبرد، فبعث بعض الظرفاء غلامه يشترى له خمسة أرطال ثلج، فأتاه بخالد وقال: يا مولاى، طلبت خمسة أرطال، وهذا حمل! وتغنّى بحضرة محموم، فقال: ويحك! دعنا نعرق! وقال بعض المحدثين في قريس المغنى: ألا فاسقنى قدحا وافرا ... يعين على البلغم الهائج أكلنا قريسا وغنّى قريس ... فنحن على شرف الفالج ولقى أبو العباس المبرد برد الخيار المغنّى في يوم ثلج بالجسر، فقال: أنت المبرّد وأنا برد الخيار، واليوم كما ترى، اعبر بنا لا يهلك الناس بالفالج بسببنا وقال ابن عباد الصاحب في مغنّ يعرف بابن عذاب: أقول قولا بلا احتشام ... يعقله كلّ من يعيه ابن عذاب إذا تغنّى ... فإننى منه في أبيه [عود إلى أحمد بن يوسف] ومن شعر أحمد بن يوسف: ضمير وجد بقلب صبّ ... ترجم دمعى به فشاعا فصار دمعى لسان وجدى ... ضيّع سرّى به فذاعا لولا دموعى وفرط حبّى ... ما كان سرّى كذا مضاعا وقال: وعامل بالفجور يأمر بالبرّ ... كهاد يخوض في الظّلم أو كطبيب قد شفّه سقم ... وهو يداوى من ذلك السّقم يا واعظ الناس غير متّعظ ... ثوبك طهّر أولا فلا تلم وقال: إذا ما التقينا والعيون نواظر ... فألسننا حرب وأبصارنا سلم.

وقال في الحزن: كثير هموم القلب حتى كأنما ... عليه سرور العالمين حرام إذا قيل ما أضناك! أسبل دمعه ... فأخبر ما يلقى وليس كلام وقال: كريم له نفس يلين بلينها ... بيردع عن سلطانه سنن الكبر إذا ذكّرته نفسه عظم قدرها ... دعاه إلى تسكينها عظم القدر ووقّع في كتاب رجل يحثّه على استتمام صنائعه عنده: مستتمّ الصنيعة من عدّل زيغها، وأقام أودها، صيانة لمعروفه، ونصرة لرأيه؛ فإن أول المعروف مستخفّ، وآخره مستثقل، يكاد أول الصنيعة يكون للهوى، وآخرها للرّأى، ولذلك قيل: ربّ الصنيعة أشد من ابتدائها «1» . وكان أبو العتاهية له صديقا «2» قبل ارتفاع حاله، فأحسّ منه في حين وزارته تغيّرا، فكتب إليه: أمنت إذا استغنيت من سورة الفقر ... فصرت ترى الإخوان بالنّظر الشّزر أبا جعفر إنّ الشريف يهينه ... تتايهه دون الأخّلاء بالوفر فإن تهت يوما بالذى نلت من غنى ... فإن غنائى بالتجمّل والصّبر ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر وروى أبو بكر يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال: حجب أحمد بن يوسف أبا العتاهية، ثم عاد، فقيل: هو نائم، فكتب إليه: لئن عدت بعد اليوم إنى لظالم ... سأصرف وجهى حيث تبغى المكارم متى يظفر الغادى إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم

ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقلاء

وقال: فى عداد الموتى وفي ساكنى الدنيا ... أبو جعفر أخى وخليى ميّت مات وهو في ورق العيش ... مقيما في ظلّ عيش ظليل لم يمت ميتة الوفاة، ولكن ... مات عن كلّ صالح وجميل وخاصم أحمد بن يوسف رجلا بين يدى المأمون، وكان صغا المأمون إليه «1» على أحمد، ففطن لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يستملى من عينيك ما يلقانى به، ويستبين بحركته ما تجنّه له «2» ، وبلوغ إرادتك أحبّ إلىّ من بلوغ أملى، ولذة إجابتك أمتع عندى من لذّة ظفرى؛ وقد تركت له ما نازعنى فيه، وسلّمت له ما طالبنى به. فاستحسن ذلك المأمون. ومن كلام أحمد بن يوسف: مجالسة البغضاء تثير الهموم، وتجلب الغموم، وتؤلم القلب، وتقدح في النّشاط، وتطوى الانبساط. ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقلاء فلان ثقيل الطّلعة، بغيض التفصيل والجملة، بارد السكون والحركة؛ قد خرج عن حدّ الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشّمال. يحكى ثقل الحديث المعاد، ويمشى في القلوب والأكباد، ولا أدرى كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلّته؟ كأنّ وجهه أيام المصائب، وليالى النوائب، وكأنما قربه فقد الحبائب، وسوء العواقب. وكأنما وصله عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجره قوة المّنة، وريح الجنّة. يا عجبى من جسم كالخيال، وروح كالجبال. كأنه ثقل الدّين، على وجع العين. هو ثقيل السكون، بغيض الحركة، كثير الشؤم، قليل البركة. هو بين الجفن والعين قذاة، وبين الأخمص والنّعل حصاة. ما هو إلا غداة الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلوع الرقيب. ما هو إلّا أربعاء

لا تدور في صفر، والكابوس في وقت السّحر، وأثقل من خراج بلا غلّة، ودواء بلا علّة، وأبغض من مثل غير سائر، وأجمع للعيوب من بغلة أبى دلامة، وحمار طيّار، وطيلسان ابن حرب، وأير أبى حكيمة، وأنشد: مشى فدعا من ثقله الحوت ربّه ... وقال: إلهى زيدت الأرض ثانيه «1» وأنشد: تحمل منه الأرض أضعاف ما ... يحمله الحوت من الأرض وأنشد: مشتمل بالبغض لا تنثنى ... إليه لحظا مقلة الرّامق يظلّ في مجلسنا قاعدا ... أثقل من واش على عاشق وقال الحمدونى: سألتك بالله إلّا صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق أتبغض نفسك من ثقلها ... وإلا فأنت إذا أحمق وكتب أبو عبد الرحمن العطوى إلى بعض إخوانه: إذا أنت لم ترسل وجئت فلم أصل ... ملأت بعذر منك سمع لبيب أتيتك مشتاقا فلم أرحاجبا ... ولا صاحبا إلا بوجه قطوب كأنى غريم مقتض، أو كأننى ... طلوع رقيب أو نهوض حبيب وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يستثقل جليسا اسمه زنباع، فقال له رجل يوما: ما الزنبعة في كلام العرب؟ قال: التثاقل، ولذلك سمّى جليسنا زنباعا. وقد كثّر الناس في الثقلاء، وأنا أستحسن قول جحظة، وإن كان غيره قد تقدّمه في مثله:

يا لفظة النّعى بموت الخليل ... يا وقفة التّوديع بين الحمول يا شربة اليارج يا أجرة ال ... منزل يا وجه العذول الثفيل يا طلعة النّعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول يا نهضة المحبوب عن غضبة ... يا نعمة قد آذنت بالرّحيل يا كتابا جاء من مخلف ... للوعد مملوءا بعذر طويل يا بكرة الثّكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول يا وثبة الحافظ مستعجلا ... بصرفه القينات عند الأصيل ويا طبيبا قد أتى باكرا ... على أخى سقم بماء البقول يا شوكة في قدم رخصة ... ليس إلى إخراجها من سبيل يا عشرة المجذوم في رحله ... ويا صعود السّعر عند المعيل يا ردّة الحاجب عن قسوة ... ونكسة من بعد برء العليل وجحظة هذا هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، وقال أبو الحسن على بن محمد بن مقلة الوزير: سألت جحظة من لقّبه بهذا اللقب؟ فقال: ابن المعتز، لقينى يوما، فقال لى: ما حيوان إن نكّسوه أتانا آلة للمراكب البحرية، فقلت: علق، إذا نكّس صار قلعا، قال: أحسنت يا جحظة؛ فلزمنى هذا اللقب، وكان ناتئ العينين جدّا، قبيح الوجه، ولذلك قال ابن الرومى: نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان يا رحمتى لمنادميه تحمّلوا ... ألم العيون للذّة الآذان وكان طيّب الغناء، ممتدّ النفس، حسن المسموع؛ إلا أنه كان ثقيل اليد فى الضرب؛ وكان حلو النادرة، كثير الحكاية، صالح الشّعر؛ ولا تزال تندرله الأبيات الجيدة، وهو القائل: جانبت أطيب لذّتى وشرابى ... وهجرت بعدك عامدا أصحابى

فإذا كتبت لكى أنزّه ناظرى ... فى حسن لفظك لم تجد بجواب إن كنت تتكر ذلّتى وتذلّلى ... ونحول جسمى وامتداد عذابى فانظر إلى بدنى الذى موّهته ... للناظرين بكثرة الأثواب وقال: وإذا جفانى صاحب ... لم أستجز ما عشت قطعه وتركته مثل القبو ... ر أزورها في كلّ جمعه وقال: ضاقت علىّ وجوه الرأى في نفر ... يلقون بالجحد والكفران إحسانى أقلّب الطرف تصعيدا ومنحدرا ... فما أقابل إنسانا بإنسانى وقال: لقد مات إخوانى الصالحون ... فمالى صديق ومالى عماد إذا أقبل الصبح ولّى السرور ... وإن أقبل الليل ولّى الرقاد وقالى يهجو رجلا: لا تعذلونى إن هجرت طعامه ... خوفا على نفسى من المأكول فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت بالمقتول ومن حكاياته ما حدّثنى خالد الكاتب قال: جاءنى يوما رسول إبراهيم ابن المهدى، فصرت إليه، فرأيت رجلا أسود على فرش قد غاص فيها، فاستجلسنى وقال: أنشدنى من شعرك، فأنشدته: رأت منه عينى منظرين كما رأت ... من الشمس والبدر المنير على الأرض عشيّة حيّانى بورد كأنه ... خدود أضيفت بعضهن إلى بعض ونازعنى كأسا كأن حبابها ... دموعى لمّا صدّ عن مقلتى غمضى وراح وفعل الراح في حركاته ... كفعل نسيم الريح بالغصن الغضّ

[السكاكين]

فزحف حتى صار في ثلثى الفراش، وقال: يا فتى، شبهوا الخدود بالورد، وأنت شبهت الورد بالخدود، زدنى فأنشدته: عاتبت نفسى في هوا ... ك فلم أجدها تقبل وأطعت داعيها إلي ... ك فلم أطع من يعذل لا والذى جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل لا قلت إن الصبر عنك ... من التّصابى أجمل فزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لى: زدنى، فأنشدته: عش فحبّيك سريعا قاتلى ... والضّنى إن لم تصلنى واصلى ظفر الحبّ بقلب دنف ... فيك والسّقم بجسم ناحل فهما بين اكتئاب وضنى ... تركانى كالقضيب الذّابل وبكى العاذل لى من رحمة ... فبكائى لبكاء العاذل فنعر طربا وقال: يا يلبق؛ كم معك لنفقتنا؟ قال: ثمانمائة وخمسون دينارا. قال: اقسمها بينى وبين خالد، فدفع إلىّ نصفها وأنشد جحظة أو غيره ولم يسمّ قائله: لا يبعد الله إخوانا لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدّهر والأبد نمدّهم كلّ يوم من بقيّتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد [السكاكين] وكان أحمد بن يوسف جالسا بين يدى المأمون، فسأل المأمون عن السكّين فناوله أحمد السكين، وقد أمسك بنصابها، وأشار إليه بالحدّ، فنظر إليه المأمون نظر منكر؛ فقال: لعل أمير المؤمنين أنكر علىّ أخذى النّصاب؛ وإشارتى إليه بالحدّ؛ وإنما تفاءلت بذلك أن يكون له الحدّ على أعدائه، فعجب المأمون من سرعة فطنته، ولطيف جوابه.

ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين

وقال بعض الكتاب: السكين مسّ الأقلام يشحذها إذا كلت، ويصقلها إذا نبت، ويطلقها إذا وقفت، ويلمّها إذا شعثت، وأحسنها ما عرض صدره، وأرهف حدّه، ولم يفصل على القبضة نصابه. وقال أبو الفتح كشاجم يرثى سكينا سرقت له: يا قاتل الله كتّاب الدواوين ... ما يستحلّون من أخذ السكاكين لقد دهانى لطيف منهم ختل ... فى ذات حدّ كحدّ السيف مسنون فأقفرت بعد عمران بموقعها ... منها دواة فتى بالكتب مفتون تبكى على مدية أودى الزمان بها ... كانت على جائر الأقلام تعدينى كانت تقدّم أقلامى وتنحتها ... نحتا وتسخطها بريا فترضينى وأضحك الطرس والقرطاس عن حلل ... ينوب للعين من نور البساتين فإن قشرت بها سوداء من صحفى ... عادت كبعض خدود الخرّد العين جزع النصاب لطيفات شعائرها ... محسّنات بأصناف التّحاسين هيفاء مرهفة بيضاء مذهبة ... قال الإله لها سبحانه: كونى لكن مقطّى أمسى شامتا جذلا ... وكان في ذلّة منها وفي هون فصين حتى يضاهى في صيانته ... جاهى لصونيه عمّن لا يدانينى ولست عنها بسال ما حييت، ولا ... بواجد عوضا منها يسلينى ولو يردّ فداء ما فجعت به ... منها فديناه بالدنيا وبالدين ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين سكّين كأنّ القدر سائقها، أو الأجل سابقها، مرهفة الصّدر، مخطفه الخصر، يجول عليها فرند العتق، ويموج فيها ماء الجوهر؛ كأنّ المنية تبرق من حدّها، والأجل يلمع من متنها، ركّبت في نصاب آبنوس، كأنّ الحدق نفضت

[السمر والمنادمة]

عليه صبغها، وحبّ القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصح بحظّ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج، فكأنها ليل من تحت نهار، أو مجمر أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض. سكين ذات منسر بازىّ، وجوهر هوائى، ونصاب زنجى، إن أرضيت أولت متنا كالدّهان، وإن أسخطت اتقّت بناب الأفعوان. سكّين أحسن من التّلاق، وأقطع من الفراق، تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هى أمضى من القضاء، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة السيف الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، وتملّكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر إلى إمهاء الحجر «1» [السّمر والمنادمة] قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح: مازلنا في سمر نصل فصوله بتشوّقك، فيذهب ذكرك ملل السامر، ونعسة الساهر. فقال القاسم: مثلك ذكر صديقه فأطراه، واعتذر إليه فأرضاه، ولو كنتم آذنتمونى كنت أحدكم، مسرورا بما به سررتم، مفيضا فيما فيه أفضتم. قال بعض الظرفاء: شرط المنادمة قلّة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، والمسامحة في الشراب، والتغافل عن ردّ الجواب، وإدمان الرضا، واطّراح ما مضى، وإسقاط التحيّات، واجتناب اقتراح الأصوات، وأكل ما حضر، وإحضار ما تيسّر، وستر العيب، وحفظ الغيب. وقد أحسن أبو عبد الرحمن العطوى في قوله: حقوق الكاس والنّدمان خمس ... فأوّلها التزيّن بالوقار وثانيها مسامحة النّدامى ... فكم حمت السماحة من ذمار وثالثها، وإن كنت ابن خير ... البريّة محتدا، ترك الفخار

ورابعها وللنّدمان حق ... سوى حقّ القرابة والجوار إذا حدثته فاكس الحديث ... الّذى حدّثته ثوب اختصار فما حثّ التبيذ بمثل حسن ال ... أغانى والأحاديث القصار وخامسة يدلّ بها أخوها ... على كرم الطبيعة والنّجار حديث الأمس ننساه جميعا ... فإنّ الذّنب فيه للعقار ومن حكّمت كاسك فيه فاحكم ... له بإقالة عند العثار وقال حسان بن ثابت: نوّليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء «1» وشرب اليزيدى عند المأمون فلما أخذت منه الكأس أقبل يعتزّ عليه بتعليمه إياه، وأساء مخاطبته؛ فلما أفاق من سكره عرّف ما جرى، فلبس أكفانه، ووقف بين يدى المأمون فأنشده: أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو ثملت فأبدت منّى الكاس بعض ما ... كرهت وما إن يستوى السّكر والصّحو ولا سيما إن كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يجوز به اللّغو فإن تعف عنى ألف خطوى واسعا ... وإلا يكن عفو فقد قصر الخطو فقال المأمون: لا تثريب عليك، فالنبيذ بساط يطوى بما عليه. وشرب كوران المغنى عند الشريف الرضى، فافتقد رداءه، وزعم أنه سرق. فقال له الشريف: ويحك! من تتّهم منا؟ أما علمت أنّ النبيذ بساط يطوى بما عليه؟ قال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائى واطووه إلى يوم القيامة! وكان أبو جعفر أحمد بن جدار كاتب العباس بن أحمد بن طولون ينقل أخبار أبى حفص عمر بن أيوب كاتب أحمد بن طولون على الشراب إلى العباس، فصار إليه أبو حفص فقال: يا أبا جعفر؛ إنما مجلس المدام مجلس حرمة، وداعية أنس،

ومسرح لبانة، ومذاد همّ، ومرتع لهو، ومعهد سرور، وإنما توسطته عند من لا يتّهم غيبه، ولا يخشى عتبه، وقد اتصل بى ما تنهبه إلى أميرنا أبى الفضل أعز الله أمره، من أخبار مجالستى، فلا تفعل، وأنشده: ولقد قلت للأخلاء يوما ... قول ساع بالنّصح لو سمعره إنما مجلس المدام بساط ... للمودات بينهم وضعوه فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيم ولذة رفعوه وهم أحرياء، إن كان منهم ... حافظ، ما أتوه أن يمنعوه فاعتذر ابن جدار وحلف ما فعل، وقام من مجلسه. وأنشد أبو حفص: كم من أخ أو جست منه سجيّة ... فأنست بعد وداده بفراقه لم أحمد الأيام منه خليقة ... فتركته مستمتعا بخلاقه عوّل أبو حفص في أكثر كلامه على نقل كلام أبى العباس الناشىء في الشراب، والأبيات التي أنشد أولا له. أبو القاسم الصاحب: قدما حملت أوزار السّكر، على ظهور الخمر، وطوى بساط الشراب، على ما فيه من خطأ أو صواب. متابعة العقار، تعذر في خلع العذار، وتغنى عن الاعتذار. متابعة الأرطال، تبطل سورة الأبطال، وتدع الشيوخ كالأطفال. كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلى إلى بعض الجلّة يستدعيه: يومنا يوم ليّن الحواشى، وطىء النواحى؛ وسماؤنا قد أقبلت، ورعدت بالخير وبرقت، وأنت قطب السرور، ونظام الأمور؛ فلا تفردنا فنقلّ، ولا تنفرد عنا فنذلّ. وكتب بعض أهل العصر- وهو السّرىّ الموصلى- إلى أخ له يستدعيه إلى مؤانسته:

خلالك، ما اختلّ الصديق، سحائب ... وبشرك، ما هبّت رياح، مواهب وأنت شقيق الرّوح تؤثر وصلها ... إذا راعها بالهجر خلّ وصاحب ونحن خلال القصف والعزف نجتنى ... ثما ملاه كلهنّ أطايب وعندى لك الرّيحان زين بساطه ... بزهر كما زانت سماء كواكب وجيش كما انجرّت ذيول غلائل ... مصندلة تختال فيها الكواعب وقد أطلقت فيه الشمائل، وانثنت ... مفنّدة عن جانبيها الجنائب وحافظة ماء الحياة لفتية ... حياتهم أن تستلذّ المشارب نسربلها أخفى اللباس، وإنما ... يلفّ بها أفواهه والسّبائب على جسد مثل الزّ برجد لم تزل ... تشاكله في لونه وتناسب إذا استودعت حرّ اللّجين سبائكا ... تصوّب في أحشائها وهو ذائب وفوق رءوس القوم غيم معلّق ... أنامل بيض للطبول تلاعب ولا عائق يثنى عنانك عن هوى ... رغى جانب منه وأومض جانب فبادر؛ فإن اليوم صاف من القذى، ... وبا ربّ يوم بادرته النوائب وقال ابن المعتز: لا شىء يسلى همّى سوى قدح ... تدمى عليه أوداج إبريق فى غيم ندّ يزجى سحائبه ... برق ابتسام ورعد نصفيق وقال الحسن بن محمد الكاتب يصف طئلا: يا حبّذا يومنا نلهو بملهية ... تلهى بشىء له رأسان في جسد قد شدّ هذا إلى هذا كأنهما ... من شدّة الشدّ مقرونان في صفد «1» نظلّ نلطم خدّيه إذا ضربت ... بكلّ طاقتها لطما بلا حرد «2» فتسمع الصوت منه حين تضربه ... كأنه خارج من ما ضغى أسد

ومن ألفاظهم في الاستدعاء

ومن ألفاظهم في الاستدعاء نحن في مجلس قد أبت راحه أن تصفو لنا أو تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأمّا خدود نارنجه فقد احمرّت خجلا لإبطائك، وعيون نرجسه قد حدّقت تأميلا للقائك، فبحياتى عليك إلّا تعجّلت، وما تمّهلت. نحن بغيبتك كعقد تغيّبت واسطته، وشباب قد أخلقت جدّته؛ وإذ قد غابت شمس السماء عنّا، فلا بد أن تدنو الأرض منا. أنت من ينتظم به شمل الطرب، وبلقائه يبلغ كلّ أرب. طر إلينا طيران السّهم، واطلع علينا طلوع النّجم. ثب إلينا وثوب الغزال، واطلع علينا طلوع الهلال، فى غرّة شوّال. كن إلينا أسرع من السهم إلى ممرّه، والماء إلى مقرّه. جشم إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك، وإن رأيت أن تحضرنا لتتّصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنّة الخلد، وتسهم لنا في قربك الذى هو قوت النّفس، ومادة الأنس. ولهم في استدعاء الشراب قد تألّف لى شمل إخوان كاد يفترق لعوز المشروب، واعتدنا فضلك المعهود، ووردنا بحرك المورود، وأنا ومن سامحنى الدهر بزيارته من إخوانى وأوليائك وقوف بحيث يقف بنا اختيارك من النشاط والفتور، ويرتضيه لنا إيثارك من الهمّ والسرور، والأمر في ذلك إليك، والاعتماد في جمع شمل المسرّة عليك؛ فإن رأيت أن تكلنى إلى أولى الظّنّين بك فعلت. ألطف المنن موقعا، وأجلّها في النفوس موضعا، ما عمر أوطان المسرّة، وطرد عوارض الهمّ والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة. قد انتظمت في رفقة لى في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات نعش، والسلام. فرأيك في إرواء غلّتنا بما ينقعها، والطّول على جماعتنا بما يجمعها.

ولهم في الكناية عن الشراب

ولهم في الكناية عن الشراب قد نشط لتناول ما يستمدّ البشر، ويشرح الصّدر. قد استمطر سحابة الأنس، واستدرّ حلوبة السرور، وقدح زند اللهو، فهو يمرى دماء العناقيد، ويفصد عروق الدّنان، وينظم عقد النّدمان. كتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجن لم يمطر: أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليأس في يومنا هذا بقرب المطر وبعده، كأنه قول كثير: وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت مما بيننا وتخلّت لكالمرتجى ظلّ الغمامة، كلما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت وما أصبحت أمنيتى إلّا في لقائك، فليت حجاب النأى هتك بينى وبينك! رقعتى هذه وقد دارت زجاجات أوقعت بعقلى ولم تتحيّفه، وبعثت نشاطا حرّكنى للكتاب؛ فرأيت في إمطارى سرورا بسارّ خبرك؛ إذ حرمت السرور بمطر هذا اليوم، موفّقا إن شاء الله. وكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الامير أيّده الله وفمى طاعم ويدى عاملة؛ ولذلك تأخّر الجواب قليلا، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استوجب ذنبا استحق به دما؛ لأنه إذا أشمس حكى حسنك وضياءك، وإن أمطر حكى جودك وسخاءك، وإن غام أشبه ظلّك وفناءك، وسؤال الامير عنى نعمة من نعم الله عزّ وجل أعفّى بها آثار الزمان السيىء عندى؛ وأنا كما يحبّ الأمير صرف الله الحوادث عنه، وعن حظّى منه. وذمّ رجل رجلا فقال: دعواته ولائم، وأقداحه محاجم، وكئوسه محابر، ونوادره بوادر. وقال أبو الفتح كشاجم: كان عندى بعض المجّان من النبيذيّين، فسعنى

فقر للنبيذيين

وأنا أحمد الله جلّ ذكره في وسط الطعام لشىء خطر ببالى من نعم الله التي لا تحصى، فنهض وقال: أعطى الله عهدا إن عاودت! وما معنى التحميد هنا؟ كأنك تعلمنا أنا قد شبعنا. ثم مال إلى الدواة والقرطاس، وكتب ارتجالا: وحمد الله يحسن كلّ وقت ... ولكن ليس في أولى الطعام لأنك تحشم الأضياف فيه ... وتأمرهم بإسراع القيام وتؤذنهم، وما شبعوا، بشبع ... وذلك ليس من خلق الكرام وكتب المريمى إلى بعض إخوانه وقد ترك النبيذ: إن كنت تبت عن الصّهباء تشربها ... نسكا فما تبت عن برّ وإحسان تب راشدا، واسقنا منها، وإن عذلوا ... فيما فعلت فقل ما تلب إخوانى وقال بعض النبيذيّين، وقد ترك الشرب: تحامونى لتركى شرب راح ... أقمت مكانها الماء القراحا وما انفردوا بها دونى لفضل ... إذا ما كنت أكثرهم مراحا وأرفعهم على وتر وصنج ... وأطرفهم وأظرفهم مزاحا إذا شقّوا الجيوب شققت جيبى ... وإن صاحوا علوتهم صياحا فقر للنبيذيين ما جمشت الدنيا بأظرف من النبيذ، ما للعقار والوقار. إنما العيش مع الطّيش، الراح ترياق سمّ الهمّ. النبيذ ستر فانظر مع من تهتكه. اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه. لولا أنّ المخمور يعلم قصّته لقدّم وصيّته. الصاحى بين السكارى كالحىّ بين الموتى: يضحك من عقلهم، ويأكل من نقلهم. أحمق ما يكون السّكران إذا تعاقل. التبذل على النبيذ ظرف، والوقار عليه سخف، حدّ السّكران أن تغرب الهموم، ويظهر السرّ المكتوم.

وقال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب: ما أنصفتها، تضحك فى وجهك، وتعبس في وجهها. وقال الطائى: إذا ذاقها، وهي الحياة، رأيته ... يعبّس تعبيس المقدّم للقتل وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال: وأن أقطّب وجهى حين تبسم لى ... فعند بسط الموالى يحفظ الأدب وترك رجل النبيذ، فقيل له: لم تركته، وهو رسول السرور إلى القلب؟ قال: ولكنه رسول بأس يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس. وقيل لبعضهم: ما أصبّك بالخمر! فقال: إنها تسرج في يدى بنورها، وفي قلبى بسرورها كأنّ الناشىء نظر إلى هذا الكلام فقال: راح إذا علت الأكفّ كئوسها ... فكأنها من دونها في الرّاح «1» وكأنما الكاسات مما حولها ... من نورها يسبحن في ضحضاح «2» لو بثّ في غسق الظلام ضياؤها ... طلع المساء بغرّة الإصباح نفضت على الأجسام ناصع لونها ... وسرت بلذّتها إلى الأرواح البيت الأول كقول البحترى: يخفى الزجاجة ضوءها، فكأنها ... فى الكفّ قائمة بغير إناء «3» وللناشىء في هذا المعنى: ومدامة يخفى النهار لنورها ... ونذلّ أكناف الدّجا لضيائها صبّت فأحدق نورها بزجاجها ... فكأنها جعلت إناء إنائها وترى إذا صبّت بدت في كأسها ... متقاصر الأرجاء عن أرجائها وتكاد إن مزجت لرقّة لونها ... تمتاز عند مزاجها من مائها صفراء تضحى الشمس، إن قيست بها ... فى ضوئها، كاللّيل، فى أضوائها

ومن ألفاظهم في صفات مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر

وإذا تصفّحت الهواء رأيته ... كدر الأديمة عند حسن صفائها تزداد من كرم الطباع بقدر ما ... نودى به الأيام من أجزائها لا شىء أعجب من تولّد برئها ... من سقمها، ودوائها من دائها وقال: إن رمت وصف الراح فأت بما ... فيها من الأوصاف من قرب هى ماء ياقوت، وإن مزجت ... فى كأسها بالبارد العذب فكأنها وحبابها ذهب ... كلّلته بالّلؤلؤ الرّطب ولأهل العصر: الدنيا معشوقة ريقها الراح. أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومى في صاعد بن مخلد: فتى هاجر الدنيا وحرّم ريقها ... وهل ريقها إلّا الرحيق المورّد ولو طمعت في عطفه ووصاله ... أباحته منها مرشفا لا يصرّد الخمر أشبه شىء بالدنيا؛ لاجتماع اللذات والمرارة فيها. الخمر مصباح السرور، ولكنها مفتاح الشرور. لكل شىء سرّ، وسرّ الراح السرور. لا يطيب المدام الصافى، إلّا مع النديم المصافى. ومن ألفاظهم في صفات مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر مجلس راحه ياقوت، ونوره ورد، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، يحملهما زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك «1» سرق، ونارنج ككرات من سفن ذهّبت «2» ، أو ثدى أبكار خلّقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهى

ناطقة. ونحن بين بدور، وكاسات تدور، وبروق راح، وشموس أقداح. قد نشأت غمامة النّدّ، على بساط الورد. مجلس قد تفتّحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامير الأترجّ، وفتقت فارات النّارنج، ونطقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، وطلعت كواكب النّدمان، وامتدت سماء النّدّ. مجلس من رآه حسب الجنان قد اصطفّت عيونها، فجعلت فى قدر من الأرض، وتخيّرت فصوصها، فنقلت إلى مجلس الأنس واللهو. قد فضّ اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه. قد هبّت للأنس ريح برقها الراح، وسحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار. قد فرغنا للهو والدهر عنا فى شغل. جلّ هذا من قول بعض أهل العصر: كم جوى مثّله رسم مثل ... ودم قد طلّ أثناء طلل ولآل كلّل الخدّ بها ... لعب البين بربّات الكلل حبذا عيش الليالى باللّوى ... لو تجافى الدّهر عنّا وغفل إذ فرغنا فيه للهو وقد ... باتت الأقدار عنّا في شغل وأدرنا ذهبا في لهب ... كلما أخمد بالماء اشتعل قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو. عمدنا إلى أقداح اللهو فأجلناها، ولمراكب السرور فامتطيناها. قد امتطينا غوارب السرور بالأقداح. مدامة توردريح الورد، وتحكى نار إبراهيم في اللّون والبرد، ولست أدرى أشقيق أم عقيق، أم رحيق أم حريق. راح كأنّ الدّيوك صبّت أحداقها فيها. راح كأنما اشتقّت من الرّوح والراحة. قال ابن الرومى: والله ما ندرى لأيّة علّه ... يدعونها في الرّاح باسم الرّاح ألريحها أم روحها تحت الحشى ... أم لارتياح نديمها المرتاح

راح كالنار والنّور والنّور، أصفى من البلّور، ومن دمع المهجور. روح نور لها من الكأس جسم، كأنها شمس في غلالة سراب. شراب أكاد أقول: هو أصفى من مودّتى لك، ومن نعم الله عندى فيك، وأطيب من إسعاف الزمان بلقائك. مدامة قد سبك الدهر تبرها فصفا. كأس كأنها نور ضميره نار. راح كياقوتة في درّة، أصفى من ماء السماء، ودمع العاشقة المرهاء «1» ، أحسن من الدنيا المقبلة، والنعم المكملة. أحسن من العافية في البدن، وأطيب من الحياة في السرور. أرقّ من نسيم الصّبا، وعهد الصّبا. أرقّ من دمع محبّ، وشكوى صبّ. أرقّ من دموع العشّاق، مرتها لوعة الفراق. مزج نار الرّاح بنور الماء. راح كأنها معصورة من وجنة الشمس، فى كأس كأنها مخروطة من فلقة البدر. كأسها ملء اليد، وريحها ملء البلد، تصبّ على الليل ثوب النهار، كأنها في الكأس معنى دقيق في ذهن لطيف. كأنّ الراح من خدّه معصورة، وملاحة الصورة عليها مقصورة. وهذا من قول الطائى كأنها من خدّه تعصر وقال عبد السلام بن رغبان الملقب بديك الجن الشاعر المشهور: معتّقة من كفّ ظبى كأنما ... تناولها من خدّه فأدارها تمشّت الصّهباء في عظامهم، وترقّت إلى هامهم، وماست في أعطافهم، ومالت بأطرافهم. سارت فيهم الكئوس، ونالت منهم سورة الخندريس «2» . شربت عقولهم، وملكت قلوبهم. وقال أبو نواس، وهو أستاذ الناس في هذا الشأن: صفة الطول بلاغة الفدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كثابت العلم

وإذا وصفت الشىء متبعا ... لم تخل من غلط ومن وهم وقال: الكأس أهواها وإن رزأت ... بلغ المعاش وقلّلت فضلى «1» صفراء مجّدها مرازبها ... جلّت عن النظراء والمثل ذخرت لآدم قبل خلقته ... فتقدمته بخطوة القبل فاعذر أخاك فإنه رجل ... مرنت مسامعه على العذل وقال: فتسلّيت بشرب عقار ... نشأت في حجر أمّ الزمان فتناساها الجديدان حتى ... هى أنصاف شطور الدّنان وافترعنا مرة الطعم بها ... نزق البكر ولين العوان واحتسينا من رحيق عتيق ... وشديد كامل في ليان لم يجفها مبزل القوم حتى ... نجمت مثل نجوم السنان أو كعرق السام تنشقّ منه ... شعب مثل انفراج البنان وقال: وخدين لذّات معلّل صاحب ... يقتات منه فكاهة ومزاحا قال: ابغنى المصباح، قلت له: اتّئد ... حسبى وحسبك ضوءها مصباحا فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا وهذا كقوله: وخمّار أنخت عليه ليلا ... قلائص قد تعبن من السّفار «2» فترجم والكرى في مقلتيه ... كمخمور شكا ألم الخمار أبن لى كيف صرت إلى حريمى ... وجفن الليل مكتحل بقار

فقلت له: ترفّق بى؛ فإنى ... رأيت الصبح من خلل الديار فكان جوابه أن قال: كلّا ... وما صبح سوى ضوء العقار وقام إلى الدّنان فسدّ فاها ... فعاد الليل مسدول الإزار وقال بعض المحدثين: ما زال يشربها وتشرب عقله ... خبلا، وتؤذن روحه برواح حتى انثنى متوسّدا بيمينه ... سكرا، وأسلم روحه للرّاح وقال الصنوبرى وذكر شربا «1» : نازعتهم كأسا تخال نسيمها ... مسكا تضوّع في الإناء عتيقا شقّت قناع الفجر لما غادرت ... كفّ النديم قناعها مشقوقا صبغت سواد دجاه حمرة لونها ... فكأنه سبج أعيد عقيقا وقال أبو الشّيص: وكأس كسا الساقى لنا بعد هجعة ... حواشيها ما مجّ من ريقة العنب كأنّ اطّراد الماء في جنباتها ... تربّع ماء الدرّ في سبك الذّهب سقانى بها، واللّيل قد شاب رأسه، ... غزال بحنّاء الزجاجة مختضب وقال أبو عدى الكاتب: ليس لها حدّ تحيط بوصفه ... لغات، ولا جسم يباشره لمس ولكنه كالبرق أومض ماضيا ... فلم يبق منه غير ما تذكر النّفس وقال ابن المعتز: ألا فاسقنيها قد مشى الصبح في الدّجى ... عقارا كمثل النار حمراء قرقفا فناولنى كأسا أضاءت بنانه ... تدفّق ياقوتا ودرّا مجوّفا ولما أريناها المزاج تسعرّت ... وخلت سناها بارقا قد تكشفا

[من رسائل بديع الزمان الهمذانى]

يطوف بها ظبى من الإنس شادن ... يقلّب طرفا فاسق اللّحظ مدنفا عليم بأسرار المحبين حاذق ... بتسليم عينيه إذا ما تخوّفا فظل يناجينى يقلّب طرفه ... بأطيب من نجوى الأمانى وألطفا وقال: ألا عج على دار السرور فسلّم ... وقل: أين لذّاتى وأين تكلمى؟ وقل: ما حلت بالعين بعدك لذة ... سواك، وإن لم تعلمى ذاك فاعلمى وصفراء من صبغ المزاج برأسها، ... إذا مزجت، إكليل درّ منظم قطعت بها عمر الدّجى وشربتها ... ظلاميّة الأحشاء نورية الدّم [من رسائل بديع الزمان الهمذانى] كتب أبو الفضل بديع الزمان إلى أبى عدنان بن محمد الضبى «1» يعزّيه عن بعض أقاربه: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى «2» إذا ساء، ويخصّ بالنعمة إذا شاء، فليفكّر الشامت؛ فإن كان أفلت، فله أن يشمت، ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، من فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره؛ هل يجد لنفسه، أثرا في نفسه؟ أم لتدبيره، عونا على تصويره، أم لعمله، تقديما لأمله، أم لحيله، تأخيرا لأجله؛ كلا، بل هو العبد لم يكن شيئا مذكورا؛ خلق مقهورا، ورزق مقدورا، فهو يحيا جبرا، ويهلك صبرا، وليتأمّل المرء كيف كان قبلا؛ فإن كان العدم أصلا، والوجود فضلا، فليعلم

الموت عدلا؛ فالعاقل من رقّع من جوانب الدهر ما ساء بما سرّ، ليذهب ما نفع بما ضرّ؛ فإن أحبّ ألّا يحزن فلينظر يمنة، هل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة، هل يرى إلّا حسرة؟ ومثل الشيخ الرئيس- أطال الله بقاءه! - من فطن لهذه الأسرار، وعرف هذه الديار، فأعدّ لنعيمها صدرا لا يملؤه فرحا، ولبؤسها قلبا لا يطيره ترحا؛ وصحب البريّة برأى من يعلم أنّ للمتعة حدّا، وللعاريّة ردّا، ولقد نعى إلىّ أبو قبيصة قدّس الله روحه، وبرّد ضريحه، فعرضت علىّ آمالى قعودا، وأمانىّ سودا، وبكيت، والسخىّ جوده بما يملك، وضحكت، وشرّ الشدائد ما يضحك، وعضضت الأصبع حتى أدميته، وذممت الموت حتى تمنّيته؛ والموت أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، ونكر قد عمّ حتى عاد عرفا؛ والدنيا قد تنكّرت حتى صار الموت أخفّ خطوبها، وقد خبثت حتى صار أقلّ عيوبها، ولعل هذا السهم قد صاب آخر ما في كنانتها، وأنكأ ما في خزانتها، ونحن معاشر التّبع نتعلم الأدب من اخلاقه، والجميل من أفعاله، فلا نحثّه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغّبه في الجزيل وهو الأجر؛ فلير فيهما رأيه إن شاء الله. وله إلى بعض إخوانه جوابا عن كتاب كتبه يهنّيه بمرض أبى بكر الخوارزمى وكانت بينهما مقارعة، ومنازعة، ومنافرة، ومهاترة؛ ولهما مجالس مستظرفة قهره البديع فيها وبهره، وبكّته حتى أسكته، ليس هذا موضعها، لكنى أذكر بعد هذه الرسالة بعض مكاتبات جرت بينهما؛ إذ كان ما لهما من الابتداء والجواب آخذا بوصل الحكمة وفصل الخطاب: الحرّ أطال الله بقاءك- لا سيما إذا عرف الدهر معرفتى، ووصف أحواله صفتى- إذا نظر علم أنّ نعم الدّهر ما دامت معدومة فهى أمانىّ، وإن وجدت فهى عوارى، وأنّ محن الأيام وإن طالت فستنفد، وإن لم تصب فكأنّ قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت

إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت؛ وما أقبح الشماتة، بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقّعها بعد كل لحظة، وعقب كلّ لفظة، والدّهر غرثان طعمه الخيار «1» ، وظمآن شربه الأحرار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أم يسرّ العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل شفاه الله وإن ظاهرناه بالعداوة قليلا، فقد باطنّاه ودّا جميلا، والحرّ عند الحميّة لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا تتصور حالتى إلا بصورتها من التوجّع لعلّته، والتحزّن لمرضته، وقاه والله المكروه، ووقانى سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله. قال البديع في سياقة أخباره مع أبى بكر الخوارزمى: أولها أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلّا نيسابور دارا، وإلّا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل؛ ومددنا عليها الطّنب، وقديما كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوّقه، وبخبره على الغيب فنتعشّقه، ونقدّر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، وفي المودّة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع «2» : أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كلّ الاختلاف، وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزوها، وفضّة فضوها، وذهب ذهبوا به، ووردنا نيسابور براحة، أنقى من

الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار «1» ، وزى أوحش من طلعة المعلّم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره؛ وهذا بعد رقعة قدّمناها، وأحوال أنس نظمناها- ونسخة الرقعة: أنا بقرب الأستاذ أطال الله بقاه كما طرب النّشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العصفور بلّله القطر، ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصّهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج لمزاره كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب، فكيف نشاط الأستاذ سيدى لصديق طرأ إليه ممّا بين قصبتى العراق وخراسان، بل عتبتى نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف: رثّ الشمائل مخلق الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب وهو- أيّده الله! - ولىّ إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقرّى، لأفضى إليه بما عندى- إن شاء الله- فلما أخذتنا عينه سقانا الدّردىّ من أوّل دنّه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنّه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخفّ بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، وولّيناه خطّة نفاقه؛ فواصلناه إذ جانب، وقاربناه إذ جاذب، وشربناه على كدورته، ولبسناه على خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زىّ استغثه، ولباس استرثّه، وكاتبناه نستمدّ وداده، ونستلين قياده، ونقيم منآده، بما هذه نسخته: الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط القلّة، فى أطمار الغربة، فأعمل في رتبته أعمال المصارفة، وفي الاهتزاز إليه أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطّرف، وإشارة بشطر الكف،

ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلّف لردّ السلام؛ وقد قبلت ترتيبه صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبّطته شرّا، ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال وفي الاسمال، أتقزّز من صفّ النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إنّ بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرّون المطارف، ولا يمنعون المعارف: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل فلو طوّحت بأبى بكر- أيّده الله- إليهم مطارح الغربة، لوجد منزل البشر رحيبا، ومحطّ الرّحل قريبا، ووجه المضيف خصيبا؛ فرأى الأستاذ أبى بكر أيده الله فى الوقوف على هذا العتاب الذى معناه ودّ، والمرّ الذى يتلوه شهد، موفق إن شاء الله. فأجاب بما نسخته: وصلت رقعة سيدى ورئيسى أطال الله بقاه إلى آخر السّكباج «1» ، وعرفت ما تضمّنه من خشن خطابه، ومؤلم عتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضّجرة التي لا يخلو منها من مسّه عسر أو نبا به دهر؛ والحمد لله الذى جعلنى موضع أنسه، ومظنّة مشتكى ما في نفسه، أما ما شكاه سيدى ورئيسى من مضايقتى إياه في القيام، فقد وفيته حقّه- أيّده الله- سلاما وقياما، على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات [العلوى] أدام الله عزه، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول، وأمّه البتول، وشاهداه التوراة والإنجيل، وناصراه التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل؛ فأما القوم الذين صدر عنهم سيدى فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:

فإن كنت قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم والله يعلم نيّتى للأحرار «1» كافة، ولسيدى من بينهم خاصة؛ فإن أعاننى الدهر على ما في نفسى بلغت له ما في النيّة، وجاوزت به مسافة القدر والأمنية، وإن قطع علىّ طريق عزمى بالمعارضة، وسوء المناقضة، صرفت عنانى عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار. فما النفس إلّا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها «2» وبعد، فحبذا عتاب سيدى إذا استوجبنا عتبا، واقترفنا ذنبا؛ فأما أن يسلفنا العربدة فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله، ولست أسومه أن يقول: (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ، ولكن أسأله أن يقول: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) . فحين ورد الجواب وعين العذر رمدة تركناه بعرّه، وطويناه على غرّه، وعمدنا إلى ذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وتنكّبنا خطته، وتجنبنا حطّته «3» ، فلا طرنا إليه، ولا صرنا به، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبّت الأيام، ودرجت الليالى، وتطاولت المدّة، وتصرّم الشهر، وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدور حديثه؛ وجعل هذا الفاضل يستزيد، ويستعيد، بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه، وتؤديها إلىّ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه، وتعيدها علىّ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من الأستاذ سيدى- أطال الله بقاه- شرعة ودّه وإن لم تصف، وألبس خلعة برّه وإن لم تضف، وقصاراى أن أكيله، صاعا عن مدّ؛ فإنى وإن كنت في الأدب دعىّ النّسب، ضيق المضطرب، سيىء المنقلب، أمتّ إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقى أن يكون الخليط منصفا في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد، وسيدى- أبقاه الله-

ناقشنى في القبول أولا «1» ، وصارمنى في الإقبال آخرا؛ فأما حديث الاستقبال، وأمر الإنزال والأنزال «2» ، فنطاق الطمع ضيّق عنه، غير متسع لتوقّعه منه، وبعد فكلفة الفضل بيّنة، وفروض الودّ متعيّنة، وأرض العشرة ليّنة، وطرقها هيّنة، فلم اختار قعود التّعالى مركبا، وصعود التغالى مذهبا؛ وهلّا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله أن شوقى إليه قد قدّ الفؤاد برحا إلى برح، ونكأه قرحا إلى قرح، ولكنها مرّة مرّة، ونفس حرّة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفانى من معاتبته، فأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشّمها، فليس إلّا غصص الشوق أتجرّعها، وحلل الصّبر أتدرّعها، ولم أعره من نفسى، وأنا لو أعرت جناحى طائر لما طرت إلّا إليه، ولا وقعت إلا عليه: أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامنى فيك السها والفراقد وذاك لأنّ الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد فلما وردت عليه الرّقعة حشد تلاميذه وخدمه، وجشم للايجاب قدمه «3» : وطلع علينا مع الفجر طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير أبى الطيب؛ فقلنا: الآن تشرق الحشمة وتنوّر، وننجد فى العشرة ونغوّر، وقصدناه شاكرين لما أتاه، وانتظرنا عادة برّه، وتوقّعنا مادّة فضله؛ فكان خلّبا شمناه، وآلا وردناه «4» ، وصرفنا فى تأخّره وتأخّرنا عنه إلى ما قاله ابن المعتز: إنّا على البعاد والتفرّق ... لنلتقى بالذكر إن لم نلتق وأنشدنا قول ابن عصرنا «5» : أحبك فى البتول وفى أبيها ... ولكنى أحبّك من بعيد

وبقينا نلتقى خيالا، ونقنع بالذكر وصالا، حتى جعلت عواصفه تهبّ، وعقاربه تدبّ. والمجلس طويل جدا. قلت: إن كنت خرجت لطول هذا الكلام عن ضبط الشرط، فلعلى أسامح فيه لفضله، وعدم مثله، وهو وإن كان فى باب الاتصال، فهو بتقدير الانفصال، لقيام كلّ رسالة بذاتها، وانفرادها بصفاتها. وكتب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد يصف ما جرى بينه وبين الخوارزمىّ: ما ألوم هذا الفاضل على بساط شرّ طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكنى ألومه على ما نواه؛ ثم لم يتبع هواه، ورامه، ثم لم يبلغ آثامه، وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع؟ وأنذر فأين الإيقاع؟ وهذه بوارقه، فأين صواعقه؟ وذلك وعيده، فأين عديده؟ وتلك بنوده، فأين جنوده؟ وأنشد: هذى معاهده فأين عهوده؟ وما أهول رعده، لو أمطر بعده! اللهمّ لأكفران، ولعن الله الشيطان، فإنّه أشفق لغريب أن يظهر عواره، وإن طار طواره «1» ، وإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إلىّ، وأجحف بفضله من حيث أبقى علىّ، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجّعنى على لقائه، بعد ما برعنى «2» بإيمائه، فبينا كنت أنشد: إنّ جنبى على الفراش لناب إذ أنشدت: طاب ليلى وطاب فيه شرابى

وبينا أنا أقول: ما لقلبى كأنه ليس منى إذ قلت: أين من كان موعدا لى بأنى فلو أنّ هذا الفاضل قضى حقّنا بالزيارة عند قدومنا أو الاستزارة، لكان فى الضّرب أحسن، وفى طريق المعاشرة أذهب. لا، ولكنه وعد بالمباراة أولا، وهدّدنا بالمسائل ثانيا، وأخلف بالتخلف ثالثا؛ فأبلغ وجدى إليه، واعرض شوقى عليه، وقل له إن كنت ندمت على النضال، فلا تندم على الإفضال، فإن طويتنا حيث الجهاد، فانشرنا حيث الوداد، وإن لم تلقنا فى باب المكاشرة، فأتنا من باب المعاشرة. وله إلى الإمام أبى الطيب سهل بن محمد: قد كان الشيخ يعدنى عن هذه الحضرة عدات أشمّ لها الأنف، لا ذهابا بتلك الفواضل عنها، لكن استحالة من هذا الزمان أن يجود بها؛ فحين أسرفت على الحضرة ماجت إلىّ أمواج الشرف منها، وخلص إلىّ نسيم الكرم عنها، وأتحفنى على رسم الإجلال بمركوب شامخ، ومركب ذهب سابغ، وجنيب «1» شرف زائد؛ وسرت بحمد الله محفوفا بأعيان الكتّاب، وعيون الرجال، حتى شافهت بساط العزّ، مستقبلا ملك الشرق أدام الله علوّه، فجذب بضبعىّ عن أرض الخدمة إلى جوار ولىّ النعمة، حرس الله مكانه، فاهتزّ اهتزازا فات سمة الإكرام، وتجاوز اسم الإعظام إلى القيام، فقبلت من يمناه مفتاح الأرزاق، وفتّاح الآفاق، ولحقت منه بقاب العقاب «2» ، وخاطبنى بمخاطبات نشدت بها ضالّة الكرام، وهلّم جرّا إلى ما تبعها من جميل الإنزال، وسنىّ الأجزال «3» .

وطرأت من الشيخ العميد على شخص يسعه الخاتم، ولا يسعه العالم، ويهتزّ عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالرّكن، وسلطان يحلم حلم السيف مغمدا، ويغضب مجرّدا، فهو عند الكرم ليّن كصفحته، وعند السياسة خشن كشفرته، وملك يأتى الكرم نيّة، والفضل سجيّة، ويفعل الشرّ كلفة أو خطيّة، فهو ضرور بآلاته، نفوع بذاته، عطارد قلمه ودواته، والمريخ سيفه وقناته؛ عيبه أن لا عيب فيه، فيصرف عين الكمال عن معاليه. وصادفت من الشيخ الموفق أيّده الله ملكا يشاهد عيانا، وجبلا قد سمّى إنسانا، وحسنا قد ملىء إحسانا، وأسدا قد لقّب سلطانا، وبجرا قد أمسك عنانا، وحططت رحلى بفناء الأمير الفاضل أبى جعفر أدام الله عزّه، فوجدت حكمى في ماله أنفذ من حكمه، وقسمى من غناه أوفر من قسمه، واسمى في ذات يده مقدّما على اسمه، ويدى إلى خزانته أسرع من يده؛ وإن قصدت أن أفرد لكلّ مدحا، وأعبر الجملة شرحا، أللت هلمّ جرّا إلى ما انسخت الكتاب لأجله. ورد للخوارزمى كتاب ينقلّب فيه على جنب الحرد، ويتقلّ على جمر الضّجر، ويتأوّه من خمار الخجل، ويتعثّر فى أذيال الكلل، ويذكر أنّ الخاصة قد علمت لأينا كان «1» الفلج، فقلت: است البائن أعلم، والخوارزمى أعرف، والأخبار المتظاهرة [أعدل، والآثار الظاهرة] أصدق، وحلبة السباق أحكم، وما مضى بيننا أشهد، والعود إن نشط أحمد، ومتى استزاد زدنا، وإن عادت العقرب عدنا، وله عندى إذا ما شاء، كلّ ما شاء! وهى طويلة فيها هنات ضنت الكتاب عنها، وقد أعاد البديع معنى قوله فى صدر حكايته مع الخوارزمى، فقال فى رقعة كتبها إلى سعيد الإسماعيلى، وقد وقفت به الضرورة على تلك الصورة من سلب العرب ماله: كتابى، بل رقعتى، أطال الله بقاء الشيخ، وقد بكرت علىّ مغيرة

ومن إنشائه فى مقامات أبى الفتح الإسكندرى

الأعراب، كمهلهل، وربيعة بن مكدّم، وعتيبة بن الحارث بن هشام، وأنا أحمد الله إلى الشيخ الفاضل، وأذمّ الدهر؛ فما ترك لى من فضّه إلّا فضّها، ولا ذهب إلا ذهب به، ولا علق إلا علقه «1» ، ولا عقار إلا عقره، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا مال إلا مال إليه، ولا سبد إلا استبدّ به، ولا لبد إلا لبد فيه، ولا بزّة إلا بزّها «2» ، ولا عارية إلا ارتجعها، ولا وديعة إلا انتزعها، ولا خلعة إلا خلعها، وأنا داخل نيسابور ولا حلية إلا الجلدة، ولا برد إلا القشرة، والله ولىّ الخلف يعجّله، والفرج يسهّله، وهو حسبى ونعم الوكيل. وليس البديع بأبى عذرة هذا الخطاب، وسترى نظير هذا المعنى فى هذا الكتاب. ومن إنشائه فى مقامات أبى الفتح الإسكندرى قال: حدّثنى عيسى بن هشام قال: كنت فى بعض بلاد بنى فزارة مرتحلا نجيبة، وقائدا جنيبة، يسبحان سبحا، وأنا أهيم بالوطن، فلا الليل يثنينى بوعيده، ولا البعد يدنينى ببيده، «3» وظللت أخبط ورق النّهار، بعصا التّسيار، وأخوض بطن الليل، بحوافر الخيل، فبينا أنا فى ليلة يضلّ بها الغطاط «4» ، ولا يبصر بها الوطواط، أسبح ولا سانح إلا السبع، ولا بارح إلا الضّبع، إذ عنّ لى راكب تامّ الآلات، يطوى منشور الفلوات، فأخذنى منه ما يأخذ الأعزل من شاكى السلاح، لكنى تجلّدت فقلت: أرضك لا أمّ لك! فدونك شرط الحداد، وخرط القتاد، وخصم ضخم، وحمية أزديّة، وأنا سلم إن شئت، وحرب إن أردت، من أنت؟ قال: سلما أصبت، قلت: خيرا أجبت، قلت: فمن أنت؟ قال: نصيح إن شاورت، فصيح إن حاورت، ودون اسمى

لثام، لا تميطه الأعلام. قلت: فما الطعمة؟ قال: أجوب جيوب البلاد، حتى أقع على جفنة جواد، ولى فؤاد يخدمه لسان، وبيان يرقمه بنان، وقصاراي كريم ينفض إلىّ حقيبته، ويخفّف لى جنيبته، كابن حرّة طلع إلىّ بالأمس، طلوع الشمس «1» ، وغرب عنى بغروبها؛ لكنه غاب ولم يغب تذكاره، وودّع وشيّعتنى آثاره، ولا ينبئك عنها أقرب منها، وأومأ إلى ما كان يلبسه، فقلت: شحاذ وربّ الكعبه أخاذ، له فى الصّنعة نفاذ، بل هو فيها أستاذ، ولا بد أن ترشح له وتسحّ عليه، وقلت له: يافتى، قد أجليت عبارتك، فأين شعرك من كلامك؟ فقال: وأين كلامى من شعرى! ثم استمدّ غريزته، ورفع عقيرته، بصوت ملأ الوادى، وأنشأ يقول: وأروع أهداه لى الليل والفلا ... وخمس تمسّ الأرض لكن كلا ولا «2» عرضت على نار المكارم عوده ... فكان معمّا فى السوابق مخولا وخادعته عن ماله فخدعته ... وساهلته فى برّه فتسهّلا ولما تجالينا وأحمد منطقى ... بلانى فى نظم القريض بمابلا «3» فما هزّ إلا صارما حين هزّنى ... ولم يلقنى إلا إلى السّبق أوّلا فلم أره إلا أغرّ محجّبا ... وما تحته إلا أغرّ محجّلا فقلت: على رسلك يا فتى، ولك مما يصحبنى حكمك. فقال: الجنيبة، قلت: إنّ «4» وما عليها. ثم قبضت بجمعى عليه، وقلت: لا والله الذى ألهمها لمسا، وشقّها من واحدة خمسا، لا تزايلنا أو نعلم علمك، فحدر لثامه عن وجهه، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فما لبثت أن قلت: توشّحت أبا الفتح ... بهذا السيف مختالا

[من طرف الأدب]

وما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتّالا؟ [فصغ ما أنت حليت ... به سيفك خلخالا] [من طرف الأدب] وعلى ذكر قوله: «إنّ وما عليها قال أبو عبيدة: وفد عبد الله بن الزّبير الأسدى على عبد الله بن الزّبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ بينى وبينك رحما من قبل فلانة الكاهلية؛ هى أختنا، وقد ولدتكم، وأنا ابن فلان؛ فلانة عمّتى. فقال ابن الزبير: هذا كما ذكرت، وإن فكّرت فى هذا أصبت، الناس كلهم يرجعون إلى أب واحد، وأم واحدة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ نفقتى قد ذهبت. قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم. قال: يا أمير المؤمنين؛ إن ناقتى قد نقبت ودبرت «1» . فقال له: أنجد بها يبرد خفّها، وارقعها بسبت، واخصفها بهلب «2» ، وسر عليها البريدين. قال: يا أمير المؤمنين، إنما جئتك مستحملا، ولم آتك مستوصفا «3» لعن الله ناقة حملتنى إليك. قال ابن الزبير: إنّ وراكبها! فخرج وهو يقول: أرى الحاجات عند أبى خبيب ... نكدن، ولا أميّة فى البلاد من الاعياص أو من آل حرب ... أغرّ كغرّة الفرس الجواد ومالى حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد «4» وقلت لصحبتى أدنوا ركابى ... أفارق بطن مكّة فى سواد فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزبير، فقال: لو علم أنّ لى أمّا أخسّ من «5» عمته الكاهلية لنسبنى إليها، وكان ابن الزبير يكنى أبا بكر وأبا خبيب.

[المزاح]

قال الصولى: أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرسا أشهب أحمّ، كان عنده مكينا، وكان به ضنينا، فقال يرثيه: قالوا: جزعت، فقلت: إنّ، مصيبة ... جلّت رزّيتها، وضاق المذهب «1» قال أبو بكر: هكذا أنشدنيه ابن المعتز على أن (إنّ) بمعنى نعم، وأنشد النحويون: قالوا: كبرت، فقلت: إن، وربما ... ذكر الكبير شبابه فتطرّبا كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنّا فودّعنا الأحمّ الأشهب دبّ الوشاة فباعدوه، وربما ... بعد الفتى وهو الحبيب الأقرب لله يوم غدوت فيه ظاعنا ... وسلبت قربك، أىّ علق أسلب؟ نفسى مقسّمة أقام فريقها ... ومضى لطيّته فريق يجنب الآن إذ كملت أداتك كلها ... ودعا العيون إليك حسن معجب وغدوت طنّان اللّجام كأنما ... فى كل عضو منك صنج يضرب وكأنّ سرجك، إذ علاك، غمامة ... وكأنما تحت الغمامة كوكب أنساك؟ لا زالت إذا منسية ... نفسى، ولا برحت بمثلك تنكب أضمرت منك اليأس حين رأيتنى ... وقوى حبالى من حبالك تقضب يا صاحبىّ لمثل ذا من أمره ... صحب الفتى في دهره من يصحب إن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أو تخذلا فصنيعة لا تذهب عوجا فقولا: مرحبا، وتزوّدا ... نظرا، وقلّ لمن تحبّ المرحب منع الرقاد جوى تضمّنه الحئى ... مما أكابده وهمّ منصب [المزاح] قال الحجاج بن يوسف لابن القرّيّة: ما زالت الحكماء تكره المزاح، وتنهى عنه، فقال: المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوله فرح، وآخره ترح. المزاح نقائض السفهاء، كالشّعر نقائض الشعراء. والمزاح

فقر في هذا النحو لأهل العصر وغيرهم

يوغر صدر الصديق، وينفّر الرفيق. والمزاح يبدى السرائر؛ لأنه يظهر المعاير. والمزاح يسقط المروءة، ويبدى الخنى. لم يجرّ المزح خيرا، وكثيرا ما جرّ شرّا. الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر. والمزاح يجلب الشتم صغيره والحرب كبيره، وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة. فقال الحجاج: حسبك، الموت خير من عفو معه قدرة. وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال: ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل، ويفرغ عليه مثل المرجل، ويرميه بمثل الجندل. ثم يقول: إنما كنت أمزح! أخذ هذا المعنى محمود بن الحسين الوراق فقال: تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... فى لحن منطقه بما لا يغفر ويقول: كنت ممازحا وملاعبا ... هيهات نارك في الحشى تتسعّر! أو ما علمت وكان جهلك غالبا ... أنّ المزاح هو السّباب الأصغر فقر في هذا النحو لأهل العصر وغيرهم المزاحة تذهب بالمهابة، وتورث الضغينة. الإفراط فى المزاح محون، والاقتصاد فيه ظرف، والتقصير عنه ندامة. أوكد أسباب القطيعة المراء والمزاح. ابن المعتز- من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به أو حقد عليه. قال أيوب بن القرّيّة: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر؛ فالعاقل الدّين شريعته، والحلم طبيعته، والرأى الحسن سجيّته؛ إن سئل أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع العلم وعى، وإن حدّث روى. وأما الأحمق فإن تكلّم عجل، وإن حدّث وهل «1» ، وإن استنزل عن رأيه نزل، فإن حمل على القبيح حمل. وأمّا الفاجر فإن ائتمنته خانك، وإن حدّثته شانك، وإن وثقت به لم يرعك، وإن استكتم لم يكتم، وإن علم لم يعلم، وإن حدّث لم يفهم، وإن فقّه لم يفقه.

[الطيرة والزجر]

[الطيرة والزّجر] قال أبو حية النميرى: جرى يوم رحنا عامدين لأرضنا ... سنيح، فقال القوم: مرّ سنيح فهاب رجال منهم فتعيفوا ... فقلت لهم: جارى إلىّ ربيح عقاب بأعقاب من الدار بعد ما ... نأت نأية بالظاعنين طريح وقالوا: حمامات، فحمّ لقاؤها ... وطلح فنيلت والمطىّ طليح وقال صحابى: هدهد فوق بانة، ... هدى وبيان بالنجاح يلوح وقالوا: دم، دامت مواثيق بيننا ... ودام لنا حلوا الصفاء صريح لعيناك يوم البين أسرع واكفا ... من الفنن الممطور وهو مروح ونسوة شحشاح غيور يخفنه ... أخى ثقة يلهون وهو مشيح يقلن، وما يدرين أنّى سمعته ... وهنّ بأبواب الخيام جنوح: أهذا الذى غنّى بسمراء موهنا ... أتاح له حسن الغناء متيح إذا ما تغنّى أنّ من بعد زفرة ... كما أنّ من حرّ السلاح جريح وقائلة: يا دهم ويحك! إنه ... على ما به من عنّة لمليح «1» فلو أنّ قولا يجرح الجلد قد بدا ... بجلدى من قول الوشاة قروح وهذا من غريب الزّجر مليح التفاؤل. قال أبو العباس محمد بن يزيد: أنشدنى أعرابىّ في قصيدة ذى الرمة التي وّلها: ألا يا اسلمى يا دارمىّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر يبتين لم يروهما الرواة في ديوانه، وهما: رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر فقلت: غراب لاغتراب، وقضبة ... لقضب النوى هذى العيافة والزّجر

وقال آخر: دعا صرد يوما على غصن بانة ... وصاح بذات البين منها غرابها فقلت: أتصريد وشحط وغربة؟ ... فهذا لعمرى نأيها واغترابها وقد أكثرت العرب من ذكر الطّيرة، والزّجر، وكانت تقتدى بذلك وتجرى على حكمه، حتى ورد النّهى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا عدوى ولا طيرة، وقد قال الأول: لعمرك ما تدرى الضّوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع وقال ضابئ بن الحارث البرجمى: وما عاجلات الطير، تدنى من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهنّ يخيب «1» ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه ... على نائبات الدّهر حين تنوب وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهنّ وجيب وقال الكميت بن زيد الأسدى: ولا أنا ممن يزجر الطير همّه ... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية ... أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب وقال شاعر قديم: لا يمنعنّك من بغا ... ء الخير تعقاد التّمائم ولا التشاؤم بالعطا ... س ولا التّيامن بالمقاسم فلقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم «2» فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم قد خطّ ذلك في الزّبو ... ر الأوّليّات القدائم

ولقد أحسن ابن كناسة في رثاء ولده يحيى، أنشده أبو العباس ثعلب: تيمّمت فيه الفأل حتى رزئته ... ولم أدر أن الفال فيه يفيل فسمّيته يحيى ليحيا؛ فلم يكن ... إلى ردّ أمر الله فيه سبيل وروى المدائنى قال: خرج كثيّر من الحجاز يريد مصر، فلما قرب منها نزل بمنزل، فإذا هو بغراب على شجرة بان ينتف ريشه وينعب؛ فأسرع الرحيل، ومضى لوجهه؛ فلقيه رجل من بنى نهد، فقال: يا أخا الحجاز؛ مالى أراك كاسف اللون؟ قال: ما علمت إلا خيرا، قال: فهل رأيت في طريقك شيئا أنكرته؟ قال: لا والله إلا في منزلى هذا، فإنى رأيت غرابا ينتف ريشه على بانة وينعب. قال: أما إنك تطلب حاجة لا تدركها. فقدم مصر والناس منصرفون من جنازة عزة، فقال: رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره فقلت- ولو أنى أشاء زجرته ... بنفسى- للنهدىّ: هل أنت زاجره؟ فقال: غراب لاغتراب من النوى ... وفي البان بين من حبيب تجاوره فما أعيف النهدىّ، لا درّ درّه! ... وأزجره للطير، لا عزّ ناصره ثم أتى قبر عزة فأناخ به ساعة ثم رحل، وهو يقول: أقول ونضوى واقف عند رأسها ... عليك سلام الله والعين تسفح فهذا فراق الحق لا أن تزيرنى ... بلادك فتلاء الذراعين صيدح «1» وقد كنت أبكى من فراقك حيّة ... وأنت لعمرى اليوم أنأى وأنزح وقال جرير: بان الخليط برامتين فودّعوا ... أو كلّما نعبوا لبين تجزع إن السّوانح بالضّحى هيّجننى ... فى دار زينب والحمام الوقع وقال عوف الراهب خلاف هذا: غلط الذين رأيتهم بجهالة ... يلحون كلّهم غرابا ينعق

ما الذنب إلّا للأباعر؛ إنها ... مما يشتّ جميعهم ويفرّق إنّ الغراب بيمنه تدنو النّوى ... وتشتّت الشمل الجميع الأينق وقد تبعه في هذا المذهب أبو الشيص فقال: ما فرّق الأحباب بعد ... الله إلّا الإبل والناس يلحون غرا ... ب البين لمّا جهلوا وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرّحل ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا وما غراب البين إل ... لا ناقة أو جمل وما أملح ما قال القائل: زعموا بأنّ مطيهم عون النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب ولو أنها حتفى لما أبغضتها ... ولها بهم سبب من الأسباب وكان على بن العباس الرومى مفرط الطّيرة، شديد الغلوّ فيها. قال علىّ بن عبد الله بن المسيب: وكان يحتجّ لها، ويقول: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحبّ الفأل، ويكره الطّيرة؛ أفتراه كان يتفاءل بالشىء، ولا يتطيّر من ضدّه؟ ويقول: إن النبى صلى الله عليه وسلم مرّ برجل وهو يرحل ناقة ويقول: يا ملعونة، فقال لا يصحبنا ملعون، وإن عليا رضي الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب، ويزعم أنّ الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها، وأنّ بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض، وأن الأكثر في الناس إذا لقى ما يكرهه قال: على وجه من أصبحت اليوم؟. فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدى إلىّ عدة من جوارى القيان، وكانت فيهنّ صبيّة حولاء، وعجوز في إحدى عينيها نكتة، فتطيّر من ذلك، ولم يظهر لى أمره، وأقام باقى يومه؛ فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لى

من بعض السطوح، وجفاه القاسم بن عبيد الله؛ فجعل سبب ذلك المعنيين المغنيتين، وكتب إلىّ: أيها المتحفى بحول وعور ... أين كانت عنك الوجوه الحسان قد لعمرى ركبت أمرا مهينا ... ساءنى فيك أيها الخلصان فتحك المهرجان بالحول والعو ... ر أرانا ما أعقب المهرجان كان من ذاك فقدك ابنتك الحرّة ... مصبوغة بها الاكفان وتجافى مؤمّل لى جليل ... لجّ فيه الجفاء والهجران وعزيز علىّ تقريع خلّ ... لا يدانيه عندى الخلّان غير أنى رأيت إذكاره الحز ... م وإشعاره شعارا يصان لا تهاون بطيرة أيّها ... النظار واعلم بأنها عنوان قف إذا طيرة تلقّتك وانظر ... واستمع ثمّ ما يقول الزّمان قلما غاب من أمورك عنوا ... ن مبين وللزّمان لسان لا تكن بالهوى تكذّب بالأخبار ... حتى تهين مالا يهان لا يقدك الهوى إلى نصرة الاخبار ... حتى يقدّم البرهان إن عقبى الهوى هوىّ، وعقبى ... طول تلك المهوّنات هوان لا تصدق عن النبيين إلّا ... بحديث يلوح فيه البيان خبّر الله أنّ مشأمة كا ... نت لقوم وخبّر القرآن أفزور الحديث تقبل أم ما ... قاله ذو الجلال والفرقان؟ أترى من يرى البشير بشيرا ... يمترى في النذير يا وسنان فدع الهزل والتضاحك بالطيرة ... والنصح مثمن مجّان وقد فرّق حذّاق أهل النظر في المقال، بين الطيرة والفال، فقالوا: الطيرة كانت العرب ترجع إلى ما تمضيها، وتجرى على تقضيها، وكان الذى يهمّ بهم إذا ما رأى ما يتطير منه رجع عنه؛ وفي ذلك ما يصرف عن الإحالة على المقادير

الجارية بيد ممضيها، النازلة على حكم قاضيها، والفأل لا يردّ المريد عما يريد إنما يقوّى منّته، ويسرّ مهجته؛ وليس هذا موضع تطويل، فى إيراد الدليل. وفي جفاء القاسم بن عبيد الله إياه يقول معاتبا: ألم ترنى أقرضتك الودّ طائعا ... ولم تر قبلى معسرا قطّ أقرضا لعمرى لقد صوّرت أبيض مشرقا ... فلم لا ترينى وجه نعماك أبيضا فيا ويح مولاك استغاث بمشرب ... فأشرق فاستشفى شفاء فأفرضا «1» ولولا اعتقادى أنك الخير كله ... لأزمعت توديعا، قضى الله ما قضى وإنى وإن دارت علىّ دوائر ... لأعرض عمّن صدّ عنى وأعرضا وما زلت عرّافا إذا الزاد رابنى ... بخبث وعيّافا إذا الماء عرمضا «2» وهذا البيت كقول الآخر: وإنى للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت ورّاده لعيوف وفي ابنة المسيبى يقول ابن الزومى يعزّيه: أخا ثقتى أعزز علىّ بنكبة ... مناك بها صرف القضاء المقدّر صبت، وما للمرء من حكم ربّه ... محيد، وأمر الله أعلى وأقهر وقد مات من لا يخلف الدهر مثله ... عليك من الأسلاف والحقّ يبهر تعزيت عمن أثمرتك حياته ... ووشك التعزى عن ثمارك أجدر لأن اختيال الدهر في ابن وفي ابنة ... يسير وكرّ الدهر شيخيك أعسر تعذّر أن نعتاض من أمهاتنا ... وآبائنا، والنسل لا يتعذّر

[الرغبة في موت البنات]

فلا تهلكن حزنا على ابنة جنة ... مضت وهي عند الله تحيا وتحبر لعلّ الذى أعطاك ستر حياتها ... كساها من اللّحد الذى هو أستر فكم من أخى حرية قد رأيته ... بنار ذوى الأصهار يكوى ويصهر فلا تتهم لله فيها ولاية ... ولا نظرا فالله للعبد أنظر وأنت وإن أبصرت رشدك مرة ... فذو النظر الأعلى برشدك أبصر ومن مليح تعازيه عن ابنة قوله لعلىّ بن يحيى المنجم: لا تبعدنّ كريمة أودعتها ... صهرا من الأصهار لا يخزيكا إنى لأرجو أن يكون صداقها ... من جنة الفردوس ما يرضيكا لا تيأسنّ لها فقد زوّجتها ... كفؤا وضمّنت الصّداق مليكا [الرغبة في موت البنات] وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: لكل أبى بنت يرجّى بقاؤها ... ثلاثة أصهار إذا ذكر الصّهر فبيت يغطيها، وبعل يصونها، ... وقبر يواريها، وخيرهما القبر وقال عقيل بن «1» علفة وكان أغير العرب. إنى وإن سيق إلىّ المهر ... ألف وعبدان وذود عشر أحبّ أصهارى إلىّ القبر ومنه أخذ عبيد الله، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: دخل علينا ابن خلف البهرانى فأنشدنا: لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالى حندس الظلم وزادنى رغبة فى العيش معرفتى ... أنّ اليتيمة يحفوها ذوو الرّحم أحاذر الفقر يوما أن يلمّ بها ... فيهتك الستر عن لحم على وضم

[عود إلى تطير ابن الرومى]

تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم وكانت أميمة بنت أخته، وكان قد تبنّاها، ثم غابت غيبة، فسألناه عنها، فأنشد: أمست أميمة مغمورا بها الرّجم ... لدى صعيد عليه التّرب مرتكم يا شقّة النفس، إنّ النفس والهة ... حرّى عليك، ودمع العين منسجم قد كنت أخشى عليها أن يؤخرها ... عنى الحمام فيبدى وجهها العدم فالآن نمت فلا همّ يؤرّقنى ... تهدا العيون إذا ما أودت الحرم فالآن نمت، فلا همّ يؤرّقنى ... بعد الهدوء؛ ولا وجد ولا حلم للموت عندى أياد لست أنكرها ... أحيا سرورا وبى مما أتى ألم [عود إلى تطير ابن الرومى] عاد ذكر ابن الرومىّ- وكان أبو الحسن علىّ بن سليمان الأخفش غلام أبى العباس المبرد في عصر ابن الرومى شابّا مترفا، ومليحا مستظرفا، وكان يعبث به، فيأتيه بسحر؛ فيقرع الباب، فيقال له: من؟ فيقول: قولوا لأبى الحسن مرّة بن حنظلة، فيتطير لقوله، ويقيم الأيام لا يخرج من داره، وذلك كان سبب هجائه إياه، فمن أول ما عاتبه به: قولوا لنحوينا أبى حسن ... إن حسامى متى ضربت مضى وإنّ نبلى إذا هممت بأن ... أرمى نصّلتها بجمر غضا لا تحسبنّ الهجاء يحفل ... بالرفع ولا خفض خافض خفضا ولا تخل عودتى كباديتى ... سأسعط السمّ من أبى الحضضا أعرف في الأشقياء بى رجلا ... لا ينتهى أو يصير لى غرضا يليح لى صفحة السلامة ... والسلم ويخفى في قلبه مرضا

أضحى مغيظا علىّ أن غضب ال ... لّه عليه، ونلت منه رضا وليس تجدى عليه موعظتى ... إن قدّر الله حينه وقضى كأننى بالشقىّ معتذرا ... إن القوافى أذقنه المضضا ينشدنى العهد يوم ذلك والع ... هد خضاب إذا له قبضا «1» لا يأمننّ السفيه بادرتى ... فإننى عارض لمن عرضا عندى له السوط إن تلوّم في الس ... ير وعندى اللّجام إن ركضا «2» أسمعت إنباضتى أبا حسن ... والصفح لا شكّ نصح من محضا «3» وهو معافى من السهاد فلا ... يحمل فيمسى فراشه قضضا «4» أقسمت بالله لا غفرت له ... إن واحد من عروقه نبضا فاعتذر إليه، وتشفع عنده بجماعة من أهل بغداد- وكان الأخفش أكثر الناس إخوانا- فقبل عذره، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها: ذكر الأخفش القديم فقلنا ... : إن للأخفش الحديث لفضلا وإذا ما حكمت- والروم قومى- ... فى كلام معرّب كنت عدلا أنا بين الخصوم فيه غريب ... لا أرى الزّور للمحاباة أهلا ومتى قلت باطلا لم ألقّب ... فيلسوفا ولم أسمّ هرقلا الأخفش القديم هو أبو الخطاب، وكان أستاذ سيبويه، وهو من المتقدمين فى النحو، ويعرف بالأخفش الكبير، وكان في عصر سيبويه [أيضا] أبو الحسن سعيد بن مسعدة، وهو الأخفش الصغير، وهو الذى قال: كان سيبويه يعرض ما وضع من النحو علىّ، ويرى أنى أعلم منه، وكان في وقته ذلك أعلم منى.

ثم عاد على بن سليمان إلى أذاه، واتصل به أنّ رجلا عرض عليه قصيدة من شعره فطعن عليها، فقال قصيدته التي يقول فيها: أعتقت عبدىّ في القريض معا ... عبدة والفحل من بنى عبده إن أنا لم أرم بالإساءة من ... زاغ عن القصد أو أبى سدده قلت لمن قال لى عرضت على ال ... أخفش ما قلته فما حمده قصرت بالشعر حين تعرضه ... على مبين العمى إذا انتقده أنشدته منطقى ليشهده ... فغاب عنه عمى وما شهده ما بلغت بى الخطوب رتبة من ... تفهم عنه الكلاب والقرده ولا أنا المفهم البهائم ... والطير سليمان قاهر المرده فإن يقل إننى حفظت فكالد ... فتر جهلا بكل ما اعتقده سأسمع الناس ذمّه أبدا ... ما سمع الله حمد من حمده عبدة بن الطبيب، وعلقمة بن عبدة الفحل، وكانا شاعرين مجيدين، وقال علقمة ابن عبدة لرجل ورأى آخر يعتذر إليه وهو معبّس في وجهه: إذا اعتذر إليك المعتذر فتلقّه بوجه مشرق، وبشر مطلق؛ لينبسط المتذلّل، ويؤمّن المتنصّل. ولابن الرومى في الأخفش إفحاش صنت الكتاب عنه. قالّ على بن إبراهيم كاتب مسروق البلخى: كنت بدارى جالسا فإذا حجارة سقطت بالقرب منى، فبادرت هاربا، وأمرت الغلام بالصعود إلى السّطح، والنظر إلى كل ناحية؛ من أين تأتينا الحجارة، فقال: امرأة من دار ابن الرومى الشاعر! قد تشوّفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرّة من ماء، وإلّا هلكنا، فقد مات من عندنا عطشا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرّة، وأتبعتها شيئا من المأكول؛ ثم عادت إلىّ فقالت:

ذكرت المرأة أنّ الباب عليها مقفل من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومى، وذلك أنه يلبس ثيابه كلّ يوم، ويتعوّذ ثم يصير إلى الباب، والمفتاح معه، فيضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع عينه على جار له كان نازلا بإزائه، وكان أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه، وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت لحديثها، وبعثت بخادم كان يعرفه، فأمرته بأن يجلس بإزائه- وكانت العين تميل إليه- وتقدّمت إلى بعض أعوانى أن يدعو الجار الأحدب؛ فلما حضر عندى أرسلت وراء غلامى؛ لينهض إلى ابن الرومى، ويستدعيه الحضور؛ فإنى لجالس ومعى الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطّر سوسىّ ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد، ودخل ابن الرومى، فلما تخطّى عتبة باب الصّحن عثر فانقطع شسع نعله، فدخل مذعورا؛ وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرا يدلّ على تغير حال؛ فدخل وهو لا يرى جاره المتطيّر منه، فقلت له: يا أبا الحسن، أيكون شىء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم، ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: وقد لحقنى ما رأيت من العثرة، لأنى فكرت أنّ به عاهة! وهي قطع انثييه، قال برذعة: وشيخنا يتطيّر؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: على بن العباس، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه وأنشده: ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بينى وبين الحبائب رجعت إلى نفسى فوطّنتها على ... ركوب جميل الصّبر عند النوائب ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذرا من كامنات العواقب ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح ... تطيّر جار أو تفاؤل صاحب فبقى ابن الرومى باهتا ينظر إليه ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومى لا يتطيّر أبدا من هذا ولا من

غيره، وأومأ إلى جاره، فقلت: وهذا الفكر أيضا من التطيّر، فأمسك، وعجب من جودة الشعر ومعناه، وحسن مأتاه، فقلت له: ليتنا كتبناه؟ قال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علىّ. ومن شدة حذره، وعظيم تطيّره، قوله لأبى العباس بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج إليه وركوب دجلة: حضضت على حطبى لنارى فلا تدع ... لك الخير، تحذيرى شرور المحاطب ومن يلق مالا قيت في كلّ مجتنى ... من الشّوك يزهد في الثمار الأطايب أذا قتنى الأسفار ما كرّه الغنى ... إلىّ، وأغرانى برفض المطالب ومن نكبة لا قيتها بعد نكبة ... رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب فصبرى على الإقتار أيسر مطلبا ... على من التّغرير بعد التّجارب لقيت من البرّ التّباريح بعد ما ... لقيت من البحر ابيضاض الذّوائب سقيت على رىّ به ألف مطرة ... شغفت لبغضيها بحبّ المجادب ولم أبغها، بل ساقها لمكيدتى ... تلاعب دهر جدّ بى كالملاعب أبى أن يغيث الأرض حتى إذا رمت ... برحلى أتاها بالغيوث السّواكب سقى الأرض من أجلى فأضحت مزلّة ... تمايل صاحيها تمايل شارب فملت إلى خان مرثّ بناؤه ... مميل غريق الثّوب لهفان لاغب فما زلت في جوع وخوف ووحشة ... وفي سهر يستغرق الليل واصب يؤرقنى سقف كأنى تحته ... من الوكف تحت المدجنات الهواضب يظلّ اذا ما الطّين أثقل متنه ... تصرّ نواحيه صرير الجنادب وكم خان سفر خان فانقضّ فوقهم ... كما انقضّ صقر الدّجن فوق الأرانب وما زال ضاحى البرّ يضرب أهله ... بسوطى عذاب جامد بعد ذائب فإن فاته قطر وثلج فإنّه ... رهين بساف تارة وبحاصب

رجع

فذاك بلاء البرّ عندى شاتيا ... وكم لى من صيف به ذى مثالب ألا ربّ نار بالفضاء اصطليتها ... من الضّحّ يودى لفحها بالحواجب «1» فدع عنك ذكر البرّ إنى رأيته ... لمن خاف هول البحر شرّ المهارب وما زال يبغينى الحتوف مواربا ... يحوم على قتلى وغير موارب فطورا يغادينى بلصّ مصلّت ... وطورا يمسّينى بورد الشّوارب وأمّا بلاء البحر عندى فإنه ... طوانى على روع مع الرّوح واقب «2» ولو ئاب عقلى لم أدع ذكر بعضه ... ولكنّه من هوله غير ثائب ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة ... لوافيت منه القعر أوّل راسب ولم أتعلّم قطّ من ذى سباحة ... سوى الغوص والمضعوف غير مغالب وأيسر إشفاقى من الماء أنّنى ... أمرّ به في الكوز مرّ المجانب وأخشى الرّدى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب أخذه من قول أبى نواس وقد رأى التمساح بمصر أخذ رجلا: أضمرت للنيل هجرانا ومقلية ... مذ قيل لى إنما التمساح في النيل فمن رأى النيل رأى العين عن كثب ... فما أرى النيل إلا في البراقيل «3» رجع أظلّ إذا هزّته ريح ولألأت ... له الشمس أمواجا طوال الغوارب كأنى أرى فيهنّ فرسان بهمة ... يليحون نحوى بالسيوف القواضب «4» فإن قلت لى قد يركب اليمّ طاميا ... ودجلة عند اليمّ بعض المذانب «5»

[من مليح العيافة والزجر]

فلا عذر فيها لامرىء هاب مثلها ... وفي اللّجّة الخضراء عذر لهائب لدجلة خبّ ليس لليمّ؛ إنّها ... تراءى بحلم تحته جهل واثب تطامن حتّى تطمئنّ قلوبنا ... وتغضب من مزح الرّياح اللّواعب ولليمّ إنذار بغوص متونه ... وما فيه من آذيّه المتراكب «1» وهي طويلة، وفيما مرّ كفاية تنبئ عنه وتدلّ عليه، ولو مددت أطناب الاختيار لتتبّع هذا النحو من شعره لخرجت عن غرض الكتاب. [من مليح العيافة والزجر] ومن مليح العيافة والزجر ما رواه الصّولى، قال: كان لأبى نواس إخوان لا يفارقهم، فاجتمعوا يوما في موضع أخفوه عنه، ووجّهوا إليه برسول معه ظهر قرطاس أبيض، لم يكتبوا فيه شيئا، فخزموه بزير «2» ، وختموه بقار، وتقدموا إلى رسولهم ليرمى بالكتاب من وراء الباب؛ فلما رآه استعلم خبرهم، وعلم أنه من فعلهم، فتعرّف موضعهم وآثارهم، فأتاهم فأنشدهم: وجدت كتابكم لمّا أتانى ... يمرّ بسانح الطير الجوارى نظرت إليه مخزوما بزير ... على ظهر، ومختوما بقار فقلت: الزّير ملهية ولهو ... وخلت القار من دنّ العقار وخلت الظّهر أهيف قرطقيّا ... يحيل العقل منه باحورار «3» فهمت إليكم طربا وشوقا ... فما أخطأت داركم بدار فكيف تروننى وترون وجدى ... ألست من الفلاسفة الكبار؟ وقال الطائى: أتضعضعت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تضعضع الإظلام «4»

لا تنشجنّ لها؛ فإنّ بكاءها ... ضحك، وإن بكاءك استغرام هنّ الحمام وإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام وروى يموت ابن المزرع قال: كان أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد الجامع فلا تفارقه حتى يصلى مائة ركعة، ثم خلّه؛ فتحاماه الشعراء، إلا الأفراد المجيدين؛ فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصرى المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد، فقال: قد عرفت الشّرط؟ قال: نعم، وأنشده: أردنا في أبى حسن مديحا ... كما بالمدح ينتجع الولاة فقلنا: أكرم الثقلين طرّا ... ومن كفّاه دجلة والفرات فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة فقلت لهم: وما تغنى صلاتى ... عيالى! إنما الشأن الزّكاة [فأما إذ أبى إلا صلاتى ... وعاقتنى الهموم الشاغلات] فيأمر لى بكسر الصّاد منها ... فتصبح لى الصّلاة هي الصّلات فضحك واستظرفه، وقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبى تمام الطائى: هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام فأحسن صلته. وقال الأمير أبو الفضل الميكالى لقوم من أهل مرو انخلعوا عن طاعته: يا راكبا أضحى يخبّ بعنسه ... ليؤمّ مرو على الطريق المهيع أبلغ بها قوما أثاروا فتنة ... ظلّت لها الأكباد رهن تقطّع إذ أقدموا ظلما على سلطانهم ... بالغدر والخلع الذميم المفظع وبحلّ عقد لوائه وإباحة ... لجنابه وحريمه المتمنّع

[ابن أبى دواد يعفو عن الجاحظ]

أبلغهم أنى اتخذت لفعلهم ... فألا، له في القوم أسوأ موقع أمّا اللّواء وحلّه فمخبّر ... عن حلّ عقد بينهم مستجمع والخلع يخبر أن ستخلع عنهم ال ... أرواح بالقتل الأشدّ الأشنع والغدر ينبئ أن تغادر في الوغى ... أشلاؤهم لنسوره والأضبع والفرقتان فشاهد معناهما ... بتفرّق لجميعهم وتصدّع فتسمّعوا لمقالتى وتأهّبوا ... بذميم بغيكم لشرّ المصرع فالله ليس بغافل عن أمركم ... حتى تحلّ بكم عقوبة موجع قال أبو عثمان الجاحظ: سمعت النظام، وذكر عبد الوهاب الثّقفى، قال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، ومن خصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، ومن طاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصال الدائم، والشباب الناعم. [ابن أبى دواد يعفو عن الجاحظ] وكان الجاحظ مائلا عن ابن أبى دواد إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلما نكب محمد بن عبد الملك أدخل الجاحظ على ابن أبى دواد مقيّدا، فقال له أحمد: والله ما أعلمك إلّا متناسيا للنعمة، كفورا للصّنيعة، معدّدا للمساوى، وما فتّنى باستصلاحى لك، ولكن الأيام لا تصلح منك؛ لفساد طوّيتك، ورداءة دخيلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طباعك. فقال الجاحظ: خفّض عليك، أصلحك الله، فوالله لأن يكون لك الأمر علىّ خير من أن يكون لى عليك، ولأن أسىء وتحسن أحسن في الأحدوثة من أن أحسن فتسىء، ولأن تعفو عنى على حال قدرتك علىّ أجمل بك من الانتقام منى، فعفا عنه «1» .

[عتبة بن أبى سفيان وأعرابى]

[عتبة بن أبى سفيان وأعرابى] قال سعد مولى عتبة بن أبى سفيان: خطب عتبة الناس في الموسم سنة إحدى وأربعين، والناس إذ ذاك حديثو عهد بالفتنة؛ فقال: قد ولينا هذا المقام الذى يضاعف فيه للمحسن الأجر، وللمسىء الوزر؛ ونحن على سبيل قصد، فلا تمدّوا الأعناق إلى غيرنا؛ فإنها تقطع دوننا؛ فربّ ستمنّ أمرا حتفه في أمنيته؛ فاقبلوا منا العافية ما قبلناها منكم «1» ؛ وأنا اسأل الله أن يعين كلّا على كلّ. فناداه أعرابىّ من ناحية المسجد: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، قال: يا أخاه، قال: سمعت فقل، فقال: والله لان تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنّا، فإن كان الإحسان منكم فما أولاكم بإتمامه، وإن كان منّا فما أولاكم بمكافأتنا عليه، وأنا رجل من بنى عامر بن صعصعة يمتّ بالعمومة ويختصّ بالخؤولة، كثر عياله، ووطئه زمانه، [وبه فقر] وفيه أجر، وعنده شكر. فقال له عتبة: أستغفر الله منك، وأستعين به عليك، وقد أمرت لك بغناك، فليت إسراعى إليك يقوم بإبطائى عنك! [بين الجاحظ وابن الزيات] قال الجاحظ: تشاغلت مع الحسن بن وهب أخى سليمان بن وهب بشرب النبيذ أياما، فطلبنى محمد بن عبد الملك لمؤانسته، فأخبر باتصال شغلى مع الحسن ابن وهب، فتنكّر لى، وتلوّن علىّ؛ فكتبت إليه رقعة نسختها: أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوّة إلى حبّ الإنصاف، ورجّح في قلبك إيثار الاناة، فقد خفت- أيّدك الله! -

[من كلام على - رضي الله عنه! - فى أعجب ما في الإنسان]

أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء، وبعد، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: وإن امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد وقال الآخر: ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل فإن كنت اجترأت عليك- أصلحك الله! - فلم اجترئ إلا لأنّ دوام تغافلك عنى شبيه بالإهمال، الذى يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة، ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرا لى منك، أرهبنى فأتقانى، وأعطانى فأغنانى، فإن كنت لا تهب عقابى- أيدك الله! - لخدمة فهبه لأياديك عندى؛ فإنّ النعمة تشفع في النّقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك فعد إلى حسن العادة، وإلّا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة؛ وإلافات ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمّد، و؟؟؟ من؟؟؟ المصر، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلّا لك، والإنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة. واعلم- أيّدك الله! - أنّ شين غضبك علىّ كزين صفحك عنى، وأنّ موت ذكرى مع انقطاع سببى منك كحياة ذكرك مع اتصال سببى بك، واعلم أنّ لك فطنة عليم، وغفلة كريم، والسلام. [من كلام على- رضي الله عنه! - فى أعجب ما في الإنسان] قال علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: أعجب ما في الإنسان قلبه، وله موادّ من الحكمة، وأضداد من خلافها؛ فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع، وإن هاجه الطّمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسى التحفظ، وإن أتاه الخوف

البيت الذى أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان

شغله الحذر، وإن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة بلغ به البلاء، وإن جهد به الجوع قعد به الضّعف، وإن أفرط في الشبع كظّته البطنة، فكلّ تقصير مضرّ، وكلّ إفراط له قاتل. البيت الذى أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان في أبيات يقول فيها: متى ما يرى الناس الغنىّ وجاره ... فقير يقولوا: عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسّمت وجدود وإن امرأ يمسى ويصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد والبيت الذى أنشده بعده لمحمد بن حازم الباهلى في أبيات يقول فيها: إن كنت لا ترهب ذمّى لما ... تعلم من صفحى عن الجاهل فاخش سكوتى آذنا منصتا ... فيك لمسموع خنى القائل «1» فسامع الشرّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل فلا تهج، إن كنت ذا إربة، ... حرب أخى التجربة الغافل فإنّ ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبل خابل تبصر في عاجل شدّاته ... عليك غبّ الضّرر الآجل وفي ابن الزيات يقول الجاحظ: بدا حين أثرى لإخوانه ... ففلّل منهم شباة العدم وأبصر كيف انتقال الزمان ... فبادر بالعرف قبل النّدم [الجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه] قال بعض البرامكة: كنت أتقلد السند، فاتصل بى أنى صرفت عنها،

وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار، فخفت أن يفجأنى الصارف، ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة «1» فى كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في رحلى، ولم أبعد أن جاء الصارف؛ فركبت البحر، وانحدرت إلى البصرة؛ فخبّرت أن بها الجاحظ، وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف، فقرعته، فخرجت إلىّ خادم صفراء، فقالت: من أنت؟ فقلت: رجل غريب أحبّ أن يدخل إلى الشيخ فيسرّ بالنظر إليه، فأدت ما قلت، وكانت المسافة قريبة لصغر الدهليز والحجرة، فسمعته يقول: قولى له: وما تصنع بشق مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟ فأخبرتنى، فقلت: لا بدّ من الوصول إليه، فقال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة، فسمع بى وبعلتى، فقال: أراه قبل موته؛ لأقول: قد رأيت الجاحظ. فدخلت فسلمت فردّ ردّا جميلا واستدنانى، وقال: من تكون؟ أعزك الله! فانتسبت له، فقال: رحم الله أباك وقومك الأسخياء الأجواد، الكرام الأمجاد، لقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم خلق، فسقيا لهم ورعيا؛ فدعوت له، وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدنى شيئا من الشعر أذكره به، فأنشدنى: لئن قدّمت قبلى رجال فطالما ... مشيت على رسلى فكنت المقدّما ولكنّ هذا الدهر تأتى ضروفه ... فتبرم منقوضا، وتنقض مبرما ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بى فقال: يا فتى؛ أرأيت مفلوجا ينفعه الإهليلج؟ فقلت: لا، قال: فأنا ينفعنى الإهليلج الذى معك، فأنفذ إلىّ منه، فقلت: السمع والطاعة، وخرجت مفرط التعجب من وقوعه على خبرى، حتى كأنّ بعض أحبابى كاتبه بخبرى حين صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.

المقامة الجاحظية مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ]

المقامة الجاحظية مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ] قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: جمعتنى مع رفقة وليمة، وأجبت إليها للحديث المأثور فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدى الىّ ذراع لقبلت» ، فأفضى بنا المسير إلى دار قد فرش بساطها، وبسطت أنماطها، ومدّ سماطها، وقوم قد أخذوا الوقت بين آس مخضود، وورد منضود، ودنّ مفصود، وناى وعود؛ فصرنا إليهم وصاروا إلينا، ثم عكفنا على خوان قد ملئت حياضه، ونوّرت رياضه، واصطفت جفانه، واختلفت ألوانه؛ فمن حالك بإزائه ناصع، ومن قان في تلقائه فاقع، ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرّغفان، وتفقأ عيون الجفان، وترعى أرض الجيران «1» ؛ يزحم اللقمة باللقمة، ويهزم المضغة بالمضغة، وهو مع ذلك ساكت لا ينبس، ونحن في الحديث نجرى معه حتى وقف بنا على ذكر الجاحظ وخطابته، ووصف ابن المقفّع وذرابته، ووافق أول الحديث آخر الخوان، وزلنا عن ذلك المكان، فقال الرجل: أين أنتم من الحديث الذى فيه كنتم، فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه، وحسن سننه في الفصاحة وسننه فيما عرفناه؛ فقال: يا قوم؛ لكلّ عمل رجال، ولكل مقام مقال، ولكل دار سكّان، ولكل زمان جاحظ، ولو انتقدتم، لبطل ما اعتقدتم، فكلّ كشر له عن ناب الإنكار، وشمّ بأنف الإكبار، وضحكت إليه، لأجلب ما لديه، وقلت: أفدنا وزدنا، فقال: إنّ الجاحظ في أحد شقى البلاغة يقطف؛ وفي الآخر يقف، والبليغ من لم يقصّر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره، فهل تروون

[من كلام الملوك]

للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا: لا، قال: فهلمّوا إلى كلامه؛ فهو بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له بكلمة غير مسموعة، أو لفظة غير مصنوعة؟ فقلت: لا، فقال: هل تحبّ أن تسمع من الكلام ما يخفّف عن منكبيك، وينمّ على ما في يديك؟ فقلت: إى والله، قال: فأطلق لى عن خنصرك ما يعين على شكرك، فأنلته ردائى، فقال: لعمر الذى ألقى إلىّ ثيابه ... لقد كسبت تلك الثياب به مجدا وقد قمرته راحة الجود بزة ... فما ضربت قدحا ولا نصبت نردا أعد نظرا يا من كسانى ثيابه ... ولا تدع الأيام تهدمنى هدّا وقل للألى إن أسفروا أسفروا ضحى ... وإن طلعوا في غمّة طلعوا وردا صلوا رحم العليا وبلوا لهاتها ... فخير النّدى ما سحّ وابله نقدا قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت الصّلات عليه، وقلت لما تآانسنا: من أين مطلع هذا البدر؟ فقال: إسكندرية دارى ... لو قرّ فيها قرارى لكنّ ليلى بنجد ... وبالحجاز نهارى [من كلام الملوك] تظلمت رعيّة أردشير بن بابك إليه في سنة مجدبة لعجزهم عن الخراج، وسألته أن يخففه عنهم؛ فكتب لهم ما نسخته: من أردشير المزيد بالبهاء، ابن الملوك العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حفظة البيضة، والكتّاب الذين هم ساسة المملكة، وذوى الحرث الذين هم عمرة البلاد، أما بعد، فإنّا نحمد الله تعالى حمد الصالحين، وقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا إتاوتنا الموظّفة عليهم سنتنا هذه، ونحن كاتبون مع ذلك نميلهم بوصية تنفع الكلّ: لا تستشعروا الحقد

[من رسائل الميكالى]

لئلا يغلب عليكم العدوّ، ولا تحبوا الاحتكار لئلا يشملكم القحط، وكونوا للغرباء مؤوين، لتؤووا غدا في المعاد، وتزوّجوا في القرابة فإنه أحسن للرحم، وأثبت للنّسب، ولا تعدّوا هذه الدنيا شيئا فإنها لا تبقى على أحد، ولا ترفضوها مع ذلك؛ فإن الآخرة لا تنال إلا بها. وقيل لبزرجمهر: أىّ الاكتساب أفضل؟ قال: العلم والأدب كنزان لا ينفدان، وسراجان لا يطفآن، وحلّتان لا تبليان؛ من نالهما نال أسباب الرشاد وعرف طريق المعاد، وعاش رفيعا بين العباد. وقال أنو شروان لبزر جمهر لما ظفر به: الحمد لله الذى أظفرنى بك، قال له: فكافئه بما يحبّ كما أعطاك ما تحبّ. قال: وبم أكافئه يا فاسق؟ قال: بالعفو عمّن أظفرك به اليوم كما تحب أن يعفو عنك غدا. ونظير هذا الكلام قد تقدّم لعلىّ رضي الله عنه. وقيل لكسرى: أىّ الملوك أفضل؟ قال: الذى إذا جاورته وجدته عليما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا أغضب كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا وعد وفى، وإن كان الوعد عظيما، وإذا شكى إليه وجد رحيما. [من رسائل الميكالى] كتب الأمير أبو الفضل الميكالى إلى أبى منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبى: كتابى وأنا أشكو إليك شوقا لو عالجه الأعرابى لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلىّ لا نثنى على كبد ذات حرق ولواعج؛ وأذمّ زمانا يفرّق فلا يحسن جمعا، ويخرق فلا ينوى رقعا، ويوجع القلب بتفريق شمل ذوى الوداد، ثم يبخل عليهم بما يشفى الصدور والأكباد؛ قاسى القلب فلا

يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم أستعدى على صرفه وأستنجد، وأتلظّى غيظا عليه وأنشد: متى وعسى يثنى الزمان عنانه ... بعثرة حال والزّمان عثور فتدرك آمال وتقضى مآرب ... وتحدث من بعد الأمور أمور وكلّا، فما على الدهر عتب، ولا له على أهله ذنب؛ وإنما هي أقدار تجرى كما شاء مجريها، وتنفذ كالسهام إلى مراميها؛ فهى تدور بالمكروه والمحبوب، على الحكم المقدور والمكتوب، لا على شهوات النفوس وإرادات القلوب؛ وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب البعيد النازح، وتسهيل الصّعب الجامح، فيعود الأنس بلقاءك الإخوان كأتمّ ما لم يزل معهودا، ويجدد للمذاكرة والمؤانسة رسوما وعهودا؛ إنه الملبّى به، والقادر عليه. وله إلى أبيه: ولو ملكت عنان اختيارى، وأسعفنى ببعض ما أقترحه القدر الجارى، لما غبت عن حضرته- آنسها الله! - ساعة من دهرى، كما لا أعدّ ساعات بعدى عنها وإخلائى لبابها من أيام عمرى؛ ولكنت أبدا ماثلا بها فى زمرة الخدم والعبيد، جامعا بها بين حاشيتى العز المديد، والشرف العتيد؛ لا سيما في هذا الوقت وقد أشرقت البلاد بنور طلعته التي هي في ظلمة الدّهر صباح، وعز مطالعته التي فيها لصدور ذوى الشّنأ شجا ولزند الآمال اقتداح، ومعاودة ظلّه التي أضحت الشمس من حساده، والزمان من عدد ساكنيه وعتاده، إلا أن الحريص- كما علمه مولانا- مخلى عن أعذب موارده، وممنوع بالعوائق عن أكرم مطالعه ومقاصده. وله يستفتح مكاتبة بعض إخوانه: أنا وإن لم تتقدم بينى وبينه المكاتبة، وعادة المساجلة والمفاوضة، من فرط حرصى على افتتاحها وتعاطيها، واعتراض العوائق دون المراد والغرض فيها، فإن

قلبى بودّه مغمور، وضميرى على مصافاته مقصور، فاعتداده لفضائله التي أصبح فيها أو حدىّ العنان، وزاحم فيها منكب العنان «1» ، واستأثر فيها بالغرر والاوضاح، ما أوفى بها على غرّة الصباح، حتى تشاهدت بها ضمائر القلوب، وتهادت أنباءها ألسنة البعيد والقريب، اعتداد من يجمع بالاعتداد لها بين شهادة قلبه ولسانه، ومن ينظم في إجلال قدرها صفقة إسراره وإعلانه، فهو يتنسّم الريح إذا هبّت من ناحيته شوقا ونزاعا، ويستملى الوارد والصادر خبر سلامته انصياعا بالودّ إليه وانقطاعا. شذور من كلامه في أثناء رسائل شتى: أياديه التي غمرتنى سجالها، واتّسع عندى مجالها، وأعيا شكرى عفوها وانثيالها، تناولت فيها المنى دانية القطوف، واجتليت أنوار العيش مأمونة الكسوف، ليس يكاد يبرد غليل شوقى وحنينى، أو ترجع نافرة انسى وسكونى، أو تخلو من الاهتمام والفكرة فيه خواطرى وظنونى، إلا بالتقاء يدنو أمده، ويقرب موعده، وتعلو على الفراق يده، فنعاود العيش طلقا غزيرا، ونجتنى ثمر المنى غضّا نضيرا، ونجتلى وجه الزمان مشرقا منيرا. فوائده لها عندى أثر الغمام أو أنفع، ومحلّ السّماك أو أرفع. حالى في مفارقة حضرته حال بنات الماء قد نضب عنها الغدير، ونبات الأرض «2» أخطأها النّوء المطير. لهفى على دهر الحداثة إذ غصن شبابى غضّ وريق، ونقل شرابى عضّ وريق. كلام أحلى من ريق النحل، وأصفى من ريق الوبل. من تسوّد قبل وقته وآلته، فقد تعرّض لمقته وإذالته. نظمه له: إن من يلتمس الصّد ... ر بلا وقت وآله لحقيق أن يلقّى ... كل مقت وإذاله الشكل للكتاب، كالحلى للكعاب. لو كان الشباب فضّة لكان الشيب له خبثا. النعمة عروس مهرها الشكر، وثوب صونه النّشر. الخضاب تذكرة الشباب. لا تقاس المهاوى بالمراقى، ولا الأقدام بالتّراقى، ولا البحور بالسواقى.

قطعة من شعره في تجنيس القوافى

كم أبلانى من عرف جزيل لا يبلى الدهر جدّة ردائه، وقضانى من دين تأميل لا يقضى الشكر حقّ نعمائه. الشكر للنعمة نتاج، والكفران لها رتاج، وكلما زدت النعمة شكرا، زادت طيبا ونشرا. قطعة من شعره في تجنيس القوافى قال في أبيه: مبدعا في شمائل المجد خيما ... ما اهتدينا لأخذه واقتباسه «1» فهو فظّ بالمال وقت نداه ... وجواد بالعفو في وقت باسه وقال فيه: إذا ما جاد بالأموال ثنّى ... ولم تدركه في الجود الندامه وإن هجست خواطره بجمع ... لريب حوادث قال الندى مه «2» وقال فيه: ولما تنازع صرف الزمان ... فزعّنا إلى سيد نابه إذا كشّر الدهر عن نابه ... كشفنا الحوادث عنّابه وقال فيه: إن نابنا خطب فآراؤه ... تغنى عن الجيش وتسريبه وإن دجا ليل بدا نوره ... للرّكب نجما فهو يسرى به وقال يفتخر: وكم حاسد لى انبرى فانثنى ... لعضّة نفس شجاها شجاها ومن أين يسمو لنيل العلا ... وما بثّ مالا ولا راش جاها ومنها قوله: وسائلة تسائل عن فعالى ... وعمّا حاز في الدنيا جمالى

[أدب الحاجب]

فقلت: إلى المعالى حنّ قلبى ... وفي سبل المكارم لجّ مالى وللعلياء نهج مستقيم ... فمالى تاركا ذا النّهج مالى إذا أسرجت في فخر سمابى ... فعالى والنّجار فألجمالى وقال في نوع من هذا الجنس: ومن يسر فوق الأرض يطلب غاية ... من المجد يسرى فوق جمجمة النّسر ومن يختلف في العالمين نجاره ... فإنّا من العلياء نجرى على نجر «1» ومن يتّجر في المال يكسب ربحه ... فبالمال نشرى رابح الحمد والنّشر وعلى نحو هذا الحذو يقول أبو الفتح البستى: أبا العباس لا تحسب بأنى ... لشىء من حلى الأشعار عار ولى طبع كسلسال المجارى ... زلال من ذرا الأحجار جارى إذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلى زند على الأدوار وارى وقال أبو الفتح البستى أيضا: بسيف الدولة اتّسقت أمور ... رأيناها مبدّدة النّظام سما وحمى بنى سام وحام ... فليس كمثله سام وحام [أدب الحاجب] قال بعض الملوك لحاجبه: إنك عينى التي أنظر بها، وجنّتى التي أستنيم إليها؛ وقد ولّيتك بابى، فما نراك صانعا برعيّتى؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك فى إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتّبهم حيث جعلهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم، وإبلاغهم عنك.

قال: قد وفيت بما عليك قولا، إن وفيت به فعلا؛ والله ولىّ كفايتك ومعونتك. قال المهدى للفضل بن الربيع: إنى قد ولّيتك ستر وجهى وكشفه، فلا تجعل الستر بينى وبين خواصّى سببا لضغنهم بقبح ردّك، وعبوس وجهك؟ وقدّم أبناء الدعوة؛ فإنهم أولى بالتقديم، وثنّ بالاولياء، واجعل للعامة وقتا إذا دخلوا أعجلهم ضيقه عن التلبّث، وصرفهم عن التمكّث. وقال الحسن بن سهل: إذا كان الملك محتجبا عن الرعيّة، ولم ينزل الوزير نفسه منزلة تكون وسائل الناس إليه أنفسهم واستحقاقهم دون الشفاعات والحرمات، حتى يختصّ الفاضل دون المفضول، ويرتّب الناس على أقدارهم وأوزانهم ومعرفتهم، امتزج التدبير، واختلّت الأمور، ولم يميزّ بين الصدور والاعجاز، والنواصى والأذناب، وكان الناس فوضى، ووهت أسباب الملك، وانتقضت مرائره، وشاعت سرائره، وإنّ أقرب ما أرجو به صلاح ما أتولّاه استماعى من المتنّسمين بأنفسهم، المتوسلين بأفهامهم، المتوصّلين بكفايتهم، وابتذال نفسى لهم، وصبرى عليهم، وتصفحى ما توسلوا به وانتحلوه: من العقول والآداب، والحماية والكفاية. فمن ثبتت له دعواه أنزلته تلك المنزلة، ولم أتحيّفه حقّه، ولا نقصته حظّه، ومن قصّر عما ادّعى كانت منزلته منزلة المقصرين، ولم أخيّب أمله من مقدار ما يستحقّه. وقال بعض البلغاء: إذا أسدل الوالى على نفسه ستر الحجاب، وهي عمود تدبيره؛ واسترخت عليه حمائل الحزم، وازدلفت إليه وفود الذمّ، وتولّى عنه رشد الرّاجى، ونال أموره خلل الانتشار، وآفة الإهمال، وتسرّع إليه العائبون بلواذع ألسنتهم ودبيب قوارضهم. وحجب سعيد بن عبد الملك عن عبيد الله بن سليمان فكتب إليه: سرت إلى بابك- أعزّك الله- عند ما حدث من أمرك، فلم يقض لقاؤك، وعلمت أنّ

ثقتك بما عندى، قد مثّلت لك حالى من السرور بنعمة الله عندك، وأرتك موضعى من الاعتداد بكل ما خصّك ووصل إليك، فوكلت العذر إلى ذلك. ثم إنّا نأتيك متيمّنين بطلعتك، مشتاقين إلى رؤيتك، فيحجبنا عنك ملاحظ. وهو كما علمت زنيم الصنيعة، لئيم الطبيعة، يحجب عنك الكرام، ويأذن عليك للّئام، كلما نجمت له يد بيضاء، أتبعها يدا سوداء؛ فإن رأيت- أعزّك الله- أن تصرفه عن باب مكارمك فعلت، إن شاء الله. وقال أبو السمط بن أبى حفصة: فتى لا يبالى المدلجون بنوره ... إلى بابه ألّا تضىء الكواكب له حاجب في كلّ خير يعينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب «1» أخذ البيت الأول من قول جده مروان بن أبى حفصة الأكبر: إلى المصطفى المهدىّ خاضت ركابنا ... دجى الليل يخبطن السّريح المخدّما «2» يكون لها نور الإمام محمد ... دليلا به تسرى إذا الليل أظلما وقال إدريس بن أبى حفصة، وذكر إبلا: لها أمامك نور تستضىء به ... ومن رجائك في أعناقها حادى لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الرّتوع وتلهيها عن الزّاد وأصله قول عمرو بن شأس الأسدى: إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بوجهك هاديا أليس يزيد العيس خفّة أذرع، ... وإن كنّ حسرى، أن تكون أماميا «3» وقال بعض أهل العصر: وليل وصلنا بين قطريه بالسّرى ... وقد جدّ شوق مطمع في وصالك

أربّت علينا من دجاه حنادس ... أعدن الطريق النهج وعر المسالك «1» فناديت يا أسماء، باسمك، فانجلت ... وأسفر منها كلّ أسود حالك بنا أنت من هاد نجونا بذكره ... وقد نشبت فينا أكفّ المهالك منحتك إخلاصى وأصفيتك الهوى ... وإن كنت لمّا تخطرينى ببالك وقال القطامى: ذكرتكم ليلا فنوّر ذكركم ... دجى الليل حتى انجاب عنه دياجره فو الله ما أدرى أضوء مسجّر ... لذكراكم أم يسجر الليل ساجره وقال القينى: وإنى من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه نجوم سماء كلما انقضّ كوكب ... بدا كوكب تأوى إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه وقال الحطيئة: نمشى على ضوء أحساب أضأن لنا ... كما أضاءت نجوم اللّيل للسّارى وقد ردّده في موضع آخر فقال: هم القوم الذين إذا ألّمت ... من الأيام مظلمة أضاءوا وكلام القاسم بن حنبل المدنى من هذا، حيث يقول: من البيض الوجوه بنى سنان ... لو انك تستضىء بهم أضاءوا فلو أنّ السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السّماء هم حازوا من الشّرف المعلّى ... ومن كرم العشيرة حيث شاءوا وقال بعض المتقدمين: إذا أشرقت في جنح ليل وجوههم ... كفوا خابط الظلماء فقد المصابح وإن ناب خطب أو ألّمت ملمّة ... فكم ثمّ من آسى جراح وجارح وقال أبو بديل الوضاح بن محمد التيمى في المستعين:

[حث الاشتياق]

وقائلة والليل قد نشر الدّجى ... فغطّى بها ما بين سهل وقردد «1» أرى بارقا يبدو من الجوسق الذى ... به حلّ ميراث النبىّ محمد أضاءت له الآفاق حتى كأنما ... رأينا بنصف الليل نور ضحى غد فظلّ عذارى الحىّ ينظمن تحته ... سلوكا من الجزع الذى لم يسرّد فقلت: هو البدر الذى تعرفونه ... وإلا يكن فالنّور من وجه أحمد [حث الاشتياق] وقال عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة في معنى قول عمرو بن شأس في حثّ الاشتياق: خليلىّ ما بال المطايا كأنما ... تراها على الأعقاب بالقوم تنكص فقد أتعب الحادى سراهنّ، وانحنى ... بهنّ- فما بالوا-، عجول مقلّص وقد قطّعت أعناقهنّ صبابة ... فأعينها مما تكلّف تشخص يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا ... إذا ازداد قرب الدار والبعد ينقص وقال بعض الرجاز، وذكر إبلا: إنّ لها لسائقا خدلجّا «2» ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا يريد امرأة يحبها فيحثه ما يجده من الشوق على إجهاد مطاياه بالسوق. كما أنشد إسحاق الموصلى: صبّ يحثّ مطاياه بذكركم ... وليس ينساكم إن حلّ أو سارا لو يستطيع طوى الأيام نحوكم ... حتى يبيع بعمر القرب أعمارا يرجو النّجاة من البلوى بقربكم ... والقرب يلهب في أحشائه نارا هذا البيت يناسب أبيات ابن أبى ربيعة. يقول: كلما دنا ازداد حرصا على اللقاء.

وشخص إسحاق الموصلى إلى الواثق بسرّ من رأى، وأهله ببغداد، فتصيد الواثق وهو معه إلى نواحى كبراء، فلما قرب من بغداد قال: طربت إلى الأصيبية الصّغار ... وهاجك منهم قرب المزار وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الدّيار ولحّنه وغنّاه الواثق، فاستحسنة وأطربه، فصرفه إلى بغداد على ما أحب وكان إسحاق قال أولا: وكلّ مسافر يشتاق يوما ... إذا دنت الديار من الديار فعابوا قوله «يوما» ، وقالوا: هى لفظة قلقة في هذا الموضع، لم تحلّ بمركزها، ولا لهاهنا موقع. قال: فضعوا مكانها مثلها لا خيرا منها. فما استطاعوا ذلك، فغيّرها إلى ما أنشدت أولا. وقال أبو نواس: أما الدّيار فقلما لبثوا بها ... بين اشتياق العيس والرّكبان وضعوا سياط الشّوق فوق رقابها ... حتى طلعن بها على الأوطان وقال مخلد بن بكار الموصلى: أقول لنضو أنفد السّير نيّها «1» ... ولم يبق منها غير عظم مجلّد خدى بى ابتلاك الله بالشّوق والهوى ... وشاقك تحنان الحمام المغرّد «2» فمرّت سريعا خوف دعوة عاشق ... تشقّ بى الموماة في كلّ فدفد «3» فلما ونت في السير ثنّيت دعوتى ... فكانت لها سوطا إلى ضحوة الغد وكان مخلد حلو الطبع، وهو القائل يمدح رجلا: يطلع النّجم على صعدته ... فإذا واجه نحرا أفلا معشر إن ظمئت أرماحهم ... أوردوهنّ مجاجات الطلى

[جودة الخط]

تحسن الألوان منهم في الوغى ... حين تستنكر للرّعب الحلى سخط عبد الله يدنى الأجلا ... ورضاه يتعدّى الأملا يعشب الصّلد إذا سالمه ... وإذا حارب روضا أمحلا [ملك لو نشّرت آلاؤه ... وأياديه على الليل انجلى] حلّ بالبأس ابن عمرو منزلا ... طال حتى قصرت فيه العلا حطّ رحلى في ذراه جوده ... وتمشّى في نداه الخيزلى «1» [جودة الخط] سئل بعض الكتاب عن الخطّ: متى يستحقّ أن يوصف بالجودة؟ فقال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتّحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوّره، وإلى العقول تثمّره، وقدّرت فصوله، واندمجت وصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وخرج من نمط الورّاقين، وبعد عن تصنّع المحررين «2» ، وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية، كان حينئذ كما قال صاحب هذا الوصف في صفة خط: إذا ما تجلل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش تضمّن من خطّه حلة ... كنقش الدنانير، بل أنقش حروف تعيد لعين الكليل ... نشاطا ويقرؤها الأخفش قال أبو هفّان: سألت ورّاقا عن حاله فقال: عيشى أضيق من محبرة، وجسمى أدقّ من مسطرة، وجاهى أرقّ من الزجاج، ووجهى عند الناس أشدّ سوادا من الحبر بالزّاج، وحظى أخفى من شقّ القلم، ويداى أضعف من قصبة، وطعامى أمرّ من العفص؛ وشرابى أحرّ من الحبر «3» ، وسوء الحال ألزم لى من الصّمغ؛ فقلت له: عبّرت عن بلاء ببلاء!

[حرفة الأدب]

وقال الحمدونى: ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان شأوى عما رمت من هممى أمّا الدّواة فأدمى جرمها جسدى ... وقلّم الحظّ تحريف من القلم وحبّرت لى صحف الحرف محبرة ... تذود عنّى سوام المال والنعم والعلم يعلم أنى حين آخذه ... لعصمتى نافر خلو من العصم وللحمدونى في الحرفة أشعار مستظرفة، وكان مليح الافتنان، حلو التصرّف؛ وهو إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه، وحمدويه جدّه، وهو صاحب الزنادقة في أيام الرشيد، والحمدونى القائل: من كان في الدنيا له شارة ... فنحن من نظّارة الدنيا نرمقها من كثب حسرة ... كأننا لفظ بلا معنى وقال: قد قلت إذ خرجوا لكى يستمطروا: ... لا تقنطوا واستمطروا بثيابى لو في حزيران هممت بغسلها ... غطى ضياء الشمس جوّ سحاب فكأنها العباس يستسقى به ... عمر فيرويهم دعاء مجاب «1» [حرفة الأدب] وقال آخر في المعنى الأول: لما أجدت حروف الخط حرّفنى ... عن كل حظّ وجاءت حرفة الأدب أقوت منازل مالى حين وطّنها ... مخيّما سفط الأقلام والكتب وقال يعقوب الخريمى: ما ازددت في أدبى حرفا أسرّ به ... إلا تزيّدت حرفا تحته شوم كذاك من يدّعى حذقا بصنعته ... أنّى توجّه فيها فهو محروم

[رزق الحمقى والعقلاء]

ولما قتل المقتدر أبا العباس بن المعتز، وزعم أنه مات حتف أنفه، قال علىّ بن محمد بن بسام: لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لوّ ولا ليت فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب [رزق الحمقى والعقلاء] قال ابن الرومى: يا ليت أهل البيت إذ حرموا ... عصموا من الشهوات والفتن لكنهم حرموا وما عصموا ... فقلوبهم مرضى من الحزن وهم أطبّ على بليّتهم ... من غيرهم بمضاضة الشّجن «1» وقال جعفر بن محمد: إن الله وسّع أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء، ويعلموا أنّ الدنيا لا ينال ما فيها بعقل ولا حيلة؛ ألا إنّ كسب المال بالحظّ، وحفظه بالعقل. قال إبراهيم بن سيّار النظام: الذهب لئيم؛ لأنّ الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام. قال المتنبى- وأخذ هذا المعنى: وشبه الشىء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام وكان النظام له نظر بوجوه التصرف، وكان السلطان يصله بالكثير، وكان محظوظا؛ فإذا اجتمع له مال حبس لنفسه بلغة، وفرّق الباقى في أبواب المعروف؛ فقيل له في ذلك، فقال: من حقّ المال علىّ أن أطلبه من معدنه، وأصيب به الفرصة عند أهله؛ ومن حقّى عليه أن يقينى السوء بنفسه، ويصون عرضى

[أفكار الوراقين]

بابتذاله، ولا يفعل ذلك إلا بأن أسمح به؛ ألا ترى ذا الغنى؛ ما أدوم نصبه «1» ، وأقلّ راحته، وأخسّ من ماله حظّه، وأشدّ من الأيام حذره، وأغرى الدهر بثلبه ونقصه، ثم هو بين سلطان يرعاه، وذوى حقوق يسبّونه، وأكفاء ينافسونه، وولد يريدون فراقه، قد بعث عليه الغنى من سلطانه العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغى، ومن ذوى الحقوق الذمّ، ومن الولد الملال، وذو البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم من المحذور، ورضى بالكفاف فتنكّبته الحقوق. [أفكار الوراقين] قال الصولى أنشدنى محمد بن أحمد بن إسحاق: أدمى البكا جفنىّ والمآقى ... فظلت ذا همّ وذا احتراق ما إن أرى في الأرض والآفاق ... أدنى ولا أشقى من الورّاق إذا أتى فى القمص الأخلاق ... رأيته مطيرة العشّاق «2» يفرح بالأقلام والأوراق ... كفرحة الجندى بالأرزاق وقال بعض الوراقين: إذا كنت بالليل لا أكتب ... وطول النهار أنا ألعب فطورا يبّطلنى مأكل ... وطورا يبّطلنى مشرب فإن دام هذا على ما أرى ... فبيتى أوّل ما يخرب وقيل لورّاق: ما تشتهى؟ فقال: قلما مشّاقا، وحبرا برّاقا، وجلودا رقاقا. وكل امرىء فأمنبته على ما يطابق غريزته، ويوافق نحيزته «3» .

[أطيب اللذات عند الشعراء]

[أطيب اللذات عند الشعراء] قال علىّ بن جبلة العكوك: قال الأصمعى: سئل امرؤ القيس: ما أطيب لذات الدنيا؟ قال: بيضاء رعبوبة «1» ، بالحسن مكبوبة، بالشّحم مكروبة «2» ، بالمسك مشبوبة. وسئل الأعشى عن ذلك، فقال: صهباء صافية «3» ، تمزجها ساقية، من صوب غادية «4» . وسئل طرفة عن ذلك، فقال: مركب وطىّ، وثوب بهىّ، ومطعم شهى. قال العكوك: فحدّثت بهذا أبا دلف، فقال: أطيب الطيبات قتل الأعادى ... واختيال على متون الجياد ورسول يأتى بوعد حبيب ... وحبيب يأتى بلا ميعاد وحدّثت بذلك حميدا الطوسى، فقال: فلولا ثلاث هنّ من لذّة الفتى، ... وجدّك، لم أحفل متى قام عوّدى فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كميت، متى ما تعل بالماء تزبد «5» وكرّى إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا ذى السّورة المتورّد «6» وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد «7» الشعر لطرفة بن العبد.

وحدثت بذلك يزيد بن عبد الله، فقال: ما أدرى ما قالوا، ولكنى أقول: فاقبل من الدّهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه فكان أسدّهم. والبيت للأضبط بن قريع، أنشده أبو العباس ثعلب، قال: وبلغنى أن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل: لكل ضيق من الأمور سعه ... والصبح والمسى لا فلاح معه «1» ما بال من سرّه مصابك لا ... يملك شيئا من أمره وزعه أذود عن حوضه ويدفعنى ... يا قوم، من عاذرى من الخدعه؟ حتى إذا ما انجلت عمايته ... أقبل يلحى وغيّه فجعه «2» قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ويقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه فاقبل من الدّهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه وصل حبال البعيد إن وصل الح ... بل، وأقص القريب إن قطعه ولا تعاد الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه «3» هذا البيت شبيه بما روى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يستنشدنى قول اليهودى: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نما «4» يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فأنشده، فيقول: إنى فطن لها:

[وصف المحابر والأقلام]

وكان الأضبط سيد بنى سعد، وكانوا يشتمونه ويؤذونه، فانتقل إلى حىّ من العرب فوجدهم يؤذون سادتهم، فقال: حيثما أوجّه ألق سعدا! فذهبت مثلا قال الطائى: فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس، كلّ غانية هند [وصف المحابر والأقلام] قال بعض الكتاب يصف محبرة: ولقد مضيت إلى المحدّث آنفا ... وإذا بحضرته ظباء رتّع وإذا ظباء الإنس تكتب كل ما ... يملى، وتحفظ ما يقول وتسمع يتجاذبون الحبر من ملمومة ... بيضاء تحملها علائق أربع «1» من خالص البلّور غيّر لونها ... فكأنها سبج يلوح ويلمع «2» إن نكّسوها لم تسل، ومليكها ... فيما حوته عاجلا، لا يطمع ومتى أمالوها لرشف رضابها ... أدّاه فوها وهي لا تتمنّع وكأنها قلبى يضنّ بسرّه ... أبدا، ويكتم كلّ ما يستودع يمتاحها ماضى الشّباة مذلّق ... يحرى بميدان الطّرّوس فيسرع «3» رجلاه رأس عنده لكنّه ... يلقاه برد حفاه ساعة يقطع وكأنّه والحبر يخضب رأسه ... شيخ لوصل خريدة يتصنّع لم لا ألاحظه بعين جلالة ... وبه إلى الله الصحائف ترفع وقال أبو الفتح كشاجم: محبرة جاد لى بها فمر ... مستحسن الخلق مرتضى الخلق جوهرة خصّنى بجوهرة ... ناطت له المكرمات في عنقى بيضاء والحبر في قراراتها ... أسود كالمسك جدّ منفتق مثل بياض العيون زيّنه ... مسودّ ما شابه من الحدق

ألفاظ لأهل العصر في أوصاف آلات الكتابة والدوى والأقلام

كأنما حبرها إذا نثرت ... أقلامنا ظلّه على الورق كحل مرته العيون من مقل ... نجل فأوفت به على يقق «1» خرساء لكنّها تكون لنا ... عونا على علم أفصح النّطق وقال عبد الله بن أحمد: القلم أمره، ما لم يكتحل بإثمد الدّواة «2» . وكتب إبراهيم بن العباس كتابا فأراد محو حرف فلم يجد منديلا، فمحاه بكمّه، فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع، والعلم أصل؛ وإنما بلغنا هذه الحال، واعتقدنا هذه الأموال «3» بهذا القلم والمداد، ثم قال: إذا ما الفكر أضمر حسن لفظ ... وأدّاه الضمير إلى العيان ووشّاه ونمنمه مسدّ ... فصيح بالمقال وباللّسان رأيت حلى البيان منوّرات ... تضاحك بينها صور المعانى ألفاظ لأهل العصر في أوصاف آلات الكتابة والدوىّ والأقلام الدواة من أنفع الأدوات، وهي للكتابة عتاد، وللخاطر زناد، غدير لا يرده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام «4» ، دواة أنيقة الصّنعة، رشيقة الصبغة، مسكية الجلد، كافورية الحلية. غدير تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره. دواة تداوى مرض عفاتك، وتدوى قلوب عداتك، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك، وارتفاع النوائب عن ساحتك، ومداد كسواد العين، وسويداء القلب، وجناح الغراب، ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. وهذا من قول ابن الرومى: حبر أبى حفص لعاب الليل ... كأنه ألوان دهم الخيل

قال العاصر: مداد ناسب خافية الغراب، واستعار لونه من شرخ الشباب، وأقلام جمّة المحاسن، بعيدة من المطاعن، تعاصى الكاسى، وتمانع الغامز القاسى. أنابيب ناسبت رماح الخطّ في أجناسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحديد في لمعانها؛ كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء، بطيئة الحفى، قوية القوى، لا يشظّيها «1» القطّ، ولا يتشعّب بها الخطّ. أقلام بحرية موشيّة اللّيط «2» ، رائقة التخطيط. قلم معتدل الكعوب، طويل الأنبوب، باسق الفروع، روىّ الينيوع، هو أولى باليد من البنان، وأخفى للسر من اللّسان. هو للأنامل مطيّة، وعلى الكتابة معونة مرضيّة. نعم العدّة القلم: يقلم أظافر الدّهر، ويملك الأقاليم بالنّهى والأمر، إن أردت كان مسجونا لا يملّ الإسار، وإن شئت كان جوادا جاريا لا يعرف العثار، لا ينبو إذا نبت الصّفاح «3» ، ولا يحجم إذا أحجمت الرّماح. قال أبو الفتح كشاجم، يصف محبرة ومقلمة وأقلاما وسكينا: جسمى من اللهو وآلات الطّرب ... ومن عتاد وثراء ونشب ومن مدام ومثان تصطحب ... وهمة طمّاحة إلى الرّتب مجالس مصونة من الرّيب ... معمورة من كلّ علم وأدب تكاد من حرّ الحديث تلتهب ... شعرا وأخبارا ونحوا يقتضب ولغة تجمع ألفاظ العرب ... وفقرا كالوعد فى قلب المحبّ أو كتأتّى الرزق من غير طلب ... أجل، وحسبى من دوىّ تنّتخب محلّيات بلجين وذهب ... محبرة يزهى بها الحبر الألبّ «4» مثقوبة آذانها، وفي الثّقب ... مثل شنوف الخرّد البيض العرب «5»

[عمال المأمون]

تضمن قطرا فيه للكتب غشب ... أسود يجرى بمعان كالشهب لا تنضب الحكمة إلّا إن نضب ... نيطت إلى يسرى يدىّ بسبب كالقرط في الجيد تدلّى فاضطرب ... تصحبها، والأخوات تصطحب كأنه يودع نبلا من قصب ... لم يعلها ريش ولم تحمل عقب «1» لا تضحك الأوراق حتى ينتحب ... ترمى بها يمناى أعراض الكتب رميا متى أقصد به السّمت أصب ... ومدية كالعضب ما مسّ القصب غصبى على الأقلام من غير سبب ... تسطو بها في كلّ حين وتثب وإنما ترضيك في ذاك الغضب ... فتلك آلاتى، وآلاتى تحبّ والظّرف في الآلات مما يستحبّ ... لا سيّما ما كان منها للادب [عمال المأمون] تظلم رجل إلى المأمون من عامل له، فقال: يا أمير المؤمنين، ما ترك لى فضّة إلّا فضّها، ولا ذهبا إلّا ذهب به، ولا غلّة إلا غلها، ولا ضيعة إلّا أضاعها، ولا علقا «2» إلا علقه، ولا عرضا إلا عرض له، ولا ماشية إلا امتشّها «3» ، ولا جليلا إلا أجلاه، ولا دقيقا إلا أدقّه. فعجب من فصاحته وقضى حاجته. قال عمرو بن سعد بن سلم: كانت علىّ نوبة أنوبها في حرس المأمون، فكنت في نوبتى ليلة فخرج متفقّدا من حضر، فعرفته ولم يعرفنى، فقال: من أنت؟ قلت: عمرو، عمرك الله، ابن سعيد، أسعدك الله، ابن سلم، سلّمك الله. فقال: تكلؤنا منذ الليلة. قلت: الله يكلؤك قبلى، وهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين. فقال المأمون: إنّ أخاك الحقّ من يسعى معك ... ومن يضرّ نفسه لينفعك ومن إذا صرف زمان صدعك ... بدّد شمل نفسه لنجمعك

[الورد والنرجس]

[الورد والنرجس] وقال على بن العباس الرومى: خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد لم يخجل الورد المورّد لونه ... إلّا وناحله الفضيلة عاند للنرجس الفضل المبين إذا بدا ... بين الرياض طريفه والتّالد وكان ابن الرومى متعصبا للنرجس، كثير الذمّ للورد، وكتب إلى أبى الحسن ابن المسيب: أدرك ثقاتك إنّهم وقعوا ... فى نرجس معه ابنة العنب فهم بحال لو بصرت بها ... سبّحت من عجب ومن عجب ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درّ على ذهب فى روضة شتويّة رضعت ... درّ الحيا حلبا على حلب واليوم مدجون فحرّته ... فيه بمطّلع ومحتجب «1» ظلت تسامرنا وقد بعثت ... ضوءا يلاحظنا بلا لهب وكان كسرى أنو شروان مستهترا بالنّرجس «2» ، وكان يقول: هو ياقوت أصفر، بين درّ أبيض، على زمرّد أخضر. نقله بعض المحدثين فقال: وياقوتة صفراء في رأس درّة ... مركّبة في قائم من زبرجد كمثل بهىّ الدّرّ عقد نظامها ... نثير فرند قد أطاف بعسجد كأنّ بقايا الطّل في جنباتها ... بقية دمع فوق خدّ مورّد رجع ابن الرومى: فصل القضية أنّ هذا قائد ... زهر الرّبيع وأنّ هذا طارد شتّان بين اثنين: هذا موعد ... بتصرّم الدنيا، وهذا واعد

فإذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته، لو أنّ حيّا خالد ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع يساعد «1» اطلب بعقلك في الملاح سميّه ... أبدا؛ فإنك لا محالة واجد والورد إن فتّشت فرد في اسمه ... ما في الملاح له سمىّ واحد هذى النجوم هي التي ربّينها ... بحيا السحاب كما يربّى الوالد «2» فانظر إلى الولدين، من أدناهما ... شبها بوالده فذاك الماجد أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة، لولا القياس الفاسد وقد ناقضه جماعة من البغداديين وغيرهم في هذا المذهب، وذهبوا إلى تفضيل الورد؛ فما دانوه وما استطاعوه. قال أحمد بن يونس الكاتب رادّا عليه: يا من يشبّه نرجسا بنواظر ... دعج، تنبّه إنّ فهمك راقد إنّ القياس لمن يصحّ قياسه، ... بين العيون وبينه متباعد والورد أصدق للخدود حكاية ... فعلام تجحد فضله يا جاحد ملك قصير عمره مستأهل ... تخليده، لو أنّ حيّا خالد إن قلت إنّ الورد فرد في اسمه ... ما في الملاح له سمىّ واحد فالشمس تفرد باسمها والمشترى ... والبدر يشرك في اسمه وعطارد أو قلت إنّ كواكبا ربينها ... بحيا السّحاب كما يربّى الوالد قلنا أحقّهما بطبع أبيه في ... الجدوى هو الزّاكى النجيب الرّاشد زهر النّجوم تروقنا بضيائها ... ولها منافع جمة وعوائد وكذلك الورد الأنيق يروقنا ... وله فضائل جمّة وفوائد وخليفه إن غاب ناب بنفعه ... وبنفحه أبدا مقيم راكد

نبذ من النظم والنثر فى صفات النور والزهر

إن كنت تنكر ما ذكرنا بعد ما ... وضحت عليه دلائل وشواهد فانظر إلى المصفرّ لونا منهما ... وافطن فما يصفرّ إلّا الحاسد نبذ من النظم والنثر فى صفات النّور والزهر قال علىّ بن الجهم: لم يضحك الورد إلّا حين أعجبه ... حسن الرّياض وصوت الطائر الغرد بدا فأبدت لنا الدّنيا محاسنها ... وراحت الرّاح في أثوابها الجدد وقابلته يد المشتاق تسنده ... إلى الترائب والأحشاء والكبد كأنّ فيه شفاء من صبابته ... أو مانعا جفن عينيه من السّهد بين النّديمين والخلّين مصرعه ... وسيره من يد موصولة بيد ما قابلت طلعة الرّيحان طلعته ... إلا تبيّنت فيه ذلّة الحسد قامت بحجّته ريح معطّرة ... تشفى القلوب من الأوصاب والكمد لا عذّب الله إلّا من يعذّبه ... بمسمع بارد أو صاحب نكد «1» وكان أردشير بن بابك يصف الورد ويقول: هو درّ أبيض، وياقوت أحمر، على كراسى زبرجد أخضر، توسطه شذور من ذهب أصفر، له رقّة الخمر، ونفحات العطر «2» أخذه محمد بن عبد الله بن طاهر فقال: كأنهنّ يواقيت يطيف بها ... زمرّد وسطه شذر من الذّهب فاشرب على منظر مستظرف حسن ... من خمرة مزّة كالجمر في اللهب وقال يزيد المهلبى: أحبّ المتوكل أن ينادمه الحسين بن الضحاك، الخليع

البصرى، وأن يرى ما بقى من ظرفه وشهوته لما كان عليه؛ فأحضره وقد كبر وضعف، فسقاه حتى سكر، وقال لخادمه شفيع: اسقه؛ فسقاه وحياه بوردة، وكانت على شفيع أثواب، فمدّ الحسين يده إلى درع شفيع، فقال المتوكل: أتخمش غلامى بحضرتى؟ كيف لو خلوت به! ما أحوجك يا حسين إلى أدب! وكان المتوكل غمز شفيعا على العبث به، فقال حسين: سيدى، أريد دواة وقرطاسا؛ فأمر له بهما، فكتب: وكالوردة البيضاء حيّا بأحمر ... من الورد يسعى في قراطق كالورد «1» له عبثات عند كلّ تحيّة ... بكفّيه يستدعى الخلىّ إلى الوجد تمنيت أن أسقى بكفيه شربة ... تذكرنى ما قد نسيت من العهد سقى الله عيشا لم أنم فيه ليلة ... من الدهر إلّا من حبيب على وعد ثم دفع الرقعة إلى شفيع، وقال: ادفعها إلى مولاك؛ فلما قرأها استملحها، وقال: لو كان شفيع ممن تجوز هبته لو هبته لك، ولكن بحياتى يا شفيع إلّا كنت ساقيه بقيّة يومه! وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف. قال يزيد المهلبى: فصرت إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام، فقلت: ويحك! أتدرى ما صنعت؟ قال: لا أدع عادتى بشىء، وقد قلت بعدك: لا رأى عطفة الأحببة من لا يصرح ... أصغر الساقيين أشكل عندى وأملح لو تراه كالظبى يسنح طورا ويبرح ... خلت غصنا على كثيب بنور يوشّح

[وصف أيام الربيع]

قال الصولى: وكأن الأول من أبيات الحسين من قول العباس بن الأحنف: بيضاء في حمر الثياب كوردة ... بيضاء بين شقائق النعمان تهتزّ في غيد الشباب إذا مشت ... مثل اهتزاز نواعم الأغصان قال أبو بكر الصولى: كان عند الخصى الوزير ظبى داجن ربيب في داره، فعمد إلى نيلوفر فأكله، فاستملح الغزال وأنسه، وقال: لو عمل في أنس هذا الغزال وفعله بالنيلوفر لاشتمل العمل على معنى مليح! فبلغ الخبر أبا عبد الله إبراهيم ابن محمد بن عرفة نفطويه، فبادر لئلا يسبق، وعمل أبياتا أولها: جرت ظبية غنّاء ترعى بروضة ... تنوش لدى أفنانها ورقا خضرا «1» فى أبيات غير طائلة، فاستبرد ما أتى به، قال الصولى: فقلت: ونيلوفر يحكى لنا المسك طيبه ... تراه على اللذات أفضل مسعد قد اجتنّ خوف الحادثات بجنّة ... تروق كثوب الراهب المتعبّد تركّب كالكاسات في ذهبيّة ... على قضب مخضرّة كالزّبرجد وألبس ثوبا يفضل اللّحظ حسنه ... كما عبثت عين بخدّ مورّد غذته أهاضيب السماء بدرّها ... تروح عليه كلّ يوم وتغتدى تلبّس للانوار ثوب سمائه ... ففضّل عنه الحسن في كلّ مشهد وفي وسطه منه اصفرار يزينه ... كياقوتة زرقاء في رأس عسجد أطاف به أحوى المدامع شادن ... حكى طرف من أهوى وحسن المقلد «2» كما أخذ الظمآن بالفم كاسه ... ولم يستعن في أخذه الكاس باليد [وصف أيام الربيع] وقال أبو محمد الحسن بن على بن وكيع «3» : يوم أتاك بوجهه المتهلّل ... ناهيك من يوم أغرّ محجّل

خلع الغمام على اخضرار سمائه ... خلعا فبين ممسّك ومصندل وكسا الرّبى حللا تخالف شكلها ... بمورّد ومعصفر ومكحّل وتمايلت فيه قدود غصونه ... من شرب كاسات العيون الهطّل وعلا على الأشجار قطر سمائها ... فهدت لعين الناظر المتأمل يحكى قباب زمرّد قد كلّلت ... بمنظّم من لؤلؤ ومفصّل وأتاك نور الباقلاء كأنما ... يرنو إليك بعين أكحل أقبل «1» الورد يخجل كلّ نور طالع ... وتراه منتقبا بحمرة مخجل وحكى بياض الطّلع في كافوره ... وجه الخريدة في الخمار الصّندلى فكأنما الدنيا عروس أقبلت ... فى كل أنواع الملابس تجتلى فاشرب معصفرة القميص سلافة ... من صنعة البردان أو قطربّل وقال أبو الفتح البستى: يوم له فضل على الأيام ... مزج السّحاب ضياءه بظلام فالبرق يخفق مثل قلب هائم ... والغيم يبكى مثل طرف هام وكأنّ وجه الأرض خدّ متيّم ... وصلت سجام دموعه بسجام فاطلب ليومك أربعا: هنّ المنى ... وبهنّ تصفو لذّة الأيام وجه الحبيب، ومنظرا مستشرقا، ... ومغنّيا غردا، وكأس مدام وقال الأمير أبو الفضل الميكالى: سلّ الربيع على الشّتاء صوارما ... تركته مجروحا بلا إغماد وبكت له عين السماء بأدمع ... ضحكت لساجمها ربى الأنجاد وبدت شقائقها خلال رياضها ... تزهى بثوبى حمرة وسواد

فكأنها بنت الشتاء توجّعت ... لمصابه كشقيقة الأولاد فقنوء حمرتها خضاب نجيعه ... وسواد كسوتها لباس حداد وقال: تصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلى وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقّطت بغوالى وقال: كأنّ الشقائق إذ أبرزت ... غلالة داد وثوبا أحمّ «1» قطاع من الجمر مشبوبة ... فأطرافها لمع من حمم وقال في حديقة ريحان: أعددت محتفلا ليوم فراغى ... روضا غدا إنسان عين الباغى «2» روض يروض هموم قلبى حسنه ... فيه لكأس الأنس أىّ مساغ فإذا بدت قضبان ريحان به ... حيّت بمثل سلاسل الأصداغ وقال في النرجس: أهلا بنرجس روض ... يزهى بحسن وطيب يرنو بعينى غزال ... على قضيب رطيب وفيه معنى خفىّ ... يزينه للقلوب تصحيفه إن نسقت ... الحروف برّ حبيب وقال: وما ضمّ شمل الأنس يوما كنرجس ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر «3» فأحداقه أحداق تبر، وساقه ... كقامة ساق في غلائله الخضر

[فى مجلس المبرد]

وقال البحترى: سقى الغيث أكناف اللّوى من محلة ... إلى الحقف من رمل اللوى المتقاود ولا زال مخضرّ من الرّوض يانع ... عليه بمحمرّ من النّور جاسد شقائق يحملن الندى فكأنّه ... دموع التصابى في خدود الخرائد ومن لؤلؤ في الأقحوان منظّم ... ومن نكت مصفرّة كالفرائد كأن جنى الحوذان فى رونق الضحى ... دنانير تبر من تؤام وفارد إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد رباغ تردّت بالرياض مجودة ... بكل جديد الماء عذب الموارد «1» كأنّ يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرّواعد [فى مجلس المبرد] قال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه: قال لى البحترى وقد اجتمعنا على خلوة عند المبرد وسلكنا مسلكا من المذاكرة: أشعرت أنى سبقت الناس كلهم إلى قولى: شقائق يحملن النّدى فكأنّه ... دموع التّصابى في خدود الخرائد كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرّواعد هكذا أنشد، فاستحسن ذلك المبرد استحسانا أسرف فيه، وقال: ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرّطبة، والعبارة العذبة، لأحد تقدّمك ولا تأخّر عنك. فاعترته أريحيّة جرّبها رداء العجب؛ فكأنه أعجبنى ما يعجب الناس من مراجعة القول؛ فقلت: يا أبا عبادة، لم تسبق إلى هذا، بل سبقك سعيد بن حميد الكاتب إلى البيت الأول بقوله: عذب الفراق لنا قبيل وداعنا ... ثم اجترعناه كسمّ ناقع

وكأنما أثر الدموع بخدّها ... طلّ تساقط فوق ورد يانع وشركك فيه صديقنا أبو العباس الناشىء بما أنشدنيه آنفا: بكت للفراق وقد راعنى ... بكاء الحبيب لبعد الديار كأنّ الدموع على خدّها ... بقية طلّ على جلّنار «1» وما أساء على بن جريج، بل أحسن في زيادته عليك بقوله: لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهنّ يطفين غلة الوجد لم تر إلّا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خدّ كأنّ تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معا بقوله: من كل زاهرة ترقرق بالنّدى ... فكأنها عين إليه تحدّر تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفّر «2» خلق أطلّ من الربيع كأنّه ... خلق الإمام وهديه المتنشّر فى الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الربيع الغضّ سرح يزهر «3» ينسى الربيع وما يروّض جوده ... أبدا على مرّ الليالى يذكر قال: فشقّ ذلك عليه، وحلّ حبوته ونهض، فكان آخر عهدى بمؤانسته وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح ذلك في حالى عنده. وقال البحترى يمدح الهيثم بن عثمان الغنوى: ألست ترى مدّ الفرات كأنه ... جبال شرورى جئن في البحر عوّما وما داك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلّما

وقد نبّه النّوروز في غبش الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما يفتّحها برد النّدى فكأنه ... يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما ومن شجر ردّ الربيع لباسه ... عليه كما نشّرت بردا منمنما أحلّ فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين مذ كان محرما فما يمنع الراح التي أنت خلّها ... وما يمنع الأوتار أن تترنّما وما زلت خلّا للنّدامى إذا اغتدوا ... وراحوا بدورا يستحثون أنجما تكرّمت من قبل الكئوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما حيّتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنّة فجرت راحا وريحان هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها وتداعى الطّير إعلانا «1» ورق تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتمسّ الأرض أحيانا تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطيه نشوانا ولابن المعتز في أرجوزته البستانية التى ذم فيها الصّبوح صفة جامعة، إذ قال: أما ترى البستان كيف نوّرا ... ونشّر المنثور بردا أصفرا وضحّك الورد إلى الشقائق ... واعتنق الورد اعتناق الوامق فى روضة كحلية العروس ... وخدّم كهامة الطاوس وياسمين في ذرى الأغصان ... منظم كقطع العقيان والسّرو مثل قصب الزّبرجد ... قد استمدّ الماء من ترب ند على رياض وثرى ندىّ ... وجدول كالبرد الحلىّ وفرّج الخشخاش جيبا وفتق ... كأنّه مصاحف بيض الورق أو مثل أقداح من البلور ... تخالها تجسّمت من نور بعضه عريان من أثوابه ... قد خجل اليابس من أصحابه

تبصره عند انتشار الورد ... مثل الدبابيس بأيدى الجند والسّوسن الآزار منشور الحلل ... كقطن قد مسّه بعض بلل نوّر في حاشيتى بستانه ... ودخّل الميدان في ضمانه وقد بدت فيه ثمار الكنكر ... كأنها جماجم من عنبر وحلّق البهار بين الآس ... جمجمة كهامة الشّمّاس خلال شيح مثل شيب النّصف ... وجوهر من زهر مختلف وجلّنار كاحمرار الورد ... أو مثل أعراف ديوك الهند والأقحوان كالثنايا الغرّ ... قد صقّلت أنواره بالفطر وقال أبو الفتح كشاجم: وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضي الصّديق عن الصديق إذا ما القطر أسعده صبوحا ... أتمّ له الصنيعة في الغبوق يعير الرّيح بالنفحات ريحا ... كأنّ ثراه من مسك فتيق كأنّ الطّلّ منتشرا عليه ... بقايا الدّمع في خدّ مشوق كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فمالت مثل شرّاب الرّحيق كأنّ شقائق النعمان فيه ... مخصّرة شقائق من عقيق يذكّرنى بنفسجه بقايا ... صنيع اللّطم في الخدّ الرّقيق وقال: غيث أتانا مؤذنا بالخفض ... متّصل الوبل سريع الرّكض دنا فخلناه دوين الأرض ... متّصلا بطوله والعرض إلفا إلى إلف بسرّ يفضى ... ثم سما كاللؤلؤ المرفضّ فالأرض تجلى بالنبات الغضّ ... فى حليها المحمرّ والمبيضّ من سوسن أحوى وورد غضّ ... مثل الخدود نقّشت بالعضّ

جملة من هذا النوع لأهل العصر

وأقحوان كاللّجين المحض ... ونرجس ذاكى النسيم بضّ مثل العيون رنّقت للغمض ... ترنو فيغشاها الكرى فتغضى جملة من هذا النوع لأهل العصر قال أبو فراس الحمدانى: وجلنّار مشرق ... على أعالى شجره كأنّ في رءوسه ... أحمره وأصفره قراضة من ذهب ... فى خرقة معصفره وقال: ويوم جلافيه الربيع رياضه ... بأنواع حلى فوق أثوابه الخضر كأنّ ذيول الجلّنار مطلّة ... فضول ذيول الغانيات من الأزر وقال أبو القاسم بن هانىء، يصف زهرة رمّان قطفت قبل عقدها: وبنت أيك كالشباب النّضر ... كأنها بين الغصون الخضر جنان باز أو جنان صقر ... قد خفّقته لقوة بوكر «1» كأنما سحّت دما من نحر ... أو نبتت في تربة من جمر [أو سقيت بجدول من خمر] ... لو كفّ عنها الدهر صرف الدّهر جاءت كمثل النّهد فوق الصّدر ... تفترّ عن مثل اللّثات الحمر فى مثل طعم الوصل بعد الهجر ولهم في هذا المعنى روضة رقّت حواشيها، وتأنّق واشيها. روضة كالعقود المنظّمة، على البرود المنمنمة. روضة قدراضتها كفّ المطر، ودبّجتها أيدى الندى. أخرجت الأرض

أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، وأبدت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيّها وأنماطها، ناشرة حبراتها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، نائهة بعيدانها وغدرانها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوّعت بالأرج الطّيّب أرجاؤها، وتبرّجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتنافجت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النّطق أطيارها. بستان رقّ نوره النضيد، وراق عوده النضير. بستان عوده خضر، ونوره نضر، وينعه خضل، وماؤه خصر. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار. أشجار كأنّ الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلّتها عقودها. الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد مرموق، كأنه من الجنّة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الود. إذا ورد الورد، صدر البرد. مرحبا بإشراف الزهر، فى أطراف الدهر، وأنشد: سقى الله وردا صار خدّ ربيعنا ... فقد كان قبل اليوم ليس له خدّ كأنّ عين النرجس عين، وورقه ورق «1» النرجس نزهة الطّرف، وظرف الظّرف، وغذاء الروح: شقائق كتيجان العقيق على رءوس الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات المورّدة. شقائق كالزنوج تجارحت وسالت دماؤها، وضعفت فسال ذماؤها. كأن الشقيق جام من عقيق أحمر، ملئت قرارته بمسك أذفر. الأرض زمرّدة، والأشجار وشى، والماء سيوف، والطيور قيمان. قد غرّدت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار. إذا صدح الحمام، صدع الحمام قلب المستهام انظر إلى طرب الأشجار لغناء الأطيار. ليس للبلابل كغناء البلابل «2» ، وخمر بابل.

ولهم فيما يتعلق بهذا النحو في وصف أيام الربيع

ولهم فيما يتعلق بهذا النحو في وصف أيام الربيع يوم سماؤه فاختيّة، وأرضه طاوسيّة. يوم جلا بيب غيومه رواق، وأردية نسيمه رقاق. يوم ممسّك السماء، معصفر الهواء، معنبر الرّوض، مصندل الماء. يوم زرّ عليه جيب الضّباب، وانسحب فيه ذيل السحاب. يوم سماؤه كالخزّ الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر شادن يرتعى القلوب ببغدا ... د ولا يرتعى الكلا بالنّباج أقبلت والربيع يختال في الرّو ... ض وفي المزن ذى الحيا الثّجّاج «1» ذو سماء كأدكن الخزّ قد ... غيمت وأرض كأخضر الديباج فتجلّى عن كل ما يتمنى ... موعد الكدخداة والهيلاج فظللنا في نزهتين وفي ... حسنين بين الأرمال والأهزاج بفتاة تسرّنا في المثانى ... وعجوز تسرّنا في الزّجاج أخذت من رءوس قوم كرام ... ثارها عند أرجل الأعلاج يوم حسن الشمائل، ممتع المخايل، سجسج الهواء، مؤنق الأرجاء. يوم تبسّم عنه الربيع، وتبرّج عنه الروض المريع. يوم كأنّ سماءه مأتم تتباكى، وأرضه عروس تتجلّى. يوم مشهّر الأوصاف، أغرّ الأطراف. يوم يغفى فيه النّور وينتبه، وتسفر فيه الشمس وتنتقب، وتعتنق الغصون وتفترق، ويوشى الغيم وينسكب. يوم غاب نحسه وهوى، وطلع سعده واعتلى، والزمان ساقطة جماره، مفعمة أنهاره، مونقة أشجاره، مغرّدة أطياره. نحن في غبّ سماء، قد أقلعت بعد الارتواء، وأقشعت عند الاستغناء، فالنّبت خضل ممطور، والنّقع ساكن محصور. يوم جوّه طارونىّ، وأرضه طاوسّى. يوم دجنه عاكف، وقطره واكف. يوم من أعياد العمر، وأعيان الدّهر.

[الربيع والرفاق]

[الربيع والرفاق] ولهم في تشبيه محاسن الربيع بمحاسن الإخوان والسادة: غيث مشبّه بكفّك، واعتداله مضاه لخلقك، وزهره مواز لنشرك «1» ، كأنما استعار حلله من شيمتك، وحليه من سجيّتك، واقتبس أنواره من محاسن أيامك، وأمطاره من جودك وإنعامك. قدم الربيع منتسبا إلى خلقك، مكتسيا محاسنه من طبعك، متوشّحا بأنوار لفظك، متوضّحا بآثار لسانك ويدك. أنا في بستان أذكرنى ورده المفتّح بخلقك، وجدوله السابح بطبعك، وزهره الجنىّ بقربك. أنا في بستان كأنّه من شمائلك سرق، ومن خلقك خلق، وقد قابلتنى أشجار تتمايل فتذكرنى تبريح الأحباب، إذا تداولتهم أيدى الشراب، وأنهار كأنّها من يدك تسيل، ومن راحتيك تفيض. أنا على حافة حوض أزرق كصفاء مودّتى لك، ورقّة قولى في عتبك. [الصوم في الربيع] وقال ابن عون الكاتب: جاءنا الصوم في الربيع فهلّا ... اختار ربعا من سائر الأرباع «2» وكأنّ الربيع في الصوم عقد ... فوق نحر غطّاه فضل قناع [يوم الشك] وكتب أبو الفتح كشاجم إلى بعض إخوانه يتدعيه إلى زيارته في يوم شك: هو يوم شكّ يا عل ... ىّ وبشره مذ كان يحذر والجوّ حلته ممسّكة ... ومطرفه معنبر والماء فضّىّ الفميص ... وطيلسان الأرض أخضر نبت يصعّد زهره ... فى الرّوض قطر ندى تحدّر ولنا فضيلات تكو ... ن ليومنا قوتا مقدّر

ومدامة صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر فانشط لنا لنحثّ من كاساتنا ما كان أكبر ... أو لا فإنّك جاهل إن قلت إنّك سوف تعذر وكتب بديع الزمان إلى بعض أهل همذان: كتابى- أطال الله بقاك- عن شهر رمضان، عرّفنا الله بركة مقدمه، ويمن مختتمه، وخصّك بتقصير أيامه، وإتمام صيامه وقيامه؛ فهو- وإن عظمت بركته- ثقيل حركته، وإن جلّ قدره بعيد قعره، [وإن عمّت رأفته، طويل مسافته، وإن حسنت قربته، شديد صحبته، وإن كبرت حرمته كثير حشمته، وإن سرّنا مبتداه فلن يسوءنا منتهاه] فإن حسن وجهه فليس يقبح قفاه، وما أحسنه في القذال، وأشبه إدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمدّ فلكه تحريكا، بتقضى مدّته وشيكا، وأظهر هلاله نحيفا، ليزفّ إلى اللذات زفيفا، وعفا الله عن مزح يكرهه، ومجون يسخطه. عوّل البديع في هذا الكلام على قول أبى الفضل بن العميد في رسالة له في مثل ذلك: أسأل الله أن يعرّفنى بركته، ويلقّينى الخير فى باقى أيامه وخاتمته؛ وأرغب إليه في أن يقرب على الفلك دوره، ويقصّره سيره، ويخفّف حركته، ويعجّل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويردّ علىّ غرّة شوال، فهى أسنى الغرر عندى، وأقرّها لعينى؛ ويطلع بدره، ويرينى الأيدى متطلبة هلاله ببشر، ويسمعنى النّعى لشهر رمضان، ويعرض علىّ هلاله أخفى من السّحر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بنى عامر، وأبلى من أسير الهجر، وأستغفر الله جلّ وجهه مما قلت إن كرهه، وأستعفيه من توفيقى لما يذمّه، وأسأله صفحا يفيضه، وعفوا بوسعه، إنّه يعلم خائتة الأعين وما تخفى الصدور.

[عواقب الطيش]

[عواقب الطيش] قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لى أخلاق المخلوع. قال: كان واسع الصّدر، ضيّق الأدب، يبيح من نفسه ما تأنفه همم الأحرار، ولا يصفى إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبدّ برأيه، ويبصّر سوء عاقبته؛ فلا يردعه ذلك عما يهمّ به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفرّقها بسوء التدبير. فقال المأمون: لذلك حلّ ما حلّ به؛ أما والله لو ذاق لذّات النصائح، واختار مشورات الرجال، وملك نفسه عن شهواتها، لما ظفر به. [الأمين والمأمون] ولما عقد الرشيد البيعة للأمين وهو أصغر من المأمون لأجل أمّه زبيدة، وكلام أخيها عيسى بن جعفر، وقدّمه على المأمون، جعل يرى فضل عقله فيندم على ذلك، فقال: لقد بان وجه الرّأى لى غير أنّنى ... غلبت على الأمر الذى كان أحزما فكيف يرد الدر في الضّرع بعدما ... توزّع حتى صار نهبا مقسّما أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذى كان أبرما قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إلىّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن الأنبارى، قال: فأتيته وهو في صحن داره، وفي يده رقعة قد غضب لما نظر فيها، وهو يقول: ينام نوم الظّربان، وينبه انتباه الذئب، همّته بطنه، ولذّته فرجه، لا يفكّر في زوال نعمة، ولا يتروّى في إمضاء رأى ولا مكيدة، قد شمّر له عبد الله عن ساقه، وفوّق له أسدّ سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبّى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنّة الرماح وشفار السيوف، ثم تمّثل بشعر البعيث: يقارع أتراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم فيصبح في طول الطّراد وجسمه ... نحيل، وأضحى في النعيم أصمّم

فشتان ما بينى وبين ابن خالد ... أميّة في الرّزق الذى الله يقسم ثم قال: يا أبا الحارث، أنا وأنت نجرى إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا؛ وإنما نحن شعبة من أصل، إن قوى قوينا، وإن ضعف ضعفنا؛ إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكفاء: يشاور النساء، ويعتمد على الرؤيا، وقد أمكن أهل اللهو والخسارة من سمعه؛ فهم يمنّونه الظّفر، ويعدونه عواقب الأيام؛ والهلاك إليه أسرع من السيل إلى قيعان الرّمل؛ وقد خشيت أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، وقد فزع إليك في لقاء طاهر لأمرين: أحدهما صدق طاعتك، وفضل نصيحتك؛ والثانى يمن نقيبتك، وشدّة بأسك؛ وقد أمرنى أن أبسط يدك، غير أنّ الاقتصاد رأس النصحية، ومفتاح البركة؛ فبادر ما تريد، وعجّل النهضة، فإنى أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث الخلافة. فقلت له: أنا لطاعتك وطاعة أمير المؤمنين مقدم، ولما وهن عدوّ كما مؤثر؛ غير أنّ المحارب لا يفتتح أمره بتقصير؛ وإنما ملاك أمره الجنود، والجنود لا تكون بلا مال، وقد رفع أمير المؤمنين الرغائب إلى قوم لم يجدوا عليه، ومتى سمت من أقدر به الانتفاع له الرضا بدون ما أخذه غيره ممن لم يكن عنده غناء ولا معونة، لم ينتظم بذلك التدبير، وأحتاج لأصحابى رزق سنة قبضا، وحملا إلى ألف فرس لحمل من لا أرتضى فرسه، وإلى مال أستظهر به، لا ألام على وضعه حيث رأيت. فقال: شاور أمير المؤمنين؛ فأدخلنى عليه، فلم تدر بينى وبينه كلمتان حتى أمر بحبسى. ويروى أن الأمين لما أعيته مكايد طاهر قال: بليت بأشجع الثقلين نفسا ... تزول الراسيات وما يزول له مع كل ذى بدن رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول فليس بمغفل أمرا عناه ... إذا ما الأمر ضيّعه الجهول

[بيعة المهدى]

وفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء: كم من مقيم ببغداد على طمع ... لولا رجاء أبى العباس لم يقم البدر إن نظروا، والبحر إن رغبوا ... والحصن إن رهبوا، والسيف ذو النّقم وقال عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع: ما مدحنا شاعر بشعر أحب إلينا من قول أبى نواس: ساد الملوك ثلاثة ما منهم ... إن حصّلوا إلا أعز قريع ساد الربيع وساد فضل بعده ... وعلت بعبّاس الكريم فروع عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع وقيل للعتابى: أمدحت أحدا؟ قال: لا، وليس لى على ذاك قدرة، فقيل له: فقد مدحت الربيع، فقال: ذلك ليوم يستحقّ فيه المدح، فقلت: ومعضلة قام الربيع إزاءها ... ليعمد ركن الدّين لما تهدّما بمكة والمنصور رهن كما أتى ... أخا الوحى داعى ربّه فتقدّما غداة عداة الدين شاحذة المدى ... إليه وغول الحرب فاغرة فما [بيعة المهدى] وكان المنصور قد توفّى بمكة وهو حاجّ في ذى الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، فأخذ الربيع للمهدى البيعة على الناس، وأخذ بتجديدها عن المنصور على أنه حىّ، وأدخل إليه قوما فرأوه من بعيد وقد جلله بثوب، وأقعد إلى جنبه من يحرّك يده وكأنه يومئ بها إليهم، فلم يشكّوا في حياته؛ فما خالف أحد؛ فشكره المهدى لذلك، وفي ذلك يقول أبو نواس في مدحه الفضل بن الربيع: أبوك جلّى عن مضر ... يوم الرواق المحتضر والحرب تفرى وتذر ... لما رأى الأمر اقمطرّ قام كريما فانتصر ... كهزة العضب الذّكر

[وقت كلام الملوك]

ما مس من شىء هبر ... وأنت تقتاف الأثر من ذى حجول وغرر وقال أيضا: آل الربيع فضلتم ... فضل الخميس على العشير «1» من قاس غيركم بكم ... قاس الثّماد إلى البحور أين القليل بنو القليل ... من الكثير بنى الكثير أين النجوم التاليا ... ت من الأهلّة والبدور قوم كفوا أيام مكّة ... نازل الخطب الكبير وتداركوا نصر الخلا ... فة وهي شاسعة النّصير لولا مقامهم بها ... هوت الرواسى من ثبير ومن قول أبى نواس: «من قاس غيركم بكم ... » البيت، أخذ أبو الطيب المتنبى: قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلّا نرجّى التّلاقيا [وقت كلام الملوك] وقال الفضل بن الربيع: من كلّم الملوك في الحاجات في غير وقت الكلام لم يظفر بحاجته، وضاع كلامه، وما أشبههم في ذلك إلا بأوقات الصلوات لا تقبل الصلاة إلا فيها، ومن أراد خطاب الملوك في شىء فليرصد الوقت الذى يصلح فى مثله ذكر ما أراد، ويسبّب له شيئا من الأحاديث يحسن ذكره بعقبه. وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظفر به: يا فضل؛ أكان في حقى عليك، وحق آبائى ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبنى «2» وتسبّنى، وتحرّض على دمى؟ أتحبّ أن أفعل بك ما فعلته بى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عذرى يحقدك إذا كان واضحا جميلا، فكيف

[بين المنصور والربيع]

إذا حفّته العيوب، وقبّحته الذنوب؛ فلا يضيق عنى من عفوك ما وسع غيرى منك، فأنت كما قال الشاعر فيك: صفوح عن الأجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما وليس يبالى أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما والشعر للحسن بن رجاء بن أبى الضحاك. [بين المنصور والربيع] وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة: دعا المنصور بالربيع، فقال: سلنى ما تريد، فقد سكتّ حتى نطقت، وخفّفت حتى ثقّلت، وأقللت حتى أكثرت. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرهب بخلك، ولا أستقصر عمرك، ولا أستصغر فضلك، ولا أغتنم مالك؛ وإنّ يومى بفضلك علىّ أحسن من أمسى، وغدك في تأميلى أحسن من يومى؛ ولو جاز أن يشكرك مثلى بغير الخدمة والمناصحة لما سبقنى لذلك أحد. قال: صدقت، علمى بهذا منك أحلّك هذا المحلّ؛ فسلنى ما شئت قال: أسألك أن تقرّب عبدك الفضل، وتؤثره وتحبّه. قال: يا ربيع إنّ الحب ليس بمال يوهب، ولا رتبة تبذل؛ وإنما تؤكّده الأسباب. قال: فاجعل لى طريقا إليه، بالتفضل عليه قال: صدقت، وقد وصلته بألف ألف درهم، ولم أصل بها أحدا غير عمومتى؛ لتعلم ماله عندى، فيكون منه ما يستدعى به محبّتى، ثم قال: فكيف سألت له المحبة يا ربيع؟ قال: لأنها مفتاح كلّ خير، ومغلاق كلّ شر، تستر بها عندك عيوبه، وتصير حسنات ذنوبه. قال: صدقت وأتيت بما أردت في بابه.

[سهل بن هارون والرشيد]

أخذ قوله: «خففت حتى ثقلت» أبو تمام فقال لمحمد بن عبد الملك الزيات: على أنّ إفراط الحياء استمالنى ... إليك، ولم أعدل بعرضى معدلا فثّقلت بالتخفيف عنك، وبعضهم ... يخفف في الحاجات حتى يثقّلا [سهل بن هارون والرشيد] ودخل سهل بن هارون على الرشيد، وهو يضاحك المأمون، فقال: اللهم زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون فى كلّ يوم من أيامه مربيا «1» على أمسه، مقصّرا عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأرصنه، ومن الحديث أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول. فقال سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين؛ ما ظننت أنّ أحدا تقدّمنى إلى هذا المعنى. قال: بل أعشى همدان حيث يقول: رأيتك أمس خير بنى لؤىّ ... وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غدا تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس [من شعر الفضل بن الربيع] ومن شعر الفضل بن الربيع ما أنشده الصولى: إنّى امرؤ من هاشم ... بفناء معمور النّواحى أهل الهدى وذوى التّقى ... وأولى البسالة والسّماح أهل المعالم والمكا ... رم في المساء وفي الصّباح

[بين ابن خاقان وأبى العيناء]

أهل النبوّة والخلا ... فة والكمال برغم لاحى يتألّمون من الصّدو ... د ويصبرون على الجراح [بين ابن خاقان وأبى العيناء] حمل محمد بن عبيد الله بن خافان أبا العيناء على دابّة زعم أنها غير فاره «1» ، فكتب إليه: أعلم الوزير، أعزه الله، أن أبا على محمدا أراد أن يبرّنى فعقّنى، وأن يركبنى فأرجلنى، أمر لى بدابّة تقف للنّبرة «2» ، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفا «3» ؛ وكالعاشق المهجور دنفا، قد أذكرت الرواة عذرة العذرىّ، والمجنون العامرى، مساعد أعلاه لأسفله، حباقه مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيت، ولو أفرد لتعزّيت، ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النّسوان، وتتناغى من أجله الصّبيان؛ فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل يقول: نوّله الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق؛ لروى بحقّ وصدق، عن جابر الجعفىّ، وعامر الشّعبى؛ وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذى إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإن اختار لغيره أخبث وأنزر؛ فإن رأى الوزير أن يبدّلنى به، ويريحنى منه بمركوب يضحكنى كما ضحّك منى، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطّره العيب بقبحه ودمامته؛ ولست أذكر أمر سرجه ولجامه؛ فإن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه. فوجّه عبيد الله إليه برذونا من براذينه بسرجه ولجامه، ثم اجتمع مع محمد ابن عبيد الله عند أبيه، فقال عبيد الله: شكوت دابّة محمد، وقد أخبرنى الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار، وما هذا ثمنه لا يشتكى.

قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابى

فقال: أعز الله الوزير، لو لم أكذب مستزيدا، لم انصرف مستفيدا، وإنى وإياه لكما قالت امرأة العزيز: «الآن حصحص الحقّ، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين» . فضحك عبيد الله، وقال: حجّتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجّة غيرك البالغة. قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابى عن أبى العباس بن سابور إلى الحسين بن صبرة عن رقعة وردت منه في صفة حمل أهداه وصلت رقعتك، ففضضتها عن خطّ مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنه عبد الحميد في كتابته، وقسّ وسحبان فى خطابته؛ وتصرف بين جدّ أمضى من القدر، وهزل أرقّ من نسيم السّحر، وتقلّب في وجوه الخطاب، الجامع للصّواب؛ إلا أنّ الفعل قصّر عن القول، لأنك ذكرت حملا، جعلته بصفتك جملا، فكان المعيدىّ الذى تسمع به ولا أن تراه. وحضر فرأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدّهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزّوجين اللذين جعلهما نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذرّيته؛ صغر عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلا ضئيلا، باليا هزيلا، بادى السّقام، عارى العظام، جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب، يعجب العاقل من حلول الحياة به، وتأتّى الحركة فيه، لأنه عظم مجّلد، وصوف ملبّد، لا تجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقى يدك منه إلا خشبا، لو ألقى إلى السّبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، قد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القتّ إلا نائما، ولا عرف الشعير إلا حالما، وقد خيّرتنى بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى

الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الرّحل؛ فملت إلى استبقائه لما تعرف من محبتى في التوفير، ورغبتى للتّثمير، وجمعى للولد، وادّخارى لغد، فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فتحمل، ولا بفتى فينسل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثانى من رأييك، وعوّلت على الآخر من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطبا مقام قديد الغزال، فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّت الشّفار، وشمّر الجزّار: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم وقال: ما الفائدة لك في ذبحى؟ وأنا لم يبق منى إلا نفس خافت، ومقلة إنسانها باهت: لست بذى لحم، فأصلح للأكل؛ لأن الدهر قد أكل لحمى، ولا جلدى يصلح للدّباغ؛ لأن الأيام قد مزّفت أديمى، ولا لى صوف يصلح للغزل؛ لأن الحوادث قد حصّت وبرى؛ فإن أردتنى للوقود فكفّ بعر أبقى من نارى، ولن تفى حرارة جمرى بريح قتارى، فلم يبق إلا أن تطلبنى بذحل «1» أو بينى وبينك دم. فوجدته صادقا في مقالته، ناصحا في مشورته، ولم أعلم من أى أمريه أعجب؛ أمن مماطلته للدهر بالبقاء، م من صبره على الضرّ واللأواء «2» ، أم من قدرتك عليه مع إعواز مثله، أم من تأهيلك للصدبق به مع خساسة قدره؟ ويا ليت شعرى إذ كنت- وإليك سوق الغنم، وأمرك ينفذ في الضأن والمعز، وكلّ كبش سمين وحمل بطين مجلوب إليك، مقصور عليك- تقول فيه قولا فلا تردّ، وتريده فلا تصدّ، وكانت هديتك هذا الذى كأنه ناشر من القبور، أو قائم عند النفخ في الصور، فما كنت مهديا لو أنك رجل من عرض الكتّاب، كأبى علىّ وأبى الخطّاب، ما كنت تهدى إلا كلبا أجرب، أو قردا أحدب.

[الحمدونى وشاة سعيد بن أحمد]

[الحمدونى وشاة سعيد بن أحمد] وقال الحمدونى في شاة سعيد بن أحمد بن خوسنداذ: أسعيد قد أعطيتنى أضحيّة ... مكثت زمانا عندكم ما تطعم نضوا تعاقرت الكلاب بها وقد ... شدّوا عليها كى تموت فيولموا فإذا الملا ضحكوا بها قالت لهم: ... لا تهزءوا بى وارحمونى ترحموا مرّت على علف فقامت لم ترم ... عنه، وغنّت والمدامع تسجم وقف الهوى بى حيث أنت فليس لى ... متأخّر عنه ولا متقدّم «1» وقال أيضا: أبا سعيد لنا في شاتك العبر ... جاءت وما إن لها بول ولا بعر وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمس والقمر لو أنّها أبصرت في نومها علفا ... غنّت له ودموع العين تنحدر يا مانعى لذّة الدنيا بأجمعها ... إنى ليفتننى من وجهك النظر وقال أيضا: شاة سعيد في أمرها عبر ... لما أتتنا قد مسّها الضرر وهي تغنى من سوء حالتها ... حسبى بما قد لقيت يا عمر مرّت بقطف خضر ينشّرها ... قوم فظنّت بأنها خضر فأقبلت نحوها لتأكلها ... حتى إذا ما تبيّن الخبر وأبدلتها الظنون من طمع ... يأساتغنّت والدّمع منحدر كانوا بعيدا وكنت آملهم ... حتى إذا ما تقربوا هجروا قال: لسعيد شويهة ... سلّها الضّر والعجف قد تغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف

[الحمدونى وطيلسان ابن حرب]

بأبى من بكفّه ... برء مابى من الدّنف فأتاها مطمّعا ... وأتته لتعتلف فتولّى فأقبلت ... تتغنّى من الأسف ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف [الحمدونى وطيلسان ابن حرب] [قال] : وإذ قد جرت بعض تضمينات الحمدونى في هذا الموضع فأنا أذكر هنا قطعة من شعره في الطيلسان، وأنعطف في غير هذا الموضع إيها وأكر عليها؛ وكان أحمد بن حرب المهّلبى من المنعمين عليه، والمحسنين إليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهب له طيلسانا أخضر لم يرضه، قال أبو العباس المبرّد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات، فاستحلينا مذهبه فيها، فجعلها فوق الخمسين؛ فطارت كل مطار، وسارت كل مسار، فمنها: يابن حرب كسوتنى طيلسانا ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا فحسبنا نسج العناكب قدحا ... ل إلى ضعف طيلسانك سدّا طال ترداده إلى الرّفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى وقال فيه أيضا: يا طيلسان ابن حرب قد هممت بأن ... تودى بجسمى كما أودى بك الزّمن ما فيك من ملبس يغنى ولا ثمن ... قد أوهنت حيلتى أركانك الوهن فلو ترانى لدى الرّفّاء مرتبطا ... كأننى في يديه الدهر مرتهن أقول حين رآنى الناس ألزمه ... كأنما لى في حانوته وطن من كان يسأل عنّا أين منزلنا ... فالأقحوانة منّا منزل قمن وقال: قل لابن حرب طيلسا ... نك قوم نوح منه أحدث

أفنى القرون ولم يزل ... عمّن مضى من قبل يورث وإذا العيون لحظنه ... فكأنه باللّحظ يحرث يودى إذا لم أرفه ... فإذا رفوت فليس يلبث كالكلب إن تحمل عليه ... الدّهر أو تتركه يلهث وقال: قل لابن حرب طيلسانك قد ... أوهى قواى بكثرة الغرم متبين فيه لمبصره ... آثار رفو أوائل الأمم وكأنه الخمر التي وصفت ... فى «يا شقيق الرّوح من حكم» فإذا رممناه فقيل لنا: ... قد صحّ، قال له البلى: انهدم مثل السّقيم برا فراجعه ... نكس فأسلمه إلى سقم أنشدت حين طغى فأعجزنى ... «ومن العناء رياضة الهرم» «الخمر التي وصفت» من قول أبى نواس: يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلى ولم أتم فاسقنى البكر التي اعتجرت ... بخمار الشّيب في الرّحم ثمّت انصات الشباب لها ... بعد أن جازت مدى الهرم فهى لليوم الذى بزلت ... وهي تلو الدّهر في القدم عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصّت قصّة الأمم فرعتها بالمزاج يد ... خلقت للكاس والقلم وقال الحمدونى: طيلسان لابن حرب جاءنى ... خلعة في يوم نحس مستمرّ فإذا ما صحت فيه صيحة ... تركته كهشيم المحتظر

وإذا ما الريح هبّت نحوه ... طيّرته كالجراد المنتشر مهطع الدّاعى إلى الرّافى إذا ... ما رآه قال: ذا شىء نكر وإذا رفّاؤه حاول أن ... يتلافاه تعاطى فعقر وقال: أيا طيلسانى أعييت طبّى ... أسلّ بجسمك أم داء حبّ ويا ريح صيّرتنى أتّقيك ... وقد كنت لا أتّقى أن تهبّى ومستخبر خبر الطيلسان ... فقلت له الروح من أمر ربّى وقال فيه: طيلسان لابن حرب جاءنى ... قد قضى النمزيق منه وطره أنا من خوف عليه أبدا ... سامرىّ ليس يألو حذره يابن حرب خذه أو فابعث بما ... نشترى عجلا بصفر عشره فلعل الله يحييه لنا ... إن ضربناه ببعض البقره فهو قد أدرك نوحا، فعسى ... عنده من علم نوح خبره أبدا يقرأ من أبصره ... أئذا كنّا عظاما نخره وقال فيه: يابن حرب أطلعت فقرى برفوى ... طيلسانا قد كنت عنه غنيّا فهو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار غدوة وعشيّا زرت فيه معاشرا فازدرونى ... فتغنّيت إذ رأونى زريّا جئت في زىّ سائل كى أراكم ... وعلى الباب قد وقفت مليّا وقال فيه: وهبت لنا ابن حرب طيلسانا ... يزيد المرء ذا الضّعة اتّضاعا يسلم صاحبى فيعيد شتمى ... لأنّ الروح يكسبه انصداعا أجيل الطّرف في طرفيه طولا ... وعرضا ما أرى إلّا رقاعا

[المأمون والحسن بن رجاء]

فلست أشكّ أن قد كان قدما ... لنوح في سفينته شراعا فقد غنّيت إذ أبصرت منه ... جوانبه على بدنى تداعى قفى قبل التفرّق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا [المأمون والحسن بن رجاء] دخل المأمون بعض الدواوين، فرأى غلاما جميلا على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا يا أمير المؤمنين الناشىء في دولتك، المتقلّب في نعمتك، المؤمّل لخدمتك، خادمك وابن خادمك الحسن بن رجاء. فقال: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. فأمر أن يرفع عن مرتبة الديوان. قال أبو إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج: قال لى أبو العباس المبرّد: ما رأيت في أصحاب السلطان مثل إسماعيل والحسن؛ كنت إذا رأيته رأيت رجلا كأنما خلق لذروة منبر، أو صدر مجلس، يتكلّم وكأنه يتنفّس، يسهب ويطنب، ويعرب ويغرب، ولا يعجب ويعجب. أراد القاضى إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، والحسن ابن رجاء بن أبى الضحاك. [بديهة المبرد] وكان أبو العباس يعدّ في البلغاء، وقال: لما دخلت على المتوكل اختار لى الفتح ابن خاقان وقت شربه، وكان الشراب قد أخذ منه، فسألنى وقال: يا بصرى، أرأيت أحسن وجها منّى، فقلت: لا والله ولا أسمح راحة، ثم تجاسرت فقلت: جهرت بحلفة لا أتّقيها ... بشكّ في اليمين ولا ارتياب بأنك أحسن الخلفاء وجها ... وأسمح راحتين، ولا أحابى وأنّ مطيعك الأعلى محلّا ... ومن عاصاك يهوى في تباب «1»

[من أدب المبرد]

فقال: أحسنت وأجملت في حسن طبعك وبديهتك، فقلت: ما ظننتنى أبلغ هذا الشرف، ولا أنال هذه الرتبة؛ فلا زال أمير المؤمنين يسمو بخدمه إلى أعلى المراتب، ويصرّفهم في المذاهب. [من أدب المبرد] وكان ابن المعتزّ قد غضب على بعض وكلائه، فصار إلى أبى العباس المبرّد يسأله أن يكلمه له؛ فكتب إليه المبرّد: أنت والله كما قال مسلم بن الوليد في جدك الرشيد: بابى وأمى أنت ما أندى يدا ... وأبرّ ميثاقا، وما أزكاكا يغدو وعدوّك خائفا، فإذا رأى ... أن قد قدرت على العقاب رجاكا وهذا معنى كثير. [فى المدح] أنشد أحمد بن يحيى ثعلب الأعرابى: كريم يغض الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوانى «1» وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان وهذا يناسب قول ابن المعتز في بعض جهاته: ويجرح أحشائى بعين مريضة ... كمالان متن السيف والحدّ قاطع وقال الأخطل في بنى مروان: صمّ عن الجهل، عن قيل الخنا أنف ... إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا «2» وقال إبراهيم بن علىّ بن هرمة يمدح أبا جعفر المنصور: كريم له وجهان: وجه لدى الرضا ... طليق، ووجه في الكريهة باسل وليس بمعطى الحقّ من غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل له لحظات من حفافى سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل

[بين جميل وعمر بن أبى ربيعة]

فأمّ الذى أمّنت آمنة الرّدى ... وأمّ الذى حاولت بالثكل ثاكل وقال الطائى في أبى سعيد محمد بن يوسف: هو السيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع وكان عصابة الجرجانى، واسمه إسماعيل بن محمد، منقطعا إلى الحسن بن رجاء متصلا به، وهو القائل فيه: ومحجّب بالنور ليس بمدرك ... إلا بما تأتى به الأنباء ملك يحبّ الله فهو بحبّه ... ويطيعه فتطيعه الأشياء يمشى الهوينا للصلاة يقيمها ... وإذا مشى للحرب فالخيلاء لله درّك أيما ابن عزيمة ... يشوى الزمان وماله إشواء ثم عتب عليه في بعض الأمر، فهجاه هجاء قبيحا؛ فهرب إلى عمان، ثم اعتذر إليه بقصيدته التي أولها: لا تخضبنّ عوالى المرّان ... إلا من العلق النّجيع الآن «1» وهي أجود شعر قيل في معناه، وهي التي يقول فيها: اقر السلام على الأمير، وقل له: ... إن المنادمة الرضاع الثّانى ما إن أتى حشمى بأنّك ساخط ... حتى استخف بموضعى غلمانى وغدت علىّ مطاعمى ومشاربى ... وملابسى من أعون الأعوان فكتب إليه الحسن: أبلغ أبا إسحاق أنّ محلّه ... منى بحيث الرأس والعينان لا تبعدّن بك الديار لنزغة ... ولتبعدنّ نوازغ الشيطان فليفرخ الرّوع الذى روّعته ... إن المحل محلّ كلّ أمان [بين جميل وعمر بن أبى ربيعة] اجتمع جميل بن معمر العذرى بعمر بن أبى ربيعة المخزومى، فأنشده جميل وتصيدته التي أولها:

لقد فرح الواشون أن صرمت حبلى ... بثينة أو أبدت لنا جانب البخل يقولون: مهلا يا جميل، وإنّنى ... لأقسم مالى عن بثينة من مهل خليلىّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلى نقله أبو العتاهية، فقال: يا من رأى قبلى قتيلا بكى ... من شدّة الوجد على القاتل فلما أتمّها قال لعمر: يا أبا الخطاب، هل قلت في هذا الروىّ شيئا؟ قال: نعم، ثم أنشده: جرى ناصح بالود بينى وبينها ... فعرّضنى يوم الحصاب إلى قتلى فما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وموقفها يوما بقارعة النخل فلما تواقفتا عرفت الذى بها ... كمثل الذى بى حذوك النّعل بالنّعل فسلّمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدوّ مكانى أو يرى حاسد فعلى وأقبل أمثال الدّمى يكتنفنها ... وكلّ يفدّى بالمودّة والأهل فقالت وأرخت جانب السّتر: إنما ... معى فتكلّم غير ذى رقبة أهلى فقلت لها: ما بى لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّى ليس يحمله مثلى فاستخذى جميل وصاح: هذا والله الذى طلبت الشعراء فأخطأته، فتعلّلوا بوصف الديار، ونعت الأطلال. ولما مات عمر بن أبى ربيعة نعى لامرأة من مولّدات مكة، وكانت بالشام، فبكت وقالت: من لأباطح مكة؟ ومن يمدح نساءها، ويصف محاسنهن، ويبكى طاعتهن؟! فقيل لها: قد نشأ فتى من ولد عثمان بن عفان «1» على طريقته، فقالت: أنشدونى له، فأنشدوها: وقد أرسلت في السر ليلى بأن أقم ... ولا تقربنّا فالتجنّب أجمل لعلّ العيون الرامقات لوصلنا ... تكذب عنّا أو تنام فتغفل أناس أمنّاهم فبثوا حديثنا ... فلما كتمنا السرّ عنهم تقوّلوا

فما حفظوا العهد الذى كان بيننا ... ولا حين همّوا بالقطيعة أجملوا فتسلّت وقالت: هذا أجلّ عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذى خلف على حرمه وأمته مثل هذا. وقال عروة بن أذينة: أنشدت ابن أبى عتيق للعرجى: فما ليلة عندى وإن قيل ليلة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر بعادلة الإثنين، عندى وبالحرى ... يكون سواء مثلها ليلة القدر وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لجارتها: قومى سلى لى عن الوتر فجاءت تقول الناس في ست عشرة ... ولا تعجلى عنه فإنك في أجر فقال ابن أبى عتيق: هذه أفقه من ابن أبى شهاب؛ أشهدكم أنّها حرّة من مالى إن أجاز أهلها ذلك. والعرجىّ هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بعرج الطائف فنسب إليه، وهو القائل: هل في ادّكارى الحبيب من حرج ... أم هل لهمّ الفؤاد من فرج أم كيف أنسى مسيرنا حرما ... يوم حللنا بالنّخل من أمج «1» يوم يقول الرسول قد أذنت ... فات على غير رقبة فلج «2» أقبلت أهوى إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج وكان محمد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم واليا على مكة- وهو خال هشام بن عبد الملك- بلغه أنّ العرجىّ هجاه، فضربه ضربا مبرحا، وأقامه على أعين الناس، فجعل يقول: سيغضب لى الخليفة بعد رقّى ... ويسأل أهل مكة عن مساقى علىّ عباءة برقاء ليست ... من البلوى تجاوز نصف ساقى وتغضب لى بأسرتها قصىّ ... ولاة الشعب والطّرق العماق

جملة من الفصول القصار لابن المعتز

فخلف محمد بن هشام ألا يخرجه ما دامت له ولاية؛ فأقام في السجن سبع سنين حتى مات، وهو القائل في سجنه: أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر وخلّونى ومعترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتهم لنحرى كأنى لم أكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتى في آل عمرو أجرّر في الجوامع كلّ يوم ... ألا لله مظلمتى وهصرى عسى الملك المجيب لمن دعاه ... سينجينى فيعلم كيف شكرى فأجزى بالكرامة أهل ودّى ... وأجزى بالضغائن أهل ضرّى جملة من الفصول القصار لابن المعتز البشر دال على السخاء كما يدلّ النّور على الثمر. إذا اضطررت إلى الكذّاب فلا تصدّقه، ولا تعلمه أنك تكذّبه، فينتقل عن ودّه، ولا ينتقل عن طبعه. كما أن الشمس لا يخفى ضوءها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبىّ لا تخفى غريزة عقله وإن كان مغمورا بأخلاق الحداثة. كرم الله عزّ وجل لا ينقض حكمته، ولذلك لا يجعل الإجابة في كل دعوة. كما أنّ جلاء السيف أهون من صنعه، كذلك استصلاح الصديق أهون من اكتساب غيره. إذا استرجع الله مواهب الدنيا كانت مواهب الآخرة. لولا ظلمة الخطا ما أشرق نور الصواب. الحوادث الممضّة مكسبة لحظوظ جزيلة: من صواب مدّخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف بقدر النعمة، ومرون على مقارعة الدهر. ومثل هذا الفصل محفوظ عن ذى الرياستين، قاله بعقب علّة فأغار عليه ابن المعتز. وكتب إلى أحمد بن محمد جوابا عن كتاب استزاده فيه: قيّد نعمتى عندك

بما كنت استدعيتها به، وذبّ عنها أسباب سوء الظن، واستدم ما تحبّ منى بما أحبّ منك. وكتب إليه: والله لا قابل إحسانك منى كفر، ولا تبع إحسانى إليك منّ، ولك عندى يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، فتجنّب ما يسخطنى؛ فإنى أصون وجهك عن ذلّ الاعتذار. وكان أحمد بن سعيد يؤدّبه فتحمل البلاذرى على قبيحة أم ابن المعتز بقوم سألوا أن تأذن له أن يدخل إلى ابن المعتز وقتا من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، قال ابن سعيد: فلما اتصل الخبر بى جلست في منزلى غضبان لما بلغنى عنها، فكتب إلىّ ابن المعتز وله ثلاث عشرة سنة. أصبحت يابن سعيد خدن مكرمة ... عنها يقصّر من يحفى وينتعل سر بلتنى حكمة قد هذّبت شيمى ... وأجّجت نار ذهنى فهى تشتعل أكون إن شئت قسّا في خطابته ... أو حرثا وهو يوم الحفل مرتجل وان أشأ فكر زيد في فرائضه ... أو مثل نعمان لما ضاقت الحيل أو الخليل عروضيّا أخا فطن ... أو الكسائىّ نحويّا له علل تعلو بداهة ذهنى في مراكبها ... كمثل ما عرفت آبائى الأول وفي فمى صارم ماسلّه أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل عقباك شكر طويل لا نفاد له ... يبقى بجدته ما أطّت الإبل وقسّ الذى ذكر: هو قسّ بن ساعدة الإيادى، وقد سمع النبىّ صلى الله عليه وسلم شعره، وعجب منه. وحارث: هو الحارث بن حلّزة اليشكرى، وصف ارتجاله يوم فخره بقصيدته التى أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أولها: آذنتنا ببينها أسماء ... ربّ ثاو يملّ منه الثّواء وزيد: هو زيد بن ثابت الأنصارى، وإليه انتهى علم الفرائض. ونعمان: هو

[من ابن العميد إلى بعض إخوانه]

أبو حنيفة النعمان- رضي الله عنه- بن ثابت، سبق أهل العراق في الفقه. والخليل بن أحمد الفرهودى، ويقال: الفراهيدى، منسوب إلى حىّ من الأزد، اليحمرى. والكسائى: على بن حمزة الكوفى. [من ابن العميد إلى بعض إخوانه] وكتب أبو الفضل محمد بن العميد إلى بعض إخوانه: أنا أشكو إليك- جعلنى الله فداك- دهرا خؤونا غدورا، وزمانا خدوعا غرورا، لا يمنح ما يمنح إلا ريث ما ينتزع، ولا يبقى فيما يهب إلا ريث ما يرتجع، يبدو خيره لمعا ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعا ثم يمتنع. وكانت منه شيمة مألوفة، وسجيّة معروفة، أن يشفع ما يبرمه بقرب انتقاض، ويهدى لما يبسطه وشك انقباض، وكنا نلبسه على ما شرط، وإن خان وقسط؛ ونرضى على الرغم بحكمه، ونستئمّ بقصده وظلمه، ونعتدّ من أسباب المسرة ألّا يجىء محذوره مصمتا بلا انفراج، ولا يأتى مكروهه صرفا بلا مزاج، ونتعلّل بما نختلسه من غفلاته، ونسترقه من ساعاته. وقد استحدث غير ما عرفناه سنّة مبتدعة، وشريعة متّبعة، وأعدّ لكل صالحة من الفساد حالا، وقرن بكلّ خلّة من المكروه خلالا. وبيان ذلك- جعلنى الله فداك- أنه كان يقنع من معارضته الإلفين، بتفريق ذات البين، فقد أنثنى ممنوّا فيك بجميع ما أوغره، وما أطويه من البلوى منك أكثر مما أنشره، وأحسبنى قد ظلمت الدهر بسوء الثناء عليه، وألزمته جرما لم يكن قدره بما يحيط به، وقدرته ترتقى إليه، ولو أنك أعنته وظاهرته، وقصدت صرفه وآزرته، وبعتنى بيع الخلق وليس فيمن زاد ولكن فيمن نقص، ثم أعرضت عنى إعراض غير مراجع، واطّرحتنى اطراح غير مجامل؛ فهلّا وجدت نفسك أهلا للجميل حين لم تجدنى هناك، وأنفذت من جلّ ما عقدت من غير جريمة، ونكثت ما عهدت من غير جريرة، فأجبنى عن واحدة منهما؛ ما هذا التّغالى بنفسك،

والتّعالى على صديقك؟ ولم نبذتنى نبذ النّواة، وطرحتنى طرح القذاة؟ ولم تلفظنى من فيك، وتمجّنى من خلقك؟ وأنا الحلال الحلو، والبارد العذب، كيف لا تخطرنى ببالك خطرة، وتصيّرنى من أشغالك مرة؛ فترسل سلاما إن لم تتجشم مكاتبة، وتذكرنى فيمن تذكر إن لم تكن مخاطبة؟ وأحسب كتابى سيرد عليك فتنكره حتى تتثبّت، ولا تجمع بين اسم كاتبه وتصوّر شخصه حتى تتذكّر؛ فقد صرت عندك ممن محا النسيان صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك، ولعلك أيضا تتعجب من طمعى فيك وقد تولّيت، واستمالتى لك وقد أبيت، ولا عجب فقد يتفجّر الصّخر بالماء الزلال، ويلين من هو أقسى منك قلبا فيعود إلى الوصال، وآخر ما أقوله أنّ ودّى وقف عليك، وحبس في سبيلك، ومتى عدت إليه وجدته غضّا طريّا، فجرّبه في المعاودة فإنه في العود أحمد. اجتليت هذا الكلام على اختيار الاختصار. حلّ قوله «فقد يتفجر الصخر بالماء الزلال» من قول ابن الرومى: يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال ... جد فقد تنفجر الصّخرة بالماء الزّلال وفي هذه الرسالة في ذكر فتح وإن لم يستبق منه المعنى: وقد خصنا الله تعالى معاشر عبد الأمير عضد الدولة بنعمة يعلو مراتب النعم موقعها، ويفوت مقدار المواهب موضعها، فباسمه- أبقاه الله- فتح الفتح، وبشعاره استنزل النّجح، وبيمن نقييته فرج الكرب، وبسعادة جدّه كشف الخطب، وباهتزازه للدولة وحمايته عاد إليها ماؤها، وراجعها بهاؤها، فعزّ الملك ونصر، وذلّ العدو وقهر، وحميت أطراف الدولة، وحفظت أكناف المّلة، واستجدّ نظام النعمة، وسدلت ستور الصيانة دون الحرمة؛ ولو جعل المولى- تقدّس اسمه- لنعمته إذا تناهت على عبيده جزاء غير الإخلاص في شكره، وقبل ما في مقابلة الموهبة التي بستجدها عند خلقه غير

[من بديع ما قيل في العتاب]

الإغراق في حمده، لرأيت ألّا أقتصر في قضاء حقه على بعض الملك دون بعض، ولجعلت في صدر ما أبذل عن هذه النعمة الأعزّين: الأهل والولد، والأنصرين: الساعد والعضد، بل العميدين: القلب والكبد؛ بل النفس كلها، والمهجة بأسرها. [من بديع ما قيل في العتاب] وقال سعيد بن حميد يعاتب بعض إخوانه: أفلل عتابك فالبقاء قليل ... والدّهر يعدل تارة ويميل لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلّا بكيت عليه حين يزول ولكلّ نائبة ألّمت مدّة ... ولكل حال أقبلت تحويل والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل ولعل أحداث المنيّة والرّدى ... يوما ستصدع بيننا وتحول فلئن سبقت لتبكينّ بحسرة ... وليكثرنّ علىّ منك عويل ولتفجعنّ بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول ولئن سبقت- ولا سبقت- ليمضين ... من لا يشاكله لدىّ خليل وليذهبنّ بها كلّ مروءة ... وليفقدنّ جمالها المأهول «1» وأراك تكلف بالعتاب وودّنا ... ضاف عليه من الوفاء دليل ودّ بدا لذوى الإخاء جماله ... وبدت عليه بهجة وقبول ولعل أيام الحياة قليلة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول وقال أيضا: لقد ساءنى أن ليس لى عنك مذهب ... ولا لك عن سوء الخليقة مرغب أفكر في ودّ تقادم بيننا ... وفي دونه قربى لمن يتقرّب وأنت سقيم الودّ رثّ حباله ... وخير من الودّ السقيم التجنّب

[من كلام الأعراب]

تسىء وتأبى أن تعقّب بعده ... بحسنى، وتلقانى كأنى مذنب وأحذر إن جازيت بالسوء والقلى ... مقالة أقوام هم منك أنجب أساء اختيارا أو عرته ملالة ... فعاد يسىء الظنّ أو يتعتّب فخبت من الودّ الذى كان بيننا ... كما خاب راجى البرق والبرق خلّب وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: إلى كم يكون الصّدّ في كل ساعة ... ولم لا تملّنّ القطيعة والهجرا؟ رويدك! إنّ الدهر فيه بقيّة ... لتفريق ذات البين فانتظر الدّهرا آخر: ولقد علمت فلا تكن متجنّبا ... أنّ الصدود هو الفراق الأوّل حسب الأحبّة أن يفرّق بينهم ... صرف الزمان، فما لنا نستعجل؟ آخر: ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر ويقرب من المعنى قول المتنبى أيضا: زوّدينا من حسن وجهك مادا ... م فحسن الوجوه حال يحول وصلينا نصلك في هذه الدّنيا فإنّ المقام فيها قليل [من كلام الأعراب] وقف أعرابىّ يسأل، فعبث به فتى، فقال: ممن أنت؟ فقال: من بنى عامر ابن صعصعة، فقال: من أيّهم؟ فقال: إن كنت أردت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار من المعرفة، فليس مقامى بمقام مجادلة ولا مفاخرة، وأنا أقول: فإن لم أكن من هاماتهم فلست من أعجازهم. فقال الفتى: ما رويت عن فضيلتك إلا النقص فى حسبك فامتعض الأعرابى لذلك؛ فجعل الفتى يعتذر، ويخلط الهزل والدعابة باعتذاره،

[المقامة البلخية]

وأطال الكلام، فقال له الأعرابى: يا هذا، إنك منذ اليوم آذيتنى بمزحك، وقطعتنى عن مسألتى بكلامك واعتذارك، وإنك لتكشف عن جهلك بكلامك ما كان السكوت يستره من أمرك، ويحك! إنّ الجاهل إن مزح أسخط، وإن اعتذر أفرط، وإن حدّث أسقط، وإن قدر تسلّط، وإن عزم على أمر تورّط، وإن جلس مجلس الوقار تبسّط؛ أعوذ منك ومن حال اضطراتنى إلى احتمال مثلك! وقال إسحاق الموصلى: قال أعرابى لرجل كان يعتمده بالعطية: أسأل الذى رحمنى بك أن يرحمك بى. وسأل أعرابى رجلا، فأعطاه، فقال: الحمد لله الذى ساقنى إلى الرزق وساقك إلى الأجر: [المقامة البلخيّة] ومن انشاء البديع من مقامات الإسكندرى: قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: أفضت بى إلى بلخ تجارة البزّ، فوردتها وأنا بفروة الشباب «1» وبال الفراغ، وحلية الثروة، لا يهمّنى إلا نزهة فكر أستفيدها «2» وشريدة من الكلام أصيدها؛ فما استأذن على سمعى مسافة مقامى، أفصح من كلامى. ولمّا حنى التفرق بنا قوسه أو كاد، دخل إلى شابّ في زى ملء العين، ولحية تشوك الأخدعين «3» ، وطرف قد شرب بماء الرّافدين «4» ، ولقينى من البرّ في السناء، بما زدته من الشكر والثناء؛ ثم قال: أظعنا تريد؟ قلت:

إى والله، فقال: أخصب الله رائدك، ولا أضلّ قائدك، فمتى عزمت؟ فقلت: غداة غد، فقال: صباح الله لا صبح انطلاق ... وطير الوصل لا طير الفراق قال: أين تريد؟ قلت: الوطن، قال: بلّغت الوطن، وقضيت الوطر، فمتى العود؟ قلت: القابل، قال: طويت الرّيط «1» ، وثنيت الخيط، فأبن أنت من الكرم؟ قلت: بحيث أردت، قال: إذا رجعك الله من هذه الطريق، فاستصحب لى عدوّا في بردة صديق، من نجار الصّفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدّين، وينافق بوجهين! فعلمت أنه يلتمس دينارا، قلت: لك ذلك نقدا، ومثله وعدا، فأنشأ يقول: رأيك ممّا خطبت أعلى ... لا زلت للمكرمات أهلا صلبت عودا وفقت جودا ... وطبت فرعا وطبت أصلا لا أستطيع العطاء حملا ... ولا أطيق السؤال ثقلا قصرت عن منتهاك ظنّا ... وطلت عما ظننت فعلا يا رحمة الله والمعالى ... لا لقى الدّهر منك ثكلا «2» قال عيسى بن هشام: فنلته الدينار، وقلت: من أين نبت هذا الفضل؟ قال: نمتنى قريش، ومهد لى الشرف في بطحائها. فقال بعض من حضر: ألست أبا الفتح السكندرى؟ ألم أرك بالعراق، تطوف بالأسواق، مكدّيا بالأوراق «3» ؟ فأنشأ يقول:

[من البديع إلى الميكالى]

إنّ لله عبيدا ... أخذوا العمر خليطا فهم يمسون أعرا ... با ويضحون نبيطا «1» [من البديع إلى الميكالى] وله إلى أبى نصر الميكالى يشكو إليه خليفته بهراة: كتابى أطال الله بقاء الشيخ الجليل، والماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه، كذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذا طال ثواؤه، ويثقل ظلّه، اذا انتهى محلّه، وقد حلبت أشطر خمسة أشهر بهراة وإن لم تكن دار مثلى لولا مقامه، وما كانت تسعنى لولا ذمامه، ولى في بيتى قيس مثل صدق، وإن صدرا مصدر عشق: وأدنيتنى حتى إذا ما سبيتنى ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح تجافيت عنى حيث لا لى حيلة ... وخلّفت ما خلّفت بين الجوانح نعم. قنصتنى نعم الشيخ الجليل، فلما علق الجناح، وقلق البراح، طرت مطار الريح، بل مطار الرّوح. وتركتنى بين قوم ينقض مسّهم الطهارة، وتوهن أكفّهم الحجارة. وحدّثت عن هذا الخليفة، بل الجيفة، أنه قال: قضيت لفلان خمسين حاجة منذ ورد هذا البلد، وليس يقنع، فما أصنع؟ فقلت: يا أحمق، إن استطعت أن ترانى محتاجا، فاستطع أن أراك محتاجا إليك. أفّ لقولك ولفعلك، ولدهر أحوج إلى مثلك! وأنا أسأل الشيخ الجليل أن يبيّض وجهى بكتاب يسوّد وجهه، ويعرّفه قدره، ويملأ رعبا صدره، إلى أن تبين على صفحات جنبه، آثار ذنبه. وله إليه يعاتبه: قد عرف الشيخ الجليل اتسامى بعبوديّته، ولو عرفت وراء العبوديّة مكانا لبلغته معه، وأرانى كلما قدمت صحبة، رجعت رتبة، وكلما طالت خدمة، قصرت

[بين المأمون وإبراهيم بن المهدى]

حشمة، ولست ممن يذهب عليه أن للسلطان أن يرفع عبدا حبشيا، ويضع قرشيّا، ولكن أحب أن أقف من مكانى على رتبة كوكبها لا يغور، ومنزلة لولبها لا يدور؛ فإذا عرفت قدرى وخطه، لم أتخطّه، ثم إن رأيت محلّى وحدّه، لم أتعدّه، إن قدّمنى يوما عليها علمت أن عناية قدمتنى، وإن أخّرنى عنها علمت أنّ جناية أخرتنى. رفع علىّ اليوم فلان ولست أنكر سنّه وفضله، ولا أجحد بيته وأصله، ولكن لم تجر العادة بتقدّمه، لا في الأيام الخالية، ولا في هذه الأيام العالية؛ وشديد على الإنسان ما لم يعوّد؛ فإن كان حاسد قد همّ، أو كاشح قد نمّ، أو خطب قد ألمّ، أو أمر قد وقع وتمّ، فالشيخ الجليل أولى من يعرفه ويعرّفنيه، وإلا فما الرأى الذى أوجب اصطناعى، ثم ضياعى، والسبب الذى اقتضى بيعى بعد ابتياعى؟ [بين المأمون وإبراهيم بن المهدى] ولما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدى أمر به فأدخل عليه، فلما وقف بين يديه قال: ولىّ الثأر محكّم في القصاص، ومن تناوله الاغترار بما مدّله من أسباب الرجاء أمن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله تعالى فوق كل ذى ذنب، كما جعل كلّ ذى ذنب دونك، فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك. ثم قال: ذنبى إليك عظيم ... وأنت أعظم منه فخذ بحقّك، أو لا ... فاصفح بفضلك عنه إن لم أكن في فعالى ... من الكرام فكنه فقال لى: إنى شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك، فأشارا به، قال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت لهما: بدأناه بإحسان، ونحن نستأمره فيه، فإن غيّر فالله يغير ما به، قال: أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جرت عليه السياسة

فقد فعلا وبلغا ما يبلغك، وهو الرأى السديد، ولكنك أبيت ألا تستجلب النصر إلّا من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا، فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلا! إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: إنه وإن كان قد بلغ جرمى استحلال دمى، فعلم أمير المؤمنين وفضله بلغانى عفوه، ولى بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحقّ الأبوة بعد الأب. فقال: يا إبراهيم، لقد حبّب إلىّ العفو حتى خفت ألّا أوجر عليه، أما لو علم الناس مالنا في العفو من اللذة لتقرّبوا إلينا بالجنايات، لا تثريب عليك يغفر الله لك، ولو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أملت حسن تنصلك ولطف توصلك ثم أمر بردّ ضياعه وأمواله، فقال: رددت مالى ولم تبخل علىّ به ... وقبل ردّك مالى قد حقنت دمى وقام علمك بى فاحتجّ عندك لى ... مقام شاهد عدل غير متّهم فلو بذلت دمى أبغى رضاك به ... والمال حتى أسلّ النّعل من قدمى ما كان ذاك سوى عارّية سلفت ... لو لم تهبها لكنت اليوم لم تلم أخذ معنى قول المأمون: «لقد حبّب إلىّ العفو حتى خفت ألا أوجر عليه» أبو تمام الطائى فقال: لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذة وقريحة لم تخمد فكان أبو تمام في هذا كما قال أبو العباس المعتز في القاسم بن عبيد الله: إذا ما مدحناه استعنّا بفعله ... فنأخذ معنى قولنا من فعاله وكان تصويب إبراهيم لرأى أبى إسحاق المعتصم والعباس بن المأمون ألطف فى طلب الرضا ودفع المكروه واستمالتهما إلى العاطفة عليه من الإزراء عليهما في رأيهما، وكان إبراهيم يقول: والله ما عفا عنى لرحم ولا لمحبة؛ ولكن قامت له سوق في العفو كره أن يفسدها [بى] . وكان المأمون شاور في قتل إبراهيم أحمد بن أبى خالد الأحول، فقال:

[بين المأمون وإسحاق بن العباس]

إن قتلته فلك نظير؛ وان عفوت عنه فلا نظير لك؛ فأختار لك العفو. [بين المأمون وإسحاق بن العباس] وقال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبنى أغفلت أمر ابن المهدى وتأبيدك له، وإيقادك لناره. قال: والله يا أمير المؤمنين لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمى إليك؛ ولرحمى أمسّ بك من أرحامهم؛ وقد قال لهم كما قال يوسف؛ على نبينا وعليه الصلاة والسلام لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» . وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه الأمة في الطّول، وممتثل لخلال العفو والفضل. قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك، وفي دار خلافتك. قال: يا أمير المؤمنين؛ فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر. وهذا كتاب الله بينى وبينك إذ يقول: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضّرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين» . والناس يا أمير المؤمنين نسبة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف. قال: صدقت، وريت بك زنادى، ولا برحت أرى من أهلك أمثالك. [رجل يستعطف بعض الملوك] وقال رجل لبعض الملوك وقد وقف بين يديه: أسألك بالذى أنت بين يديه غدا أذلّ منى بين يديك اليوم، وهو على عقابك أقدر منك على عقابى، إلا ما نظرت فى أمرى نظر من برئى أحبّ إليه من سقمى، وبراءتى أحبّ إليه من بليتى. [بين معاوية وروح بن زنباع] وأراد معاوية عقوبة روح بن زنباع فقال: يا أمير المؤمنين: أنشدك الله تعالى

[عفو الملوك]

ألّا تضع منى خسيسة أنت رفعتها، أو تنقض منى مريرة «1» أنت أبرمتها، أو تشمت بى عدوّا أنت كبتّه، وحاسدا بك وقمته «2» ؛ وأسألك بالله إلا أربى «3» حلمك على خطئى وصفحك على جهلى. فقال معاوية رضي الله عنه: إذا الله ثنّى عقد شىء تيسّرا. أشار إلى هذا أبو الطيب المتنبى إذ قال: أزل حسد الحسّاد عنى بكبتهم ... فأنت الذى صيرتهم لى حسّدا إذا شدّ زندى حسن رأيك في يدى ... ضربت بسيف يقطع الهام مغمدا [عفو الملوك] وعتب المأمون على بعض خاصته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة. قال: صدقت، وعفا عنه. وكان في ملوك فارس ملك عظيم المملكة، شديد النقمة، فقرّب له صاحب المطبخ طعامه، فنقطت نقطة من الطعام على المائدة، فزوى له الملك وجهه، وعلم صاحب المطبخ أنّه قاتله، فعمد إلى الصّحفة فكفأها على المائدة ثم ولّى، فقال له الملك: ما حملك على ما فعلت، وقد علمت أن سقوط النّقطة أخطأت بها يدك ولم يجربها تعمّدك، فما عندك في الثانية؟ قال: استحيت للملك أن يوجب قتلى، ويبيح دم مثلى، فى سنّى وحرمتى، وقديم اختصاصى وخدمتى، فى نقطة أخطأت بها يدى، فأردت أن يعظم ذنبى ليحسن بالملك قتلى. قال: لئن كان اعتذارك ينجيك من القتل، فليس ينجيك من التأديب؛ اجلدوه مائة جلدة، واخلعوا عليه خلع الرّضا. وخرج بهرام جور متصيدا فعنّ له حمار وحش، فأتبعه حتى صرعه، وقد انقطع عن أصحابه، فنزل عن فرسه يريد ذبحه، وبصر براع فقال: أمسك علىّ فرسى، وتشاغل بذبح الحمار، وحانت منه التفاتة، فنظر إلى الراعى يقطع جوهر عذار فرسه، فحوّل بهرام جور وجهه وقال: تأمّل العيب عيب، وعقوبة

من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سفه، والعفو من أفعال الملوك، وسرعة العقوبة من أفعال العامة. ثم قال: يا غلام، ما بال شريانك يضطرب لعلّك آذاك تكسيرنا أرضك بحوافر خيلنا، فقال: نعم، وقد عزمت على أن أنقلع مائة فرسخ، فقال بهرام: لا ترع؛ فهذا الموضع وما فيه لك، وكان الراعى خبيثا، فقال: إن الملوك إذ قالت قولا تمّت على قولها، فرجع بهرام إلى عسكره وقال: اتبعنى لأوثّق لك من هذه الأرض، فاتّبعه، فلما بصر به الوزير قال: أيها الملك السعيد، إنى لأرى جوهر عذار فرسك مقلّعا، فتبسم وقال: أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينمّ به، فمن أخذه صاحبنا ولا نطالبه به. نقل ابن الرومى قول بهرام: «تأمل العيب عيب» كما اتفق موزونا فقال: تأمّل العيب عيب ... ما في الذى قلت ريب وكلّ خير وشرّ ... دون العواقب غيب ورب جلباب همّ ... فيه من الصّنع جيب لا تحقرنّ سييبا ... كم قاد خيرا سييب «1» أخذ البيت الأخير من قول الطائى: ربّ قليل غدا كثيرا ... كم مطر بدؤه مطير وقوله: لا تزيلن صغير همّك وانظر ... كم بذى الأثل دوحة من قضيب وقد أعاد ابن الرومى قوله: وكلّ خير وشر ... دون العواقب غيب

[من اعتذارات البديع]

فى قصيدته التي مدح بها أحمد بن محمد بن ثوابة حين ساوره، وقال: لو أتى لبيد لتعجّب منه، فاستجز له وقال: ولمّا دعانى للمثوبة سيّد ... يرى المدح عارا قبل بذل المثاوب تنازعنى رغب ورهب كلاهما ... قوىّ، وأعيانى طلوع المعايب فقدّمت رجلا رغبة في رغيبة ... وأخّرت رجلا رهبة للمعاطب أخاف على نفسى وأرجو مفازها ... وأستار غيب الله دون العواقب ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ... ومن أين والغايات بعد المذاهب [من اعتذارات البديع] نسخة رقعة كتبها بديع الزمان إلى أبى على إسماعيل يعتذر إليه: سوء الأدب من سكر النّدب، وسكر الغضب من الكبائر التي تنالها المغفرة، وتسعها المعذرة، وقد جرى بحضرة الشيخ ما جرى، وقد أفنيت يدى عضّا، وأسنانى رضّا، وإن لم أوف ما جرى فالعذر أمدّ خطا، فإن كان بساطا يطوى، وحديثا لا يروى، فأولى من عذر اللاعب، وأحرى من غفر الصاحب؛ وإن كان ميتا ينشر، وسببا يذكر، فليكن العقاب ما كان، إن لم يكن الهجران، على أنى قد أخذت قسطى من العقاب، واستفدت من ردّ الجواب، ما كفى وأوجع القفا؛ فكان من موجب أدب الخدمة، إبقاء الحشمة لولىّ النعمة، باحتمال الشتم، والإغضاء عن الخصم، لكنى أحدقت بى ثلاثة أحوال لا يسلم صاحبها: اللعب وسكره، والخصم وهجره، والإدلال والثقة، وهنّ اللواتى حملننى على ماء الوجه فهرقته، وحجاب الحشمة فخرقته، وقد منعنى الآن فرط الحياء من وشك اللقاء، وعهدى بوجهى وهو أصفق من العدم الذى حملنى على جهله، وأوقح من الدهر الذى أحوجنى إلى أهله؛ لكن النعم إذا توالت على وجه رقّقت قشرته، وألانت بشرته؛ وأنا منتظر من الجواب ما يريش جناحى إلى خدمته، فإن رأى أن يكتب فعل، إن شاء الله.

وله رقعة إلى أبى على بن مشكويه أولها: ويا عزّ إن واش وشى بى عندكم ... فلا تمهليه أن تقولى له: مهلا كما لو وشى واش بعزّة عندنا ... لقلنا: تزحزح لا قريبا ولا أهلا بلغنى أطال الله بقاء الشيخ أن قيضة كلب «1» وافته بأحاديث لم يعرها ألحقّ نوره، ولا الصدق ظهوره، وأنه- أدام الله عزّه- أذن لها على مجال أذنه، وفسح لها فناء ظنّه، ومعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها؛ بل قد كان بينى وبين الشيخ عتاب لا ينزل كنفه ولا يجدف، وحديث لا يتعدّى النفس وضميرها، ولا يعرف الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل، لا تتجاوز الدّلال والإدلال، ووحشة لا يكشقها عتاب لحظة، كعتاب جحظة، فسبحان من ربّى هذا الأمر حتى صار أمرا، وتأبّط شرّا، وأوجب عذرا، وأوحش حرّا. وسبحان من جعلنى في حيّز العدو أشيم بارقته، وأتخوّف صاعقته، وأنا المساء إليه، والمجنىّ عليه، ولكن من بلى من الأعداء بمثل ما بليت، ورمى من الحسد بما رميت، ووقف من التوحّد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، اعتذر مظلوما، وضحك مشتوما، ولو علم الشيخ عدد أولاد الجدد، وأبناء العدد، بهذا البلد، ممن ليس له همّ إلا في سعاية أو شكاية أو حكاية أو نكاية، لضنّ بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمن لا يصونه عما رقى إليه، وهبنى قد قلت ما حكى، أليس الشّاتم من أسمع، والجانى من أبلغ؟ فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفسا لا تستفزّ، وجبلالا يهزّ، وشوا إلى خدمه بما أرّثوا نارهم «2» ، وورد علىّ ما قالوه فما لبثت أن قلت: فإن تك حرب بين قومى وقومها ... فإنى لها في كلّ نائبة سلم

فقر من كلام سهل بن هرون للمأمون

وليعلم الأستاذ أنّ في كبد الأعداء منى جمرة، وأنّ في أولاد الزنا عندنا كثرة، وقصاراهم نار يشبّونها، وعقرب يدبّبونها، ومكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر إقرار بما قيل، وأكره أن أستقيل، لبسطت في الاعتذار شاذروانا، ودخلت في الاستقالة ميدانا، لكنه أمر لم أضع أوّله، فلم أتدارك آخره. وقد أبى الشيخ أبو محمد- أيده الله- إلا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله فهاكه يلعن بعضه بعضا: مولاى إن عدت ولم ترض لى ... أن أشرب البارد لم أشرب امتط خدى وانتعل ناظرى ... وصد بكفى حمة العقرب تالله ما أنطق عن كاذب ... فيك، ولا أبرق عن خلّب فالصفو بعد الكذب المفترى ... كالصّحو عقب المطر الصّيّب «1» إن أجتن الغلظة من سيدى ... فالشوك عند الثمر الطيب أو يفسد الزّور على ناقد ... فالخمر قد يعصب بالثيّب ولعل الشيخ أبا محمد- أيده الله- يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلم واللسان؛ فنعم رائد الفضل هو، والسلام. فقر من كلام سهل بن هرون للمأمون كان المأمون استثقل سهل بن هرون، فدخل عليه يوما، والناس على مراتبهم، فتكلّم المأمون بكلام ذهب فيه كلّ مذهب؛ فلما فرغ من كلامه أقبل سهل بن هرون على الجمع فقال: مالكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفقهون، وتفهمون ولا تتعجّبون، وتتعجّبون ولا تنصفون؟ والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمكم، وعجمكم كعبيدكم، ولكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء؟ فرجع المأمون فيه إلى الرأى الأول.

[من ترجمة سهل بن هرون، وأخباره]

[من ترجمة سهل بن هرون، وأخباره] وكان أبو عمرو سهل بن هرون من أهل ميسان «1» نزل البصرة فنسب إليها، وهو القائل: يأهل ميسان السلام عليكم ... الطيبون الفرع والجذم أما الوجوه ففضّة مزجت ... ذهبا وأيد سحّة هضم «2» أتريد كلب أن أناسبها ... قد قلّ من كلب بى العلم أجعلت بيتا فوق رابية ... فرع النّجوم كأنه نجم كبييت شعر وسط مجهلة ... بفنائه الجعلان والبهم وكان سهل شعوبيا، والشعوبية: فرقة تتعصب على العرب وتنتقصها، وكان أبو عبيدة يرمى بذلك. وسهل ظريف عالم حسن البيان، وله كتب ظريفة صنّفها معارضا للأوائل فى كتبهم بما لا يستصو به منهم، حتى قيل له «بزرجمهر الإسلام» وقال يمدح رجلا: عدوّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما مذلل نفس قد أبت غير أن ترى ... مكاره ما تأتى من العيش مغنما وهذا نظير قوله في كتاب «ثعلة وعفرة» الذى عارض به كليلة ودمنة: اجعلوا أداء ما يجب عليكم من الحقوق مقدّما قبل الذى تجودون به من تفضّلكم؛ فإن تقديم النافلة مع الإبطاء عن الفريضة مظاهر على وهن العقيدة، وتقصير الرويّة، ومضرّ بالتدبير، مخلّ بالاختيار، وليس في نفع محمدته عوض من فساد المروءة ولزوم النقيصة. وكتابه هذا مملوء حكما وعلما. وسهل القائل: تقسّمنى همّان قد كسفا بالى ... وقد تركا قلبى محلّة بلبال هما أذريا دمعى، ولم تذر عبرتى ... رهينة خدر ذات سمط وخلخال ولا قهوة لم يبق منها على المدى ... سوى أن تحاكى النور في رأس ذيال تحلّل منها جرمها وتماسكت ... لها نفس معدوم على الزمن الخالى

[من عظات الحسن البصرى]

ولكنما أبكى بعين سخينة ... على حدث تبكى له عين أمثالى فراق خليل لا يقوم به الأسى ... وخلّة حرّ لا يقوم لها مالى فوا حسرتى حتّى متى القلب موجع ... لفقد خليل أو تعذر إفضال وما الفضل إلا أن تجود بنائل ... وإلا لقاء الخلّ ذى الخلق العالى وهو القائل: إذا امرؤ ضاق عنى لم يضق خلقى ... من أن يرانى غنيّا عنه بالياس لا أطلب المال كى أغنى بفضلته ... ما كان مطلبه فقرا إلى الناس وأنشد له الجاحظ يهجو رجلا: من كان يعمر ما شادت أوائله ... فأنت تعمر ما شادوا وما سمكوا ما كان في الحق أن تحوى فعالهم ... وأنت تحوى من الميراث ما تركوا وقال محمد بن زياد الزيادى: وجدت «1» على سهل بن هرون في بعض الأمر، فهجوته، فكتب إلىّ: أما بعد فالسلام على عهدك وداع ذى ضنّ بك، فى غير مقلية لك «2» ، ولا سلوة عنك، بل استسلام للبلوى في أمرك، وإقرار بالمعجزة فى استعطافك، إلى أوان فيئتك «3» ، أو يجعل الله لنا دولة من رجعتك، والسلام. وكتب في أسفل الكتاب: إن تعف عن عبدك المسىء ففى ... عفوك مأوى للفضل والمنن أتيت ما أستحقّ من خطإ ... فجد بما تستحق من حسن [من عظات الحسن البصرى] وقال الحسن البصرى رحمه الله في يوم [فطر] وقد رأى الناس وهيآتهم: إنّ الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب

ألفاظ لأهل العصر، فى التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتصل بها من الأدعية

فى اليوم الذى يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسىء بإساءته. ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفطر يتدافعون ويتضاحكون، فقال: الله المستعان! إن كان هؤلاء قد تقرّر عندهم أن صومهم قد تقبّل فما هذا محلّ الشاكرين، وإن علموا أنه لم يتقبل فما هذا محلّ الخائبين. وكان الحسن من الخطباء النّساك الفقهاء الأجواد، ويقال: إنه لم يكن تابعىّ أفضل منه. هذا قول أهل العراق جميعا، وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه، وكان سعيد أحسن من الحسن ورعا، وأشدّ الناس حذرا، وأقلهم كلاما. وكان الحسن لا يدع أن يتكلّم بما هجس في نفسه، وجاش في صدره. وعلى ذكر الحسن شهر رمضان نقول: ألفاظ لأهل العصر، فى التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتصل بها من الأدعية ساق الله تعالى إليك سعادة إهلاله، وعرّفك بركة كماله. قسم الله لك من فضله، ووفّقك لفرضه ونفله. لقّاك الله ما ترجوه، ورقاك إلى ما تحبّه فيما تتلوه. جعل الله ما أظلّك من هذا الصوم مقرونا بأفضل القبول، مؤذنا بدرك البغية ونجح المأمول، ولا أخلاك من برّ مرفوع، ودعاء مسموع. قابل الله تعالى بالقبول صيامك، وبعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك. عرّفك الله من بركاته ما يربى على عدد الصائمين والقائمين، ووفّقك الله تعالى لتحصيل أجر المتهجّدين. أسأل الله تعالى أن يضاعفه بمنه لك، ويجعله وسيلة بقبوله إلى مرضاته عنك. أعاد الله إلى مولاى أمثاله، وتقبّل فيه أعماله، وأصلح في الدين والدنيا أحواله، وبلغه منها آماله. أسعده الله بهذا الشهر، ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر، ووفّر حظّه من كل ما يرتفع من دعاء الدّاعين، وينزل من ثواب العاملين،

وقبل مساعيه وزكاها، ورفع درجاته وأعلاها، وبلّغه من الآمال منتهاها، وظفر بأبعدها وأقصاها. وقال الحسن: من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحزم في لين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبرّ في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال. وقال محمد بن سليمان لأبى السماك: بلغنى عنك شىء، قال: لا أباليه، قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان حقّا غفرته، وإن كان باطلا كذبته. وقال محمد بن صبيح المعروف بابن السماك: خير الإخوان أفلّهم مصانعة في النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البطر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا، وخير الإخوان من لم يخاصم، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وإنما يختبرودّ الرجال عند الفاقة والحاجة. ووصف بعض البلغاء رجلا فقال: إنه بسيط الكف، رحب الصّدر، موطّأ الأكناف، سهل الخلق، كريم الطباع، غيث مغيث، وبحر زخور، ضحوك السنّ، بشير الوجه، بادى القبول، غير عبوس، يستقبلك بطلاقة، ويحييّك ببشر، ويستدبرك بكرم غيب، وجميل سرّ، تبهجك طلاقته، ويرضيك بشره، ضحّاك على مائدته، عبد لضيفانه، غير ملاحظ لأكيله، بطين من العقل، خميص من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرّأى، طيّب الخلق، محصّن الضريبة، معطاء غير سائل، كاس من كل مكرمة، عار من كلّ ملامة، إن سئل بذل، وإن قال فعل. قال أبو الفتح كشاجم: مزاجك للمثنى من العود والصّبا ... من الرّيح والصافى الرقيق من الخمر فلو كنت وردا كنت وردا مضاعفا ... ولو كنت طيبا كنت من عنبر الشّحر

ولو كنت لحنا كنت تأليف معبد ... ولو كنت عودا ما افتقرت إلى زمر وقال أعرابى: ألا حبّذا البرد الذى تلبسينه ... ويا حبذا من باعك البرد من تجر «1» فلو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت درّا كنت من درّة بكر ولو كنت لهوا كنت تعليل ساعة ... ولو كنت نوما كنت إغفاءة الفجر ولو كنت ليلا كنت قمراء جنّبت ... نحوس ليالى الشّهر أو ليلة القدر تم- بحمد الله تعالى ومعونته- تحقيق الجزء الثانى من «زهر الآداب: وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى. ويليه- إن شاء واهب التوفيق والسّداد، ورازق القدرة والعون- الجزء الثالث مفتتحا ب «نبذ من ألفاظ بلغاء العصر تجرى في المدح مجرى الأمثال؛ لحسن استعاراتها، وبراعة تشبيهاتها» . نسأله- سبحانه- أن يعين على إكماله بمنّه وفضله، آمين.

فهرس الجزء الثانى من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى

فهرس الجزء الثانى من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى ص الموضوع 341 ألفاظ لأهل العصر في وصف الطعام، ومقدماته، وموائده، وآلاته 342 من شعر ابن الرومى في وصف طعام 343 مقامة لبديع الزمان في وصف الطعام 345 لعلى ابن يحيى المنجم - لابن الرومى يصف اللوزينج 347 نهم ابن الرومى وحبه للسمك 348 من الناجم إلى ابن الرومى - لابن الرومى يصف العنب الرازقى 349 ألفاظ لأهل العصر في وصف الفواكه والثمار 350 بعض ما جاء في وصف الليل - لأعرابى يصف ليل لقاء - لأعرابى يصف وفاء الصحبة - لجرير يصف يوم صيد 351 لإبراهيم بن العباس يصف قصر الليل - للأصبهانى يصف يوم لهو - لابن المعتز يصف ليل سرور - بين الرشيد وعبد الملك بن صالح 352 لأبى تمام - للخاتمى - لأهل العصر 353 سعيد بن هريم وصلته بالفضل بن سهل للتميمى يمدح الفضل بن سهل - لإبراهيم بن العباس فيه 354 لابن الرومى يمدح إبراهيم بن المدبر - لابن الرومى يمدح ابن طاهر من ترجمة الفضل بن سهل 355 مختارات من كلام الفضل بن سهل - من محمد بن على إلى محمد بن يحيى - جواب محمد يحيى بن خالد 356 رجل يريد أن ينصح المهدى - توقيعات للفضل بن سهل 357 بعض أوصاف الخيل - ابن القرية يصف فرسا - لعبد الله بن طاهر - رجل يريد شراء فرس - لمحمد بن الحسن بن الحرون 358 أبيات لتأبط شرا - لعقبة بن سنان يصف خيلا أهداها عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبى سفيان 359 للنابعة الجعدى - لبعض العرب - لأعرابى - لأعرابى آخر 360 أعرابى يصف خيل بنى يربوع

لأبى تمام يصف فرسا 361 للبحترى يصف فرسا 362 لإسحاق بن خلف يصف فرس أبى دلف - لأبى الفتح كشاجم - لابن المعتز 363 لأبى الفتح - لابن المعتز - لأعرابى مولد - لابن المعتز أيضا 364 لعلى بن محمد الإيادى - لأبى العباس الناشىء 365 لأبى منصور الثعالبى - لابن هانى يصف خيل المعز - وله يصف فرسا لجعفر بن على بن حمدون 366 وله يصف فرس إبراهيم بن جعفر ابن على 367 لعلى بن محمد الإيادى يصف فرس جعفر بن القاثم 368 لأبى الطيب المتنبى 369 مقامة لبديع الزمان فيها وصف فرس 373 قولهم في الوعد ومنزلة إنجازه - بين أبى القاسم المسعودى وعيسى ابن موسى - بين منصور بن زياد ويحيى بن خالد - بين المهدى وابن دأب 374 لابى قابوس يمدح يحيى بن خالد - لأبى الطيب المتنبى - لأبى على البصير في الفضل بن يحيى - لابن الرومى 375 من عرف قدر النعمة استدامها - بين سليمان بن عبد الملك وحاجبه - بين يونّس بن المختار وحاجب المامون - بين رجل والمعلى بن أيوب - بين المنصور والحارث بن حسان 376 بين المأمون وعبد الله بن طاهر - لأبى نواس في هذا المعنى - للناشىء يعارض أبا نواس - لابن الرومى 377 ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر 378 لأبى الفتح البستى - بين أبى العتاهية وعمر بن العلاء 380 من أخبار أبى العتاهية - ولوعه بعتبة 381 المهدى يضرب أبا العتاهية مائة سوط 382 من شعر أبى العتاهية في عتبة بين المهدى وأبى العتاهية 383 الرشيد يحبس أبا العتاهية لترك الشعر 384 بشار يمدح عمر بن العلاء 385 لأبى سعيد المخزومى في معنى بشار - لأبى الطيب المتنبى 386 لابن هانى 387 رجع إلى عمر بن العلاء - بينه وبين أبى العتاهية 389 للمتنبى في أبى العشائر الحمدانى - لأبى العتاهية في الزهد - لأبى نواس 388 ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال

389 لأبى الفضل الميكالى 389 لأبى الفتح البستى 390 بين نصيب والفرزدق 391 لسحيم عبد بنى الحساس - للمتنبى - بين أبى تمام وابن الزيات 393 لابن الزيات يمدح الحسن بن سهل - لأبى تمام يمدح ابن أبى دواد 395 من أخبار ابن أبى دواد - غلوه في التعصب لإياد - علمه، وعداوته لابن الزيات - أصله 396 غضبه على أبى تمام، ثم رضاه عنه 397 بين ابن أبى دواد والحاجب أبى منصور - من براعة خالد بن عبد الله القسرى 398 اعتذار أبى تمام للمعتصم عن سابق مدحه للأفشين 399 المنافقون في عهد النبى صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبى سرح - المختار بن أبى عبيد الخارجى - بين أمية بن خالد بن أسيد وعبد الله بن الأهتم 400 فصل في غرائب التكاتب - من حمدون ابن نهران لعامل عزل عن عمله - من ابن مكرم لنصرانى أسلم - بعض ما يحسن تركه وإن كان حلالا 401 ما يقال لمن تزوجت أمه 402 من ابن العميد لمن تزوجت أمه 403 ألفاظ لأهل العصر في التهانى بالبنات 404 بعض ما لا يمدح به النساء - لابن الرومى - للمتنبى - رجل يمدح زبيدة أم الأمين - لكثير عرة 405 عزة تفضل الأحوص على كثير 407 من الأمانى - لأبى صخر الهذلى - لمسلم بن الوليد - لآخر 408 بعض أخبار كثير عرة - حمقه - كان رافضيا - بين كثير وعبد الملك بن مروان 409 لقيس بن الملوح - من جيد شعر كثير 411 قول العرب في الطول أو القصر - لشاعر قديم، وأنشده أحمد بن عبيد الله 412 لابن الرومى - لعنترة العيسى 413 لأبى نواس - عود إلى أخبار كثيرة عزة - كثير عند عبد العزيز بن مروان وهو مريض - نقد سلام الجمحى لشعر كثير

414 فصول قصار - من كلام قابوس بن وشمكير 415 للثعالبى يصف شمس المعالى قابوسا 416 للميكالى يمدح قابوسا 417 من رسائل بديع الزمان إلى قابوس 419 من أخبار البرامكة 420 ثمامة بن أشرس يصف جعفر بن يحيى - سهل بن هرون يصف يحيى وابنه جعفرا - توقيع لجعفر بن يحيى 421 بين جعفر بن يحيى ومروان بن أبى حفصة 422 من قصيدة لزهير بن أبى سلمى - تعليق على هذه القصيدة لقدامة بن جعفر 423 لمحمد بن مناذر في البرامكة - مثل من التجنيس لأبى الفضل الميكالى 426 لأبى الفتح البستى في هذا المذهب 428 فقر في ذكر العلم والعلماء 430 استعارات فقهية تليق بهذا المكان - بين أبى تمام وابن أبى دواد - بين طاهر بن عبد الله وابن أبى تمام 431 ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان وسببها 432 بين ابن ثوابة وابن الرومى - بين المعتصم وأبى تمام - لأبى الفضل الميكالى 433 لأبى الفتح كشاجم - لبديع الزمان الهمذانى 435 أبو على البصير، وشىء من أذبه - بينه وبين بعض الطالبيين - بينه وبين بعض الرؤساء 425 من شعره 436 من شعر الفتح بن خاقان - كتاب منه إلى عبيد الله بن يحيى 437 مما يبعث على الرحيل - من الوصايا لمن اعتزم السفر 437 فقر في مدح السفر - فى ذم السفر والغربة 438 بين المهدى وأبى عبيد الله - بين المأمون والفضل بن الربيع - بين المنصور وأبى مسلم الخراسانى 441 جملة في الأوصاف من شعر كشاجم 444 الصابى يهدى اسطرلابا لعضد الدولة ويبعث معه بشعر 445 من أوصاف النساء - لابن الرومى - لبعض الشعراء يصف العلم - قلب المعنى ليس بسرقة - لشاعر يصف نساء بالعبالة 448 من المعانى ما لا ينقلب - بعض ما أخذ على أبى نواس 449 قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم - لأبى الفتح البستى 451 لابن درست - لمسكويه - للخوارزمى - للصولى 452 لابن المعتز 418 الأصمعى وبعض الأعراب

454 فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة 460 لامرأة من العرب ترثى ابنها 461 لأعرابى يمدح رجلا 464 بعض أخبار أبى نواس 465 للحسن بن وكيع، وقد أخذه من أبى نواس 466 ضرب من الرياء 468 من خمريات أبى نواس 469 من أخبار بشار بن برد - احتذاء أبى نواس على مثال بشار 425 المهدى يأمر بشارا بترك الغزل 470 من شعر بشار في الغزل 471 لعلى بن الجهم، وأخذه من بشار 472 منزلة شعر بشار ومقداره - ولاء بشار 473 من أخبار أبى حذيفة واصل بن عطاء - عود إلى أخبار بشار 476 كلمات مأثورة - فقر في مساوئ الكذب لغير واحد 478 جزاء الشكر - بين الحسن بن سهل والمأمون - من خطب النكاح: - خطبة للمأمون - ما يستحب من الخاطب والمخطوب إليه 479 الكتب والأقلام والخط 445 لابن المعتز - وله في القاسم بن عبيد الله 480 لبعض البلغاء - للمتنبى - لابن المعتز - مفاخرة بين صاحب سيف وصاحب قلم - للمتنبى - للنوبختى 481 لابن الرومى - للبستى - لطلحة بن عبيد الله - لمحمود الأصبهانى 482 لأحمد بن جدار - لأبى تمام - لتميم بن المعز الفاطمى 483 الصدق في النصيحة. - بين أحمد بن يوسف وغسان بن عباد - من ترجمة أحمد بن يوسف العجلى 486 ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين 452 عود إلى أحمد بن يوسف العجلى 486 ألفاظ لأهل العصر، فى صفات الثقلاء 491 من ترجمة جحظة البرمكى ومن شعره 492 السكاكين - بين أحمد بن يوسف والمأمون 494 لأبى الفتح كشاجم يصف سكينا سرقت منه

494 ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين 495 السمر والمنادمة - بين محمد بن أنس والقاسم بن صبيح - شرط المنادمة 496 بين اليزيدى والمأمون - بين كوران المغنى والشريف الرضى - بين أحمد بن جدار وعمر بن أيوب 497 من إسحاق الموصلى إلى بعض الجلة - من السرى الموصلى إلى أخ له يستدعيه 498 لابن المعتز - للحسن بن محمد الكاتب 499 من ألفاظ أهل العصر، فى الاستدعاء - ولهم في استدعاء الشراب 500 ولهم في الكناية عن الشراب - من الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب - من الحسن بن وهب إلى الحسن بن سهل - لكشاجم 501 فقر للنبيذيين 503 من ألفاظ أهل العصر في صفات مجالس الأنس 505 من شعر أبى نواس، وهو أستاذ هذا الشأن 508 من رسائل بديع الزمان الهمذانى - تعزية منه إلى أبى عامر عدنان بن عامر الضبى. 509 منه لبعض إخوانه جوابا عن كتاب 510 مما كتبه في سياقة أخباره مع أبى بكر الخوارزمى 515 كتاب منه لرئيس هراة 516 كتاب منه للامام سهل بن محمد 517 كتاب منه للاسماعيلى 518 المقامة الفزارية للبديع 520 بين شاعر وعبد الله بن الزبير 521 فرس ابن الزيات - المزاح - بين الحجاج وابن القرية 522 خالد بن صفوان يذكر مساوى المزاح - للوراق في مساوى المزاح - فقر في هذا النحو لأهل العصر 523 الطيرة والزجر - لأبى حية النميرى في التفاؤل - مما ينسب لذى الرمة 524 عادة الجاهلية والنهى عنها - للكميت بن زيد الأسدى - لشاعر قديم 525 لابن كناسة - بين كثير عزة ورجل نهدى - لجرير - لعوف الراهب 526 لأبى الشيص - ابن الرومى كان شديد الطيرة، وبعض أخباره في ذلك 527 الفرق بين الطيرة والفأل 528 من ابن الرومى للقاسم بن عبيد الله - ابن الرومى يرثى ابنة المسيبى 529 وله يعزى على بن يحيى في ابنته

539 الرغبة في موت البنات - لعبد الله بن عبد الله بن طاهر - لعقيل بن علفة - لابن خلف البهرانى 530 عود إلى تطير ابن الرومى - بينه وبين أبى الحسن الأخفش 532 من آثار تطير ابن الرومى 534 من ابن الرومى إلى ابن ثوابة في التطير 536 من مليح العيافة والزجر - أبو نواس وبعض أصحابه - لأبى تمام 537 أحمد بن المدبر والجمل الشاعر المصرى - لأبى الفضل الميكالى في أهل مرو 538 عبد الوهاب الثقفى يصف رجلا يرتاح إليه - ابن أبى داود والجاحظ 539 بين الجاحظ وابن الزيات 540 من كلام على رضي الله عنه في أعجب ما في الإنسان 541 لعبد الرحمن بن حسان - لمحمد بن حازم الباهلى - للجاحظ في ابن الزيات - الجاحظ ورجل من البرامكة 543 المقامة الجاحظية للبديع 544 من كلام الملوك: - من كلام أردشير بن بابك 545 من كلام بزرجمهر - من كلام أنو شروان - من رسائل الميكالى: - كتاب منه للثعالبى 511 كتاب منه للثعالبى 546 كتاب منه إلى أبيه - كتاب منه يستفتح به مكاتبة أخ 547 فقر من كلامه في أثناء رسائل شتى 549 قطعة من شعره في تجنيس القوافى 515 لأبى الفتح البستى - أدب الحاجب - بين مالك وحاجبه 550 وصية المهدى للفضل بن الربيع - للحسن بن سهل - لبعض البلغاء - بين سعيد بن عبد الملك وعبيد الله بن سليمان 551 لأبى السمط بن أبى حفصة - لمروان بن أبى حفصة - لإدريس بن أبى حفصة - لعمرو بن شاس الأسدى 552 للقطامى في ضياء الوجوه والأحساب - للقينى - للحطيئة - للقاسم بن حنبل المدنى 553 للوضاح التيمى - حث الاشتياق - لعمر بن أبى ربيعة - مما أنشده إسحاق الموصلى 554 لإسحاق الموصلى - لأبى نواس - لمخلد بن بكار الموصلى 555 جودة الخط - صفة الخط الجيد لبعض الكتاب

521 وراق يصف عيشه 556 لإسماعيل الحمدونى - حرفة الأدب - لبعض الشعراء - للخريمى 557 لعلى بن محمد بن بسام - رزق الحمقى والعقلاء - لابن الرومى - لجعفر بن محمد - للنظام - بعض أخبار النظام وكلامه 558 أفكار الوراقين 559 أطيب اللذات عند الشعراء - امرىء القيس - الأعشى - طرفة - أبى دلف - حميد الطوسى والشعر لطرفة 560 يزيد بن عبيد الله - من شعر الأضبط بن قريع 561 من أخبار الأضبط بن قريع - وصف المحابر والأقلام: - لبعض الكتاب يصف محبرة - لأبى الفتح كشاجم 562 ألفاظ لأهل العصر، فى أوصاف آلات الكتابة والدوى 563 أبو الفتح كشاجم يصف آلات الكتابة 564 عمال المأمون 565 وصف الورد والنرجس: 568 لابن الرومى - لبعض المحدثين - عود لابن الرومى 566 أحمد بن يونس الكاتب يرد على ابن الرومى 567 نبذ من النظم والنثر في صفات النور والزهر - لعلى بن الجهم - لمحمد بن عبد الله بن طاهر - المتوكل وابن الضحاك 569 ظبى يأكل نيلوفرا - وصف أيام الربيع: - لابن وكيع 570 لأبى الفتح البستى - لأبى الفضل الميكالى 572 للبحترى - فى مجلس المبرد 573 للبحترى في المدح 574 لابن المعتز يذم الصبوح 575 لأبى الفتح كشاجم 576 جملة من هذا النوع لأهل العصر - لأبى فراس الحمدانى - لابن هانىء يصف زهرة رمان 577 قطع نثرية لهم في هذا المعنى 578 ولهم أيضا في وصف الربيع 579 الربيع والرفاق - الصوم في الربيع - يوم الشك 580 من بديع الزمان الهمذانى لبعض أهل همذان

546 لابن العميد 581 عواقب الطيش - طاهر بن الحسين يصف الأمين - الأمين والمأمون 582 الأمين يصف طاهر بن الحسين 583 الفضل بن الربيع وابنه وأبوه - بيعة المهدى 584 وقت كلام الملوك - من كلام الفضل بن الربيع - بين المأمون والفضل بن الربيع 585 بين المنصور والربيع 586 لأبى تمام يمدح ابن الزيات - سهل بن هارون والرشيد - من شعر الفضل بن الربيع 587 بين ابن خاقان وأبى العيناء وصف دابة 588 قطعة من رسالة من إنشاء أبى الخطاب الصابى 590 الحمدونى وشاة سعيد بن أحمد 591 الحمدونى وطيلسان ابن حرب 594 المأمون والحسن بن رجاء - بديهة المبرد - المبرد عند المتوكل 595 أدب أبى العباس المبرد - بين المبرد وابن المعتز - فى المدح: - لأعرابى - لابن المعتز - للأخطل - لابن هرمة 596 لأبى تمام - لعصابة الجرجانى في الحسن بن رجاء - بين جميل بن معمر وعمر بن أبى ربيعة 598 من شعر العرجى - نسب العرجى، وبعض أخباره 599 جمله من الفصول القصار لابن المعتز 601 من ابن العميد إلى بعض إخوانه 603 من بديع ما قيل في العتاب: - لسعيد بن حميد 604 لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر - من كلام الأعراب 605 المقامة البلخية لبديع الزمان 606 كتاب من بديع الزمان لأبى نصر الميكالى يشكو إليه خليفته بهراة 607 من البديع للميكالى يعاتبه 608 بين المأمون وإبراهيم بن المهدى 610 بين المأمون وإسحاق بن العباس - رجل يستعطف بعض الملوك - بين معاوية وروح بن زنباع 611 عفو الملوك: - المأمون وبعض خاصته - بعض ملوك فارس وطباخه - بهرام جور وراع 612 من شعر ابن الرومى 613 من اعتذارات بديع الزمان 615 فقر من كلام سهل بن هارون للمامون

616 من ترجمة سهل بن هارون وأخباره 617 من عظات الحسن البصرى 618 ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بإقبال شهر رمضان. 619 أخلاق المؤمن - خير الإخوان - وصف رجل - لأبى الفتح كشاجم 620 لأعرابى تمت فهرس الجزء الثانى من زهر الآداب للحصرى، والحمد لله أولا وآخرا وصلاته وسلامه على سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه

الجزء الثالث

الجزء الثالث نبذ من ألفاظ بلغاء أهل العصر تجرى فى المدح مجرى الأمثال؛ لحسن استعارتها، وبراعة تشبيهاتها فلان مسترضع ثدى المجد، مفترش حجر الفضل، له صدر تضيق به الدّهناء، وتفزع إليه الدّهماء، له فى كل مكرمة غرّة الإصباح «1» ، وفى كل فضيلة قادمة الجناح «2» ، له صورة تستنطق الأفواه بالتسبيح، ويترقرق فيها ماء الكرم، وتقرأ فيها صحيفة حسن البشر، تحيا القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه، له خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وكفى كدورته. هو غذاء الحياة، ونسيم العشق، ومادّة الفضل، آراؤه سكا كين فى مفاصل الخطوب، له همّة تعزل السماك الأعزل، وتجرّ ذيلها على المجرّة، هو راجح فى موازين العقل، سابق فى ميادين الفضل، يفترع أبكار المكارم، ويرفع منار المحاسن. ينابيع الجود تتفجّر من أنامله، وربيع السماء يضحك من فواضله. هو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وعين الكتيبة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرّة التاج، ونقش الفصّ! وهو ملح الأرض، ودرع الملّة، ولسان الشريعة، وحصن الأمة. هو غرّة الدّهر والزمان، وناظر الإيمان. له أخلاق خلقن من الفضل، وشيم تشام منها بوارق المجد «3» ، أرج الزمان بفضله، وعقم النساء عن الإتيان بمثله. الجميل لديه معتاد، والفضل منه مبدوء ومعاد، ماله للعفاة «4» مباح، وفعاله فى ظلمة الدهر مصباح، كأن قلبه عين، وكأن جسمه سمع، يرى بأوّل رأيه آخر الأمر، جوهر من جواهر الشرف لا من جواهر الصّدف، وياقوتة من يواقيت الأحرار

لا يواقيت الأحجار، طلعته للبشاشة عليها ديباجة خسروانيّة، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. وجه كأن بشرته نشر البشر، ومواجهته أمان من الدّهر. يصل ببشره، قبل أن يصل ببرّه، قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه النّوار. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرّته، فى روضة وغدير، وجنّة وحرير، وهو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه من يوم الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه. هو شخص الأدب مائلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها سرو، تسقيها سماء الحريّة، وتغدّيها أرض المروءة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الأرض إذا خربت، ومعرض الأيام إذا احتشدت؛ وهم جمال الأيام، وخواصّ الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعه نضير، ليس له فى مجده نظير، قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوىّ القويم، وما يؤنسه من الوحشة إلا الدفاتر، ولا يصحبه فى الوحدة إلّا المحابر. فلان يحلّ دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال. له خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الأهواء المتفرّقة على محبته، وتؤلّف الآراء المتشتّتة على مودّته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النّحل، وأطيب من زمان الورد. أخلاق أحسن من الدرّ والعقيان، فى نحور الحسان، وأذكى من حركات الروح والرّيحان. فلان يستحطّ القمر «1» بطرفه، ويستنزل النّجم بلطفه «2» . هو خلو المذاق، سهل المساغ. أجمل الناس فى جدّ، وأحلاهم فى هزل. يتصرّف مع القلوب، كتصرّف السحاب مع الجنوب. ذو جد كعلوّ الجدّ «3» ، وهزل كحديقة الورد. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من

الغضارة يمطر «1» . هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من نسيم الشمال، على أديم الزّلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إذا أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفّاحة فاتك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو نخبة شارب. أخباره زكيّة، وآثاره ذكية. أخباره تأتينا كما وشى بالمسك ريّاه، ونمّ على الصباح محيّاه. قد انتشر من طيب أخباره مازاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزّهر الأنيق. مناقب تشدخ فى جبينها غرّة الصباح، وتتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره «2» ، قد حصل له من حميد الذكر، وجميل النّشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأنى حرّكت المسك فتيقا، أو صبّحت الروض أنيقا. أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذفر، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف قبل الكشف. هو ممن يثقل ميزان ودّه، ويحصف ميثاق عهده. هو كريم العهد، صحيح العقد، سليم الصّدر فى الودّ، حميد الورد فيه والصدر. هو لإخوانه عدّة تشدّهم وتقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ركن الإخاء، صافى شرب الوفاء، حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو ممن لا تدوم المداهنة فى عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. هو يسرى إلى كرم العهد، فى ضياء من الرّشد. عهده نقش فى صخر، وودّه نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصّفو. فى ودّه غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصّحب، وزاد للركب. هو فى حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب. النّجح معقود فى نواصى آرائه، واليمن معتاد فى مذاهب أنحائه. له الرّأى. الثاقب الذى تخفى مكايده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذى تنجع مباديه، وتبهج تواليه. رأى

نبذ من مفردات الأبيات فى فرائد المدح

كالسّهم أصاب غرّة الهدف، ودهاء كالبحر فى بعد الغور وقرب المغترف، لا يضع رأيه إلا مواضع الأصالة، ولا يصرف تدبيره إلّا على مواقع السداد والإصابة. يعرف من مبادىء الأقوال خواتم الأفعال، ومن صدور الأمور أعجاز ما فى الصدور. رؤيته رأى صليت، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهودان لم يبرح، ويسير تدبيره وهوثاو لم ينزح. له رأى لا يخطىء شاكلة الصّواب، [ولا يخشى بادرة العثار. فلان يخمّر الرأى ويحيله، ويجيد الفكر ويجيله، حتى يحصل على لب الصواب] ، ومحض الرأى. إذا أذكى سراج الفكر، أضاء ظلام الأمر، هو قطب صواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يردّ إليه التدبير. يرى العواقب فى مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. وله رأى يردّ الخطب مصلّما، والرمح مقلّما. [آراؤه سكاكين فى مفاصل الخطوب] ، كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين السّداد والتوفيق. يستنبط حقائق القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. فد سرينا من مشورته فى ضياء ساطع، ومن رأيه الصائب فى حكم قاطع. نبذ من مفردات الأبيات فى فرائد المدح أبو نواس: وكلت بالدهر عينا غير نائمة ... من جود كفيك تأسو كلّما جرحا الطائى: فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع البحترى: ولو لم يكن فى كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله وله: ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا ... لدى المجد حتى عدّ ألف بواحد

[فى مجالس الخلفاء والملوك والحكماء والأمراء]

كشاجم: عرف الفاضلون فضلك بالعل ... م وقال الجهّال بالتقليد المتنبى: شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيب واحد وله: ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدهر للناس ناقد وله أيضا: إن خوطبوا أولقوا أو كوتبوا وجدوا ... فى اللفظ والخطّ والهيجاء فرسانا وله أيضا: ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد فى أبياتها أبو العباس الناشىء: خلقت كما أرادتك المعالى ... فأنت لمن رجاك كما يريد المأمونى: وخلائق كالخمر دون فعاله ... حبب لهنّ وما لهنّ خمار [فى مجالس الخلفاء والملوك والحكماء والأمراء] وقال إبراهيم الموصلى لموسى الهادى، وهو نديمه، وقد غنّاه صوتا فأعجبه: إنّ من كان محلّه من أمير المؤمنين محلّى فى الانبساط وتقدّم النّدام جرأه البسط على الطلب، وبعثته المنادمة على الرجاء، وقد نصب لى أمير المؤمنين بقرّبى منه مشارع الرغبة إليه، وحثّنى محلّى عنده على الكروع فى المنهل بين يديه. فقال: سل شفاها؛ فإنى جاعل فعلى عن إجابتك إليه حاضرا؛ فسأله ما قيمته خمسون ألف درهم؛ فأمر له بمائة ألف درهم.

ولما ظفر الإسكندر بدارا بن دارا قال له: بم اجترأ عليك صاحب شرطتك؟ قال: بتركى ترهيبه وقت إساءته وتفريطه، وإعطائه وقت الإحسان اليسير من فعله نهاية رغبته. فقال الإسكندر: نعم العون على استصلاح القلوب الموغرة الترغيب بالأموال، وأصلح منه عاجلا الترهيب وقت الحاجة إليه. وقال الحسن بن سهل: خرج بعض ملوك الفرس متنزّها، فلقى بعض الحكماء، فسأله عن أحزم الملوك، فقال: من ملك جدّه هزله، وقهر لبّه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يخدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال الحكيم: أيها الملك، قد أجدت الفطنة. هذا العلم مستفاد أم غريزى؟ قال: كان عندنا معلّم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمة. قال: فهل علّمك غير هذا؟ قال: ومن أين يوجد مثل هذا عند رجل واحد؟ ثم قال له الملك: علّمنى من حكمتك أيّها الحكيم قال: نعم، احفظ عنى ثلاث كلمات. قال: ما هنّ؟ قال: صقلك السيف ليس له جوهر من سنخه «1» خطأ، وصبّك الحبّ فى الأرض السّبخة ترجو نباته جهل، وحملك المسنّ على الرياضة عناء. قال أبو تمّام الطائى: والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال وقيل لبعض الحكماء: ما الدليل الناصح؟ قال: غريزة الطبع. قيل: ما القائد المشفق؟ قال: حسن المنطق. قيل: فما العناء المعنّى؟ قال: تطبيعك ما لا طبع له. وكان أنوشروان يقول: الناس ثلاث طبقات تسوسهم ثلاث سياسات: [طبقة من خاصة الأحرار تسوسهم بالعطف واللّين والإحسان، و] طبقة من خاصة الأشرار تسوسهم بالغلظة والعنف والشدّة، وطبقة من العامة تسوسهم باللين والشدة، لئلا تحرجهم الشدّة، ولا يبطرهم «2» اللّين.

وقال واصل بن عطاء: ألا قاتل الله هذه السفلة! توادّ من حادّ الله ونبيّه، وتحادّ من وادّ الله ونبيّه، وتذمّ من مدحه الله، وتمدح من ذمّه الله؛ على أنه بهم علم الفضل لأهل الطبقة العالية، وبهم أعطيت الأوساط حظّا من النّبل. وقيل لبعض الملوك، [وقد بلغ فى القدر ما لم يبلغه أحد. من ملوك زمانه] : ما الذى بلغ بك هذه المنزلة؟ قال: عفوى عند قدرتى، ولينى عند شدّتى، وبذلى الإنصاف ولو من نفسى، وإبقائى فى الحب والبغض مكانا لموضع الاستبدال. وقال الإسكندر لأحد الحكماء، وأراد سفرا: أرشدنى لأحزم أمرى. قال: لا تملأنّ قلبك من محبّة الشىء، ولا يستولينّ عليك بغضه، واجعلهما قصدا «1» ؛ فإن القلب كاسمه ينزع ويرجع، واجعل وزيرك التثبت، وسميرك التيقّظ، ولا تقدم إلّا بعد المشورة؛ فإنها نعم الدليل، فإذا فعلت ذلك ملكت قلوب رعيّتك. وقيل لبعض الحكماء ما الحزم؟ قال: سوء الظن قيل: فما الصواب؟ قال: المشورة. قيل: فما الرأى الذى يجمع القلوب على المودّة؟ قال: كفّ بذول، وبشر جميل. قيل: فما الاحتياط؟ قال: الاقتصاد فى الحبّ والبغض. وسئل بزرجمهر: ما المروءة؟ قال: ترك ما لا يعنى. قيل: فما الحزم؟ قال: انتهاز الفرصة. قيل: فما الحلم؟ قال: العفو عند المقدرة. قيل: فما الشدة؟ قال: ملك الغضب. قيل: فما الخرق؟ قال: حب مغرق؛ وبغض مفرط. قال معاوية رضى الله عنه لزياد حين ولّاه العراق: يا زياد؛ ليكن حبّك وبغضك قصدا؛ فإن العثرة فيهما كامنة، واجعل للنزوع والرجوع بقيّة من قلبك، واحذر صولة الانهماك، فإنها تؤدى إلى الهلاك.

ومن كلام بلغاء أهل العصر فى ذكر السلطان

ومن كلام بلغاء أهل العصر فى ذكر السلطان أبو القاسم الصاحب: مرضاة السلطان، لا تغلو بشىء من الأثمان، ولا ببذل الروح والجنان. تهيّب السلطان فرض وكيد، وحتم على من ألقى السمع وهو شهيد. أبو إسحاق الصابى: الملك أحقّ باصطفاء رجاله منه باصطفاء أمواله؛ لأنه مع اتساع الأمر وجلالة القدر لا يكتفى بالوحدة، ولا يستغنى عن الكثرة؛ ومثله فى ذلك مثل المسافر فى الطريق البعيد الذى يجب أن تكون عنايته بفرسه المجنوب، كعنايته بفرسه المركوب. فصل للصابى: الملك بمن غلط من أتباعه فاتّعظ أشدّ انتفاعا منه بمن لم يغلط ولم يتعظ؛ فالأول كالقارح «1» الذى أدّبته الغرّة، وأصلحته الفدامة، والثانى كالجذع المتهوّك «2» الذى هو راكب للغرّة وراكن إلى السلامة. وقيل: إن العظم إذا جبر من كسره عاد صاحبه أشدّ بطشا وأقوى أيدا. أبو بكر الخوارزمى: لا صغير مع الولاية والعمالة، كما لا كبير مع العطله والبطالة؛ وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها، ومطيّة تحسن وتقبح بممتطيها، والصّدر لمن يليه، والدّست لمن جلس فيه، والأعمال بالعمّال، كما أنّ النساء بالرجال. فصل له: إنّ ولاية المرء ثوبه؛ فإن قصر عرى منه، وإن طال عثر فيه. قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير، ومكاشفته غرور وتغرير. أبو الفتح البستى: أجهل الناس من كان على السلطان مدلّا، وللاخوان مذلّا. أبو الفضل ابن العميد: الإبقاء على حشم السلطان وعمّاله عدل الإبقاء «3» على ماله، والإشفاق [على حاشيته وحشمه مثل الإشفاق على ديناره ودرهمه] .

وله من رسالة طويلة، جواب لأبى شجاع عضد الدولة عن كتاب اقتضاه فيه صدر كتاب ألّفه أبو الحسن الصوفى فى نوع من علوم الهيئة. أنا أقدم الإجابة بحمد الله تعالى جدّه، على ما وهب لنا معاشر عبيده وخدمه خاصة، بل لرعاياه عامّة، بل لأهل الأرض كافة، من عظيم النعمة بمكانه، وجسيم الموهبة بإنفاق أعمارنا فى زمانه، حتى شاركناه فى أسباب السعادة التى لم تزل مذخورة عليه، حتى صارت إليه، وساهمناه فى موادّ الفضيلة التى لم تزل محفوظة له حتى انّصلت به؛ فإنّ المرء أشبه شىء بزمانه، وصفات كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه؛ فإن فضل شاع الفضل فى الزمان وأهله، وتحلّى الدّهر بأفضل حليته، وتجلّى للعيون والقلوب بأحسن زينته، وكسابنيه والناشئين فيه بشرف جوهره، وأورثهم نيل فضله، وعزّ العلم وأهله، وعرف لمقتبسه قدره، وتوجّهت الاذهان نحوه، وتعلّقت الخواطر به، وصرفت الفكر فيه، ونشدت ضوالّه، ونظم أشتاته، وجمعت أفراده، ووثقت نفوس الساعين فى استفادته بحسن عائدته، فحرصت عليه، وصرفت نظرها إليه، وأيقنت فى بضاعتها بالنّفاق، وفى تجارتها بالإرفاق؛ فصار ذلك إلى نماء العلوم وزيادتها داعية، ولتكثير قليلها وإيضاح مجهولها سببا وعلّة، وإلى انخراط جواهرها المتفرقة فى سلوك التصنيف سبيلا، وإلى تقييد شواردها بعقل «1» التأليف طريقا. وإن رذل السلطان اتّبعت الرذيلة اتباعا، وذهبت القضائل ضياعا، وبطلت الأقدار والقيم، وسلبت الأخطار والهمم، وزال العلم والتعلم، ودرس الفهم والتفهم، وضرب الجهل بجرانه، ووطىء بمنسمه، واستعلى الخمول على النباهة، واستولى الباطل على الحقّ، وصار الأدب وبالا على صاحبه، والعلم نكالا على حامله. وبحسب عظيم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى مع من هذه صورته، تعظم النعمة بملك سلطان عالم، كالأمير الجليل عضد الدولة، أطال الله تعالى بقاءه، وأدام قدرته، الذى أحله الله عزّ وجل من الفضائل بملتقى طرقها ومجتمع فرقها، فهى نوادّ ممن لاقت

حتى تصير إليه، وشوارد نوازع حيث حلّت حتى تقع عليه، تتلفت تلفت الرامق، وتنشوف إليه تشوف الصبّ العاشق، قد ملكها أنّى توجهت وحشة المضاع وحيرة المرتاع. فإن تغش قوما غيره أو تزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل «1» حتى إذا قابلته أسرعت إليه إسراع السيل بنصبّ فى الحدور، والطير ينقضّ إلى الوكور. وقال أبو الطيب المتنبى: أحقّ عاف بدمعك الهمم ... أحدث شىء عهدا بها القدم «2» وإنما الناس بالملوك، وما ... تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم بكلّ أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنّها غنم يستخشن الخزّ حين يلمسه ... وكان يبرى بظفره القلم وقال الزبير بن بكار: قدم ابن ميّادة، واسمه الرّمّاح بن أبرد، زائرا العبد الواحد بن سليمان، وهو أمير المدينة، فكان عنده ليلة فى سمّاره؛ فقال عبد الواحد لأصحابه: إنى لأهم أن أتزوج فابغونى أيّما، قال ابن ميادة: أنا- أصلحك الله- أدلّك، قال: على من يا أبا بشر نميل؟ قال: قدمت عليك أيها الأمير، فلما قدمت ألفيت المسجد وإذا أشبه شىء به وبمن فيه الجنة ومن فيها، فبينا أنا أمشى إذ قادتنى رائحة رجل عطر حتى وقفت عليه، فلما وقع بصرى عليه استلهى حسنه ناظرى، فما أقلعت ناظرى حتى تكلّم فما زال يتكلّم كأنما ينثر درّا، ويتلو زبورا، ويدرس إنجيلا، ويقرأ فرقانا، حتى سكت، فلولا معرفتى بالأمير ما شككت أنه هو، ثم خرج من مصلّاه إلى داره، فسألت عنه، فأخبرت أنه

من الحسن بمكانة، وأنه للخليفتين، وأنه قد نالته ولادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ساطع من غرّته؛ فإن اجتمعت أنت وهو على ولد ساد العباد، وجاب ذكره البلاد. فلما قضى ابن ميّادة كلامه قال عبد الواحد ومن حضر: ذلك محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان رضى الله تعالى عنه لفاطمة بنت الحسين بن على رضى الله عنهم، وقال ابن ميادة: لهم سيرة لم يعطها الله غيرهم ... وكلّ قضاء الله فهو مقسّم هذا فى تقابل نسبه، وكمال منصبه، كقول عويف القوافى فى طلحة بن عبد الله الزهرى: يصمّ رجال حين يدعون للندى ... ويدعون ابن عوف للندى فيجيب وذاك امرؤ من أىّ عطفيه يلتفت ... إلى المجد يحوى المجد وهو قريب وعبد الواحد بن سليمان هذا هو الذى يقول فيه القطامى: أقول للحرف لما أن شكت أصلا ... طول السّفار وأفنى نيّها الرّحل «1» إن ترجعى من أبى عثمان منجحة ... فقد يهون على المستنجح العمل أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ... إذا تخطّأ عبد الواحد الأجل ومن قول القطامى: «إن ترجعى من أبى عثمان منجحة» أخذ الآخر قوله: إذا ما تعنّى المرء فى إثر حاجة ... فأنجح لم يثقل عليه عناؤه وهو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، قال الكلبى: هو عبد الواحد ابن الحارث بن الحكم بن أبى العاص بن أمية، والأول قول ابن السكيت.

[نغم الألفاظ ونغم الألحان]

والقصيدة التى منها هذه الأبيات من أجود قوله، وفيها يقول مما يتمثل به: والعيش لا عيش إلا ما تقرّ به ... عين ولا حال إلا سوف ينتقل والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأم المخطىء الهبل «1» قد يدرك المتأنّى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل قوله: «والناس من يلق خيرا قائلون له» مأخوذ من قول المرقش: ومن يلق خيرا لحمد؟؟؟ الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغىّ لائما وقال عمرو بن سعيد للأخطل: أيسرك أنّ لك بشعرك شعرا؟ قال: لا، ما يسرّنى أن لى بقولى مقولا من مقاويل العرب، غير أنّ رجلا من قومى قال أبياتا حسدته عليها، وايم الله، إنه لمغدف القناع، ضيّق الذراع، قليل السماع، قال: ومن هو؟ قال: القطامى، قال: وما هذه الأبيات؟ فأنشد له يصف إبلا من هذه القصيدة: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل «2» فهن معترضات والحصا رمض ... والرّيح ساكنة والظلّ معتدل «3» يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل [نغم الألفاظ ونغم الألحان] قال أبو العتاهية لمخارق: أنت بنغم ألفاظك دون نغم ألحانك، تطرب إذا تكلّمت، فكيف إذا ترنّمت! وقال له يوما: يا حكيم هذه الأقاليم؛ أصبب فى هذه الآذان من جيّد تلك الألحان، فأقسم لو كان الكلام طعاما، لكان غناؤك له إداما.

قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: دخلت على المعتصم يوما وقد خلا، وعنده جارية تعنّيه، وكان معجبا بها، فلما جلست قال لى: يا أبا إسحاق، كيف تراها؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق، وتختله برفق، ولا تخرج من حسن إلّا إلى أحسن منه، وفى حلقها شذور نغم أحسن من دوام النعم، قال: يا إسحاق؛ هن غايات الأمل، ومنسيات الأجل، والسقم الداخل، والشغل الشاغل، وإن صفتك هذه لو سمعها من لم يرها لفقد لبّه، وقضى نحبه. وسئل إسحاق عن المجيد من المغنين، فقال: من لطف فى اختلاسه، وتمكّن من أنفاسه، وتفرّع فى أجناسه، يكاد يعرف ضمائر مجالسيه، وشهوات معاشريه، يقرع مسمع كلّ واحد منهم بالنحو الذى يوافق هواه، ويطابق معناه. وكان إسحاق بن إبراهيم قد جمع إلى حذقه بصتاعته حسن التصرف فى العلوم، وجودة الصنعة للشعر، وحدّث عن نفسه فقال: كنت أيام الرشيد أبكّر إلى هشيم ووكيع فأسمع منهما، ثم أنصرف إلى عاتكة بنت شهيد؛ فتطارحنى صوتين، ثم أصير إلى زلزل الضارب فآخذ منه طريقين، ثم أسير إلى منزلى فأبعث إلى أبى عبيدة والأصمعى، فلا يزالان عندى إلى الظهر، ثم أذهب إلى الخليفة. ونزل أبوه بالموصل وليس من أهلها فنسب إليها، وهو مولى خزيمة بن خازم «1» التميمى، وفى ذلك يقول إسحاق: إذا مضر الحمراء كانت أرومتى ... وقام بنصرى خازم وابن خازم عطست بأنفى شامخا وتناولت ... بنانى الثريّا قاعدا غير قائم وفيه يقول محمد بن عامر الجرجانى يرثيه: على الجدث الشرقىّ عوجا فسلّما ... ببغداد لما صدّ عنه عوائده أإسحاق لا تبعد، وإن كان قد رمى ... بك الموت مرمى ليس يصدر وارده متى تأته يوما تحاول منفسا ... من الدين والدنيا فإنك واجده

إذا هزل اخضرّت فروع حديثه ... ورقّت حواشيه وطابت مشاهده وإن جدّ كان القول جدّا وأقسمت ... مخارجه ألّا تلين شدائده ومن جيّد شعر إسحاق قصيدته فى إسحاق بن إبراهيم المصعبىّ بعد إيقاعه بالخرّمية: تقضّت لبانات وجدّ رحيل ... ولم يشف من أهل الصفاء غليل ومدّت أكفّ للوداع فصافحت ... وفاضت عيون للفراق تسيل ولابدّ للالّاف من فيض عبرة ... إذا ما خليل بان عنه خليل «1» فكم من دم قد طلّ يوم تحمّلت ... أوانس لا يودى لهن قتيل «2» غداة جعلت الصبر شيئا نسيته ... وأعولت لو أجدى علىّ عويل «3» ولم أنس منها نظرة هاج لى بها ... هوى منه باد ظاهر ودخيل كما نظرت حوراء فى ظلّ سدرة ... دعاها إلى ظلّ الكناس مقيل فلا وصل إلّا أن تلافاه أينق ... عتاق مماها؟؟؟ شدقم وجديل «4» إذا قلبت أجفانها بتنوفة ... طوى البعد منها هزة وذميل «5» تفرّد إسحاق بنصح أميره ... فليس له عند الإمام عديل يفرج عنه الشكّ صدق عزيمة ... ولبّ به يعلو الرجال أصيل أغرّ بجيب الوالدين كأنه ... حسام جلت عنه العيون صقيل بنى مصعب للمجد فيكم إذا بدت ... وجوهكم للناظرين دليل كرمتم فما فيكم جبان لدى الوغى ... ولا منكم عند العطاء بخيل غلبتم على حسن الثناء فراقكم ... ثناء بأفواه الرجال جميل

إذا استكثر الأعداء ما قلت فيكم ... فإن الذى يستكثرون قليل وهذا نمط الحذاق الفحول، وقال: ومدرجة للريح غبراء لم يكن ... ليجشمها زمّيلة غير صارم «1» يضلّ بها السارى وإن كان هاديا ... وتقطع أنفاس الرياح النّواسم تعسّفت أبرى جوزها بشملّة ... بعيدة ما بين العرى والمحازم «2» كأنّ شرار المرو من نبذها به ... نجوم هوت إحدى الليالى العواتم «3» إذا ضمّها والسّفر ليل فغيبت ... دياجيره عنهم رءوس المعالم تنادوا فصاروا تحت أكناف رحلها ... ليهديهم قدح الحصى بالمناسم وقال: ولما رأين البين قد جدّ جده ... ولم يبق إلّا أن تبين الركائب دنونا فسلّمنا سلاما مخالسا ... فردّت علينا أعين وحواجب تصدّ بلا بغض ونخلس لمحة ... إذا غفلت عنا العيون الرواقب نذاد إذا حمنا لنشفى غلة ... كما ذيد عن ورد الحياض الغرائب وما أحسن ما قال أبو العباس الناشىء فى هذا المعنى: ولما رأين البين زمّت ركابه ... وأيقنّ منا بانقطاع المطالب طلبن على الرّكب المجدين علّة ... فعجن علينا من صدور الركائب فلما تلاقينا كتبن بأعين ... لنا كتبا أعجمنها بالحواجب فلما قرأناهنّ سرّا طوينها ... حذار الأعادى بازورار المناكب وقال إسحاق: ألا من لقلب لا يزال رميّة ... للمحة طرف أو لكسرة حاجب (2- زهر الآداب 3)

[استطراد فى ذكر جمال الذوائب]

وللخمر اللاتى تساقط لوثها ... فتور الخطا عن واردات الذوائب [استطراد فى ذكر جمال الذوائب] وعلى ذكر الذوائب قال ابن المعتز: سقتنى فى ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب فأمسيت فى ليلين بالشّعر والدّجى ... وخمرين من راح وخدّ حبيب وقال بكر بن النطاخ: بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم «1» فكأنها فيه نهار مبصر ... وكأنه ليل عليها مظلم وقال المتنبى: نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... فى ليلة فأرت ليالى أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتنى القمرين فى وقت معا وقال ابن الرومى: وفاحم وارد يقبّل ممشاه ... إذا اختال مسبلا غدره «2» أقبل كالليل فى مفارقه ... منحدرا لا يرام منحدره حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كلّ موطىء عفره كأنه عاشق دنا شغفا ... حتى قضى من حبيبه وطره يغشى غواشى قرونه قدما ... بيضاء للناظرين مقتدره مثل الثريّا إذا بدت سحرا ... بعد غمام وحاسر حسره أخذه بعض أهل العصر- وهو محمد بن مطران- فقال:

[وحدة القصيدة واتساقها]

ظباء أعارتها الظّبا حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجاذر فمن حسن ذاك المشى قامت فقبّلت ... مواطىء من أقدامهنّ الغدائر وقال مسلم بن الوليد: أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر نصبت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر [وحدة القصيدة واتساقها] قال الحاتمى: مثل القصيدة مثل الإنسان فى اتّصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه فى صحّة التركيب، غادر الجسم ذا عاهة تتخوّن «1» محاسنه، وتعفّى معالمه؛ وقد وجدت حذّاق المتقدّمين وأرباب الصناعة من المحدثين بحترسون فى مثل هذا الحال احتراسا يجنّبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجّة الإحسان، حتى يقع الاتّصال، ويؤمن الانفصال، وتأتى القصيدة فى تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة، لا ينفصل جزء منها عن جزء، وهذا مذهب اختصّ به المحدثون؛ لتوقّد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتمادهم البديع وأفانينه فى أشعارهم، وكأنه مذهب سهّلوا حزنه «2» ، ونهجوا رسمه؛ فأمّا الفحول الأوائل، ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين فمذهبهم المتعالم «عدّ عن كذا إلى كذا» «3» وقصارى كلّ واحد منهم وصف ناقته بالعتق، والنّجابة والنجاء، وأنه امتطاها؛ فادّرع عليها جلباب اللّيل؛ وربما اتّفق لأحدهم معنى لطيف يتخلّص به إلى غرض لم يتعمّده إلا أن طبعه السليم، وصراطه فى الشعر المستقيم، نصبا مناره «4» وأوقدا باليفاع ناره؛ فمن أحسن تخلّص شاعر إلى معتمده قول النابغة الذبيانى:

فكفكفت منّى عبرة فرددتها ... على النّحر منها مستهلّ ودامع على حين عاتبت المشيب على الصّبا ... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع وقد حال همّ دون ذلك شاغل ... مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع وعيد أبى قابوس فى غير كنهه ... أتانى ودونى راكس فالضّواجع وهذا كلام متناسخ «1» تقتضى أوائله أواخره، ولا يتميز منه شىء عن شىء أتانى، أبيت اللعن، أنك لمتنى ... وتلك التى تستكّ منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع ولو توصّل إلى ذلك بعض الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعانى، وفتحوا أبواب البديع، واجتنوا ثمر الآداب، وفتحوا زهر الكلام لكان معجزا عجبا، فكيف بجاهل بدوى إنما يغترف من قليب قلبه، ويستمدّ عفو هاحسه. وقال علىّ بن هارون المنجم عن أبيه: لم يتوصل أحد إلى مدح بمثل قول [ابن] وهيب: ما زال يلثمنى مراشفه ... ويعلّنى الإبريق والقدح حتى استردّ الليل خلعته ... وبدا خلال سواده وضح «2» وبدا الصباح كأن غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح وقال علىّ بن الجهم: وليلة كحلت بالنّقس مقلتها ... ألقت قناع الدّجى فى كلّ أخدود «3» قد كاد يغرقنى أمواج ظلمتها ... لولا اقتباسى سنا وجه ابن داود قوله: «كحلت بالنّقس مقلتها» مأخوذ من قول أعرابى: «والليل قد صبغ الحصى بمداد» .

وقد أخذ هذا أبو نواس فقال: أبن لى كيف صرت إلى حريمى ... وجفن الليل مكتحل بقار وقد أخذ هذا أبو تمام فقال: إليك هتكنا جنح ليل كأنه ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد وقد أخذ لفظ الأعرابى المتقدم أبو نواس فقال: قد أغتدى والليل كالمداد ... والصبح ينفيه عن البلاد طرد المشيب حالك السّواد وإنما نظر فى هذا إلى قول الأعرابى «1» : أقول والليل قد مالت أواخره ... إلى الغروب: تأمّل نظرة حار ألمحة من سنا برق رأى بصرى ... أم وجه نعم بدا لى أم سنا نار بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح ما بين حجّاب وأستار ومن بديع الخروج قول علىّ بن الجهم وذكر سحابة: وسارية تزدار أرضا بجودها ... شغلت بها عينا طويلا هجودها «2» أتتنا بها ريح الصّبا فكأنها ... فتاة ترجّيها عجوز تقودها [فما برحت بغداد حتى تفجّرت ... بأودية ما تستفيق مدودها] فلما قضت حقّ العراق وأهله ... أتاها من الريح الشمال بريدها فمرت تفوت الطّير سبقا كأنها ... جنود عبيد الله ولّت بنودها يريد انصراف أصحاب عبيد الله بن خاقان عن الجعفرىّ إلى سرّ من رأى عند قتل المتوكل. وقد أخذ هذا التشبيه معكوسا من قول أبى العتاهية: ورايات يحلّ النصر فيها ... تمرّ كأنها قطع السحاب

[السر فى الابتداء بالنسيب]

وقال ديك الجنّ: وغرير يقضى بحكمين: فى الرا ... ح بجور، وفى الهوى بمحال للنقاردفه، وللخوط ما حمّل ... لينا، وجيده للغزال «1» فعلت مقلتاه بالصّبّ ما ... تفعل جدوى يديك بالأموال ومن بارع الخروج قول المتنبى: مرّت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشّرى وهو من عجل إذا انتسبا واشتهار شعره، يمنعنى من ذكره. [السر فى الابتداء بالنسيب] قال ابن قتيبة «2» : سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصّد القصيدة إنما ابتدأ بوصف الديار والدّمن والآثار؛ فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سببا لذكر أهله الظاعنين؛ إذ كانت نازلة العمد فى الحلول والظّعن على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبّعهم مساقط الغيث حيث كان؛ ثم وصل ذلك بالنسيب، فبكى شدّة الوجد، وألم الصبابة والشوق؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعى إصغاء الأسماع؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب «3» ، لما جعل الله تعالى فى تركيب العباد من محبّة الغزل، وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له؛ عقّب بإيجاب الحقوق؛ فرحل فى شعره، وشكا النّصب والسهر، وسرى الليل [وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير،

[موازنة بين أبى تمام والبحترى]

فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمام التأميل] ، وقرّر عنده ما ناله من المكاره فى المسير، بدأ فى المديح فبعثه على المكافأة، وفضّله على الأشباه، وصغّر فى قدره الجزيل، وهزّه لفعل الجميل؛ فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطع وفى النفوس ظمأ إلى المزيد. [موازنة بين أبى تمام والبحترى] ويتعلق بهذه القطعة ما حدّث به الحاتمى عن نفسه، وإن كانت الحكاية طويلة فهى غير مملولة؛ لما لبسته من حلل الآداب، وتزينت به من حلى الألباب، قال: جمعنى ورجلا من مشايخ البصرة ممن يومأ إليه فى علم الشعر مجلس بعض الرؤساء، وكان خبره قد سبق إلىّ فى عصبيّته للبحترى، وتفضيله إياه على أبى تمام، ووجدت صاحب المجلس مؤثرا لاستماع كلامنا فى هذا المعنى، فأنشأت قولا أنحيت فيه على البحترى إنحاء أسرفت فيه، واقتدحت زناد الرجل، فتكلّم وتكلمت، وخضنا فى أفانين من التفضيل والمماثلة، غلوت فى جميعها غلوّا شهده جميع من حضر المجلس، وكانوا جلّة الوقت، وأعيان الفضل، فاضطر إلى أن قال: ما يحسن أبو تمام يبتدىء، ولا يخرج، ولا يختم، ولو لم يكن للبحترى عليه من الفضل إلا حسن ابتداءاته، ولطف خروجه، وسرعة انتهائه، لوجب أن يقع التسليم له، فكيف بأوابده التى تزداد على التكرار غضارة وجدة ثم أقبل علىّ، فقال: أين يذهب بك عن ابتدائه: عارضننا أصلا فقلنا الرّبرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب «1» واخضرّ موشىّ البرود وقد بدا ... منهن ديباج الخدود المذهب

وأنّى لأبى تمام مثل خروجه حيث يقول: أدارهم الأولى بدارة جلجل ... سقاك الحيا روحاته وبوا كره «1» وجاءك يحكى يوسف بن محمد ... فروّتك ريّاه وجادك ماطره وقد كرر هذا وزاد فيه فقال: تنصّب البرق مختالا فقلت له: ... لوجدت جود بنى يزدان لم تزد ومن ذا الذى لطف لأن يخرج من وصف روض إلى مدح، فقال أحسن من قوله: كأنّ سناها بالعشىّ لصحبها ... تبلّج عيسى حين يلفظ بالوعد «2» وأنّى لأبى تمام مثل حسن انتهائه حيث يقول: إليك القوافى نازعات شواردا ... يسيّر ضاحى وشيها وينمنم ومشرقة فى النظم غرّا يزيدها ... بهاء وحسنا أنها لك تنظم وقوله فى هذا المعنى: ألست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء تخال الروض فيه منوّرا ... ضحى، وتخال الوشى فيه منمنما ولقد تقدم البحترى الناس كلهم فى قوله: لو أن مشتاقا تكلّف فوق ما ... فى وسعه لسعى إليك المنبر قال أبو على: وكنت ساكنا إلى أن استتم كلامه، فكأنّ الجماعة أعجبهم ذلك، عصبية علىّ لا على أبى تمام؛ لأنى كنت كالشّجى معترضا فى لهواتهم، وأسرّ كلّ واحد منهم إلى صاحبه سرّا يومىء به إلى استيلاء الرجل على؛ فلما استتم كلامه وبرقت له بارقة طمع فى تسليمى له ابتدأت فقلت: لست ممن

يقعقع له بالشّنان، ولا يقرع له بالعصا، لا إله إلا الله! استنّت الفصال حتى القرعى! هل هذه المعانى إلا عون مفترعة «1» ، قد تقدم أبو تمام إلى سبك نضارها، وافتضاض أبكارها، وجرى البحترى على وتيرته فى انتزاع أمثالها واتباعها، فأمّا قوله: «عارضننا أصلا فقلنا الربرب» ، فمن قول أبى جويرية العبدى: سلّمن نحوى للوداع بمقلة ... فكأنما نظرت إلينا الربرب وقرأن بالحدق المراض تحية ... كادت تكلّمنا وإن لم تعرب وأما قوله فى صفة الغيث مخاطبا للدار: «وجاءك يحكى يوسف بن محمد» وقوله فى هذا المعنى: «لوجدت جود بنى يزدان لم تزد» فمن قول أبى تمام: ولنؤيها فى القلب نؤى شفّه ... وله بظاعنها وبالمتخلّف وكأنما استسقى لهنّ محمد ... من سومهن من الحيا فى زخرف ومن قوله الذى تقدم فيه كلّ أحد لفظا رشيقا ومعنى رقيقا: ديمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث بها الثّرى المكروب لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب ومن هنا أخذ البحترى: «لسعى إليك المنبر» : [أيها الغيث حىّ أهلا بمغدا ... ك وعند السرى وحين تئوب لأبى جعفر خلائق تحكيهنّ ... قد يشبه النجيب النجيب أنت فينا فى ذا الأوان غريب ... وهو فينا فى كل وقت غريب] «2» وأما قوله: كأن سناها بالعشى لصحبها ... تبلّج عيسى حين يلفظ بالوعد فإنما نظر فيه إلى قول دعبل بن على: وميثاء خضراء زربيّة ... بها النّور يلمع فى كل فن «3»

ضحوكا إذا لاعبته الرياح ... تأوّد كالشارب المرجحن فشبّه صحبى سنا نورها ... بديباج كسرى وعصب اليمن فقلت: بعدتم، ولكننى ... أشبهه بجناب الحسن فتى لا يرى المال إلا العطاء ... ولا الكنز إلّا اعتقاد المنن وأما قوله فى صفة الغوانى «يسيّر ضاحى وشيها وينمنم» وقوله فى وصفها: «وتخال الوشى فيه منمنما» فمن قول أبى تمام: حلّوا بها عقد النسيب، ونمنموا ... من وشيها نثرا لها وقصيدا ومن قوله الذى أبدع فيه: ووالله لا أنفك أهدى شواردا ... إليك تحمّلن الثناء المنخّلا «1» تخال به بردا عليك محبّرا ... وتحسبه عقدا عليك مفصّلا ألذّ من السّلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا أخفّ على قلبى وأثقل قيمة ... وأقصر فى قلب الجليس وأطولا وقول البحترى هى الأبحم اقتادت مع الليل أنجما مأخوذ من قول أبى تمام مقصرا عنه كلّ تقصير عن استيفاء إحسانه حيث يقول: أصخ تستمع حرّ القوافى؛ فإنها ... كواكب إلّا أنهنّ سعود ولا تمكن الإخلاق منها فإنما ... يلذّ لباس البرد وهو جديد فهذه خصال صاحبك فيما عددته من محاسنه التى هتكت بها ستور عواره، ونشرت مطوىّ أسراره، حتى استوضحت الجماعة أنّ إحسانه فيها عاريّة مرتجعة، ووديعة منتزعة، فاسمع ما قال أبو تمام فى نحو أبياتك التى أوجبت الفضل لصاحبك حين قال مبتدئا:

لا أنت أنت، ولا الديار ديار ... خفّ الهوى، وتقضّت الأوطار «1» كانت مجاورة الطلول وأهلها ... زمنا عذاب الورد فهى بحار وقوله: رقّت حواشى الدهر فهى تمرمر ... وغدا الثّرى فى حليه يتكسّر وقوله: أرأيت أىّ سوالف وخدود ... عنّت لنا بين اللّوى وز رود وهل يستطيع أحد أن يبتدىء بمثل ابتدائه: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئى بذاك شهيدا دمن كأن البين أصبح طالبا ... دمنا لدى آرامها وحقودا «2» أو مثل قوله مبتدئا: يا دار درّ عليك إرهام الندى ... واهتزّ روضك للثرى فترأدا «3» وكسيت من خلع الحيا مستاسدا ... أنفا يغادر وحشه مستأسدا أو مثل قوله متبدئا: غدت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتادا عندها كل مرقد فاذرى لها الإشفاق دمعا مورّدا ... من الدم يجرى فوق خدّ مورّد ولقد أحسن حين ابتدأ فقال: نوار فى صواحبها نوار ... كما فاجاك سرب أو صوار تكذّب حاسد فنأت قلوب ... أطاعت واشيا ونأت ديار وحيث يقول: ما فى وقوفك ساعة من باس ... تقضى ذمام الأربع الأدراس

فلعلّ عينك أن تجود بدمعها ... والدمع منه خاذل ومواسى «1» وحيث يقول: ما عهدنا كذا نحيب المشوق ... كيف والدمع آية المعشوق وحيث يقول: دمن ألمّ بها فقال: سلام، ... كم حلّ عقدة صبره الإلمام؟ نحرت ركاب الركب حتى يعبروا ... رجلا، وقد عنفوا علىّ ولاموا وحيث يقول: أما الرسوم فقد أذكرن ما سلفا ... فلا تكفّن عن شانيك أو يكفا لا عذر للصب أن يقنى السّلوّ ولا ... للدمع بعد مضىّ الحىّ أن يقفا ومن اقتضاباته البعيدة قوله: لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك فتفضلا وقوله أيضا مقتضبا: الحقّ أبلج والسيوف عوارى ... فحذار من أسد العرين حذار ومما تقدم فيه كلّ واحد فى حسن التخلص إلى المدح قوله: إساءة الحادثات استنبطى نفقا ... فقد أظلّك إحسان ابن حسّان وقوله: إذا العيس لاقت بى أبا دلف فقد ... تقطّع ما بينى وبين النوائب وقوله: لم يجتمع قطّ فى مصر ولا طرف ... محمد بن أبى مروان والنّوب «2» وقوله المنقطع دونه كلّ قول فى هذا المعنى:

إنّ الذى خلق الخلائق قلتها ... أقواتها لتصرّف الأحراس فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العبّاس القوم ظلّ الله أسكن دينه ... فيهم، وهم جبل الملوك الراسى «1» وقوله: عامى وعام العيس بين وديقة ... مسجورة وتنوفة صيهود «2» حتى أغادر كلّ يوم بالفلا ... للطّير عيدا من بنات العيد هيهات منها روضة محمودة ... حتى تناخ بأحمد المحمود بمعرّس العرب الذى وجدت به ... أمن المروع ونجدة المنجود ومن أبدع ابتدائه قوله: سقّي ديارهم أجشّ هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم جادت معاهدهم عهاد سحابة ... ما عهدها عند الديار ذميم ثم تخلص إلى المدح فقال وأحسن كلّ الإحسان: لا والذى هو عالم أنّ النّوى ... مرّ وأن أبا الحسين كريم «3» مازلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسى على إلف سواك تحوم ثم عاد إلى المدح، فقال: لمحمد بن الهيثم بن شبابة ... مجد إلى حيث السّماك مقيم ملك إذا نسب النّدى من ملتقى ... طرفيه فهو أخ له وحميم وأبو تمام الذى وصف القوافى بما لم يستطع وصفها به أحد فقال: فإن أنا لم يحمدك عنى صاغرا ... عدوّك فاعلم أننى غير حامد بسيّاحة تنساق من غير سائق ... وتنقاد فى الآفاق من غير قائد

[أثر الغناء والجمال]

محبّبة ما إن تزال ترى لها ... إلى كل أفق واحدا غير وافد مخلقة لمّا ترد أذن سامع ... فتصدر إلا عن يمين وشاهد والذى قال أيضا فى صفتها جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون إنسيّة وحشية كثرت بها ... حركات أهل الأرض وهى سكون حذيت حذاء الحضرميّة أرهفت ... وأجادها التّخصير والتلسين ينبوعها خضل، وحلى قريضها ... حلى الهدى، ونسيجها موضون «1» أحذاكها صنع الضمير يمدّه ... حسب إذا نضب الكلام معين «2» أما المعانى فهى أبكار إذا ... نصّت، ولكنّ القوافى عون وقد أبدع فى وصفها فقال: لم أبق حلية منطق إلّا وقد ... سبقت سوابقها إليك جيادى أبقين فى أعناق جودك جوهرا ... أبقى من الأطواق فى الأجياد هل يستطيع أحد أن ينسب هذا أو شيئا منه إلى السّرق والاحتذاء؟ وهل يستطيع مماثلته بشىء من شعر البحترى، أو أشعار المحدثين فى عصره ومن قبله؟ فعىّ عن الجواب قصورا، وأحجم عن المساجلة تقصيرا، وحكمت الجماعة لى بالقهر، وعليه بالنصر، ولم ينصرف عن المجلس حتى اعترف بتقديم أبى تمام فى صنعة البديع واختراع المعانى على جميع المحدثين. وكان يوما مشهودا. [أثر الغناء والجمال] وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوما، فاستأذن الغلام لعمير المأمونى فكرهت ذلك، ورأى المأمون الكراهية فى وجهى، فقال: يا ثمامة، ما بك؟

فقلت: يا أمير المؤمنين، إذا غنّانا عمير ذكرت مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملى، وقوى جذلى، وانشرح صدرى، وذكرت الجنان والولدان، كم بين أن تغنيك جارية غادة كأنها غصن بان، ترنو بمقلة وسنان؛ كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من فضّة، بشعر عكاشة العمّى حيث يقول: من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرّفت عنّابا وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقى على الكفّ الشمال حسابا وبين أن يغنيك رجل كثّ اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير حيث يقول: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادره «1» وكم بين أن يحضرك من تشتهى النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه؟ فتيسم المأمون، وقال: الفرق بينهما واضح، والمنهج فسيح؛ يا غلام، لا تأذن له، وأحضر أطيب قيناته، فظللنا فى أمتع يوم. وعكاشة هذا هو عكاشة بن عبد الصمد البصرى، نقىّ الديباجة، ظريف الشعر، وكان شاعرا مجيدا. وقد أخذ معنى قوله أبو العباس الناشىء، وزاد فيه، فقال: وإذا بصرت بكفها اليسرى حكت ... يد حاسب تلقي عليك صنوفا فكأنما المضراب فى أوتاره ... قلم يمجمج فى الكتاب حروفا ويجسّه إبهامها فكأنما ... فى النّقر تنفى بهرجا وزيوفا أخذ هذا البيت من قول أبى شجرة السلمى وذكر ناقته: تطير عنها حصى الظّرّان من بلد ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق «2»

وأصله قول امرىء القيس: كأنّ صليل المروحين تشذّه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا «1» وقال أبو الفتح كشاجم: لو لم تحركه أناملها ... كان الهواء يعيده نطقا جسّته عالمة بحالته ... جسّ الطبيب لمدنف عرقا غنّت فخلت أظنّنى طربا ... أسمو إلى الأفلاك أو أرقى وحسبت يمناها تحرّكه ... رعدا وخلت يسارها برقا وأنشد الحاتمى لأبى بكر الصولى: وغناء أرقّ من دمعة الصبّ ... وشكوى المتيم المهجور يشغل المرء منظر ثم نطق ... فهو يصغى بظاهر وضمير صافح السمع بالذى يشتهيه ... وأذاق النفوس طعم السرور ليس بالقائل الضعيف إذا ما ... راض نغما ولا الشنيع الجهير وقال أبو نواس: وأهيف مثل طاقة ياسمين ... له حظّان من دنيا ودين يحرّك حين يشدو ساكنات ... فتنبعث الطبائع للسكون وهذا مليح، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع وقال الحمدونى يصف عودا: وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدى ضمير سواه للقلوب كما ... يبدى ضمير سواه منطق القلم

[من وصف القيان]

[من وصف القيان] ومن أحسن ما قيل فى صفة القيان قول ابن الرومى: وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حوانى مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان ملقمات أطفالهنّ ثديّا ... ناهدات كأحسن الرّمان مفعمات كأنها حافلات ... وهى صفر من درّة الألبان كل طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران «1» أمه دهرها تترجم عنه ... وهو بادى الغنى عن الترجمان وقال أبو الفتح كشاجم: جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فرق فتى محفّف حفّت العيون به ... كأنما الزهر حوله نبتا دارت ملاويه فيه فاختلفت ... مثل اختلاف العيون مذثبتا لو حركته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا وقال: يقولون تب والكأس فى كفّ أغيد ... وصوت المثانى والمثالث عالى فقلت لهم لو كنت أزمعت توبة ... وشاهدت هذا فى المنام بدا لى «2» وقال: أفدى التى كلف الفؤاد من أجلها ... بالعود حتى شفّنى إطرابا تاهت بجمع صناعتين، وأظهرت ... كبرا بذاك، وأعجبت إعجابا قالت: فضلتك بالغناء وأنت لا ... تشدو، وكنا مثلكم كتّابا

فعنيت بالأوتار حتى لم أدع ... نغما ولم أغفل لهنّ حسابا وألفتها فأغار ذاك على يدى ... قلمى وعاتبها عليه عتابا فجعلت للقرطاس جانب صدره ... وجعلت جانب عجزه مضرابا وقال: جاءت بعود كأنّ الحبّ أنحله ... فما يرى فيه إلا الوهم والشبح فحركته وغنت بالثقيل لنا ... صوتا به الشوق فى الأحشاء ينقدح بيضاء يحضر طيب اللهو ما حضرت ... فإن نأت عنك غاب اللهو والفرح «1» كل اللباس عليها معرض حسن ... وكلّ ما تتغنى فهو مقترح هذا من قول ابن المعتز: وغنّت فأغنت عن المسمعي ... ن وارتجّ بالطرب المجلس محاسنها نزهة للعيون ... ومعرضها كل ما تلبس وقال أيضا: «2» أشتهى فى الغناء بحة حلق ... ناغم الصوت متعب مكدود كأنين المحبّ أضعفه الشّو ... ق فضاهى به أنين العود لا أحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهى الضرب لازما للعمود وأحب المجنبات كحبى ... للمبادى موصولة بالنّشيد كهبوب الصبا توسط حالا ... بين حالين شدة وركود وقال: آه من بحة بغير انقطاع ... لفتاة موصولة الإيقاع أتعبت صوتها وقد يجتنى من ... تعب الصوت راحة الأسماع

فغدت تكثر الشّجاج وحطّت ... طبقات الأوتار بعد ارتفاع «1» كأنين المحبّ خفّض منه ... صوت شكواه شدّة الأوجاع وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن بن يونس: غنّت فأخفت صوتها فى عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبدا، ويتبعها اتّباع ودود أندى من النّوّار صبحا صوتها ... وأرقّ من نشر الثّنا المعهود فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود وأبو الحسن هذا هو: على بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى صاحب عبد الله بن وهب الفقيه، وكان لأبى الحسن فى الشعر مذهب حسن، وطبع صحيح، وحوك مليح، وكان عالما بالنجوم وما يتعلق بها من علوم الأوائل وهو القائل: سقى الله أكناف اللّوى كلما سقى ... بضرب من المزن الكنهور هامل «2» إذا نشرت ريح جمان سحابة ... غدا وهو حلى للرياض العواطل به وجد رعد ليس بين جوانح ... ووسواس ودق ليس بين مفاصل إذا كان خدّ البرق يلمس نبته ... تلقّاه درّ النّور فوق الخمائل وقال، وذكر غلاما: يجرى النسيم على غلائل خدّه ... وأرقّ منه ما يمرّ عليه ناولته المرآة ينظر وجهه ... فكسته فتنة ناظريه إليه وقال ابن المعتز- وذكر المرآة: تبيّننى لى كلما رمت نظرة ... وناصحتى من دون كلّ صديق

ومن ألفاظ أهل العصر فى مدح الغناء

يقابلنى منك الذى لا عدمته ... بلجّة ماء وهو غير غريق وقال أبو الفتح كشاجم يصف مرآة أهداها: أخت شمس الصفاء فى الحسن والإشراق ... غير الإعشاء للأجفان ذات طوق مشرف من لجين ... أجريت فيه صفرة العقيان فهو كالهالة المحيطة بالبد ... ر لستّ مضين بعد ثمان وعلى ظهرها فوارس تلهو ... ببزاة تعدو على غزلان [لك فيها إذا تأملت فأل ... حسن مخبر بنيل الأمانى] لم يكن قبلها من الماء جرم ... حاصر نفسه بغير أوان عدّلت عكسها الشعاع فمبدا ... إليها ورجعه سيّان وهى شمس وإن مثالك يوما ... لاح فيها فإنها شمسان أينما قابلت مثالك من أر ... ض ففيها تقابل النّيّران فالقها منك بالذى ما رآه ... خائف فانثنى بغير أمان ومن ألفاظ أهل العصر فى مدح الغناء غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو جبر للكسر «1» . [غناؤه] يبسط أسرّة الوجه، ويرفع حجاب الإذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويحرّك النفوس، ويرقص الرءوس. فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيى موات الخواطر والطّباع، يطعم الآذان سرورا، ويقدح فى القلوب نورا. القلوب من غنائه على خطر؛ فكيف الجيوب؟! السكر على صوته شهادة. كل ما يغنّيه مقترح. لغنائه فى القلب، موقع القطر فى الجدب. نغمة نغمته تطرب، وضروب ضربه لا تضطرب. وقيل: السماع متعة الأسماع، وإدام المدام.

[الأقلام]

[الأقلام] أهدى بعض الكتّاب إلى أخ له أقلاما وكتب إليه: إنه- أطال الله بقاءك! - لما كانت الكتابة قوام الخلافة، وقرينة الرياسة، وعمود المملكة، وأعظم الأمور الجليلة قدرا، وأعلاها خطرا، أحببت أن أتحفك من آلاتها بما يحفّ عليك محمله، وتثقل قيمته، ويكثر نفعه؛ فبعثت إليك أقلاما من القصب النابت فى الأعذاء «1» ، المغذوّ بماء السماء، كاللآلى المكنونة فى الصّدف، والأنوار المحجوبة بالسّدف، تنبو عن تأثير الأسنان، ولا يثنيها غمز البنان، قد كستها طباعها جوهرا كالوشى المحبّر، وفرند الديباج المنيّر، فهى كما قال الكميت: وبيض رقاق صحاح المتو ... ن تسمع للبيض فيها صريرا مهنّدة من عتاد الملوك ... يكاد سناهنّ يعشى البصيرا وكقبح النبل فى ثقل أوزانها، وقضب الخيزران فى اعتدالها، ووشيج الخطّ فى اطّرادها، تمرّ فى القراطيس كالبرق اللائح، وتجرى فى الصحف كالماء السائح، أحسن من العقيان، فى نحور القيان. وكتب عبيد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم من خراسان إلى بغداد يسأله أن يوجّه إليه بأقلام قصبيّة: أما بعد، فإنّا على طول الممارسة لهذه الصناعة التى غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم، فحلّت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب- وجدنا الأقلام القصبيّة أسرع فى الكواغد، وأمرّ فى الجلود، كما أن البحرية منها أسلس فى القراطيس، وألين فى المعاطف، وأكلّ عن طريقها؟؟؟، والتعلق بما ينبو من شظاياها. ونحن فى بلاد قليلة القصب، ردىء ما يوجد

بها منه؛ فأحببت أن تتقدّم فى اختيار أقلام قصبية، وتتأنّق فى انتقائها قبلك، وطلبها فى منابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمّم باختيارك منها الشديدة المجسّ، الصّلبة المعضّ، الغليظة الشحوم، المكتنزة الجوانب، الضيّقة الأجواف، الرزينة الوزن، فإنها أبقى على الكتاب، وأبعد من الحفاء، وأن تقصد بانتقائك منها للرقاق القضبان، اللطاف المنظر، المقوّمات الأود، الملس العقد، ولا يكون فيها التواء عوج ولا أمت؛ وضمّ الصافية القشور، الخفية الأبن «1» ، الحسنة الاستدارة، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، تكاد أسافلها تهتزّ من أعلاها، لاستواء أصولها برءوسها، المستكملة يبسا، القائمة على سوقها، قد تشرّبت الماء في لحائها، وانتهت فى النّضج منتهاها، لم تعجّل عن تمام مصلحتها، وإبّان ينعها، ولم تؤخّر فى الأيام المخوفة عاهاتها؛ من خصر الشتاء، وعفن الأنداء، فإذا استجمعت عندك أمرت تقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رفيقا تتحرّز معه أن تتشعّب رءوسها، أو تنشق أطرافها، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، وعليها الخيوط الوثيقة، ووجّهتها مع من يحتاط فى حراستها وحفظها وإيصالها؛ إذ كان مثلها يتوانى فيه، لقلّة خطرها عند من لا يعرف فضل جوهرها؛ واكتب معه بعدّتها وأصنافها وأجناسها وصفاتها، على الاستقصاء، من غير تأخير ولا إبطاء. فأجابه ووجّه إليه مع الأنابيب: أتانى كتاب الأمير- أعزّه الله! - بما أمر به ولخصه، من البعث بما شاكل نعته، وضاهى صفته، من أجناس الأقلام، فتيممت بغيته قاصدا لها، وانتهجت معالم سبله آخذا بها، فأنفذت إليه حزما أنشئت بلطيف السّقيا، وحسن العهد والبقيا، لم تعجل بإخراجها، ولا بودرت

قبل إدراكها؛ فهى مستوية الأنابيب معتدلتها، مثقّفة الكعوب مقوّمتها؛ لا يرى فيها أمت زور، ولا وصم صغر ولا عوج، وقد رجوت أن يجدها الأمير عند إرادته وحسب بغيته. ومن كلام منصور بن عمّار فى صفة القلم، ويقال إنه لسليمان بن الوليد الكاتب: أو ليس من عجائب الله فى خلقه، وإنعامه على عباده، تعليمه إياهم الكتاب المفيد للباقين حكم الماضين، والمخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة، بمعان مفترقة معقودة، وأحرف مقلوبة، من ألف وتاء، وجيم وباء، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكير، ونتاجها التأليف، تخرس مفردة، وتنطق مزدرجة، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، بل قلم حرّف باريه قطّته، ليعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشقّ فى رأسه ليحتبس الاستعداد عليه، ورفع من شعبتيه لتجتمع حواشى تصويره؛ فهنالك روى القلم فى شقّه، وقذف المادة إلى صدره، فإذا علقتها العيون حكتها الألسن، فالقلوب حينئذ راعية، والآذان واعية، لكلام سدّاه العقل، وألحمه اللسان، وأدّته اللهوات، ولفظته الشّفاه، ووعته الأسماع، على اختلاف أنحاء، من صفات وأسماء؛ فتبارك الله أحسن الخالقين. حمل من رسالة كتبها بعض أهل العصر، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمى، فى القلم إلى أبى عمران بن رياح: إنه لما كان القلم مطيّة الفكر والبيان، ومخرج الضمير إلى العيان، ومستنبطا ما تواريه ظلم الجنان إلى نور البيان، ومريح الفطن العوازب، وجالب الفكر الغرائب [ولسان الغائب، وبز الكاتب، ومكتّب الكتائب] ، ومفرق الجلائب، وعماد السّلم، وزناد الحرب، ويد الحدثان، وخليفة اللسان، ورأس الأدوات التى

خصّ الله بها الإنسان، وشرّفه بها على سائر أصناف الحيوان، ومركبا لآلة قد تقدّمت كلّ آلة، وحكمة سبقت فى الإنسان كلّ حكمة، وقواما لهندسة عقلية، ومصدرا لعقل العاقل، وجهل الجاهل. الناقل إلينا حكم الأولين، وحاملها عنا إلى الآخرين، الحافظ علينا أمر الدنيا والدين، أول شىء خلقه الله بأمره وسبّحه، ومجّده وحمده وسجد له، فكان له فرسان خلق لهم، وكنت عميدهم، وأقران قصر عليهم، وأنت صنديدهم، وميدان كنت زينه، ومضمار كنت عينه، وحلية كنت سابقها ومعجزها، وغاية كنت مالكها ومحرزها، ورمت بى الأيام إلى معدنه الذى كلفت به وعنيت بطلبه، فانفردت منه بقدح فذّ أوحد، فرد فى مثبته، قد ساعدت عليه السعود فى فلك البروج حولا كاملا، مختلف يؤلّفه أركانها وطباعها، ومتباين أنوائها وأنحائها، وتؤيده بقواها وجواهرها، حتى غذته عرقا فى الثرى معرقا، وأرضعته ناجما، وسقته مكعبا، وأروته مقصبا، وأظمأته مكتهلا، ولوحته مستحصدا، وجللته بهاءها، وألقت عليه عنوانها، وأودعته أعراقها وأوراقها وأخلاقها، حتى إذا شق بازله، ورقّت شمائله، وابتسم من غشائه، ونادى من لحائه، وتعرى «1» عن خز المصيف، بانقضاء الخريف، وانكشف عن لون البيض المكنون، والصدف المخزون، ودر البحار، وفتات الجمار، دعا منه نفق العاج بنقبة الديباج، وقميص الدرر بطراز النساج، فاجتمعت له زينة الأيدى البشرية، إلى الأيدى العلوية، والأنساب الأرضية، إلى الأنساب السماوية، فلما قادته السعادة إلىّ، ورأيته نسيج وحده فى الأقلام، رأيت أولى الناس به نسيج وحده فى الأنام، فآثرتك به مؤثرا للصنيعة؛ عالما أن زين الجياد فرسانها، وزين السيوف أقرانها، وزين بزة لابسها، وزين أداة ممارسها،

فالآن أعطيت القوس باريها، وزناد المكارم موريها، والصمصامة مصلتها، والقناة معلمها، وحلّة المجد لا بسها. وكان النجيرمى جيّد الروية والبديهة فى نظمه ونثره، حلو التصريف، مليح التأليف، وكان يوما عند أبى المسك كافور الإخشيدى، فدخل عليه أبو الفضل ابن عياش فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ- بالخفض- فتبسّم كافور إلى أبى إسحاق، فقال ارتجالا: لا غرو إن لحن الدّاعى لسيّدنا ... وغصّ من هيبة بالريق والبهر فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر فإن يكن خفض الأيام من دهش ... من شدة الخوف لا من قلّة البصر فقد تفاءلت فى هذا لسيدنا ... والفأل مأثرة عن سيّد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر فأمر له بثلاثمائة دينار، ولابن عياش بمائتين. وقال حمدان الدمشقى يصف قلما: للأيم بعثته وشقّ لسانه ... وله إذا لم تجره إطراقه كالحيّة النّضناض إلّا أنه ... من حيث يجرى سمه ترياقه قال العتابى: سألنى الأصمعى فقال لى: أى الأنابيب أصلح للكتابة وعليها أصبر؟ فقلت: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره عن تلويحه غشاؤه، من التّبرية القشور الدرّية الظهور، الفضية الكسور، قال: فأىّ نوع من البرى أكتب وأصوب؟ قلت: البرية المستوية القطّ، عن يمين سنّها، برية تأمن معها المجّة عند المط «1» ،

[من ترجمة العتانى وأدبه وأخباره]

الهواء فى مشقّها فتيق، والريح فى جوفها خريق، والمداد فى خرطومها رقيق، قال: فبقى الأصمعى شاخصا إلىّ ضاحكا لا يحير مسألة ولا جوابا. [من ترجمة العتانى وأدبه وأخباره] والعتابى: هو كلثوم بن عمرو بن الحارث التغلبى، يكنى أبا عمرو، قال أبو عثمان الجاحظ: كان العتّابىّ ممن اجتمع له الخطابة، والبيان، والشعر الجيد، والرسائل الفاخرة، وعلى ألفاظه وحذوه يقول فى البديع جميع من يتكلّف ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النّمرى، ومسلم بن الوليد الأنصارى، وأشباههما، وكان العتابى يحتذى حذو بشّار فى البديع، ولم يكن فى المولدين أجود بديعا من بشار وابن هرمة والعتابى من ولد عمرو بن كلثوم ابن مالك بن عتّاب بن سعد، ولذلك قال: إنى امرؤ هدم الإقتار مأثرتى ... واجتاح ما أبدت الايام من خطرى أنا ابن عمرو بن كلثوم يسوّده ... حيّا ربيعة والأحياء من مضر أرومة عطّلتنى من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامى من الوتر وكان صاحب بديهة فى المنظوم والمنثور، حسن العقل والتمييز، والعرب تقول: من تمنّى رجلا حسن العقل، حسن البيان، حسن العلم، تمنّى شيئا عسيرا. وقد اجتمع ذلك كله للعتابى. وعاتبه يحيى بن خالد على لباسه، وكان لا يبالى أى ثوبيه ابتذل! فقال: أبعد الله رجلا مهمّه أن يكون جماله فى لباسه وعطره. إنما ذلك حظّ النساء، وأهل الأهواء، حتى يرفعه أكبراه: همّته، ولبّه، ويعلو به معظماه: لسانه، وقلبه.

ودخل على الرشيد فقال: تكلّم يا عتّابىّ! فقال: الإيناس قبل الإبساس، لا يمدح المرء بأوّل صوابه، ولا يذمّ بأول خطئه؛ لأنه بين كلام زوّره، أوعى حصره. وذكر أبو هفّان أنّ الرشيد لقيه بعد قتل جعفر بن يحيى وزوال نعمته، فقال: ما أحدثت بعد يا عتّابى؟ فأنشده ارتجالا: تلوم على ترك الغنى باهلية ... طوى الدهر عنها كلّ طرف وتالد رأت حولها النسوان يرفلن فى الكسا ... منظمة أجيادها بالقلائد أسرّك أنى نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد وأن أمير المؤمنين أغصّنى ... مغصّهما بالمرهفات البوارد فإنّ رفيعات المعالى مشوبة ... بمستودعات فى بطون الأساود وكان متحرفا عن البرامكة، وفيهم يقول: إنّ البرامك لا تنفكّ أبحية ... بصفحة الدّين من نجواهم ندب «1» تجرّمت حجج منهم ومنصلهم ... مضرّج بدم الإسلام مختضب «2» واجتاز عبد الله بن طاهر بالرقة بمنزل العتّابى، فقال: أليس هذا منزل كلثوم ابن عمرو؟ قيل: نعم، فثنى رجله، ودخل إليه، فألفاه جالسا فى بيت كتبه، فحادثه وذاكره، ثم انصرف، فتحدّث الناس فى ذلك، وقالوا: إن الأمير لم يقصده، وإنما اجتاز به فأخطر ذلك الزيارة، فكتب إليه: يا من أفادتنى زيارته ... بعد الخمول نباهة الذكر قالوا الزيارة خطرة خطرت ... ومجاز خطرك ليس بالخطر فادفع مقالتهم بثالثة ... تستنفد المجهود من شكرى

لا تجعلنّ الوتر واحدة ... إن الثلاث تتمة الوتر فبعثته الأبيات إلى أن زاره ثلاثا. وكان يميل إلى المأمون، فلما خرج المأمون إلى خراسان شيّعه حتى وصل معه إلى سندان «1» كسرى، فقال له المأمون: سألتك بالله يا عتّابى إلا عملت على زيارتنا إن صار لنا من هذا الأمر شىء، فلما ولى المأمون الخلافة، ودخل بغداد سنة أربع ومائتين توصّل إليه العتّابى، فلم يمكنه الوصول، فقال للقاضى يحيى بن أكثم: إن رأيت أن تعلم أمير المؤمنين بمكانى! فقال: لست بحاجب! قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان! فقال: سلكت بى غير طريقى! قال: إن الله تعالى ألحقك بحاه ونعمة، وهما يقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، والتغيير إن كفرت، وأنا اليوم لك خير منك لنفسك؛ أدعوك لما فيه زيادة نعمتك، وأنت تأبى ذلك؛ ولكلّ شىء زكاة، وزكاة الجاه بذله للمستعين، فدخل يحيى على المأمون فقال: أجرنى من لسان العتّابى، فلها عنه، ولم يأذن له، فلما طال عليه كتب إليه: ما على ذلك افترقنا بسندا ... ن ولا هكذا عهدنا الإخاء لم أكن أحسب الخلافة يزدا ... دبها ذو الصفاء إلّا صفاء تضرب الناس بالمثّقفة السّمر ... على غدرهم وتنسى الوفاء يعرّض بقتله لأخيه على غدره، ونكثه لما عقد الرشيد؛ فلما قرأ المأمون والأبيات أمر أن يدخل عليه. فلما سلم قال: يا عتابى، بلغتنى وفادتك فسرّتنى، وقد كانت بلغتنى وفاتك فساءتنى، وإنى لحرىّ بالغم لبعدك، والسرور بقربك! فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو قسم هذا الكلام على أهل الأرض لوسعهم عدلا

وأعجزهم شكرا، وإنّ رضاك لغاية المنى؛ لأنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك، قال: سلنى، قال: يدك بالعطية أطلق من لسانى بالمسألة، فأمر له بخمسين ألفا. وقال العتابى وودّع جارية له: ما غناء الحذار والإشفاق ... وشآبيب دمعك المهراق ليس يقوى الفؤاد منك على الصّ ... دّ ولا مقلتا طليح المآقى غدرات الأيّام منتزعات ... ما غنمنا من طول هذا العناق إن قضى الله أن يكون تلاق ... بعد ما قد ترين كان تلاق هوّنى ما عليك واقنى حياء ... لست تبقين لى ولست بباق أيّنا قدّمت صروف المنايا ... فالذى أخّرت سريع اللّحاق ويد الحادثات رهن بمرّا ... ت من العيش مصبرات المذاق غرّ من ظن أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق كم صفيّين متّعا باتفاق ... ثم صارا لغربة وافتراق قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق بينما المرء فى غضارة عيش ... وصلاح من أمره واتّفاق عطفت شدّة الزمان فأدّته ... إلى فاقة وضيق خناق لا يدوم البقاء للخلق ... لكنّ دوام البقاء للخلّاق وقال فى الرشيد: إمام له كفّ تضم بنانها ... عصا الدين ممنوعا من البرى عودها

وعين محيط بالبريّة طرفها ... سواء عليها قربها وبعيدها وقال فيه: رعى أمّة الإسلام فهو إمامها ... وأدّى إليها الحقّ فهو امينها مقيم بمستنّ الفلاحيث تلتقى ... طوارق أبكار الخطوب وعونها وكان منصور النمرى سعى به إلى الرشيد فخافه، فهرب إلى بلد الروم. وله قصائد يعتذر فيها جيدة مختارة، وهو مشبّه فى حسن الاعتذار بالنابغة الذبيانى، ومن جيّد اعتذاره قوله للرشيد، ويقال: بل قالها على لسان. عيسى بن موسى الهاشمى يخاطب الرشيد: جعلت رجاء العفو عذرا وشبته ... بهيبة إمّا غافر أو معاتب وكنت إذا ما خفت حادث نبوة ... جعلتك حصنا من حذار النوائب فأنزل بى هجرانك اليأس بعد ما ... حللت بواد منك رحب المشارب أظل ومرعاى الجديب مكانه ... وآوى إلى حافات أكدر ناضب ولم يثن عن نفسى الردى غير أنها ... تنوء بباق من رجائك ثائب «1» هى النفس محبوس عليك رجاؤها ... مقيدة الآمال دون المطالب وتحت ثياب الصبر منى ابن لوعة ... بظلّ ويمسى مستلين الجوانب فتى ظفرت منه الليالى بزلّة ... فأقلعن عنه داميات المخالب حنانيك إنى لم أكن بعت عزّة ... بذلّ، وأحرزت المنى بالمواهب فقد سمتنى الهجران حتى أذقتنى ... عقوبة زلاتى وسوء مناقب فهاأنا مقصى فى رضاك، وقابض ... على حدّ مصقول الذبابين قاضب ومنتزع عما كرهت وجاعل ... هواك مثالا بين عينى وحاجبى

وفى هذه القصيدة مما يختار أهل الصناعة: وأشعث مشتاق رمى فى جفونه ... غريب الكرى بين الفجاج السباسب سحبت له ذيل السّرى وهو لابس ... دجى الليل حتى مجّ ضوء الكواكب ومن فوق أكوار المهارى لبانة ... أحل لها أكل الذّرى والغوارب وكلّ فتى عاداته قصر شوقه ... وطىّ الحشى دون الهموم العوازب يسرّ الهوى لم يبده نعت فرقة ... صراخا، ولم تسمع به أذن صاحب إذا ادّرع الليل انجلى وكأنّه ... بقية هندى الحسام المضارب بركب ترى كسر الكرى فى جفونهم ... وعهد الليالى فى وجوه مشاحب وقال أيضا: لو رأتنى بذى المحارة فردا ... وذراع ابنة الفلاة وسادى «1» أطفىء الحزن بالدموع إذا ما ... حمة الشوق أثّرت فى فؤادى خاشع الطرف قد توشّحنى الضرّ ... فلانت له قناة قيادى ترب بؤس أخا هموم كأنّ ال ... حزن والبؤس وافيا ميلادى وكأنى استشعرت ما لفظ النا ... س من النائرات والأحقاد أتصدّى الرّدى وأدّرع اللي ... ل بهوجاء فوقها أقتادى حظّ عينى من الكرى خفقات ... بين سرحى ومنحنى أعوادى أوحش الناس جانبىّ فما آ ... نس إلّا بوحدتى وانفرادى قد رددت الذى به أتقى النا ... س وأبرزت للزمان سوادى فاستهلّت علىّ تمطرنى الشو ... ق شآبيب مزنة مرعاد وقال: أما راع قلب العامرية أننى ... غدوت ومرجوع السقام قرينى

[من آداب آل وهب]

وقال: أكاتم لو عات الهوى ويبينها ... تخلّل ماء الشوق بين جفونى ومطروفة الإنسان فى كل لوعة ... لها نظرة موصولة بحنين [من آداب آل وهب] وقال الحسن بن وهب بن سعيد: أبك فمن أحسن ما فى البكى ... أن البكى للوجد تحليل وهو إذا أنت تأملته ... حزن على الخدّين محلول وقد أعرق بنو وهب فى الكتابة وأنجبوا، ولهم فى هذا الكتاب ما يشهد لهم بما نسب إليهم، وفيهم يقول الطائى: كل شعب كنتم به آل وهب ... فهو شعبى وشعب كلّ أديب «1» إن قلبى لكم لكالكبد الحرّى ... وقلبى لغيركم كالقلوب وفى هذه القصيدة يقول فى مدح سليمان بن وهب: ما على الوسّج «2» الرّواتك من عي ... ب إذا ما أتت أبا أيوب حوّل لا فعاله مرتع الذمّ ... ولا عرضه مناخ العيوب واجد بالصديق من برحاء الشّ ... وق وجدان غيره بالحبيب أخذ سليمان منه معنى هذا البيت الأخير، فقال فى رسالة لبعض إخوانه: ظرف الصداقة، أرقّ من ظرف العلاقة، والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق. فقال له أبو تمام: كلامك هذا أرق من شعرى. والحسن بن وهب حسن الشعر والبلاغة، جيّد اللسان، حلو البيان، وكان يحب بنان جارية محمد بن حمّاد، وله فيها شعر جيد، ولها بقول:

أقول وقد حاولت تقبيل كفّها ... وبى رعدة أهتزّ منها وأسكن ليهنئك أنّى أشجع الناس كلّهم ... لدى الجرب إلا أننى عنك أجبن وحضرت مجلسه وبين يديه نار فأمرت بإزالتها، فقال: بأبى كرهت النار حتى أبعدت ... فعلمت ما معناك فى إبعادها هى ضرّة لك فى التماع ضيائها ... وهبوب نفحتها لدى إيقادها وأرى صنيعك فى القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها «1» شركنك فى كلّ الأمور بفعلها ... وضيائها وصلاحها وفسادها وإلى هذا ينظر قول الأمير تميم بن المعزّ: ما هجرت المدام والورد والبد ... ر بطوع، لكن برغم وكره منعتنى من الثلاثة من لو ... قتلتنى لم أحك والله من هى قالت الورد والمدامة والبد ... رضيائى ولون خدّى ووجهى قلت بخلّا بكلّ شىء فقالت ... لا ولكن بخلت بى وبشبهى قلت يا ليتنى شبيهك قالت ... إنما يقتل المحبّ التّشهّى ولما مات الحسن بن وهب- وكان موته بالشام- عزّى عنه أخوه سليمان فجاء أبو العيناء، فقال: أنشدنى أبو سعيد الأصمعى: لعمرى لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل لقد فقدوا عزما وحزما وسؤددا ... وعلما أصيلا خالفته المجاهل فإن عشت لم أملل حياتى وإن تمت ... فما فى حياتى بعد موتك طائل فقال سليمان: أحسن الله جزاءك، ووصل إخاءك، إن هذا لمن أحسن الشعر، وقد تمثّل به قتيبة حين بلغه موت الحجاج، ولكنى أقول كما قال كعب ابن سعد الغنوى يرثى أخاه أبا الغوار:

أخى ما أخى لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبى الشيب، للنفس اللّجوج غلوب حبيب إلى الزوّار غشيان بيته ... جميل المحيّا شبّ وهو أريب إذا ما تراآه الرجال تحفّظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب فانصرف الناس يعجبون من علم سليمان، وحسن جوابه، وصحّة تمثله. والأبيات التى أنشدها الأصمعى للحطيئة، واسمه جرول بن أوس بن جؤيّة ابن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيفة بن عبس بن بغيض، يقولها فى علقمة ابن علاثة وفيها يقول: فما كان بينى لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل قال سليمان بن وهب: لما جار علينا بالنكبة السلطان، وجفانا من أجلها الإخوان، أنصفنا ابن أبى دواد بتطوّله، وكفانا الحاجة إليهم بتفضّله، فكنا وإياه كما قال الحطيئة: جاورت آل مقلّد فحمدتهم ... إذ لا يكاد أخو جوار يحمد أيام من يرد الصنيعة يصطنع ... فينا، ومن يرد الزهادة يزهد وله فصل إلى بعض إخوانه: لك أن تعتب، وشبيهك أن يعذر؛ فهب أقل الأمرين لأكثرهما، وقدّم فضلك على حقّك، ويقينك على شكّك. ووصف رجلا بليغا فقال: كان والله واسع المنطق، جزل الألفاظ، ليس بالهذر فى لفظه، [ولا المظلم فى مقصده؛ معناه إلى القلم أسرع من لفظه إلى السّمع] . وهذا ضدّ قول محمد بن عبد الملك الزيات فى عبيد الله بن يحيى بن خاقان. هو مهزول الألفاظ، غليظ المعانى، سخيف العقل، ضعيف العقدة، واهى العزم، مأفون الرأى

ألفاظ لأهل العصر فى ذم الكتاب والكتاب والنثر والشعر

ألفاظ لأهل العصر فى ذم الكتاب والكتّاب والنثر والشعر الخرس أحسن من كلامه، والعىّ أبلغ من بيانه، حاطره ينبو، وقلمه يكبو، ويسهو ويغلط، ويخطىء ويسقط. هو قصير باع الكتابة، قاصر سعى الخطابة، وكتبه مضطربة الألفاظ، متفاوتة الأبعاض، منتشرة الأوضاع، متباينة الأغراض. الجلم أولى بكفّه من القلم، والطّاس أليق بها من القرطاس. كلام تنبو عن قبوله الطباع، وتتجافى عن استماعه الأسماع. ألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجّها، وتنكرها الطباع فتزجّها. كلام لا يرفع الطبع له حجابا، ولا يفتح السمع له بابا. كلام يصدى «1» الريّان، ويصدىء الأفهام والأذهان. كلام قد تعمّل فيه حتى تبذل، وتكلّف حتى تعسّف. طبع جاس، ولفظ قاس، لا مساغ له فى سمع، ولا وصول له مع خلو ذرع. كلام لا الرويّة ضربت فيه بسهم، ولا الفكرة جالت فيه بقدح. كلام تتعثّر فى حزونته، وتتحيّر الأفهام من وعورته. كلمات ضعيفة الإتقان، قليلة الأعيان، مضمحلّة على الامتحان. ألفاظ تستعار من الدياجى، ومعان تقدّر من الأثافى. كلام بمثله بنسلّى الأخرس عن كلمه، ويفرح الأصم بصممه، أثقل من الجندل، وأمرّ من الحنظل، هو هذيان المحموم، وسوداء الهموم. كلام رثّ، ومعنى غثّ، لا طائل فيهما، ولا طلاوة عليهما. أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه، ولا من أحجال الكلام وغرره. شعر ضعيف الصنعة ردىء الصيغة بغيض الصفة [وقد جمع بين إقواء «2» وإيطاء، وإبطاء وإخطاء. ما قطع فى شعره شعرة] ولا سقى قطرة. لو شعر بالنقص ما شعر.

[وصف الكلام]

لا يميز بين خبيث القول وطيّبه، ولا يفرق بين بكره وثيّبه. هو بارد العبارة، ثقيل الاستعارة. هو من بين الشعراء منبوذ بالعراء. لم يلبس شعره حلّة الطلاوة. له شعر لا يطيب درسه، ولا يخف سرده، وخطّ مضطرب الحروف، متضاعف التضعيف والتحريف. خطّ يقذى العين ويشجى الصّدر. خط منحطّ، كأنه أرجل البطّ، وأنامل السرطان، على الحيطان. قلمه لا يستجيب بريه، ومداده لا يساعد جريه. قلمه كالولد العاقّ، والأخ المشاق، إذا أدرته استطال، وإذا قوّمته مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف. قلم مائل الشق، مضطرب المشق، متفاوت [البرى، معدوم الجرى، محرّف القطّ. قلم لم يقلّم ظفره فهو] يخدش القرطاس، وينقش الأنقاس «1» ، ويأخذ بالأنفاس. قلم لا يبعث إذا بعثته، ولا يقف إذا وقفته. قد وقف اضطراب [بريه، دون استمرار] جريه، واقتطع تفاوت قطّه، عن تجويد خطه. [وصف الكلام] ذكر عتبة بن أبى سفيان كلام العرب فقال: إن للعرب كلاما هو أرقّ من الهواء، وأعذب من الماء، مرق من أفواههم مروق السهام من قسيّها، بكلمات مؤتلفات، إن فسّرت بغيرها عطلت، وإن بدلت بسواها من الكلام استصعبت؛ فسهولة ألفاظهم توهمك أنها ممكنة إذا سمعت، وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طلبت. هم اللطيف فهمهم، النافع علمهم، بلغتهم نزل القرآن، وبها يدرك البيان، وكلّ نوع من معناه مباين لما سواه، والناس إلى قولهم يصيرون، وبهداهم يأتمّون، أكثر الناس أحلاما، وأكرمهم أخلاقا. وكان يقال: خير الكلام المطمع الممتنع.

وأنشد إبراهيم بن العباس الصّولىّ لخاله العباس بن الاحنف: إليك أشكو ربّ ما حلّ بى ... من صدّ هذا العاتب المذنب إن قال لم يفعل، وان سيل لم ... يبذل، وإن عوتب لم يعتب صبّ بعصيانى، ولو قال لى ... لا تشرب البارد لم أشرب ثم قال: هذا والله الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، الصعب الممتنع، العزيز النظير، القليل الشبيه، البعيد مع قربه، الحزن مع سهولته، فجعل الناس يقولون: هذا الكلام أحسن من الشعر. وقال أبو العباس الناشىء يصف شعره: يتحير الشعراء إن سمعوا به ... فى حسن صنعته وفى تأليفه فكأنه فى قربه من فهمهم ... ونكولهم فى العجز عن ترصيفه شجر بدا للعين حسن نباته ... ونأى عن الأيدى جنى مقطوفه فإذا قرنت أبيّه بمطيعه ... وقرنته بغريبه وطريفه ألفيت معناه يطابق لفظه ... والنظم منه جليّه بلطيفه فأتاه متّسقا على إحسانه ... قد نيط منه رزينه بخفيفه هذبته فجعلته لك باقيا ... ومنعت صرف الدهر عن تصريفه وقال الناشىء فى فصل من كتابه فى الشعر: الشعر قيد الكلام، وعقل الآداب، وسور البلاغة، ومعدن البراعة، ومجال الجنان، ومسرح البيان، وذريعة المتوسّل، ووسيلة المتوصل، وذمام الغريب، وحرمة الأديب، وعصمة الهارب، وعدّة الراهب، ورحلة الدّانى، ودوحة المتمثل، وروحة المتحمّل، وحاكم الإعراب، وشاهد الصواب. وقال فى هذا الكتاب: الشعر ما كان سهل المطالع، فصل المقاطع، فحل

المديح، جزل الافتخار، شجىّ النسيب، فكه الغزل، سائر المثل، سليم الزلل، عديم الخللى، رائع الهجاء، موجب المعذرة، محبّ المقتبة، مطمع المسالك، فائت المدارك، قريب البيان، بعيد المعانى، نائى الأغوار، ضاحى القرار، نقى المستشف، قد هريق فيه ماء الفصاحة، وأضاء له نور الزجاجة، فانهلّ فى صادى الفهم، وأضاء فى بهيم الرأى. لمتأمله ترقرق، ولمستشفّه تألّق، يروق المتوسم، ويسر المترسّم؛ قد أبدت صدوره متونه، وزهت فى وجوهه عيونه، وانقادت كواهله لهواديه، وطابقت [ألفاظه معانيه، وخالفت أجناسه مبانيه، فاطّرد لمتصفحه، وأنار] لمستوضحه، وأشبه الروض فى وشى ألوانه، وتعمّم أفنانه، وإشراق نواره، وابتهاج أنجاده بأغواره؛ وأشبه الوشى فى اتفاق رقومه، واتساق رسومه، وتسطير كفوفه، وتحبير فوفه؛ وحكى العقد فى التئام فصوله، وانتظام وصوله، وازديان ياقوته بدره، وفريده بشذره، فلو اكتنف الإيجاز موارده، وصقلت مداوس الدربة مناصله، وشحذت مدارس الأدب فياصله، جاء سليما من المعايب، مهذّبا من الأدناس، تتحاشاه الأبن، وتتحاماه الهجن، مهديا إلى الأسماع بهجته، وإلى العقول حكمته. وقد قلت فى الشعر قولا جعلته مثلا لقائليه، وأسلوبا لسالكيه، وهو: الشعر ما قومت زيغ صدوره ... وشددت بالتهذيب أسر متونه ورأبت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز غور عيونه وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمّه ومعينه وعقدت منه لكلّ أمر يقتضى ... شبها به فقرنته بقرينه فإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شئونه ووكلته بهمومه وغمومه ... دهرا فلم يسر الكرى بجفونه

وإذا مدحت به جوادا ماجدا ... وقضيته بالشّكر حقّ ديونه أصفيته بنفيسه ورصينه ... ومنحته بخطيره وثمينه فيكون جزلا فى اتّفاق صنوفه ... ويكون سهلا فى اتّساق فنونه وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... ببيانه وظنونه بيقينه وإذا عتبت على أخ فى زلّة ... أدمجت شدّته له فى لينه فتركته مستأنسا لدمائة ... مستيئسا لوعوثه وحزونه وإذا نبذت إلى التى علقتها ... إن صارمتك بفاتنات شئونه تيّمتها؟؟؟ بلطيفه ورقيقه ... وشغفتها بخفيّه وكمينه وإذا اعتذرت إلى أخ فى زلّة ... واشكت بين محيله ومبينه فيحور ذنبك عند من يعتدّه ... عتبا عليك مطالبا بيمينه والقول يحسن منه فى منثوره ... ما ليس يحسن منه فى موزونه وقال الخليل بن أحمد: الشعراء أمراء الكلام، بضرّفونه أنّى شاءوا؛ وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم: من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللّفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره، وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته وقال: الشعر حلية اللسان، ومدرجة البيان، ونظام الكلام، مقسوم غير محظور، ومشترك غير محصور، إلا أنه فى العرب جوهرىّ، وفى العجم صناعى. قال أعرابى لشاعر من أبناء الفرس: الشعر للعرب، فكلّ من يقول الشعر منكم فإنما نزا على أمّه رجل منا! فقال الفارسى: وكذلك من لا يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمّه رجل منا!

وقال عمارة بن عقيل: أجود الشعر ما كان أملس المتون، كثير العيون، لا يمجّه السمع، ولا يستأذن على القلب. وأنشد الجاحظ شعر أبى العتاهية فلم يرضه، وقال: هو املس المتون، ليس له عيون. كأنه وعمارة تجاذبا كلاما واحدا. وقال ابن عقيل: الشعر بضاعة من بضائع العرب، ودليل من أدلّة الأدب، وأثارة من أثارات الحسب. ولن يهزّ الشعر إلا الكريم المحتد، الكثير السؤدد، الكلف بذكر اليوم والغد. ومدح بشار المهدىّ فلم يعطه شيئا، فقيل له: لم تجد فى مدحه. فقال: لا والله، لقد مدحته بشعر لو قلت مثله فى الدهر لما خيف صرفه على حرّ، ولكنى أكذب فى العمل، فأكذب فى الأمل. نظمه الناجم فقال: ولى فى أحمد أمل بعيد ... ومدح حين أنشده طريف مدائح لو مدحت بها الليالى ... لما دارت علىّ لها صروف قال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: صف لى جريرا والفرزدق والأخطل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما أعظمهم فخرا، وأبعدهم ذكرا، وأحسنهم عذرا، وأسيرهم مثلا، وأقلّهم غزلا، وأحلاهم عللا، البحر الطامى إذا زخر، والحامى إذا ذعر، والسامى إذا خطر، [الذى إذا هدر جال، وإذا خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتا، وأمدحهم بيتا، وأقلهم فوتا، الذى إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل. وأما أغزرهم بحرا، وأرقّهم شعرا، وأكثرهم ذكرا، الأغرّ الأبلق، الذى إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير. وكلّهم ذكىّ الفؤاد، رفيع العماد، وارى الزناد. قال مسلمة بن عبد الملك، وكان حاضرا: ما سمعنا بمثلك يا بن صفوان فى الأولين ولا فى الآخرين، أشهد أنك أحسنهم وصفا، وألينهم عطفا، وأخفّهم مقالا،

وأكرمهم فعالا. فقال خالد: أتم الله عليك نعمه، وأجزل لك قسمه. أنت والله أيها الأمير- ما علمت- كريم الغراس، عالم بالناس، جواد فى المحل، بسّام عند البذل، حليم عند الطّيش، فى الذّروة من قريش، من أشراف عبد شمس، ويومك خير من الأمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت مثلك يا بن صفوان لتخلصك فى مدح هؤلاء، ووصفهم، حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم. ودخل العجّاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغنى أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال: ما يمنعك من ذلك؟ قال: إنّ لنا عزّا يمنعنا من أن نظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم، قال: لكلماتك أحسن من شعرك! فما العزّ الذى يمنعك أن تظلم؟ قال: الأدب [البارع، والفهم الناصع. قال: فما الحلم الذى يمنعك من أن تظلم؟ قال: الأدب] المستطرف، والطبع التّالد، قال: لقد أصبحت حكيما. قال: وما يمنعنى من ذلك وأنا نجىّ أمير المؤمنين؟ قال أبو إسحاق: وليس كما قال العجاج، بل لكثير من الشعراء طباع تنبو عن الهجاء كالطائى وأضرابه، وأصحاب المطبوع أقدر عليه من أهل المصنوع، إذ كان الهجو كالنادرة التى إذا جرت على سجيّة قائلها، وقربت من يد متناولها، وكان واسع العطن، كثير الفطن، قريب القلب من اللسان، التهبت بنار الإحسان. ومما ينحو هذا النحو من مقامات أبى الفتح الإسكندرى إنشاء بديع الزمان قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: طرحتنى النوى مطارحها، حتى إذا وطئت جرجان الأقصى، فاستظهرت على الأيام بضياع أجلت فيها يد العمارة، وأموال وقفتها على التجارة، وحانوت جعلته مثابة «1» ، ورفقة اتخذتهم صحابة، وجعلت للدار حاشيتى النهار، والحانوت ما بينهما؛ فجلسنا يوما نتذاكر الشعر والشعراء،

وتلقاءنا شاب قد جلس غير بعيد، ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا يعلم، حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجرّ الجدل فينا ذيله. قال: أصبتم عذيقه «1» ، ووافيتم جذيله، ولو شئت للفظت [فأفضت] ، ولو أردت لسردت، ولجاءت الحقّ فى معرض بيان يسمع الصم، وينزل العصم. فقلت: يا فاضل، أدن فقد منّيت، وهات فقد أثنيت، فدنا وقال: سلونى أجبكم، واستمعوا أعجبكم. قلنا: فما تقول فى امرىء القيس؟ قال: هو أول من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير فى وكناتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يقل الشعر كاسبا، ولم يجد القول راغبا، ففضل من تفتّق للحيلة لسانه، وانتجع للرغبة بنانه قلنا: وما تقول فى النابغة؟ قال: ينسب إذا عشق، ويثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، فلا يرمى إلا صائبا. قلنا: فما تقول فى طرفة؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافى ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه؟؟؟، ولم تطلق عتاق خزائنه. قلنا: فما تقول [فى زهير؟ قال: يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسّحر يجيبه. قلنا: فما تقول] فى جرير والفرزدق؟ وأيهما أسبق؟ قال: جرير أرقّ شعرا، وأغزر غزرا، والفرزدق أمتن صخرا، وأكثر فخرا، وجرير أوجع هجوا، وأشرف يوما، والفرزدق أكثر روما، وأكثر قوما، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى، وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا افتخر أجزى، وإذا وصف أوفى، وإذا احتقر أزرى. قلنا: فما تقول فى المحدثين من الشعراء والمتقدمين منهم؟ قال: المتقدمون اشرف لفظا، وأكثر فى المعانى حظا، والمتأخّرون ألطف صنعا، وأرقّ نسجا.

قلنا: فلو أريت من أشعارك، ورويت من أخبارك، قال: خذهما فى معرض واحد، وأنشد: أما ترونى أتغشّى طمرا ... ملتحفا فى الضّرّ أمرا إمرا منطويا على الليالى غمرا ... ملاقيا منها صروفا حمرا أقصى أمانىّ طلوع الشّعرى ... فقد عنينا بالأمانى دهرا وكان هذا الحرّ أعلى قدرا ... وماء هذا الوحه أغلى سعرا ضربت للسّرو قبابا خضرا ... فى دار دارا وإوان كسرى فانقلب الدهر لبطن ظهرا ... وعاد عرف العيش عندى نكرا لم يبق من وفرى إلا ذكرا ... ثمّ إلى اليوم هلمّ جرا لولا عجوز لى بسرّ من را ... وأفرخ دون جبال بصرى قد جلب الدّهر إليهم شرّا ... قتلت يا سادة نفسى صبرا! قال عيسى بن هشام: فنلته ما تاح «1» ، وأعرض عنّا فراح، وجعلت أنفيه وأثبته، وأنكره وكأنى أعرفه، ثم دلّتنى عليه ثناياه، فقلت: الإسكندرى والله؛ فلقد كان فارقنا خشفا، ووافانا جلفا «2» ، ونهضت على إثره، ثم قبضت على خصره، وقلت: ألست أبا الفتح؟ ألم تكن فينا وليدا، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ فأىّ عجوز لك بسرّ من رأى؟ فضحك وقال: ويحك هذا الزمان زور ... فلا يغرّنّك الغرور غرّق وبرّق وكل وطرّق ... وأسرق وطلبق لمن تزور لا تلتزم حالة ولكن ... در لليالى كما تدور

ومن إنشائه مقامة ولدها على لسان عصمة وذى الرمة قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا نحن فى مجتمع لنا ومعنا يومئذ رجل العرب حفظا ورواية عصمة ابن بدر الفزارى، فأفضى الكلام إلى ذكر من أعرض عن خصمه حلما، أو أعرض عنه خصمه احتقارا، حتى ذكر الصّلتان العبدى واللّعين المنقري، وما كان من احتقار جرير والفرزدق لهما. فقال عصمة: سأحّدثكم بما شاهدته عينى، ولا أحدّثكم عن غيرى: بينا أنا أسير فى بلاد تميم مرتحلا نجيبة، وقائدا جنيبة، عنّ لى راكب على أورق جعد اللّغام «1» ، فاجتاز بى رافعا صوته بالسلام. فقلت: من الراكب الجهير الكلام، المحيّى بتحيّة الإسلام؟ فقال: أنا غيلان ابن عقبة. فقلت: مرحبا بالكريم حسبه، الشهير نسبه، السائر منطقه. فقال: رحب واديك، وعزّ ناديك، فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزارى. فقال: حياك الله، نعم الصديق، والصاحب والرفيق. وسرنا فلما هجّرنا قال: ألا نغوّر «2» يا عصمة فقد صهرتنا الشمس؟ فقلت: أنت وذاك، فملنا إلى شجرات ألاء «3» كأنهن عذارى متبرّجات، قد نشرن الغدائر، وسرحن الضفائر؛ لأثلات متناوحات؛ فحططنا رحالنا، ونلنا من الطعام، وكان ذو الرمة زهيد الأكل. وزال كلّ منا إلى ظل أثلة يريد القابلة، واضطجع ذو الرّمة وأردت أن أصنع صنيعه، فولّيت ظهرى الأرض، وعيناى لا يملكها غمض، فنظرت غير بعيد إلى ناقة كوماء، ضحيت وغبيطها ملقى» ، وإذا رجل قائم يكلؤها كأنه عسيف أو أسيف «5» ، فلهيت عنهما، وما أنا والسؤال عما

لا يعنينى! ونام ذو الرّمة غرارا، ثم انتبه، وكان ذلك فى أيام مهاجاته لذلك المرّىّ. فرفع عقيرته ينشد فيه: أمن ميّة الطّلل الدارس ... ألظّ به العاصف الرّامس فلم يبق إلا شجيج القذال ... ومستوقد ما له قابس وحوض تثلّم من جانبيه ... ومحتفل دائر طامس وعهدى به وبه سكنه ... وميّة والإنس والآنس ستأنى امرأ القيس مأثورة ... يغنّى بها العابر الجالس ألم تر أنّ امرأ القيس قد ... ألظّ به داؤه الناجس هم القوم لا يالمون الهجاء ... وهل يألم الحجر اليابس؟ فما لهم فى الفلا راكب ... ولا لهم فى الوغى فارس إذا طمح الناس للمكرمات ... فطرفهم المطرق الناعس تعاف الأكارم إصهارهم ... فكل نسائهم عانس فلما بلغ هذا البيت جعل ذلك النائم يمسح عينيه ويقول: أذو الرّميمة يمنعنى النوم بشعر غير مثقّف ولا سائر. فقلت: يا غيلان، من هذا؟ فقال: الفريزد، يعنى الفرزدق، وحمى ذو الرمة: وأمّا مجاشع الأرذلون ... فلم يسق ميتهم راجس سيعقلهم عن مساعى الكرام ... عقل، ويحبسهم حابس فقلت: الآن [يشرق فيثور، و] يعمّ الفرزدق هذا وقبيله بالهجاء. فوالله ما زاد على أن قال: قبحا لك يا ذا الرّميمة! أتعرض لمثلى بمقال منتحل! ثم عاد فى نومه كأن لم يسمع شيئا، وسار ذو الرّمة وسرت، وإنى لأرى فيه انكسارا حتى افترقنا.

فقر فى الشعر

قوله فيما ولد على الفرزدق «بمقال منتحل» ، يريد أن البيت الأخير منقول من قول جرير: ألم تر أنّ الله أخزى مجاشعا ... إذا ما أفاضت فى الحديث المجالس وما زال معقولا عقال عن الندى ... وما زال محبوسا عن المجد حابس عقال: ابن محمد بن [سعيد بن] مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، وهو جد الفرزدق. وحابس: ابن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع بن دارم، وهو أبو الأقرع بن حابس أحد المؤلّفة قلوبهم. فقر فى الشعر قيل لابن الزّبعرى: لم تقصّر أشعارك؟ فقال: لأنها أعلق بالمسامع، وأجول فى المحافل. وقيل ذلك لعقيل بن علّفة فى أهاجيه، فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. غيره: لسان الشاعر أرض لا تخرج الزهر حتى تستسلف المطر، وما ظنّك بقوم الاقتصار محمود إلا فيهم. والكذب مذموم إلّا منهم. إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مثوبة، ويقرع جليسه بأدنى زلّة. أبو القاسم الصاحب بن عباد: النثر يتطاير كتطاير الشرر، والنظم يبقى بقاء النّقش فى الحجر. أبو عبيدة: الزّحاف فى الشعر كالرّخصة فى الدين، لا يقدم عليها إلا فقيه. وقال أبو فراس الحمدانى: تناهض الناس للمعانى ... لمّا رأوا نحوها نهوضى تكلفوا المكرمات كدّا ... تكلّف الشعر بالعروض

وقد مدح الجاحظ العروض وذمّها، فقال فى مدحها: العروض ميزان، ومعراض بها يعرف الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليها مدار الشعر، وبها يسلم من الأود والكسر. وقال فى ذمّه: هو علم مولّد، وأدب مستبرد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستنكر «1» العقل بمستفعلن وفعول، من غير فائدة ولا محصول. ومن مفردات الأبيات فى هذا المعنى قول دعبل: يموت ردىء الشعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله البحترى: أعيا علىّ؛ فلا هيّابة فرق ... يخشى الهجاء، ولا هشّ فيمتدح آخر: [و] مما يقتل الشعراء غمّا ... غداوة من يغلّ عن الهجاء أحمد بن أبى فنن: وإنّ أحقّ الناس باللؤم شاعر ... يلوم على البخل اللئام، ويبخل وهذا كقول على بن العباس الرومى فى أبى الفياض سوّار بن أبى شراعة، وكان سوّار شاعرا مجيدا: يا من صناعته الدعاء إلى العلا ... ناقضت فى فعليك أىّ نقاض عجبا لحضّاض الكرام على الذى ... هو فيه محتاج إلى حضّاض وصف المكارم وهو فيها زاهد ... ورأى الجميل وفيه عنه تغاض لم ألق كالشعراء أكثر حارضا ... واشدّ معتبة على الحرّاض «2»

[الأحنف بن قيس]

كم فيهم من آمر برشيدة ... لم يأتها، ومرغب رفّاض يا حسرتى لمودّة أدبية ... لم نفترق عنها افتراق تراض ليس العتاب بنافع فى قاطع ... أعيا المشيب تتابع المقراض ثم قال بعد هذا التبكيت والعتاب ما منعه أن يتوهّم أنه هجاه: ولما هجوتك، بل وعظتك إنّنى ... لا أجعل الأعراض كالأغراض «1» فاكفف سهامك عن أخيك فإنما ... آسفته، فرماك بالمعراض فمتى حلمت وجدت أحنف دهره ... ومتى جهلت منيت بالبرّاض فاعذر أخاك على الوعيد؛ فإنما ... أنذرت قبل الرّمى بالإنباض [واعلم وقيت الجهل أن خساسة ... بطر الغنى ومذلّة الإبعاض] ثم هجاه بقوله: وما تكلمت إلّا قلت فاحشة ... كأن فكيك للأغراض مقراض مهما تقل فسهام منك مرسلة ... وفوك قوسك والأعراض أغراض وابن الرومى هذا كما قال مسلم بن الوليد الأنصارى فى الحكم بن قنبر المازنى: عابنى من معايب هنّ فيه ... حكم فاشتفى بها من هجانى وكما قال الآخر: ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمرى ما أراد قريب [الأحنف بن قيس] وروى عيسى بن دأب قال: أوّل ما عرف الأحنف بن قيس وقدّم أنه وفد على عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان أحدث القوم سنا، وأقبحهم منظرا، فتكلم كل

رجل من الوفد بحاجته فى خاصته، والأحنف ساكت، فقال له عمر: قل يا فتى! فقام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ العرب نزلت بمساكن طيبة، ذات ثمار وأنهار عذاب، وأكنّة ظليلة «1» ، ومواضع فسيحة، وإنا نزلنا بسبخة نشّاشة، ماؤها ملح، وأفنيتها ضيقة، وإنما يأتينا الماء فى مثل حلق النعامة فإلّا تدركنا يا أمير المؤمنين بحفر نهر يغزر ماؤه، حتى تأتى الأمة فتغرف بجرّتها وإنائها أوشك أن نهلك، قال: ثم ماذا؟ قال: تزيد فى صاعنا ومدّنا، وتثبت من تلاحق فى العطاء من ذريتنا. قال: ثم ماذا؟ قال: تخفّف عن ضعيفنا، وتنصف قوينا، وتتعاهد ثغورنا، وتجهّز بعثنا، قال: ثم ماذا؟ قال: إلى ها هنا انتهت المطالب، ووقف الكلام. قال: أنت رئيس وفدك، وخطيب مصرك، قم عن موضعك الذى أنت فيه. فأدناه حتى أقعده إلى جانبه، ثم سأله عن نسبه، فانتسب له، فقال: أنت سيد تميم، فبقيت له السيادة إلى أن مات. وهو الأحنف، واسمه الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن حصن ابن عبادة بن النزال بن مرّة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن [سعد بن] زيد مناة بن تميم وقال بعض بنى تميم: حضرت مجلس الأحنف وعنده قوم مجتمعون له فى أمر لهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنّ الكرم منع الحرم، ما أقرب النقمة من أهل البغى، لا خير فى لذّة تعقب ندما، لم يهلك من اقتصد، ولم يفتقر من زهد، رب هزل قد عاد جدا، من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه، دعوا المزاح فإنه يؤرّث «2» الضغائن، وخير القول ما صدّقه الفعل، احتملوا لمن أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم، أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك، أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، إيّاكم ومشاورة

النساء، واعلم أنّ كفر النّعم لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، ومن الكرم الوفاء بالذّمم، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد اللّطف، والعداوة بعد الودّ، لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل، واعلم أنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق فى حقّ، ولا تكن خازنا لغيرك، وإذا كان الغدر موجودا فى الناس فالثّقة بكل أحد عجز؛ اعرف الحقّ لمن عرفه لك، واعلم أنّ قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. قال: فما سمعت كلاما أبلغ منه. فقمت وقد حفظته. ودخل الأحنف على معاوية، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا، فقال: يا أبا بحر، ما تقول فى الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرّة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منّا بعدنا، فكن لهم أرضا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك وأعتبهم «1» . ولا تمنعهم رفدك فيملّوا قربك، ويستثقلوا حياتك، ويتمنوا وفاتك. قال: لله درّك يا أبا بحر، هم كما قلت! وزعمت الرواة أنها لم تسمع للأحنف إلّا هذين البيتين: فلو مدّ سروى بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا فإنّ المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا وكان يبخّل. وقال لبنى تميم: أتزعمون أنى بخيل! والله إنى لأشير بالرّأى قيمته عشرة آلاف درهم! فقالوا: تقويمك لرأيك بخل. وكان الأحنف من الفضلاء الخطباء النّسّاك، وبه يضرب المثل فى الحلم وقد ذكر للنبى صلّى الله عليه وسلم فاستغفر له؛ فقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قومه بنى سعد يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف: إنه يدعوكم

إلى خير، ولا أسمع إلا حسنا. فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اغفر للاحنف. وكان الأحنف يقول: ما شىء أرجى عندى من ذلك. قال عبد الملك بن عمير: قدم إلينا الأحنف، فما رأينا خصلة تذمّ فى رجل إلّا رأيناها فيه، كان أصلع الرأس، متراكب الاسنان، أشدق، مائل الذّقن، ناتئ الوجنتين، باخق العينين «1» ، خفيف العارضين، أحنف الرّجلين، وكانت العين تقتحمه دمامة وقلّة رواء، ولكنه إذا تكلّم جلّى عن نفسه. وهو الذى خطب بالبصرة حين اختلفت الأحياء، وتنازعت القبائل؛ فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأزد [وربيعة] ، أنتم إخواننا فى الدين، وشركاؤنا فى الصّهر، وأكفاؤنا فى النسب، وجيراننا فى الدار، ويدنا على العدوّ، والله لأزد البصرة أحبّ إلينا من تميم الكوفة، [ولأزد الكوفة أحبّ إلينا من تميم الشام] ، وفى أموالنا وأحلامنا سعة لنا ولكم. وقد قام خطباء البصرة فى هذا اليوم وتكلّموا وأسهبوا، فلما قام الأحنف أصغت القبائل إليه، وانثالت عليه، وقال الناس: هذا أبو بحر، هذا خطيب بنى تميم، وحضر ذلك الجمع جارية لآل المهلب، فذهبت تروم النظر إليه، فاعتاص ذلك عليها، فأشرفت عليه من دارها، فلما رأته والأبصار خاشعة لكلامه، ورأت دمامة خلقه، وكثرة آفات جوارحه، قالت: فقدت هذه الخلقة ولو افترّت عن فصل الخطاب وذكر المدائنى أنّ الأحنف بن قيس وفد على معاوية رضى الله عنه مع أهل العراق، فخرج الآذن، فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم ألّا يتكلم أحد إلّا لنفسه، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافّة دفّت، ونازلة نزلت، ونابتة نبتت، كلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه. قال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الشاهد والغائب.

ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد كتب إلى زياد أن يوجّه إليه بوفد أهل العراق، فبعث إليه بوفد البصرة والكوفة، فتكلّمت الخطباء فى يزيد، والأحنف ساكت، فلما فرغوا قال: قل يا أبا بحر، فإنّ العيون إليك أشرع منها إلى غيرك. فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك أعلمنا بيزيد فى ليله ونهاره، وإعلانه وإسراره، فإن كنت تعلمه لله رضا فلا تشاور فيه أحدا، ولا تقم له الخطباء والشعراء، وإن كنت تعلم بعده من الله فلا تزوّده من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة؛ فإنك تصير إلى يوم يفرّ [فيه] المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه. قال: فكأنه أفرغ على معاوية ذنوب ماء بارد. فقال له: اقعد يا أبا يحر؛ فإن خيرة الله تجرى، وقضاء الله يمضى، وأحكام الله تنفذ، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه؛ وإن يزيد فتى قد بلوناه «1» ، ولم نجد فى قريش فتى هو أجدر بأن يجتمع عليه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، أنت تحكى عن شاهد، ونحن نتكلّم على غائب، وإذا أراد الله شيئا كان. قال ابن الرومى: إن امرأ رفض المكاسب واغتدى ... يتعلّم الآداب حتى أحكما فكسا وحلّى كلّ أروع ماجد ... من حرّ ما حاك القريض ونظّما ثقة برعى الاكرمين حقوقه ... لأحقّ ملتمس بألّا يحرما قال أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمّار: ومن نادر شعر أبى الحسن فى هذا المعنى قوله، ووصف إتعاب الشعراء أنفسهم بدءو بهم فى صناعتهم، وما يتصرّم من أعمارهم، وأن إلحاحهم فى طلب ما فى أيدى من أسلفوه مديحهم لو كان رغبة منهم إلى ربّهم كان أجدى عليهم، وأقرب من درك بغيتهم، ونجح طلبتهم، ثم انحرف إلى توبيخ من مدحه فحرمه بأحسن عبارة، وأرضى استعارة، فقال:

للناس فيما يكلفون مغارم ... عند الكرام لها قضاء ذمام ومغارم الشعراء فى أشعارهم ... إنفاق أعمار وهجر منام وجفاء لذات ورفض مكاسب ... لو حولفت حرست من الإعدام وتشاغل عن ذكر ربّ لم يزل ... حسن الصنائع سابغ الإنعام «1» من لو بخدمته تشاغل معشر ... خدموكم أجدى على الخدّام أفما لذلك حرمة مرعيّة ... إنّ الكرام إذا لغير كرام لم أحتسب فيك الثواب بمدحتى ... إياك يابن أكارم الأقوام لو كان شعرى حسبة لم أكسه ... أحدا أحقّ به من الأيتام لا تقبلنّ المدح ثم تعافه ... فتنام والشعراء غير نيام واحذر معرّتهم إذا دنّستهم ... فلهم أشدّ معرة العرّام واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام وجناية العادى عليهم تنقضى ... وعقابهم يبقى مع الأيام أبو الطيب المتنبى: ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى مات الأحنف بن قيس بالكوفة، فمشى مصعب بن الزبير فى جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سرّ العرب؛ فلما دفن قامت امرأة على قبره فقالت: لله درّك من مجن فى جنن «2» ، ومدرج فى كفن، نسأل الذى فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرّشد دليلك، وأن يوسّع لك فى قبرك، ويغفر لك يوم حشرك؛ فوالله لقد كنت فى المحافل شريفا، وعلى الأرامل

[منصور النمرى]

عطوفا، ولقد كنت فى الحىّ مسوّدا، وإلى الخليفة موفدا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متّبعين؛ ثم أقبلت على الناس فقالت: ألا إن أولياء الله فى بلاده، شهود على عباده، وإنى لقائلة حقّا، ومثنية صدقا، وهو أهل لحسن الثناء، وطيب النّثا «1» ، أما والذى كنت من أجله فى عدّة، ومن الحياة إلى مدّة، ومن المقدار إلى غاية، ومن الإياب إلى نهاية، الذى رفع عملك، لما قضى أجلك، لقد عشت حميدا مودودا، ومتّ سعيدا مفقودا، ثم انصرفت وهى تقول: لله درّك يا أبا بحر ... ماذا تغيّب منك فى القبر؟ لله درّك أىّ حشو ثرى ... أصبحت من عرف ومن نكر إن كان دهر فيك جرّ لنا ... حدثا به وهنت قوى الصّبر «2» فلكم يد أسديتها ويد ... كانت تردّ جرائر الدهر «3» ثم انصرفت فسئل عنها، فإذا هى امرأته وابنة عمه. فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قطّ أبلغ ولا أصدق منه. قال: وكان الأحنف قدم الكوفة فى أيام مصعب بن الزبير، فرآه رجل أعور دميما قصيرا أحنف الرجلين، فقال له: يا أبا بحر؛ بأى شىء بلغت فى الناس ما أرى؛ فوالله ما أنت بأشرف قومك، ولا أجودهم؟! فقال: يا ابن أخى، بخلاف ما أنت فيه! قال: وما هو؟ قال: تركى من أمرك ما لا يعنينى، كما عناك من أمرى ما لا تتركه. [منصور النمرى] اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول منصور النّمرى فى أمير المؤمنين الرشيد:

إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع إذا رفعت امرا فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متّضع من لم يكن بأمين الله معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع فليدخل، فقال محمد بن وهيب: فينا من يقول خيرا منه، وأنشد: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر يحكى أفاعيله فى كل نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذّكر فأمر بإدخاله وأحسن صلته. أخذ معنى البيت الأول من بيتى محمد بن وهيب أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسى: المدنفان من البريّة كلها ... قلبى وطرف بابلىّ أحور «1» والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر وبيت أبى القاسم [الأول] مأخوذ من قول ابن الرومى: يا عليلا جعل العلّة ... مفتاحا لسقمى ليس فى الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمى ومر النمرى بالعتابى مغموما فقال: مالك، أعزّك الله؟ فقال: امرأتى بطلق «2» منذ ثلاث ونحن على يأس منها. فقال له العتّابى: وإنّ دواءها منك أقرب من وجهها، قل: هارون الرشيد، فإن الولد يخرج! فقال: شكوت إليك ما بى، فأجبتنى بهذا؟ فقال: ما أخذت هذا إلا من قولك: إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع

وأبيات منصور بن سلمة بن الزبرقان النمرى التى ذكرها المعتصم من قصيدة له وهى أحسن ما قيل فى الشيب أولها: ما تنقضى حسرة منى ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع بان الشباب وفاتتنى بغرّته ... خطوب دهر وأيام لها خدع «1» ما كنت أو فى شبابى كنه غرّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع تعجبت أن رأت أسراب دمعته ... فى حلبة الخدّ أجراها حشى وجع أصبحت لم تطعمى ثكل الشباب ولم ... تشجى بغصّته فالعذر لا يقع لا ألحينّ فتاتى غير كاذبة ... عين الكذوب فما فى ودّكم طمع ما واجه الشيب من عيب وإن ومقت ... إلا لها نبوة عنه ومرتدع «2» إنى لمعترف ما فىّ من أرب ... عند الحسان فما للنّفس تنخدع قد كدت تقضى على فوت الشباب أسى ... لولا تعزّيك أنّ الأمر منقطع وذكر أن الرشيد لما سمع هذا بكى، وقال: ما خير دنيا لا تخطر فيها ببرد الشباب! وأنشد متمثلا: أتأمل رجعة الدنيا سفاها ... وقد صار الشباب إلى ذهاب فليت الباكيات بكلّ أرض ... جمعن لنا فنحن على الشباب وكان الرشيد يقدم منصورا النمرى بجودة شعره، ولما يمتّ إليه من النسب من العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه، وكانت نثيلة أم العباس من النمر بن قاسط؛ ولما كان يظهر من الميل إلى إمامة العباس وأهله، والمنافرة لآل على رضى الله عنه ويقول: بنى حسن وقل لبنى حسين ... عليكم بالسّداد من الأمور أميطوا عنكم كذب الأمانى ... وأحلاما يعدن عداة زور «3»

تسمّون النبى أبا ويأبى ... من الأحزاب سطر فى سطور يريد قول الله تعالى: (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) . وهذا إنما نزل فى شأن زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنّاه، فقال له الرشيد: ما عدوت ما فى نفسى، وأمره أن يدخل بيت المال فيأخذ ما أحبّ. وكان يضمر غير ما يظهر، ويعتقد الرّفض، وله فى ذلك شعر كثير لم يظهر إلّا بعد موته، وبلغ الرشيد قوله: آل النبى ومن يحبّهم ... يتطامنون مخافة القتل أمن النصارى واليهود ومن ... من أمّة التوحيد فى أزل «1» إلا مصالت ينصرونهم ... بظبا الصّوارم والقنا الذّبل «2» فأمر الرشيد بقتله [وكان حينئذ برأس العين] ، فمضى الرسول فوجده قد مات فقال الرشيد: لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها. وكان يلغز فى مدحه لهرون، وإنما يريد قول النبى صلى الله عليه وسلم لعلىّ رضوان الله عليه: أنت منى بمنزلة هرون من موسى. وقال الجاحظ: وكان يذهب أولا مذهب الشّراة «3» ، فدخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم الرافضى وسمع كلامه، فانتقل إلى الرفض، وأخبرنى من رآه على قبر الحسين بن على رضى الله عنهما ينشد قصيدته التى يقول فيها: فما وجدت على الأكتاف منهم ... ولا الأقفاء آثار النّصول «4» ولكنّ الوجوه بها كلوم ... وفوق حجورهم مجرى السيول أريق دم الحسين ولم يراعوا ... وفى الأحياء أموات العقول فدت نفسى جبينك من جبين ... جرى دمه على خد أسيل أيخلو قلب ذى ورع ودين ... من الأحزان والألم الطويل

[ابنا المعذل]

وقد شرقت رماح بنى زياد ... برىّ من دماء بنى الرسول «1» بتربة كربلاء لهم ديار ... نيام الأهل دارسة الطّلول فأوصال الحسين ببطن قاع ... ملاعب للدّبور وللقبول تحيات ومغفرة وروح ... على تلك المحلة والحلول «2» برئنا يا رسول الله ممن ... أصابك بالأذيّة والدّحول «3» [ابنا المعذل] وقال أحمد بن المعذل: أخو دنف رمته فأقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش كئيب إن ترحّل عنه جيش ... من البلوى ألمّ به جيوش وكان أحمد بن المعذّل بن غيلان العبدى فى اللغة والبيان والأدب والحلاوة غاية. قال: دخلت المدينة فتحملت على عبد الملك بن الماجشون برجل ليخصّنى ويعنى بى، فلما فاتحنى قال: ما تحتاج أنت إلى شفيع، معك من الحذاء والسقاء ما تأكل به لبّ الشجر، وتشرب صفّو الماء. وكان أخوه عبد الصمد يؤذيه ويهجوه، فكتب إليه احمد: أما بعد فإنّ أعظم المكروه ما جاء من حيث يرجى المحبوب، وقد كنت مؤمّلا مرجوا، حتى شمل شرك، وعمّ أذاك، فصرت فيك كأبى العاقّ: إن عاش نغّصه، وإن مات نقصه، واعلم لقد خشّنت صدر أخ جيبه لك ناصح، والسلام. وكان يقول له: أنت كالأصبع الزائدة: إن تركت شانت، وإن قطعت آلمت! ومثل هذا قول النعمان بن شمر الغسانى:

وصال أبى برد عناء، وتركه ... بلاء، فما أدرى به كيف أصنع إذا زرته يومين ملّ زيارتى ... وإن غبت عنه ظلّت العين تدمع وقول الضحاك بن همام الرقاشى: وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا ترجى وموتك فاجع وأنت- على ما كان منك- ابن حرة ... وإنى لما يرضى به الخصم مانع وفيك خصال صالحات يشينها ... لديك جفاء عنده الودّ ضائع وقال بعض المحدثين: إذا ساءنى فى القول والفعل جاهدا ... وفى كلّ حال من أحب وأمحض «1» فياليت شعرى ما يعاملنى به ... على كلّ ذنب من أعادى وأبغض وقال أبو العباس المبرّد: وكان أحمد بن المعذّل من الأبّهة، والتمسك بالمنهاج، والتجنّب للعبث، والتعرّض للاشفاق لما فى «2» أيدى الناس، وإظهار الزّهد فيه، والتباعد عنه، على غاية، حتى حمل فى فقهاء وأدباء من أهل البصرة؛ فأخذ الصلة غير ممتنع ولا منكر. ووصله إسحاق بن إبراهيم فقبل، واستدعى اجتباءه إياه، وتحلّى له جهده، فقال عبد الصمد: عذيرى من أخ قد كان يبدى ... على من لابس السلطان عتبه وكان يذمهم فى كلّ يوم ... له بالجهل والهذيان خطبه فلما أن أتته دريهمات ... من السلطان باع بهنّ ربّه وقال فيه: لى أخ لا ترى له ... سائلا غير عاتب أجمع الناس كلّهم ... للئيم المذاهب

دون معروف كفّه ... لمس بعض الكواكب ليت لى منك يا أخى ... جارة من محارب نارها كلّ شتوة ... مثل نار الحباحب ذهب إلى قول القطامى، وقول القطامى من خبيث الهجاء، وكان نزل بامرأة من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، فذمّ مثواه عندها، فقال: وإنى وإن كان المسافر نازلا ... وإن كان ذا حقّ على الناس واجب فلابدّ أن الضيف يخبر ما رأى ... مخبّر أهل أو مخبّر صاحب لمخبرك الأنباء عن أمّ منزل ... تضيّفتها بين العذيب فراسب تلفّعت فى طلّ وريح تلفّنى ... إلى طرمساء غير ذات كواكب «1» إلى حيزبون توقد النار بعد ما ... تلفّعت الظلماء من كل جانب «2» تصلّى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب [فما راعها إلا بغام مطيتى ... تريح بمحسود من الصوت لاغب] «3» فجنّت فنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عارى الأشاجع شاحب «4» سرى فى حليك الليل حتى كأنما ... تخزّم بالأطراف شوك العقارب تقول وقد قرّبت كورى وناقتى ... إليك، فلا تذعر علىّ ركائبى فسلّمت والتسليم ليس يسرّها ... ولكنه حقّ على كل جانب فردّت سلاما كارها ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحىّ؟ قالت: معشر من محارب

من المشتوين القدّ مما تراهم ... جياعا وريف الناس ليس بناضب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... علىّ مبيت السوء ضربة لازب وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها حثيث المراكب إلا إنما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب ومحارب: قبيلة منسوبة إلى الضعف، وقد ضربت العرب بها المثل. قال الفرزدق لجرير: وما استعهد الأقوام من زوج حرة ... من الناس إلا منك أو من محارب أى يأخذون العهد عليه أنه ليس من كليب ولا من محارب. وقال أبو نواس فى قصيدته التى فخر فيها باليمانية وهجا قبائل معدّ: وقيس عيلان لا أريد لها ... من المخازى سوى محاربها وكانت أم عبد الصمد بن المعذل طباخة، فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه: أم عبد الصمد ما عسيت أن أقول فيمن ألقح بين قدر وتنّور، ونشأ بين زق وطنبور «1» ؟ وعبد الصمد ابن المعذل شاعر أهل البصرة فى وقته، وهو القائل: تكلفنى إذلال نفسى لعزّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما تقول: سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت: سليه ربّ يحيى بن أكثما قال أبو شراعة القيسى: كنت فى مجلس العتبى مع عبد الصمد بن المعذل، لأبى حكيمة نتذاكرنا أشعار المولدين فى الرقيق، فقال عبد الصمد: أنا أشعر الناس فيه وفى غيره، فقلت: أحذق منك والله بالرقيق الذى يقول، وهو راشد بن إسحاق أبو حكيمة الكوفى:

ومستوحش لم يمس فى دار غربة ... ولكنّه ممن يحبّ غريب طواه الهوى واستشعر الوصل غيره ... فشطّت نواه والمزار قريب «1» سلام على الدار التى لا أزورها ... وإن حلّها شخص إلىّ حبيب وإن حجبت عن ناظرىّ ستورها ... هوى تحسن الدّنيا به وتطيب هوى تضحك اللذات عند حضوره ... ويسخن طرف اللهو حين يغيب تثنّى به الأعطاف حتى كأنه ... إذا اهتزّ من تحت الثياب قضيب ألم تر صمتى حين يجرى حديثه ... وقد كنت أدعى باسمه فأجيب رضيت بسعى الدهر بينى وبينه ... وإن لم يكن للعين فيه نصيب أحاذر إن واصلته أن ينالنى ... وإياه سهم للفراق مصيب أرى دون من أهوى عيونا تريبنى ... ولا شك أنى عندهنّ مريب أدارى جليسى بالتجلّد فى الهوى ... ولى حين أخلو زفرة ونحيب وأخبر عنه بالذى لا أحبّه ... فيضحك سنّى والفؤاد كئيب مخافة أن تغرى بنا ألسن العدا ... فيطمع فينا كاشح فيعيب كأن مجال الطّرف فى كل ناظر ... على حركات العاشقين رقيب أرى خطرات الشوق يبكين ذا الهوى ... ويصبين عقل المرء وهو لبيب وكم قد أذلّ الحبّ من متمنّع ... فأضحى وثوب العزّ منه سليب وإن خضوع النفس فى طلب الهوى ... لأمر، إذا فكرت فيه، عجيب فلم ينطق بحرف. ولأبى شراعة يمدح بنى رياح: بنى رياح أعاد الله نعمتكم ... خير المعاد وأسقى ربعكم ديما «2»

فكم به من فتى حلو شمائله ... يكاد ينهلّ من أعطافه كرما لم يلبسوا نعمة لله مذ خلقوا ... إلّا تلبّسها إخوانهم نعما وفى إبراهيم بن رياح يقول عبد الصمد بن المعذل: قد تركت الرياح يا بن رياح ... وهى حسرى إن هبّ منها نسيم نهكت مالك الحقوق فأضحى ... لك مال نضو وفعل جسيم «1» وكان عبد الصمد [بن المعذل] متصلا بإبراهيم وبنيه، وأفاد منهم أموالا جليلة، واعتقد عقدا نفيسة، فما شكر ذلك ولا أصحبه بما يجب عليه من الثناء عند نكبته، وكان الواثق عزله عن ديوان الضياع، ودفعه إلى عمر بن فرج الرخجى، فحبسه فهجاه عبد الصمد. قال أبو العباس محمد بن يزيد «2» : وكان عبد الصمد شديد الإقدام على ردىء السريرة فيما بينه وبين الناس، خبيث النيّة، يرصد صديقه بالمكروه، تقديرا أن يعاديه فيسوءه بأمر يعرفه؛ ولا يكاد يسلم لأحد، وكان مشهورا فى ذلك الأمر، يلبس عليه «3» ، ويحمل على معرفة، عجبا بظرف لسانه، وطيب مجلسه، وأيضا لقبح مسبّته، وشائن معرّته. قال أبو العيناء: ولما حبس الواثق إبراهيم بن رياح، وكان لى صديقا، صنعت له هذا الخبر رجاء أن ينتهى إلى أمير المؤمنين فينتفع به، فأخبرنى زيد بن على ابن الحسين أنه كان عند الواثق حين قرىء عليه فضحك واستظرفه. وقال: ما صنع هذا كلّه أبو العيناء إلا فى سبب إبراهيم بن رياح، وأمر بتخليته، والخبر: قال لقيت أعرابيا من بنى كلاب فقلت له: ما عندك من خبر هذا العسكر؟ فقال: قتل أرضا عالمها، قال: فقلت: فما عندك من خبر الخليفة؟ قال: بخبخ بعزه، وضرب

بجرانه، وأخذ الدرهم من مصره، وأرهف قلم كلّ كاتب بجبايته. قلت: فما عندك فى أحمد بن أبى دواد؟ قال: عضلة «1» لا تطاق، وجندلة لا ترام، ينتحى بالمدى لتحزه فيجور، وتنصب له الحبائل حتى تقول: الآن، ثم يضبر «2» ضبرة الذئب، ويخرج خروج الضب، والخليفة يحنو عليه، والقرآن آخذ بضبعيه. قلت: فما عندك فى عمر بن فرج؟ قال: ضخم حضجر «3» ، غضوب هزبر. قد أهدفه القوم لبغيهم، وانتضلوا له عن قسيّهم، وأحر له بمثل مصرع من يصرع. قلت: فما عندك فى خبر اين الزّيات؟ قال: ذلك رجل وسع الورى شره، وبطن بالأمور خيره. فله فى كل يوم صريع، لا يظهر فيه أثر ناب ولا مخلب، إلا بتسديد الرأى. قلت: فما عندك فى خبر إبراهيم بن رياح! قال: ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن يفز للكرام قدح، فأحر بمنجاته، ومعه دعاء لا يخذله، وربّ لا يسلمه، وفوقه خليفة لا يظلمه. قلت: فما عندك فى خبر نجاح بن سلمة؟ قال: لله دره من ناقض أوتار، يتوقد كأنه شعلة نار، له فى الفينة بعد الفينة، عند الخليفة خلسة كخلسة السارق، أو كحسوة الطائر، يقوم عنها وقد أفاد نعما، وأوقع نقما. قلت: فما عندك فى خبر ابن الوزير؟ قال: إخاله كبش الزنادقة، ألا ترى أنّ الخليفة إذا أهمله خضم ورتع، وإذا أمر بتقصيه أمطر فأمرع. قلت: فما عندك من خبر الخصيب أحمد] ؟ قال: ذاك أحمق، أكل أكلة نهم، فاختلف اختلاف بثم. قلت: فما عندك فى خبر المعلى بن أيوب؟ قال: ذاك رجل قدّ من صخرة، فصبره صبرها، ومسّه مسّها، وكلّ ما فيه بعد فمنها ولها. قلت: فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل؟ قال: كتوم غرور «4» ، وجلد صبور، رجل جلده جلد نمر، كلما خرقوا له إهابا، أنشأ الله له إهابا. قلت: فما عندك من خبر الحسن بن وهب؟ قال: ذاك رجل اتخذ السلطان أخا،

فاتخذه السلطان عبدا، قال: قلت: فما عندك من خبر أخيه سليمان بن وهب؟ قال: شدّ ما استوفيت مسألتك أيها الرجل! ذاك حرمة حبست مع صواحباتها فى جريرة محرمة، ليس من القوم فى ورد ولا صدر، هيهات: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول قال: قلت: فما عندك من خبر عبد الله بن يعقوب؟ قال: أموات غير أحياء، وما يشعرون أيّان يبعثون. قلت: فأين نزلت فأؤمّك؟ قال: مالى ينزل تأمّه. أنا أستتر فى الليل إذا عسعس «1» ، وأنتشر فى الصبح إذا تنفّس. ومن مليح شعر راشد بن إسحاق بن راشد، وهو أبو حكيمة، وكان قوىّ أسر الشعر: تحيرت فى أمرى وإنى لواقف ... أجيل وجوه الرأى فيك وما أدرى «2» أأعزم عزم اليأس فالموت راحة ... أم اقنع بالإعراض والنّظر الشّزر وإنى وإن أعرضت عنك لمنطو ... على حرق بين الجوانح والصدر إذا هاج شوقى مثّلتك لى المنى ... فألقاك ما بينى وبينك فى ستر فديتك لم أصبر ولى فيك حيلة ... ولكن دعانى اليأس فيك إلى الصبر تصبّرت مغلوبا وإنى لموجع ... كما صبر الظمآن فى البلد القفر وقال: عتبت عليك فى قطع العتاب ... فما عطفتك ألسنة العتاب

[عبد الملك بن صالح]

وفيما صرت تظهر لى دليل ... على عتب الضمير المستراب وما خطرت دواعى الشوق إلّا ... هززت إليك أجنحة التصابى وقال أيضا: ضحكت ولو تدرين ما بى من الهوى ... بكيت لمحزون الفؤاد كثيب لمن لم ترح عيناه من فيض عبرة ... ولا قلبه من زفرة ونحيب لمستأنس بالهمّ فى دار وحشة ... غريب الهوى باك لكلّ غريب ألا بأبى العيش الذى بان فانقضى ... وما كان من حسن هناك وطيب ليالى يدعونا الصّبا فنجيبه ... ونأخذ من لذّاته بنصيب نردّد مستور الأحاديث بيننا ... على غفلة من كاشح ورقيب إلى أن جرى صرف الحوادث فى الهوى ... فبدّل منها مشهد بمغيب وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره، صنت الكتاب عن ذكره. [عبد الملك بن صالح] دعا الرشيد بعبد الملك بن صالح- وكان معتقلا فى حبسه- فلما مثل بين يديه التفت إليه، وكان يحدّث يحيى بن خالد بن برمك وزيره، فقال متمثلا: أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد «1» ثم قال: يا عبد الملك، كأنى أنظر إلى شؤبوبها «2» قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأنى بالوعيد قد أورى «3» ، بل أدمى، فأبرز عن براجم بلا معاصم «4» ، ورءوس بلا غلاصم، فمهلا بنى هاشم، فبى والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذرا قبل حلول داهية خبوط باليد والرجل، فقال عبد الملك: أفذّا أتكلم أم توأما؟ قال: بل فذّا، قال: أتق

[مدح الحقد وذمه]

الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، واحفظه فى رعاياك الذى استرعاك، ولا تجعل الكفر بموضع الشكر، والعقاب بموضع الثواب، فقد والله سهلت لك الوعور، وجمعت على خوفك ورجائك الصدور، وشددت أواخى ملكك بأوثق من ركنى يلملم، وكنت لك كما قال أخو بنى جعفر بن كلاب- يعنى لبيدا: ومقام ضيّق فرّجته ... بلسان وبيان وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامى وزحل فأعاده إلى مجلسه «1» ، وقال: لقد نظرت إلى موضع السيف من عاتقه مرارا، فيمنعنى عن قتله إبقائى على مثله. [مدح الحقد وذمه] وأراد يحيى بن خالد أن يضع من عبد الملك ليرضى الرشيد، فقال له: يا عبد الملك، بلغنى أنك حقود! فقال عبد الملك: أيها الوزير، إن كان الحقد هو بقاء الشر والخير، إنهما لباقيان فى قلبى! فقال الرشيد: تالله ما رأيت أحدا احتجّ للحقد بأحسن مما احتجّ به عبد الملك. وقد مدح ابن الرومى الحقد، وأخذ هذا المعنى من قول عبد الملك، وزاد فيه؛ فقال لعاتب عابه بذلك: لئن كنت فى حفظى لما أنا مودع ... من الخير والشر انتحيت على عرضى لما عبتنى إلا بفضل إبانة ... وربّ امرىء يزرى على خلق محض «2» ولا عيب أن تجزى القروض بمثلها ... بل العيب أن تدّان دينا ولا تقضى وخير سحيّات الرجال سجية ... توفيك ما تسدى من القرض بالقرض إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهى ناهيك من أرض

ولولا الحقود المستكنات لم يكن ... لينقض وترا آخر الدهر ذو نقض وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى ... وبعض السجايا ينتمين إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذى إساءة ... فثمّ ترى شكرا على حسن القرض وقال يردّ على نفسه، ويذم ما مدح، توسّعا واقتدارا: يا مادح الحقد محتالا له شبها ... لقد سلكت إليه ملكا وعثا إنّ القبيح وإن صنّعت ظاهره ... يعود ما لم منه مرة شعثا «1» كم زخرف القول ذو زور ولبّسه ... على القلوب ولكن قل ما لبثا قد أبرم الله أسباب الأمور معا ... فلن ترى سببا منهن منتكثا «2» يا دافن الحقد فى ضعفى جوانبه ... ساء الدفين الذى أضحت له جدثا الحقد داء دوىّ لا دواء له ... يرى الصدور إذا ما جمره حرثا فاستشف منه بصفح أو معاتبة ... فإنما يبرىء المصدور ما نفثا واجعل طلابك بالأوتار ما عظمت ... ولا تكن بصغير القول مكترثا فالعفو أقرب للتقوى وإن جرم ... من مجرم جرح الأكباد أو فرثا يكفيك فى العفو أن الله قرّظه ... وحيا إلى خير من صلّى ومن بعثا شهدت أنك لو أذنبت ساءك أن ... تلقى أخاك حقودا صدره شرثا إذا وسرّك أن تلقى الذنوب معا ... وأن تصادف منه حانبا دمثا إنى إذا خلط الأقوام صالحهم ... بسيىء الفعل جدّا كان أو عبثا جعلت قلبى كظرف السبك حينئذ ... يستخلص الفضة البيضاء لا الخبثا ولست أجعله كالحوض أمدحه ... بحفظ ما طاب من ماء وما خبثا والبيت الذى تمثل به الرشيد هو لعمرو بن معد يكرب يقوله لقيس بن

[رجع إلى عبد الملك بن صالح]

المكشوح المرادى، وقد تمثّل به على بن أبى طالب رضى الله عنه لمّا رأى عبد الرحمن ابن ملجم المرادى فقال له: أنت تخضب هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ونقرته «1» . فقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تقتله! فقال: كيف يقتل المرء قاتله؟ وكان بين مسلمة بن عبد الملك وبين العباس بن الوليد تباعد، فبلغ العباس أن مسلمة ينتقصه، فكتب إليه يقول: ألا تقنى الحياء أبا سعيد ... وتقصر عن ملاحاتى وعذلى فلولا أنّ فرعك حين تنمى ... وأصلك منتهى فرعى وأصلى وأنى إن رميتك هضت عظمى ... ونالتنى إذا نالتك نبلى لقد أنكرتنى إنكار خوف ... يضمّ حشاك عن شتمى وأكلى فكم من سورة أبطأت عنها ... بنى لك مجدها طلبى وحفلى ومبهمة عييت بها فأبدى ... عويلى عن مخارجها وفضلى كقول المرء عمرو فى القوافى ... لقيس حين خالف كلّ عدل عذيرى من خليلى من مراد ... أريد حياته ويريد قتلى لم يتفق له فى القافية كما قال عمرو، فغيّره. [رجع إلى عبد الملك بن صالح] وعبد الملك هذا هو ابن صالح بن على، وكان بليغا جهيرا فاضلا عاقلا. وقال الجاحظ: قال لى عبد الرحمن مؤدّب عبد الملك بن صالح: قال لى عبد الملك، بعد أن خصّنى وصيّرنى وزيرا بدلا من قمامة: يا عبد الرحمن، انظر فى وجهى؛ فأنا أعرف منك بنفسك ولا تسعدنى على ما يقبح؛ دع [عنك كيف الأمير؟] ، وكيف أصبح الأمير؟ وكيف أمسى؟ واجعل مكان التقريظ حسن الاستماع

منى، واعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول، وإذا حدّثتك حديثا فلا يفوتنّك شىء منه؛ وأرنى فهمك فى طرفك؛ إنى اتخذتك وزيرا بعد أن كنت معلّما، وجعلتك جليسا مقرّبا بعد أن كنت مع الصبيان مبعدا، ومتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رجحان ما صرت إليه. وساير الرشيد عبد الملك، فقال له قائل: طأطىء من إشرافه، واشدد من شكائمه، وإلّا فسد عليك، فقال له الرشيد: ما يقول هذا؟ قال: حاسد نعمة، ونافس رتبة، أغضبه رضاك عنى، وباعده قربك منى، وأساءه إحسانك إلىّ. فقال له الرشيد: انخفض القوم وعلوتهم؛ فتوقّدت فى قلوبهم جمرة التأسّف. فقال عبد الملك: أضرمها الله بالتزيّد عندك! فقال الرشيد: هذا لك وذاك لهم. وصعد المنبر، فأرتج عليه فقال: أيّها الناس، إن اللسان بضعة من الإنسان تكلّ بكلاله إذا كلّ، وتنفسح [بانفساحه] إذا ارتجل، إن الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام، وإنا لا نسكت حصرا، ولا ننطق هذرا؛ بل نسكت مفيدين، وننطق مرشدين، وبعد مقامنا مقام، ووراء أيامنا أيّام، بها فصل الخطاب، ومواقع الصواب، وسأعود فأقول، إن شاء الله تعالى وقال الأصمعى: كنت عند الرشيد فدعا بعبد الملك بن صالح من حبسه، فقال: يا عبد الملك، أكفرا بالنّعمة «1» ، وغدرا بالسلطان، ووثوبا على الإمام؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بؤت بأعباء الندم، واستحلال النّقم، وما ذاك إلّا من قول حاسد، ناشدتك الله والولاية، ومودّة القرابة. فقال الرشيد: يا عبد الملك، تضع لى لسانك، وترفع لى جنانك، بحيث يحفظ الله لى عليك، ويأخذ لى منك، هذا كاتبك قمامة ينبىء عن غلّك «2» ، فالتفت عبد الملك إلى قمامة وكان قائما، فقال:

[فى مقام الخوف]

أحقّا يا قمامة؟ قال: حقّا، لقد رمت ختر «1» أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: وكيف لا يكذب علىّ يا أمير المؤمنين فى غيبتى من يبهتنى فى حضرتى؟ فقال الرشيد: دع قمامة، هذا ابنك عبد الرحمن ينبىء عنك بمثل خبر قمامة، فقال عبد الملك: إنّ عبد الرحمن مأمور أو عاقّ؛ فإن كان مأمورا فهو معذور، وإن كان عاقا فما أتوقّع من عقوقه أكثر. [فى مقام الخوف] وقال الرشيد للحسن بن عمران وقد أدخل عليه يرسف فى قيوده: ولّيتك دمشق وهى جنّة مونقة، تحيط بها غدر كاللّجين «2» ، فتكف على رياض كالزّرابى، وكانت بيوت أموال فما برح بها التعدّى، حتى تركتها أجرد من الصّخر، وأوحش من القفر! فقال: يا أمير المؤمنين، ما قصدت لغير التوفيق من جهته، ولكنى ولّيت أقواما ثقل على أعناقهم الحقّ، فتفرّغوا فى ميدان التعدى، ورأوا أنّ المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار السلطان، وأنوه بالشنعة؛ فلا جرم أنّ موجدة أمير المؤمنين قد أخذت لهم بالحظّ الاوفر من مساءتى! فقال عبد الله ابن مالك: هذا أجزل كلام سمع لخائف، وهذا ما كنا نسمعه عن الحكماء «أفضل الأشياء بديهة أمن وردت فى مقام خوف» . ولما رضى الرشيد عن يزيد بن مزيد دخل عليه فقال: الحمد لله الذى سهّل لى سبل الكرامة بلقائك، وردّ علىّ النعمة بوجه الرضا منك، وجزاك الله فى حال سخطك حقّ المتثبتين المراقبين، وفى حال رضاك حقّ المنعمين المتطوّلين؛ فقد جعلك الله- وله الحمد- تتثبّت [تحزّجا] عند الغضب، وتتطول [ممتنّا] بالنعم، وتستبقى المعروف عند الصنائع تفضّلا بالعفو.

[من الرثاء]

[من الرثاء] وفى يزيد بن مزيد يقول مسلم بن الوليد مرثيّته، وقد رويت له فى يزيد بن أحمد السلمى: قبر ببرذعة استسرّ ضريحه ... خطرا تقاصر دونه الأخطار «1» نفضت بك الأحلاس نفض إقامة ... واسترجعت نزّاعها الأمصار فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار سلكت بك العرب السبيل إلى العلا ... حتى إذا سبق الرّدى بك حاروا وقال أبو عبد الرحمن محمد بن أبى عطية يرثى أخاه: حنّطته يا نصر بالكافور ... وزففته للمنزل المهجور هلّا ببعض خصاله حنطته ... فيضوع أفق منازل وقبور والله لو بنسيم أخلاق له ... تعزى إلى التقديس والتطهير حنّطت من وطئ الحصى وعلا الربى ... لتزوّد بل عدّة لنشور فاذهب كما ذهب الشباب فإنه ... [قد كان خير مجاور ومجير] [واذهب كما ذهب الوفاء فإنه] ... عصفت به ريحا صبا ودبور والله ما أبنته لأزيده ... شرفا ولكن نفثة المصدور ومات رجل من العرب كان يعول اثنى عشر ألفا، فلما حمل على سريره صرّ، فقال بعض من حضر: وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصّف «2» وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخّلف وقال عبد الله بن المعتز فى عبيد الله بن سليمان بن وهب يرثيه: يا بن وهب بالكره منّى بقيت ... عجبى يوم متّ كيف حييت

إنما طيّب الثناء الذى خلفت ... لا مسك نعتك المفتوت واختصرت الطريق بعدك للمو ... ت فلاقيته ولست أفوت كيف يبقى على الحوادث حىّ ... بيد الدّهر عوده منحوت وقال أيضا: ذكرت ابن وهب فلله ما ... ذكرت وما غيّبوا فى الكفن تقطّر أقلامه من دم ... ويعلم بالظنّ ما لم يكن وظاهر أطرافه ساكن ... وما تحته حركات الفطن وقال: ذكرت عبيد الله والترب دونه ... فلم تحبس العينان منّى بكاهما «1» وحاشاه من قول «سقى الغيث قبره» ... يداه تروّى قبره من نداهما وهذا مأخوذ من قول الطائى: سقى الغيث غيثا وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيه سحاب ولا قطر «2» وكيف احتمالى للسحاب صنيعة ... بإسقائها قبرا وفى لحده البحر وقال ابن المعتز: لم تمت أنت، إنما مات من لم ... يبق فى المجد والمكارم ذكرا لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يظما وقد تضمّن بحرا والبيت الثانى من هذين من بيت الطائى. وقال: محمد بن حميد أخلقت رممه ... أريق ماء المعالى إذ أريق دمه رأيته بنجاد السيف محتبيا ... كالبدر حين انجلت عن وجهه ظلمه فى روضة حفّها من حولها زهر ... أيقنت عند انتباهى أنها نعمه

فقلت والدمع من وجد ومن حرق ... يجرى وقد خدّد الخدين منسجمه: ألم تمت يا سليل المجد من زمن؟ ... فقال لى: لم يمت من لم يمت كرمه وقال بعض أهل العصر: عمر الفتى ذكره، لاطول مدّته ... وموته موته لا موته الدّانى فأحى ذكرك بالإحسان تزرعه ... تجمع به لك فى الدنيا حياتان وقال عبد السلام بن رغبان الحمصى «1» : سقى الغيث أرضا ضمّنتك وساحة ... لقبرك فيه الغيث والليث والبدر وما هى أهل إذ أصابتك بالبلى ... لسقيا، ولكن من حوى ذلك القبر أخذ هذا البيت [الأول] الراضى فقال يرثى أباه المقتدر: بنفسى ثرى ضمّنت فى ساحة البلى ... لقد ضمّ منك الغيث والليث والبدرا فلو أنّ عمرى كان طوع مشيئتى ... وأسعدنى المقدور قاسمتك العمرا ولو أنّ حيّا كان قبرا لميت ... لصيّرت أحشائى لأعظمه قبرا هذا البيت ينظر إلى قول المتنبى: حتى أتوا جدثا كأن ضريحه ... فى قلب كلّ موحّد محفور لما حملت قطر الندى بنت خمارويه بن [أحمد بن] طولون إلى المعتضد كتب معها أبوها إليه يذكره بحرمة سلفها [بسلفه] ، ويذكر ما ترد عليه من أبّهة الخلافة، وجلالة الخليفة، ويسأل إيناسها وبسطها، فبلغت من قلب المعتضد لما زفّت إليه مبلغا عظيما، وسرّ بها غاية السرور، وأمر الوزير أبا القاسم عبيد الله ابن سليمان بن وهب بالجواب عن الكتاب، فأراد أن يكتبه بخطّه، فسأله أبو الحسين بن ثوابة أن يؤثره بذلك ففعل؛ وغاب أياما وأتى بنسخة يقول فى فصل

[رجع إلى الرثاء]

منها: وأمّا الوديعة فهى بمنزلة شىء انتقل من يمينك إلى شمالك، عناية بها، وحياطة عليها، ورعاية لمودتك فيها. ثم أقبل عبيد الله يعجب من حسن ما وقع له من هذا، وقال: تسميتى لها بالوديعة نصف البلاغة، فقال عبيد الله: ما أقبح هذا! تفاءلت لامرأة زفّت إلى صاحبها بالوديعة، والوديعة مستردة. وقولك «من يمينك إلى شمالك أقبح» لأنك جعلت أباها اليمين وأمير المؤمنين الشمال، ولو قلت: «وأما الهدية فقد حسن موقعها منّا، وجلّ خطرها عندنا؛ وهى وإن بعدت عنك، بمنزلة من قربت منك؛ لتفقّد نالها، وأنسنابها، ولسرورها بما وردت عليه، واغتباطها بما صارت إليه» لكان أحسن، فنفذ الكتاب. وكانت قطر الندى مع جمالها موصوفة بفضل العقل، خلا بها المعتضد يوما للأنس بها فى مجلس أفرده لم يحضره غيرها، فأخذت منه الكأس، فنام على فخذها، فلما استثقل «1» وضعت رأسه على وسادة، وخرجت فجلست فى ساحة القصر على باب المجلس، فاستيقظ فلم يجدها، فاستشاط غضبا «2» ، ونادى بها فأجابته على قرب، فقال: ما هذا؟ أخليتك إكراما لك، ودفعت إليك مهجتى دون سائر حظاياى، فتضعين رأسى على وسادة! فقالت: يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علىّ، وأحسنت فيه إلىّ، ولكن فيما أدّبنى به أبى أن قال لى: لا تنامى مع الجلوس، ولا تجلسى بين النيام. [رجع إلى الرثاء] وفى أبى الحسين بن ثوابة يقول ابن المعتز يرثيه: ليس شىء لصحّة ودوام ... علب الدهر حيلة الأقوام وتولّى أبو الحسين حميدا ... فعلى روحه سلام السلام

[أيام الشباب]

حين عاقدته على الحفظ للعهد وصافحته بكفّ الذّمام «1» واصطفته على الأخلّاء نفسى ... كاصطفاء الأرواح للأجسام كان ريحانة النّدامى وميزا ... ن القوافى شعرا وبحر كلام ومكان السهم الذى لا يرى ... الشكّ ولا يستغيث بالأوهام ساحر الوحى فى القراطيس لا تحبس ... عنه أعنّة الأقلام فإذا ما رأيته خلت فى خدّيه ... صبحا منقّبا بظلام نفس صبرا لا تجزعى إن هذا ... خلق من خلائق الأيام [أيام الشباب] وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب لرجل من بنى كلاب: سقى الله دهرا قد تولّت غياطله ... وفارقنا إلا الحشاشة باطله «2» ليالى خدنى كلّ أبيض ماجد ... يطيع هوى الصابى وتعصى عواذله وفى دهرنا والعيش فى ذاك غرّة ... ألا ليت ذاك الدهر تثنى أوائله بما قد غنينا والصّبا جلّ همّنا ... يمايلنا ريعانه ونمايله وجرّ لنا أذياله الدهر حقبة ... يطاولنا فى غيّه ونطاوله فسقيا له من صاحب خذلت بنا ... مطيّتنا فيه وولّت رواحله أصدّ عن البيت الذى فيه قاتلى ... وأهجره حتى كأنى قاتله هذا البيت يناسب قول ذى الرمة، وإن لم يكن فى هذا المعنى، يصف ظبية وولدها: إذا استود عنه صفصفا أو صريمة ... تنحّت ونصّت جيدها بالمناظر «3» حذارا على وسنان يصرعه الكرى ... بكل مقيل عن ضعاف فواتر

وتهجره إلا اختلاسا نهارها ... وكم من محبّ رهبة العين هاجر وقال أبو حية النميرى: أما وأبى الشباب لقد أراه ... جميلا ما يراد به بديل إذ الأيام مقبلة علينا ... وظلّ أراكة الدنيا ظليل وقال على بن بسام: بشاطئ نهر قبرك فالمصلّى ... فما والاهما فالقريتين معاهد لهونا والعيش غضّ ... وصرف الدهر مقبوض اليدين وكان ابن بسام هذا- وهو على بن [محمد بن] منصور بن بسّام- مليح المقطعات، كثير الهجاء خبيثه، و [ليس] له حظ التطويل، وهو القائل: كم قد قطعت إليك من ديمومة ... نطف المياه بها سواد الناظر «1» فى ليلة فيها السماء مرذّة ... سوداء مظلمة كقلب الكافر «2» والبرق يخفق من خلال سحابه ... خفق الفؤاد لموعد من زائر والقطر منهمل يسحّ كأنه ... دمع المودّع إثر إلف سائر وقال فى العباس [بن الحسين] لما وزر للمكتفى: وزارة العباس من نحسها ... ستقلع الدولة من أسّها شبّهته لما بدا مقبلا ... فى خلع يخجل من لبسها جارية رعناء قد قدّرت ... ثياب مولاها على نفسها وقال فى على بن يحيى المنجم يرثيه:

[مع الخلفاء]

قد زرت قبرك يا علىّ مسلما ... ولك الزيارة من أقل الواجب ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عنى حملت نوائبى وكان مولعا بهجاء أبيه، وفيه يقول وقد ابتنى دارا: شدت دارا خلتها مكرمة ... سلّط الله عليها الغرقا وأرانيك صريعا وسطها ... وأرانيها صعيدا زلقا وقال أبو العباس بن المعتز يهجوه: من شاء يهجو عليّا ... فشعره قد كفاه «1» لو أنه لأبيه ... ما كان يهجو أباه [مع الخلفاء] وقال المأمون لأحمد بن أبى خالد، وهو يخلف الحسن بن سهل، وقد أشار إليه برأى استرجحه: قد اعتلّ الحسن ولزم بيته، ووكل الأمر إليك، فأنا إلى راحته وبقائه، أحوج [متى] إلى إتعابه وفنائه، وقد رأيت أن أستوزرك؛ فإن الأمر له ما دمت أنت تقوم به، وقد طالعت رأيه فى هذا الأمر، فما عداك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعفنى من التسمّى بالوزارة، وطالبنى بالواجب فيها، واجعل بينى وبين الغاية ما يرجو بى له ولّيى، ويخافنى له عدوّى، فما بعد الغايات إلا الآفات. فاستحسن كلامه، وقال: لا بد من ذلك، واستوزره. ورأى المأمون خطّ محمد بن داود فقال: يا محمد، إن شاركتنا فى اللفظ، فقد فارقناك فى الخطّ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من أعظم آيات النبى صلى الله عليه وسلم أنه أدّى عن الله سبحانه وتعالى رسالاته، وحفظ عنه وحيه، وهو

أمّى لا يعرف من فنون الخط فنّا، ولا يقرأ من سائره حرفا، فبقى عمود ذلك فى أهله، فهم يشرفون بالشّبه الكريم فى نقص الخط، كما يشرف غيرهم بزيادته؛ وإن أمير المؤمنين أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، والوارث لموضعه، والمتقلّد لأمره ونهيه؛ فعلقت به المشابهة الجليلة، وتناهت إليه الفضيلة فقال المأمون: يا محمد، لقد تركتنى لا آسى على الكتابة، ولو كنت أمّيا. وهذا شبيه بقول سعيد بن المسيب، وقد قيل له: ما بال قريش أضعف العرب شعرا، وهى أشرف العرب بيتا؟ قال: لأنّ كون رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قطع متن الشعر عنها. وقال إبراهيم بن الحسن بن سهل: كنّا فى مجلس المأمون وعمرو بن مسعدة يقرأ عليه الرقاع، فجاءته عطسة، فلوى عنقه فردّها، فرآه المأمون فقال: يا عمرو، لا تفعل فإن ردّ العطسة وتحويل الوجه بها يورثان انقطاعا فى العنق. فقال بعض ولد المهدى: ما أحسنها من مولّى لعبده، وإمام لرعيته! فقال المأمون: وما فى ذلك؟ هذا هشام اضطربت عمامته فأهوى الأبرش الكلبى إلى إصلاحها، فقال هشام: إنّا لا نتّخذ الإخوان خولا «1» ! فالذى قال هشام أحسن مما قلته. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين: إنّ هشاما يتكلّف ما طبعت عليه، [ويظلم] فيما تعدل فيه، ليس له قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قيامك بحق الله، وإنك والملوك لكما قال النابغة الذبيانى: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب لأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب أخذ النابغة هذا من قول شاعر قديم من كندة:

مختار من أقوال الحكماء عند وفاة الإسكندر

تكاد تميد الأرض بالناس إن رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب هو الشمس وافت يوم دجن فأفضلت ... على كل ضوء والملوك كواكب «1» قال يزيد بن معاوية لجميل بن أوس، وكان أكرمه واجتباه: لم كرهت الإفراط فى تقديمى، وتطامنت عن الدرجة التى سما بك إليها مكانك منى؟ فقال: [أيد الله سلطانك، وأعلى مكانك] ، إن الذين كانوا قبلنا من أهل العلوم والآداب، والعقول والألباب، كانوا أطول أعمارا منا، وأكثر للزمان صحبة، وأكثر للأيام تجربة، وقد قال الحكيم: بقدر الثواب عند الرّضا يكون العقاب عند السخط، وبقدر السموّ فى الرفعة تكون وجبة الرفعة، ولا خير فيمن لا يسمع الموعظة، ولا يقبل النصيحة، وأنا يا أمير المؤمنين وإن كنت آمنا من التعرض لسخطك والدنوّ مما يقرب منه، فلست بآمن من طعن المساوى فى الدرجة عندك، وحقر المشارك لى فى المنزلة منك، وليس من تقديمك قليل، ولا من تعظيمك يسير، فإن أقل ذلك فيه النباهة، والفخر، [والثناء] والذكر، وحسبى مما بذلته من أموالك استحقاقى عندك لإكرامك، وحسبى من تقديمك خالص رضاك، وصفاء ضميرك مختار من أقوال الحكماء عند وفاة الإسكندر لما جعل الإسكندر فى تابوت من ذهب تقدّم إليه أحدهم فقال: كان الملك يخبأ الذهب، وقد صار الآن الذهب يخبؤه، وتقدم إليه آخر، والناس يبكون ويجزعون، فقال: حرّ كنا بسكونه، أخذه أبو العتاهية فقال: يا علىّ بن ثابت بان منّى ... صاحب جلّ فقده يوم بنتا

جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار فى ذكر السلطان

قد لعمرى حكيت لى غصص المو ... ت وحرّكتنى لها وسكنتا وتقدم إليه آخر فقال: كان الملك يعظنا فى حياته، وهو اليوم أوعظ منه أمس. أخذه أبو العتاهية فقال: وكانت فى حياتك لى عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا وتقدّم إليه آخر فقال: قد طاف الأرضين وتملّكها، ثم جعل منها فى أربعة أذرع. ووقف عليه آخر فقال: مالك لا تقلّ عضوا من أعضائك، وقد كنت تستقلّ ملك العباد. ووقف عليه آخر فقال: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظلّ الغمام كيف انجلى. وقال آخر: مالك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان، وقد كنت ترغب بها عن رحب «1» البلاد. وقال آخر: [كان الملك غالبا فصار مغلوبا، وآكلا فصار مأكولا. وقال آخر] : أمات هذا الميت كثيرا من الناس لئلّا يموت، وقد مات الآن. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك فى التجبّر أمس، مع شدّة خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا: ما علمت أنّ غالب أبى يغلب. وقال رئيس الطباخين: قد نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد المجلس! جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار فى ذكر السلطان أشقى الناس بالسلطان صاحبه، كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا. لا يدرك الغنى بالسلطان إلا نفس خائفة، وجسم تعب، ودين متثلم. إن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى، ومن شارك السلطان فى عزّ الدنيا شاركه فى ذلّ الآخرة. فساد الرعية بلا ملك كفساد الجسم بلا روح. إذا زادك السلطان تأنيسا فزده إجلالا. من صحب السلطان صبر على قسوته كصبر

ومن كلام أهل العصر وغيرهم فى هذا النحو

الغوّاص على ملوحة بحره. الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى. من نصح لخدمة نصحته المجازاة. لا تلتبس بالسلطان فى وقت اضطراب الأمور عليه؛ فإن البحر لا يكاد يسلم صاحبه فى حال سكونه، فكيف عند اختلاف رياحه، واضطراب أمواجه؟ ومن كلام أهل العصر وغيرهم فى هذا النحو الأوطان حيث يعدل السلطان. إذا نطق لسان العدل فى دار الإمارة، فلها البشرى بالعزّ والإمارة. أخر بالملك العادل أن يستقلّ سريره فى سرّة الأرض. ريح السلطان على قوم سموم «1» ، وعلى قوم نسيم. أخلق بدم المستخف بالجبابرة أن يكون جبارا «2» . من غمس يده فى مال السلطان فقد مشى بقدمه على دمه. الملك خليفة الله فى عباده وبلاده، ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته. الملك من ينشر أثواب الفضل، ويبسط أنواع العدل. السلطان كالنار: إن باعدتها بطل نفعها، وإن قاربتها عظم ضررها. إقبال السلطان تعب وفتنة، وإعراضه حسرة ومذلة. صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس وهو لمركبه أهيب. السلطان إذا قال لعمّاله: هاتوا، فقد قال لهم: خذوا. ثلاثة لا أمان لهم: السلطان، والبحر، والزمان. ليكن السلطان عندك كالنار: لا تدنو منها إلا عند الحاجة إليها، وإن اقتبست منها فعلى حذر. مثل أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم وقعوا منه، فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم فى المرقى. مثل السلطان كالجبل الصّعب الذى فيه كلّ ثمرة طيبة، وكل سبع حطوم، فالارتقاء إليه شديد، والمقام فيه أشدّ. لئن عزّ الملوك فى الدنيا بالجور ليذلّن فى الآخرة [بالعدل] . لابن عبّاد الصاحب: إذا ولّاك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب

[وصف كاتبة]

فما السلطان إلا البحر عظما ... وقرب البحر محذور العواقب [وصف كاتبة] ووصف أحمد بن صالح بن شيران «1» جارية كاتبة فقال: كأنّ خطّها أشكال صورتها، وكأنّ مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، [وكأن قلمها بعض أناملها، وكأنّ بنانها سحر مقلتها، وكأن سكّينها غنج لحظها] وكأن مقّطها قلب عاشقها. [وصف غلام كاتب] وقال بعض الكتّاب يصف غلاما كاتبا: انظر إلى أثر المداد بخدّه ... كبنفسج الرّوض المشوب بورده ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئا، ولا ألفاته من قدّه ألقت أنامله على أقلامه ... شبها أراك فرندها كفرنده «2» وكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من خدّه «3» وقال أحمد بن أبى سمرة الدارمى فيما ينظر إلى هذا من طرف خفى: [سراب الفيافى صادق عند وعدها ... وسمّ الأفاعى مبرئ عند صدّها] رمتنى ولم أسعد بأيام وصلها ... بعينى مهاة أنحستنى ببعدها فعلّقها قلبى كما قد تعلقت ... صوالج صدغيها بتفّاح خدها فقلبى لمّا أضعفته كخصرها ... ودمعى لمّا نظمته كعقدها ونيل الثّريّا ممكن عند وصلها ... وأسرغ من برق تناقض وعدها [من بديع الزمان إلى ابن العميد] رقعة كتبها بديع الزمان إلى ابن العميد يستنجزه: أين تكرّم الشيخ العميد أيّده الله على مولاه؟ وكيف معدله إلى سواه؟ أيقصر فى النعمة، لأنى قصّرت

[بين البديع وأبى القاسم الهمذانى]

فى الخدمة؟ إذن فقد أساء المعاملة، ولم يحسن المقابلة، وعثر فى أذيال السهو، ولم ينعش بيد العفو، أم يقول: إن الدهر بيننا خدع، وفيما بعد متّسع، فقد أزف رحيلى «1» ، ولا ماء بعد الشطّ، ولا سطح وراء الخط؛ أم ينتظر سؤالى؟ وإنما سألته، يوم أمّلته، واستمنحته «2» ، يوم مدحته، واقتضيته، يوم أتيته، وانتجعت سحابه، لما قرعت بابه، وليس كل السؤال أعطنى، ولا كل الردّ أعفنى؛ أم يظن- أيّده الله تعالى- أنى أردّ صلته، ولا ألبس خلعته؟ وهذه فراسة المؤمن إلا أنها باطلة، ومخيلة العارف إلا أنها فاسدة؛ أم ليس يجد فىّ مكانا للنعمة يضعها، وأرضا للمنّة يزرعها؟ فلا أقل من تجربة دفعة، والمخاطرة بإنفاذ خلعة، ليخرج من ظلمة التخمين، إلى نور اليقين، وينظر أأشكر أم أكفر؛ أم يتوقع- أيده الله- صاعقة تملكنى، أو بائقة تهلكنى «3» ، فلهذا أمل موفّر، لأن شيخ السوء باق معمّر؛ أم يقدر- أيّده الله- أنى أشكره إذا اصطنع، وأعذره إذا منع، وتالله لو كنت ينبوع المعاذير ما حظى منها بجرعة، فليرحنى بسرعة. [بين البديع وأبى القاسم الهمذانى] وكتب أبو القاسم الهمذانىّ إلى البديع: قد كتبت لسيدى حاجة إن قضاها وأمضاها، ذاق حلاوة العطاء، وإن أباها وفلّ شباها «4» لقى مرارة الاستبطاء، فأى الجودين أخفّ عليه؟ أجود بالعلق «5» ، أم جود بالعرض؟ ونزول عن الطريف، أم عن الخلق الشريف؟ فأجابه: جعلت فداك هذا طبيخ، كله توبيخ، وثريد، كله وعيد، ولقم، إلا أنها نقم، ولم أر قدرا أكثر منها عظما، ولا آكلا أكثر منى كظما، ولم أر شربة أمرّ منها طعما، ولا شاربا أتمّ منى حلما، ما هذه الحاجة؟ ولنكن حاجتك من بعد ألين جوانب، وألطف مطالب، توافق قضاءها وترافق ارتضاءها، إن شاء الله تعالى.

وفى مقامات أبى الفتح «1» الإسكندرى من إنشائه، قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: أحلّنى جامع بخارى يوم، وقد انتظمت مع رفقة فى سمط الثريّا، وحين احتفل الجامع بأهله طلع علينا ذو طمرين «2» ، قد أرسل صوانا، واستتلى [طفلا] عريانا، يضيق بالضرّ وسعه، ويأخذه القرّ ويدعه، لا يملك غير القشرة «3» بردة، ولا يلتقى لحياه رعدة، ووقف الرجل وقال: لا ينظر لهذا الطفل إلّا من رحم طفله، ولا يرقّ لهذا الضّر إلا من لا يأمن مثله، يا أصحاب الجدود المفروزة، والأردية المطروزة، والدور المنجّدة، والقصور المشيدة، إنكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا الخير ما أمكن، وأحسنوا مع الدهر ما أحسن، فقد والله طعمنا السّكباج «4» ، وركبنا الهملاج «5» ، ولبسنا الديباج، وافترشنا الحشايا بالعشايا، فما راعنا إلا هبوب الدهر بغدره، وانقلاب المجنّ لظهره، فعاد الهملاج قطوفا «6» ، وانقلب الديباج صوفا، وهلمّ جرا، إلى ما تشاهدون من خالى وزيّى؛ فها نحن نرضع من الدهر ثدى عقيم، ونركب من الفقر ظهر بهيم، ولا نرنو إلا بعين اليتيم، ولا نمد إلا يد العديم، فهل من كريم يجلو عنا غياهب هذه البؤوس، ويفلّ شبا هذه النحوس؟. ثم قعد مرتفقا، وقال للطفل: أنت وشأنك. فقال: وما عسى أن أقول، وهذا الكلام لو لقى الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وإنّ قلبا لم ينضجه ما قلت لنىء! قد سمعتم يا قوم، ما لم تسمعوا قبل اليوم، فليشغل كلّ منكم بالجود يده، وليذكر غده، واقيا بى ولده، واذكرونى أذكركم، وأعطونى أشكركم! قال عيسى بن هشام: فما آنسنى فى وحدتى إلا خاتم ختّمت به خنصره، فلما تناوله أنشأ يقول: وممنطق من نفسه ... بقلادة الجوزاء حسنا

[وصف فص وخاتم]

كمتيمّ لقى الحبي ... ب فضمّه شغفا وحزنا متألّف من غير أسرته ... على الأيام خدنا علق سنىّ قدره ... لكنّ من أهداه أسنى أقسمت لو كان الورى ... فى المجد لفظا كنت معنى قال عيسى بن هشام: فتبعته حتى سفرت الخلوة عن وجهه، فإذا والله شيخنا الإسكندرى، وإذا الصبىّ غلام له، فقلت: أبا الفتح شبت وشبّ الغلام ... فأين الكلام، وأين السلام؟ «1» فقال: غريبا إذا جمعتنا الطريق ... أليفا إذا نظمتنا الخيام فعلمت أنه كره لقائى، فتركته وانصرفت. [وصف فص وخاتم] وقال أبو الفتح كشاجم يصف فصا: ساجل؟؟؟ بفصّك من أردت وباهه ... فكفى به كمدا لقلب الحاسد متألّق فيه الفرند كأنه ... وجهى غداة ندى وضيف قاصد لو أنّ ظمأى منه علّت لارتوت ... من ماء جوهره المعين البارد «2» بهر العيون إضاءة فى رقّة ... فكأننى متخنّم بعطارد وقال بعض المحدثين يصف خاتما: ووحيد الكيان صيغ بديعا ... فإذا تمّ صيغ من جوهرين خلعت خجلة الخدود عليه ... خلعا قد لبسن فوق اللّجين

[مفاضلة بين الكلام والصمت]

فإذا ما رأيته فى بنان ... قد كساها من حسنه حلّتين قلت نجم هوى من الجوّ حتى ... صار مجرى بروجه فى اليدين وقال البحترى يستهدى المعتز فصّا: فهل أنت يابن الراشدين مختّمى ... بياقوتة تبهى علىّ وتشرق يغار احمرار الورد من حسن صبغها ... ويحكيه جادىّ الرحيق المعتّق إذا برزت والشمس قلت تجاريا ... إلى أمد أو كادت الشمس تسبق إذا التهبت فى اللّحظ ضاهى ضياؤها ... جبينك عند الجود إذ يتألّق «1» أسربل منها ثوب فخر معجّل ... فيبقى بها ذكر على الدهر مخلق وعلى ذكر الخاتم قال أبو الفتح كشاجم: عرضن فعرّضن القلوب من الهوى ... لأسرع من كىّ القلوب على الجمر كأنّ الشفاء اللّعس منها خواتم ... من التّبر مختوم بهنّ على الدّرّ «2» وقال الناظم: يروع مناجيه بهاروت لحظه ... ويؤنسه منه بصورة آدم ترى فيه لاما فردة فوق وردة ... وفصّا من الياقوت من فوق خاتم [مفاضلة بين الكلام والصمت] وقال أبو تمام الطائى: تذاكرنا فى مجلس سعيد بن عبد العزيز الكلام وفضله، والصمت ونبله، فقال: ليس النّجم كالقمر؛ إنك إنما تمدح السكوت بالكلام، ولا تمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شىء فهو أكبر منه. قال الجاحظ: كيف يكون الصمت أنفع من الكلام، ونفعه لا يكاد يجاوز

[الحنين إلى الأوطان]

صاحبه، ونفع الكلام يعمّ ويخصّ، والرواة لم ترو سكوت الصامتين، كما روت كلام الناطقين؛ فبالكلام أرسل الله تعالى أنبياءه لا بالصّمت، ومواضع الصّمت المحمودة قليلة، ومواطن الكلام المحمودة كثيرة، وبطول الصّمت يفسد البيان. وكان يقال: محادثة الرجال تلقيح لألباتها. وذكر الصمت فى مجلس سليمان بن عبد الملك فقال: إنّ من تكلّم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن، وليس من سكت فأحسن يتكلّم فيحسن. قال بعض النساك: أسكتتنى كلمة ابن مسعود عشرين سنة؛ وهى: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه. [الحنين إلى الأوطان] قال أبو عمرو بن العلاء: مما يدلّ على حرية الرجل وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه، وتشوّقه إلى متقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه. وقالوا: الكريم يحنّ إلى جنابه، كما يحنّ الأسد إلى غابه. وقالوا: يشتاق اللبيب إلى وطنه، كما يشتاق النجيب إلى عطنه «1» . ألفاظ لأهل العصر فى ذكر الوطن بلد لا تؤثر عليه بلدا، ولا تصبر عنه أبدا. هو عشّه الذى فيه درج، ومنه خرج. مجمع أسرته، ومقطع سرّته. بلد أنشأته تربته، وغذّاه هواؤه، وربّاه نسيمه، وحلّت عنه التمائم فيه. قالوا: وكان الناس يتشوّقون إلى أوطانهم، ولا يفهمون العلّة فى ذلك، حتى أوضحها على بن العباس الرّومى فى قصيده لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه على رجل من التّجّار، يعرف بابن أبى كامل، أجبره على بيع داره واغتصبه بعض جدرها، بقوله:

ولى وطن آليت ألّا أبيعه ... وألّا أرى غيرى له الدهر مالكا عهدت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا فى ظلالكا وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصّبا فيها فخنّوا لذلكا فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا يقول له فيها: وقد عزّنى فيها لئيم وسامنى ... فقال لى اجهد فىّ جهد احتيالكا «1» وما هو إلا نسجك الشّعر ضلّة ... وما الشعر إلّا ضلة من ضلالكا بصير بتسآل الملوك، ولم يكن ... بعار على الأحرار مثل سؤالكا وإنى وإن أضحى مدلّا بماله ... لآمل أن أضحى مدلّا بمالكا فإن لم تصبنى من يمينك نعمة ... فلا نخطئنه نقمة من شمالكا فكم لقى العافون بدءا وعودة ... نوالك والعادون مر نكالكا وقال على بن عبد الكريم النصيبى: أتانى أبو الحسن بن الرومى بقصيدته هذه، وقال: أنصفنى، وقل الحق: أيهما أحسن قولى فى الوطن أو قول الأعرابى: أحبّ بلاد الله ما بين منعج ... إلىّ وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ... وأوّل أرض مسّ جلدى ترابها «2» فقلت: بل قولك؛ لأنه ذكر الوطن ومحبّته، وأنت ذكرت العلة التى أوجبت ذلك. وقال ابن الرومى أيضا يتشوّق إلى بغداد، وقد طال مقامه بسرّ من رأى: بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل فى الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد «3»

وقال أبو العباس: ولما احتفل القائل فى هذا المعنى السابق إليه قال: بلاد بها حلّ الشباب تمائمى وقد تقدّم. وإذا كانت تمائمه قطعت بأبرق العزّاف، وكان التراب الذى مسّ جلده تراب جزيرة سيراف، وجب أن يحنّ إليه حنين المتأسفين على غوطة دمشق، وقصور مدينة السلام، ونجف الجزيرة، ومستشرف الخورنق، وجوسق سرّ من رأى، لمّا بعد عنها، وطال مقامه بغيرها، كلّا، ولكن هذا الرجل علم أن الحنين إلى الأوطان لما تذكّر من معاهد اللهو فيها، بجدّة الشباب الذى ذكر أنّ غول سكرته، يغطى على مقدار فضيلته، فى قوله: لا تلح من يبكى شبيبته ... إلّا إذا لم يبكها بدم عيب الشبيبة غول سكرتها ... ومقدار ما فيها من النّعم لسنا نراها حقّ رؤيتها ... إلّا أوان الشيب والهرم كالشمس لا تبدو فضيلتها ... حتى تغشّى الأرض بالظّلم ولربّ شىء لا يبيّنه ... وجدانه إلّا مع العدم أخذها هذا من قول الطائى: راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدى ملاء القلوب قد علمت ما رزئت، إنما ... يعرف فقد الشمس بعد الغروب وأخذ ابن الرومى قوله فى صفة الوطن من قول بشّار: متى تعرف الدار التى بان أهلها ... بسعدى فإن العهد منك قريب تذكّرك الأهواء إذ أنت يافع ... لديها فمغناها لديك حبيب «1» أو من قول بعض الأعراب: ذكرت بلادى فاستهلّت مدامعى ... بشوقى إلى عهد الصبا المتقادم «2»

حننت إلى أرض بها اخضرّ شاربى ... وقطّع عنى قبل عقد التمائم وأنشد ثعلب لرجاء بن هرون العكى: أحنّ إلى وادى الأراك صبابة ... لعهد الصّبا فيه ونذكار أول كأنّ نسيم الريح فى جنباته ... نسيم حبيب أو لقاء مؤمّل قال أبو بكر الصولى: ولست أشكّ أنه من قول رجاء أخذ، وبه ألمّ، وعليه عوّل؛ لأنه فى تناوله المعنى غريب الأخذ، عائر السّهم «1» ، لا يعارض معنى معروفا إذا أنشد علم الناس أنه معدنه الذى انتحته منه. وقد اختلس معنى قول ابن الرومى: فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا أخذه على بن محمد الإيادى وقال فأحسن الأخذ ولطف فى السرقة: بالجزع فالخبتين أشلاء دار ... ذات ليال قد تولّت قصار بانوا فماتت أسفا بعدهم ... وإنما الناس نفوس الديار وقال أعرابى: أيا حبذا نجد وطيب ترابه ... تصافحه أيدى الرياح الغرائب وعهد صبا فيه ينازعك الهوى ... بذلك أتراب. عذاب المشارب تنال المنى منهنّ فى كل مطلب ... عذاب الثنايا واردات الذوائب «2» وقال ابن ميّادة يخاطب الوليد بن يزيد. ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... بحرّة ليلى خيت ربّتنى أهلى بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ... وقطّعن عنى حين أدركنى عقلى فإن كنت عن تلك المواطن مانعى ... قأفش علىّ الزرق واجمع إذ اشملى وقال سوار بن الصرير «3» ، ورويت لمالك بن الريب:

سقى الله اليمامة من بلاد ... نوائحها كأرواح الغوانى «1» وجوّا زاهرا للريح فيه ... نسيم لا يروع الترب وانى به سقت الشباب إلى زمان ... يقبح عندنا حسن الزمان وقال أعرابى: أقول لصاحبى والعيس تخدى ... بنابين المنيفة فالضّمار «2» تمتّع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشيّة من عرار ألا يا حبّذا نفحات نجد ... وريّا روضه غبّ الفطار «3» [وأهلك إذ يحلّ القوم نجدا ... وأنت على زمانك غير زار] شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار وهذا البيت كقول الآخر: سقى الله أياما لنا قد تتابعت ... وسقيا لعصر العامريّة من عصر ليالى أعطيت البطالة مقودى ... تمرّ الليالى والشهور ولا أدرى وتخلّف سليمان عن نصرة ابن الرومى؛ فذاك الذى هاجه على هجائه، فمن ذلك قوله، وقد خرج فى بعض الوجوه فرجع مهزوما: جاء سليمان بنى طاهر ... فاجتاح معتزّ بنى المعتصم كأن بغداد وقد أبصرت ... طلعته نائحة تلتدم «4» مستقبل منه ومستدبر ... وجه بخيل وقفا منهزم وقال: قرن سليمان قد أضرّ به ... شوق إلى وجهه سيتلفه

ألفاظ لأهل العصر، فى وصف الأمكنة والأزمنة

كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب فى وعده ويخلفه لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ، فيعرفه وقد أخذ هذا المعنى من قول بعض الخوارج، وقد قال له أبو جعفر المنصور: أخبرنى أى أصحابى كان أشدّ إقداما فى مبارزتك، فقال: ما أعرف وجوههم، ولكننى أعرف أقفاءهم، فقل لهم يدبروا أعرّفك. وفى هذه المنازعة يقول ابن الرّومى لمواليه بنى هاشم وكان ولاؤه لعبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور: تخذتكم درعا علىّ لتدفعوا ... نبال العدى عنى فكنتم نصالها وقد كنت أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها فإن أنتم لم تحفظوا لمودّتى ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها قفوا موقف المعذور عنى بمعزل ... وخلّوا نبالى والعدا ونبالها ألفاظ لأهل العصر، فى وصف الأمكنة والأزمنة بلدة كأنها صورة جنّة الخلد، منقوشة فى عرض الأرض. بلدة كأن محاسن الدنيا مجموعة فيها، ومحصورة فى نواحيها. بلدة كأن ترابها عنبر، وحصباءها عقيق «1» ، وهواءها نسيم، وماءها رحيق. بلدة معشوقة السّكنى، رحبة المثوى «2» ، كوكبها يقظان، وجوّها عريان، وحصاها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنىّ، وشرابها مرىّ. بلدة واسعة الرقعة، طيبة البقعة، كأنّ محاسن الدنيا عليها مفروشة، وصورة الجنة فيها منقوشة، واسطة البلاد وسرّتها، ووجهها وغرتها.

ولهم فى ضد ذلك

ولهم فى ضد ذلك بلد متضايق الحدود والأفنية، متراكب المنازل والأبنية. بلد حرّها مؤذ، وماؤها غير مغذ. بلدة وسخة السماء، رمدة الهواء، جوّها غبار، [وأرضها خبار «1» ] ، وماؤها طين، وترابها سرجين «2» . وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز «3» ، فكم فى شمسها من محترق، وفى ظلها من غرق. بلدة ضيقة الديار، سيئة الجوار، حيطانها أخصاص، وبيوتها أقفاص، وحشوشها مسايل، وطرقها مزابل. ولهم فى صفات الحصون والقلاع حصن كأنه على مرقب النجم، يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر، يكاد من علاه يغرق فى حوض الغمام. حصن انتطق بالجوزاء، وناجت أبراجه بروج السماء. قلعة حلّقت بالجو تناجى السماء بأسرارها. قلعة بعد فى السماء مرتقاها، حتى تساوى ثراها مع ثريّاها. قلعة تتوشّح بالغيوم، وتتحلّى بالنجوم. قلعة عالية على المرتقى، صمّاء عن الرقى، قد جاوزت الجوزاء سمتا، وعزلت السماك الأعزل سمكا، هى متناهية فى الحصانة، موثوقة بالوثاقة، ممتنعة على الطلب والطالب، منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب، لم تزدها الأيام إلا نبوّ أعطاف، واستصعاب جوانب وأطراف، قد ملّ الولاة حصارها، ففارقوها عن طموح منها وشماس، وسئمت الجيوش ظلّها، فغادرتها بعد قنوط وياس، فهى حمى لا يراغ «4» ، ومعقل لا يستطاع، كأنّ الأيام صالحتها على الإعفاء من الحوادث والليالى عاهدتها على التسليم من القوارع. قلعة يحوى من الرّفعة قدرا لا تستهان مواقعه، وتلوى فى المنعة جيدا لا تستلان أخادعه، ليس للوهم قبل القدوم إليها مسرى، ولا للفكر قبل الخطو نحوها مجرى.

ولهم فى صفات القصور والدور

ولهم فى صفات القصور والدور قصر كأن شرفاته بين النّسر والعيّوق «1» ، كأنه يسامى الفرقد، وقد اكتست له الشّعرى العبور ثوب الغيور. قصر طال مبناه، وطاب مغناه، كأنه فى الحصانة جبل منيع، وفى الحسن ربيع مريع. شرفات كالعذارى شددن مناطقها، وتوّجن بالأكاليل مفارقها. قصر أقرّت له القصور بالقصور «2» ، كأنه سحاب فى بحر السماء. دار قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرّة. كأنّ بانيها استسلف الجنة فعجّلت له. دار تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور؛ إن مات صاحبها مغفورا له فقد انتقل من جنة إلى جنة. دار قد اقترن اليمن بيمناها، واليسر بيسراها، الجسوم منها فى حضر، والعيون على سفر. دار هى [دائرة الميامن، و] دارة المحاسن. دار دار بالسعد نجمها، وفاز بالحسن سهمها. دار يخدمها الدهر، ويأويها البدر، ويكنفها النّصر، هى مرتع النواظر، ومتنفّس الخواطر. دار قد أخذت أدوات الجنان، وضحكت عن العبقرىّ الحسان. [من رسائل الميكالى وشعره] فصل لأبى الفضل الميكالى إلى بعض إخوانه: ما ابتدأت بمخاطبة سيّدى حتى سرت المسرّة فى نفسى، وقويت أركان بهجتى وأنسى، وحتى أقبلت وجوه الميامن تتهلّل إلىّ، وبدر المساعد تنثال علىّ «3» ، وكيف [لا يملكنى الجذل والفرح، وكيف] لا يهزّنى النشاط والمرح، وقد زففت ودّى إلى كفء كريم، وعرضته لحظّ من الجمال جسيم، وأرجو أن يرد منه على حسن قبول وإقبال، ويحظى من ارتياحه له ببرد

اشتمال، ويصادف من اهتزازه وإنشائه، وعمارته وإنمائه، وتحصين أطرافه من شوائب الخلل، وشوائن الوهن والميل، وما تستحكم به مرائر الوصال، وتؤمن على قواها عوادى الانتقاض والانحلال. وله: إذا لم يؤت المرء فى شكر المنعم إلا من عظم قدر الإنعام والاصطناع، واستغراقه منه قوى الاستقلال والاضطلاع، فليس عليه فى القصور عن كنه واجبه عتب، ولا يلحقه فيه نقيصة ولا عيب. ولئن ظهر عجزى عن حق هذه النعمة فإنى احيل بحسن الثناء على من لا يعجزه حمله، ولا يؤوده ثقله، ولا يزكو الشكر إلا لديه، ولا تصرف الرغبة إلا إليه، والله يبقيه لمجد يقيم أعلامه، وفضل يقضى ذمامه، وعرف يبثّ أقسامه، وولىّ يوالى إكرامه، وعدوّ يديم قمعه وإرغامه وله: ولو وفيت هذه النعمة الجسيمة حقّها لمشيت إلى حضرته- آنسها الله تعالى- حبوا [لا] «1» على القدم، ولآثرت فيه خدمة اللسان على خدمة القلم، ولما رضيت له بباعى القصير، وعبارتى الموسومة بالعجز والقصور، حتى أستعير فيه ألسنة تحمل شكرا وثناء، وتوسع نشرا «2» ودعاء، ثم لا أكون بلغت مبلغا كافيا، ولا أبليت عذرا شافيا؛ إلّا أنّ عدم الإذن ثبّطنى «3» عن مقصود الغرض، وعاقنى عن الواجب المفترض؛ فأقمت عاكفا على دعاء أرفعه إلى الله عزّ وجل مبتهلا، وأواصله مجتهدا فى ليلى ونهارى محتفلا. وله: أحقّ النعمة بالزيادة نعمة لم تزل العيون إليها مستشرفة «4» ، والقلوب إليها متشوّفة، والأيام بها واعدة، والأقدار فيها مساعدة، حتى استقرّت فى نصابها، وألقت عصىّ اغترابها، فهى للنماء والزيادة مترشحة، وبالعزّ والسعادة متوشحة، وبالأدعية الصالحة مستدامة مرتهنة، وباتّفاق الكلمة والأهواء عليها مرتبطة محصّنة.

وله فصل من كتاب تعزية بالأمير ناصر الدين: أقدار الله تعالى فى خلقه لم تزل تختلف بين مكروه ومحبوب، وتتصرّف بين موهوب ومسلوب، غادية أحكامها مرّة بالمصائب والنوائب، رائحة أقسامها تارة بالعطايا والرغائب، ولكن أحسنها فى العيون أثرا، وأطيبها فى الأسماع خبرا، وأحراها بأن تكسب القلوب عزاء وتصسبّرا، ما إذا انطوى نشر، وإذا انكسر جبر، وإذا أخذ بيد ردّ بأخرى، وإذا وهب بيمنى سلب بيسرى، كالمصيبة بفلان التى قرّحت الأكباد، وأوهنت الأعضاد «1» ، وسوّدت وجوه المكارم والمعالى، وصورت الأيام فى صور الليالى، وغادرت المجد وهو يلبس حداده، والعدل وهو يبكى عماده، والدين وهو يندب جهاده، حتى إذا كاد اليأس يغلب الرّجاء، ويردّ الظنون مظلمة النواحى والأرجاء، قيّض الله تعالى من الأمير الجليل من اجتمعت عليه الأهواء، ورضيت به الدهماء، فأسى به حادث الكلم، وسدّ بمكانه عظيم الثّلم، وردّ الآمال والنفوس قد استبدلت بالحيرة قوة وانتصارا، وصارت للدولة المباركة أعوانا وأنصارا ومن شعره فى تجنيس القوافى، فى معان مختلفة: إذا لم تكن لمقال النصيح ... سميعا ولا عاملا أنت به ينبّهك الدهر من رقدة الملاهى ... وإن قلت لا أنتبه وقال: تفرّق الناس فى أرزاقهم فرقا ... فلابس من ثراء المال أو عارى كذا المعايش فى الدنيا وساكنها ... مقسومة بين أوعاث وأوعار وقال: حوى القدّ عمرا فقلت اعتقد ... رضا بالقضاء ولا تحتقد

فإمّا احتقدت قضاء الإله ... فأقبح بمحتقد تحت قد وقال: تمّت محاسنه فما يزرى بها ... مع فضله ونمائه وكماله إلا قصور وجوده عن جوده ... لا عون للرجل الكريم كماله انصر أخاك إذا اجتداك فواسه ... وإن استغاثك واثقا بك ماله «1» وقال أيضا: إذا تغدّيت صدر يومى ... ثم تأذّيت بالغداء فقلت إذ مسّنى أذاه ... أرى غدائى أراغ دائى وله فى هذا [الصوغ] : لنا صديق يجيد لقما ... راحتنا فى أذى قفاه ما ذاق من كسبه، ولكن ... أذى قفاه أذاق فاه وقال يهجو رجلا: يريد يوسّع فى بيته ... ويأبى له الضيق فى صدره فتى سخط النّصب فى قدره ... كما رضى الخفض فى قدره يخدّر أوصال أضيافه ... ولا يبرز الخبز من خدره وقال فى غير هذا المذهب يصف كتابا ورد عليه: قد أتانا من صديق كلام ... كلآل زانهنّ نظام فسرى فى القلب منى سرور ... مطرب يعجز عنه المدام مثل ما يرتاح ربّ بنات ... حوله من جمعهن زحام

فرعى الله طويلا يرجى ... خلفا من نسله لا يذام وأتاه بعد يأس بشير ... قال يا بشراى هذا غلام وقال يصف الشمع: وليل كلون الهجر أو ظلمة الحبر ... نصبنا لراجيه عمودا من التّبر يشقّ جلابيب الدّجى فكأنما ... ترى بين أيدينا عمودا من الفجر يحاكى رواء العاشقين بلونه ... وذوب حشاه والدّموع التى تجرى خلا أن جارى الدمع ينحله قوى ... وعهدى بدمع العين ينحلّ إذ يجرى تبدّى لنا كالغصن قدّا وفوقه ... شعاع كأنّا منه فى ليلة البدر «1» تحمّل نورا حتفه فيه كامن ... وفيه حياة الانس واللهو لو يدرى إذا ما علته علّة جرّ رأسه ... فيختال فى ثوب جديد من العمر وقال: يا ربّ غصن نوره ... يزرى بنور الشفق يظلّ طول عمره ... يبكى بجفن أرق نار المحب فى الحشا ... وناره فى المفرق لاح لنا فى مغرب ... فردّنا فى مشرق وقال: وقضيب من بنات النحل ... فى قدّ الكعاب «2» يشبه العاشق فى لو ... ن ودمع ذى انسكاب كسى الباطن منه ... وهو عريان الإهاب «3»

فإذا ما أنعم الأب ... دان ملبوس الثّياب فهو للشقوة منها ... فى بلاء وعذاب وقال كشاجم يصف شمعا أهداها [إلى بعض الملوك] : [و] «1» صفر من بنات النّحل تكسى ... بواطنها وأظهرها عوارى عذارى يفتضضن من الأعالى ... إذا افتضت من السّفل العذارى وأمست تنتج الأضواء حتّى ... تلقح فى ذوائبها بنار كواكب لسن عنك بآفلات ... إذا ما أشرقت شمس العقار بعثت بها إلى ملك كريم ... شريف الأصل محمود النّجار فأهديت الضياء بها إلى من ... محاسنه تضىء لكل سارى وقال: يشقى الفتى بخلاف كلّ معاند ... يؤذيه حتّى بالقذى فى مائه يقذى إذا أصغى الإناء لشربه ... ويروغ عنه عند سكب إنائه «2» وقال: أطالب أيامى بإنجاز موعدى ... وها هى تلوى بالوفاء وتجمح أقول عساها أن تلين لمطلبى ... قليلا فبعض الشوك بالمنّ يسمح وقال: أرى وصالك لا يصفو لآمله ... والهجر يتبعه ركضا على الأثر كالقوس أقرب سهميها إذا عطفت ... عليه أبعدها من منزع الوتر أخذ هذا من قول ابن الرومى وذكر رجلا متلونا: رأيتك بينا أنت خلّ وصاحب ... إذا بك قد ولّيتنا ثانيا عطفا

[فى وصف أبى الفضل الميكالى]

وأنك إذ أحنى حنوّك موجب ... بعادا لمن بادلته الودّ واللطفا لكالقوس أحنى ما تكون إذا انحنت ... على السهم أنأى ما تكون له قذفا وله فى نحو ذلك: تودّدت حتى لم أجد متودّدا ... وأتعبت أقلامى عتابا مرددا كأنى أستدعى لك ابن حنيّة ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا [فى وصف أبى الفضل الميكالى] وذكر عمر بن على بن محمد المطوعى أبا الفضل الميكالى فى كتاب ألّفه فى منظومه ومنثوره فقال: قد أصبحت حضرته- لا زالت أرجة الأرجاء بطيب شمائله، راضية الرضا عن صوب أنامله- موسم الآمال، ومحط الرحال؛ وعبده أحرار الكلام، كما خدمته أحرار الأيام، وأطاعته المعانى والمعالى، كما أطاعه صرف الأيام والليالى، فهو- أدام الله تمكينه- شهاب المجد الذى لا يخبو واقده، وروض الكرم الذى لا يجدب رائده؛ إن أردت البلاغة فهو مالك عنانها، وفارس ميدانها، وناظم درّها ومرجانها، وصائغ لجينها وعقيانها؛ وإن أردت السماحة فهو محلّها ومكانها، وتاريخها وعنوانها، ويدها ولسانها، وحدقتها وإنسانها، وحديقتها وبستانها؛ وإن أردت شرف الأصل والنسب، والجمع بين الموروث [من المجد] والمكتسب، فناهيك بأوائله شرفا سابقا، وفضلا باسقا، ومجدا فى فلك الفخر سامقا «1» ؛ فهم الجحاجحة الغرّ، والكواكب الزّهر، ومن بهم يفتخر الفخر، ويتشرّف الدهر، زحموا مناكب الكواكب من بعد أقدارهم، وصكّوا فرق الفرقد وصدر البدر بشرف أخطارهم، فما فيهم إلا قمر فضل دار فى فلك علم، وهلال مجد لاح فى سماء فهم، توارثوا المجد كابرا عن كابر، وباقيا عن غابر، وسافرت أخبارهم فى البعد والقرب. وطارت فى أقاصى

[ابن أبى دواد بين يدى الواثق]

الشرق والغرب، وسارت مسير الشمس فى كلّ بلد، وهبّت هبوب الريح فى البر والبحر، فهم كما قال أبو عبادة البحترى فى الشاه بن ميكال وأهله فأحسن وأجاد وبلغ ما أراد: بنى أحوذى يغمر الطرف موفيا ... ببسطته والسيف وافى الحمائل «1» تضيق الدروع التّبّعيات منهم ... على كل رحب الباع سبط الأنامل عراعر قوم يسكن الثغر إن مشوا ... على أرضه والثغر جمّ الزلازل «2» فكم فيهم من منعم متطوّل ... بآلائه أو مشرف متطاول إذا سئلوا جادت سيوف أكفّهم ... [نظائر جمات التلاع السوائل خليقون سروا أن تلين أكفّهم] ... عرائك أحداث الزمان الجلائل وما زال لحظ الراغبين معلّقا ... إلى قمر فيهم رفيع المنازل وفيه، أو فى أبيه، يقول أبو سعيد أحمد بن شبيب: وإلى الأمير ابن الأمير تواهقت ... رزحى الركاب برازحى الركّاب «3» شيم أرقّ من الهواء بل الهوى ... وألذّ من ظفر بعقب ضراب وعزائم لو كنّ يوما أسهما ... لنفذن فى الأيام غير نواب «4» مائية الجريان إلا أنها ... ناريّة الإقدام والإلهاب يخطرن بين سياسة ورياسة ... ويتهن بين مثوية وعقاب [ابن أبى دواد بين يدى الواثق] قال أبو عبد الله بن حمدون النديم: لقد رأيت الملوك فى مقاصيرها، ومجامع

[من صفة ابن أبى دواد، وأخباره]

حفلها، فما رأيت أغزر أدبا من الواثق؛ خرج علينا ذات يوم وهو يقول: لقد عرض عرضة من عرضه لقول الخزاعى، يريد دعبلا: خليلىّ ماذا أرتجى من غد امرىء ... طوى الكشح عنى اليوم وهو مكين وإنّ امرأ قد ضنّ عنى بمنطق ... يسدّ؟؟؟ من خلّتى لضنين فانبرى احمد بن أبى دواد يسأله كأنما نشط من عقال فى رجل من أهل اليمامة فأطنب وأسهب، وذهب فى القول كل مذهب؛ فقال الواثق: يا أبا عبد الله لقد أكثرت فى غير كبير، ولا طيّب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه صديقى: وأهون ما يعطى الصديق صديقه ... من الهيّن الموجود أن يتكلّما فقال: وما قدر اليمامى أن يكون صديقك، وإنما أحسبه أن يكون من عرض معارفك؟. قال: يا أمير المؤمنين، إنه شهرنى بالاستشفاع إليك، وجعلنى بمرأى ومسمع من الردّ والإسعاف، فإذا لم أقم له هذا المقام أكون كما قال أمير المؤمنين آنفا: خليلىّ ماذا أرتجى من غنى امرئ ... طوى الكشح عنى اليوم وهو مكين فقال الواثق: بالله يا محمد بن عبد الملك إلّا عجّلت لأبى عبد الله حاجته، ليسلم من هجنة المطل، كما سلم من هجنة الرد. [من صفة ابن أبى دواد، وأخباره] وكان ابن أبى دواد من أحسن الناس تأتّيا، وكان يقول: ربما أردت أن أسأل أمير المؤمنين الحاجة بحضرة ابن الزيات فأؤخّر ذلك إلى وقت مغيبه؛ لئلا يتعلّم حسن التلطّف منى! وكان بينه وبين محمد بن عبد الملك عداوة عظيمة وأمر الواثق أصحابه أن ينهضوا قياما لأبى جعفر إذا دخل، ولم يرخّص فى ذلك لأحد، فاشتدّ الأمر على ابن أبى دواد، ولم يجد لخلاف الواثق سبيلا. فوكّل بعض غلمانه بمراقبة موافاته، فإذا أقبل أخبره فنهض يركع، فقال ابن الزيات:

[بين أبى العيناء وابن أبى دواد]

صلّى الضّحى لما استفاد عداوتى ... وأراه ينسك بعدها ويصوم لا تعدمنّ عداوة موسومة ... تركتك تقعد بعدها وتقوم وقال الواثق يوما لابن أبى دواد تضجّرا بكثرة حوائجه: قد أخليت بيوت الأموال بطلباتك للّائذين بك، والمتوسّلين إليك. فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متّصلة بك، وذخائرها موصولة لك، ومالى من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلود المدح، فقال: والله لا منعناك ما يزيد فى عشقك، ويقوّى فى همتك فينا ولنا؛ وأمر فأخرج له خمسة وثلاثون ألف درهم. [بين أبى العيناء وابن أبى دواد] قال أبو العيناء: [قلت] لابن أبى دواد: إنّ قوما من أهل البصرة قدموا إلى سرّ من رأى يدا علىّ، فقال: يد الله فوق أيديهم. فقلت: إنّ لهم مكرا، فقال: ولا يحيق المكر السّيىّ إلّا بأهله، فقلت: إنّهم كثير. قال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، فقلت: لله درّ القاضى فهو كما قالت الصّموت الكلابية: لله درك أى جنّة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان متخمّط يطأ الرجال شهامة ... وطء الفنيق مدارج القردان «1» ويكبّهم حتى تظلّ رءوسهم ... مأمومة تنحطّ للغربان ويفرج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان وكانت هذه المجاوبة بين أبى العيناء وبين أبى العلاء المنقرى، وكان قد استجاش عليه قوما من أهل البصرة.

قطعة من شعر الأعراب فى الغزل

قطعة من شعر الأعراب فى الغزل ابن ميادة: ألا ليت شعرى هل يحلّنّ أهلنا ... وأهلك روضات ببطن الّلوى خضرا وهل تأتينّ الريح تدرج موهنا ... بريّاك تعرورى بنا بلدا قفرا بريح خزامى الرمل بات معانقا ... فروع الأقاحى تنضب الطلّ والقطرا ألا ليتنى ألقاك يا أمّ جحدر ... قريبا، فأمّا الصبر عنك فلا صبرا وقال: وما روضة بات الربيع يجودها ... على ما بها من حنوة وعرار «1» بأطيب من ريح القرنفل موهنا ... بما التفّ من درع لها وخمار وقال آخر: تجالسنا بنت الدّلال تعلّقت ... عراه بحبّات القلوب الهوائم وبيّن ما تخفى من الوجد ردّها ... غريق الأناسى فى الدّموع السّواجم جرى الدمع مجرى مائه فكففنه ... بعنّاب أطراف الأكفّ النواعم وردّ التحيات الهوى من عيونها ... بيقظان طرف فى مخيلة نائم وقال العلاء بن موسى الجهنى: ولما رأتنى مخطرا شوكة العدى ... ردى النفس مجتابا إلى غير موعد جلت داجى الظلماء منها بسنّة ... ونحر مشوب لونه بالزبرجد «2»

[زيارة طيف الخيال]

وبالشّذر مسبوكا كأن التهابه ... تلهّب جمر الفرقد المتوقد «1» وجاءت كسلّ السيف لو مرّ مشيها ... على البيض أمسى سالما لم يخضّد فبتنا ولم نكذبك لو أنّ ليلنا ... إلى الحول لم نملل وقلنا له ازدد نذود النفوس الصاديات عن الهوى ... ذيادا ونسقيهنّ سقى المصرّد فلما بدا ضوء الصباح وراعنا ... مع الصبح صوت الهاتف المتشهّد «2» نهضنا بشخص واحد فى عيونهم ... نطا فى حواشى الأتحمىّ المعضّد «3» إلى جنّة منهم وسلّمت غاديا ... عليها سلام الباكر المتزوّد وولّت وأغباش الدّجى مرجحنّة ... تأطّر غصن البانة المتأود وقال أعرابى من طيىء: وأحور يصطاد القلوب وما له ... من الريش إلّا زعفران وإثمد وما كنت أخشى الفتك ممّن سلاحه ... سوار وخلخال وطوق منضّد وأشنب برّاق الثنايا غروبه ... من البرد الوسمىّ أصفى وأبرد خليلىّ بالله أقعدا فتبيّنا ... وميضا نرى الظلماء منه تقدّد يكشف اعراض السحاب كأنه ... صفيحة هندىّ تسلّ وتغمد فبتّ على الأجبال ليلا أشيمه ... أقوم له حتى الصباح وأقعد هذا فى البرق كقول الطرماح فى النور: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد [زيارة طيف الخيال] وقال بشار: أعددت لى عتبا بحبّكم ... يا عبد طال بحبّكم عتبى

ولقد تعرض لى خيالكم ... فى القرط والخلخال والقلب فشربت غير مباشر حرجا ... برضاب أشنب بارد عذب وقال المتنبى: بتنا يناولنا المدام بكفّه ... من ليس يخطر أن نراه بباله نجنى الكواكب من قلائد جيده ... وننال عين الشمس من خلخاله وأول شعر أبى الطيب: لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادّكار وداعه وزياله إن المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله إنى لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله يقول: التمثيل والتخيل له فى اليقظة أعاد خياله فى المنام، فكأن الخيال الذى فى النوم تصوّر فى اليقظة. وأظهر من هذا قول الطائى: زار الخيال لها لا بل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم ظبى تقنّصته لما نصبت له ... فى آخر الليل أشراكا من الحلم أما بيته الأول فمن قول جميل: حييث طيفك من طيف ألمّ به ... حدّثت نفسك عنه وهو مشغول وقال ذو الرمة: نأت دارمىّ أن تزار، وزورها ... إذا ما دجا الإظلام منا وساوس «1» إذا نحن عرّسنا بأرض سرى لنا ... هوى لبّسته بالقلوب اللوابس «2» وبيته الثانى ألمّ فيه بقول قيس بن الملوّح:

وإنى لأستغشى وما بى نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا وأخرج من بين الجلوس لعلّنى ... أحدّث عنك النفس فى السرّ خاليا تقطّع أنفاسى لذكرك أنفسا ... يردن فما يرجعن إلا صواديا وقد قال فيه قيس بن ذريح: وإنى لأهوى النوم فى غير نعسة ... لعلّ لقاء فى المنام يكون تخبّرنى الأحلام أنى أراكم ... فياليت أحلام المنام يقين وكان البحترى أكثر الناس إبداعا فى الخيال، حتى صار لاشتهاره مثلا يقال له «خيال البحترى» ، وفى بعض ذلك يقول: ألمّت بنا بعد الهدوّ، فسامحت ... بوصل متى تطلبه فى الجدّ تمنع فما برحت حتى مضى الليل وانقضى ... وأعجلها داعى الصباح الملمّع فولّت كأنّ البين يخلج شخصها ... أوان تولّت من حشاى وأضلعى «1» وقال: سقى الغيث أجزاعا عهدت بجوّها ... غزالا تراعيه الجاذر أغيدا إذا ما الكرى أهدى إلىّ خياله ... شفى قربه التبريح أو نقع الصدى «2» فلم نر مثلينا ولا مثل شأننا ... نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا وقال: بلى وخيال من أثيلة كلما ... تأوّهت من وجدى تعرّض يطمع يرى مقلتى ما لا ترى من لقائه ... وتسمع أذنى رجع ما ليس تسمع [ويكفيك من حق تخيّل باطل ... تردّ به نفس اللهيف فترجع] قوله فى البيت الأخير من قول الحسين بن الضحاك:

وماذا يفيدك طيف الخيا ... ل والهجر حظّك ممن تحب غناء قليل، ولكننى ... تملّيته بقنوع المحب وللحسين فى هذا المعنى وإن لم يكن فى ذكر الخيال: وصف البدر حسن وجهك حتّى ... خلت أنى، وما أراك، أراكا وإذا ما تنفّس النرجس الغضّن ... توهّمته نسيم جناكا خدع للمنى تعلّلنى فيك ... بإشراق ذا ونكهة ذاكا «1» وأول من طرد الخيال طرفة بن العبد، فقال: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإنى واصل حبل من وصل فتبعه جرير فى قوله فقال: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعى بسلام قال البحترى، ونفى هذا المعنى بقوله: قد كان منى الوجد غبّ تذكّر ... إذ كان منك الصدّ غبّ تناسى تجرى دموعى حين دمعك جامد ... ويلين قلبى حين قلبك قاسى ما قلت للطيف المسلم لا تعد ... تغشى، ولا نهنهت حامل كاسى وقال ابن هانى الأندلسى: ألا طرقتنا والنجوم ركود ... وفى الحىّ أيقاظ ونحن هجود «2» وقد أعجل الفجر الملمّع خطوها ... وفى أخريات الليل منه عمود سرت عاطلا غضبى على الدرّ وحده ... فلم يدر نحر مادهاه وحيد «3» فما برحت إلا ومن سلك أدمعى ... قلائد فى لبّاتها وعقود ألم يأتها أنّا كبرنا عن الصّبا ... وأنا بلينا والزمان جديد

وقال علىّ بن محمد الإيادى: أما إنه لولا الخيال المراجع ... وعاص يرى فى النوم وهو مطاوع لأشفق واستحيا من النوم واله ... يرى بعد روعات الهوى وهو هاجع وقال أيضا: طيف يزورك من حبيب هاجر ... أهلا به وبطيفه من زائر شقّ الدجى وسرى فأمعن فى السّرى ... حتى ألمّ فبات بين محاجرى يحدو به هيف القوام المنثنى ... نحوى وسالفة الغزال النافر لله درّك من خيال واصل ... أسرى فأنصف من حبيب هاجر علّلت علة قلب صبّ هائم ... وقضيت ذمّة فيض دمع قاطر وقال عبد الكريم بن إبراهيم لم أدر مغناك لولا المسك والقطر ... وزورة لملمّ عهده عفر «1» سرى يعارض أنفاس الرياح بما ... تحمّر الورد منه وانتشى الزّهر يخفى بثوب الدّجى مسراه مستترا ... ومن تقنّع صبحا كيف يستتر كأنّ أعين واشيه تراقبه ... فيه فيدمج أخبارى فيختصر وقال أهلا به من زائر معتاد ... والليل يرفل فى ثياب حداد «2» يتجاوز الرايات يخفق ظلها ... ويشقّ ملتفّ القنا المنآد أنّى اهتدى فى ظل أخضر مغدف ... حتى تيمّم بالعراء وسادى بأرقّ من كبد المتيّم مقدما ... فى حيث ينبو الحارث بن عباد «3» معتادة أمنت نمائم حليها ... والحلى نمّام على العوّاد

[عقال بن شبة بين يدى المنصور]

وكأنما ياقوتها فى نحرها ... متوّقد مما يجنّ فؤادى [عقال بن شبة بين يدى المنصور] خطب صالح بن أبى جعفر المنصور فى بعض الأمر فأحسن، فأراد المنصور أن يقرظه ويثنى عليه، فلم يجسر أحد على ذلك لمكان المهدى، وكان مرشحا للخلافة، وخافوا ألا يقع الثناء على أخيه بموافقته، فقام عقال بن شبّة، فقال: ما رأيت أبين بيانا، ولا أفصح لسانا، ولا أحسن طريقا، ولا أغمض «1» عروقا، من خطيب قام بحضرتك يا أمير المؤمنين، وحقّ لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدى أخاه، أن يكون كما قال زهير: يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... بزّا الملوك وبزّا هذه السّوقا «2» هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فبالذى قدّما من صالح سبقا فعجب الناس من حسن تخلصه، فقال أبو جعفر: لا ينصرف التميمى إلا بثلاثين ألفا. قال أبو عبد الله كاتب المهدى: ما رأيت مثل عقال قط فى بلاغته؛ [مدح الغلام، و] أرضى المنصور، وسلم من المهدى. [زهير وهرم بن سنان] وفى قصيدة زهير هذه يمدح هرم بن سنان بن أبى حارثة المرى: قد جعل المبتغون الخير فى هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا من يلق يوما على علّاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا

وليس مانع ذى قربى وذى رحم ... يوما ولا معدما من خابط ورقا «1» ليث بعثّر يصطاد الرجال، إذا ... ما الليث كذّب عن أقرانه صدقا «2» يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا هذا وليس كمن بعيا بحجّته ... وسط الندىّ إذا ما ناطق نطقا لو نال حىّ من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفّه الأفقا وكان زهير كثير المدح لهرم، ويروى أن بنتا لسنان بن أبى حارثة رأت بنتا لزهير بن أبى سلمى فى بعض المحافل، وإذا لها شارة وحال حسنة، فقالت: قد سرنى ما أرى من هذه الشارة والنعمة عليك [فقالت: إنها منكم] . فقالت: بلى والله لك الفضل، أعطيناكم ما يفنى، وأعطيتمونا ما يبقى! وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لابنة هرم بن سنان: ما وهب أبوك لزهير؟ قالت: أعطيناه مالا وأثاثا أفناه الدهر. قال: لكن ما أعطاكموه لا تفنيه الدهور. وقد صدق عمر رضى الله عنه، لقد أبقى زهير لهم ما لا تفنيه الدهور، ولا تخلقه العصور، ولا يزال به ذكر الممدوح ساميا، وشرفه باقيا، فقد صار ذكرهم علما منصوبا، ومثلا مصروبا، قال الطائى، وذكرهم فى شعره: مالى ومالك شبه حين أذكره ... إلا زهير وقد أصغى له هرم وقال يوسف الجوهرى يمدح الحسن بن سهل: لو أنّ عينى زهير أبصرت حسنا ... وكيف يصنع في أمواله الكرم إذن لقال زهير حين يبصره ... هذا الجواد على العلات لا هرم

[فضل الشعر]

وقال آخر، ويدخل فى باب تفضيل الشعر: الشعر يحفظ ما أودى الزمان به ... والشعر أفضل ما يجنى من الكرم لولا مقال زهير فى قصائده ... ما كان يعرف جود كان من هرم وقيل: أعطى هرم [العطاء الجزيل] عوض قول زهير فيه: تالله قد علمت سراة بنى ... ذبيان عام الحبس والأصر أن نعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ فى الذّعر «1» حامى الذّمار على محافظة الجلّى ... أمين مغيّب الصدر «2» حدب على المولى الضّريك إذا ... ضاقت عليه نوائب الدّهر «3» ومرهّق النيران يحمد فى اللأواء ... غير ملعّن القدر «4» والستر دون الفاحشات، وما ... يلقاك دون الخير من ستر وقال: إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكنّ الجواد على علّاته هرم هو الكريم الذى يعطيك نائله ... عفوا، ويظلم أحيانا فيظّلم وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالى ولا حرم الخليل: الذى أخلّ به الفقر؛ إلى غير ذلك من مختار مدحه فيه. [فضل الشعر] ولما امتدح نصيب عبد الله بن جعفر رضى الله عنه أمر له بإبل وخيل، وثياب ودنانير ودراهم، قال له رجل: أتعطى لمثل هذا العبد الأسود هذا العطاء؟ فقال: إن كان أسود فإن شعره أبيض، وإن كان عبدا فإن ثناءه لحرّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما أعطى وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى، وما لا يفنى، ومطايا تنضى، وأعطانا مديحا يروى، وثناء يبقى.

وقال الأخطل يعتدّ على بنى أمية بمدحه لهم: أبنى أمية إن أخذت نوالكم ... فلما أخذتم من مديحى أكثر أبنى أمية لى مدائح فيكم ... تنسون إن طال الزمان وتذكر ولما مدح أبو تمام الطائى محمد بن حسان الضبى بقصيدته التى أولها: أسقى طلولهم أجشّ هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم «1» وصله بمال كثير، وخلع عليه خلعة نفيسة، فقال يصفها: قد كسانا من كسوة الصيف خرق ... مكتس من مكارم ومساع «2» حلّة سا بريّة وكساء ... كسحا القيض أو رداء الشجاع «3» كالسراب الرقراق فى الحسن، إلّا ... أنه ليس مثله فى الخداع قصبيّا تسترجف الريح متني ... هـ بأمر من الهبوب مطاع رجفانا كأنه الدهر منه ... كبد الصبّ أو حشى المرتاع» لازما ما يليه تحسبه جز ... ءامن المتنين والأضلاع كسوة من أغرّ أروع رحب الصّدر ... رحب الفؤاد رحب الذّراع سوف أكسوك ما يعفّى عليها ... من ثناء كالبرد برد الصّناع حسن هاتيك فى العيون، وهذا ... حسنه فى القلوب والأسماع فقال: لعنة الله علىّ إن بقى عندى ثوب أو يصل إلى أبى تمام؛ وأمر بحمل ما فى خزائنه إليه. قال إبراهيم بن العبّاس الصولى لأبى تمام: [أمراء] الكلام يا أبا تمام رعيّة لإحسانك، قال: [ذاك] لأنى أستضىء بنورك، وأرد شريعتك.

[استنجاز أعرابى موعدة]

وكان الطائى مع جودة شعره بليغ الخطاب، حاضر الجواب، وكان يقال: ثنتان قلّما يجتمعان: اللسان البليغ، والشعر الجيد. وقال الحسن بن جنادة الوشّاء: انصرف أبو تمام من عند بعض أصحاب السلطان، فوقف علىّ، فقلت: من أين؟ فقال: كنت عند بعض الملوك فأكلنا طعاما طيّبا، وفاكهة فاضلة، وبخرّنا وغلّفنا؛ فخرجت هاربا من المجلس، نافرا إلى التسلى، وما فى منزلى نبيذ [فإن كان عندك منه شىء فامنحنى، فقلت: ما عندى نبيذ] ، ولكن عندى خمر أريده لبعض الأدوية، فقال: دع اسمه، وأعطنا جسمه، فليس يثنينا عن المدام، ما هجّنته «1» به من اسم الحرام.. [استنجاز أعرابى موعدة] قال عبيد الله بن محمد بن صدقة: كنّا عند أبى عبيد الله «2» ، فدخل عليه أعرابى قد كان له عليه وعد، فقال له: أيها الشيخ السيد، إنى والله أتسحّب على كرمك، وأستوطىء فراش مجدك، وأستعين على نعمك بقدرك؛ وقد مضى لى موعدان، فاجعل النّجح ثالثا، أقد لك الشّكر فى العرب شادخ الغرّة، بادى الأوضاح. فقال أبو عبيد الله: ما وعدتك تغريرا، ولا أخّرتك تقصيرا، ولكن الأشغال تقطعنى، وتأخذ بأوفر الحظّ منى، وأنا أبلغ لك جهد الكفاية، ومنتهى الوسع بأوفر مأمول، وأحمد عاقبة، وأقرب أمد، إن شاء الله تعالى فقال الأعرابى: يا جلساء الصّدق، قد أحصرنى التطول، فهل من معين منجد ومساعد منشد؟ فقال بعض أحداث الكتاب لأبى عبيد الله: والله- أصلحك الله- لقد قصدك، وما قصدك حتى أمّلك، وما أمّلك إلا بعد أن أجال النظر، فأمن الخطر، وأيقن بالظّفر، فحقق له أمله بتهيئة القليل، وتهنئة التعجيل. قال الشاعر: إذا ما اجتلاه المجد عن وعد آمل ... تبلّج عن بشر ليستكمل البشرا ولم يثنه مطل العداة عن التى ... تصون له الحمد الموفّر والأجرا

[معاوية بن يسار]

فأحضر أبو عبيد الله «1» للأعرابى عشرة آلاف درهم، وقال الأعرابى للفتى: خذها فأنت سببها. فقال: شكرك أحبّ إلىّ منها، فقال له أبو عبيد الله: خذها فقد أمرنا له بمثلها. فقال الأعرابى: الأن كملت النعمة، وتمّت المنة. [معاوية بن يسار] وكان أبو عبيد الله واسع الذّرع، سابغ الدرع فى الكرم والبلاغة، واسمه معاوية بن يسار «2» . وكان يقول: إن نحوة الشرف تناسب بطر الغنى، والصبر على حقوق الثّروة أشدّ من الصّبر على ألم الحاجة، وذلّ الفقر يسعى على عزّ الصبر، وجور الولاية مانع من عدل الإنصاف، إلا من ناسب بعد الهمة، وكان لسلطان عزمه قوة على شهوته. وكان يقول: لا يكسر رأس صناعة إلا فى أخسّ رتّان، وأرذل سلطان، ولا يعيب العلم إلا من انسلخ عنه، وخرج منه. وكان يقول: حسن البشر علم من أعلام [النجاج] ورائد من [روّاد الفلاح] ، وما أحسن ما قال زهير: تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنك تعطيه الذى أنت سائله وقال له المهدىّ بعد أن قتل ابنه على الزندقة: لا يمنعك ما سبق [به] القضاء فى ولدك، من [ثلج صدرك] وتقديم نصحك؛ فإنى لا أعرض لك رأيا على تهمة، ولا أؤخر لك قدما عن رتبة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما كان [ولدى حسنة] من نبت إحسانك أرضه، ومن تفقّدك سماؤه، وأنا طاعة أمرك، وعبد نهيك، وبقية رأيك لى أحسن الخلف عندى. وكان يقول: العالم يمشى البراز آمنا، والجاهل يهبط الغيطان كامنا، ولله درّ زهير حيث يقول: الستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر وقال أبو عبيد الله: ذاكرنى المنصور فى أمر الحسين «3» بن قحطة، فقال: كان

أوثق الناس عندى، وأقربهم من قلبى، فلما لقى أبا حنيفة انتكث، فقلت: إن فسدت نيته فسيضعه الباطل كما رفعه الحقّ، وتشهد مخايله عليه كما شهدت له، فتعدل فى أمره من شكّ إلى يقين. ثم قال لى: اكتم علىّ ما ألقيت عليك. قال عمران بن شهاب: استعنت على أبى عبيد الله فى أمر ببعض إخوانه وكان قد تقدّم سؤالى إيّاه فيه، فقال لى: لولا أن حقّك لا يجحد ولا يضاع، لحجبت عنك حسن نظرى؛ أظننتنى أجهل الإحسان حتى أعلّمه، ولا أعرف موضع المعروف حتى أعرّفه؟ لو كان ينال ما عندى إلا بغيرى لكنت مثل البعير الذّلول؛ يحمل عليه الحمل الثقيل، إن قيد انقاد، وإن أنيخ برك، ما يملك من نفسه شيئا، فقلت: معرفتك بموضع الصنائع أثبت معرفة، ولم أجعل فلانا شفيعا إنما جعلته مذكّرا. قال: وأى إذكار أبلغ عندى فى رعى حقّك من مسيرك إليه وتسليمك عليه «1» ، إنه متى لم يتصفّح المأمول أسماء مؤمّليه غدوة ورواحا لم يكن للأمل محلّا، وجرى عليه المقدار لمؤمّليه على يديه بما قدر، وهو غير محمود على ذلك ولا مشكور، ومالى إمام بعدوردى من القرآن إلا أسماء رجال أهل التأميل، حتى أعرضهم على قلبى، فلا تستعن على شريف إلا بشرفه؛ فإنّه يرى ذلك عيبا لعرفه؛ وأنشد: وذاك امرؤ إن تأته فى عظيمة ... إلى بابه لا تأته بشفيع ومن توقيعاته: الحق يعقب فلجا أو ظفرا، والباطل يورث كذبا وندما. وكتب إليه رجل: والنفس مولعة بحبّ العاجل. فكتب إليه: لكن العقل الذى جعله الله للشهوة زماما وللهوى. رباطا موكّل بحبّ الآجل، ومستصغر لكل كثير رائل. قال مصعب بن عبد الله الزبيرى: وفد زياد الحارثى على المهدى وهو بالرّىّ ولىّ عهد، فأقام سنتين لا يصل إليه شىء من برّه، وهو ملازم كاتبه أبا عبيد الله، فلما طال أمره دخل إلى كاتبه فأنشده:

ألفاظ لأهل العصر، فى ذكر الاستطالة والكبر

ما بعد حولين مرّا من مطالبة ... ولا مقام لذى دين وذى حسب لئن رحلت ولم أظفر بفائدة ... من الأمير لقد أعذرت فى الطّلب فوقع أبو عبيد الله: يصنع الله لك! فكتب إليه: ما أردت الدعاء منك لأنى ... قد تيقّنت أنه لا يجاب أيجاب الدعاء من مستطيل ... جلّ تسبيحه الخنا والسّباب ألفاظ لأهل العصر، فى ذكر الاستطالة والكبر مع ما يشاكل ذلك من معانيها، ويطرق نواحيها من المساوى والمقابح فلان لسانه مقراض للأعراض، لا يأكل خبزه إلا بلحوم الناس. هو غرض يرشق بسهام الغيبة، وعلم يقصد بالوقيعة، قد تناولته الألسن العاذلة، وتناقلت حديثه الأندية الحافلة. قد لزمه عار لا يمحى رسمه، ولزمه شنار لا يزول وسمه، فأصبح [نقل كلّ لسان، وضحكة كل إنسان «1» ، وصار دولة الألسن، ومثلة الأعين. وقد عرّض عرضه] غرضا لسهام الغائبين، وألسنة القاذفين، وقلّد نفسه عظيم العار والشّنار، والسّبّة الخالدة على الليل والنهار. قد أسكرته خمرة الكبر، واستغرقته عرّة التّيه، كأن كسرى حامل غاشيته، وقارون وكيل نفقته، وبلقيس إحدى داياته، وكأنّ يوسف لم ينظر إلا بطلعته، [وداود لم ينطق إلّا بنغمته] ، ولقمان لم يتكلم إلا بحكمته، والشمس لم تطلع إلا من جبينه، والغمام لم يند إلا من يمينه، وكأنه امتطى السّماكين، وانتعل الفرقدين، وتناول النّيّرين بيدين، وملك الخافقين، واستعبد الثقلين، وكأن الخضراء له عرشت، والغبراء باسمه فرشت.

فلان له من الطاوس رجله، ومن الورد شوكه، ومن الماء زبده، ومن النار دخانها، ومن الخمر خمارها، قد هبّت سمائم نمائمه، ودبّت مكايد عقاربه، والنمام يضرب بسيف كليل إلا أنه يقطع، ويضرب بعضد واهن إلا أنه يوجع. هو تمثال الجبن، وصورة الخوف، ومقرّ الرعب؛ فلو سمّيت له الشجاعة لخاف لفظها قبل معناها، وذكرها قبل فحواها، وفزع من اسمها دون مسماها، فهو يهلك من تخوفه أضغاث أحلام، فكيف بمسموع الكلام؟ إذا ذكرت السيوف لمس رأسه هل ذهب، ومسّ جبينه هل ثقب؟ كأنه أسلم فى كتّاب الجبن صبيّا، ولقّن كتاب الفشل أعجميا. وعده برق خلّب، وروغان ثعلب. غيم وعده جهام، وحدّ سيفه كهام. حصلت منه على مواعيد عرقوبية «1» ، وأحزان يعقوبية «2» ، قد حرمنى ثمر الوعد، وجرّنى على شوك المطل. فتى له وعد أخذ «3» من البرق الخلّب خلقا، وقد تناول من العارض الجهام طبعا، وتركنى أرعى رياض رجاء لا ينبت، وأجنى ثمار أمل لا يورق؛ فأنا فى ضمان الانتظار، وإسار عدة ضمار «4» . هو يرسل برقه، ولا يسيل ودقه، ويقدم رعده، فلا يمطر بعده. وعده الرقم على بساط الهواء، والخطّ فى بسيط الماء. حلّ هذا من قول أبى الفضل بن العميد: لا أستفيق من الغرام، ولا أرى ... خلوا من الأشجان والبرحاء وصروف أيام أقمن قيامتى ... بنوى الخليط وفرقة القرناء وجفاء خلّ كنت أحسب أنّه ... عونى على السراء والضرّاء ثبت العزيمة فى العقوق، وودّه ... متنقل كتنقّل الأحياء ذى خلة يأتيك أثبت عهده ... كالخطّ يرسم فى بسيط الماء

أردت هذا البيت. هو صخرة خلقاء «1» ، لا يستجيب للمرتقى، وحيّة صمّاء لا تسمع للرّقى، كأنى أستنفر بالجوّ رعدا، وأهزّ منه بالدعاء طودا، هو ثابت العطف [نابى العطف] ، عاجز القوة، قاصر المنّة، يتعلّق بأذناب المعاذير، ويحيل على ذنوب المقادير. هو كالنعامة تكون جملا إذا قيل لها طيرى، وطائرا إذا قيل لها سيرى. يفاض له بذل، ولا يفوّض إليه شغل، ويملأ له وطب، ولا يدفع به خطب، قد وفر همّه على مطعم يجوّده، وملبس يجوّده، ومرقد يمهّده، وبنيان يشيّده، هذا كقول الخطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى قلب نغل، وصدر دغل، وطويّة معلولة، وعقيدة مدخولة، صفوه رنق «2» ، وبرّه ملق، قد ملىء قلبه رينا، وشحن صدره مينا «3» ، يدّعى الفضل وهو فيه دعىّ، دأبه بثّ الخدائع، والنّفث فى عقد المكايد، ضميره خبث، ويمينه حنث، وعهده نكث. هو سحابة صيف، وطارق ضيف، قوته غنيمة، والظفر به هزيمة. هو العود المركوب، والوتر المضروب، يطؤه الخفّ والحافر، ويستضيمه الوارد والصادر. [يغمض عن الذكر] ، ويصغر عن الفكر. ذاته لا يوسم أغفالها، وصفته لا تنفرج أقفالها. هو أقلّ من تبنة فى لبنة، ومن قلامة فى قمامة. وهو بيذق الشّطرنج فى القيمة والقامة، جهله كثيف، وعقله سخيف، لا يستتر من العقل بسجف، ولا يشتمل إلّا على سخف. يمدّ يد الجنون فيعرك بها أذن الحزم، ويفتح جراب السخف فيصفع به قفا العقل. لا تزال الأخبار تورد سفائح جهله وخرقه، والأنباء تنقل نتائج سخفه وحمقه، قد ظلّ يتعثّر فى فضول جهله، ويتساقط فى ذيول عقله. هو سمين المال مهزول النّوال. ثروة فى الثريا وهمّة فى الثّرى.

وجهه كهول المطلع، وزوال النّعمة، وقضاء السّوء، وموت الفجاءة. هو قذى العين، وشجى الصّدر، وأذى القلب، وحمّى الروح، وجهه كآخر الصك، وظلم الشكّ، كأنّ النحس يطلع من جبينه، والخلّ يقطر من وجنته. وجهه طلعة الهجر، ولفظه قطع الصّخر. وجهه كحضور الغريم، ووصول الرقيب، وكتاب العزل، وفراق الحبيب. له من الدينار نضرته، ومن الورد صفرته، ومن السحاب ظلمته، ومن الأسد نكهته «1» . هو عصارة لؤم فى قرارة خبث. ألأم مهجة فى أسقط جثّة. حديث النّعمة، خبيث الطعمة، خبيث المركب، لئيم المنتسب، يكاد من لؤمه يعدى من جلس إلى جنبه، أو تسمّى باسمه. قد أرضع بلبان اللّؤم، وربّى فى حجر الشؤم، وفطم عن ثدى الخير، ونشأ فى عرصة الخبث، وطلّق الكرم ثلاثا لم ينطق فيه استثناء، وأعتق المجد بتاتا لم يستوجب عليه ولاء. هو حماز مبطّن بثور مفروز بتيس، مطرّز بطرر، [أتى من اللؤم بنادر] ، لم تهتد له قصة مادر «2» . هو قصير الشبر، صغير القدر، قاصر القدر، ضيّق الصّدر، ردّ إلى قيمة مثله فى خبث أصله، وفرط جهله، لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه، سائله محروم، وماله مكتوم؛ لا يحين إنفاقه، ولا يحلّ خناقه. خيره كالعنقاء تسمع بها ولا ترى. خبزه فى حالق، وإدامه فى شاهق. غناه فقر، ومطبخه قفر، يملأ بطنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع، قد أطاع سلطان البخل وانخرط كيف شاء فى سلكه. هو ممن لا يبضّ حجره، ولا يثمر شجره، سكّيت الحلبة «3» ، وساقة الكتيبة، وآخر الجريدة. لعنة العائب، وعرضة الشاهد والغائب. هو عيبة العيوب، وذنوب الذّنوب. وقال أبو الفضل الميكالى:

وطلعة بقبحها قد شهرت ... تحكى زوال نعمة ما شكرت كأنّها عن لحمها قد قشرت ... أقبح بها صحيفة قد نشرت عنوانها إذا الوحوش حشرت ... يلعنها ما قدّمت وأخّرت صاحبها ذو عورة لو سترت ... إن سار يوما فالجبال سيّرت أو رام أكلا فالجحيم سعّرت ويختص بهذه الأنواع رسالة بديع الزمان إلى القاضى على بن أحمد يشكو أبا بكر الحيرى القاضى ويذمّه- وقد أطلت عنان الاختيار فيها لصحّة مبانيها، وارتباط ألفاظها بمعانيها: الظّلامة- أطال الله بقاء القاضى- إذا أتت من مجلس القضاء، لم ترق إلّا إلى سيّد القضاة. وما كنت لأقصر سيادته على الحكام، دون سائر الأنام، لولا اتصالهم بسببه، واتّسامهم بلقبه، وهبهم مطفّلين على قسمه، مغيرين على اسمه، ألهم فى الصحة أديم كأديمه «1» ، أو قديم فى الشرف كقديمه، أو حديث فى الكرم كطريفه؛ فهنيئا لهم الأسماء، وله المعانى، ولا زالت لهم الظواهر، وله الجواهر. ولا غرو أن يسمّوا قضاة، فما كلّ مائع ماء، ولا كلّ سقف سماء، ولا كلّ سيرة عدل العمرين «2» ، ولا كلّ قاض قاضى الحرمين، ويالثارات القضاء! ما أرخص ما بيع، وأسرع ما أضيع! والسنة الإنذار، قبل خلو الديار، وموت الخيار، ألا يغار لحلى الحسناء، على السوداء، ومركب أولى السياسة، تحت السّاسة، ومجلس الأنبياء، من تصدّر الأغبياء، وحمى البزاة من صيد البغاث، ومرتع الذكور «3» من تسلّط الإناث؟ ويا للرجال، وأين الرجال! ولى القضاء من لا يملك من آلاته غير السّبال «4» ، ولا يعرف من أدواته غير الاعتزال، ولا يتوجّه

فى أحكامه إلا إلى الاستحلال، [ولا يرى التفرقة إلا فى العيال] ولا يحسن من الفقه غير جمع المال، [ولا يتقن من الفرائض إلا قلة الاحتفال، وكثرة الافتعال] ولا يدرس من أبواب الجدال إلا قبيح الفعال، وزور المقال، ذاك أبو بكر القاضى، أضاعه الله كما أضاع أمانته، وخان خزانته، ولاحاطه من قاض فى صولة جندى، وسبلة كردى ... إلى أن قال: أيكفى أن يصبح المرء بين الزقّ والعود، ويمسى بين موجبات الحدود، حتى يكمل شبابه، وتشيب أترأبه. ثم يلبس دنيّته «1» ، ليخلع دينيّته، ويسوى طيلسانه، ليحرف يده ولسانه، ويقصر سباله، ليطيل حباله، ويظهر شقاشقه، لبستر مخارقه، وببيّض لحيته، ليسوّد صحيفته، ويبدى ورعه، ليخفى طمعه، ويغشى محرابه، ليملأ جرابه، ويكثر دعاءه، ليحشو وعاءه، ثم يخدم بالنهار أمعاءه، ويعالج بالليل وجعاءه، ويرجو أن يخرج من بين هذه الأحوال عالما، ويقعد حاكما؟ هذا إذا المجد كالوه بقفزان «2» وباعوه فى سوق الخسران! هيهات حتى ينسى الشهوات، ويجوب الفلوات، ويعتضد المحابر، ويحتضن الدفاتر، وينتج الخواطر، ويحالف الأسفار، ويعتاد القفار، ويصل الليلة باليوم، ويعتاض السهر من النوم، ويحمل على الروح، ويجنى على العين، وينفق من العيش، ويخزن فى القلب، ولا يستريح من النظر إلا إلى التحديق، ولا من التحقيق إلا إلى التعليق؛ وحامل هذه الكلف إن أخطأه رائد التوفيق، فقد ضلّ سواء الطريق، وهذا الحيرىّ رجل قد شغله طلب الرياسة عن تحصيل آلاتها، وأعجله حصول الأمنية عن تمحل أدواتها «3» : والكلب أحسن حالة ... وهو النهاية فى الخساسه ممن تصدّى للريا ... سة قبل إبّان الرياسه

فولّى المظالم وهو لا يعرف أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يدرى مقدارها؛ والأمانة عند الفاسق خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، ويحملها الجهّال، وقعد مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حديثه يروى، وكتاب الله يتلى، وبين البينة والدعوى، فقبّحه الله تعالى من حاكم لا شاهد عنده أعدل من السّلّة والجام «1» ، يدلى بهما إلى الحكّام، ولا مزكى أصدق لديه من الصّفر «2» ، ترقص على الظفر، ولا وثيقة أحبّ إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا كفيل أوقع بوفاقه من خبيئة الذّيل، وحمال الليل، ولا وكيل أعز عليه من المنديل والطبق، فى وقت الغسق والفلق، ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظلم، فما يغنيه موقف الحكم إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء إلا بالنار من الرمضاء. وأقسم لو أن اليتيم وقف بين أنياب الأسود، بل الحيات السّود، لكانت سلامته منهما أرجى من سلامته إذا وقع من هذا القاضى بين عقاربه وأقاربه؛ وما ظنّ القاضى بقوم يحملون الأمانة على متونهم، ويأكلون النار فى بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم «3» من مال اليتامى، وثسمن أكفالهم من مال الأيامى، وما رأيه فى دار عمارتها خراب الدور، وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت، وما قوله فى رجل يعادى الله فى الفلس، ويبيع الدّين بالثمن البخس، وفى حاكم يبرز فى ظاهر أهل السّمت، وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السّحت. وما قوله فى سوس لا يقع إلا على صوف الأيتام؛ وجراد لا يقع إلا على الزرع الحرام، ولصّ لا ينقب إلا خزانة الأوقاف، وكردى لا يغير إلا على الضعاف، وليث لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود، وخارب «4» لا ينهب مال الله إلا بين العهود والشهود.

وذكر فى هذه الرسالة فصلا فى ذكر العلم- وهو مستطرف البلاغة، مستعذب البراعة- قال: والعلم- أطال الله بقاء القاضى- شىء كما تعرفه، بعيد المرام، لا يصاد بالسّهام، ولا يقسم بالأزلام «1» ؛ ولا يرى فى المنام [ولا يضبط باللجام، ولا يورث عن الأعمام، ولا يكتب للئام] ، وزرع لا يزكو «2» حتى يصادف من الحزم ثرى طيبا، ومن التوفيق مطرا صيّبا؛ ومن الطبع جوّا صافيا، ومن الجهد روحا دائما، ومن الصبر سقيا نافعا، والعلم علق «3» لا يباع ممن زاد، وصيد لا يألف الأوغاد، وشىء لا يدرك إلّا بنزع الروح، وعون الملائكة والرّوح، وغرض لا يصاب إلا بافتراش المدر «4» ، واتّساد الحجر، وردّ الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر، ثم هو معتاص إلا على من زكا زرعه، وخلا ذرعه، [وكرم أصله وفرعه، ووعى بصره وسمعه] ، وصفا ذهنه وطبعه، فكيف يناله من أنفق صباه على الفحشاء؛ وشبابه على الأحشاء، وشغل نهاره بالجمع، وليله بالجماع، وقطع سلوته بالغنى، وخلوته بالغناء، وأفرغ جده على الكيس، وهزله فى الكأس؛ والعلم ثمر لا يصلح إلا للغرس، ولا يغرس إلا فى النفس، وصيد لا يقع إلا فى الندر، ولا ينشب إلّا فى الصدر، وطائر لا يخدعه إلّا قنص اللفظ، ولا يعلقه إلّا شرك الحفظ [ولا ينشب إلّا فى الصدر،] وبحر لا يخوضه الملّاح، ولا تطيقه الألواح، ولا تهيجه الرياح، وجبل لا يتسنم إلا بخطا الفكر، وسماء لا يصعد إلا بمعراج الفهم، ونجم لا يلمس إلا بيد المجد.

ومن مفردات الأبيات فى المعايب والمقابح

ومن مفردات الأبيات فى المعايب والمقابح قول أبى تمام: مساو لو قسمن على الغوانى ... لما أمهرن إلّا بالطلاق آخر: قوم إذا جرّجان منهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا «1» البحترى: نبا فى يدى، وابن اللئيمة واجد ... وينبو الخبيث الطّبع وهو صقيل ابن الرومى فى رجل يعرف بابن رمضان: رأيتك تدّعى رمضان دعوى ... وأنت نظير يوم الشّكّ فيه وله فى أعمى: كيف يرجو الحياء منه صديق ... ومكان الحياء منه خراب غيره: هو الكلب، إلّا أنّ فيه ملالة ... وسوء مراعاة وما ذاك فى الكلب آخر: أبادلف يا أكذب الناس كلّهم ... سواى فإنى فى مديحك أكذب أبو الفضل الميكالى: هو الشّوك لا يعطيك وافر منّة ... يد الدّهر إلّا حين تضربه جلدا

[قولهم فى اللحن وتعلم العربية]

[قولهم فى اللحن وتعلم العربية] قال المأمون لبعض ولده وسمع منه لحنا: ما على أحدكم أن يتعلّم العربية، فيقيم بها أوده «1» ، ويزيّن بها مشهده، ويفلّ «2» حجج خصمه، بمسّ كتاب حكمه «3» ، ويملك مجلس سلطانه، بظاهر بيانه؛ ليس لأحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده أو أمته، فلا يزال الدهر أسير كلمته. وقال رجل للحسن البصرى يا أبو سعيد، قال: كسب الدراهم شغلك أن تقول يا أبا سعيد، ثم قال: تعلّموا العلم للأديان، والنحو للسان، والطبّ للأبدان. وكان الحسن كما قال الأعرابى وسمع كلامه: والله إنه لفصيح إذ الفظ، نصيح إذا وعظ. وقيل له: يا أبا سعيد، ما نراك تلحن، قال: سبقت اللحن. أخذه أبو العتاهية، وقيل له: إنك تخرج فى شعرك عن العروض، فقال: سبقت العروض، وقال إسحاق بن خلف البهرانى: النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تعظمه إذا لم يلحن فإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن وقال على بن بسام: رأيت لسان المرء رائد علمه ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون ولا تعد إصلاح اللسان فإنه ... يخبّر عما عنده ويبين على أن للاعراب حدّا، وربما ... سمعت من الإعراب ما ليس يحسن ولا خير فى اللفظ الكريه استماعه ... ولا فى قبيح اللّحن والقصد أزين

[لوعة الشوق]

وقال بعض أهل العصر، وهو أبو سعيد الرستمى: أفى الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعرا ... ويحرم ما دون الرّضا شاعر مثلى كما سامحوا عمرا بواو زيادة ... وضويق بسم الله فى ألف الوصل أبو الفتح البستى: حذفت وغيرى مثبت فى مكانه ... كأنى نون الجمع حين يضاف وقال: أفدى الغزال الذى فى النّحو كلّمنى ... مناظرا فاجتنيت الشّهد من شفته فأورد الحجج المقبول شاهدها ... محققا ليرينى فضل معرفته ثم اتفقت على رأى رضيت به ... والرفع من صفتى والنصب من صفته الحسن اللحام «1» : أنا من وجوه النحو فيكم أفعل ... ومن اللغات إذا تعدّ المهمل «2» [لوعة الشوق] وقال أحمد بن يوسف: كتب غلام من ولد أنوشروان ممن كان أحد غلمان الديوان، إلى آخر منهم وكان قد علق به، وكان شديد الكلف به والمحبّة له: ليس من قدرى- أدام الله سعادتك- أن أقول لمثلك جعلت فداك؛ لأنى أراك فوق كلّ قيمة خطيرة وثمن معجز، ولأنّ نفسى لا تساوى نفسك، فتقبل فى فديتك، وعلى كل حال؛ فجعلنى الله فداء ساعة من أيامك، اعلم أيها السيد العلىّ المنزلة، أنه لو كان لعبدك من شدة الخطب أمر يقف على حدّه النعت «3» ، لاجتهدنا أن يضعف «4»

من ذلك ما عسى أن يعطف به زمام قلبك، وتحنو له على الرّقة به والتحفّى أثناء جوانحك، ولكن الذى أمسيت وأصبحت ممتحنا به فيه شسع «1» على كل بيان، ونزح عن كلّ لسان؛ والحب أيها المالك لم يشبه قذى ريبة، ولم يختلط به قلب معاب، فلا ينبغى لمن كرمت أخلاقه أن يعاف مقاربة صاحبه المدل بحرمة نيته، والذى أتمناه أيها المولى اللطيف مجلس أقف فيه أمامك، ثم أبوح بما أضنى جسدى، وفتّ كبدى، فإن خفّ ذلك عليك ورأيت نشاطا من نفسك إليه كنت كمن فكّ أسيرا وأبرأ عليلا، ومن الخير سلك سبيلا، يتوعّر سلوكها على من كان قبله، ومن يكون بعده؛ ثم أضاف إلى ذلك منّة لا يطيقها جبل راس، ولا فلك دائر، فرأيك أيها السيد المعتمد فى الإسعاف، قبل أن يبدرنى الموت؛ فيحول بينى وبين ما نزعت إليه النفس مواصلا برّا إن شاء الله تعالى. فأجابه: تولّي الله تعالى ما جرى به لسانك بالمزيد، ولا أوحش ما بيننا بطائر فرقة، ولا صافر تشتّت، وضمّنا وإياك فى أوثق حبال الأنس، وأوكد أسباب الألفة؛ وقفت على ما لخصته من العجز عن بلوغ ما خامر قلبك «2» ، وانطوى فى ضميرك، من الشّغف المقلق، والهوى المضرع، ولعمرى لو كشفت لك عن معشار ما اشتمل عليه مضمر صدرى لأيقنت أنّ الذى عندك إذا قسته إلى ما عندى كالمتلاشى البائد، ولكنك بفضل الإنعام سبقتنا إلى كشف ما فى الضمير. وأما طاعتى لك، وذمامى إليك؛ فطاعة العبد المقتنى، الطائع لما يحكم له وعليه مولاه ومالكه، وأنا صائر إليك وقت كذا؛ فتأهّب لذلك بأحمد عافية، وأتمّ عقدة «3» ، وأسعد نجم جرى بالألفة، إن شاء الله تعالى. وكتب بعض الكتّاب: إنى لأكره أن أفديك بنفسى استحياء من التقصير

فى المعاوضة، ومن التخلّف فى الموازنة، وعلى الأحوال كلّها، فقدّم الله روحى عنك، وصاننى عن رؤية المكروه فيك. وقال المتنبى: فدى لك من يقصّر عن مداكا ... فلا ملك إذن إلّا فداكا ولو قلنا فدى لك من يساوى ... دعونا بالبقاء لمن قلاكا وآمنّا فداءك كلّ نفس ... وإن كانت لمملكة ملاكا [وقال عبيد الله بن شبيب: كتب إلىّ بعض إخوانى من أهل البصرة كتابا ملح فيه وأوجز، وهو: أطال الله بقاءك، كما أطال خباءك، وجعلنى فداك إن كان فىّ فداؤك. كتبت ولو قدرت هوى وشوقا ... إليك لكنت سطرا فى كتابى] وكتب آخر إلى إبراهيم وأحمد ابنى المدبّر، وقد أصابتهما محنة ثم أردفتها نعمة: لو قبلت فيكما، ودانيت قدريكما، لقلت: جعلنى الله فداكما، ولكنى لا أجزى عنكما، فلا أقبل بكما، وقد بلغتنى المحنة التى لو مات إنسان غمّا بها لكنته [ثم اتصلت النعمة التى لو طار امرؤ برحابها لكنته] وكتب تحته: وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما وكتب ابن ثوابة إلى عبيد الله بن سليمان يعتذر فى ترك مكاتبته بالتفدية [الله يعلم، وكفى به عليما، لقد وددت مكاتبتك بالتفدية] فرأيت عيبا أن أفديك بنفس لابدّ لها من فناء، ولا سبيل لها إلى بقاء، ومن أظهر لك شيئا وأضمر لك خلافه فقد غشّ؛ والأمر إذا كانت الضرورة توجب أنه ملق «1» لا يحقق، وإعطاء لا يتحصّل، لم يجب أن يخاطب به مثلك، وإن كان عند قوم نهاية من نهايات التعظيم، ودليلا من دلالات الاجتهاد، وطريقا من طرق التقرّب. قال الزبير بن أبى بكر: قال لى مسلمة بن عبد الله بن جندب الهذلى: خرجت أريد العقيق ومعى زيّان السوّاق؛ فلقينا نسوة فيهن امرأة لم أر أجمل منها فأنشدت بيتين لزيّان:

ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيل، فهل فيكم له اليوم ثائر؟ خذوا بدمى، إن متّ، كلّ خريدة ... مريضة جفن العبن والطّرف ساحر ثم قال: شأنك بها يابن الكرام فالطلاق له لازم إن لم يكن دم أبيك فى نقابها. فأقبلت علىّ وقالت: أنت ابن جندب؟ فقلت: نعم. قالت: إن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى، فاغتنم لنفسك، واحتسب أباك. قال أبو عبيدة: قال رجل من فزارة لرجل من بنى عذرة: تعدّون موتكم من الحبّ مزية، وإنما ذاك من ضعف المنّة، وعجز الروية. فقال العذرى: أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج «1» ، ترشق بالأعين الدّعج «2» ، فوقها الحواجب الزّج «3» ، [وتحتها المباسم الفلج] ، والشّفاه السّمر، تفترّ عن الثنايا الغرّ، كأنها برد الدّر، لجعلتموها اللات والعزّى، ورفضتم الإسلام وراء ظهوركم: وقال أعرابى: دخلت بغداد فرأيت فيها عيونا دعجا، وحواجب زجّا، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب. وذكر أعرابى نساء فقال: ظعائن فى سوالفهن طول، غير قبيحا العطول «4» ، إذا مشين أسبلن الذيول، وإن ركبن أثقلن الحمول. ووصف آخر نساء فقال: يتلثّمن على السبائك، ويتّشحن على النيازك «5» ، ويتّزرن على العواتك، ويرتفقن على الأرائك، ويتهادين على «6» الدّرانك، ابتسامهن وميض، عن ثغر كالإغريض، وهن إلى الصّبا صور، وعن الخناحور «7» .

(وصف الهوى، وأمره)

(وصف الهوى، وأمره) سئل بعض الحكماء عن الهوى، فقال: هو جليس ممتع، وأليف مؤنس، أحكامه جائزة «1» ، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس وآراءها، وأعطى زمام طاعتها، وقياد مملكتها، توارى عن الأبصار مدخله، وغمض عن القلوب مسلكه. وسئلت أعرابية عن الهوى فقالت: لامتّع الهوى بملكه، ولا ملّى بسلطانه، وقبض الله يده، وأوهن عضده؛ فإنه جائر لا ينصف فى حكم، أعمى ما ينطق بعدل، ولا يقصر فى ظلم، ولا يرعوى للوم، ولا ينقاد لحقّ، ولا يبقى على عقل ولا فهم، لو ملك الهوى وأطيع لردّ الأمور على أدبارها، والدنيا على أعقابها. ووصف أعرابى الهوى فقال: هوداء تدوى به النفوس الصّحاح، وتسيل منه الأرواح، وهو سقم مكتتم، وجمر مضطرم؛ فالقلوب له منضجة، والعيون ساكنة «2» قال [أبو] عبيد الله بن محمد بن عمران المرزبانى: أخبرنى المظفر بن يحيى، قال: أحبّ رجل امرأة دونه فى القدر، فعذله عمّه، فقال: يا عمّ، لا تلم مجبرا على سقمه؛ فإن المقر على نفسه مستغن عن منازعة خصمه، وإنما يلام من اقترف ما يقدر على تركه، وليس أمر الهوى إلى الرأى فيملكه، ولا إلى العقل فيدبره؛ بل قدرته أغلب، وجانبه أعزّ من أن تنفذ فيه حيلة حازم، أو لطف محتال. وقال بعضهم: رأيت امرأتين من أهل المدينة تعاتب إحداهما الأخرى على هوى لها، فقالت: إنه يقال فى الحكمة الغابرة، والأمثان السائرة: لا تلومنّ من أساء بك الظنّ إذا جعلت نفسك هدفا للتهمة، ومن لم يكن عونا على نفسه مع خصمه لم يكن معه شىء من عقدة الرأى، ومن أقدم على هوى وهو يعلم

[بعض ما جاء فى العفاف]

ما فيه من سوء المغبّة سلط على نفسه لسان العذل، وضيع الحزم. فقالت المعذولة؛ ليس أمر الهوى إلى الرأى فيملكه، ولا إلى العقل فيدبره، وهو أغلب قدرة، وأمنع جانبا من أن تنفذ فيه حيلة الحازم، أو ما سمعت قول الشاعر: ليس خطب الهوى بخطب يسير ... لا ينّبيك عنه مثل خبير ليس أمر الهوى يدبّر بالرّأ ... ى ولا بالقياس والتفكير إنما الأمر فى الهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور قال المرزبانى: أخبرنى الصولى أنّ هذه الأبيات لعلية بنت المهدى، ولها فيها لحن. وقيل لعبد الله بن المقفع: ما بال العاقل المميز الذهن، واللبيب الفطن، يتعرض للحب وقد رأى منه مواضع الهلكة، ومصارع التّلف، وعلم ما يؤول «1» إليه عقباه، وترجع به أخراه على أولاه؟ فقال: زخرف «2» ظاهر العشق بجمال زينة يستدعى القلوب إلى ملامسته، وملّى بعاجل حلاوة يطّبى «3» النفوس إلى ملابسته، كظاهر زخرف الدنيا، وبهاء رونقها، ولذيذ جنى ثمرها، وقد سكرت أبصار قلوب أبنائها عن النظر إلى قبيح عيوب أفعالها، فهم فى بلائها منغمسون، وفى هلكة فتنتها متورّطون، مع علمهم بسوء عواقب خطبها، وتجرّع مرارة شربها، وسرعة استرجاعها ما وهبت، وإخراجها ممّا ملكت، فليس ينجو منها إلا من حذرها، ولا يهلك فيها إلا من أمنها، وكذلك صورة الهوى؛ هما فى الفتنة سواء. [بعض ما جاء فى العفاف] وقال ابن دريد: قال بعض الحكماء: أغلق أبواب الشبهات بأفعال الزهادة، [وافتح أبواب البر بمفاتيح العبادة] فإنّ ذلك يدنيك من السعادة،

وتستوجب من الله الزيادة. وقال غيره: إنّ اللذة مشوبة بالقبح؛ ففكّروا فى انقطاع اللذة وبقاء ذكر القبح قال أبو عبد الله بن إبراهيم بن عرفة [نفطويه] : ليس الظريف بكامل فى ظرفه ... حتى يكون عن الحرام عفيفا فإذا تعفّف عن محارم ربّه ... فهناك يدعى فى الأنام ظريفا وقال: كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعنى ... منه الحياء وخوف الله والحذر وكم خلوت بمن أهوى فيقنعنى ... منه الفكاهة والتقبيل والنّظر أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لى فى حرام منهم وطر كذلك الحبّ لا إتيان معصية ... لا خير فى لذة من بعدها سقر وقال العباس بن الأحنف: أتأذنون لصب فى زيارتكم ... فعندكم شهوات السّمع والبصر [لا يبصر السوء إن طالت إقامته ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر] «1» وقال بعض الطالبيين: رمونى وإياهم بشنعاءهم بها ... أحقّ، أدال الله منهم وعجّلا بأمر تركناه وربّ محمد ... جميعا فإما عفّة أو تجمّلا وقال سعيد بن حميد: زائر زارنا على غير وعد ... مخطف الكشح مثقل الأرداف غالب الخوف حين غالبه الشو ... ق وأخفى الهوى وليس بخافى غضّ طرفى عنه تقى الله فاختر ... ت على بذله بقاء التّصافى ثم ولّى والخوف قد هزّ عطف ... يه ولم يخل من لباس العفاف

وفى الحديث الشريف: «من أحبّ فعفّ فمات فهو شهيد» . والعفاف مع البذل، كالاستطاعة مع الفعل، كما قال صريع الغوانى: وما ذمّى الأيام أن لست مادحا ... لعهد لياليها التى سلفت قبل ألا ربّ يوم صادق العيش نلته ... بها ونداماى العفافة والبذل «1» وأنشد الصولى لأبى حاتم السجستانى فى المبرّد، وكان يلزم حلقته، وكان من الملاح وهو غلام: ماذا لقيت اليوم من ... متمجّن خنث الكلام «2» وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حدق الانام حركاته وسكونه ... يجنى بها ثمر الأثام فإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اعترام لم أعد أخلاق العفا ... ف وذاك أوكد للغرام نفسى فداؤك يا أبا ال ... عباس جلّ بك اعتصام فارحم أخاك فإنه ... نزر الكرى بادى السقام وأنله ما دون الحرا ... م فليس يرغب فى الحرام وكان أبو حاتم يتصدّق كلّ يوم بدرهم، ويختم القرآن فى كل أسبوع. وذكر أنه اجتمع أبو العباس بن سريج الشافعى، وأبو بكر بن داود العباسى فى مجلس على بن عيسى بن الجراح الوزير، فتناظرا فى الإيلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك: «من كثرت لحظاته دامت حسراته» أبصر منك بالكلام فى الإيلاء، فقال أبو بكر: لئن قلت ذلك فإنى أقول: أنزّه فى روض المحاسن مقلتى ... وأمنع نفسى أن تنال محرّما

ألفاظ لأهل العصر، فى محاسن النساء

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصبّ على الصّخر الأصمّ تهدّما وينطق طرفى عن مترجم خاطرى ... فلولا اختلاسى ردّه لتكلّما رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم ... فلست أرى حبّا صحيحا مسلّما فقال أبو العباس: بم تفتخر علىّ؟ وأنا لو شئت لقلت: ومطاعم للشّهد من نغماته ... قد بتّ أمنعه لذيذ سناته صبّا بحسن حديثه وكلامه ... وأكرّر اللحظات فى وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولّى بخاتم ربّه وبراته فقال أبو بكر: أصلح الله الوزير، تحفظ عليه ما قال حتى يقيم شاهدين عدلين أنه ولى بخاتم ربه! فقال أبو العباس: يلزمنى فى هذا ما يلزمك فى قولك: أنزه فى روض المحاسن مقلتى ... البيت. فضحك الوزير، وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وفهما وعلما. ألفاظ لأهل العصر، فى محاسن النساء هى روضة الحسن، وضرّة الشمس، وبدر الأرض. هى من وجهها فى صباح شامس، ومن شعرها فى ليل دامس «1» ، كأنها فلقة قمر على برج فضة. بدر التم يضىء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، ثغرها يجمع الضريب والضرب «2» ، كأنه نثر الدرّ، كما قال البحترى: إذا نضون شفوف الرّيط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا قد أنبت صدرها ثمر الشباب، خرطت لها يد الشباب حقّين «3» من عاج، كأنها البدر قرّط بالثريّا، ونيط بها عقد من الجوزاء، أعلاها كالغصن ميّال،

ولهم فى محاسن الغلمان والمعذرين

وأسفلها كالدّعص «1» منهال، لها عنق كإبريق اللّجين، وسرّة كمدهن العاج، نطاقها مجدب، وإزارها مخصب. مطلع الشمس من وجهها، ونبت الدرّ من فيها، وملقط الورد من خدّها، ومنبع السّحر من طرفها، ومبادىء الليل من شعرها، ومغرس الغصن من قدّها، ومهيل الرّمل من ردفها ولهم فى محاسن الغلمان والمعذرين زاد جماله، وأقمر هلاله. ترقرق فى وجهه ماء الحسن، شادن فاتر طرفه، ساحر لفظه. غلام تأخذه العين، ويقبله القلب، ويأخذه الطّرف، وترتاح إليه الرّوح. تكاد القلوب تأكله، والعيون تشربه. جرى ماء الشباب فى عوده فتمايل كالغصن، واستوفى أقسام الحسن، ولبس ديباجة الملاحة، كأنّ البدر قد ركب أزراره، لا يشبع منه الناظر، ولا يروى منه الخاطر، كاد البدر يحكيه، والشمس تشبهه وتضاهيه، صورة تجلو الأبصار، وتخجل الأقمار، شادن منتقب بالبدر، ومكتحل بالسحر. ما هو إلّا نزهة الأبصار، ومخجل الأقمار، وبدعة الأمصار، غمزات طرفه تخبر عن ظرفه، ومنطقه ينطق عن وصفه. تخال الشمس تبرقعت غرّته، والليل ناسب أصداغه وطرّته الحسن ما فوق أزراره، والطّيب ما تحت إزاره، شادن يضحك عن الأقحوان، ويتنفّس عن الريحان، كأنّ خدّه سكران من خمر طرفه «2» ، وبغداد مسروقة من حسنه وظرفه، أعجمت يد الجمال نون صدغه بخال، هذا محلول من قول ابن المعتز: غلالة خدّه صبغت بورد ... ونون الصّدغ معجمة بخال

له عينان حشو أجفانهما السّحر، كأنه قد أعار الظّبى جيده، والغصن قدّه، والراح ريحه، والورد خدّه، الشّكل «1» من حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته. قد ملك أزمّة القلوب، وأظهر حجّة الذنوب، كأنما وسمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصاغه من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقبّه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالجمال أحد حدوده. وقد صبغ الحياء غلالة وجهه، ونشر لؤلؤ العرق عن ورد خدّه. تكاد الألحاظ تسفك من خدّه دم الخجل. له طرّة كالغسق، على غرّة كالفلق. جاءنا فى غلالة تنمّ على ما يستره، وتجفو مع رقّتها عما يظهره «2» . وجه بماء الحسن مغسول، وطرف بمرود السّحر مكحول ثغر حمى حماية الثغور، وجعل ضرّة لقلائد النحور. السحر فى ألحاظه، والشهد فى ألفاظه. اختلس قامة الغصن، وتوشّح بمطارف الحسن، وحكى الروض غبّ المزن «3» . الأرض مشرقة بنور وجهه، وليل السّرار فى مثل شعره «4» . الجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق فى خدّه، ومحاسن الربيع بين سحره ونحره، والقمر فضلة من حسنه. ما هو إلا خال فى خدّ الظّرف، وطراز على علم الحسن، ووردة فى غصن الدهر، ونقش على خاتم الملك، وشمس فى فلك اللطف. هو قمر فى التصوير، شمس فى التأثير. منظر يملأ العيون، ويملك النفوس، زرافين أصداغه «5» معاليق القلوب. كأنّ صدغه قرط من المسك على عارض البدر. وجهه عرس، وصدغه مأتم، ووصله جنة، وهجره جهنم. أصداغه قد اتخذت شكل العقارب، وظلمت ظلم الأقارب. إن كان عقرب صدغه تلسع، فترياق ريقه ينفع. كأن شاربه زئبر الخزّ الأخضر، وعذاره طراز المسك والعنبر [الأذفر] ، على الورد الأحمر. إذا تكلّم تكشّف حجاب الزمرّد والعقيق،

ولهم فى نقيض ذلك، فى ذم خروج اللحية

عن سمط الدرّ الأنيق. قد همّ أرقم الشّعر على شاربه، وكاد فم الحسن يقبّله. كأنّ العذار ينقش فصّ وجهه، ويحرق فضّة خدّه. طرّز الجمال ديباج وجهه، وأبان عذاره العذر فى حبّه. [لعب الربيع بخدّه، فأنبت البنفسج فى ورده. لما احترقت فضة خدّه، احترق سواد القلب من حبّه] . كيف لا يخضرّ شاربه ... ومياه الحسن تسقيه ولهم فى نقيض ذلك، فى ذم خروج اللحية قد انتقب بالدّيجور، بعد النوز؛ فدولة حسنه قد أعرضت أيامه، وانقرضت دولته وأحكامه. استحال خدّه دجا، وزمرّد خدّه سبجا «1» ؛ وأخمدت نار حسنه بعد الإيقاد، ولبس عارضه ثوب الحداد. ذبل ورد خدّه، وتشوّك زعفران خطه. فارقنا خشفا، ووافانا جلفا، وفارقنا هلالا وغزالا، وعاد وبالا ونكالا. مالى أرى الآباط جائشة؛ والآناف معشبة، والعيون منورة، والأزرار مرعى، والأظفار حمى، واللحى لبودا، والأسنان خضرا وسودا. من رسائل البديع ومقاماته وكتب إلى بديع الزمان بعض من عزل عن ولاية حسنة يستمدّ وداده ويستميل فؤاده؛ فأجابه بما نسخته: وردت رقعتك أطال الله بقاءك فأعرتها طرف التعزّز ومددت إليها يد التقزز، وجمعت عليها ذيل التحرّز، فلم تند على كبدى، ولم تحظ بناظرى ويدى؛ ولقد خطبت من مودّنى ما لم أجدك لها كفيّا، وطلبت من عشرتى ما لم أرك لها رضيّا؛ وقلت: هذا الذى رفع عنّا أجفان

طرفه، وشال بشعرات أنفه، وتاه بحسن قدّه، وزها بورد خدّه، ولم يسقنا من من نوئه، ولم نسر بضوئه؛ فالآن إذ نسخ الدهر آية حسنه، وأقام مائل غصنه، وفلّل غرب عجبه «1» ، وكفّ شأو زهوه، وانتصر لنا منه بشعرات قد كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسخت جماله، وغيّرت حاله، وكدّرت شرعته «2» ، ونكّرت طلعته، جاء يستقى من جرفنا جرفا، ويغرف من طينتنا غرفا، فمهلا يا أبا الفضل مهلا: أرغبت فينا إذ علا ... ك الشّعر فى خدّ قحل وخرجت من حدّ الظبا ... ء وصرت فى حدّ الإبل أنشأت تطلب عشرتى ... عد للعداوة يا خجل أنسيت أيامك؛ إذ تكلّمنا نزرا «3» ، وتنظرنا شزرا «4» ، وتجالس من حضر، ونسرق إليك النظر، ونهتزّ لكلامك، ونهش لسلامك: فمن لك بالعين التى كنت مرة ... إليك بها فى سالف الدّهر أنظر أيام كنت تتمايل، والأعضاء تتزايل، وتتغانج، والأجساد تتفالج، وتتفلّت، والأكباد تتفتّت، وتخطر وترفل، والوجد بنا يعلو ويسفل، وتدبر وتقبل، فتمنى وتخبل، [وتصد] وتعرض، فتضنى وتمرض: وتبسم عن ألمى كأنّ منورا ... تخلل حرّ الرمل دعص له ند فأقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت: وعهد نفاق مضى ... وسوق كساد نزل وخدّ كأن لم يكن ... وخط كأن لم يزل

ويوم صار أمس، وحسرة بقيت فى النفس، وثغر غاض ماؤه فلا يرشف، وريق خدع فلا ينشف، وتمايل لا يعجب، وتثنّ لا يطرب، [ووجه زال بهاؤه] ، ومقلة لا تجرح ألحاظها، وشفة لا تفتن ألفاظها، فحتّام تدلّ، وإلام نحتمل وعلام؟ وآن أن تذعن الآن، وقد بلغنى ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء فى الغسق، وتشبيه يفتضح عند ذوى البصر والصدق؛ من إفنائك لتلك الشعرات جفّا وحصّا، وإنحائك عليها نقصا وقصّا. وسيكفينا الدهر مؤونة الإنكار عليك، بما يزف من بنات الشعر وأمهاته إليك؛ فأما ما استأذنت فيه رأيى من الاختلاف إلى مجلسى فما أقلّ إليك نشاطى، وأضيق عنك بساطى، وأشنع قلقى منك، وأشد استغنائى عن حضورك، فإن حضرت فأنت داء نروض عليه الحلم، ونتعلم به الصبر، ونتكلف فيه الاحتمال، ونفضى منه الجفن على قذى، ونطوى منه الصدر على أذى، ونجعله للقلوب تأنيبا، وللعيون تأديبا. ومالك إلا أن تعتاض من الرغبة عنّا رغبة فينا. ومن ذلك التدلّل علينا تذللا لنا، ومن ذلك التعالى تبصبصا، ومن ذلك التغالى ترخّصا، وما بال الدهر أعقبك من التزايد تنقصا «1» ، ومن التسحّب على الإخون تقمّصا، ولئن اعتضت من الذهاب رجوعا، لقد اعتضنا من النزاع نزوعا «2» ، فانأ برحلك وجانبك، ملقى حبلك على غاربك، لا أوثر قربك، ولا أنده سربك، والسلام. ومن إنشاء بديع الزمان فى مقامات الإسكندرى ولعلّ ما فيها من الطول غير مملول. قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: كان يبلغنى من مقامات الإسكندرى ما يصغى له النّفور، وينتفض له العصفور، ويروى لى من شعره ما يمتزج بأجزاء الهواء رقّة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقة، وأنا أسأل الله بقاءه،

حتى أرزق لقاءه، وأتعجّب من قعود همّته بحالته، مع حسن آلته، وقد ضرب الدهر شؤونه أسدادا «1» وهلمّ جرا. إلى أن اتفقت لى حاجة بحمص، فشحذت إليها الحرص، فى صحبة أفراد كنجوم اللّيل، أحلاس «2» لظهور الخيل، فأخذنا الطريق ننتهب مسافته، ونستأصل شأفته، ولم نزل نفرى أسنمة النّجاد «3» بتلك الجياد، حتى صرن كالعصىّ، ورجعن كالقسىّ، وتاح لنا واد فى سفح جبل، ذى ألاء وأثل، كالعذارى يسرّحن الضفائر، وينشرن الغدائر، فمالت الهاجرة بنا إليها، فنزلنا نغوّر ونغور، وربطنا الأفراس بالأمراس، وملنا مع النّعاس، فما راعنا إلا صهيل الخيول، ونظرت إلى فرسى وقد أرهف أذنيه، وطمح بعينيه، يجذّ قوى الحبل بمشافره، ويخدّ خدّ الارض بحوافره، ثم اضطربت الخيل، فأرسلت الأبوال، وقطّعت الحبال، وصار كلّ منا إلى سلاحه، فإذا الأسد فى فروة الموت، قد طلع من غابه، منتفجا فى إهابه، كاشرا عن أنيابه، بطرف قد ملىء صلفا، وأنف قد حشى أنفا. وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرّعب، فقلنا: خطب والله ملمّ، وحادث مهمّ، وتبادرنا إليه من سرعان الرّفقة فتى: أخضر الجلدة من بيت العرب ... يملأ الدّلو إلى عقد الكرب بقلب ساقه قدر، وسيف كله أثر، فملكته سورة الأسد، فخانته أرض قدمه، حتى سقط ليده وفمه، وتجاوز الأسد مصرعه، إلى من كان معه، ودعا الحين أخاه، إلى مثل ما دعاه، فسار إليه، وعقل الرّعب يديه، فأخذ أرضه وافترس الليث صدره، ولكن شغلت بعمامتى فمه، حتى حقنت دمه، وقام الفتى فوجأ بطنه حتى هلك من خوفه، والأسد بالوجأة فى جوفه، ونهضنا

على أثر الخيل، فتألفنا منها ما ثبت، وتركنا ما أفلت، وعدنا إلى الرفيق لنجهزه. فلما حثونا الترب فوق رفيقنا ... جزعنا ولكن أىّ ساعة مجزع وعدنا إلى الفلاة، فهبطنا أرضها، وسرنا حتى إذا ضمرت المزاد، ونفد الزاد، أو كاد يدركه النفاد، ولم نملك الذهاب ولا الرّجوع، وخفنا القاتلين الظمأ والجوع، عنّ لنا فارس فصمدنا صمده، وقصدنا قصده، ولما بلغنا نزل عن حاذ فرسه ينقش الأرض بشفتيه، ويلقى التراب بيديه، وعمدنى من بين الجماعة، فقبل ركابى، وتحرّم بثيابى، ونظرت فإذا وجه يبرق برق العارض المتهلل، وفرس متى ما ترقّ العين فيه تسهل، وعارض قد اخضرّ، وشارب قد طر، وساعد ملآن، وقضيب ريّان، ونجار تركى، وزى ملكى، فقلت: ما جاء بك؟ لا أبالك! فقال: أبا عبد بعض الملوك، همّ من قتلى بهمّ، فهمت على وجهى إلى حيث ترانى، وشهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، ثم قال: أنا اليوم عبدك، ومالى مالك، فقلت: بشرى لك وبك، أدّاك سيرك إلى فناء رحب، وعيش رطب، وهنأتنى الجماعة، بحسب الاستطاعة، وجعل ينظر فتقتلنا ألحاظه، وينطق فتفتننا ألفاظه، والنفس تناجينى فيه بالمحظور، والشيطان من وراء الغرور، فقال: يا سادة، إنّ فى سفح هذا الجبل عينا، وقد ركبتم فلاة عوراء «1» ، فخذوا من هنالك الماء، فلوينا الأعنة إلى حيث أشار، وبلغناه وقد صهرت الهاجرة الأبدان، وركبت الجنادب العيدان «2» ، فقال: ألا تقيلون فى هذا الظل الرّحب، على هذا الماء العذب؟ فقلنا: أنت وذاك، فنزل عن فرسه، ونحى منطقته، وحلّ قرطقته «3» ، فما استتر عنا إلا بغلالة [تنمّ] على بدنه،

فما شككنا أنّه خاصم الولدان، ففارق الجنان، وهرب من رضوان، وعمد إلى السروج فحطّها، وإلى الأفراس فحشّها «1» ، وإلى الأمكنة ففرشها، وقد حارت البصائر فيه، ووقعت الأبصار عليه، ووتد كل منا شبقا، وخنث اللفظ ملقا. وقلت: يا فتى، ما ألطفك فى الخدمة! وأحسنك فى الجملة! فالويل لمن فارقته، وطوبى لمن رافقته، فكيف نشكر الله على النعمة بك؟! فقال: ما سترونه أكثر، أتعجبكم خفّتى فى الخدمة، فكيف لو رأيتمونى فى الرّفقة؟ أريكم من حذقى طرفا، لتزدادوا بى شغفا؟ فقلنا: هات، فعمد إلى قوس [أحدنا] فأوتره؛ وفوّق سهما فرماه فى السماء، وأتبعه بآخر فشقّه فى الهواء، وقال: سأريكم نوعا آخر، ثم عمد إلى كنانتى فأخذها، وإلى فرسى فعلاه، ورمى أحدنا بسهم أثبته فى صدره، وآخر طيره من ظهره، فقلت: ويحك! ما تصنع؟ قال: اسكت يالكع، والله ليشدنّ كل منكم يد رفيقه، أو لأغصنه بريقه، فلم ندر ما نصنع، وأفراسنا مربوطة، وسروجنا محطوطة، وأسلحتنا بعيدة، وهو راكب ونحن رجّالة، والقوس فى يده يرشق بها الظهور، ويمشق بها «2» البطون والصدور، وحين رأينا منه الجدّ، أخذنا «3» القدّ، فشدّ بعضنا بعضا، وبقيت وحدى لا أجد من بشدّنى، فقال: اخرج بإهابك «4» ، عن ثيابك، ثم نزل عن فرسه، وجعل يصفع الواحد منا بعد الآخر، ويقول: أقمت قضيبك، فخذ نصيبك، [ونزع ثيابه] وصار إلىّ وعلىّ خفّان جديدان فقال: اخلعهما لا أمّ لك، فقلت: هذا خفّ لبسته رطبا، فليس يمكننى خلعه فقال: علىّ نزعه، ثم دنا لينزع الخف، ومددت يدى إلى سكّين فيه

وهو مشغول، فأثبتّه فى بطنه، وأبنته من متنه «1» . فما زاد على فم فغره «2» ، وألقمه حجره، وقمت إلى أصحابى فحللت أيديهم، وتوزّعنا سلب المقتولين، وأدركنا الرفيق، وقد جاد بنفسه، وصار إلى رمسه «3» ، وصرنا إلى الطريق فوردنا حمص بعد ليال، فلما انتهينا إلى فرضة من سوقها رأينا رجلا قد قام على رأس ابن وبنيّة، بجراب وعصيّة، وهو يقول: رحم الله من حشا ... فى جرابى مكارمه رحم الله من رثى ... لسعيد وفاطمه إنّه خادم لكم ... وهى لا شكّ خادمه قال عيسى بن هشام: فقلت: إنّ هذا الرجل هو الإسكندرى لذى سمعت به وسألت عنه فإذا هو هو، فدلفت إليه، فقلت له: أحكمك حكمك، فقال: درهم، فقلت: لك درهم فى مثله ... مادام يسعدنى النّفس فاحسب حسابك والتمس ... كيما تنال الملتمس لك درهم فى اثنين، وفى ثلاثة، وفى أربعة، فى خمسة حتى بلغت العشرين، ثم قلت: كم معك؟ قال: عشرون رغيفا، فأمرت له بها، وقلت: لا نصرة مع الخذلان، ولا حيلة مع الحرمان. وقال أبو فراس الحمدانى. سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عينى تمايله وما السّلاف دهتنى بل سوالفه ... ولا الشّمول دهتنى بل شمائله ألوى بصبرى أصداغ لوين له ... وغال عقلى «4» بما تحوى غلائله

وقال ابن المعتزّ، وقد تقدّم عنه فى هذه الألفاظ: ويوم فاختىّ الدّجن مرخ ... عزاليه بهطل وانهمال «1» ... أبحت سروره وظللت فيه برغم العاذلات رخىّ بال ... وساق يجعل المنديل منه مكان حمائل السيف الطوال ... غلالة خدّه صبغت بورد ونون الصّدغ معجمة بخال ... بدا والصبح تحت الليل باد كطرف أبلق مرخى الجلال ... بكأس من زجاج فيه أسد فرائسهن ألباب الرجال ... أقول وقد أخذت الكاس منه وقتك السوء ربّات الحجال وقد أحسن ما شاء فى قوله: فرائسهن ألباب الرجال ... وإن كان أصل المعنى لأبى نواس فى ذكر تصاوير الكاس. قال الصولى: مرّ أبو نواس بالمدائن فعدل إلى ساباط «2» ، فقال بعض أصحابه: ندخل إيوان كسرى؛ فرأينا آثارا فى مكان حسن تدلّ على اجتماع كان لقوم قبلنا، فأقمنا خمسة أيام نشرب هناك، وسألنا أبا نواس صفة الحال، فقال: ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جرّ الزّقاق على الثّرى ... وأضغاث ريحان جنىّ ويابس ولم أر منهم غير ما شهدت به ... بشرقى ساباط الديار البسابس حبست بها صحبى فجّمعت شملهم ... وإنى على أمثال تلك لحابس أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوم له يوم الترحّل خامس تدار علينا الراح فى عسجديّة ... حبتها بأنواع التصاوير فارس

قرارتها كسرى وفى جنباتها ... مهى تدّريها بالقسىّ الفوارس «1» فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلّانس وقال على بن العباس النوبختى: قال لى البحترى: أتدرى من أين أخذ الحسن قوله: ولم أر منهم غير ما شهدت به ... ؟ .. البيت- فقلت: لا، قال: من قول أبى خراش: ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض فقلت: المعنى مختلف، فقال: أما ترى حذو الكلام واحدا، وإن اختلف المعنى؟! قال الجاحظ: نظرنا فى الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعانى تقلب ويؤخذ بعضها من بعض، غير قول عنترة فى الأوائل: وخلا الذباب بها يغنّى وحده ... غردا كفعل الشارب المترنّم هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المكبّ على الزناد الأجذم وقول أبى نواس فى المحدثين: قرارتها كسرى وفى جنباتها ... مهى تدّريها بالقسىّ الفوارس فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس أخذه أبو العباس الناشىء فقال وولّد معنى زائدا: ومدامة لا يبتغى من ربّه ... أحد حباه بها لديه مزيدا فى كأسها صور تظنّ لحسنها ... عربا برزن من الخيام وغيدا «2» وإذا المزاج أثارها فتقسّمت ... ذهبا ودرّا توأما وفريدا فكأنهن لبسن ذاك مجاسدا ... وجعلن ذا لنحورهنّ عقودا وأبيات أبى خراش، وكان خراش وعروة غزوا ثمالة فأسروهما، وأخذوهما

وهمّوا بقتلهما، فنهاهم بنو رزام، وأبى بنو هلال إلا قتلهما، وأقبل رجل من بنى رزام فألقى على حراش رداءه، وشغل القوم بقتل عروة، وقال الرجل لخراش: انجه، فنجا إلى أبيه، فأخبره الخبر، ولا تعرف العرب رجلا مدح من لا يعرفه غيره: حمدت إلهى بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض فوالله لا أنسى قتيلا رزنته ... بجابب قوسى ما مشيت على الأرض بلى إنّها تعفو الكلوم، وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضى «1» ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنّه قد سلّ عن ماجد محض ولم يك مثلوج الفؤاد مهبّجا ... أضاع الشباب فى الرّبيلة والخفض «2» ولكنه قد لوّحته مخامص ... على أنه ذو مرّة صادق النهض كأنهم يشّبّثون بطائر ... خفيف المشاس عظمه غير ذى نحض يبادر فوت الليل نهو مهابذ ... يحثّ الجناح بالتبسّط والقبض الربيلة: الخفض والدعة، والمهابذ: المجتهد فى العدو والطيران. وقال أبو خراش يرثى أخاه عروة: تقول أراه بعد عروة لاهيا ... وذلك رزء لو علمت جليل فلا تحسبى أنى تناسيت عهده ... ولكنّ صبرى يا أميم جميل ألم تعلمى أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل وأنّى إذا ما الصبح أنسيت ضوءه ... يعاودنى قطع علىّ ثقيل [أبى الصبر أنى لا أزال يهيجنى ... مبيت لنا فيما مضى ومقيل] مالك وعقيل اللذان ذكرهما نديما جذيمة الأبرش، وكانا أتياه بابن أخته عمرو،

[وصف الدمن والأطلال]

وكان قد استهوته الجنّ، فمنّاهما فتمنّيا منادمته، وهما اللذان عنى متمّم ابن نويرة فى مرثية أخيه مالك: وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقول عنترة فى وصف الذباب أوحد فرد، ويتيم فذّ، وقد تعلّق ابن الرومى بذيله وزاد معنى آخر فى قوله: إذا رنقت شمس الأصيل ونفّضت ... على الأفق الغربىّ ورسا مزعزعا «1» ولاحظت النّوار وهى مريضة ... وقد وضعت خدا على الأرض أضرعا كما لاحظت عوّادها عين مدنف ... توجّع من أوصابه ما توجّعا «2» وبين إغضاء الفراق عليهما ... كأنهما خلّا صفاء تودّعا وقد ضربت فى خضرة الرّوض صفرة ... من الشمس فاخضرّا خضرارا مشعشعا وظلّت عيون النّور تخضلّ بالندى ... كما اغرورقت عين الشّجىّ لتدمعا وأذكى نسيم؟؟؟ الرّوض ريعان ظلّه ... وغنى مغنّى الطير فيه مرجّعا وغرّد ربعى الذباب خلاله ... كما حثحث النّشوان صنّجا مشرّعا فكانت أرانين الذباب هناكم ... على شدوات الطير ضربا موقّعا وذكر أبو نواس معنى قوله فى تصاوير الكئوس فى مواضع من شعره فمن ذلك: بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكلّلة حافاتها بنجوم فلو ردّ فى كسرى بن ساسان روحه ... إذا لاصطفانى دون كلّ نديم [وصف الدمن والأطلال] وأول هذا الشعر: لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم «3»

تجافى البلى عنهنّ حتى كأنما ... لبسن على الإقواء ثوب نعيم وهذا معنى مليح وإن أخذه من قول أعرابى: شطّت بهم عنك نية قذف ... غادرت الشعب غير ملتئم «1» واستودعت سرّها الديار فما ... تزداد طيبا إلّا على القدم وهذا ضدّ قول محمد بن وهيب: طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا قصد لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبّة مثل ما وجدوا وقال الأخطل: لأسماء محتلّ بناظرة البشر ... قديم ولمّا يعفه سالف الدّهر يكاد من العرفان يضحك رسمه ... وكم من ليال للديار ومن شهر هذا أيضا كقول أبى صخر الهذلى: لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بذات البين آياتها سطر كأنهما م الآن لم يتغيّرا ... وقد مرّ للدارين من بعدنا عصر «2» وقد قال مزاحم القيلى: تراها على طول القواء جديدة ... وعهد المغانى بالحلول قديم وقرأ الزبير بن بكار أخبار أبى السائب [المخزومى] فلما بلغ إلى قول مالك بن أسماء الفزارى: بكت الديار لفقد ساكنها ... أفعند قلبى أبتغى الصّبرا؟ هذا البيت نظير قول ابن وهيب: بيناهم سكن بجيرتهم ... ذكروا الفراق فأصبحوا سفرا فظللت ذا وله يعاتبنى ... من لا يرى أمرى له أمرا

وإن أبا السائب قال عند سماع البيت الاوسط: ما أسرع هذا! أما اهتدوا! أما قدّموا ركابا! أما ودّعوا صديقا! فقال الزبير: رحم الله أبا السائب! فكيف لو سمع قول العباس بن الأحنف: سألونا عن حالنا كيف أنتم ... فقرنّا وداعنا بالسؤال ما أنخنا حتى ارتحلنا فما ف ... رّقن بين النزول والإرتحال «1» هكذا رواه الزبير بن بكار لمالك بن أسماء، ورواها غيره لأيوب بن شبيب الباهلى. ومن ألفاظ أهل العصر، فى صفة الديار الخالية دار لبست البلى، وتعطّلت من الحلى. دار قد صارت من أهلها خالية، بعد ما كانت بهم حالية. دار قد أنفد البين سكانها، وأقعد حيطانها، شاهد اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر. كأنّ عمرانها يطوى وخرابها ينشر، أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركّع وهجود. يشبه الأول من قول مالك بن أسماء قول مزاحم العقيلى. بكت دار هم من فقدهم فتهلّلت ... دموعى، فأىّ الجاز عين ألوم؟ «2» أمستعبر يبكى على الهون والبلى ... أم آخر يبكى شجوه فيهيم أبو الطيب المتنبى: لك يا منازل فى القلوب منازل ... أقفرت أنت وهنّ منك أو اهل يعلمن ذاك، وما علمت، وإنما ... أولا كما يبكى عليه العاقل وقال على بن جبلة، فى معنى قول العباس بن الأحنف: زائر نمّ عليه حسنه ... كيف يخفى الليل بدرا طلعا بأبى من زارنى مكتتما ... خائفا من كلّ أمر جزعا

رصد الغفلة حتى أمكنت ... ورعى الحارس حتى هجعا ركب الأهوال فى زورته ... ثمّ ما سلّم حتى ودّعا وقال الحسين بن الضحاك: [بأبى زور تلفت له ... فتنفّست عليه الصّعدا «1» بينما أضحك مسرورا به ... إذ تقطّعت عليه كمدا «2» أبو الطيب المتنبى] : بأبى من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا فافترقنا حولا، فلما اجتمعنا ... كان تسليمه علىّ الوداعا وقال أبو الحسن جحظة: قال لى خالد الكاتب: دخلت يوما بعض الدّيارات فإذا أنا بشابّ موثق فى صفاد حسن الوجه؛ فسلّمت عليه، فردّ علىّ، وقال: من أنت؟ قلت: خالد بن يزيد، فقال: صاحب المقطعات الرقيقة؟ قلت: نعم! فقال: إن رأيت أن تفرّج عنى ببعض ما تنشدنى من شعرك فافعل، فأنشدته: ترشّفت من شفتيها عقارا ... وقبّلت من خدها جلنّارا «3» وعانقت منها كثيبا مهيلا ... وغصنا رطيبا وبدرا أنارا وأبصرت من نورها فى الظلام ... لكلّ مكان بليل نهارا فقال: أحسنت! لا يفضض الله فاك، ثم قال: أجز لى هذين البيتين: ربّ ليل أمدّ من نفس العا ... شق طولا قطعته بانتحاب وحديث ألذّ من نظر الوا ... مق بدّلته بسوء العتاب فوالله لقد أعملت فكرى فما قدرت أن أجيزهما. [ويمكن أن يجازا بهذا البيت: ووصال أقلّ من لمحة البا ... رق عوّضت عنه طول اجتناب]

[طول الليل]

[طول الليل] وقال ابن الرومى فى طول الليل: ربّ ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد ذى نجوم كأنهنّ نجوم ... الشّيب ليست تغيب لكن تزيد وهذا من أجود ما جاء فى هذا المعنى، وقد قال بشار: لخدّيك من كفيّك فى كلّ ليلة ... إلى أن ترى وجه الصباح وساد تبيت تراعى الليل ترجو نفاده ... وليس لليل العاشقين نفاد «1» وقال: خليلىّ ما بال الدّجى لا تزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضّح أضلّ النهار المستنير سبيله ... أم الدهر ليل كلّه ليس يبرح كأنّ الدجى زادت وما زادت الدجى ... ولكن أطال الليل همّ مبرّح وقال [أيضا] : طال هذا الليل، بل طال السهر ... ولقد أعرف ليلى بالقصر لم يطل حتى جفانى شادن ... ناعم الأطراف فتّان النظر «2» لى فى ليلى منه لوعة ... ملكت قلبى وسمعى والبصر فكأن الهمّ شخص ماثل ... كلما أبصره النوم نفر «3» وقال أيضا: كأنّ فؤاده كرة تنزّى ... حذار البين إن نفع الحذار «4» يروّعه السرار بكل شىء ... مخافة أن يكون به السّرار [كأن جفونه سملت بشوك ... فليس لنومه فيها قرار] أقول وليلتى تزداد طولا: ... أما للّيل بعدهم نهار

جفت عينى عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها فيها قصار قيل لبشار: من أين سرقت قولك: ... يروّعه السرار بكلّ شىء فقال: من قول أشعب الطمع، وقد قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت اثنين يتسارّان إلا ظننتهما يريدان أن يأمرا لى بشىء. وأخذه أبو نواس فقال: لا تبيحنّ حرمة الكتمان ... راحة المستهام فى الإعلان قد تستّرت بالسكوت وبالإطراق ... جهدى فنمّت العينان تركتنى الوشاة نصب المشيرين ... وأحدوثة بكل مكان ما نرى خاليين فى الناس إلا ... قلت ما يخلوان إلا لشانى ومثل قول بشار: جفت عينى عن التغميض ... البيت، قول الآخر: كأنّ المحبّ بطول السّهاد ... قصير الجفون ولم تقصر وقد تناول هذا المعنى العتابى [فأفسده وقال] : وفى المآقى انقباض عن جفونهما ... وفى الجفون عن الآماق تقصير وقال المتنبى: أعيدوا صباحى فهو عند الكواكب ... وردّوا رقادى فهو لحظ الحبائب كأنّ نهارى ليلة مدلهمّة ... على مقلة من فقدكم فى غياهب بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالى كلّ هدب بحاجب وقال الشعبى: تشاجر الوليد بن عبد الملك ومسلمة أخوه فى شعر امرئ القيس والنابغة فى طول الليل، أيهما أشعر؟ فقال الوليد: النابغة أشعر، وقال مسلمة: بل امرؤ القيس، فرضيا بالشعبى، فأحضراه، فأنشده الوليد: كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب «1» تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذى يرعى النجوم بآيب «2»

وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب «1» وأنشده مسلمة قول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لما تمطّى بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح، وما الإصباح منك بأمثل فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدّت بيذبل فطرب الوليد طربا، فقال الشعبى: بانت القضية. معنى قول النابغة: وصدر أراح الليل عازب همّه أنه جعل صدره مأوى للهموم، وجعل الهموم كالنّعم السارحة الغادية، تسرح نهارا ثم تأتى إلى مكانها ليلا. وهو أول من استثار هذا المعنى، ووصف أن الهموم مترادفة بالليل لتقييد الألحاظ عما هى مطلقة فيه بالنهار، واشتغالها بتصرّف اللحظ عن استعمال الفكر، وامرؤ القيس كره أن يقول: إن الهمّ يخفّ عليه فى وقت من الأوقات فقال: وما الإصباح منك بأمثل. وقال الطرماح بن حكيم الطائى: ألا أيها الليل الذى طال أصبح ... بيوم، وما الإصباح فيك بأروح على أن للعينين فى الصّبح راحة ... لطرحهما طرفيهما كلّ مطرح فنقل لفظ امرئ القيس ومعناه، وزاد فيه زيادة اغتفر له معها فحش السرقة وإنما تنبّه عليه من قول النابغة، إلا أنّ النابغة لوّح، وهذا صرّح. وقال ابن بسّام: لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أن نجوم الليل ليست تغور «2» ليلى كما شاءت، فإن لم تزر ... طال، وإن زارت فليلى قصير وإنما أغار ابن بسام على قول على بن الخليل فلم يغير إلا القافية:

ألفاظ لأهل العصر فى طول الليل والسهر وما يعرض فيه من الهموم والفكر

لا أظلم الليل ولا أدعى ... أنّ نجوم الليل ليست تزول ليلى كما شاءت، قصير إذا ... جادت، وإن ضنّت فليلى طويل وهذه السرقة كما قال البديع فى التنبيه على أبى بكر الخوارزمى فى بيت أخذ رويّه وبعض لفظه: «وإن كانت قضية القطع تجب فى الربع، فما أشد شفقتى على جوارحه [أجمع] ؛ ولعمرى إن هذه ليست سرقة، وإنما هى مكابرة محضة، وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقال: هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فحسبت أن ربيعة ابن مكدم وعتيبة بن الحارث بن شهاب كانا لا يستحلّان من البيت ما استحله، فإنهما كانا يأخذان جلّه «1» ، وهذا الفاضل قد أخذ كله، وقد أخذ على بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان: لا أسأل الله تغييرا لما صنعت ... نامت وإن أسهرت عينىّ عيناها فالليل أطول شىء حين أفقدها ... والليل أقصر شىء حين ألقاها وابن بسام فى هذا [الشعر] كما قال الشاعر: وفتى يقول الشعر إلا أنه ... فى كل حال يسرق المسروقا ألفاظ لأهل العصر فى طول الليل والسهر وما يعرض فيه من الهموم والفكر ليلة من غصص الصّدر، ونقم الدهر. ليلة هموم وغموم، كما شاء الحسود، وساء الودود. ليلة قصّ جناحها، وضلّ صباحها. ليل ثابت الأطناب، طامى الغوارب، طامح الأمواج «2» ، وافى الذّوائب. ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار. بات بليلة نابغية، يراد قوله:

ولهم فيما يتصل بضد ذلك من ذكر [إقبال] الليل وانتشار الظلمة، وطلوع الكواكب

فبت كأنى ساورتنى ضئيلة ... من الرّقش فى أنيابها السّمّ ناقع «1» [يسهّد من ليل التمام سليمها ... لحلى النساء فى يديه قعاقع] بات فى الصيف بليلة شتوية. سامرته الهموم، وعانقته الغموم، واكتحل المهاد، وافترش القتاد، فاكتحل «2» بملمول السهر، وتململ على فراش الفكر. قد أقضّ مهاده، وقلق وساده. هموم تفرّق بين الجنب والمهاد، وتجمع بين العين والسّهاد. طرف برعى النجوم مطروف، وفراش بشعار الهمّ محفوف. كأنه على النجوم رقيب، وللظلام نقيب. ولهم فيما يتصل بضدّ ذلك من ذكر [إقبال] الليل وانتشار الظلمة، وطلوع الكواكب أقبلت عساكر الليل، وخفقت رايات الظلام. وقد أرخى الليل علينا سدوله، وسحب الظلام فينا ذيوله. توقّد الشفق فى ثوب الغسق. أقبلت وفود النجوم [وجاءت مواكب الكواكب. تفتّحت أزاهير النجوم] ، وتوردت حدائق الجو، وأذكى الفلك مصابيحه. قد طفت النجوم فى بحر الدّجى، ولبس الظلام جلبابا من القار. ليلة كغراب الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها فى لباس بنى العباس «3» ليلة كأنها فى لباس الثكالى، وكأنها من الغيش فى مواكب الحبش. ليلة قد حلك إهابها، فكأنّ البحر يهابها. ولهم فى ذكر النوم والنعاس شرب كأس النعاس، وانتشى من خمر الكرى «4» ، قد عسكر النّعاس بطرفه، وخيّم بين عينيه. غرق فى لجّة الكرى، وتمايل فى سكرة النوم. قد كحل الليل الورى بالرقاد، وشامت الأعين أجفانها فى الأغماد.

وفى انتصاف الليل وتناهيه، وانتشار النور، وأفول النجوم

وفى انتصاف الليل وتناهيه، وانتشار النور، وأفول النجوم قد اكتمل الظلام. قد انتصفنا عمر الليل، واستغرقنا شبابه. قد شاب رأس الليل، كاد ينمّ النسيم بالسّحر. قد انكشف غطاء الليل. انهتك «1» ستر الدّجى، وشمطت ذوائبه، وتقوّس ظهره، وتهدّم عمره. قوّضت خيام الليل، وخلع الأفق ثوب الدّجى. أعرض الظلام وتولى، [وتدلّى] عنقود الثريا طرز قميص الليل بغرّة الصبح، وباح الصبح بسرّه. خلع الليل ثيابه، وحدر الصبح نقابه. لاحت تباشير الصبح، وافترّ الفجر عن نواجذه، وضرب النور فى الدّجى بعموده. بثّ الصبح طلائعه. تبرقع الليل بغرّة الصبح. أطار بازى الصبح غراب الليل «2» ، وعزلت نوافج الليل «3» بجامات الكافور، وانهزم جند الظلام عن عسكر النور. خلعنا خلعة الظّلام، ولبسنا رداء الصباح، وملأ الآذان برق الصباح، وسطع الضوء، وطلع النور، وأشرقت الدنيا، وأضاءت الآفاق. مالت الجوزاء للغروب، وولت مواكب الكواكب، وتناثرت عقود النجوم، وفرّت أسراب النجوم من حدق الأنام، وهى نطاق الجوزاء، وانطفأ قنديل الثريا. قال بعض الأعراب: خرجنا فى ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها، فمحت صورة الأبدان، فما كنّا نتعارف إلا بالآذان. قال ابن محكان السعدى: وليل يقول الناس فى ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها كأن لنا منه بيوتا حصينة ... مسوحا أعاليها وساجا ستورها «4» وهدا بارع جدّا. أراد أنّ أعلاه أشدّ ظلاما من جوانبه. وقال أعرابى فى صفته: خرجت حين انحدرت النجوم، وشالت أرجلها،

فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر. ومن بديع الشعر فى صفة الليل قول الأعرابى: والليل يطرده النهار ولا ترى ... كالليل يطرده النهار طريدا فتراه مثل البيت مال رواقه ... هتك المقوّض ستره الممدودا ومن اليديع: على حين أثنى القوم خيرا على السّرى ... وطارت بأخرى الليل أجنحة الفجر آخر: وليل ذى غياطل مدلهمّ ... رميت بنجمه عرض الأفول يردّ الطرف منقبصا كليلا ... ويملأ هوله صدر الذّليل ابن المعتز: هامت ركائبنا إليك بنا ... بظليل أهل النار والمنح فكأنّ أيديهن دائبة ... يفحصن ليلتهنّ عن صبح وقال كشاجم: سيا لليل قصرت مدّته ... بدير مرّان مرّ مشكورا وبات بدر الدجى يشعشعها ... نوريّة تملأ الدّجى نورا «1» غارت على نفسها وقد سفرت ... فعاد جيب الحباب مزرورا حتى رأيت الظلام يدرجه الغرب ... ودرج الصباح منشورا «2» فاختلط الليل والنهار كما ... تخلط كفّ مسكا وكافورا وقال على بن محمد الكوفى: متى أرتجى يوما شفاء من الضّنا ... إذا كان جانيه علىّ طبيبى ولى عائدات ضفتهن فجئن فى ... لباس سواد فى الظلام قشيب «3» نجوم أراعى طول ليلى بروجها ... وهنّ لبعد السير ذات لغوب

[أخو الصفاء قريب]

خوافق فى جنح الظلام كأنها ... قلوب معنّاة بطول وجيب «1» ترى حوتها فى الشرق ذات سباحة ... وعقربها فى الغرب ذات دبيب «2» إذا ما هوى الإكليل منها حسبته ... تهدّل غصن فى الرياض رطيب كأنّ التى حول المجرّة أوردت ... لتكرع فى ماء هناك صبيب كأنّ رسول الصّبح يخلط فى الدّجى ... شجاعة مقدام بجبن هيوب كأنّ اخضرار البحر صرح ممرّد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب «3» كأنّ سواد الليل فى ضوء صبحه ... سواد شباب فى بياض مشيب كأنّ نذير الشمس يحكى ببشره ... علىّ بن داود أخى ونسيبى ولولا اتّقائى عتبه قلت سيدى ... ولكن يراها من أجلّ ذنوبى جواد بما تحوى يداه مهذب ... أديب غدا خلّا لكلّ أديب نسيب إخاء وهو غير مناسب ... قريب صفاء وهو غير قريب ونسبة ما بين الأقارب وحشة ... إذا لم يؤنّسها انتساب قلوب [أخو الصفاء قريب] وهذا البيت كقول الطائى: وقلت أخى قالوا أخ من قرابة ... فقلت لهم إنّ الشكول أقارب [نسيبى فى رأيى وعزمى ومذهبى ... وإن باعدتنا فى الأصول المناسب] وقال عبد السلام بن رغبان «4» ، وسلك طريق الطائى [فما ضلّ عنها] : أخ كنت أبكيه دما وهو حاضر ... حذارا، وتعمى مقلتى وهو غائب بكاء أخ لم تحوه بقرابة ... بلى إنّ إخوان الصفاء أقارب فمات فما شوقى إلى الأجر واقف ... ولا أنا فى عمرى إلى الله راغب وأظلمت الدنيا التى أنت نورها ... كأنك للدنيا أخ ومناسب

يبرّد نيران المصائب أننى ... أرى زمنا لم تبق فيه مصائب وفى هذه القصيدة: ترشّفت أيامى وهنّ كوالح ... إليك، وغالبت الرّدى وهو غالب ودافعت فى كيد الزمان ونحره ... وأىّ يد لى والزّمان المحارب؟ وقلت له: خلّ ابن أمّى لعصبة ... وهأنا أو فازدد فإنّا عصائب فوالله إخلاصا من القول صادقا ... وإلّا فحبّى آل أحمد كاذب لو أن يدى كانت شفاءك أو دمى ... دم القلب حتى يقضب الحبل قاضب لسلّمت تسليم الرّضا واتخذتها ... يدا للرّدى ما حجّ لله راكب فتى كان مثل السيف من حيث جئته ... لنائبة نابتك فهو مضارب فتى همّه حمد على الدهر رائح ... وإن ناب عنه ماله وهو عازب شمائل إن تشهد فهنّ مشاهد ... عظام، وإن ترحل فهنّ ركائب وقال الطائى لعلىّ بن الجهم: إن يكد مطّرف الإخاء فإنّنا ... نغدو ونسرى فى إخاء تالد «1» أو يفترق نسب يؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد «2» وقال محمد بن موسى بن حماد: سمعت علىّ بن الجهم، وذكر دعبلا فلعنه، وكفره، وقال: وكان يطعن على أبى تمام، وهو خير منه دينا وشعرا، فقال رجل: لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك له. فقال: إلّا يكن أخا نسب فهو أخو أدب، أما سمعت ما خاطبنى به؟ وأنشد الأبيات:

[وصف النجوم]

وقال رجل لابن المقفع: إذا لم يكن أخى صديقى لم أحببه، قال: نعم صدقت، الأخ نسيب الجسم، والصديق نسيب الروح. وقال أبو تمام يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات: أبا جعفر إن الجهالة أمّها ... ولود، وأمّ العلم جدّاء حائل «1» أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم ... شعوب تلاقت دوننا وقبائل غدوا وكأنّ الجهل يجمعهم أبا ... وحظ ذوى الآداب فيهم نوافل فكن هضبة تأوى إليها وحرة ... يعرّد عنها الأعوجىّ المناقل «2» فإن الفتى فى كل حال مناسب ... مناسب روحانية من يشاكل وقال البحترى لأبى القاسم بن خرداذبه: إن كنت من فارس فى بيت سؤددها ... وكنت من بحترى البيت والنسب «3» فلم يضرنا تنائى المنصبين وقد ... رحنا نسيبين فى علم وفى أدب إذا تقاربت الآداب والتأمت ... دنت مسافة بين العجم والعرب [وصف النجوم] وقد احتذى طريقه أبو القاسم محمد بن هانىء، فقال يمدح جعفر بن على، وذكر النجوم، فقال: جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدّت لنا الظلماء من جلدها لحفا فمن كبد تدنى إلى كبد هوى ... ومن شفة توحى إلى شفة رشفا بعيشك نبّه كأسه وجفونه ... فقد نبّه الإبريق من بعد ما أغفى وقد فكّت الظلماء بعض قيودها ... وقد قام جيش الليل للفجر فاصطفا

وولّت نجوم للثريا كأنها ... خواتم تبدو فى بنان يد تخفى ومرّ على آثارها دبرانها ... كصاحب ردء أكمنت خيله خلفا «1» وأقبلت الشّعرى العبور ملبة ... بمرزمها اليعبوب نجنبه طرفا وقد بادرتها أختها من ورائها ... لتخرق من ثنيى مجرّتها سجفا تخاف زئير الليث يقدم نثرة ... وبربر فى الظلماء ينسفها نسفا كأنّ السماكين اللّذين تظاهرا ... على لبدتيه ضامنان له الحتفا فذا رامح يهوى إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا كأن رقيب النجم أجدل مرقب ... يقلّب تحت الليل فى ريشه طرفا كأن سهيلا فى مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا كأنّ بنى نعش ونعشا مطافل ... بوجرة قد أضللن فى مهمه خشفا كأن سهاها عاشق بين عوّد ... فآونة يبدو وآونة يخفى كأن معلّى قطبها فارس له ... لواءان مر كوزان قد كره الزّحفا كأن قدامى النّسر والنّسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافى به ضعفا كأنّ أخاه حين دوّم طائرا ... أتى دون نصف البدر فاختطف النّصفا كأنّ الهزيع الآبنوسىّ موهنا ... سرى بالنسيج الخسروانىّ ملتفّا «2» كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا كأنّ عمود الفجر خاقان عسكر ... من الترك نادى بالنجاشىّ فاستخفى كأن لواء الشمس غرّة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا وقال ابن طباطبا [العلوى] : كأن اكتتام المشترى فى سحابه ... وديعة سرّ فى ضمير مديع كأن سهيلا والنجوم أمامه ... يعارضها راع وراء قطيع

وقد لاحت الشّعرى العبور كأنها ... تقلّب طرف بالدموع هموع وأضحعت الجوزاء فى أفق غربها ... فباتت كنشوان هناك صريع إلى أن أجاب الليل داعى صبحه ... وكان ينادى منه غير سميع وقال: وكأنّ الهلال لما تبدّى ... شطر طوق المرآة ذى التذهيب أو كقوس قد انحنت طرفاه ... أو كتون فى مهرق مكتوب وقال على بن محمد العلوى يصف القمر، وقد طرح جرمه على دجلة: لم أنس دجلة والدّجى متصرّم ... والبدر فى أفق السماء مغرّب فكأنها فيه رداء أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب وقال [الأمير] تميم بن المعز، وكان يحتذى مثل ابن المعتز، ويقف فى التشبيهات بجانبه، ويفرغ فيها على قالبه، ويتبعه [فى] سلوك ألفاظ الملوك: اسقيانى فلست أصغى لعذل ... ليس إلّا تعلّة النفس شغلى أأطيع العذول فى ترك ما أهوى ... كأنى اتهمت رأيى وعقلى عللانى بها فقد أقبل الليل ... كلون الصدود من بعد وصل وانجلى الغيم بعد ما أضحك الرّو ... ض بكاء السحاب جاد بوبل عن هلال كصولجان نضار ... فى سماء كأنّها جام ذبل وقال: ربّ صفراء علّلتنى بصفرا ... وجنح الظّلام مرخى الإزار بين ماء وروضة وكروم ... ورواب منيفة وصحار «1» تتثنّى به الغصون علينا ... وتجيب القيان فيها القمارى «2»

من وصف الشراب والكؤس والسقاة فى الليل

وكأن الدّجى غدائر شعر ... وكأنّ النجوم فيها مدارى «1» وانجلى الغيم عن هلال تبدّى ... فى يد الأفق مثل نصف سوار وقال: عتبت فانثنى عليها العتاب ... ودعا دمع مقلتيها انسكاب وضعت نحو خدّها بيديها ... فالتقى الياسمين والعناب «2» ربّ مبدى تعتّب جعل العتب ... رياء وهمّه الإعتاب فاسقنيها مدامة تصبغ الكا ... س كما يصبغ الخدود الشباب ما ترى الليل كيف رقّ دجاه ... وبدا طيلسانه ينجاب؟ وكأنّ الصباح فى الأفق باز ... والدّجى بين مخلبيه غراب وكأنّ السماء لجّة بحر ... وكأنّ النجوم فيها حباب وكأنّ الجوزاء سيف صقيل ... وكأنّ الدّجى عليها قراب من وصف الشراب والكؤس والسّقاة فى الليل وقال: وزنجيّة الآباء كرخيّة الجلب ... عببريّة الأنفاس كرميّة النّسب «3» كميت بزلنا دنّها فتفجّرت ... بأحمر قان مثل ما قطر الذّهب فلما شربناها صبونا كأنّنا ... شربنا السرور المحض واللهو والطّرب ولم نأت شيئا يسخط المجد فعله ... سوى أننا بعنا الوقار من اللّعب كأن كؤوس الشّرب وهى دوائر ... قطائع ماء جامد تحمل اللهب يمدّ بها كفا خضيبا مديرها ... وليس بشىء غيرها هو مختضب فبتنا نسقّى الشمس والليل راكد ... ونقرب من بدر السماء وما قرب

وقد حجب الغيم الهلال كأنه ... ستارة شرب خلفها وجه من أحبّ [كأنّ الثريّا تحت حلكة لونها ... مداهن بلّور على الأرض تضطرب] وقال: كأنّ السحاب الغرّ أصبحن أكؤسا ... لنا، وكأنّ الراح فيها سنا البرق إلى أن رأيت النجم وهو مغرّب ... وأقبل رايات الصباح من الشرق كأن سواد الليل والصبح طالع ... بقايا مجال الكحل فى الاعين الزّرق وقال: وكأس يعيد العسر يسرا، ويجتنى ... ثمار الغنى للشّرب من شجر الفقر يولّد فيها المزج درّا منضّدا ... كما فتّتت فوق الثرى نقط القطر «1» صغار وكبرى فى الكؤوس كأنها ... على الرّاح واوات تجمّعن فى سطر إذا حثّها الساقى الأغرّ حسبتها ... نجوم الثريا لحن فى راحة البدر صبحت بها صحبى وقدر ندج الدّجى ... بفضّة لألاء الصباح سنا الفجر «2» وقد أزهرت بيض النجوم كأنّها ... على الأفق الأعلى قلائد من درّ وقال: ألا فاسقيانى قهوة ذهبية ... فقد ألبس الآفاق جنح الدجى دعج كأنّ الثريا والظلام يحفّها ... فصوص لجئين قد أحاط بها سبج «3» كأنّ نجوم الليل تحت سواده ... إذا جنّ زنجىّ تبسّم عن فلج وقال: أيا دير مرحنا سقتك رعود ... من الغيم يهمى مزنها ويجود فكم واصلتنا فى رباك أوانس ... يطفن علينا بالمدامة غيد

[وكم ناب عن نور الضحى فيك مبسم ... ونابت عن الورد الجنىّ خدود] وماست على الكثبان قضبان فضّة ... فأثقلها من حملهنّ نهود وإذ لمّتى لم يوقظ الشيب ليلها ... وإذ أثرى فى الغانيات حميد ليالى أغدو بين ثوبى صبابة ... ولهو، وأيام الزمان هجود وقال: سألته قبلة منه على عجل ... فاحمرّ من خجل واصفرّ من وجل واعتلّ ما بين إسعاف يرقّقه ... وبين منع تمادى فيه بالعلل «1» وقال: وجهى بدر لا خفاء به ... ومبصر البدر لا يدعوه للقبل وهذا ينظر إلى قوله: أباح لمقلتى السهرا ... وجار علىّ واقتدرا غزال لو جرى نفسى ... عليه لذاب وانفطرا ولكن عينه حشدت ... علىّ الغنج والحورا ومن أودى به قمر ... فكيف يعاتب القمرا كأنه ذهب إلى قول أبى نواس: كأنّ ثيابه أطلعن ... من أزراره قمرا يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا بعين خالط التفتير ... من أجفانها الحورا ووجه سابرى لو ... تصوّب ماؤه قطرا «2» قيل للجاحظ: من أنشد الناس وأشعرهم؟ قال: الذى يقول: وأنشد هذه الأبيات. ونظير قوله:

من المختار من شعر تميم بن المعز

كأنّ ثيابه أطلعن ... من أزراره قمرا قول الحكم «1» بن قنبر المازنى: ويلى على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبى إلى أوجاعه وجعا وقال تميم: نقّبت وجهها بخر وجاءت ... بمدام منقّب بزجاج فتأمّلت فى النقابين منها ... قمرا طالعا وضوء سراج فاسقيانى بلا مزاج فإنى ... فى المعالى صرف بغير مزاج وانظر الأفق كيف بدّله الإصب ... اح من بعد آبنوس بعاج وقال: إذا حذرت زمانا لا تسرّ به ... كم قد أتى سهل دهر بعد أصعبه «2» فاقبل من الدهر ما أعطاك مختلطا ... لعل مرّك يحلو فى تقلّبه خذها إليك، ودع لومى، مشعشعة ... من كفّ أقنى أسيل الخدّ مذهبه «3» فى كل معقد حسن فيه معترض ... عليه يحميه من أن تستبدّ به فكحل عينيه ممنوع بخنجره ... وورد خدّيه محمىّ بعقربه لا تترك القدح الملآن فى يده ... إنى أخاف عليه من تلهّبه فصنه عن سقينا؛ إنى أغار به ... وسقّه واسقنى من فضل مشربه وانظر إلى الليل كالزّنجىّ منهزما ... والصبح فى إثره يعدو بأشهبه والبدر منتصب ما بين أنجمه ... كأنه ملك ما بين موكبه من المختار من شعر تميم بن المعز وإذ أفضيت إلى ذكره، فهاك من مختار شعره، [قال] :

مستقبل بالذى يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومقبول بما صنعا فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا كأنما الشمس من أثوابه برزت ... حسنا، أو البدر من أزراره طلعا استعارة [مأخوذة] من قول الآخر، وهو ابن زريق: أستودع الله فى بغداد لى قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ومن قول أحمد بن يحيى الفران: بدا فكأنما قمر ... على أزراره طلعا يحثّ المسك من عرق الجبين ... بنانه ولعا وقال أبو ذر أستاذ سيف «1» الدولة: نفسى الفداء لمن عصيت عواذلى ... فى حبّه لم أخش من رقبائه الشمس تظهر فى أسرّة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه «2» وقال تميم: أأعذل قلبى وهو لى غير عاذل ... وأعصى غرامى وهو ما بين أضلعى ومن لى بصبر أستزيل به الجوى ... ولا جلدى طوعى ولا كبدى معى فأوّل شوقى كان آخر سلوتى ... وآخر صبرى كان أوّل أدمعى وقال: ورد الخدود أرقّ من ... ورد الرياض وأنعم هذا تنشّقه الأنو ... ف وذا يقبّله الفم وإذا عدلت فأفضل ... الوردين ورد يلثم لا ورد إلّا ما تولّى ... صبغ حمرته الدّم هذا يشمّ ولا يضمّ ... وذا يضمّ ويشمم «3»

سبحان من خلق الخدود ... د شقائقا تتنسّم وأعارها الأصداغ فهى ... بها شقيق يعلم واستنطق الأجفان فهى ... بلحظها تتكلّم وتبين للمحبوب عن ... سرّ الحبيب فيفهم وتشير إن رأت الرقيب ... بلحظها فتسلّم وأعارها مرضا تصحّ ... به القلوب وتسقم فتن العيون أجلّ من ... فتن الخدود وأعظم وقال: إن كانت الألحاظ رسل القلوب ... فينا فما أهون كيد الرقيب قبّلت من أهوى بعينى ولم ... يعلم بتقبيلى خدّ الحبيب لكنّه قد فطنت عينه ... بلحظ عينى فطنة المستريب إن كان علم الغيب مستخفيا ... عنّا فعند اللّحظ علم الغيوب وقال: قالوا الرحيل لخمسة ... تأتى سريعا من جمادى فأجبتهم إنى اتخذ ... ت له الأسى والحزن زادا «1» سبحان من قسم الأسى ... بين الأحبّة والبعادا وأعار للأجفان حسنا ... تسترقّ به العبادا وقال: عقرب الصّدغ فوق تفّاحة الخدّ ... نعيم مطرّز بعذاب وسيوف اللحاظ فى كلّ حين ... مانعات جنى الثنايا العذاب «2» وعيون الوشاة يفسدن بالرّقبة ... والمنع رؤية الأحباب «3»

[عود إلى وصف النجوم]

فمتى يشتفى المحبّ وتطفى ... بالتدانى حرارة الإكتئاب وقال: ترى عذاريه قد قاما بمعذرتى ... عند العذول فيغدو وهو يعذرنى ريم كأنّ له فى كل جارحة ... عقدا من الحسن أو نوعا من الفتن كأنّ جوهره من لطفه عرض ... فليس تحويه إلا أعين الفطن والله ما فتنت عينى محاسنه ... إلا وقد سحرت ألفاظه أذنى ما تصدر العين عنه لحظها مللا ... لأنه كلّ شخص مرتضى حسن يا منتهى أملى لا تدن لى أجلى ... ولا تعذّب ظنونى فيك بالظنن إن كان وجهك وجها صيغ من قمر ... فإن قدّك قدّ قدّ من غصن وقال: ألا يا نسيم الريح عرّج مسلّما ... على ذلك الشخص البعيد المودّع وهبّ على من شفّ جسمى بعاده ... سموما بما استمليت من نار أضلعى «1» فإن قال: ما هذا الحرور؟ فقل له: ... تنفّس مشتاق بحبّك موجع ومختار شعره كثير، وقد تفرّق منه قطعة كافية فى أعراض الكتاب. [عود إلى وصف النجوم] رجع ما انقطع قال الصاحب أبو القاسم إسمعيل بن عبّاد: لقد رحلت سعدى فهل لك مسعد؟ ... وقد أنجدت دارا فهل أنت منجد؟ رعيت بطرفى النجم لما رأيتها ... تباعد بعد النّجم بل هى أبعد تنير الثريّا وهى قرط مسلسل ... ويشغل منها الطرف درّ مبدّد «2» وتعترض الجوزاء وهى ككاعب ... تميّل من سكر بها وتميّد «3»

وتحسبها طورا أسير جناية ... ترشّح بعد المشى وهو مقيّد ولاح سهيل وهو للصّبح راقب ... كما سلّ من غمد جراز مهنّد «1» أردّد طرفى فى النجوم كأنها ... دنانير لكنّ السماء زبرجد رأيت بها، والصبح ما حان ورده ... قناديل والخضراء صرح ممرّد «2» وفيه لنا من مربط الشمس أشقر ... إذا ما جرى فالريح تكبو وتركد وقال أبو على الحاتمى: وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصّبح فى الليل عسكر ونجم الثريا فى السماء كأنه ... على حلّة زرقاء جيب مدنّر «3» البحترى: ولقد سريت مع الكواكب راكبا ... أعجازها بعزيمة كالكوكب والليل فى لون الغراب كأنه ... هو فى حلوكته وإن لم ينعب والعيس تنصل من دجاه كما انجلى ... صبغ الخضاب عن القذال الأشيب حتى تبدّى الفجر من جنباته ... كالماء يلمع من خلال الطّحلب وقال الأمير أبو الفضل الميكالى. أهلا بفجر قد نضى ثوب الدّجى ... كالسيف جرّد من سواد قراب «4» أو غادة شقّت صدارا أزرقا ... ما بين ثغرتها إلى الأتراب «5» وقال رجل من بنى الحارث بن كعب يصف الشمس: مخبأة أمّا إذا الليل جنّها ... فتخفى وأمّا بالنهار فتظهر إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وانجاب الحجاب المستّر وألبس عرض الأرض لونا كأنه ... على الأفق الشرقىّ ثوب معصفر تجلّت وفيها حين يبدو شعاعها ... ولم يعل للعين القصيرة منظر «6»

[أجمل ما قال العرب]

عليها كردع الزعفران يشبّه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر «1» فلما علت وابيضّ منها اصفرارها ... وجالت كما جال المنيح المشهّر «2» وجللت الآفاق ضوءا ينيرها ... بحرّ لها وجه الصّحى تتسعّر «3» ترى الظل يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت عن الأرض ينشر كما بدأت إذ أشرقت فى مغيبها ... تعود كما عاد الكبير المعمّر وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبين إذا ولّت لمن يتبصّر فأفنت قرونا وهى فى ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كلّ يوم وتنشر [أجمل ما قال العرب] وقال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه يوما: ما أحكم أربعة أبيات قالتها العرب فى الجاهلية؟ فأنشده: منع البقاء تقلّب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسى وطلوعها بيضاء صافية ... وغيوبها صفراء كالورس تجرى على كبد السماء كما ... يجرى حمام الموت فى النّفس اليوم تعلم ما يجىء به ... ومضى بفصل قضائه أمس قال: أحسنت، فأخبرنى بأمدح بيت قالته العرب فى الشجاعة، قال: قول كعب بن مالك الأنصارى: نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما، ونلحقها إذا لم تلحق قال: فأخبرنى بأفضل بيت قيل فى الجود، فأنشده لحاتم طيىء:

ومن ألفاظ أهل العصر فى طلوع الشمس وغروبها ومتوع النهار وانتصافه، وابتدائه، وانتهائه

أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ترى أن ما أبقيت لم أك ربّه ... وأن يدى مما بخلت به صفر ألم تر أنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى ... فكلّا سقاناه بكأ سيهما الدّهر فما زادنا بغيا على ذى قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر قال: فأخبرنى عن أحسن الناس وصفا، قال: الذى «1» يقول: كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى والذى يقول: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذى لم يثقّب والذى يقول: وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر سماحة ذا، مع برّذا، ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر يريد امرأ القيس. ومن ألفاظ أهل العصر فى طلوع الشمس وغروبها ومتوع النهار «2» وانتصافه، وابتدائه، وانتهائه بدا حاجب الشمس، ولمعت فى أجنحة الطير، وكشفت قناعها، ونثرت شعاعها، وارتفع سرادقها، وأضاءت مشارقها، وانتشر جناح الضوء فى أفق الجو. طنّب شعاع الشمس فى الآفاق، وذهّبت أطراف الجدران. أينع النهار «3» وارتفع. استوى شباب النهار، وعلا رونق الضحى، وبلغت الشمس كبد السماء

انتعل كل شىء ظلّه، وقام قائم الهاجرة، ورمت الشمس بجمرات الظهر. اصفرّت غلالة الشمس، وصارت كأنها الدينار يلمع فى قرار الماء، ونفضت تبرا على الأصيل، وشدّت رحلها للرحيل، وتصوّبت الشمس للمغيب، وتضيّفت للغروب «1» فأذن جنبها للوجوب «2» . شاب النهار، وأقبل شباب الليل، ووقفت الشمس للعيان، وشافه الليل لسان النهار. الشمس قد أشرقت بروجها، وجنحت للغروب، وشافهت درج الوجوب. الجوّ فى أطمار منهجة من أصائله «3» ، وشفوف مورّسة من غلائله. استتر وجه الشمس بالنّقاب، وتوارت بالحجاب. كان هذا الأمر من مطلع الفلق، إلى مجتمع الغسق. فلان يركب فى مقدمة الصّبح، ويرجع فى ساقة الشفق، ومن حين تفتح الشمس جفنها، إلى أن تغمض طرفها، ومن حين تسكن الطير أوكارها، إلى حين ينزل السّراة من أكوارها مقامة لأبى الفتح الإسكندرى من إنشاء البديع، اتصلت بذكر الليل والنهار قال عيسى بن هشام: كنت وأنا فتىّ السنّ أشدّ رحلى لكلّ عماية، وأركض طرفى لكل غواية، حتى شربت من العمر سائغه، ولبست من الدهر سابغه، فلمّا صاح النهار بجانب ليلى، وجمعت للمعاد ذيلى، وطئت ظهر المروضة، لأداء المفروضة، وصحبنى فى الطريق رجل لم أنكره من سوء، فلما تخالينا، وحين تجالينا، سفرت القصّة عن أصل كوفىّ، ومذهب صوفىّ، وسرنا فلما حللنا الكوفة ملنا إلى داره [ودخلناها] وقد بقل وجه النهار، واخضرّ جانبه، ولما اغتمض جفن الليل وطرّشار به قرع علينا الباب، فقلنا: من القارع المنتاب؟ فقال: وفد الليل وبريده، وفلّ الجوع وطريده، وأسير

[من رسائل البديع]

الضّر، والزمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف، وضالّته رغيف، وجار يستعدى على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب أوقدت النار على سفره، ونبح العوّاء فى أثره «1» ، ونبذت خلفه الحصيّات، وكنست بعده العرصات، فنضوه طليح، وعيشه تبريح «2» ، ومن دون أفراخه مهامه فيح «3» . قال عيسى بن هشام: فقبضت من كيسى قبضة الليث وبعثتها إليه، وقلت زدنا سؤالا نزدك نوالا، فقال: ما عرض عرف العود، على أحرّ من نار الجود، ولا لقى وفد البرّ، بأحسن من بريد الشكر، ومن ملك الفضل فليواس، فلا يذهب العرف بين الله والناس، وأما أنت فحقّق الله أملك، وجعل اليد العليا لك. قال عيسى بن هشام: ففتحنا الباب، فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فقلنا: يا أبا الفتح، شدّ ما بلغت بك الخصاصة، وهذا الزىّ خاصة! فتبسم وأنشأ يقولى: لا يغرنّك الذى ... أنا فيه من الطلب أنا فى بردة تشقّ ... لها بردة الطّرب أنا لو شئت لاتّخذ ... ت شقاقا من الذهب [من رسائل البديع] وكتب البديع إلى بعض إخوانه: غضب العاشق أقصر عمرا من أن ينتظر عذرا، وإن كان فى الظاهر مهابة سيف، إنه فى الباطن سحابة صيف، وقد رابنى إعراضه صفحا، أفجدّا قصد أم مزحا، ولو التبس القلبان حقّ التباسهما ما وجد الشيطان بينهما مساغا، ولا والله لا أريك ردّا، أجد منه بدّا، وإن محبة تحتمل شكّا لأجدر محبة، ألّا تشترى بحبّة، وإن كان

قصد مزحا فما أغنانا عن مزح يحلّ عقد الفؤاد [حتى نقف على المراد، ولا تسعنا إلا العافية] والسلام. وله إليه: المودّة- أعزّك الله- غيب، وهو فى مكان من الصّدر، لا ينفذه بصر، ولا يدركه نظر، ولكنها تعرف ضرورة، وإن لم تظهر صورة، ويدركها الناس، وإن لم تدركها الحواسّ، ويستملى المرء صحيفتها من صدره، ويعلم حال غيره من نفسه، ويعلم أنها حبّ وراء القلب، وقلب وراء الخلب «1» ، وخلب وراء العظم، وعظم وراء اللحم، ولحم وراء الجلد، وجلد وراء البرد، وبرد [وراء البعد] . ولو كانت هذه الحجب قوارير لم ينفذها نظر، فيستدلّ عليها بغير هذه الحاسّة بدليل إلّا أن أزوره، والله لو التبست به التباسا، يجعل رأسينا رأسا، مازدته ودّا، ولو حال بينى وبينه سور الأعراف، ورمل الأحقاف، ما نقصته حقا. وقال الأمير أبو الفضل الميكالى: وغزال منخته ظاهر الودّ ... فجازى بالصدّ والإنتحاب لم ألمه إن ردّنى لحجاب ... ردّنى واله الفؤاد لما بى «2» هو روح وليس ينكر للرّو ... ح توار عن الورى بحجاب وللبديع إلى أخيه: كتابى أطال الله بقاءك، ونحن وإن بعدت الدار فرعا نبعة، فلا يجنينّ بعدى على قربك، ولا تمحونّ ذكرى من قلبك، فالأخوان، وإن كان أحدهما بخراسان والآخر بالحجاز، مجتمعان على الحقيقة مفترقان على المجاز، والاثنان، فى

جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار

المعنى واحد وفى اللفظ اثنان، وما بينى وبينك إلا ستر، طوله فتر، وإن صاحبنى رفيق، اسمه توفيق، لنلتقينّ سريعا ولنسعدنّ جميعا، والله ولىّ المأمول. وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه: قد قرب- أيدك الله- محلّك على تراخيه، وتصاقب مستقرّك على تنائيه؛ لأنّ الشوق يمثّلك، والذكر يخيّلك؛ فنحن فى الظاهر على افتراق، وفى الباطن على تلاق، وفى التسمية متباينون، وفى المعنى متواصلون، وإن تفارقت الأشباح، لقد تعانقت الأرواح. جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار الدهر سريع الوثبة، شنيع العثرة. أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام. والناس وفد البلى، وسكأن الثّرى، وأقران الرّدى. المرء نصب الحوادث وأسير الاغترار. الآمال حصائد «1» الرجال. الحرص ينقص المرء من قدره، ولا يزيد فى رزقه. الكذب والحسد والنفاق أثافىّ الذلّ. النّمام جسر الشر. الحاسد اسمه صديق ومعناه عدوّ الحاسد ساخط على القدر، مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه، يشفيك [منه] أنه يغتمّ فى وقت سرورك. الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود. الصبر من ذى المصيبة مصيبة على ذوى الشّمات. التواضع سلّم الشرف، والجود صوان العرض من الذم. الغدر قاطع. [الأسرار] إذا كثر «2» خزّانها ازدادت ضياعا السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضا. عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ. وعاء الخطأ بالصّمت يختم، والخرق بالرفق يلحم. الوعد مرض المعروف، والإنجاز برؤه، والمطل تلفه. إذا حضر الأجل، افتضح

[رثاء المعتضد، وتعزيته]

الأمل. لاتشن وجه العفو بالتقريع. لا تنكح خاطب سرّك. ومن زاد أدبه على عقله كان كالراعى الضعيف مع شاء كثيرة. قال أبو العباس الناشىء لأبى سهل بن نوبخت: زعمت أبا سهل بأنك جامع ... ضروبا من الآداب يجمعها الكهل وهبك تقول الحقّ أى فضيلة ... تكون لذى علم وليس له عقل والهمّ حبس الروح. قلوب العقلاء حصون الأسرار. من كرمت عليه نفسه هان عليه ماله. من جرى فى عنان أمله، عثر بأجله. ما كلّ من [يحسن] وعده يحسن إنجازه. ربما أورد الطمع ولم يصدر، وضمن ولم يوف. وربما شرق شارب الماء قبل ريّه. من تجاوز الكفاف لم يقنعه إكثار. كلما عظم قدر المنافس فيه عظمت الفجيعة بفقده، ومن أرحله الحرص أنضاه الطلب. الأمانىّ تعمى أعين البصائر، والحظّ يأتى من لم يؤمه. وربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف، وسائقا يدعو إلى الندامة. ما أحلى تلقّى البغية، وأمرّ عاقبة الفراق. من لم يتأمّل الأمر بعين عقله، لم تقع حيلته إلّا على مقاتله. [رثاء المعتضد، وتعزيته] وقال أبو العباس يرثى المعتضد: قضوا ما قضوا من أمرهم ثم قدّموا ... إماما إمام الخلق بين يديه «1» وصلوا عليه خاشعين كأنهم ... صفوف قيام للسلام عليه وقال يرثيه: قالت شريرة ما لجفنك ساهرا ... قلقا، وقد هدأت عيون النّوم «2» ما قد رأيت من الزمان أحلّ بى ... هذا، وتحت الصّدر ما لم تعلمى

يا نفس صبرا للزمان وريبه ... فهو الملىء بما كرهت فسلمى إنّ الذى حاز الفضائل كلّها ... هو ذاك فى قعر الضريح المظلم أما السيوف فمن صنائع بأسه ... لولاه لم يروين من سفك الدّم وكأنّ أحداث الزمان عبيده ... فمتى يؤخّرهن لا تستقدم يقظان من سنة المضيّع قلبه ... ومعوّل للمعول المتظلّم يرعى الضغائن قبل ساعة فرصة ... فإذا رآها أمكنت لم يحجم كم فرصة تركت فصارت غصّة ... تشجى بطول تلهّف وتندّم ولرب كيد ظلّ يسجد بعدها ... فى بشر وجه مطلق متجهّم وهى المنايا إن رمين بنبلها ... يرمين فى نفس الأجلّ الأعظم لله درّك أى ليث كتيبة ... والخيل تعثر بالقنا المتحطّم ولقد عمرت ولا حريم معاند ... حرم ولا الإسلام بالمستسلم وقال للمعتضد يعزّيه بابنه هرون: يا ناصر الدين إذ هدّت قواعده ... وأصدق الناس فى بؤسى وإنعام وقائد الخيل مذ شدّت مآزره ... مذلّلات بإسراج وإلجام كأنهن قنا ليست لها عقد ... يهزّها الزّجر فى كر وإقدام قبّ كطىّ ثياب العصب مضمرة ... تقرّب النار بين البيض والهام «1» وسائس الملك يرعاه ويكلؤه ... إذا حلا الغمض فى أجفان نوّام تمرى أنامله الدنيا لصاحبها ... ونصله من عداه قاطر دامى «2» كالسّهم يبعثه الرّامى فصفحته ... تلقّى الرّدى دونه، والفوق للرامى «3» لا يشتكى الدّهر إن خطب ألمّ به ... إلّا إلى صعدة أوحدّ صمصام «4» صبرا، فديناك إنّ الصبر عادتنا ... وإن طوينا على حزن وتهيام

من شعر ابن المعتز

فبادر الاجر نحو الصّبر محتسبا ... إنّ الجزوع صبور بعد أيام ولما ماتت دريدة «1» ، وهى جارية [المعتضد، و] كانت مكينة عنده، جزع عليها جزعا شديدا، فقال له عبيد الله بن سليمان: مثلك يا أمير المؤمنين تهون عليه المصائب؛ لأنّك تجد من كل فقيد خلفا، وتنال جميع ما تريد من العوض، والعوض لا يوجد منك، فلا ابتلى الله الإسلام بفقدك، وعمره بطول بقاء عمرك، وكأن الشاعر عنى أمير المؤمنين بقوله: يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل فضحك المعتضد وتسلّى وعاد إلى عادته. قال محمد بن داود الجراح: فلقينى عبيد الله فأخبرنى بذلك، وقال: أردت شعرا فى معنى البيت الذى أنشدته فما وجدته؛ فقلت له قد قال البطين البجلى: طوى الموت ما بينى وبين أحبّة ... بهم كنت أعطى من أشاء وأمنع فلا يحسب الواشون أنّ قناتنا ... تلين، ولا أنّا من الموت نجزع ولكنّ للألّاف- لابدّ- لوعة ... إذا جعلت أقرانها تتطلّع «2» فكتبه، وقال: وحفظته لما عدلت عنه. من شعر ابن المعتز وقال ابن المعتز، وذكر الموتى: وسكّان دار لا تزاور بينهم ... على قرب بعض فى المحلة من بعض كأنّ خواتيما من الطين فوقهم ... فليس لها حتى القيامة من فضّ وقال يمدح عبيد الله بن سليمان:

أيا موصل النّعمى على كلّ حالة ... إلىّ قريبا كنت أو نازح الدّار كما يلحق الغيث البلاد بسيله ... وإن جاد فى أرض سواها بإمطار ويا مقبلا والدّهر عنى معرض ... يقسّم لحمى بين ناب وأظفار ويا من يرانى حيث كنت بقلبه ... وكم من أناس لا يرون بأبصار لقد رمت بى آمال نفسى كلها ... فيا لهف نفسى لو أعنت بمقدار ذكرت منى سمع الإمام وعينه ... ورفّعت نارى كى يرى ضوءها السارى وكم نعمة لله فى صرف نقمة ... ترجّى ومكروه حلا بعد إمرار وما كلّ ما تهوى النفوس بنافع ... ولا كلّ ما تخشى النفوس بضرّار قوله: كما يلحق الغيث البلاد بسيله ... مأخوذ من قول بهشل بن حرى وقد بعث إليه كثير بن الصّلت كسوة ومالا من المدينة: جزى الله خيرا والجزاء بكفّه ... بنى الصّلت إخوان السماحة والمجد أتانى وأهلى بالعراق نداهم ... كما انقضّ سيل من تهامة أو بحد وقال ابن المولى: سررت بجعفر إذ حلّ أرضى ... كما سر المسافر بالإياب كممطور ببلدته فأضحى ... غنيّا عن مطالعة السّحاب وبعث عبد الله بن طاهر إلى أبى الجنوب بن أبى حفصة وهو ببغداد عشرين ألف درهم فقال: لعمرى لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله «1» ونعم الفتى والبيد بينى وبينه ... بعشرين ألفا صبّختنى رسائله «2»

[أبو شجاع]

فكنّا كحىّ صبّح الغيث أهله ... ولم تنتجع أظعانه وحمائله أتى جود عبد الله حتى كفت به ... رواحلنا سير الفلاة رواحله [أبو شجاع] وكانت بنو كلاب ومن والاها من العرب بنواحى الكوفه تجمّعوا وعزموا على أخذ الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، فبعث أبو شجاع عضد الدولة دنير «1» ابن لشكروز فأصلحهما، وكان أبو الطيب المتنبّى بها فوصله وبعث إليه خلعا وقاد إليه فرسا بسرج ثقيل، فقال فى قصيدة: فلو لم يسر سرنا إليه بأنفس ... غرائب يؤثرن الجياد على الأهل وما أنا ممن يدّعى الشّوق قلبه ... ويعتلّ فى ترك الزيارة بالشغل ولكن رأيت الفضل فى القصد شركة ... فكان لك الفضلان فى القصد والفضل وليس الذى يتّبّع الوبل رائدا ... كمن جاءه فى داره رائد الوبل [الموفق العباسى] وكان ابن المعتزّ يمدح أبا أحمد بن المتوكل، ويلقّب بالناصر والموفّق، وكانت حاله ترامت فى أيام المعتضد إلى غاية لم يبلغها الخليفة، وقد ذكرها الصولى فى قصيدة [لصاحب المغرب] ، فقال وقد اقتصّ خلفاء بنى العباس من أوّلهم: ومعتضد من بعده وموفّق ... يردّد من إرث الخلافة ما ذهب مواز لهم فى كل فضل وسؤدد ... وإن لم يكن فى العدّ منهم لمن حسب «2» وقال المعتضد، أو قيل على لسانه، لما غلب الموفّق على أمره: أليس من العجائب أنّ مثلى ... يرى ما هان ممتنعا عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شىء فى يديه وشعر ابن المعتز فيه:

إليك امتطينا العيس تنفخ فى البرى ... وللصّبح طرف بالظلام كحيل صدين من التّهجير حتى كأنها ... سيوف جلاها الصّقل فهى تحول فبتنا ضيوفا للفلاة قراهم ... عنيق ونصّ دائم وذميل «1» يهزّ برود العصب فوق متونها ... نسيم كنفث الراقيات عليل ولما طغى أمر الدّعىّ رميته ... بعزم يردّ العضب وهو فليل «2» وجرّد من أغماده كل مرهف ... إذا ما انتضته الكفّ كاد يسيل جرى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفّس فيه القين وهو صقيل وأعلمته كيف التصافح بالقنا ... وكيف تروّى البيض وهى محول سريع إلى الأعداء، أما جنابه ... فماض، وأمّا وجهه فجميل وبقرى السؤال العذر من بعد ماله ... ويستصغر المعروف حين ينيل أخذ معنى قوله: «نسيم كنفث الراقيات عليل» عبد الكريم بن إبراهيم، فقال: سلام على طيب روحاتنا ... إلى القصر والنّهر الخضرم «3» إلى مزبد الموج طامى العبا ... ب يقذف بالبان والساسم «4» تخال به قطما مقرما ... يكرّ على قطم مقرم ويسجو فيسحب فى ذائل ... يمان تسهّم بالأنجم كأن الشمال على وجهه ... بها سقم وهى لم تسقم ضعيفة رشّ كنفث الرّقى ... على كبد المدنف المغرم إذا درجت فوقه درجته ... فى حبك الزّرد المحكم وقد جللته بأوراقها ... فروع غذتها نطاف السّم علتها الحمام بتغريدها ... كما سجع النّوح فى مأتم

[صاحب الزنج]

كأنّ شعاع الضحى بينها ... على السوسن الغضّ والخرّم وشائع من ذهب سائل ... على خسروانيّة نعّم ربا تتفقّأ من فوقها ... عزالى الربيع لها اسرهم «1» على كل محبية خلة ... تسدّى على جدول مفعم كما فتل الوقف صوّاغه ... وكالأرقم انساب للأرقم [صاحب الزنج] وقول ابن المعتز «ولما طغا أمر الدعىّ» يريد صاحب الزنج بالبصرة، وكانت شوكته قد اشتدّت وظفر به بعد مواقعة كثيرة، وفى ذلك يقول ابن الرومى فى قصيدة طويلة جدا يمدح فيها أبا أحمد [الموفق بن المتوكل، وصاعد بن خالد، والعلاء بن صاعد ابنه، وهى من أجود شعره، فقال] : أبا أحمد أبليت أمّه أحمد ... بلاء سيرضاه ابن عمّك أحمد حصرت عميد الزنج حتى تخاذلت ... قواه، وأودى زاده المتزوّد «2» فظلّ، ولم تقتله، يلفظ نفسه ... وظلّ، ولم تأسره، وهو مقيّد وكانت نواحيه كثافا فلم تزل ... تحيّفها شحذا كأنك مبرد «3» تفرّق عنه بالمكايد جنده ... ويزدادهم جندا وجندك محصد «4» ولا بس سيف القرن بعد استلابه ... أضرّ له من كاسديه وأكيد فما رمته حتى استقلّ برأسه ... مكان قناة الظهر أسمر أجرد [هذا مأخود من قول مسلم بن الوليد: ورأس مهراق قد ركبت قلّته ... لدنا يقوم مقام الليت والجيد] ولم تأل إنذارا له غير أنه ... رأى أنّ متن البحر صرح ممرّد سكنت سكونا كان رهنا بوثبة ... عماس، كذاك الليث للوثب يلبد «5» هذا مأخوذ من قول النابغة:

وقلت يا قوم إن الليث منقبض ... على براثنه للوثبة الضارى ويقول فى مدح صاعد: يقرّظ إلا أنّ ما قيل دونه ... ويوصف إلا أنه لا يحدّد «1» أرقّ من الماء الذى فى حسامه ... طباعا، وأمضى من شباه وأنجد له سورة مكتنّة فى سكينة ... كما اكتنّ فى الغمد الجراز المهند كأنّ أباه حين سمّاه صاعدا ... رأى كيف يرقى فى المعالى ويصعد [لما سمع البحترى هذا البيت قال: منى أخذه، فى قوله فى العلاء بن صاعد] : سمّاه أسرته العلاء وإنما ... قصدوا بذلك أن يتمّ علاه وهذا فى قوله، كما قال [ابن] المرزبان وقد أنشد لابن المعتز فى مناقضة الطالبيين: دعوا الأسد تسكن فى غابها ... ولا تدخلوا بين أنيابها فنحن ورثنا ثياب النبى ... فلم تجذبون بهدّابها [قال:] قد أخذه من [قول] بعض العباسيين: دعوا الأسد تسكن أغيالها ... ولا تقربوها وأشبالها ولكنه سرق ساجا، وردّ عاجا، وغلّ قطيفة، وردّ ديباجا. ومن قصيدة ابن الرومى: تراه على الحرب العوان بمنزل ... وآثاره فيها، وإن غاب، شهّد كما احتجب المقدار والحكم حكمه ... على الخلق طرّا ليس عنه معرّد «2» البحترى: ولى الأمور بنفسه، ومحلّها ... متقارب، ومرامها متباعد «3»

يتكفل الأدنى، ويدرك رأيه ال ... أقصى، ويتبعه الأبىّ العاند إن غار فهو من النباهة منجد ... أو غاب فهو من المهابة شاهد وقال أعرابى يصف رجلا: كان إذا ولّى لم يطابق بين جفونه، ويرسل العيون على عيونه؛ فهو غائب عنهم، شاهد معهم، والمحسن آمن، والمسىء خائف. فتى روحه روح بسيط كيانه ... ومسكن ذاك الرّوح نور مجسّد صفا ونفى عنه القذى فكأنه ... إذا ما استشفّته العقول مصعّد كرمتم فجاش المفحمون بمدحكم ... إذا رجزوا فيكم أثبتم فقصّدوا أرى من تعاطى ما بلغتم كرائم ... منال الثريّا وهو أكمه مقعد كما أزهرت جنات عدن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها لغرّد وفى هذه القصيدة يقول: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سوف يلقى من رداها يهدّد قال الصولى: افتتح ابن الرومى هذه القصيدة على ما لا يلزمه «1» من فتح ما قبل حرف الروى اقتدارا، فحمله ذلك على أن قال: متاح له مقداره فكأنما ... نقوّض ثهلان عليه وصندد «2» ثهلان: اسم جبل، وهذا لا يصحّ، إنما هو صندد بكسر الدال؛ لأن فعللا لم يجىء إلا فى أربعة أحرف: درهم، وهجرع [للأحمق] ، وهبلع للذى يبلع كثيرا، وقلعم للذى يقلع الأشياء. وقول ابن المعتز فى وصف السيف «3» : كأنما تنفّس فيه القين وهو صقيل معنى بديع فى وصف الفرند، وقد قال:

ولى صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلا لسفك دماء ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقية غيم رقّ دون سماء وقال أيضا إسحاق بن خلف: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح ولما صار سيف عمرو بن معد يكرب الذى كان يسمّي الصمصامة إلى الهادى،- وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص، فتوارثه ولده إلى أن مات المهدى، فاشتراه موسى الهادى منهم بمال جليل، وكان أوسع بنى العباس كفّا، وأكثرهم عطاء- ودعا بالشعراء، وبين يديه مكتل فيه بدرة، فقال: قولوا فى هذا السيف؛ فبدر ابن يامين البصرى فقال: حاز صمصامة الزّبيدى من بين ... جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر اللون بين خديه برد ... من ذعاف يميس فيه المنون «1» أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت فيه الذعاف القيون «2» فإذا ما سللته بهر الشمس ... ضياء فلم تكد تستبين ما يبالى من انتضاه لحرب ... أشمال سطت به أو يمين يستطير الأبصار كالقبس المش ... عل ما تستقرّ فيه العيون وكأنّ الفرند والجوهر والجا ... رى على صفحتيه ماء معين نعم مخراق ذى الحفيظة فى الهيجاء ... يعصى به ونعم القرين قال موسى: أصبت ما فى نفسى، واستخفّه [الفرح] فأمر له بالمكتل والسيف؛ فلما خرج قال للشعراء: إنما حرمتم من أجلى، فشأنكم المكتل

وفى السيف غناى [فقام موسى] فاشترى منه السيف بمال جليل. البحترى: قد جدت بالطّرف الجواد فثنّه ... لأخيك من جدوى يديك بمنصل «1» يتناول الرّوح البعيد مناله ... عفوا، ويفتح فى الفضاء المقفل بإنارة فى كل حتف مظلم ... وهداية فى كل نفس مجهل يغشى الوغى فالترس ليس بجنّة ... من حدّه، والدّرع ليس بمعقل ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل، ومصقول وإن لم يصقل مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت، وإذا قضى لم يعدل متوقّد يفرى بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو أنّها فى يذبل «2» فكأن فارسه إذا استعصى به الزّ ... حفان يعصى بالسّماك الأعزل «3» فإذا أصاب فكل شىء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل حملت حمائله القديمة بقلة ... من عهد عاد غضّة لم تذبل وقال أبو القاسم بن هانى للمعز: عجبا لمنصلك المقلّد كيف لم ... تسل النفوس عليك منه مسيلا لم يخل جبّار الملوك بذكره ... إلا تشحّط فى الدماء قتيلا فإذا رأيناه رأينا علّة ... للنيرات ونيّرا معلولا بك حسنه منقلّدا وبهاؤه ... متنكّبا ومضاؤه مسلولا فإذا غضبت علته دونك ربدة ... يغدو بها طرف الزمان كحيلا وإذا طربت إلى الرّضا أهدى إلى ... شمس الظهيرة عارضا مصقولا كتب الفرند عليه بعض صفاتكم ... فعرفت فيه التاج والإكليلا

[وفد الشام بين يدى المنصور]

وقال: هل يدنينّى من فنائك سابح ... مرح وجائلة النّسوع أمون ومهنّد فيه الفرند كأنه ... درّ له خلف الفرات كمين غضب المضارب مقفرا من أعين ... لكنّه من أنفس مسكون وأهدى الكندى إلى بعض إخوانه سيفا، فكتب إليه: «الحمد لله الذى خصّك بمنافع كمنافع ما أهديت، وجعلك تهتزّ للمكارم اهتزاز الصارم، وتمضى فى الأمور مضاء حدّه المأثور، وتصون عرضك بالإرفاد «1» ، كما تصان السيوف بالأغماد، ويطرد ماء الحياء فى صفحات خدّك المشوف، كما يشفّ الرونق فى صفائح السيوف، وتصقل شرفك بالعطيات، كما تصقل متون المشرفيّات. [وفد الشام بين يدى المنصور] قدم على أبى جعفر المنصور وفد من الشام بعد انهزام عبد الله بن على، وفيهم الحارث بن عبد الرحمن الغفارى، فتكلّم جماعة منهم، ثم قام الحارث فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة استخفّت حليمنا؛ فنحن بما قدمنا معترفون، وبما سلف منّا معتذرون، فإن تعاقبنا فبما أجرمنا، وإن تعف عنا فطالما أحسنت إلى من أساء، فقال المنصور: أنت خطيب القوم، وردّ عليه ضياعه بالغوطة. وقال رجل من أهل الشام للمنصور: يا أمير المؤمنين، من انتقم فقد شفى غيظه وانتصف، ومن عفا تفضّل، ومن أخذ حقّه لم يجب شكره ولم يذكر فضله، وكظم الغيظ حلم، والتشفّى طرف من الجزع، ولم يمدح أهل التقى والنهى من كان حليما بشدّة العقاب، ولكن بحسن الصفح والاغتفار وشدة التغافل،

[بعض ما قيل فى العفو]

وبعد فالمعاقب مستدع لعداوة أولياء المذنب، والعافى مسترع لشكرهم آمن من مكافأنهم، ولأن يثنى عليك باتّساع الصدر خير من أن توصف بضيقه، على أنّ إقالتك عثرات عباد الله موجب لإفالة عثرتك من ربّهم، وموصول بعفوه، وعقابك إياهم موصول بعقابه، قال الله عز وجل: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» . [بعض ما قيل فى العفو] وقال بعض الكتاب لرئيسه وقد عتب عليه: «إذا كنت لم ترض منى بالإساءة فلم رضيت من نفسك بالمكافأة» . وأذنب رجل من بنى هاشم فقبضه المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، من حمل مثل دالّتى، «1» ولبس ثوب حرمتى، غفر له مثل زلّتى، قال: صدقت وعفا عنه. ولما دخل بعض الكتاب على أمير بعد نكبة نالته فرأى من الأمير بعض الازدراء، فقال له: لا يضعنى عندك خمول النّبوة، وزوال الثروة؛ فإنّ السيف العتيق إذا مسّه كثير الصدإ استغنى بقليل الجلاء حتى يعود حدّه، ويظهر فرنده؛ ولم أصف نفسى عجبا، لكن شكرا. وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أشرف ولد آدم ولا فخر» ؛ فجهر بالشكر، وترك الاستطالة بالكبر. [تميم بن جميل والمعتصم] وكان تميم بن جميل السدوسى [قد أقام] بشاطىء الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب، فعظم أمره، وبعد ذكره؛ فكتب المعتصم إلى مالك بن طوق فى النهوض إليه، فتبدّد جمعه، «2» وظفر به فحمله موثقا «3» إلى باب المعتصم، فقال أحمد بن أبى داود: ما رأيت رجلا عاين الموت، فماها له ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل؛ فإنه لما مثل بين يدى المعتصم وأحضر

[من المعتصم إلى عبد الله بن طاهر]

السيف والنّطع، ووقف بينهما، تأمله المعتصم- وكان جميلا وسيما- فأحبّ أن يعلم أين لسانه من منظره، فقال: تكلم يا تميم، فقال: أمّا إذ أذنت يا أمير المؤمنين فأنا أقول: الحمد لله الذى أحسن كلّ شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، [يا أمير المؤمنين:] جبر [الله] بك صدع الدّين، ولمّ بك شعث المسلمين، وأوضح بك سبل الحقّ، وأخمد بك شهاب الباطل؛ إن الذنوب تخرس الألسن الفصيحة، وتعيى الأفئدة الصحيحة، ولقد عظمت الجريرة، وانقطعت الحجّة وساء الظنّ، فلم يبق إلا عفوك وانتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منى وأسرعهما إلىّ أشبههما بك، وأولاهما بكرمك، ثم قال: أرى الموت بين السيف والنّطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفّت وأكبر ظنّى أنك اليوم قاتلى ... وأىّ امرىء مما قضى الله يفلت وأى امرىء يأتى بعذر وحجّة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت «1» وما جزعى من أن أموت وإننى ... لأعلم أنّ الموت شىء موقّت «2» ولكنّ خلفى صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة ... أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا وكم قائل لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت فتبسّم المعتصم وقال: يا جميل، قد وهبتك للصّبية، وغفرت لك الصّبوة، ثم أمر بفكّ قيوده، وخلع عليه، وعقد له على شاطىء الفرات. [من المعتصم إلى عبد الله بن طاهر] وكتب المعتصم- حين صارت إليه الخلافة- إلى عبد الله بن طاهر: عافانا الله وإياك، قد كانت فى قلبى منك هنات غفرها الاقتدار «3» ، وبقيت حزازات أخاف منها عليك عند نظرى إليك؛ فإن أتاك ألف كتاب أستقدمك فيه فلا تقدم،

[الخليفة المعتصم]

وحسبك معرفة بما أنا منطو لك عليه إطلاعى إياك على ما فى ضميرى منك، والسلام. [الخليفة المعتصم] قال العباس بن المأمون: ولما أفضت الخلافة إلى المعتصم دخلت، فقال: هذا مجلس كنت أكره الناس لجلوسى فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تعفو عما تيقّنته، فكيف تعاقب على ما توهّمته؟ فقال: لو أردت عقابك لتركت عتابك. وكان المعتصم شهما، شجاعا، عاقلا، مفوّها، ولم يكن فى [خلفاء] بنى العباس أمىّ غيره؛ وقيل: [بل كان يكتب خطّا ضعيفا، و] كان سبب ذلك أنه رأى جنازة لبعض الخدم، فقال: ليتنى مثله لأتخلّص من الكتّاب! فقال الرشيد: والله لا عذّبتك بشىء تختار عليه الموت. قال أبو القاسم الزجاجى: وهذا شىء يحكى من غير رواية صحيحة، إلا أنّ جملته أنه كان ضعيف البصر بالعربية. وقرأ أحمد بن عمار المذرى «1» - وكان يتقّلد العرض عليه فى الحضرة- كتابا فيه: «ومطرنا مطرا كثر عنه الكلأ» فقال له المعتصم: ما الكلأ؟ فقال: لا أدرى. فقال: إنا لله وإنّا إليه راجعون! خليفة أمىّ وكاتب أمى! ثم قال: من يقرب منا من كتّاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات، وكان يتولّى قهرمة الدار، ويشرف على المطبخ، فأحضره، فقال: ما الكلأ؟ فقال: النبات كله رطبه ويابسه؛ فالرطب منه خاصة يقال له خلا، ومنه سمّيت المخلاة، واليابس يقال له حشيش؛ ثم اندفع فى صفات البنات من ابتدائه إلى اكتماله إلى هيجه، فاستحسن ذلك المعتصم، وولّاه العرض من ذلك اليوم، فلم يزل وزيرا مدة خلافته [وخلافة الواثق] ، حتى نكبه المتوكل بحقود حقدها عليه أيام أخيه الواثق.

[كعب بن معدان الأشعرى عند الحجاج] [ووصفه بنى المهلب بن أبى صفرة]

وقال الرياشى: كتب ملك الروم إلى المعتصم كتابا يتهدّده فيه، فأمر بجوابه، فلما قرىء عليه لم يرض ما فيه، وقال لبعض الكتاب: اكتب «أمّا بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى، لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار» . وهذا نظير قول قطرى للحجّاج، وقد كتب إليه كتابا يتهدّده، فأجابه قطرى: أما بعد، فالحمد لله الذى لو شاء لجمع شخصينا؛ فعلمت أنّ متاقفة الرجال [أقوم] من تسطير المقال، والسلام «1» . [كعب بن معدان الأشعرى عند الحجاج] [ووصفه بنى المهلب بن أبى صفرة] ولما افتتح المهلب خراسان، ونفى الخوارج عنها، وتفرّقت الأزارقة كتب الحجاج إليه أن اكتب لى بخبر الوقيعة، واشرح لى القصة حتى كأنى شاهدها؛ فبعث إليه المهلب كعب بن معدان الأشعرىّ، فأنشده قصيدة فيها ستون بيتا تقتصّ خبرهم لا يخرم منه شيئا؛ فقال له الحجاج: أخطيب أم شاعر؟ قال له: كلاهما، أعزّ الله الأمير! قال: أخبرنى عن بنى المهلب، فقال له: المغيرة سيدهم، وكفاك بيزيد فارسا، وما لقى الأبطال مثل حبيب، وما يستحيى شجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك موت [ذعاف وسمّ] ناقع، وحسبك بالمفضّل فى النّجدة، واستجهز قبيصة، ومحمد ليث غاب، فقال الحجاج: ما أراك فضلت عليهم واحدا منهم؛ فأخبرنى عن جملتهم ومن أفضلهم؟ فقال: هم- أعزّ الله الأمير! - كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: إنّ خبر حربكم كان يبلغنى عظيما، أفكذلك كان؟ قال: نعم أيها الأمير، والسماع دون العيان. قال: أخبرنى كيف رضا المهلّب عن جنده ورضا جنده عنه؟ قال: أعزّ الله الأمير،

[بشر بن مالك عند الحجاج] [يصف أبناء المهلب أيضا]

له عليهم شفقة الوالد، ولهم به برّ الولد. قال: أخبرنى كيف فاتكم قطرى؟ قال: كدناه فى منزله فتحوّل عنه، وتوهّم أنه كادنا بذلك، قال: فهلا اتبعتموه، قال: الكلب إذا أجحر عقر، قال: المهلب كان أعلم بك حيث أرسلك. [بشر بن مالك عند الحجاج] [يصف أبناء المهلّب أيضا] وقد روى أنّ المهلب لما فرغ من قتل عبد ربه الحرورى دعا بشر بن مالك فأنفذه بالبشارة إلى الحجّاج، فلما دخل على الحجاج قال: ما اسمك؟ قال: بشر بن مالك، فقال الحجاجّ: بشارة وملك! وكيف خلّفت المهلب؟ قال: خلفته وقد أمن ما خاف، وأدرك ما طلب، قال: كيف كانت حالكم مع عدوكم؟ قال: كانت البداءة لهم، والعاقبة لنا، قال الحجاج: العاقبة للمتقين، ثم قال: فما حال الجند؟ قال: وسعهم الحقّ، وأغناهم النّفل، وإنهم لمع رجل يسوسهم سياسة الملوك، ويقاتل بهم قتال الصعلوك، فلهم منه برّ الوالد، وله منهم طاعة الولد، قال: فما حال ولد المهلب؟ قال: رعاة البيات حتى يؤمنوه، وحماة السّرح حتى يردوه، قال: فأيهم أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم، قال: وأنت أيضا، فإنى أرى لك لسانا وعبارة، قال: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: ويحك! أكنت أعددت لهذا المقام هذا المقال؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله. [أبو الصقر وصاعد بن مخلد] ودخل أبو الصقر قبل وزارته على صاعد بن مخلد، وهو الوزير حينئذ، وفى المجلس أبو العباس بن ثوابة، فسأل الوزير عن رجل، فقال: أنفى، يريد نفى، فقال ابن ثوابة: فى الخرء، فتضاحك به أهل المجلس، فقام أبو الصقر مغضبا «1» .

[أبو العيناء وابن ثوابة]

[أبو العيناء وابن ثوابة] وكان أبو العيناء يعادى ابن ثوابة لمعاداته لأبى صقر؛ فاجتمعا فى مجلس صاعد فى غد ذلك اليوم، فتلاحيا، فقال ابن ثوابة: أما تعرفنى؟ فقال: بلى أعرفك ضيّق الطعن، كثير الوسن، خارّا على الذّقن، وقد بلغنى تعدّيك على أبى الصقر، وإنما حلم عنك؛ لأنه لم يجد لك عزّا فيذلّه، ولا علوّا فيضعه، ولا مجدا فيهدمه؛ فعاف لحمك أن يأكله، ودمك أن يسفكه، فقال ابن ثوابة: ما تسابّ إنسانان إلّا غلب ألأمها، فقال أبو العيناء: فلهذا غلبت بالأمس أبا الصقر! [من مكارم أبى الصقر] ومما يعدّ من مكارم أبى الصقر أن ابن ثوابة دخل عليه فى وزارته، فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين، فقال أبو الصقر: لا تثريب عليك يغفر الله لك [وهو أرحم الراحمين] ، فما قصّر فى الإحسان إليه، والإنعام عليه، مدة وزارته. [أبو الصقر وأبو العيناء] ولما ولى أبو الصقر الوزارة خيّر أبا العيناء فيما يخبّه حتى يفعله به، فقال: أريد أن يكتب [لى الوزير] إلى أحمد بن محمد الطائى يعرّفه مكانى، ويلزمه قضاء حق مثلى. فكتب إليه كتابا بخطّه، فوصّله إلى الطائى، فسبب له فى مدة شهر مقدار ألف دينار، وعاشره أجمل عشرة، فانصرف بجميع ما يحبّه وكتب إلى أبى الصقر كتابا مضمنه: أنا- أعزّك الله- طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدى عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال والإخوان والأمثال، الذين يفهمون فى غير تعب، وهم الناس الذين كانوا غياثا للناس، فحللت عقدة الخلّة، ورددت إلىّ بعد النفور النعمة، وكتبت لى كتابا إلى الطائى، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علىّ الأمور، وأحاطت بى النوائب؛ فكثّر من بشره، وبذل من يسره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن برّه أحكمه، مكرما لى

[أبو العيناء يذم ابن الخصيب]

مدة ما أقمت، ومثقلالى من فوائده لما ودّعت، حكمنى فى ماله فتحكّمت، وأنت تعرف جورى إذا تمكّنت، وزادنى من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدّمنى أمامك، وأعاذنى من فقدك وحمامك؛ فقد أنفقت علىّ مما مملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسّره الله لى، والله عزّ وجل يقول: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.) فالحمد لله الذى جعل لك اليد الغالبة، والرتبة الشريفة، لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط فيها من عدلك، وبثّ فيها من رفدك. [أبو العيناء يذم ابن الخصيب] قطعة مختارة من نسخة الكتاب الذى عمله أبو العيناء فى ذمّ أحمد بن الخصيب لمّا نكب على ألسنة الكتّاب والقوّاد وأرباب الدولة [فى ذلك الوقت] . قال: ذكره محمد بن عبد الله بن طاهر فقال: ما زال يخرق ولا يرقع، وما زلت أتوقع له الذى وقع فيه. [وذكره أتامش، فقال: غدر بمن آثره، وتخطّى إلى ما لا يقدره، فحل به ما يحذره. وذكره بغاء فقال: أبطرته النعمة، ففجأته النقمة] وذكره وصيف فقال: ترك العقلاء على يأس مرتبته، والحمقى على رجاء درجته! وذكره موسى بن بغاء فقال: لولا أنّ القدر يعشى البصر، لما نهى فينا ولا أمر، وذكره فارس بن بغاء فقال: لم تتمّ له نعمة؛ لأنه لم تكن له فى الخير همّة. وذكره الفضل ابن العباس فقال: إن لم يكن تاريخ البلاء فما أعظم البلوى. وذكره هرون بن عيسى فقال: كانت دولة من دول المجانين، خرجت من الدنيا والدّين. وذكره المعلّى بن أيوب، فقيل له: ما أعجب ما نكب، فقال: نعمته أعجب من نكبته! وذكره ميمون بن إبراهيم، فقال: لو تأمّل فعاله فاجتنبها، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها! وذكره محمد بن نجاح فقال: لئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم لقد عظمت المصيبة على قوم نزل فيهم! وذكره على بن [يحيى بن] المنجم، فقال: لم يكن له أوّل

[أبو بكر سيبويه وأهل مصر]

يرجع إليه، ولا آخر يعود عليه، ولا عقل فيزكو لديه! وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم فقال: [قبّحه الله] إن ذكرت ذا فضل تنقّصه لما فيه من ضدّه، أو ذكرت ذا نقص تولّاه لما فيه من شكله. وذكره ابن ثوابة فقال: امرؤ أساء عشرة الأحرار، فأصبح مقفر الديار. وذكره حجاج بن لهرون فقال: ما كان له فى الشرف أسباب متان، ولا فى الخير عادات حسان. وذكره [أحمد بن حمدون فقال: إن منحته القدرة لقد حملته النكبة. وذكره] محمد بن الفضل فقال: ما زال يستوحش بالنعمة حتى أنس بالنقمة وذكره عبد الله بن فراس فقال: كنت إذا نصحته زنّانى، وإذا غششته منّانى. وذكره أبو صالح بن عمار فقال: لئن علا بحظ لقد انحط بحق. وذكره سعيد بن حميد فقال: إذا أصاب أحجم، وإذا أخطأ صمم. [أبو بكر سيبويه وأهل مصر] وكان فى هذا العصر بمصر أبو بكر المعروف بسيبويه ناقلة البصرة يشبهه فى حضور جوابه وخطابه، وحسن عبارته، وكثرة روايته، وكان قد تناول البلاذر «1» ؛ فعرضت له منه لوثة «2» ، وكان أكثر الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول. قال يوما للمصريين: يأهل مصر، أصحابنا البغداديون أحزم منكم، لا يقولون بالولد، حتى يتّخذوا له العقد والعدد؛ فهم أبدا يعتزلون. ولا يقولون باتخاذ العقار خوفا أن يملكهم سوء الجوار؛ فهم أبدا يكنزون. ولا يقولون باتخاذ الحرائر خوفا أن تتوق نفسهم إلى السّرارى؛ فهم أبدا يتسرّرون. ولا يقولون أبدا بإظهار الغنى [فى مكان] عرفوا فيه بالفقر؛ فهم أبدا يسافرون. ووقف يوما بالجامع وقد أخذت الخلق مأخذها، فقال: يأهل مصر، حيطان

المقابر أنفع منكم، يستنزه بها من التعب، ويستد فأبها من الريح، ويستظلّ بها من الشمس. والبهائم خير منكم تمتطى ظهورها، وتحتذى جلودها، وتؤكل لحومها. وكان أبو الفضل بن خنزابه الوزير، ربّما رفع أنفه تيها، فقال له سيبويه، وقد رآه فعل ذلك: أشمّ منى الوزير رائحة كريهة فشمّر أنفه، فأطرق واستعمل البهوض، فخرج سيبويه، فقال له رجل: من أين أقبلت؟ فقال: من عند الزّاهى بنفسه، المدلّ بفرسه «1» ، المستطيل على أبناء جنسه. واستأذن على مسلم بن عبيد الله العلوى، ومسلم من أهل الحجاز نزل مصر، فحجب عنه، فقال: قولوا له: يرجع إلى لبس العباء، ومصّ النوى، وسكنى الفلا، فهو أشبه به من نعيم الدنيا. وكان على شرط كافور الإخشيدى أحد الخاصّة، فوجد عليه سيبويه فى بعض الأمر، فعزل عن الشرطة، فوليها ركى «2» صاحب الراضى، فلم يحمده أيضا، فوقف لكافور وهو مارّ إلى الصلاة يوم الجمعة، فقال: أيها الأستاذ، ولّيت ظالما، وعزلت ظالما، قليل الوفاء، كثير الجفاء، غليظ القفا. فتبسّم ابن برك البغدادى، وكان يسابر كافورا، فقال: وهذا ابن برك ممن يغرّك، لن ينفعك ولن يضرّك. وأخلى الحمام لمفلح الحسينى، فأتى سيبويه ليدخل، فمنع، وقيل: الأمير مفلح به، فقال: لا أنقى الله مغسوله، ولا بلّغه سوله، ولا وقّاه من العذاب مهوله، وجلس حتى خرج، فقال: إن الحمام [لا يخلى إلّا] لأحد ثلاثة: مبتلّى فى قبله، أو مبتلى فى دبره، أو سلطان يخاف من شره، فأى الثلاثة أنت؟ قال: أنا المقدّم. وأحضره أبو بكر بن عبد الله الخازن فقال: قد بلغنى بذاء لسانك، وقبيح

[رجع إلى أبى العيناء]

معاملتك للأشراف؛ فاحذر أن تعود فينالك منى أشدّ العقوبة؛ فخرج [متحزنا فكان] الولدان يتولّعون به ويذكرون له الخازن، فيشتدّ عليه ذلك، فينصرف ولا يكلّمهم؛ فمرّ به رجل يكنى أبا بكر من ولد عقبة بن أبى معيط، وغلام قد ألحّ عليه «1» بذلك، فضحك المعيطى، فقال للغلام: ضرب الله عنق الخازن كما ضرب النبى صلى الله عليه وسلم عنق عقبة بن أبى معيط على الكفر، وضرب ظهر أبيك بالسوط كما ضرب علىّ بن أبى طالب بأمر عثمان رضى الله عنهما ظهر الوليد بن عقبة على شرب الخمر، وألحقك يا صبىّ بالصّبية، يريد قول النبى صلى الله عليه وسلم، وقد قال له عقبة لما أمر النبى صلى الله عليه وسلم عليا رضى الله عنه بقتله: «فمن للصّبية يا رسول الله» ؟ قال: النار لك ولهم. فانصرف المعيطى وبطن الأرض أحبّ إليه من ظهرها. [رجع إلى أبى العيناء] وقال أبو العيناء: أنا أوّل من أظهر العقوق لوالديه بالبصرة، قال لى أبى: إنّ الله قد قرن طاعته بطاعتى، فقال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) فقلت: يا أبت، إن الله تعالى قد أمننى عليك ولم يأمنك على، فقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) . وقال أعرابى لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك لا يبطل صغير حقّى عليك، والذى تمتّ به إلىّ أمتّ بمثله إليك، ولست أزعم أنّا سواء، ولكن لا يحل لك الاعتداء. ودخل على عبيد الله بن سليمان فضمّه إليه، فقال: أنا إلى ضمّ الكفاية أحوج منى إلى ضمّ اليدين. وقال له مرة: أنا معك مقبوض الظاهر، مرحوم الباطن «2» .

[كلمات لأبى العيناء]

قال أبو الطيب المتنبى: ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أنى بما أنا باك منه محسود وقال له رجل: يا مخنّث، فقال: وضرب لنا مثلا ونسى خلقه! [كلمات لأبى العيناء] وذكر أبو العيناء محمد بن يحيى بن خالد بن برمك، فقال: بابى وأمى دام الوجه الطّلق، والقول الحقّ، والوعد الصّدق، نيته أفضل من علانيته، وفعله أفضل من قوله. وقال له المتوكل: ما أشدّ ما مرّ عليك من فقد بصرك؟ فقال: ما حرمت منه من النظر إليك أيها الأمير! وقال لعبيد الله بن يحيى: مسّنا وأهلنا الضرّ، وبضاعتنا الحمد والشكر، وأنت الذى لا يخيب عنده حرّ، وقال له يوما: قد اشتدّ الحجاب، وفحش الحرمان، فقال: ارفق يا أبا عبد الله، فقال: لو رفق بى فعلك لرفق بك قولى! وقال له: أيها الوزير، إذا تغافل أهل التفضل هلك أهل التجمّل. وذم رجلا فقال: لا يعرف الحقّ فينصره، ولا الباطل فينكره. وقيل له: ما أبلغ الكلام؟ فقال: ما أسكت المبطل، وحيّر المحق. وقيل له: مات الحسن بن سهل، فقال: والله لئن أتعب المادحين، لقد أطال بكاء الباكين والله لقد أصيب بموته الأنام، وخرست بفقده الأقلام. [مما قيل فى الرثاء] قال أشجع بن عمرو السّلمى: مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلّا له فيه مادح وما كنت أدرى ما فواضل كفّه ... على الناس حتى غيّبته الصفائح فأصبح فى لحد من الأرض ميّتا ... وكانت به حيّا تضيق الصحاصح «1» كأن لم يمت ميت سواك ولم تقم ... على أحد إلّا عليك النوائح

فما أنا من رزء وإن جلّ جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح لئن حسنت فيك المرائى وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح سأبكيك ما فاضت دموعى، فإن تغض ... فحسبك منى ما تكنّ الجوانح قوله: وكانت به حيّا تضيق الصحاصح ... يتعلّق بقول الحسين بن مطير فى معن بن زائدة: ألمّا على معن وقولا لقبره: ... سقتك الغوادى مربعا ثم مربعا فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة مضجعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا فتى عيش فى معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا وهذا كقول عبد الصّمد بن المعذل فى عمرو بن سعيد بن سلم الباهلى: أقبر أبى أمية لو علاه ... حملت إذا لضقت به ذراعا حويت الجود والتقوى وعمرا ... فكيف أطقت يا قبر اضطلاعا لموتهم أطقت لهم ضمانا ... ولولا ذاك لم تطق اتّساعا وقول أشجع: لئن حسنت فيك المراثى وذكرها من قول الخنساء: يا صخر بعدك هاجنى استعبارى ... شانيك بات بدّلتى وصغارى كنا نعدّ لك المدائح مدّة ... فاليوم صرت تناح بالأشعار وقالت جنوب أخت عمرو [ذى الكلب] : سألت بعمر وأخى صحبه ... فأفظعنى حين ردّوا السؤالا

فقالوا: أتيح له نائما ... أغرّ السلاح عليه أجالا «1» أتيح له نمرا أجبل ... فنالا لعمرك منه ونالا فأقسم يا عمرو لو نبّهاك ... إذا نبّها منك داء عضالا [إذا نبّها ليث عرّيسة ... مبيدا مفتيا نفوسا ومالا] إذا نبّها غير رعيدة ... ولا طائشا دهشا حين صالا هما مع تصرف ريب المنون ... من الدهر ركنا شديدا أمالا وقالوا: قتلناه فى غارة ... بآية أن قد ورثنا النّبالا فهلّا إذا قبل ريب المنون ... فقد كان فذّا وكنتم رجالا وقد علمت فهم عند اللقاء ... بأنهم لك كانوا نفالا كأنهم لم يحسّوا به ... فيخلوا نساءهم والحجالا ولم ينزلوا بمحول السنين ... به فيكونوا عليه عيالا وقد علم الضيف والمرملون ... إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا وخلّت عن اولادها المرضعات ... ولم تر عين لمزن بلالا بأنّك كنت الربيع المغيث ... لمن يعتفيك وكنت الثّمالا «2» وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكي الكلالا «3» [فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه هلالا وحىّ صبحت وحىّ أبحت ... غداة اللقاء منايا عجالا وكم من قبيل وإن لم تكن ... أردتهم منك باتوا وجالا قال عمرو بن شبة: وكان عمرو بن عاصم هذا يغزو فهما فيصيب منهم، فوضعوا له رصدا على الماء، فأخذوه فقتلوه، ثم مرّوا بأخته جنوب، فقالوا: أخاك! فقالت: لئن طلبتموه لتجدنّه [منيعا، ولئن ضفتموه لتجدنّه مريعا، ولئن وعدتموه

لتجدنه] سريعا! فقالوا: قد أخذناه فقتلناه، وهذا نبله. فقالت: والله لئن سلبتموه لا تجدون ثنته وافية، ولا حجرته جافية، ولرب ثدى منكم قد افترشه، ونهب قد احتوشه؛ ثم قالت الأبيات المتقدمة الذكر. وأنشد أبو حاتم ولم يقل قائله: ألا فى سبيل الله ماذا تضمنّت ... بطون الثرى واستودع البلد القفر بدور إذا الدنيا دجت أشرقت بهم ... وإن أجدبت يوما فأيديهم القطر فيا شامتا بالموت لا تشمتن بهم ... حياتهم فخر وموتهم ذكر أقاموا بظهر الأرض فاخضرّ عودها ... وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الظّهر وقال أبو عبد الله العتبى، وتوفى له بنون فجع بهم ومات فى آخرهم ابن له يكنى أبا عمرو كان يقول الشعر؛ فقال يرثيه: لقد شمت الواشون بى وتغيّرت ... وجوم أراها بعد موت أبى عمرو تجرّى علىّ الدهر لما فقدته ... ولو كان حيّا لاجترأت على الدهر «1» أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدى ... فدينا، وأعطينا بكم ساكنى الظّهر فياليت من فيها عليها، وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر وقاسمنى دهرى بنىّ مشاطرا ... فلما توفّى شطره مال فى شطرى «2» فصاروا كأن لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر على قبر وقال فى ابن توفى صغيرا. إن يكن مات صغيرا ... فالأسى غير صغير كان ريحانى فأمسى ... وهو ريحان القبور غرسته فى بساتين ... البلى أيدى الدهرر

ومن هنا أخذ أبو الطيب المتنبى قوله: فإن تك فى قبر فإنك فى الحشا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل وقال خلف بن خليفة الأقطع: أعاتب نفسى إن تبسّمت خاليا ... وقد يضحك الموتور وهو حزين وبالبدّ أشجانى وكم من شج له ... دوين المصلّى والبقيع، شجون ربّى حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجانا وهنّ سكون كفى الهجر أنّا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عمّا لديك يقين وقال أبو عطاء السّندى فى ابن هبيرة: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بباقى دمعها لجمود عشية قام النائحات وشقّقت ... جيوب بأبدى مأتم وخدود «1» فإن تمس مهجور الفنا فربما ... أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهّد ... بلى كلّ ما تحت التراب بعيد أعرابى: ومن عجب أن بتّ مستودع الثّرى ... وبثّ بما زوّدتنى متمتعا فلو أننى أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتى ننطوى فى الثرى معا سأحمى الكرى عينى وأفترش الثرى ... يمينى إذا صار الثرى لك مضجعا وبعدك لا آسى لعظم رزيّة ... قضيت فهّونت المصائب أجمعا ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظما ونثرا. [قال أبو نواس فى الأمين] طوى الموت ما بينى وبين محمد ... وليس لما تطوى المنية ناشر

لئن عمرت دور بمن لا أحبّه ... لقد عمرت ممن أحبّ المقابر وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لى شىء عليه أحاذر وقيل لأمّ الهيثم السدوسية: ما أسرع ما سلوت عن ابنك الهيثم! قالت: أما والله لقد رزئته كالبدر فى بهائه، والرمح فى استوائه، والسيف فى مضائه؛ ولقد فتّتت مصيبته كبدى، وأفنى فقده جلدى، وما اعتضت من بعده إلّا أمن المصائب لفقده. وعزّى أبو العيناء أحمد بن أبى دواد عن ولد له، فقال: ما أصيب من أثيب والله لقد هان لفقده، جليل المصائب من بعده. ودخل أعرابى من بادية البصرة إلى الشام ومعه بنون، فلما كان بقنّسرين مات بنوه بالطاعون فقال: أبعد بنىّ الدهر أرجو غضارة ... من العيش أو آسى لما فات من عمرى غطارفة زهر مضوا لسبيلهم ... فلهفى على تلك الغطارفة الزّهر سقى الله أجسادا ورائى تركتها ... بحاضر قنّسرين من صيّب القطر يذكّرنيهم كلّ خير رأيته ... وشرّ، فما أنفكّ منهم على ذكر هذا البيت كقول الآخر: رعاك ضمان الله يا أمّ مالك ... ولله أن يرعاك أولى وأوسع يذكر نيك الخير والشرّ والذى ... أخاف وأرجو والذى أتوقّع وقال مسلم بن الوليد: وإنى وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الرّوع فارقه النّصل أما والحبالات الممّرات بيننا ... رسائل أدّتها المودة والوصل «1» لما خنت عهدا من إخاء ولا نأى ... بذكراك نأى عن ضميرى ولا شغل

ومن ألفاظ أهل العصر فى التعازى وما يتعلق بمعانيها من ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب

وإنى فى مالى وأهلى كأننى ... لفقدك لا مال لدىّ ولا أهل يذكّر نيك الخير والشرّ والحجا ... وقيل الخنى والحلم والعلم والجهل فألقاك عن مذمومها متنزها ... وألقاك فى محمودها ولك الفضل وأحمد من إخلافك البخل إنه ... بعرضك لا بالمال حاشى لك البخل أمنتجعا مروا بأثقال همّة ... دع الثّقل واحمل حاجة مالها ثقل ثناء كعرف الطيب يهدى لأهله ... وليس له إلّا بنى برمك أهل فإن أغش قوما بعدهم أو أزورهم ... فكالوحش يدنيها من القنص المحل ومن ألفاظ أهل العصر فى التعازى وما يتعلق بمعانيها من ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب خبر عز على النفوس مسمعه، وأثر فى القلوب موقعه. خبر تصطك له السامع، وترتجّ به الأضالع، وتسقط له الحبالى، وتصحو منه السكارى خبر كادت له القلوب تطير، والعقول تطيش، والنفوس تطيح. خبر يخفض البصر ويقذيه، ويقبض الأمل ويقدح فيه. الخبر فى أثناء الرجاء قد انقطع، وأصمّ به الناعى وقد أسمع. ناعى الفضائل قائم، وأنف المحاسن راغم. خبر أحرج الصّدر، وأحلّ البكاء، وحرّم الصبر، وأطار واقع السكون، وأثار كامن الوجوم، وثقلت وطأتة على أجزاء النفس، وتأدّت معرته إلى سرّ القلب. كتبت والأرض واجفة، والشمس كاسفة، للرزء العظيم، والمصاب الجسيم، فى فلك الملك، وركن المجد، وقريع الشّرق والغرب، وما عسى أن يقال فى الفلك الأعلى إذا انهار من جوانبه، وتهافت على مناكبه. أتى الناعى «1» ، فندب المساعى، وقامت بواكى المجد، وكسفت شمس الفضل،

وعاد النهار أسود، والعيش أنكد. غرب لموته نجم الفضل، وكسدت سوق الأدب، وقامت نوادب السماحة، ووقف فلك الكرم، ولطمت عليه المحاسن خدودها، وشقت له المناقب جيوبها [وبرودها] ، قد كانت الرزيّة بحيث مارت السماء مورا، وسارت الجبال سيرا، حتى شوهدت الكواكب ظهرا، ثم تهافتت شفعا ووترا، فارتاعت الأمّة، وانبسطت الظلمة، وارتفعت الرّحمة، واضطربت الملّة، وقامت نوادب المجد، وأصبح الناس من القيامة على وعد. إن المجد بعده لجارى الدمع، وإنّ الفضل لمنزعج النفس، وإنّ الكرم لحرج الصدر، وإن الملك لواهن الظّهر «1» . كتابى وأنا من الحياة متذمّم، وبالعيش متبرّم، بعد ما ماد الطّود الشامخ، وزال الجبل الباذخ، ونطقت نوادب المجد، وأقيمت مآتم الفضل. نهى؟؟؟ فلان فتنكّر وجه الدهر، وقبضت مهجة الفخر، فلا قلب إلّا قد تباين صدعه، ولا عين إلا وهى ترشح بالدّم بعده. كتبت والأحشاء محترقة، والأجفان بمائها غرقة، والدمع واكف، والحزن عاكف. مصاب أطلق أسراب الدموع وفرّقها، وأقلق أعشار القلوب وأحرقها، مصاب فضّ عقود الدموع، وشبّ النار بين الضلوع. مصاب أذاب دموع الأحرار، فتحلّبت «2» سحائب الدموع الغزار، وانسدّت مسالك السكون والاستقرار. كتبت عن عين تدمع، وقلب يجزع، ونفس تهلع «3» ، وقد أذللت مصون العبرة، وحجبت وافد الحيرة، ومدّ الهمّ إلى جسمى يد السقم، وجرّ الدمع على خدّى ذيول الدم. لولا أن العين بالدمع أنطق من كل لسان وقلم، لأخبرت عن بعض ما أوهن ظهرى، وأوهى أزرى. إنّ الفجيعة إذا لم تحارب بجيش من البكاء، ولم يخفّف من أثقالها بالاشتكاء، تضاعف داؤها، وازدادت أعباؤها، وعزّ دواؤها. قد شفيت غليلى بما استذريته

من أسراب الدموع المتحيرة، وخفّفت عنى بعض البرحاء بما امتريته من أخلافها المتحدرة. إن فى إسبال العبرة، وإطلاق الزّفرة، والإجهاش بالبكاء والنشيج، وإعلان الصياح والضجيج، تنفيسا عن برحاء القلوب، وتخفيفا من أثقال الكروب. قد أتى الدهر بما هدّ الأصلاب، وأطار الألباب، من النازلة الهائلة، والفجيعة الفظيعة. زرء أضعف العزائم القوية، وأبكى العيون البكيّة. مصيبة زلزلت الأرض، وهدّمت الكرم المحض، وسلبت الأجفان كراها، والأبدان قواها. فجيعة لا يداوى كلمها آس «1» ، ولا يسدّ ثلمها تناس. مصيبة تركت العقول مدلّهة، والنفوس مولهة. رزء هضّ وهاض «2» ، وأطال الانخزال والانخفاض، ولم يرض بأن فضّ الأعضاء، حتى أفاض الدماء. رزء ملأ الصدور ارتياعا، وقسم الألباب شعاعا، وترك الجفون مقروحة، والدموع مسفوحة، والقوى مهدودة، وطرق العزاء مسدودة. رزء نكأ القلوب وجرحها، وأحرّ الأكباد وقرّحها، مالى يد تخطّ إلّا بكلفة، ولا نفس تردد إلا فى غصّة، ولا عين تنظر إلى من وراء قذى، ولا صدر ينطوى إلّا على أذى؛ فالدموع واكفة، والقلوب واجفة، والهمّ وارد، والانس شارد. والناس مأتمهم عليه واحد ... فى كل دار رنّة وزفير كأنى كندة وهى تلهّف على حجر «3» ، والخنساء تبكى على صخر. أنا بين عبرة وزفرة، وأنّة وحسرة، وتململ واضطراب، واشتعال والتهاب. مصيبة أصبحت لغمّتها وقيذا، ولكربتها أخيذا. كتبت وقد ملك الجزع عزائى، وحصل ناظرى فى إسار بكائى، فالقلب دهش، والبنان يرتعش، وأنا من البقاء متوحّش. قد انتهى بى الهلع إلى حيث لا التّأسّى مصحب، ولا التناسى مصاحب، بى انزعاج يحلّ عقد الحزم، واكتتاب ينقض شروط العزم. قد بلغ الحزن مبلغا

لم أبتذله للنوائب، وإن جلّت وقعا، ونالت منى منالا لم يعتد طرق المصائب، وإن عظمت فجعا. كتبت عن اضطراب نفس، واضطرام صدر، والتهاب قلب، وانتهاب صبر؛ فما أعظمه مفقودا! وما أكرمه ملحودا! إنى لأنوح عليه نوح «1» المناقب، وأرثيه مع النجوم الثواقب، وأبكيه مع المعالى والمحاسن، وأثنى [عليه] بثناء المساعى والمآثر. ليت يمين الزمان شلّت قبل أن فتكت بمهجه الفضل، وعين الزمان كفّت قبل أن رأت مصرع الفخر. لقد رزئنا من فلان عالما فى شخص، وأمّة فى نفس. مضى والمحاسن تبكيه، والمناقب تعزّى فيه. العيون لما قرّت به أسخنها فيه ريب المنون، ولما شرحت به الصدور قبضها بفقده المقدور. قد ركب على الأعناق، بعد العتاق، وعلى الأجياد بعد الجياد، وفاح فتيت المسك من مآثره، كما يفوح العنبر من مجامره. كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالغضارة غبرة، وبالبياض ظلمة، واعتاض من تزاحم المراكب تلادم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل. هذى المكارم تبدى شجوها لفقده، وتلبس حدادها من بعده، وهذى المحاسن قد قامت نواد بها مع نوادبه، واقترنت مصائبها بمصائبه. لو قبلت الفدية لوقيته بنفسى وأيام عمرى، علما بأنّ العيش بمثله من إخوان الصفا يصفو، وبظعنه عن الدنيا يكدر ويعفو. لو وقى من الموت عزيز قوم لعزّته، أو كبير بأولاده وأسرته، أو ذو سلطان باستطالته وقدرته، أو زعيم دولة بحشده وعدّته، لكان الماضى أحقّ من وقى وأولى من فدى، وكنا أقدر على دفع ما حدث، وذبّ ما كرث وأرهق؛ لكنه الأمر المسوّى فيه بين من عزّ جانبه وذلّ، وكثر ماله وقلّ، حتى لحق المفضول بالفاضل، والناقص بالكامل.

ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا

ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا هو الدهر لا يعجب من طوارقه، ولا ينكر هجوم بواثقه. عطاؤه فى ضمان الارتجاع، وحباؤه فى قران الانتزاع. من عرف الزمان لم يستشعر منه الأمان، وتصرّف الحوادث، بين الموروث والوارث. الدهر مشحون بطوارق الغير، مشوب صفو إيامه بالكدر، ممزوج صابه بالعسل، موصولة حبال الأمن فيه بأسباب الأجل. قد جعل الله الدنيا دار قلعة، ومحلّ نقلة «1» ، فمن راحل ليومه، ومن مؤخّر لغده، وكلّ متشوّف لأجله، وجار لأمده. ما الدنيا إلا دار النقلة، ولا المقام فيها إلّا للرّحلة، إنّ المرء حقيق إذا طرقه ما يتحيّف صبره [ويتطرّق صدره] ، أن يعود إلى علمه بالدنيا كيف نصبت على النّقلة، وجنبت طويل المهلة، وابتدئت بالنفاد، وشفع كونها بالفساد، وأن الثاوى فيها راحل، والأيام فيها مراحل. موهوب الدنيا مسلوب وإن أرجىء إلى مهل، وممنوحها مجذوب وإن أخّر إلى أجل. لو خلّد من سبق، لما وسعت الأرض من لحق؛ ولذلك جعلت الدنيا دار قلعة، ومحلّ نجعة. سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب تملّكها الآتى تملّك سالب ... وفارقها الماضى فراق سليب وقال عتبة بن هارون: كنت مع فضل الرقاشى، فمرّ بمقبرة، فقال: يأهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، التى نطق بالخراب فناؤها، وشيّد بالتراب بناؤها، ساكنها مغترب، ومحلّها مقترب، أهل هذه المنازل متشاغلون، لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران، قد طحنهم بكلكله البلى، وأكلهم الجندل والثّرى.

[من مقامات بديع الزمان الهمذانى]

وقال خافان بن صبيح: لوحشة الشكّ التمسنا أنس اليقين، ومن ذلّ الجهل هر بنا إلى عزّ المعرفة، ولخوف الضلالة لزمنا الجادّة. وقال بعض الحكماء: كمون المصائب وسكون النوائب وبغتات المنايا مطويّات فى الساعات، متحركات فى الأوقات، وربّ مغتبط بساعة فيها انقضاء أجله، ومتمتع بوقت صار فيه إلى قبره، ومنتظر ورود يوم فيه منيّته. ووعظ أعرابىّ ابنا له أفسد ماله فى الشراب، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعدّ عليك، والأنفاس تعد منك، وأحبّ أمريك إليك، أردّهما للمضرة لديك. [من مقامات بديع الزمان الهمذانى] ومن إنشاء بديع الزمان فى المقامات: حدّثنا عيسى بن هشام قال: كنت فى الأهواز فى رفقة متى ما ترقّ العين فيهم تسهل، ليس منّا إلا أمرد بكر الآمال، بضّ الجمال، أو مختطّ حسن الإقبال، مرجوّ الأيام والليال؛ فأفضنا فى العشرة كيف [نضع قواعدها، والأخوّة كيف] نحكم معاقدها، والسرور فى أى وقت نتعاطاه، والأنس كيف نتهاداه، وفائت الحظّ كيف نتلافاه، والشراب [من أين نخلصه، والمجلس كيف نرتبه؟ فقال أحدنا: على البيت والمنزل، وقال آخر: على الشراب والنقل] ، وقال بعضنا: إلى السماع والجماع، وقمنا نجر أذيال الفسوق، حتى انسلخنا من السوق، واستقبلنا رجل فى طمرين، فى يمناه عكّازة، وعلى كتفه جنازة «1» ؛ فتطيّرنا لما رأينا الجنازة، وأعرضنا عنها صفحا، وطوينا دونها كشحا، فصاح بناصيحة كادت الأرض لها تنفطر، والنجوم تنكدر، وقال: لترونّها صغرا، ولتركبنّها قسرا. مالكم تكرهون مطيّة ركبها أسلافكم، وسيركبها أخلافكم، وتتقّذرون سريرا وطئه آباؤكم، وسيطؤه أبناؤكم؟ أما والله لتحملنّ على

هذه العيدان، إلى تلكم الدّيدان، ولتنقلنّ بهذه الجياد، إلى تلكم الوهاد. ويحكم تطّيّرون «1» ، كأنكم مخيّرون، وتتكرهون، كأنكم منزّهون، هل تنفع هذه الطّيرة، يا فجرة؟ قال عيسى بن هشام: فقد نقض علينا ما كنّا عقدناه، وأبطلنا ما كنّا أردناه؛ فملنا إليه، وقلنا: ما أحوجنا إلى وعظك، وأعشقنا للفظك! ولو شئت لزدت، قال: إنّ وراءكم موارد أنتم واردوها، وقد سرتم إليها عشرين حجّة: وإنّ امرأ قد سار عشرين حجّة ... إلى منهل من ورده لقريب وفوقكم من يعلم أسراكم، ولو شاء لهتك أستاركم، يعاملكم فى الدنيا بحلم، ويقضى عليكم فى الآخرة بعلم، فليكن الموت منكم على ذكر، لئلا تأتوا بنكر؛ فإنكم متى استشعرتموه لم تجمحوا، ومتى ذكرتموه لم تمزحوا، وإن نسيتموه فهو ذاكركم، [وإن نمتم عنه فهو ثائركم، وإن كرهتموه فهو زائركم] قلنا: فما حاجتك؟ قال: هى أطول من أن تحدّ، وأكثر من أن تعدّ، قلنا: فسانح الوقت؟ قال: ردّ فائت العمر، ودفع نازل الأمر، قلنا: ما إلى ذلك سبيل، ولكن لك ما شئت من متاع الدنيا وزخرفها، قال: لا حاجة لى فيها. قوله وإن امرأ قد سار عشرين حجة محرف عن قول قائله: وإنّ امرأ قد سار خمسين حجة والبيت لأبى محمد التيمى، أنشده دعبل: إذا ما مضى القرن الذى أنت فيهم ... وخلّفت فى قرن فأنت غريب والبيت بعده. قال دعبل: وتزعم الرواة أنه لأعرابى من بنى أسد. وقال خلاد الأرقط: كنّا على باب أبى عمرو بن العلاء ومعنا التيمى، فذكرنا كتاب

[من رسائل بديع الزمان الهمذانى]

الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم: إنى وإياك لدتان «1» ، وإن أمرأ قد سار خمسين حجة لقمن أن يرده. فأصلحناه بيتا، فاجتلبه التيمى فى شعره. [من رسائل بديع الزمان الهمذانى] وكتب البديع إلى أبى القاسم الكرخى: أنا وإن لم ألق تطاول الإخوان إلا بالتطوّل، وتجمل الأحرار إلا بالتجمّل، أحاسب الشيخ على أخلاقه ضنّا بما عقدت يدى عليه من الظنّ به، والتقدير فى مذهبه، ولولا ذاك لقلت: فى الأرض مجال إن ضاقت ظلاله، وفى الناس واصل إن رثّت حباله، وأؤاخذه بأفعاله؛ فإن أعارنى أذنا واعية، ونفسا مراعية، وقلبا متّعظا، ورجوعا عن الذهاب، ونزوعا عما يقرعه من هذا الباب، فرشت لمودّته صدرى «2» ، وعقدت عليه جوامع حصرى، ومجامع عمرى؛ وإن ركب من التعالى غير مركب، وذهب من التّغالى فى غير مذهب، أقطعته خطة أخلاقه، ووليته جانب إعراضه، فكنت امرأ: لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره فإنى- أطال الله بقاء الشيخ مولاى- وإن كنت فى مقتبل السنّ والعمر، فقد حلبت شطرى الدهر «3» ، وركبت ظهرى البرّ والبحر، ولقيت وفدى الخير والشر، وصافحت يدى النّفع والضر، وضربت إبطى العسر واليسر، وبلوت طعمى الحلو والمر، ورضنت ثديى العرف والنّكر؛ فما تكاد الأيام ترينى من أفعالها غريبا، وتسمعنى من أقوالها عجيبا، ولقيت الأفراد، وطارحت الآحاد؛ فما رأيت أحدا إلّا ملأت حافتى سمعه وبصره، وشغلت حيّزى فكره ونظره، وأثقلت كفّه فى الحزن، وكفّته فى الوزن؛ وودّ لو بارز القرن

بصفحتى، أو لقى الفضل بصحيفتى، فمالى صغرت فى عينه؟ وما الذى أزرى بى عنده؟ حتى احتجب وقد قصدته، ولزم أرضه وقد حضرته، وأنا أحاشيه أن يجهل قدر الفضل، أو يجحد فضل العلم، أو يمتطى ظهر التّيه، على أهليه، وأسأله أن يختصّنى من بينهم بفضل إنعام إن زلت بى مرة قدم رأى فى قصده، وكأنى به وقد غضب لهذه المخاطبة المجحفة، والرتبة المتحيّفة، وهو فى جنب جفائه يسير، وإن أقلع عن عادته إلى الوفاء، ونزع عن شيمته فى الجفاء؛ فأطال الله بقاء الأستاذ وأدام عزّه وتأييده وله إليه رقعة: يعزّ علىّ- أطال الله بقاء الشيخ الرئيس- أن ينوب فى خدمته قلمى، عن قدمى، ويسعد برؤيته رسولى، دون وصولى، ويرد شرعة الأنس به كتابى، قبل ركابى، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة: وعلىّ أن أسعى ولي ... س علىّ إدراك النجاح وقد حضرت داره، وقبّلت جداره، وما بى حبّ الجدران، ولكن شغفا بالقطان، ولا عشق الحيطان، ولكن شوقا إلى السكان، وحين عدت العوادى عنه، أمليت ضمير الشوق على لسان القلم، معتذرا إلى الشيخ على الحقيقة، عن تقصير وقع، وفتور فى الخدمة عرض، ولكنى أقول: إن يكن تركى لقصدك ذنبا ... فكفى ألا أراك عقابا وله جواب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد: ورد كتاب الشيخ الرئيس سيدى، فظلت وفود النعم تترى علىّ، ومثلت لدى وبين يدى، وقد أخذ مكارم نفسه، فجعلها قلادة غرسه، وتتّبع المحاسن من عنده، فحلّى بها نحر عبده «1» ، وما أشبّه رائع حليّه، فى نحر وليّه، إلا بالغرّة اللائحة «2» ، على [الدّهمة] الكالحة

لا آخذ الله الشيخ بوصف نزعه عن عرضه، وزرعه فى غير أرضه، ونعت سلخه من خلقه وخلقه، وأهداه إلى غير مستحقّه، وفضل استفاده من فرعه وأصله، وأوصله إلى غير أهله. ذكر حديث الشوق ولو كان الأمر بالزيارة حتما، أو الإذن [جزما] أطلق عزما، لكان آخر نظرى فى الكتاب، أول نظرى إلى الركاب، ولاستعنت على كلف السير، بأجنحة الطير «1» ، لكنه- أدام الله عزّه- صرعنى بين يد سريعة النبذ، ورجل وشيكة الأخذ، وأرانى زهدا فى ابتغاء، كحسو فى ارتغاء، ونزاعا فى نزوع، كذهاب فى رجوع، ورغبة فىّ كرغبة عنى، وكلاما فى الغلاف، كالضرب تحت اللحاف، فلم أصرّح بالإجابة وقد عرّض بالدعاء، ولم أعلن بالزيارة وقد أسرّ بالنداء، ولو لم يدعنى بلسان المحاجاة، ولم يجاهرنى بفم المناجاة، لكنت أسرع إليه، من الكرم إلى عطفيه، وفكرت فى مراد الشيخ، فوجدته لا يتعدّى الكرم يشبّ ناره، والفضل يدرك ثاره، وإذا كان الأمر كذلك فما أولاه بترفيه مولاه، عن زفرة صاعدة، بسفرة باعدة «2» ، ونكباء جاهدة..... وقد زاد سيدى فى أمر المخاطبة، وما أحسن الاعتدال، وقد كفانا منه الأستاذ، وأسأله ألّا يزيد، وقد بدأ ويجب ألّا يعيد، فلا تنفع كثرة العدّ مع قلة المعدود، والزيادة فى الحدّ مع نقصان المحدود نقص من الحدود، وربّ ربح أدى إلى خسران، وزيادة أفضت إلى نقصان، ورأى الشيخ فى تشريفه بجوابه موفّق إن شاء الله تعالى. اجتلب قوله فى أول هذه الرسالة من قول أبى إسحاق الصابى فى جواب كتاب لبعض إخوانه: وصل كتابك مشحونا بلطيف برّك، موشحا بغامر فضلك، ناطقا بصحّة

عهدك، صادقا عن خلوص ودّك، وفهمته وشكرت الله تعالى على سلامتك شكر المخصوص بها، ووقفت على ما وصفته من الاعتداد بى، وتناهيت إليه من التقريظ لى، فما زدت على أن أعرتنى خلالك، ونحلتنى خصالك، لأنّك بالفضائل أولى، وهى بك أحرى، ولو كنت فى نفسى ممن يشتمل على وصفه حدّى إذا حددت، أو يحيط بكماله وصفى إذا وصفت، لشرعت فى بلوغها والقرب منها، لكن المادح لك مستنفد لك وسعه وقد بخسك، ومستغرق طوقه وقد نقصك، فأبلغ ما يأتى به المثنى عليك، ويتوصل إليه المطرى لك، الوقوف فى ذلك دون منتهاه، والإقرار بالعجز دون غايته ومداه. ونقل البديع ما ذكره من ترك السفر والبغية بما حضر من قول ابن الرومى: أما حقّ حامى عرض مثلك أن ترى ... له الرّفد والتّرفيه أوجب واجب أقمت لكى تزداد نعماك نعمة ... وتغنى بوجه ناضر غير شاحب وكى لا يقول القائلون أثابه ... وعاقبه والقول جمّ المساغب وليس عجيبا أن ينوب تكرّم ... عديت به من آمل لك عائب دمامى ترعى لا ذمام سفينة ... وحقى لا حقّ القلاص النجائب «1» ودخل على أبى العتاهية أبنه، وقد تصوّف، فقال: ألم أكن قد نهيتك عن هذا؟ فقال: وما عليك أن أتعود الخير، وأنشأ عليه! فقال: يا بنى، يحتاج المتصوف إلى رقّة حال، وحلاوة شمائل، ولطافة معنى، وأنت ثقيل الظل، مظلم الهواء، راكد النسيم، حامد العينين، فأقبل على سوقك؛ فإنها أعود عليك. وكان بزّازا.

فقر من كلام المتصوفة والزهاد والقصاص

فقر من كلام المتصوفة والزهاد والقصاص نور الحقيقة، أحسن من نور الحديقة. الزهد قطع العلائق، وهجر الخلائق. الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة. التصوّف ترك التكلّف. قيل لمتصوّف: أتيع مرقّعتك؟ قال: أرأيتم صيادا يبيع شبكته! وقيل لبعضهم: لو تزوّجت! قال: لو قدرت أن أطلق نفسى لطلقتها، وأنشد: تجرّد من الدنيا فإنك إنما ... سقطت إلى الدنيا وأنت مجرّد الدنيا نوم والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن فى أضغاث أحلام. ذو النون: العبد بين نغمة وذنب، لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار. غيره: ينبغى للعبد أن يكون فى الدنيا كالمريض لابد له من قوت، ولا يوافقه كل طعام. ليس فى الجنة نعيم أعظم من علم أهلها أنها لا تزول. ابن المبارك: الزهد إخفاء الزهد. إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه، وإذا طلبهم فاهرب عنه. من أطلق طرفه كثر أسفه. من سوء القدر فضل النظر من طاوع طرفه، تابع حتفه، ومن نظر بعين الهوى حار، ومن حكم على الهوى جار، ومن أطال النظر لم يدرك الغاية، وليس لناظر نهاية. ربما أبصر الأعمى رشده، وأصلّ البصير قصده. وقيل: ربّ حرب جنيت من لفظة، وربّ حبّ غرس من لحظة، وأنشد: نظرت إليها نظرة لو كسوتها ... سرابيل أبدان الحديد المسرّد لرقّت حواشيها وفض حديدها ... ولانت كما لانت لداود فى اليد «1» وقال سعيد بن حميد: نظرت فقادتنى إلى الحتف نظرة ... إلى بمضمون الضمير تشير «2»

فلا تصرفنّ الطّرف فى كل منظر ... فإنّ معاريض البلاء كثير ولم أر مثل الحبّ أسقم ذا هوى ... ولا مثل حكم الحبّ كيف يجور لقد صنت ما بى فى الضمير لو أنه ... يصان لدى الطّرف النموم ضمير غيره: اليوم أيقنت أن الحبّ متلفة ... وأن صاحبه منه على خطر كيف الحياة لمن أمسى على شرف ... من المنيّة بين الخوف والحذر يلوم عينيه أحيانا بذنبهما ... ويحمل الذنب أحيانا على القدر إذا نأى أو دنا فالقلب عندكم ... وقلبه أبدا منه على سفر ونظر محمد بن أسباط الصوفى إلى أبى المثنى الشيبانى وقد نظر فى وجه غلام مليح، فقال: [إياك و] إدمان النظر [فإنه] يكشف الخبر، ويفضح البشر، ويطول به المكث فى سقر. وقال المعلى الصوفىّ: شكوت إلى بعض الزهاد فسادا أجده فى قلبى، فقال: هل نظرت إلى شىء فتاقت إليه نفسك؟ قلت: نعم، قال: احفظ عينيك؛ فإنك إن أطلقتهما أوقعتاك فى مكروه، وإن ملكتهما ملكت سائر جوارحك. وقال مسلم الخوّاص لمحمد بن على الصوفى: أوصنى، فقال: أوصيك بتقوى الله فى أمرك كلّه، وإيثار ما يحبّ على محبتك، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طرفك، وشوّقك إليه قلبك؛ فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئا من جوارحك، حتى تبلغ لهما ما يطالعانك به «1» ، وإن ملكتهما كنت الداعى إلى ما أردت، فلم يعصيا لك أمرا ولم يردّا لك قولا. قال بعض الحكماء: إن الله عزّ وجل جعل القلب أمير الجسد، وملك الأعضاء؛ فجميع الجوارح تنقاد له، وكلّ الحواسّ تطيعه، وهو مديرها «2»

ومصرّفها، وقائدها وسائقها، وبإرادته تنبعث، وفى طاعته تتقلّب؛ ووزيره العقل، وعاضده الفهم، ورائده العينان، وطليعته الأذنان. [وهما فى النقل سواء، لا يكتمانه أمرا، ولا يطويان دونه سرّا، يريد العين والأذن] . وقيل لأفلاطون: أيهما أشدّ ضررا بالقلب السمع أم البصر؟ فقال: هما للقلب كالجناحين للطائر، لا يستقلّ إلا بهما، ولا ينهض إلا بقوتهما، وربما قص أحدهما فنهض بالآخر على تعب ومشقة. قيل: فما بال الأعمى يعشق ولا يرى، والأصم يعشق ولا يسمع؟ قال: لذلك قلت: إن الطائر قد ينهض بأحد جناحيه ولا يستقلّ بهما طيرانا، فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى، و [طيرانه] أوحى «1» . وقال الأسود بن طالوت الجارودى: نظر إلىّ أبو الغمر الصوفى وقد أطلت النظر إلى غلام جميل، فقال: ويحك! إنّ طرفك لعظيم ما اجتنى من البلاء قد عرّضك للمكروه وطول العناء، لقد نظرت إلى حتف قاتل للقلوب، وبلاء مظهر للعيوب، وعار فاضح للنفوس، ومكروه مذهل للعقول، أكل هذا الاغترار بالله جرأك عليه حتى أمنت مكره، ولم تخف كيده؛ أعلم أنك لم تكن فى وقت من أوقاتك، ولا حالة من حالاتك، أقرب إلى عقوبة الله منك فى حالتك هذه، ولو أخذك لم يتخلّصك الثقلان، ولم يقبل فيك شفاعة إنس ولا جان. ونظر محمد بن ضوء الصوفى إلى رجل ينظر إلى غلام مليح، فقال: كفى بالعبد نقصا عند الله، وضعة عند ذوى العقول، أن ينظر إلى كل ما سنح له من البلاء. ونظر [أبو] مسلم الخشوعى فأطال النظر، فقال: إنّ فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب. ثم قال: سبحان الله! ما أهجم طرفى على مكروه نفسه، وأدمنه على تسخّط سيده،

وأغراه بما نهى عنه، وألهجه بما حذّر منه! لقد نظرت إلى هذا نظرا شديدا خشيت أنه سيفضحنى عند جميع من يعرفنى فى عرصة القيامة؛ ولقد تركنى نظرى هذا وأنا أستحى من الله تعالى إن غفر لى! ثم صعق. ونظر غالب المضرور «1» إلى علام جميل على فرس رائع، فقال: لا أدرى بم أداوى طرفى، ولا بم أعالج قلبى؟ ما أتوب إلى الله من ذنب إلا رجعت فيه، ولا أستغفره من أمر إلّا أتيت أعظم منه، حتى لقد استحييت أن أسأله المغفرة لما يلحق قلبى من القنوط من عفوه، لعظيم حالى بالمنكر الذى أصنعه. فقال له قائل: وأىّ منكر أتيت؟ فقال: أنريد منى أكثر من نظرى هذا! والله لقد خشيت أن يبطل كلّ عمل قدمته، وخير أسلفته، ثم بكى حتى ألصق خدّه بالأرض. ورأى بعض الزهّاد صوفيا يضحك إلى غلام جميل، فقال له: يا خارب القلب، ويا مفتضح الطرف؛ أما تستحى من كرام كاتبين، وملائكة حافظين، يحفظون الأفعال، ويكتبون الأعمال، وينظرون إليك، ويشهدون عليك، بالبلاء الظاهر، والغلّ الدخيل المخامر، الذى أقمت نفسك فيه مقام من لا يبالى من وقف عليه، ونظر من الخلق إليه. وقال أبو حمزة بن إبراهيم: قلت لمحمد بن العلاء الدمشقى- وكان سيد المتصوفة، وقد رأيته يماشى غلاما وضيئا مدة ثم فارقه-: لم هجرت ذلك الفتى بعد أن كنت له مواصلا، وإليه مائلا؟ فقال: والله لقد فارقته من غير قلى ولا ملل؛ ولقد رأيت قلبى يدعونى إذا خلوت به، وقربت منه، إلى أمر لو أتيته لسقطت من عين الله عز وجل؛ فهجرته تنزيها لله ولنفسى عن مصارع الفتن، وإنى لأرجو أن يعقبنى سيدى من

مفارقته ما أعقب الصابرين عن محارمه عند صدق الوفاء بأحسن الجزاء؛ ثم بكى حتى رحمته. قال أبو حمزة: ورأيت مع أحمد بن على الصّوفى ببيت المقدس غلاما جميلا، فقلت: منذكم صحبك هذا الغلام؟ فقال: منذ سنين، فقلت: لو سرتما إلى بعض المنازه فكنتما فيه كان أحمد لكما من الجلوس فى المسجد بحيث يراكما الناس؟ فقال: أخاف احتيال الشيطان علىّ به وقت خلوتى، وإنى لأكره أن يرانى الله فيه على معصية فيفرّق بينى وبينه يوم يظفر المحبّون بأحبابهم قال أبو الفتح البستى: تنازع الناس فى الصوفىّ، واختلفوا ... فيه وظنّوه مشتقّا من الصوف ولست أنحل هذا الاسم غير فتى ... صافى فصوفى حتى لقّب الصوفى ورأى بقراط رجلا من تلامذته يتفرّس فى وجه أوحيا، وكانت فائقة الجمال، فقال: ما هذا الشغل الذى منعك الرويّة والفكرة؟ فقال: التعجب من آثار حكمة الطبيعة فى صورة أوحيا، فقال: لا تجعلنّ نظرك لشهوتك مركبا، فيجمع لك فى الوحول الأذية «1» ؛ ولتكن نفسك منه على بال، إنّ آثار الطبيعة فى وجه أوحيا الظاهرة تمحق بصرك، وإن فكرت فى صورتها الباطنة تحد نظرك. وقال بعضهم: رأيت جارية حسناء الساعد؛ فقلت: يا جارية، ما أحسن ساعدك! فقالت: [أجل، لكنه] لم تختص به، فغضّ بصر جسمك عما ليس لك؛ لينفتح بصر عقلك فترى مالك.

الرأى والهوى

الرأى والهوى وقال بعض الفلاسفة اليونانيين: فضل ما بين الرّأى والهوى أنّ الهوى يخصّ والرأى يعمّ، وأن الهوى فى حيز العاجل، والرأى فى حيز الآجل، والرأى يبقى على طول الزمان، والهوى سريع الدثور «1» والاضمحلال، والهوى فى حير الحس، والرأى فى حيّز العقل. وقال بعض الحكماء: من انقاد لهواه عرضته الشهوات. وقال آخر: من جرى مع هواه طلقا «2» ، جعل عليه للذل طرقا. وقال ابن دريد: أوصى بعض الحكماء رجلا فقال: آمرك بمجاهدة هواك؛ فإنه يقال: إنّ الهوى مفتاح السيئات، وخصيم الحسنات، وكلّ أهوائك لك عدو، وأعداهما هوى يكتمك نفسه، وأعدى منه هوى يمثّل لك الإثم فى صورة التقوى، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحزم لا يشوبه وهن «3» ، وصدق لا يطمع فيه تكذيب، ومضاء لا يقاربه التثبيط، وصبر لا يغتاله الجزع، وهمة لا يتقسّمها التضييع وقال أبو العتاهية: لا تأمن الموت فى طرف وفى نفس ... ولو تمنّعت بالحجّاب والحرس فما تزال سهام الموت نافذة ... فى جنب مدّرع منا ومتّرس «4» ما بال دينك ترضى أن تدنّسه ... وثوبك الدهر مغسول من الدّنس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجرى على يبس [من البد بدائه فى مجالس الخلفاء] خرج شبيب بن شيبة من دار المهدى، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ قال:

رأيت الداخل راجيا والخارج راضيا. نحا إلى هذا المعنى ربيعة الرقى فقال: قد بسط المهدىّ كفّ الندى ... للناس والعفو عن الظالم فالراحل الصادر عن بابه ... مبشر للوارد القادم وقال مسلم بن الوليد فى نحو هذا المعنى: جزيت ابن منصور على نأى داره ... جزاء مقرّ بالصنيعة شاكر فتّى راغم الأموال واصطنع العلا ... وأرّث نيران الندى للعشائر «1» [ترى الناس أرسالا على باب داره] ... [على آمن يحدو به حمل صادر «2» وقال المتنبى: وألقى الفم الضحّاك أعلم أنه ... قريب بذى الكفّ المفدّاة عهده دخل خالد بن صفوان على أبى العباس السفاح، وعنده أخواله من بنى الحارث بن كعب، فقال: ما تقول فى أخوالى؟ فقال: هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، وغرس الجود، إنّ فيهم لخصالا ما اجتمعت فى غيرهم من قومهم؛ إنهم لأطولهم أمما، وأكرمهم شيما، وأطيبهم طعما، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم همما، الجمرة فى الحرب، والرّفد فى الجدب، والرأس فى كل خطب، وغيرهم بمنزلة العجب «3» . فقال: وصفت أبا صفوان فأحسنت، فزاد أخواله فى الفخر؛ فغضب أبو العباس لأعمامه، فقال: أفخر يا خالد؟ قال: أعلى أخوال المؤمنين! قال: وأنت من أعمامه؟ قال: كيف أفاخر قوما هم بين ناسج برد، وسائس قرد، ودابغ جلد «4» ، دلّ عليهم هدهد، وغرّقهم جرذ، وملكتهم أمّ ولد! فأشرق وجه أبى العباس. قال يموت ابن المزرّع: سمعت خالى الجاحظ، وذكر كلام خالد هذا، فقال: والله لو فكر فى جمع معايبهم، واختصار اللفظ فى مثالبهم،

بعد ذلك المدح المهذب سنة لكان قليلا، فكيف على بديهته لم يرض له فكرا. هكذا أورد هذه الحكاية الصولى، وقد جاءت بأطول من هذا، وليس من شرطنا. قال معن بن أوس الهذلى: لعمرك ما أدرى وإنى لأوجل ... على أيّنا تأنى المنية أول وإنى أخوك الدائم الودّ لم أحل ... إذا ناب خطب أو نبا بك منزل «1» كأنك تشفى منك داء مساءتى ... وسخطى، وما فى ريبتى ما تعجّل وإن سؤتنى يوما صبرت إلى غد ... ليعقب يوما آخر منك مقبل ستقطع فى الدنيا إذا ما قطعتنى ... يمينك فانظر أىّ كفّ تبدّل وفى الناس إن رثّت حبالك واصل ... وفى الأرض عن دار القلى متحوّل إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل وكنت إذا ما صاحب رام ظنتى ... وبدّل سوءا بالذى كان يفعل قلبت له ظهر المجنّ ولم أدم ... عليه العهد إلا ريثما أتحوّل إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد ... على بوجه آخر الدهر تقبل ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبى سفيان وأنشد شعر معن، فقال: لمن هذا؟ فقال: لى يا أمير المؤمنين، قال: لقد شعرت بعدى يا أبا بكر! ثم دخل عليه معن فأنشد الشعر بعينه، فقال: يا أبا بكر، ألم تقل إنه شعرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ظئرى «2» فما كان له فهو لى. أراد معاتبة معاوية فعاتبه بشعر معن؛ ليبلغ ما فى نفسه، وليس ادّعاؤه له على حقيقة منه.

وقال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك، فاستدنانى حتى كنت أقرب الناس إليه، ثم تنفّس الصعداء، وقال: يا خالد، ربّ خالد جلس مجلسك هو أشهى إلىّ حديثا منك! فعلمت أنه أراد خالدا القسرى، فقلت: أفلا تعيده يا أمير المؤمنين؟ فقال: هيهات؟ إن خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف فأعجف، ولم يدع لراجع مرجعا. وتمثل بهذا البيت: إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد ... عليه بوجه آخر الدهر تقبل وروى أبو حاتم عن أبى عبيدة قال: كان عبد الملك بن مروان فى سمره مع أهل بيته وولده وخاصّته، فقال لهم: ليقل كلّ واحد منكم أحسن ما قيل من الشعر، وليفصّل [من] رأى تفضيله، فأنشدوا وفضّلوا، فقال بعضهم: [امرؤ القيس، وقال بعضهم:] النابغة، وقال بعضهم: الأعشى، فلما فرغوا قال: أشعر الناس والله من هؤلاء الذى يقول، وأنشد بعض هذه الأبيات التى أنشد، وهى لمعن بن أوس: وذى رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمى عنه وهو ليس له حلم يحاول رغمى لا يحاول غيره ... وكالموت عندى أن يحلّ به الرغم فإن أعف عنه أغض عينا على قذى ... وليس له بالصّفح عن ذنبه علم وإن أنتصر منه أكن مثل رائش ... سهام عدوّ يستهاض بها العظم صبرت على ما كان بينى وبينه ... وما يستوى حرب الأقارب والسّلم وبادرت منه النأى والمرء قادر ... على سهمه ما كان فى كفّه السهم ويشتم عرضى فى المغيّب جاهدا ... وليس له عندى هوان ولا شتم «1» إذا سمته وصل القرابة سامنى ... قطيعتها، تلك السفاهة والإثم فإن أدعه للنّصف يأب إجابتى ... ويدعو لحكم جائر غيره الحكم «2»

[من رسائل أبى الفضل بن العميد]

فلولا اتقاء الله والرّحم التى ... رعايتها حقّ وتعطيلها ظلم إذا لعلاه بارق وخطمته ... بوسم شنار لا يشابهه وسم «1» ويسعى إذا أبنى ليهدم صالحى ... وليس الذى يبنى كمن شانه الهدم يودّ لو أبى معدم ذو خصاصة ... وأكره جهدى أن يخالطه العدم ويعتدّ غنما فى الحوادث نكبتى ... وما إن له فيها سناء ولا غنم فما زلت فى لينى له وتعطّفى ... عليه كما تحنو على الولد الأمّ وخفضى له منى الجناح تألّفا ... لتدنيه منى القرابة والرّحم وصبرى على أشياء منه تريبنى ... وكظمى عن غيظى وقد ينفع الكظم لاستلّ منه الضّغن حتى استللته ... وقد كان ذا ضغن يصوبه الحزم «2» رأيت انثلاما بيننا فرقعته ... برفقى أحيانا وقد يرقع الثّلم وأبرأت غلّ الصدر منه توسّعا ... بحلمى كما يشفى بالادوية الكلم فأطفأت نار الحرب بينى وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم [من رسائل أبى الفضل بن العميد] وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى: وصل كتابك فصادفنى قريب عهد بانطلاق، من عنت الفراق، وأوقفنى مستريح الأعضاء والجوانح من حر الاشتياق، فإنّ الدهر جرى على حكمه المألوف فى تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف فى تبديل الأبدال، وأعتقنى من مخالّتك عتقا لا تستحقّ به ولاء، وأبرأنى من عهدتك براءة لا تستوجب معها دركا ولا استثناء، ونزع من عنفى ربقة الذّل فى إخائك بيدى جفائك، ورشّ على ما كان يحتدم فى ضميرى من نيران الشوق ماء السلوّ، وشنّ على ما كان يلتهب فى صدرى من الوجد

ماء اليأس، ومسح أعشار قلبى فلام فطورها بجميل الصبر «1» ، وشعب أفلاذ كبدى فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل فى مسالك أنفاسى فعوض نفسى من النزاع إليك نزوعا عنك «2» ، ومن الذهاب فيك رجوعا دونك، وكشف عن عينى ضبابات ما ألقاه الهوى على بصرى، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظرى، حتى حدر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجوه خليقتك؛ فلم أجد إلّا منكرا، ولم ألق إلا مستكبرا، فوليت منها فرارا، وملئت رعبا، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذميما عهدك. وفى فصل من هذه الرسالة: وأما عذرك الذى رمت بسطه فانقبض، وحاولت تمهيده وتقريره فاستوفز وأعرض، ورفعت بضبعه فانخفض، فقد ورد ولقيته بوجه يؤثر قبوله على ردّه، وتزكيته على جرحه، فلم يف بما بذلته لك من نفسه، ولم يقم عند ظنّك به، أنّى وقد غطّى التذمّم وجهه، ولفّ الحياء رأسه، وغضّ الخجل طرفه؛ فلم تتمكن من استكشافه، وولّى فلم تقدر على إيقافه، ومضى يعثر فى فضول ما يغشاه من كرب حتى سقط، فقلنا: لليد والفم؛ ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إلّا تأبّط شرا، أو تحمّل وزرا. وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول: اقر السلام على الأمير وقل له ... قدك اتّئب أر بيت فى الغلواء أنت الذى شتّتّ شمل مسرّتى ... وقدحت نار الشوق فى أحشائى ورضيت بالثمن اليسير معوضة ... منى، فهلّا بعتنى بغلاء وسألتك العتبى فلم ترنى لها ... أهلا، فجدت بعذرة شوهاء «3» وردت مموّهة فلم يرفع لها ... طرف، ولم ترزق من الإصغاء

وأعار منطقها التذمّم سكتة ... فتراجعت تمشى على استحياء لم تشف من كمد، ولم تبرد على ... كبد، ولم تمسح جوانب داء داوت جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء من يشف من كمد بآخر مثله ... أثرت جوارحه على الأدواء وله إليه رسالة: أخاطب الشيخ سيدى- أطال الله بقاءه- مخاطبة محرج يروم الترويح عن قلبه، ويريغ التفريج «1» من كربه؛ فأكاتبه مكاتبة مصدور، يريد أن ينفث بعض ما به، ويخفّف الشكوى من أوصابه، ولو بقيت فى التصبّر بقية لسكتّ، ولو وجدت فى أثناء وجدى مخرجة يتحلّلها تجلّد لأمسكت؛ فقديما لبست الصديق على علّاته، وصفحت له عن هناته، ولكنى مغلوب على العزاء، مأخوذ عن عادتى فى الإغضاء، فقد سلّ من جفائك ما ترك احتمالى جفاء، وذهب فى نفسى من ظلمك ما أنزف حلمى فجعله هباء، وتوالى علىّ من قبح فعلك فى هجر يستمر على نسق، وصد مطّرد متّسق، ما لو فضّ على الورى، وأفيض على البشر لامتلأت منه صدورهم، فهل أقدر على ألّا أقول، وهل نكلك إلى مراعاتك، وهل نشكوك إلى الدهر حليفك على الإضرار، وعقيدك على الإفساد «2» ، وأشكوه إليك، فإنكما وإن كنتما فى قطيعة الصديق رضيعى لبان، وفى استيطاء مركب العقوق شريكى عنان، فإنه فاصر عنك فى دقائق مخترعة، أنت فيها نسيج وحدك، وقاعد عما تقوم به من لطائف مبتدعة، أنت فيها وحيد عصرك، أنتما متفقان فى ظاهر يسرّ الناظر، وباطن يسوء الخابر، وفى تبديل الأبدال، والتحول من حال إلى حال، وفى بثّ حبائل الزور، ونصب أشراك الغرور، وفى خلف الموعود، والرجوع فى الموهوب، وفى فظاعة اهتضام ما يعير، وشناعة ارتجاع ما يمنح، وقصد مشارّة الأحرار «3» ، والتحامل

عند ذوى الأخطار، وفى تكذيب الظنون، والميل عن النباهة للخمول، إلى كثير من شيمكا التى أسندتما إليها، وسنتكما التى تعاقدتما عليها، فأين هو ممن لا يجارى فيه نقض عرى العهود، ونسكث قوى العقود؟ وأنى هو عن النميمة والغيبة، ومشى الضراء» فى الغيلة، والتنفق بالنفاق فى الحيلة وأين هو ممن ادّعى ضروب الباطل، والتحلّى بما هو منه عاطل، وتنقّص العلماء والأفاضل؛ هذا إلى كثير من مساو منثورة أنت ناظمها، ومخاز متفرقة أنت جامعها. أنت أيّدك الله إن سوّيته بنفسك، ووزنته بوزنك، أظلم منه لذويه، وأعق منه لبنيه؛ وهبك على الجملة قد زعمت- مفتريا عليه- أنه أشدّ منك قدرة، وأعظم بسطة، وأتمّ نصرة، وأطلق يدا فى الإساءة، وأمضى فى كل نكابة شباة «2» ، وأحدّ فى كل عاملة شداة «3» ، وأعظم فى كل مكروه متغلغلا، وآلف إلى كل محذور متوصلا، إن الدهر الذى ليس بمعتب من يجزع، وإن العتبى منك مأمولة، ومن جهتك مرقوبة، وهيهات! فهل توهّم أنه لو كان ذا روح وجثمان، مصورا فى صورة إنسان، ثم كاتبته أستعطفه على الصلة، وأستعفيه من الهجر، وأذكّره من المودة، وأستميل به إلى رعاية المقة، وأستعد على ما أشاعه الفراق فى نفسى من اللوعة، وأضرمه بالبعاد فى صدرى من الحرقة، كان يستحسن ما استحسنته من الاضطراب عند جوابى، ويستجيز ما استجزته من الاستخفاف بكتابى. وله فصل فى هذه الرسالة، وقد ذكر دعواه فى العلم: وهبك أفلاطون نفسه فأين ما سننته من السياسة، فقد قرأناه، أتجد فيه إرشادا إلى قطيعة صديق، واحسبك أرسطاطاليس بعينه، أين ما رسمته من الأخلاق؟ فقد رأيناه فلم تر فيه هداية إلى شىء من العقوق، وأما الهندسة فإنها باحثة عن المقادير، ولن يعرفها إلا من جهل مقدار نفسه، وقدر الحقّ عليه وله؛ بل لك فى رؤساء الآداب العربية [منّا ريح ومضطرب، ولسنا نشاحّك، لكن أتحب أن تتحقّق

بالغريب من القول، دون الغريب] من الفعل؟ وقد أغربت فى الذهاب بنفسك إلى حيث لا تهتدى للرجوع عنه. وأما النحو فلن تدفع عن حذق فيه، وبصر به، وقد اختصرته أوجز اختصار، وسهلت سبيل تعليمه على من يجعلك قدوة، ويرضى بك أسوة، فقلت: الغدر والباطل وما جرى مجراهما مرفوع، والصدق والحق وما صاحبهما مخفوض، وقد نصب الصديق عندك، ولكن غرضا يرشق بسهام الغيبة، وعلما يقصد بالوقيعة، ولست بالعروضى ذى اللهجة فأعرف قدر حذقك فيه، إلا أنى لا أراك تتعرّض لكامل فيه، ولا وافر، وليتك سبحت فى بحر المجتثّ حتى تخرج منه إلى شطّ المتقارب. وفى فصل منها أيضا: وهبنى سكتّ لدعواك سكوت متعجّب، ورضيت رضا متسخّط، أيرضى الفضل اجتذابك بأهدائه، من يدى أهليه وأصحابه، وأحسبك لم تزاحم خطابه، حتى عرفت ذلة نفره وقلة بصره، فاصدقنى هل أنشدك: لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم «1» وليت شعرى بأى حلى تصدّيت له، وأنت لو تتّوجت بالثريّا، وقلدت قلادة الفلك، وتمنطقت بمنطقة الجوزاء، وتوشّحت بالمجرة لم تكن إلا عطلا، ولو توشّحت بأنوار الربيع الزاهر، وسرّجت جبينك غرّة البدر الباهر، ما كنت إلا عطلا، سيما مع قلّة وفائك، وضعف إخائك، وظلمة ما تتصرّف فيه من خصالك، وتراكم الدّجى على ضلالك، وقد ندمت على ما أعرتك من ودّى، ولكن أى ساعة مندم، بعد إفناء الزمان فى ابتلائك، وتصفّحى حالات الدهر فى اختيارك، وبعد تضييع ما غرسته، ونقض ما أسسته، فإن الوداد غرس إذا لم يوافق ثرى ثريا، وجوّا عذيّا «2» ، وماء رويّا، لم يرج زكاؤه، ولم يجر نماؤه، ولم تفتّح أزهاره، ولم تجن ثماره، ولبت شعرى، كيف

[حسن التأتى للأمور]

ملك الضلال قيادى حتى أشكل علىّ ما يحتاج إليه الممزوجان، ولا يستغنى عنه المتآلفان، وهما ممازجة طبع، وموافقة شكل وخلق، ومطابقة خيم «1» وخلق، وما وصلتنا حال تجمعنا على ائتلاف، وحمتنا من اختلاف، ونحن فى طرفى ضدّين، وبين أمرين متباعدين، وإذا حصّلت الأمر وجدت أقل ما بيننا من البعاد، أكثر مما بين الوهاد والنّجاد «2» ، وأبعد مما بين البياض والسواد، وأيسر ما بيننا من النفار أقلّ [ما بيننا من النضار، وأكثر ما] بين الليل والنهار، والإعلان والإسرار [حسن التأتى للأمور] قال أسد بن عبد الله لأبى جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، فرط الخيلاء، وهيبة العزة، وظلّ الخلافة، يكفّ عن الطلب من أمير المؤمنين إلّا عن إذنه، فقال له: قل، فقد والله أصبت مسلك الطلب؛ فسأل حوائج كثيرة قضيت له. وقال عمرو بن نهيك لأبى جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، قد حضر خدمك الإعظام والهيبة عن ابتدائك بطلياتهم، وما عاقبة هذين لهم عندك؟ قال: عطاء يزيدهم حياء، وإكرام يكسوهم هيبة الأبد قال عيسى بن على: ما زال المنصور يشاورنا فى أمره حتى قال إبراهيم بن هرمة فيه: إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميرا غير مختلف العقل ولم يشرك الأدنين فى جلّ أمره ... إذا اختلفت بالأضعفين قوى الحبل فقر فى ذكر المشورة المشورة لقاح العقل، ورائد الصواب، وحزم التدبير. المشاورة قبل المساورة. والمشورة عين الهداية.

[تأريخ الكتب والرسائل]

ابن المعتز: من رضى بحاله استراح، والمستشير على طرف النجاح. وله: من أكثر المشورة لم يعدم فى الصواب مادحا، وفى الخطإ عاذرا. بشار بن برد: المشاور بين إحدى الحسنيين: صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك فى مكروهه، وقال: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... بعزم نصيح أو مشورة حازم ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافى قوة للقوادم «1» وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإن الحرّ ليس بنائم وأدن إلى القرب المقرّب نفسه ... ولا تشهد النجوى امرأ غير كاتم فإنك لا تستطرد الغمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب فى حمالات لزمته فقال: أيها الأمير، قد عظم شأنك أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تفعل شيئا من المعروف إلا وأنت أكبر منه، وليس العجب من أن تفعل، بل العجب من ألّا تفعل؛ فقضاها. [تأريخ الكتب والرسائل] استخلص القاضى أبو خليفة الفضل بن حباب الجمحىّ رجلا للأنس به، فقال: أغيّر ثيابى وأعود، قال: ما أفعل، إيناسك وعد، وإيحاشك نقد، وكان أبو خليفة من جلّة المحدثين، وله حلاوة معنى، وحسن عبارة، وبلاغة لفظ. قال الصولى: كاتبت أبا خليفة فى أمور أرادها فأغفلت التاريخ منها فى كتابين، فكتب إلىّ بعد نفوذ الثانى: وصل كتابك- أعزّك الله- مبهم الأوان، مظلم المكان، فأدّى خيرا ما القرب

فقر وأمثال، يتداولها العمال

فيه بأولى من البعد؛ فإذا كتبت- أكرمك الله تعالى! - فلتكن كتبك مرسومة بتاريخ؛ لأعرف أدنى آثارك، وأقرب أخبارك، إن شاء الله تعالى. وقال بعض الكتاب: التاريخ عمود اليقين، ونافى الشك، به تعرف الحقوق، وتحفظ العهود. وقال رجل لأبى خليفة سلم عليه: ما أحسبك تعرف نسبى، فقال: وجهك يدلّ على نسبك، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد لى السبيل إلى معرفتك. وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تفضى إليه الخلافة شبيب بن شيبة، فانتسب له فعرفه أبو جعفر، فأثنى عليه وعلى قومه، فقال له شبيب: بأبى أنت وأمى! أنا أحبّ المعرفة واجلّك عن المسألة، فتبسّم أبو جعفر وقال: لطف أهل العراق! أنا عبد الله بن محمد [بن على] بن عبد الله بن العباس، فقال: بأبى أنت وأمى. ما أشبهك بنسبك؛ وأدلّك على منصبك. فقر وأمثال، يتداولها العمال الولاية حلوة الرضاع مرّة الفطام. غبار العمل خير من زعفران العطلة. ابن الزيات: الإرجاف مقدمة السكون. عبد الله بن يحيى: الإرجاف رائد الفتنة. حامد بن العباس: غرس البلوى، يثمر الشكوى. أبو محمد المهلبى: التصرف أعلى وأثنى، والتعطل أصفى وأعفى أبو القاسم الصاحب: وعد الكريم، ألزم من دين الغريم. ابن المعتز: ذلّ العزل يضحك من تيه الولاية. وقال: كم تائه بولاية ... وبعزله ركض البريد سكر الولاية طيب ... وخمارها صعب شديد

[من ترجمة منصور الفقيه، وأخباره]

وقال: من ولى ولاية فتاه فيها فأخبره أنّ قدره دونها. العزل طلاق الرجال وحيض العمال. وأنشدوا: وقالوا العزل للعمال حيض ... لحاه الله من حيض بغيض فإن يك هكذا فأبو علىّ ... من اللائى يئسن من المحيض منصور الفقيه: يا من تولّى فأبدى ... لنا الجفا وتبدّل أليس منك سمعنا ... من لم يمت فسيعزل وقال أيضا: إذا عزل المرء واصلته ... وعند الولاية أستكبر لأن المولّى له نخوة ... ونفسى على الذلّ لا تصبر [من ترجمة منصور الفقيه، وأخباره] ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمى «1» ، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه، وهو حلو المقطعات، لا تزال تندر له الأبيات مما يستظرف معناه، ويستحلى مغزاه، [ويبقى ثناه] ، وهو القائل لما كفّ بصره: من قال مات ولم يستوف مدته ... لعظم نازلة نالته معذور وليس فى الحكم أن يحيا فتى بلغت ... به نهاية ما يخشى المقادير فقل له عير مرتاب بغفلته ... أو سوء مذهبه: قد عاش منصور وعتب على بعض الأشراف، وكانت أمّه أمة قيمتها ثمانية عشر دينارا، فقال: من فاتنى بأبيه ... ولم يفتنى بأمه

ورام شتمى ظلما ... سكتّ عن نصف شتمه وقال: لو قيل لى خذ أمانا ... من حادث الأزمان لما أخذت أمانا ... إلّا من الإخوان وقال: رضيت بما قسم الله لى ... وفوّضت أمرى إلى خالقى كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقى وقال: لو كنت منتفعا بعل ... مك مع مواصلة الكبائر ما ضرّ شرب السمّ واع ... لم أن شرب السم ضائر وقال: إذا القوت تأتّى ل ... ك والصحة والأمن وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن ورأيت له فى أكثر النسخ- على أنّ أكثر الناس يرويه لإبراهيم بن المهدى، وهو الصحيح-: لولا الحياء وأننى مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير لحللت منزلنا الذى نحتلّه ... ولكان منزلنا هو المهجور «1» وهذا كقول الصاحب أبى القاسم: [دعتنى عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر فى كل ساعه فلولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعه

[تغير الحال، بكثرة الأموال]

وقال ابن دريد فى معنى البيت الأول فأحسن:] إذا رأيت امرأ فى حال عسرته ... مصافيا لك ما فى ودّه خلل فلا تمنّ له أن يستفيد غنى ... فإنه بانتقال الحال ينتقل [تغير الحال، بكثرة الأموال] وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق قد نالته عسرة، ثم ولى عملا، فأتاه محمد قاضيا حقّا ومسلما عليه، فرأى منه [نبوة و] تغيّرا، فكتب إليه: لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة ... وأصبحت ذا يسر، وقد كنت ذا عسر لقد كشف الإثراء منك خلائقا ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر وقال أبو العتاهية فى عمرو بن مسعدة، وكان له خلّا قبل ارتفاع حاله، فلما علت رتبته مع المأمون تغيّر عليه: غنيت عن العهد القديم غنيتا ... وضيّعت عهدا كان لى ونسيتا وقد كنت لى أيام ضعف من القوى ... أبر وأوفى منك حين قويتا تجاهلت عما كنت تحسن وصفه ... ومتّ عن الإحسان حين حيبتا وكتب بديع الزمان إلى أبى نصر بن المرزبان فيما ينخرط فى هذا السلك: كنت- أطال الله بقاء الشيخ سيدى وأدام عزّه- فى قديم الزمان أتمنّى الخير للاخوان، وأسأل الله تعالى أن يدرّ عليهم أخلاف الرزق «1» ، ويمدلهم أكناف العيش، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويوطئهم أكناف العز، وينيلهم أعراف المجد، وقصاراى الآن أن أرغب إلى الله تعالى ألّا ينيلهم فوق الكفاية، فشدّ ما يطغون عند النعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، ويجمعون من مال، وينسون فى ساعة اللدونة. أوقات الخشونة «2» ، وفى أزمان العذوبة أيام الصعوبة، وللكتّاب مزيّة

فى هذا الباب؛ فبينهم فى الغربة أعوان كما انفرج المشط، وفى العطلة إخوان كما انتظم السّمط، حتى إذا لحظهم الجدّ لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أوصك جعالة؛ عاد عامر مودتهم خرابا، وانقلب شراب عهدهم سرابا، فما اتّسعت دورهم إلا ضاقت صدورهم، ولا علت قدورهم إلا خبت بدورهم، ولا علت أمورهم إلا أسبلت ستورهم، ولا أوقدت نارهم إلا انطفأ نورهم. ولا هملجت عتاقهم إلا فظعت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم، إلا فسدت أفعالهم، ولاكثر مالهم، إلا قلّ جمالهم، وعزّ معروفهم، وورمت أنوفهم «1» ، حتى إنهم ليصيرون على الإخوان مع الخطوب خطبا، وعلى الأحرار مع الزمان ألبا. قصارى أحدهم من المجد أن ينصب تحته تخته، وأن يوطىء استه دسته، وحسبه من الشرف دار يصهرج أرضها، ويزخرف بعضها، ويزوّق سقوفها، ويعلّق شفوفها «2» ، وناهيه من الشرف أن تغدو الحاشية أمامه، وتحمل الغاشية قدّامه، وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية «3» ، وثياب قداعية، يلبسها ملوما، ويحشوها لوما، وهذه صفة أفاضلهم. ومنهم من يمنحك الودّ أيام خشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله، وأنيسه كيسه، وأليفه رغيفه، وأمينه يمينه، ودنانيره سميره، وصندوقه صديقه، ومفتاحه ضجيعه، وخاتمه خادمه، وجمع الدرّة إلى الدرّة، ووضع البدرة على البدرة، فلم تقع القطرة من طرفه، ولا الدرة من كفّه؛ ولا يخرج ماله عن عهدة خاتمه، إلى يوم مأتمه، وهو يجمع لحادث حياته، أو وارث وفاته؛ يسلك فى الغدر كلّ طريق، ويبيع بالدرهم ألف صديق؛ وقد كان الظنّ بصديقنا أبى سعيد- أيده الله تعالى- أنه إذا أخصب آوانا كنفا من ظلّه، وحبانا من فضله، فمن لنا الآن بعدله؟ إنه- أطال الله بقاءه- حين طارت إلى أذنه عقاب المخاطبة بالوزير، وجلس من الديوان فى صدر الإيوان

افتضّ عذره السياسة لدىّ، بتعرض بعض المختلفة إلى، وجعل يعرضه للهلاك، ويتسبب إليه بمال الأتراك، وجعلت أكاتبه مرة وأقصده أخرى، وأذكّره أن الراكب ربما استنزل، والوالى ربما عزل، ثم يجف ريق الخجل على لسان العذر، فتبقى الحزازة فى الصدر، وما يجمعنى والشيخ إن كان زاده قولى إلا علوّا فى تحكمه، [وغلوّا فى تهكمه] وجعل يمشى الجمزى فى ظلمه؛ [ويبرأ إلىّ من علمه] ، فأقول- إذا رأيت ذلّة السؤال منى وعزّة الرد منه لى-: قل لى متى فرزنت سر ... عة ما أرى يا بيذق «1» وما أضيع وقتا فيه أضعته، وزمانا بذكره قطعته، هلمّ إلى الشيخ وشرعته، فقد نكأ القلب بقرحه، وكيف أصف حالا لا يقرع الدهر مروة حاله، ولا ينتقض عروة إجلاله؛ فما أولانى بأن أذكره مجملا، وأتركه مفصّلا، والسلام. وكتب إلى بعض إخوانه فى أمر رجل ولى الأشراف: فهمت ما ذكرت- أطال الله بقاءك- من أمر فلان أنه ولى الأشراف، فإن يصدق الطير يكن إشرافا على الهلاك، بأيدى الأتراك، فلا تحزنك ولايته فالحبل لا يبرم إلا للفتل، ولا تعجبك خلعته فالثور لا يزين إلا للقتل، ولا يرعك نفاقه فأرخص ما يكون النّفط إذا غلا [وأسفل ما يكون الأرنب إذا علا] ، وكأنّى به وقد شنّ عليه جران العود، شنّ المطر الجود، وقيد له مركب الفجار، من مربط النجار، وإنما جرّ له الحبل، ليصفع كما صفع من قبل، وستعود تلك الحالة إحالة، وينقلب ذلك الحبل حبالة، فلا يحسد الذئب على الإلية يعطاها طعمة، ولا يحسب الحبّ ينثر للعصفور نعمة، [وهبه ولّى إمارة البحرين أليس

[فى البخل]

مرجعه ذلك العقل، ومصيره ذلك الفضل، ومنصبه ذلك الأصل. وعصارته ذلك النسل، وقعيدته تلك الأهل] ، وقوله ذلك القول، وفعله ذلك الفعل، فكان ماذا؟ أليس [ما] قد سلب أكثر مما أوتى، وما عدم أوفر مما غنم! مالك تنظر إلى ظاهره، وتعمى عن باطنه؟ أكان يعجبك أن تكون قعيدته فى بيتك، وبغلته من تحتك، أم كان يسرّك أن تكون أخلافه فى إهابك، وبوّابه على بابك، أم كنت تودّ أن تكون وجعاؤه فى إزارك، وغلمانه فى دارك، أم كنت ترضى أن تكون فى مربطك أفراسه، وعليك لباسه، ورأسك راسه؟ جعلت فداك! ما عندك خير مما عنده، فاشكر الله وحده على ما آتاك، واحمده على ما أعطاك، ثم أنشد: إن الغنىّ هو الراضى بعيشته ... لا من يظلّ على الأقدار مكتئبا [فى البخل] ألّف سهل بن هارون كتابا «1» يمدح فيه البخل ويذمّ الجود؛ ليظهر قدرته على البلاغة، وأهداه للحسن بن سهل فى وزارته للمأمون، فوقع عليه: لقد مدحت ما ذمّه الله، وحسّنت ما قبّح الله، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا نوالك عليه قبول قولك فيه. وكان الحسن من كرماء الناس وعقلائهم. سئل أبو العيناء عنه، فقال: كأنما خلف آدم فى ولده، فهو ينفع عيلتهم، ويسدّ خلّتهم، ولقد رفع الله للدنيا من شأنها، إذ جعله من سكّانها أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر: وكأنّ آدم كان قبل وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء

ومن أمثال البخلاء، واحتجاجهم، وحكمهم

وأخذ أبو الطيب المتنبى آخر كلام أبى العيناء فقال: قد شرف الله دنيا أنت ساكنها ... وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا وقيل للحسن بن سهل: لم قيل: قال الأول، وقال الحكيم؟ قال: لأنه كلام قد مرّ على الأسماع قبلنا، فلو كان زللا لما نقل إلينا مستحسنا. ومن أمثال البخلاء، واحتجاجهم، وحكمهم أبو الأسود الدؤلى: لا تجاود الله؛ فإنه أجود وأمجد، ولو شاء ان يوسّع على خلقه حتى لا يكون فيهم محتاج فعل. وقال: لو أطعنا المساكين فى إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالا منهم. وقال الكندى: قول «لا» يدفع البلاء، وقول «نعم» يزيل النعم. وقال: سماع الغناء برسام حادّ؛ لأن المرء يسمع فيطرب، فيسمح فيفتقر، فيغتم فيمرض فيموت. وقال لابنه: يا بنى، كن مع الناس كاللاعب بالقمار، إنما غرضه أخذ متاعهم، وحفظ متاعه. وقال [غيره:] منع الجميع أرضى للجميع. إذا قبح السؤال حسن المنع. وقال علىّ بن الجهم: من وهب فى عمله فهو مخدوع، ومن وهب بعد العزل فهو أحمق، ومن وهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم يتعب فيه فهو مخذول، ومن وهب من كيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه، المختوم على سمعه وبصره ومن إنشاداتهم: لا تجد بالعطاء فى غير حقّ ... ليس فى منع غير ذى الحقّ بخل وقال كثيّر: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... حقيقة تقوى أو صديق ترافقه منعت، وبعض المنع حزم وقوة ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه «1»

فقر لابن المعتز وغيره فى الصديق والصدق

ابن المعتز: يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذليل فاشدد عرا مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل وكتب بعض البخلاء يصف بخيلا: حضرت- أعزّك الله- مائدة فلان للقدر المجلوب، والحين المتاح «1» ، والشقاء الغالب، فرأيت أوانى تروق العيون محاسنها، ويونق النفوس ظاهرها وباطنها، وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها، وتستوفى الشهوات بلطائف عجائبها، مكلّلة بأحسن من حلى الحسان ووجوهها وزهر الرياض ونورها؛ كأنّ الشمس حلّت بساحتها، والبدر يغرف من جوانبها فمددت يدا عنّتها الشراهة، وغلبها القدر الغالب، وجرّها الطمع الكاذب، وإذا له مع كسر كل رغيف لحظة نكر، ومع كل لقمة نظرة شزر، وفيما بين ذلك حرق قائمة، يصلى بها من حضره من الغلمان والحشم، [وقام بين يديه من الولدان] والخدم، ومع ذلك فترة المغشىّ عليه من الموت؛ فلما وضعت الحرب أوزارها برفع الخوان، وتخلت عنه سمادير الغشيان «2» ، بسط لسان جهله، ونصر ما كان من بخله، ونظر إلى مؤاكله، نظر المسترقّ له بأكلته، المالك لخيط رقبته! يظنّ أنه أولى من والديه بنسبته، وأحقّ بماله، من ولده وعياله، يرى ذلك [فضلا، وحقا لازما، وأمرا واجبا] نزل به الكتاب والسنة، واتّفق عليه قضاة الأمة، فإن دفعه رد حكم القضاة عليه، وإن سمح به فغير محمود عليه. فقر لابن المعتز وغيره فى الصديق والصدق إنما سمّى الصديق صديقا لصدقه فيما يدّعيه لك، وسمّى العدو عدوا لعدوه

[كتاب الحسن بن وهب إلى أبى تمام يصف بلاغته]

عليك إذا ظفر بك. علامة الصديق إذا أراد القطيعة أن يؤخّر الجواب، ولا يبتدئ بالكتاب، لا يفسدنك الظنّ على صديق قد أصلحك اليقين له. إذا كثرت ذنوب الصديق أنمحق السرور به، وتسلطت التهم عليه. من لم يقدم الامتحان قبل الثقة والثقة قبل الأنس أثمرت مودّته ندما. نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب. ظاهر العتاب خير من باطن الحقد، ما جمش الودّ بمثل العتاب. ترك العتاب- إذا استحقّ أخ ... منك العتاب- ذريعة الهجر وكتب أبو إسحاق الصابى إلى صديق له من الحبس: نحن فى الصحبة كالنّسرين «1» ، لكنى واقع، وعلى الطائر أن يغشى أخاه ويراجع من قلّ صدقه قل صديقه. من صدقت لهجته ظهرت حجّته. الصادق بين المهابة والمحبة. من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن تمام الصدق الإخبار بما تحتمل العقول. [كتاب الحسن بن وهب إلى أبى تمام يصف بلاغته] وكتب الحسن بن وهب إلى أبى تمام الطائى: أنت حفظك الله تحتذى من البيان فى النظام، مثل ما نقصد نحن فى النثر من الإفهام، والفضل لك- أعزك الله- إذ كنت تأتى به فى غاية الاقتدار، على غاية الاقتصار، فى منظوم الأشعار، فتحل متعقّده، وتربط متشرده، وتضم أقطاره، وتجلو أنواره، وتفصله فى حدوده، وتخرجه فى قيوده، ثم لا تأتى به مهملا فيستبهم، ولا مشتركا فيلتبس، ولا متعقّدا فيطول، ولا متكلفا فيحول؛ فهو منك كالمعجزة تضرب فيه الأمثال، وتشرح فيه المقال؛ فلا أعدمنا الله هداياك واردة، وفوائدك وافدة، وهى طويلة

وفى هذه الرسالة يقول أبو تمام، وقد أرى أنه قال ذلك فى غيرها: [لقد جلّى كتابك كل بثّ ... جو، وأصاب شاكلة الرمىّ فضضت ختامه فتبلجت لى ... غرائبه عن الخبر الجلىّ وكان أغضّ فى عينى وأندى ... على كبدى من الزهر الجنىّ وأحسن موقعا منى وعندى ... من البشرى أتت بعد النعىّ كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن، ولا لفظ قمىّ وضمّن صدره ما لم تضمّن ... صدور الغانيات من الحلىّ فإن تك من هداياك الصفايا ... فربّ هدية لك كالهدىّ لئن غرّبتها فى الأرض بكرا ... لقد زفّت إلى سمع كفّى وقال البحترى فى الحسن بن وهب: وإذا تألق فى الندىّ كلامه المصقول ... خلت لسانه من عضبه «1» وإذا دجت أقلامه لم انتحت ... برقت مصابيح الدجا فى كتبه باللفظ يقرب فهمه فى بعده ... منّا، ويبعد نيله فى قربه حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها من قلبه كالروض مؤتلق بحمرة ورده ... وأنيق زهرته وخضرة عشبه أو كالبرود تخيرت لمتوّج ... من خاله أو وشيه أو عصبه «2» وكأنها والسمع معقود بها ... وجه المحب بدا لعين محبّه أنشد بعض الكتاب هذه الأبيات أبا العباس ثعلبا، فاستعادها حتى فهمها، ثم قال: لو سمع الأوائل هذا ما فضّلوا عليه شعرا. وقال بعض الكتاب:

[مثل من بلاغة عمرو بن مسعدة]

ورسالة ألفاظها ... فى النظم كالدّرّ النّثير جاءت إليك كأنها ... التوفيق فى كل الأمور بأرقّ من شكوى وأح ... سن من حياة فى سرور لو واجهت أعمى لأصبح ... وهو ذو طرف بصير فكانها أمل سرى ... من بعد يأس فى السرور أو كالفقيد إذا أتت ... لقدومه بشرى البشير أو كالمنام لساهر ... أو كالأمان لمستجير كتبت بحبر كالنّوى ... أو كفر نعمى من كفور فكأنما هو باطل ... ما بين حقّ مستنير وقال أحمد بن أبى العباس بن ثوابة] : فى كل يوم صدور الكتب صادرة ... من رأيه وندى كفّيه عن مثل عن خط أقلامه يجرى القضاء على ... كل الخلائق بين البيض والأسل «1» كأن أسطره فى بطن مهرقه ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل «2» لعابه عللى والصدر ينفثها ... وربما كان فيه النفع للعلل كالنار تعطيك من نور ومن حرق ... والدهر يعطيك من غمّ ومن جذل «3» وقال آخر: مداد مثل خافية الغراب ... ورقّ مثل رقراق السراب واقلام كأرواح الجوارى ... وألفاظ كأيام الشباب [مثل من بلاغة عمرو بن مسعدة] قال أحمد بن يوسف: دخلت على المأمون، وفى يده كتاب، وهو يعاود قراءته مرة بعد مرة، ويصعّد فيه بصره ويصوّبه؛ فالتفت إلىّ وقد لحظنى فى

أثناء قراءته الكتاب، فقال: أراك مفكّرا فيما تراه منى! فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المخاوف! قال: لا مكروه إن شاء الله، ولكنى قرأت كتابا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله عن البلاغة، فإنى سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة، والتقرب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا فإذا فيه: كتابى إلى أمير المؤمنين ومن قبلى من الأجناد والقوّاد فى الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أعطياتهم، واختلت أحوالهم! ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه [المسألة فى الإخبار] ، وإعفائه سلطانه من الإكثار. ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر. وفى عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمى «1» : أعنّى على بلوق ناصب ... خفىّ كوحيك بالحاجب كأنّ تألّقه فى السماء ... يدا كاتب أو يدا حاسب فروّى منازل تذكارها ... يهيّج من شوقك الغالب غريب يحنّ لأوطانه ... ويبكى على عصره الذاهب كفاك أبو الفضل عمرو الندى ... مطالعة الأمل الكاذب وصدق الرجاء وحسن الوفاء ... لعمرو بن مسعدة الكاتب عريض الفناء طويل البنا ... ء فى العزّ والشرف الثاقب بنى الملك طود له بيته ... وأهل الخلافة من غالب هو المرتجى لصروف الزمان ... ومعتصم الراغب الراهب جواد بما ملكت كفّه ... على الضيف والجار والصّاحب

[الكلام الجيد الطبع، والكلام المصنوع]

بأدم الركاب ووشى الثيا ... ب والطّرف والطّفلة الكاعب نؤمله لجسام الأمور ... وندعوه للجلل الكارب خصيب الجناب مطير السحاب ... بشيمته لين الجانب يروّى القنا من نحور العدا ... ويغرق فى الجود كاللّاعب «1» إليك تبدّت بأكوارها ... حراجيج فى مهمه لاحب «2» كأنّ نعاما تمادى بنا ... تزايل من برد حاصب يردن ندى كفّك المرتجى ... ويقضين من حقك الواجب ولله ما أنت من جابر ... بسجل لقوم ومن خارب «3» يساقى العدا بكئوس الردى ... ويسبق مسألة الطالب وكم راغب نلته بالعطا ... وكم نلت بالحتف من هارب وتلك الخلائق أعطيتها ... وفضل من المانع الواهب كسبت الثناء، وكسب الثنا ... ء أفضل مكسبة الكاسب يقينك يجلو ستور الدجى ... وظنّك يخبر بالغائب وهذا الشعر يتدفق طبعا وسلاسة. [الكلام الجيد الطبع، والكلام المصنوع] قلت: والكلام الجيد الطبع مقبول فى السمع، قريب المثال، بعيد المنال، أنيق الديباجة، [رقيق الزجاجة] ، يدنو من فهم سامعه، كدنوّه من وهم صانعه، والمصنوع مثقّف الكعوب، معتدل الأنبوب، يطّرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن فى صفحاته، كما يحول السّحر فى الطّرف الكحيل،

والأثر فى السيف الصقيل وحمل الصانع شعره على الإكراه فى التعمل وتنقيح المبانى دون إصلاح المعانى يعفى آثار صنعته، ويطفىء أنوار صيغته، ويخرجه إلى فساد التعسف، وقبح التكلف؛ وإلقاء المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسه، وتنفثه وساوسه، من غير إعمال النظر، وتدقيق الفكر، يخرجه إلى حدّ المشتهر الرث، وحيّز الغث؛ وأحسن ما أجرى إليه، وأعوّل عليه، التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين، من الطبع والصنعة. وقد قال أعرابى للحسن البصرى: علمنى دينا وسيطا، لا ساقطا سقوطا، ولا ذاهبا فروطا، قال الحسن: أحسنت، خير الأمور أوساطها. والبحترى عن هذا القوس ينزع، وإلى هذا النحو يرجع. قد تم- بعون الله تعالى وتوفيقه- الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع مفتتحا بقول المؤلف «ومن الشعر الذى يجرى مع النفس قول ابن المعتز بمدح المكتفى» نسأله سبحانه أن يوفق إلى إكماله.

فهرس الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى

فهرس الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى فهرس الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى ص الموضوع 599 نبذ لأهل العصر تجرى فى المدح مجرى الأمثال 638 نبذ من مفردات الأبيات فى فرائد المدح 639 بين إبراهيم الموصلى وموسى الهادى 640 بين الإسكندر ودارا بن دارا - حكيم يصف أحزم الملوك - أنو شروان يصف سياسة الدولة 641 واصل بن عطاء يصف أخلاق السفلة ما يبلغ بالإنسان أقصى درجات الفضل - أحزم الرأى - حكيم يصف خلال الفضل - بزرجمهر يصف المروءة ونحوها - وصية معاوية لزياد حين ولاه العراق 642 من كلام البلغاء فى ذكر السلطان - للصاحب بن عباد - لأبى إسحاق الصابى - للخوارزمى - لأبى الفتح البستى - لأبى الفضل بن العميد 644 لأبى الطيب المتنبى - بين ابن ميادة وعبد الواحد بن سليمان 645 لعويف القوافى بمدح طلحة بن عبيد الله للقطامى يمدح عبد الواحد بن سليمان نسب عبد الواحد بن سليمان 646 منزلة شعر القطامى 646 نغم الألفاظ ونغم الألحان - بين مخارق وأبى العتاهية 647 إسحاق الموصلى يصف جارية للمعتصم ص الموضوع 647 إسحاق يصف المغنى المجيد - من ترجمة إسحاق الموصلى. وشعره 650 استطراد فيما قيل من الشعر فى جمال الذوائب 651 وحدة القصيدة واتساقها 654 السر فى الابتداء بالنسيب 655 موازنة بين أبى تمام والبحترى عن الحاتمى 662 أثر الغناء والجمال 663 عكاشة بن عبد الصمد البصرى 665 بعض ما قيل فى وصف القيان من الشعر 667 من ترجمة على بن عبد الرحمن (أبى الحسن بن يونس) - لابن المعتز فى المرآة 668 لكشاجم يصف المرآة 669 الأقلام - كتاب من عبيد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم يستهديه أقلاما 670 جواب إسحاق على كتاب عبيد الله 671 المنصور بن عمار يصف القلم - للنجيرمى فى وصف القلم 673 من أخبار النجيرمى - لحمدان الدمشقى يصف قلما - وصف القلم الصالح للكتابة للعتابى 674 من ترجمة العتابى وأخباره وشعره 680 من آداب آل وهب: الحسن بن وهب، وسليمان بن وهب 683 من كلام أهل العصر فى ذم الكتابة

ص الموضوع 684 وصف الكلام لعتبة بن أبى سفيان 685 وصف الكلام لعتبة بن أبى سفيان 685 الناشىء يصف شعره - من فصل للناشىء فى الشعر 686 لمؤلف الكتاب فى الشعر 687 للخليل بن أحمد يصف الشعراء - بين أعرابى وشاعر من أبناء الفرس 688 لعمارة بن عقيل، وللجاحظ - لبشار وقد مدح المهدى فلم يجزه - خالد بن صفوان يصف جريرا والفرزدق والأخطل 689 بين العجاج وعبد الملك بن مروان - المقامة القريضيه للبديع 692 المقامة الغيلانية للبديع 694 فقر فى الشعر 695 من مفردات الأبيات فى الشعر 696 الأحنف بن قيس 697 نسب الأحنف بن قيس 698 كلام للأحنف فى مجلس معاوية - صفة الأحنف - ذكر الأحنف للنبى فاستغفر له 699 مما وصف به الأحنف - جارية لآل المهلب والأحنف - وفود الأحنف على معاوية 700 ابن الرومى يذكر حق الشاعر على الكرام 701 وفاة الأحنف ورثاء امرأة إياه 702 المعتصم ومحمد بن وهيب 703 منصور النمرى والعتابى 704 تقديم الرشيد للنمرى 705 النمرى رافضى 706 أبناء المعذل، أحمد بن المعذل 706 ص الموضوع 706 بين أحمد بن المعذل وأخيه 707 أخذ أحمد بن المعذل للصلة 708 الفطامى يهجو امرأة من محاربه 709 أم عبد الصمد بن المعذل - لأبى حكيمة فى الرقيق 710 لأبى شراعة يمدح بنى رياح 711 لأبن المعذل فى إبراهيم بن رياح - صفات عبد الصمد بن المعذل 713 من شعر أبى حكيمة راشد بن إسحاق 714 بين الرشيد وعبد الملك بن صالح 715 عبد الملك بن صالح - لابن الرومى يمدح الحقد 717 بين مسلمة بن عبد الملك والعباس ابن الوليد - رجع إلى أخبار عبد الملك بن صالح 719 بين الرشيد والحسن بن عمران - بين الرشيد ويزيد بن مزيد 720 مختار مما قيل من الشعر فى الرثاء 722 قطر الندى والخليفة المعتضد 723 لابن المعتز يرثى ابن ثوابة 724 أيام الشباب، وما قيل فيها من الشعر 725 من ترجمة على بن بسام، وأخباره 726 بين المأمون وأحمد بن خالد - بين المأمون ومحمد بن داود فى حسن الخط - رأفة المأمون بعماله 728 بين يزيد بن معاوية وجميل بن أوس - من أقوال الحكماء عند وفاة الاسكندر

ص الموضوع 729 جملة من كلام ابن المعتز فى ذكر السلطان 730 من كلام أهل العصر فى هذا النحو 731 وصف جارية كاتبة - وصف غلام كاتب - من بديع الزمان لابن العميد 732 بين البديع وأبى القاسم الهمذانى 733 من مقامات بديع الزمان 734 مما قيل فى وصف فص وخاتم 735 مفاضلة بين الكلام والصمت 736 الحنين إلى الأوطان وبعض ما قيل فيه 741 ألفاظ لأهل العصر فى وصف الأمكنة 742 ولهم فى ضد ذلك - ولهم فى وصف الفلاع والحصون 743 ولهم فى صفات الدور والقصور - من رسائل الميكالى وشعره 748 لكشاجم يصف شمعا - لابن الرومى يذكر رجلا متلونا 749 وصف أبى الفضل الميكالى للمطوعى 750 ابن أبى دواد بين يدى الواثق 751 من صفة ابن أبى دواد وأخباره 752 بن أبى العيناء وابن أبى دواد 752 قطعة من شعر الأعراب فى الغزل 754 زيارة طيف الخيال 759 عقال بن شبة بين يدى المنصور - زهير وهرم بن أبى سنان 761 فضل الشعر 762 من أخبار أبى تمام 763 استنجاز أعرابى موعدة 764 معاويه بن يسار وبعض أحباره ص الموضوع 766 ألفاظ لأهل العصر فى وصف الاستطالة والكبر 770 من بديع الزمان يشكو القاضى الحيرى 773 للبديع فى ذكر العلم 774 من مفردات الأبيات فى المعايب 775 قولهم فى اللحن وتعلم العربية 776 لوعة الشوق 779 بنو عذرة 779 وصف الحسان 780 وصف الهوى، وأمره 781 بعض ما جاء فى العفاف 784 ألفاظ لأهل العصر فى وصف النساء 785 ولهم فى وصف الغلمان والمعذرين 787 ولهم فى نقيض ذلك فى ذم خروج اللحية - من رسائل بديع الزمان 789 المقامة الأسدية، لبديع الزمان 793 لأبى فراس الحمدانى يتغزل 794 لابن المعتز فى الغزل - لأبى نواس فى وصف يوم شرب 795 لأبى العباس الناشىء - لأبى خراش الهذلى 796 رثاء أبى خراش لأخيه 797 لابن الرومى - لأبى نواس - وصف الدمن والأطلال 799- لأهل العصر فى وصف الديار الخالية 801 بعض ما قيل فى طول الليل 804 لأهل العصر فى طول الليل 805 ولهم فى ضد ذلك

ص الموضوع 805 ولهم فى ذكر النوم والنعاس 807 من بديع الشعر فى وصف الليل 808 أخو الصفاء قريب 810 بعض ما قيل فى وصف النجوم 813 من وصف الشراب فى الليل 816 المختار من شعر تميم بن المعز 819 عود إلى وصف النجوم 821 أجمل ما قال العرب من الشعر 822 لأهل العصر فى طلوع الشمس وغروبها 823 المقامة الكوفية، لبديع الزمان 824 من رسائل بديع الزمان 826 جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار 827 رثاء المعتضد وتعزيته 829 من شعر ابن المعتز 831 أبو شجاع عضد الدولة - الموفق العباسى 833 صاحب الزنج 836 لابن يامين فى سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدى 837 للبحترى يصف سيفا - لابن هانى يصف سيف المعز 838 وفد الشام بين يدى المنصور - بعض ما قيل فى العفو - تميم بن جميل السدوسى والمعتصم 840 من المعتصم إلى عبد الله بن طاهر 841 الخليفة المعتصم 842 كعب بن معدان يصف للحجاج بنى المهلب 843 بشر بن مالك يصف للحجاج بنى المهلب أيضا ص الموضوع 843 أبو الصقر وصاعد بن مخلد 844 أبو العيناء وابن أبى ثوابة - من مكارم أبى الصقر - أبو الصقر وأبو العيناء 845 أبو العيناء يذم ابن الخصيب 846 أبو بكر سيبويه المصرى وأهل مصر 848 رجع إلى أبى العيناء 849 كلمات لأبى العيناء - المختار مما قيل فى الرثاء 855 لأهل العصر فى التعازى 860 المقامة الأهوازية، لبديع الزمان 862 من رسائل بديع الزمان 864 من رسائل الصابى 865 لابن الرومى - بين أبى العتاهية وابنه 866 فقر من كلام المتصوفة 871 الرأى والهوى - من البدائه فى مجالس الخلفاء 872 أخوال السفاح 874 لمعن بن أوس 876 من رسائل ابن العميد 880 حسن التأتى للأمور 880 فقر فى ذكر المشورة 881 تأريخ الكتب والرسائل 882 فقر وأمثال يتداولها العمال 883 من ترجمة منصور الفقيه 885 من بديع الزمان لابن المرزيان 887 من البديع لبعض إخوانه 888 بين سهل بن هارون والحسن بن سهل

ص الموضوع 889 من أمثال البخلاء واحتجاجهم 890 فقر لابن المعتز فى الصداقة 891 كتاب الحسن بن وهب إلى أبى تمام يصف بلاغته 892 للبحترى فى الحسن بن وهب ص الموضوع 893 مثل من بلاغة عمرو بن مسعدة 894 للتيمى فى عمرو بن مسعدة 895 الكلام الجيد الطبع، والكلام المصنوع والحمد لله واسع الفضل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه وعترته.

الجزء الرابع زهر الأداب وثمر الألباب لأبى إسحاق إبراهيم بن على، الحصرى، القيروانى المتوفى فى عام 453 من الهجرة مفصل ومضبوط ومشروح بقلم المرحوم الدكتور زكى مبارك الجزء الرابع حققه وزاد فى تفضيله وضبطه وشرحه صمد محيى الدين عبد الحميد وابرار الجيل بيروت

جميع الحقوق محفوظة لدار الجيل

الحمد لله كفاء نعمائه، والشكر له على آلائه، وصلاته وسلامه على الصّفوة من أنبيائه، وعلى آله وصحبه وأوليائه

الجزء الرابع

[نماذج من الشعر الجيد] ومن الشعر الذى يجرى مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفى؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطى فقال: لا ورمّان النهود ... فوق أغصان القدود «1» وعناقيد من اصدا ... غ وورد من خدود وبدور من وجوه ... طالعات بالسعود ورسول جاء بالمي ... عاد من بعد الوعيد ونعيم من وصال ... فى قفا طول الصدود «2» ما رأت عينى كظبى ... زارنى فى يوم عيد فى قباء فاختىّ ال ... لون من لبس الجديد «3» كلما قاتل جند ... ىّ بسيف وعمود قاتل الناس بعيني ... ن وخدّين وجيد «4» قد سقانى الخمر من فيه ... على رغم الحسود

وتعانقنا كأنا ... وهو فى عقد شديد نقرع الثغر بثغر ... طيّب عند الورود [مثل ما عاجل برد ... قطر مزن بجمود سحرا من قبل أن ... ترجع أرواح الوفود ومضى يخطر فى المش ... ى كجبار عنيد] مرحبا بالملك القا ... دم بالجدّ السعيد يا مذل البغى يا قا ... تل حيّات الحقود عش ودم فى ظلّ عيش ... خالد باق جديد فلقد أصبح أعدا ... ؤك كالزرع الحصيد ثم قد صاروا حديثا ... مثل عاد وثمود جاءهم بحر حديد ... تحت أجبال بنود فيه عقبان خيول ... فوقها أسد جنود وردوا الحرب فمدوا ... كل خطىّ مديد «1» وحسام شره الحدّ ... إلى قطع الوريد «2» ما لهذا الفتح يا خير ... إمام من نديد «3» فاحمد الله ... فإن الحمد مفتاح المزيد وقول على بن الخليل مولى يزيد بن مزيد الشيبانى وكان يرمى بالزندقة، قال الفضل بن الربيع: جلس الرشيد يوما للمظالم، فجعلت أتصفّح الناس، وأسمع كلامهم، فرميت بطرفى، فرأيت فى آخرهم شيخا حسن الهيئة والوجه ما رأيت أحسن منه؛ فوقف حتى تقوّض المجلس «4» ثم قال: يا أمير المؤمنين، رقعتى؛ فأمر

بأخذها، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لى بقراءتها؛ فأنا أحسن تعبيرا لخطّى من غيرى- فقال له: اقرأ، فقال: شيخ ضعيف، ومقام صعب، ولا آمن الاضطراب؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل عنايته بأمرى فى الإذن بالجلوس فعل، فقال: اجلس، فجلس وأنشأ يقول: يا خير من وخدت بأرحله ... تجب الركاب بمهمه جلس «1» تطوى السباسب فى أزمتها ... طىّ التّجار عمائم البرس «2» لما رأتك الشمس طالعة ... سجدت لوجهك طلعة الشمس خير البرية أنت كلهم ... فى يومك الغادى وفى الأمس وكذاك لن تنفكّ خيرهم ... تمسى وتصبح فوق ما تمسى لله ما هرون من ملك ... عفّ السريرة طاهر النفس تمّت عليه لربه نعم ... تزداد جدتها مع اللّبس من عترة طابت أرومتها ... أهل العفاف ومنتهى القدس متهللين على اسرّتهم ... ولدى الهياج مصاعب شمس «3» إنى لجأت إليك من فزع ... قد كان شرّدنى ومن لبس لما استخرت الله مجتهدا ... يمّمت نحوك رحلة العنس «4» واخترت حلمك لا أجاوزه ... حتى أغيّب فى ثرى رمسى كم قد سريت إليك مدّرعا ... ليلا يموج كحالك النّقس «5» إن راعنى من هاجس فزع ... كان التوكّل عنده ترسى ما ذاك إلّا أننى رجل ... أصبو إلى نفر من الإنس

[من مستحسن الأجوبة]

بيض أوانس لا قرون لها ... يقتلن بالتطويل والحبس وأجاذب الفتيان بينهم ... صفراء مثل مجاجة الورس للماء فى حافاتها حبب ... نظم كرقم صحائف الفرس والله يعلم فى بنيته ... ما إن أضعت إقامة الخمس «1» قال: ومن تكون؟ قال: على بن الخليل، الذى يقال إنه زنديق، فقال له: أنت آمن، وأمر له بخمسة آلاف درهم. وأنشد أبو العباس المبرد لرجل يصف دعوة دعا بها الله عز وجل، وقد رأيتها فى شعر محمد بن حازم الباهلى: وسارية لم تسر فى الأرض تبتغى ... محلّا، ولم يقطع بها البيد قاطع سرت حيث لم تحد الركاب ولم تنخ ... لورد، ولم يقصر لها القيد مانع تمر وراء الليل والليل ضارب ... بجثمانه فيه سمير وهاجع إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها، والله راء وسامع تفتّح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع وإنى لأرجو الله حتى كأننى ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع [من مستحسن الأجوبة] ودخل رجل [من شيبان] على معن بن زائدة، فقال: ما هذه الغيبة؟ فقال: أيها الأمير، ما غاب عن العين من يذكره القلب، وما زال شوقى إلى الأمير شديدا، وهو دون ما يجب له، وذكرى له كثيرا، وهو دون قدره، ولكن جفوة الحجّاب، وقلّة بشر الغلمان، منعانى من الإتيان! فأمر بتسهيل إذنه، وأجزل صلته. وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة: كبرت يا معن! قال: فى طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد «2» ، قال: على أعدائك، قال: وإنّ فيك لبقيّة، قال:

[من ترجمة معن بن زائدة، وأخباره]

هى لك يا أمير المؤمنين، قال: فأى الدولتين أحبّ إليك؛ هذه أم دولة بنى أمية؟ قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برّك على برّهم كانت دولتك أحبّ إلى. [من ترجمة معن بن زائدة، وأخباره] ومعن هذا هو معن بن زائدة بن عبد الله [بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخى الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس] بن شرحبيل بن منبه بن مرة ابن ذهل بن شيبان، وبنو مطر بيت شيبان، وشيبان بيت ربيعة. وكان معن أجود الناس، وفيه يقول مروان بن أبى حفصة ويعم بنى مطر: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها فى غيل خفّان أشبل «1» هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا فى النائبات وأجملوا بها ليل فى الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم فى الجاهلية أول هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... جابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا أخذ البيت الأول ابن الرومى، وزاد فيه، فقال: تلقاهم ورماح الخطّ بينهم ... كالأسد ألبسها الآجام خفّان [الرأى والشجاعة] أتى قوم من العرب شيخا لهم قد أربى على الثمانين، وأهدف على التسعين «2» ، فقالوا: إنّ عدوّنا استاق سرحنا، فأشر علينا بما ندرك به الثّأر، وننفى به العار، فقال: الضعف فسخ همّتى، ونكث إبرام عزيمتى، ولكن شاوروا الشجعان من ذوى العزم، والجبناء من ذوى الحزم؛ فإنّ الجبان لا يألو برأيه ما يقى مهجكم، والشجاع لا يألو برأيه ما يشيد ذكركم، ثم اخلصوا من الرأى بنتيجة تبعد عنكم معرّة نقص الجبان، وتهوّر الشجعان، فإذا نجم الرأى على هذا كان أنفذ على عدوكم من السّهم الصائب، والحسام القاضب.

[قضاء الله وعدله]

[قضاء الله وعدله] قال الأصمعى: سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصمه: والله لو صوّر الجهل لأظلم معه النهار، ولو صوّر العقل لأضاء معه الليل، وإنك من أفضلهما لمعدم؛ فخف الله، واعلم أنّ من ورائك حكما لا يحتاج المدّعى عنده إلى إحضار البينة. [بنو كليب] قال الفرزدق يهجو كليبا: ولو يرمى بلؤم بنى كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسارى ولو لبس النهار بنو كليب ... لدنّس لؤمهم وضح النهار [من جيد كلام الأعراب] وقال سفيان بن عيينة: سمعت أعرابيا يقول عشية عرفة: اللهم لا تحرمنى خير ما عندك لشرّ ما عندى، وإن لم تتقبّل تعبى ونصبى فلا تحرمنى أجر المصاب على مصيبته. وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلامه: كانت لى إليك زلّة يمنعنى من ذكرها ما أمّلت من تجاوزك عنها، ولست أعتذر إليك منها إلا بالإقلاع عنها. وقال آخر لابن عم له: والله ما أعرف تقصيرا فأقلع، ولا ذنبا فأعتب، ولست أقول: إنك كذبت، ولا إننى أذنبت. وقال آخر لابن عم له: سأتخّطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين، ومن الآخر على شكّ، لتتمّ النعمة منى إليك، وتقوم الحجّة لى عليك. وأصيب أعرابىّ بابن له فقال- وقد قيل له: اصبر- أعلى الله أتجلّد، أم فى مصيبتى أتبلّد؟ والله للجزع من أمره أحبّ إلىّ الآن من الصبر! لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة، ولئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد. ودعا أعرابى فقال: اللهم إنى أعوذ بك أن افتقر فى غناك، أو أضلّ فى هداك، أو أذلّ فى عزّك، أو أضام فى سلطانك، أو أضطهد والأمر إليك.

قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يعظ رجلا وهو يقول: ويحك! إنّ فلانا وإن ضحك إليك، فإنه يضحك منك، ولئن أظهر الشفقة عليك، إنّ عقاربه لتسرى إليك؛ فإن لم تتخذه عدوّا فى علانيتك، فلا تجعله صديقا فى سريرتك. سمع أعرابىّ رجلا يقع فى السلطان، فقال: إنك غفل لم تسمك التجارب، وفى النصح لسع العقارب، كأنى بالضاحك إليك، وهو باك عليك. وحذّر بعض الحكماء صديقا له صحبه رجل، فقال: احذر فلانا فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخره، ويعتبر ما أخّرت بما قدّمت، فلا تظهرنّ له المخافة فيرى أن قد تحرّزت؛ واعلم أنّ من يقظة الفطنة إظهار الغفله مع شدة الحذر، فباثثه مباثّة الآمن، وتحفّظ منه تحفظ الخائف؛ فإنّ البحث يظهر الخفىّ الباطن، ويبدى المستكنّ الكامن. أتى أعرابىّ رجلا لم يكن بينه وبينه حرمة فى حاجة له، فقال: إنى امتطيت إليك الرجاء، وسريت على الأمل، ورافقت الشكر، وتوسّلت بحسن الظن، فحقق الأمل، وأحسن المثوبة، وأكرم الصّفد «1» ، وأقم الأود «2» ، وعجّل السّراح «3» . قال الأصمعى: وسمعت أعرابيا يقول: إذا ثبتت الأصول فى القلوب، نطقت الألسنة لفروع! والله يعلم أنّ قلبى لك شاكر، ولسانى ذاكر، ومحال أن يظهر الودّ المستقيم، من الفؤاد السقيم. ومدح أعرابى رجلا، فقال: إنه ليغسل من العار وجوها مسودّة، ويفتح من الرأى أبوابا منسدّة. وقال أعرابى: كم قد ولدتم من رئيس قسور ... دامى الأظافر فى الخميس الممطر سدكت أنامله بقائم مرهف ... [وبنشر فائدة وجذوة منبر

ما إن يريد إذا الرماح تشاجرت ... درعا سوى سربال طيب العنصر يلقى السيوف بوجهه وبنحره] ... ويقيم هامته مقام المغفر ويقول للطّرف اصطبر لشبا القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال محل أغبر «1» أومى إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى «2» وقال: قامت تصدّى له عمدا لغفلته ... فلم ير الناس وجدا كالذى وجدا جيداء ربداء لم تعقد قلائدها ... وناهد مثل قلب الظّبى ما خضدا فراح كالحائم الصّديان ليس له ... صبر ولا يأمن الأعداء إن وردا وقال آخر: ومكتتمات بعد وهن طرقننى ... بأردية الظلماء ملتحفات دسسن رسولا ناصحا وتلونه ... على رقبة منهنّ مستترات فبتّ أعاطيهن صرف صبابة ... وبتن على اللذات معتكفات فياوجد قلبى يوم أتبعت ناظرى ... سليمى وجادت بعدها عبراتى وقال الأحنف بن قيس: من لم يستوحش من ذلّ المسألة لم يأنف من الرد. وقال سفيان الثورى لأخ له: هل بلغك شىء مما تكرهه عمن لا تعرف؟ قال: لا، قال: فأقلل ممن تعرف. أخذه ابن الرومى، فقال: عدوّك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف، وكم قليل مستطاب؟

[جمل من ألوان المديح]

وما اللّجج الملاح مرويّات ... ويلفى الرّىّ فى النّطف العذاب [جمل من ألوان المديح] وقال رجل لخالد القسرى: والله إنك لتبذل ماجلّ، وتجبر ما انفلّ، وتكثر ما قلّ؛ ففضلك بديع، ورأيك جميع، تحفظ ما شذّ، وتؤلف ما ندّ. وسئل أعرابى عن قومه، فقال: يقتلون الفقر، عند شدّة القرّ، وأرواح الشتاء، وهبوب الجر بياء «1» ، بأسنمة الجزور، ومترعات القدور، تهش وجوههم عند طلب المعروف، وتعبس عند لمعان السيوف. ووصف أعرابى قوما فقال: لهم جود كرام اتّسعت أحوالها، وبأس ليوث تتبعها أشبالها، وهمم ملوك انفسحت آمالها، وفخر آباء شرفت أخوالها. وقال خالد بن صفوان، وقد دخل على بعض الولاة: قدمت فأعطيت كلّا بقسطه من نظرك [ومجلسك] ، وصوتك، وعدلك، حتى كأنك من كلّ أحد، وحتى كأنك لست من أحد. وذكر خالد رجلا فقال: كان والله بديع المنطق، ذلق الجرأة، جزل الألفاظ، عربىّ اللسان، ثابت العقدة، رقيق الحواشى، خفيف الشفتين، بليل الريق، رحب الشرف، قليل الحركات، خفىّ الإشارات، حلو الشمائل، حسن الطلاوة، حييّا جريّا، قؤولا صموتا، يفل الحزّ، ويصيب المفاصل، لم يكن بالهذر فى منطقه، ولا بالزمر فى مروءته، ولا بالخرق فى خليقته، متبوعا غير تابع، كأنه علم فى رأسه نار. وقال بعض البلغاء لرئيسه: إنّ من النعمة على المثنى عليك أنه لا يأمن التقصير، ولا يخاف الإفراط، ولا يحذر أن تلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهى به المدح إلى غاية إلّا وجد فى فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أن الداعى لا يعدم كثرة المشايعين، ومساعدة النيّة على ظاهر القول.

ألفاظ لأهل العصر، فى ضروب الممادح

ألفاظ لأهل العصر، فى ضروب الممادح قد وضعت كثرة التجارب، فى يده مرآة العواقب. قد نجّدته صروف الدهور، وحنّكته مصاير الأمور. قد أرضعته الحنكة بلبانها، وأدّبته الدّربة فى إبانها. فلان نوازل التجارب حنّكته، وفوادح الأيام عركته. هو عارف بتصاريف [الأيام، آخذ برهان التجارب، نافذ فى مجال التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولّى] النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعودا على الدهر صليبا. قد أدّبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. له همّة علا جناحها إلى عنان النجم. وامتدّ صباحها من شرق إلى غرب، لا يتعاظمه إشراف الأمر إذا أخطره بفكره، وانتساف الصّخر إذا ألقاه فى وهمه، همّته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء. أوسع من الأرض ذات العرض. هو حىّ القلب، منشرح الصّدر، ذكىّ الذهن، شجاع الطبع، ليس بالنؤوم ولا السؤوم، فذّ فرد، وأسدورد، وكأنّ له فى كل جارحة قلبا. كأنّ قلبه عين، وكأن جسمه سمع. شهاب مقدّم، وقدح مقوّم. [وهو شهم] مشدود النطاق، قائم على ساق، قد جدّ واجتهد، وحشر وحشد، شمّر عن ساق الجد ما أطاق، قد ركب الصعب والذّلول، وتجشّم الحزن والسّهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدّهم والشهب «1» . هو مولود فى طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين المكارم، وزين المحافل. هو فرد دهره، وشمس عصره، وزبن مصره، وهو علم الفضل، وواسطة عقد الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرّة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت به الشورى إلى النصر. فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر. هو رائش نبلهم، ونبعة فضلهم، وجمّة وردهم،

وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم، ينيف عليهم إنافة صفحة الشمس على كرة الأرض، كأنهم فلك هو قطبه، وجسد هو قلبه، ومملوك هو ربّه. هو مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم. موضعه من أهل الفضل موضع الواسطة من العقد، وليلة التّمّ من الشهر، بل ليلة القدر إلى مطلع الفجر. أفضل وأنعم، وأسدى فى الإحسان وألحم، وأسرج فى الإكرام وألجم، قسم من إنعامه ما يسع أمما، وتلقى السعادة أمما «1» ، أعطاه عنان الاهتمام، حتى استولى على قصب المرام. ردّ عنه الدهر أحصّ الجناح «2» ، وملّكه مقادة النجاح. أولاه من معهود البرّ ومألوفه، وقصّرت الأعداء عن مئاته وألوفه. أولاه إسعافا سمحا وعطاء سحّا، ومننا صفوا وعفوا. أفاض عليه شعاب البرّ ومسايله، وجمع له شعوب الجميل وقبائله، وهطلت عليه سحائب عنايته، ورفرفت حوله أجنحة رعايته. قد فكه بكرمه من قيد السؤال، ومعرّة الاختلال. راشه بعد ما حصّه الفقر، وأرضاه وقد أسخطه الدهر. ملأ العيون، وسهر دوننا لتحقيق الظنون. قد شمت من كرمه أكرم سحاب، وحصلت من إنعامه فى أخصب جناب. قد سد ثلمة حالى، وأدرّ حلوبة آمالى. ما أخلو من طلّ إحسانه ووابله، وغابر إنعامه وقابله. قد استمطرت منه بنوء غزير. وسريت فى ضوء قمر منير. قد كرعت من برّه فى مشارع تغزر ولا تنزر، ورفلت من طوله فى ملابس تطول ولا تقصر. إقامته فى ظلّ ظليل، وفضل جزيل، وريح بليل، ونسيم عليل، وماء روىّ، ومهاد وطىّ، وكنّ كنين، ومكان مكين. أنا آوى إلى ظلّه كما يأوى الطير المذعور إلى الحرم، وأواجه منه وجه المجد وصورة الكرم. أنا من إنعامه بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض. قد استظهرت على جور الآيام بعد له، واستترت من دهرى بظلّه. ما أردد فيه طرفى

وأعدّه من خالص ملكى منتسب إلى عطائه، أو مكتسب بجميل آرائه. مسافة بصرى تبعد إن سافرت فى مواهبه، وركائب فكرى تطلح «1» إن أنضيتها فى استقراء صنائعه. نعمته نعمة عمّت الأمم، وسبقت النعم، وكشفت الهموم ورفعت الهمم، نعمه قد سطع صباحها مستنيرا، وطنب شعاعها مستطيرا، قد عرفتنى نعمه حتى استنفدت شكر لسانى ويدى وأتعبت ظهرى، وملأت صدرى. نعمه عندى مشرقة الجوّ، مغرقة النوء، مونقة الضوء. تتابعت نعمه تتابع القطر على القفر، وترادفت مننه ترادف الغنى إلى ذوى الفقر. نعمه أشرقت بها أرضى، ومطر بها روضى، وورى لها زندى، وعلامعها جدّى، وأتانى الزمان يعتذر من إساءته، وجاءنى الدهر ينتظر أمرى. نعمه أنعمت البال، وسرّت النفس والحال. نعم تعمّ عموم المطر، وتزيد عليه بإفراد النفع عن الضرر. نعم تضعف الخواطر عن التماسها، وتصغر القرائح عن اقتراحها. له أياد قد عمّت الآفاق، ووسمت الأعناق، وأياد قد حبست عليك الشكر، واستعبدت لك الحر. منن توالت توالى القطر، واتسعت سعة البرّ والبحر، وأثقلت كاهل الحرّ. عندى قلادة منتظمة من مننه قد جعلتها وقفا على نحور الأيام، وجلوتها على أبصار الأنام. أياد يقصر عن حقوقها جهد القول، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطّول. أياديه أطواق فى أجياد الأحرار، وأفلاك تدور على ذوى الأخطار. له منن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد، ويتضاعف حملها على السّبع الشداد، لو تحمل الثّقلان ثقل هذا الامتنان لأثقل كواهلهم وأضعف عواتقهم. أياد يفرض لها الشكر ويحتم، ومنن يبتدأ بها الذكر ويختم. أياد تثقل الكاهل، ومنن تتعب الأنامل. منن تضعف منن الشكر «2» ، وينشر معها قوى النّشر، منن هى أحسن أثرا من الغيث فى أزاهير الربيع، وأحلى موقعا من الأمن عند الخائف المروع. إن أتعبت نفسى فى

ولهم فى أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح

تعداد مننه وحصرها فسأطمع فى إحصاء السحاب وقطرها. أياد لا تحصى أو تحصى محاسن النجوم، ومنن لا تحصر أو تحصر أقطار الغيوم. أياد كعدد الرمل والنمل، أعيت على العدّ، ولم تقف عند حد. زادت أياديه حتى كادت تجهد الأعداد، وتسبق الإعداد. أياديه عندى أغزر من قطر المطر، وعوارفه لدىّ أسرع من رجع البصر. رفعتنى من قعر التراب، إلى سمك السحاب. استنبطه من الحضيض الأوهد، إلى السناء الأمجد، وقد نبّهه عن خمول، وأجرى الماء فى عوده بعد ذبول، ورقّاه إلى ذروة من المجد بعد نزول. فضائل تزل أقدام النجوم لو وطئتها، وتقصر همم الأفلاك لو طلبتها، ثبت قدمه فى المحلّ المنيف، ومكّنه من جوامع التشريف. جذب بضبعه من المسقط المنحطّ، إلى المرفع المشتطّ. ولهم فى أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح أطال الله له البقاء، كطول يده بالعطاء، ومدّ له فى العمر، كامتداد ظله على الحرّ، وأدام له المواهب، كما أفاض به الرغائب، وحرس لديه الفضائل، كما عوّذ به الشمائل «1» . تولّى الله عنى مكافأته، وأعان على الخير نيّته وفعله، وأصحب بقاءه عزّا يبسط يديه لأوليائه على أعدائه، وكلاءة تذبّ عن ودائع مننه عنده «2» ، وزاد فى نعمه وإن عظمت، وبلغه آماله وإن انفسحت، ولا زال الفضل يأوى منه إلى ركن منيع، وجناب مريع. لا زالت الألسن عليه بالثناء ناطقة، والقلوب على مودته متطابقة، والشهادات له بالفضل متناسقة. لا زال يعطف على الصادر والوارد، عطف الأم والوالد. أبقاه الله للجميل يعلى معالمه، ويحمى مكارمه، ويعمر مدارجه، ويثمّر نتائجه. أدام الله أيامه التى هى أيام الفضائل ومواقيتها، وأزمان المآثر وتواريخها. أدامه الله

[منزلة صناعة الكلام]

للمواهب، سامية الذوائب، موفية على منية الراجى وبغية الطالب. أبقاه الله للعطاء يفضّه بين خدمه، والجمال يفيضه على إنشاء نعمه، والله يتابع له أيام العلاء والغبطة، والنماء والبسطة، ليرتع أنواع الخدم فى رياض فواضله، ويكرع أصناف الحشم فى حياض مواهبه، والله يبقيه طويل الذراع، مديد الباع، مليّا بالاتصال «1» والاصطناع. جزاه الله عن نعمة هيّأها بعد أن أسبغها، وعارفة ملّاها «2» بعد أن سوّغها. أفضل ما جازى به مبتدىء إحسان، ومجير إنسان، لا زال مكانه مصانا «3» للكرم، معانا للنعم، لا تريمه المواهب، ولا ترومه النوائب، بسطت بالعلا يده، وقرن بالسعادة جدّه، وجعل خير يوميه غده، ولا زالت الأيام والليالى مطاياه، فى أمانيه وآماله [وأيامه] ، وصرف صروف الغير عن إصابة إقباله وكماله. وقال ابن المعتز فى القاسم بن عبيد الله: أيا حاسدا يكوى التلهف قلبه ... إذا ما رآه غازيا وسط عسكر تصفّح بنى الدنيا فهل فيهم له ... نظير ترى ثم اجتهد وتفكّر فإن حدّثتك النفس أنك مثله ... بنجوى ضلال بين جنبيك مضمر فجد، وأجد رأيا، وأقدم على العدا ... وشدّ عن الإثم المازر واصبر وعاص شياطين الشباب وقارع النوائب ... وارفع صرعة الضر واجبر فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر واعترف ... لأحكامه واستغفر الله يغفر [منزلة صناعة الكلام] قال الجاحظ: صناعة الكلام علق نفيس، وجوهر ثمين، هو الكنز الذى لا يفنى ولا يبلى، والصاحب الذى لا يملّ ولا يقلى، وهو العيار على كلّ

صناعة، والزمام لكل عبارة، والقسطاس الذى به يستبين نقص كلّ شىء ورجحانه، والراووق الذى يعرف به صفاء كلّ شىء وكدره، والذى كلّ علم عليه عيال، وهو لكلّ تحصيل آلة ومثال وقال ابن الرومى: ما عذر معتزلىّ موسر منعت ... كفّاه معتزليا مثله صفدا» أيزعم القدر المحتوم ثبّطه ... إن قال ذاك فقد حلّ الّذى عقدا وقال [ابن الرومى] : لذوى الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور وهن كآنية الزّجاج تصادمت ... فهوت، وكلّ كاسر مكسور فالقاتل المقتول ثمّ لضعفه ... ولوهيه، والآسر المأسور وقال أبو العباس الناشىء يفتخر بالكلام: ونحن أناس يعرف الناس فضلنا ... بألسننا زينت صدور المحافل تنير وجوه الحقّ عند جوابنا ... إذا أظلمت يوما وجوه المسائل صمتنا فلم نترك مقالا لصامت ... وقلنا فلم نترك مقالا لقائل وقال يصف أصحابه: فلو شهدت مقاماتى وأنديتى ... يوم الخصام وماء الموت يطّرد فى فتية لم يلاق الناس مذ وجدوا ... لهم شبيها ولا يلفون إن فقدوا «2» مجاور والفضل أفلاك العلا سبل التقوى ... محلّ الهدى عمد النّهى الوطد كأنهم فى صدور الناس أفئدة ... تحسّ ما أخطئوا فيها وما عمدوا يبدون للناس ما تخفى ضمائرهم ... كأنهم وجدوا منها الذى وجدوا دلّوا على باطن الدنيا بظاهرها ... وعلم ما غاب عنهم بالذى شهدوا مطالع الحقّ ما من شبهة غسقت ... إلّا ومنهم لدينا كوكب يقد «3»

[بعض ما قيل فى النسيب]

وقال سعيد بن حميد: قالت: اكتم هواى واكن عن اسمى ... بالعزيز المهيمن الجبّار قلت: لا أستطيع ذلك، قالت: ... صرت بعدى تقول بالإجبار وتخلّيت عن مقالة بشر بن ... غياث لمذهب النجّار وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب: كنت دهرا أقول بالإستطاعة ... وأرى الجبر ضلّة وشناعه ففقدت استطاعتى فى هوى ظبى؛ ... فسمعا للمجبرين وطاعه وقال أيضا: ولما تناءت بالحبيب دياره ... وصرنا جميعا من عيان إلى وهم «1» تمكّن منّى الشوق غير مخالس ... كمعتزلىّ قد تمكّن من خصم [بعض ما قيل فى النسيب] وأنشد محمد بن سلام بعض هذه الأبيات التى أنشدها، وزعم أنها لأبى كبير الهذلى، ورويت ليزيد بن الطّثريّة وغيره، والرواة يدخلون بعض الشعر فى بعض، وهى: عقيلية، أمّا ملاث إزارها ... فوعث، وأمّا خصرها فبتيل «2» تقيّظ أكناف الحمى، ويظلها ... بنعمان من وادى الأراك مقيل فياخلّة النفس التى ليس دونها ... لنا من أخلّاء الصفاء خليل ويا من كتمنا حبّه، لم يطع له ... عدوّ، ولم يؤمن عليه دخيل أما من مقام أشتكى غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك؟ وكلا ليس منك قليل

[عمران بن حطان والحجاج]

وإن عناء النفس- مادمت هكذا ... عنود النوى محجوبة- لطويل أراجعة قلبى علىّ فرائح ... مع الرّكب لم يكتب عليك قتيل فلا تحملى وزرى وأنت ضعيفة ... فحمل دمى يوم الحساب ثقيل فياجنّة الدنيا، ويا منتهى المنى ... ويا نور عينى، هل إليك سبيل؟ فديتك، أعدائى كثير، وشقّتى ... بعيد، وأشياعى لديك قليل وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علّاتى، فكيف أقول؟ فما كلّ يوم لى بأرضك حاجة ... ولا كلّ يوم لى إليك رسول وأنشد ابن سلّام لأبى كبير الهذلى: وإنى لمستسق لها الله كلّما ... لوى الدّين معتلّ وشحّ غريم سحائب لا من صيّب ذى صواعق ... ولا محرقات ماؤهن حميم ولا مخلفات حين هجن بنسمة ... إليهن هوجاء المهبّ عقيم إذا ما هبطن القاع قد مات نبته ... بكين به حتى يعيش هشيم [عمران بن حطان والحجاج] ولما ظفر الحجّاج بعمران بن حطان الشارى «1» قال: اضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال عمران: لبئسما أدّبك أهلك يا حجّاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتنى به؟ أبعد الموت منزله أصانعك عليها؟ فأطرق الحجاج استحياء، وقال: خلّوا عنه؛ فخرج إلى أصحابه، فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غلّ يدا مطلقها، واسترقّ رقبة معتقها! وأنشد: أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقرّ بأنها مولاته؟ إنى إذا لأخو الدّناءة، والذى ... عفّت على عرفانه جهلاته

ماذا أقول إذا وقفت موازيا ... فى الصفّ وأحتجّت له فعلاته؟ وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعا ... غرست لدىّ فحنظلت نخلاته أأقول جار علىّ؟ إنى فيكم ... لأحقّ من جارت عليه ولاته تالله ما كدت الأمير بآلة ... وجوارحى وسلاحها آلاته أخذ أبو تمام هذا فقال معتذرا إلى أبى المغيث موسى بن إبراهيم الرافعى: أألبس هجر القول من لو هجوته ... إذا لهجانى عنه معروفه عندى كريم متى امدحه أمدحه والورى ... معى، وإذا مالمته لمته وحدى وعمران بن حطان هو القائل: لم يعجز الموت شىء دون خالقه ... والموت فان إذا ما غاله الأجل وكلّ كرب أمام الموت منقطع ... بالموت، والموت فيما بعده جلل «1» وكان الفرزدق عمل بيتا، وحلف بالطلاق أنّ جريرا لا ينقضه، وهو: فإنى أنا الموت الذى هو نازل ... بنفسك فانظر كيف أنت محاوله فاتصل ذلك بجرير، فقال: أنا أبو حزرة، طلقت امرأة الخبيث، وقال: أنا الدّهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئنى بمثل الدهر شيئا يطاوله وإنما أشار جرير إلى قول عمران. وهو عمران بن حطّان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس ابن سنان بن ذهل بن ثعلبة، ويكنى أبا شهاب، وكان من الشّراة، وكان من أخطب الناس وأفصحهم، وكان إذا خطب ثارت الخوارج إلى سلاحها، وكان من أقبح الناس وجها، قالت له امرأته وكانت فى الجمال مثله فى القبح: إنى لأرجو أن أكون وإياك فى الجنة؛ لأن الله رزقك مثلى فشكرت، وابتلانى بمثلك فصبرت!

[بين أعرابى وبعض الولاة]

[بين أعرابى وبعض الولاة] ودخل أعرابى على بعض الولاة فقال: أصلح الله الأمير، اجعلنى زماما من أزمّتك، فإنى مسعر حرب «1» ، وركّاب نجب، شديد على الأعداء، ليّن على الأصدقاء، منطوى الحصيلة، قليل الثّميلة «2» ، [قليل] غرار النوم، قد غذتنى الحروب أفاويقها، وحلبت الدهر أشطره، فلا يمنعك منى الدّمامة، فإنّ تحتها لشهامة. [الدنيا، وأهلها] قال المسيح عليه السلام: الدّنيا لإبليس مزرعة، وأهلها له حرّاث. وقال إبليس لعنه الله: العجب لبنى آدم يحبّون الله ويعصونه، ويبغضوننى ويطيعوننى. [أربع كلمات طيبات] خرج الزهرى يوما من عند هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهن رجل عند هشام؛ دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين؛ احفظ عنى أربع كلمات، فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك. قال: هاتهنّ؟ قال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن للأعمال جزء فاتّق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر. قال عيسى بن دأب: فحدّثت بهذا الحديث الهادى وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك أعد علىّ! فقلت: يا أمير المؤمنين، أسغ لقمتك، فقال: حديثك أحبّ إلىّ.

[بين معاوية وعمرو بن سعيد]

[بين معاوية وعمرو بن سعيد] ولما عقد معاوية البيعة ليزيد قام الناس يخطبون؛ فقال لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أمية، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإنّ يزيد بن معاوية أجل تؤمونه، وأمل تؤملونه، إن استضفتم إلى حلمه وسعكم «1» ، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أعناكم، جذع قارح «2» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، وهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف عنه، فقال له معاوية: اجلس، فقد أبلغت. وعمرو بن سعيد هذا هو الأشدق؛ [وإنما سمى الأشدق] لتشادقه فى الكلام، وقيل: بل كان أفقم مائل الشدق، وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبى، وهو خلاف قول الشاعر: تشادق حتى مال فى القول شدقه ... وكلّ خطيب لا أبالك أشدق وكان أبوه سعيد بن العاص أحد خطباء بنى أمية وبانائهم. ولما مات سعيد دخل عمرو على معاوية فاستنطقه فقال: إن أوّل كل مركب صعب، وإن مع اليوم غدا، فقال معاوية: وفى هذه العلة إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: أوصى إلىّ ولم يوص بى، فقال معاوية: إن ابن سعيد هذا لأشدق! [من تواضع الرشيد] قال ابن السماك للرشيد: يا أمير المؤمنين، تواضعك فى شرفك أفضل من شرفك؛ إنّ رجلا آتاه الله مالا وجمالا وحسبا، فواسى فى ماله، وعفّ فى جماله، وتواضع فى شريه؟؟؟، كتب فى ديوان الله عز وجلّ.

[للمتنبى فى حمى أصابته بمصر]

[للمتنبى فى حمى أصابته بمصر] نالت أبا الطيب المتنبّى علّة بمصر، فكان بعض إخوانه من المصريين يكثر الإلمام «1» به: فلما أبلّ قطعه، فكتب إليه: وصلتنى أعزّك الله معتلا، وقطعتنى مبلّا، فإن رأيت ألّا تسكدر الصحة علىّ، وتحبّب العلة إلىّ، فعلت. وفى هذه العلة يقول: أقمت بأرض مصر؛ فلا ورائى ... تخبّ بى الركاب، ولا أمامى عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السّكر من غير المدام وزائرتى كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلا فى الظّلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها، وباتت فى عظامى يضيق الجلد عن نفسى وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام إذا ما فارقتنى غسّلتنى ... كأنا عاكفان على حرام كأن الصّبح يطردها فتجرى ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام ويصدق وعدها والصدق شرّ ... إذا ألقاك فى الكرب العظام ألفاظ لأهل العصر فى العيادة وما جانسها من ذكر التّشكّى والمرض وتلونه، وسوء أثره، والانزعاج لعوارضه عرض لى مرض أساء بالنجاة ظنى، وكاد يصرف وجه الإفاقة عنى. هو شورى بين أمراض أربعة: صداع لا يخفّ، وحمّى لا تغبّ «2» ، وزكام لا يجف، وسعال لا يكفّ. علّة هو فى أسرها معتقل، وبقيدها مكبّل.

أمراض تلوّنت علىّ، وأساءت بى وإلىّ، فأنا أشكر الله تعالى إذ جعلها عظة وتذكيرا، ولم يبق منها الآن إلا يسيرا، أحسب أن الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائى مراتعها، [وآلت على أن تصيّر جوارحى مرابعها] . علل لا يصدر منها [آت إلا لتكدير ورد] ولا يعزل منها وال إلا بولىّ عهد. قد كرّت تلك العلة فعادت عللا، [وسقتنى بعد نهل عللا] «1» . علل برته برى الأخلّة، ونقصته نقص الأهلّة، وتركته حرضا، وأوسعته مرضا، وغادرته والخيال أكثف منه جثّة، والطيف أوفر منه قوّة. عرض له من المرض ما صار معه القنوط يغاديه ويراوحه، واليأس يخاطبه ويصافحه. قد ورد من سوء الظن أو خم المناهل، وبات من حسن الرجاء على مراحل. طالعت الكرم يترجّح نجمه بين الإضاءة والأفول، وتمثل شمسه بين الإشراق والغروب. أصبح فلان لا يقلّ رأسه «2» ، ولا يحور ظله، ويد المنية تقرع بابه. ما هو للعلة إلا عرض، ولسهام المنية إلا غرض. شاهدت نفسى وهى تخرج، ولقيت روحى وهى تعرج، وعرفت كيف تكون السّكرة، وكيف تقع الغمرة، وكيف طعم البعد والفراق، وكيف تلتفّ الساق بالساق. مرض لحقتنى روعته، وملكتنى لوعته. وجدت فى نفسى ألما أوحشه آنسه وآنسه أوحشه. بلغنى من شكايته ما أوحش جناب الأنس، وأرانى الظلّمة فى مطلع الشمس. قد بلغنى ما عرض لك من المرض، وألمّ بك من الألم؛ فتحامل على سوداء صدرى، وأقذى سواد طرفى، وفد استنفد القلق لعلّتك ما أعدّه الصبر من ذخيرة، وأضعف ما قوّاه العزم من بصيرة. قلبى يتقلّب على حدّ السيف إلى أن أعرف انكشاف العارض وزياله، وأتحقّق انحساره وانتقاله. أنهى إلى من الخبر العارض، حسم الله مادّته، وقصّر مدّته، ما أرانى الأفق مظلما، والعيش مبهما.

فقر فى تهوين العلة بحسن الرجاء، وذكر المشاركة والاهتمام بحلولها والاستبشار بزوالها

فقر فى تهوين العلة بحسن الرجاء، وذكر المشاركة والاهتمام بحلولها والاستبشار بزوالها إن الذى بلغنى من ضعفه قد أضعف المنّة، وإن لم يضعف الظنّ بالله والثّقة. قد استشفّ العافية من ثوب رقيق. ما أكثر ما رأينا هذه العلل حلّت ثم تجلّت وتوالت ثم تولّت. خبّرنى فلان بعلّتك فأشركنى فيها ألما وقلقا، فلا أعلّ الله لك جسما ولا حالا، فليست نكاية الشغل فى قلبى بأقلّ من نكاية الشكاية فى جسمك، ولا استيلاء القلق على نفسى بأيسر من اعتراض السّقم لبدنك، ومن ذا الذى يصحّ جسمه إذا تألمت إحدى يديه، ومن يحل محلّها فى القرب إليه؟ أنا منزعج لشكاتك، مبتهج بمعافاتك، إن كانت علّتك قد قرحت وجرحت، فإنّ صحتك قد آست وآنست «1» . بلغتنى شكاتك فارتعت، ثم عرفت خفّتها فارتحت. الحمد لله على قرب المدة بين المحنة والمنحة، والنقمة والنعمة، وعلى أنّا لم نتهالك بأيدى المخافة حتى تدارك بحسن الرأفة، ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سلم من ورطة القدر. ولهم فى شكاة أهل الفضل والسؤود شكاته التى تتألّم منها المروءة والفضل. ويسقم منها الكرم المحض. شكاته التى غصّت بها حلوق المجد، وحرجت لها صدور أهل الأدب والعلم «2» ، وبدا الشحوب معها على وجه الحرية، وحرم معها البشر على غرّة المروءة. قد اعتلّ بعلّته الكرم، وشكا بشكايته السيف والقلم. شكاة عرضت منه لشخص الكرم الغضّ، والشرف المحض. لو قبلت مهجتى فدية، دون وعكة تجدها،

ولهم فى تنسم الإقبال، وذكر الإبلال

لجدت بها، وساعة أنس تفقدها لبذلتها، عالما بأنى أفدى الكرم لا غير، والفضل ولا ضير. ولهم فى تنسّم الإقبال، وذكر الإبلال قد شمت بارقة العافية، وشممت رائحة الصحة. أقبل صنع الله من حيث لم أحتسب، وجاءنى لطفه من حيث لا أرتقب، وتدرّجت إلى الإبلال وقد حسبته حلما، ورضيت به دون الاستقلال غنما، وقد تخلّصت إلى شطّ العافية لما تداركنى الله تعالى بلطيفة من لطائفه، وجعل هبة الروح عارفة من عوارفه، وتنسمت روح الحياة، بعد أن أشفيت على الوفاة «1» ، وثنيت وجهى إلى الدنيا بعد مواجهتى للدار الأخرى. قد صافح الإقبال والإبلال، وقارب النهوض والاستقلال. سيريك الله من العافية التى أذاقك ويسبغ ثوبها، ولا يعيد عليك مكروهها. قد استقلّ استقلال اليف حودث عهده وأعيد فرنده «2» ، والقمر انكشف سراره، وذاعت أسراره «3» . حين استقلّت يدى بالقلم، بشّرتك بانحسار الألم. قد أتاك الله بالسلامة الفائضة، وعافاك من الشكاة العارضة. أبلّ فانشرحت الصدور، وشمل السرور. الحمد لله الذى حرس جسمك وعافاه، ومحا عنه أثر السقم وعفّاه. الحمد لله الذى جعل العافية عقبى ما تشكيت، والسلامة عوضا عما عاينت. الحمد لله الذى أعفاك من معاناة الألم، وعافاك للفضل والكرم، ونظمنى معك فى سلك النعمة، وضمّنى إليك فى منبلج الصحّة. الحمد لله الذى جعل السلامة ثوبك الذى لا تنضوه «4» ، وسيفك فيما تأمله وترجوه. الله يجعل السلامة أطول برديك، وأشدّهما سبوغا عليك، ويدفع

فقر فى أذعية العيادة، والاستشفاء بكتبها

فى صدور المكاره دون ربعك، وفى نحور المحاذير قبل الانتهاء إلى ظلك. لا زالت العافية شعارك، ما واصل ليلك نهارك. فقر فى أذعية العيادة، والاستشفاء بكتبها أغناك الله عن الطبّ والأطباء، بالسلامة والشفاء، وجعله عليك تمحيصا «1» لا تنغيصا، وتذكيرا لا نكيرا، وأدبا لا غضبا. الله يدرّ لك صوب العافية، ويضفى عليك ثوب الكفاية الوافية. أوصل الله تعالى إليك من برد الشفاء ما يكفيك حرّ الأدواء. كتابك قد أدّى روح السلامة فى أعضائى، وأوصل برد العافية إلى أحشائى. تركنى كتابك والنعم تثب إلى صحتى، والخطوب تتجافى عن مهجتى، بعد أمراض اكتنفت، وأسقام اختلفت. قد استبق كتابك والعافية إلى جسمى كأنهما فرسا رهان تباريا، ورسيلا مضمار تجاريا. أبدلنى كتابك من حزون الشكاية سهول المعافاة، ومن شدّة التألّم، رخاء التنعّم. قطعة من كلام الأطباء والفلاسفة العاقل يترك ما يحبّ ليستغنى عن العلاج بما يكره. جالينوس: المرض هرم عارض، والهرم مرض طبيعى. وله: مجالسة الثقيل حمّى الروح. بختيشوع: أكل القليل مما يضرّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع. يوحنا بن ماسويه: عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما قدم. وقال له المأمون: ما أحسن ما يتنقّل به على النبيذ؟ قال: قول أبى نواس، يريد قوله: الحمد لله ليس لى مثل ... خمرى شرابى ونقلى القبل

فقر فى ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد

ثابت بن قرة: ليس شىء أضر بالشيخ من أن تكون له جارية حسناء، وطبّاخ حاذق؛ لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم. غيره: ليس لثلاث حيلة: فقر يخالطه كسل، وخصومه يخامرها حسد، ومرض يمازجه هرم. ثلاثة يجب مداراتهم: السلطان، والمريض، والمرأة. ثلاثة يعذرون على سوء الخلق: المريض، والمسافر، والصائم. فقر فى ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد شيئان لا يعرفان إلّا بعد ذهابهما: الصحة والشباب. بمرارة السقم توجد حلاوة الصحة. هذا كقول أبى تمام: إساءة دهر أذكرت حسن فعله ... إلىّ، ولولا الشّرى لم يعرف الشّهد «1» وقوله أيضا: والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذى أدراك كيف نعيمها ما سلامة بدن معرّض للآفات، وبقاء عمر معرض للساعات؟ قال أبو النجم: إنّ الفتى يصبح للسقام ... كالغرض المنصوب للسّهام أخطأ رام وأصاب رام وقيل لبعض الأطباء وقد نهكته العلّة: ألا تتعالج؟ فقال: إذا كان [الداء من] السماء بطل الدواء، وإذا قدّر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الأمل، وبئس الداء الأجل. بزرجمهر: إن كان شىء فوق الحياة فالصحة، وإن كان شىء فوق الموت فالمرض، وإن كان شىء مثل الحياة فالغنى، وإن كان شىء مثل الموت فالفقر.

غيره: خير من الحياة ما لا تطيب الحياة إلا به، وشرّ من الموت ما يتمنى الموت له. قال المتنبى فى مرثية أم سيف الدولة: أطاب النفس أنك متّ موتا ... تمنّته البواقى والخوالى وزلت ولم ترى يوما كريها ... تسرّ النفس فيه بالزوال رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك علىّ ابنك فى كمال الموت باب الآخرة الحسن: ما رأيت يقينا لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت. ابن المعتز: الموت سهم مرسل إليك، وعمرك بقدر سفره نحوك أخذه بعض أهل العصر فقال: لا تأمن الدهر الخؤو ... ن وخفّ بوادر آفته فالموت سهم مرسل ... والعمر قدر مسافته البستى: لا يغرنك أننى ليّن الم ... سّ فعزمى إذا انتضيت حسام أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام وقال آخر: إن الجهول تضرّنى أخلاقه ... ضرر السّعال لمن به استسقاء ولآخر، وهو البستى: فلا تكن عجلا فى الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النّضج بحران وقال آخر: لا تعتمد إلا رئيسا فاضلا ... إن الكبار أطبّ للأوجاع وقال آخر: وإنى لأختصّ بعض الرجال ... وإن كان فدما ثقيلا عباما «1»

[من الأجوبة المفحمة]

فإنّ الجبنّ على أنه ... ثقيل وخيم يشهّى الطّعاما وقال المتنبى: لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربما صحّت الأجسام بالعلل وقال أيضا: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم [من الأجوبة المفحمة] قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبى: كان بلال بن أبى بردة جلدا حين ابتلى، أحضره يوسف بن عمر فى قيوده لبعض الأمر، وهم بالحيرة؛ فقام خالد بن صفوان فقال ليوسف: أيها الأمير، إنّ عدوّ الله بلالا ضر بنى وحبسنى ولم أفارق جماعة؛ ولا خلعت يدا من طاعة، ثم التفت إلى بلال فقال: الحمد لله الذى أزال سلطانك، وهدّ أركانك، وأزال جمالك، وغيّر حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفّا بالشريف، مظهرا للعصبية! فقال بلال: يا خالد؛ إنما استطلت علىّ بثلاث معك هنّ علىّ: الأمير مقبل عليك، وهو عنى معرض. وأنت مطلق، وأنا مأسور. وأنت فى طينتك، وأنا غريب! فأفحمه، [ويقال: إن آل الأهتم زعنفة دخلت فى بنى منقر فانتسبت إليهم] «1» وكان سبب ضرب بلال خالدا فى ولايته أن بلالا مرّ بخالد فى موكب عظيم، فقال خالد: سحابة صيف عن قليل تقشّع فسمعه بلال، فقال: والله لا تقشع أو يصيبك منها شؤبوب «2» برد، وأمر بضربه وحبسه. [رثاء قدح] وقال أبو الفتح كشاجم يرثى قدحا له انكسر:

[من طرائف الوصف]

عرانى الزمان بأحداثه ... فبعضا أطقت، وبعض فدح «1» وعندى فجائع للحادثات ... وليس كفجعتنا بالقدح وعاء المدام، وتاج البنان ... ومدنى السرور، ومقصى التّرح «2» ومعرض راح متى تكسه ... ويستودع السرّ منها يبح وجسم هواء وإن لم يكن ... يرى للهواء بكفّ شبح يردّ على الشخص تمثاله ... وإن تتّخذه مراة صلح ويعبق من نكهات المدام ... فتحسب منه عبيرا نفح ورقّ؛ فلو حلّ فى كفّة ... ولا شىء فى أختها ما رجح يكاد مع الماء إن مسّه ... لما فيه من شكله ينفسح هوى من أنامل مجدولة ... فيا عجبا من لطيف رزح فأفقدنيه على ضنّة ... به للزمان غريم ملح كأنّ له ناظرا ينتقى ... فمتى يتعمّد غير الملح أقلّب ما أبقت الحادثا ... ت منه وفى العين دمع يسح وقد قدح الوجد منى به ... على القلب من ناره ما قدح وأعجب من زمن مانح ... وآخر يسلب تلك المنح فلا تبعدنّ فكم من حشّى ... عليك كليم وقلب قرح سيقفر بعدك رسم الغبوق ... وتوحش منك مغانى الصّبح [من طرائف الوصف] ومن أحسن ما قيل فى وصف قدح، قول ابن الرومى يصف قدحا أهداه إلى على بن يحيى المنجم:

وبديع من البدائع يسبى ... كلّ عقل، ويطّبى كلّ طرف «1» رقّ فى الحسن والملاحة حتى ... ما يوفّيه واصف حقّ وصف كفم الحبّ فى الملاحة بل أشهى ... وإن كان لا يناجى بحرف تنفذ العين فيه حتى تراها ... أخطأته من رقّة المستشفّ كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء، أرقق بذاك وأصف صيغ من جوهر مصفّى طباعا ... لا علاجا بكيمياء مصفّ وسط القدر، لم يكبّر لجرع ... متوال، ولم يصغّر لرشف لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهنّ فى غير ضعف «2» فيه نون معقرب عطّفته ... حكماء القيون أحكم عطف مثل عطف الأصداغ فى وجنات ... من حبيب يزهى بحسن وظرف ما رأى الناظرون قدّا وشكلا ... مثله فارسا على بطن كفّ وقال أبو القاسم التنوخى: وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك فى قدح من نهار هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار إذا ما تأملتها وهى فيه ... تأمّلت نورا محيطا بنار فهذا النهاية فى الابيضاض ... وهذا النهاية فى الاحمرار وما كان فى الحق أن يقرنا ... لفرط التّنافى وبعد النّفار ولكن تجاور شكلاهما ال ... بسيطان فاتّفقا فى الجوار كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسّقى أو باليسار تدرع ثوبا من الياسمين ... له فردكم من الجلنار

وقال أبو الفتح كشاجم برثى منديل كم: من يبك من وجد على هالك ... فإنما أبكى على دستجه «1» جاذبنيها رشأ أغيد ... فجادت النفس بها محرجه بديعة فى نسجها، مثلها ... يفقد من يحسن أن ينسجه كأنما رقّة أشكالها ... من رقّة العشّاق مستخرجه كأنما مفتول أهدا بها ... أيدى دبا فى نسق مزوجه «2» كأنما تفريق أعلامها ... طاوسة تختال أو درّجه لبيسة جدّدها حسنها ... لارثّة السّلك ولا منهجه «3» كم رقعة من عند معشوقة ... ترسل فى أثنائها مدرجه أو مسحة من شفة عذبة ... تبرد حرّ الكبد المنضجه إلى تحيات لطاف بها ... تسكن منى مهجة مزعجه كانت لمسح الكاس حتى ترى ... منها لآثار القذى مخرجه وخاتمى يعقد فيها إذا ... آثرت من كفى أن أخرجه وأتّقى الجام بها كلّما ... كلله المازج أو توّجه فاستأثر الدّهر بها؛ إنه ... ذو همّة مجلية مرهجه «4» فأصبحت فى كمّ مختالة ... ملجمة فى هجرنا مسرجة وقال أيضا يصف سقوط الثلج: الثلج يسقط أم لجين يسبك ... أمّ ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك راحت به الأرض الفضاء كأنها ... فى كل ناحية بثغر تضحك

شابت مفارقها فبيّن ضحكها ... طورا، وعهدى بالمشيب ينسّك أربى على خضر الغصون فأصبحت ... كالدرّ فى قضب الزبرجد يسلك وتردّت الأشجار منه ملاءة ... عمّا قليل بالرياح تهتّك كانت كعود الهند طرّى فانكفى ... فى لون ابيض وهو أسود أحلك والجوّ من أرج الهواء كأنه ... خلع تعنبر تارة وتمسّك «1» فخذى من الأوتار حظّك إنما ... يتحرّك الإطراب حين تحرّك فاليوم يوزن بالملاحة، إنه ... سيطلّ فيه دم الدّنان ويسفك «2» وقال أيضا: باكر فهذى صبيحة قرّه ... واليوم يوم سماؤه ثرّه ثلج وشمس وصوب غادية ... والأرض من كل جانب غرّه باتت وقيعانها زبرجدة ... فأصبحت قد تحوّلت درّه كأنها والثلوج تضحكها ... تعار ممن أحبّه ثغره كأنّ فى الجو أيديا نثرت ... درّا علينا فأسرعت نثره شابت فسرّت بذاك وابتهجت ... وكان عهدى بالشيب يستكره قد جلّيت بالبياض بلدتنا ... فاجل علينا الكؤوس بالحمره وقال الصنوبرى: ذهّب كؤوسك يا غلا ... م فإنّ ذا يوم مفضّض الجوّ يجلى فى البيا ... ض وفى حلى الكافور يعرض أزعمت ذا ثلج وذا ... ورد على الأغصان بنفض ورد الربيع مورّد ... والورد فى تشرين أبيض

ألفاظ لأهل العصر فى وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية

وقال البستى: كم نظمنا عقود لهو وأنس ... وجعلنا الزمان للهو سلكا وفتقنا الدّنان فى يوم ثلج ... عزل الكأس فيه رشدا ونسكا فكأنّ السماء تنحلّ كافو ... را علينا، ونحن نفتق مسكا وقال الأمير أبو الفضل الميكالى يصف الجمد: ربّ جنين من حيا النمير ... مهتّك الأستار والضمير سللته من رحم الغدير ... كأنها صحائف البلّور أو أكر تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور لو بقيت سلكا على الدهور ... لعطّلت قلائد النّحور «1» وأخجلت جواهر البحور ... [وسميت ضرائر الثغور] يا حسنه فى زمن الحرور ... إذ قيظه مثل حشى المهجور «2» يهدى إلى الأكباد والصدور ... روحا يجلّى نفثة المصدور ويجلب السرور للمقرور ألفاظ لأهل العصر فى وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية ألقى الشتاء كلكله، وأحلّ بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أوراقه، وحلّ نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، وأناخ بنوازله، وأرسى بكلا كله، وكلح بوجهه، وكشّر عن أنيابه. قد عادت [هامات] الجبال شيبا، ولبست من الثلج بردا قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج، ألمّ الشيب بها وابيضّت لممها «3» . قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا. برد يغير الألوان، وينشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد يجمد الريق فى الأشداق، والدمع فى الآماق. برد حال بين الكلب وهريره،

نقيض ذلك من كلامهم فى وصف القيظ وشدة الحر

والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره. نحن بين لثق، ورثق، وزلق «1» يوم كأنّ الأرض شابت لهوله. يوم فضّى الجلباب، مسكى النقاب، عبوس قمطرير، كشّر عن باب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشّمال زمامه، وكسا الصّر «2» ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة، والسماء بلّورة. يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهواؤه كالزنابير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وسماؤه كأطراف الزّجاج «3» . يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر، نحن فيه بين أطباق البرد فما نستغيث إلا بحرّ الراح، وسورة الأقداح. ليس للبرد كالبرد، والخمر، والجمر. إذا كلب الشتاء، فترياق سمومه الصّلاء، ودرق سيوفه الطّلاء «4» . نقيض ذلك من كلامهم فى وصف القيظ وشدة الحر قوى سلطان الحرّ، وبسط بساط الجمر. حرّ الصيف، كحدّ السيف. أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حرّ يلفح حرّ الوجه. حرّ يشبه قلب الصبّ، ويذيب دماغ الضّبّ. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكى نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حرّ تهرب له الحرياء من الشمس، قد صهرت الهاجرة الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الجلمود أيام كأيام الفرقة امتدادا، وحرّ كحر الوجد اشتدادا. حرّ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش. حمارّة القيظ، تغلى كدم ذى الغيظ. آب آب يجيش «5» مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، أو التنور المسجور. هاجرة كالجحيم الجاحم، تجر أذيال السمائم.

[العجلة أم الندامة]

[العجلة أمّ الندامة] قال بعض الحكماء: إياك والعجلة فإنّ العرب كانت تكنيها امّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة. [تأميل ورجاء] ولما ولّى المهتدى «1» سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوى حرمته، فقال: أعزّ الله الوزير؛ أنا خادمك المؤمّل لدولتك، السعيد بأيامك، المنطوى القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك، وقد قال الشاعر: وفيت كل صديق ودّنى ثمنا ... إلا المؤمل دولاتى وأيّامى فإننى ضامن ألّا أكافئه ... إلا بتسويغه فضلى وإنعامى وإنى لكما قال القيسى: ما زلت أمتطى النهار إليك، وأستدلّ بفضلك عليك، حق إذا جنّنى الليل فغضّ البصر، ومحا الأثر، أقام بدنى، وسافر أملى، والاجتهاد عذر، فإذا بلغتك فقد «2» . قال سليمان: لا عليك؛ فإنى عارف بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك واصطناعك، ولست أؤخر عن يومى هذا تولينك ما يحسن عليك أثره، ويطيب لك خبره، إن شاء الله. وكتب محمد بن عباد إلى أبى الفضل جعفر بن محمود الإسكافى وزير المعتز بالله وكان المعتز يختصّ به، ويتقرّب إليه قبل الوزارة: ما زلت- أيدك الله تعالى- أذم الدهر بذمّك إياه، وأنتظر لنفسى ولك عقباه، وأتمنى زوال حال من لا ذنب له

[من حسن التقسيم]

إلا عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله، وأترك الإعذار «1» فى الطلب على الاختلال الشديد؛ ضنّا بالمعروف عندى إلّا عن أهله، وحبسا لشعرى إلا عن مستحقه. فوقع فى كتابه: لم أؤخر ذكرك ناسيا لحقّك، ولا مهملا لواجبك، ولا مرجيا «2» لمهمّ أمرك، ولكنى ترقّبت اتساع الحال، وانفساح الآمال؛ لأخصّك بأسناها خطرا، وبأجلّها قدرا، وأعودها بنفع عليك، وأوفرها رزقا لك، وأقربها مسافة منك؛ فإذا كنت ممن يحفزه الإعجال، ولا يتّسع له الإمهال، فسأختار لك خير ما يشير إليه الوقت، وأنعم النظر فيه، وأجعله أول ما أمضيه، إن شاء الله. ولما ولى سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم فقلت له: نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا؛ إن المهمّ المقدّم فعجب من لطيف شكواه فى تهنئته، وقضى حوائجه. [ووقّع عبيد الله فى كتاب رجل اعتدّ عنده بأثر جميل: وقفت على ما ذكرته من شكايتك، فوقع ذلك عندنا الموقع الذى أردته، وصدر جوابنا إليك بما شكرته، ولم تعد ظننا، وما قدرنا فيك، ثم اعتدت الاعتداد حتى كأنك لم تكاتبنا؛ فلا تفسدنّ تالد إحسانك بطارف امتنانك، واقتصر من وصف سالفك على ذكر مستأنفك] . [من حسن التقسيم] ووقّع عبيد الله فى أمر رجل خرج عن الطاعة: أنا قادر على إخراج هذه النعرة «3» من رأسه، والوحرة من نفسه «4» .

ونحو هذا التقسيم قول قتيبة بن مسلم بخراسان: من كان فى يده شىء من مال عبد الله فلينبذه، أو فى فمه فليلفظه، أو فى صدره فلينفثه. وقال عبد الله بن على، بعد قتله من قتل من بنى أمية، لإسماعيل بن عمرو: أساءك ما فعلت بأصحابك؟ قال: كانوا يدا فقطعتها «1» ، [وعضدا ففتتها، ومرة فنقضتها] ، وركنا فهدمته، [وجبلا فهضته] ، وجناحا فقصصته، قال: إنى لخليق بأن ألحقك بهم، قال: إنى إذا لسعيد. وقال المنصور لجرير بن عبد الله: إنى لأعدّك لأمر كبير! قال: يا أمير المؤمنين قد أعدّ الله لك منى قلبا معقودا بنصيحتك، ويدا مبسوطة بطاعتك، وسيفا مسلولا على أعدائك. وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه: مدّ الله فى عمرك موفورا غير منتقص، وممنوحا غير ممتحن، ومعطى غير مستلب. ومن جيد التقسيم مع المطابقة قول بعض الكتاب: إنّ أهل النصح والرّأى لا يساويهم أهل الأفن والغشّ، وليس من جمع إلى الكفاية الأمانة كمن أضاف إلى العجز الخيانة. وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دعت له وقد أولاها يدا: شكرتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالتها ثروة بعد فاقة. ومن بديع التقسيم فى هذا النوع قول البحترى: كأنك السيف حدّاه ورونقه ... والغيث وابله الدّانى وريّقه هل المكارم إلا ما تجمّعه ... أو المواهب إلا ما تفرّقه وقال الحسن بن سهل يوما للمأمون: الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك؛

[بين قينة وأربعة من عشاقها]

وسنىّ ما أعطاك؛ إذ قسم لك الخلافة، ووهب لك معها الحجّة، ومكّنك بالسلطان، وحلّاه لك بالعدل، وأيّدك بالظفر، وشفعه لك بالعفو، وأوجب لك السعادة، وقرنها بالسياسة، فمن فسح له فى مثل عطيّة الله لك؟ أم من ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما ألبسك؟ أم من ترادفت نعم الله تعالى عليه ترادفها عليك؟ أم من حاولها وارتبطها بمثل محاولتك؟ أم أى حاجة بقيت لرعيّتك لم يجدوها عندك؟ أم أى قيّم للاسلام انتهى إلى غايتك ودرجتك؟ تعالى الله! ما أعظم ما خصّ القرن الذى أنت ناصره! وسبحان الله! أية نعمة طبّقت الأرض بك إن أدّى شكرها إلى بارئها، والمنعم على العباد بها؟ إن الله تعالى خلق الشمس فى فلكها ضياء يستنير بها جميع الخلائق؛ فكلّ جوهر زها حسنه ونوره فهى ألبسته زينته لما اتصل به من نورها؟ وكذلك كل ولىّ من أوليائك سعد بأفعاله فى دولتك، وحسنت صنائعه عند رعيّتك، فإنما نالها بما أيّدته من رأيك وتدبيرك، وأسعدته من حسنك وتقويمك. [بين قينة وأربعة من عشاقها] قال بعض الظرفاء: اجتمع لقينة أربعة من عشّاقها، وكلّهم يورّى عن صاحبه أمره، ويخفى عنه خبره، ويومىء «1» إليها بحاجبه، ويناجيها بلحظه؛ وكان أحدهم غائبا فقدم، والآخر مقيما قد عزم على الشخوص، والثالث قد سلفت «2» أيامه، والرابع مستأنفة مودّته؛ فضحكت إلى واحد، وبكت إلى آخر، وأقصت «3» آخر، وأطمعت آخر؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكل بثّه وشأنه؛ فأجابته، فقال القادم: جعلت فداك، أتحسنين: ومن ينأ عن دار الهوى يكثر البكا ... وقول لعلّى أو عسى سيكون

وما اخترت نأى الدار عنك لسلوة ... ولكن مقادير لهنّ شؤون فقالت: أحسنه، ولا أقيم لحنه، ولكن مطارحه لتستغنى به عنه، لقربه منه، وأنا به أحذق، ثم غنّت: وما زلت مد شطّت بك الدار باكيا ... أؤمّل منك العطف حين تؤوب فأضعفت ما بى حين أبت وزدتنى ... عذابا وإعراضا وأنت قريب وقال الظاعن: جعلت فداك، أتحسنين: أزف الفراق فأعلنى جزعا ... ودعى العتاب فإننا سفر إنّ المحبّ يصدّ مقتربا ... فإذا تباعد شفّه الذّكر قالت: نعم، وأحسن منه ومن إيقاعه، ثم غنت: لأقيمنّ مأتما عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النّحيب ربما أوجع النّوى للقلوب ... ثم لا سيّما فراق الحبيب «1» ثم قال السالف: جعلت فداك، أتحسنين: كنّا نعاتبكم ليالى عودكم ... حلو المذاق وفيكم مستعتب فالآن حين بدا التنكّر منكم ... ذهب العتاب فليس عنكم مذهب قالت: لا، ولكن أحسن منه فى معناه، ثم غنت: وصلتك لما كان ودّك خالصا ... وأعرضت لما صار نهبا مقسّما ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... إذا كثر الورّاد أن يتهدّما فقال المستأنف: أتحسنين، جعلت فداك: إنى لأعظم أن أبوح بحاجتى ... وإذا قرأت صحيقتى فتفهّمى وعليك عهد الله إن أبثثته ... أحدا ولا آذنته بتكلّم «2»

[بين ابن المعتز وقينة]

فقالت: نعم، ومن غناء صاحبه «1» ؛ ثم غنّت: لعمرك ما استودعت سرّى وسرّها ... سوانا، حذارا أن تذيع السرائر ولا خالطتها مقلتاى بنظرة ... فتعلم نجوانا العيون النواظر ولكن جعلت الوهم بينى وبينها ... رسولا فأدّى ما تجنّ الضمائر أكاتم ما فى النفس خوفا من الهوى ... مخافة أن يغرى بذكرك ذاكر فتفرقوا وكلّهم قد أومأ بحاجته، وأجابته بجوابه. [بين ابن المعتز وقينة] قال أبو العباس بن المعتز: كان لنا مجلس حظّ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت، فلما مرّت فى الطريق وجدت فيه حارسا فرجعت، فأرسلت أعاتبها فكتبت إلى: لم أتخلّف عن المسير إلى سيدى فى عشيتى أمس لأرى وجهه المبارك وأجيب دعاءه، إلا لعلة قد عرفتها فلانة، ثم خفت أن يسبق إلى قلبه الطاهر أنّى قد تخلّفت بغير عذر؛ فأحببت أن تقرأ عذرى بخطّى، ووالله ما أقدر على الحركة، ولا شىء أسرّ إلى من رؤيتك، والجلوس بين يديك، وأنت يا مولاى جاهى وسندى، لافقدت قربك، ولك رأيك فى بسط العذر موفقا. وكتبت فى أسفل الكتاب: أليس من الحرمان حظّ سلبته ... واحوجنى فيه البلاء إلى العذر فصبرا فما هذا بأوّل حادث ... رمتنى به الأقدار من حيث لا أدرى فأجبتها: كيف أردّ عذر من لا تتسلّط التهمة عليه، ولا تهتدى الموجدة إليه! وكيف أعلمه قبول المعاذير، ولست آمن بعض خواطره «2» أن تشير إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة؛ وإن سلمت من ذلك فمن يجيرنى من توكله

[بين ابن المعتز وبعض الوزراء]

على تقديم العذر، ووقوعه مواقع التصديق فى كل وقت، فتتّصل أيام الشغل والعلّة، وتنقضى أيام الفراغ والصحة، فتطول مدة الغيبة، وتدرس آثار المودّة، وكتبت فى آخر الرقعة: إذا غبت لم تعرف مكانى لذة ... ولم يلق نفسى لهوها وسرورها وحدّثت سمعا واهنا غير ممسك ... لقولى، وعينا لا يرانى ضميرها [بين ابن المعتز وبعض الوزراء] وكتب إلى بعض الوزراء: ما زال الحاسد لنا عليك أيها الوزير ينصب الحبائل، ويطلب الغوائل، حتى انتهز فرصته، وأبلغك تشنيعا زخرفه «1» ، وكذبا زوّره، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغيب، ويقول وأمسك؟ مرتصدا لا يغفل وماكرا لا يفتر؛ وربما استنصح الغاش، وصدق الكاذب؛ والحظوة لا تدرك بالحيلة، ولا يجرى أكثرها على حسب السّبب والوسيلة. فأجابه: حصول الثقة بك- أعزّك الله! - تغنى عن حضورك، وصدق حالتك يحتجّ عنك، وما تقرّر عندنا من نيّتك وطويّتك يغنى عن اعتذارك. [من شعر ابن المعتز] وقد قال ابن المعتز: أخنى عليك الدهر مقتدرا ... والدهر ألأم غالب ظفرا ما زلت تلقى كلّ حادثة ... حتى حناك وبيّض الشّعرا فالآن هل لك فى مقاربة ... فلقد بلغت الشّيب والكبرا لله إخوان فقدتهم ... سكنوا بطون الأرض والحفرا أين السبيل إلى لقائهم ... أم من يحدّث عنهم خبرا كم مورق بالبشر مبتسم ... لا أجتنى من غصنه ثمرا

ما زال يولينى خلائقه ... وصبرت أرقبه وما صبرا وعدو غيب طالب لدمى ... لو يستطيع لجاوز القدرا يورى زنادى كى يخادعنى ... ويطير فى أثوابى الشّررا وقال أيضا: وإنى على إشفاق عينى من القذى ... لتجمح منى نظرة ثم أطرق «1» كما حلّئت من برد ماء طريدة ... تمدّ إليه جيدها وهى تفرق «2» وقال: وما زلت مذ شدّت يدى عقد مئزرى ... غناى لغيرى وافتقارى على نفسى ودلّ علىّ الحمد مجدى وعفّتى ... كما دلّ إشراق الصّباح على الشمس وقال: سعى إلى الدّن بالمبزال ينقره ... ساق توشّح بالمنديل حين وثب لما وجاها بدت صفراء صافية ... كأنما قدّ سيرا من أديم ذهب وقال: لبست صفرة فكم فتنت من ... أعين قد رأيتها وعقول مثل شمس الغروب تسحب ذيلا ... صبغته بزعفران الأصيل والشمس عند طلوعها، وعند غروبها، تمكّن الناظر إليها فيمكن التشبيه بها؛ قال قيس بن الخطيم: فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... فى الحسن أو كدنوّها لغروب

[جرير فى المدينة يغرى بشعر قيس بن الخطيم]

[جرير فى المدينة يغرى بشعر قيس بن الخطيم] ولما قدم جرير بن الخطفى المدينة اجتمع إليه أهلها، وقالوا: يا أبا حزرة! أنشدنا من شعرك، قال: ما تصنعون به؟ وفيكم من يقول: أنّى سربت وكنت غير سروب ... وتقرّب الاحلام غير قريب ما تمنعى يقظى فقد نوّلته ... فى النوم غير مصرّد محسوب «1» كان المنى يلقى بها فلقيتها ... فلهوت عن لهو امرىء مكذوب «2» فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... فى الحسن أو كدنوّها لغروب تخطو على برديّتين غذاهما ... غدق بساحة حائر يعبوب «3» [يعقوب بن داود] وقّع يزيد بن خالد الكوفى رقعة إلى يعقوب بن داود ضمنها: قل لابن داود والأنباء سائرة: ... لا يحرز الأجر إلّا من له عمل يا ذا الذى لم تزل يمناه مذ خلقت ... فيها لباغى نداه العلّ والنهل إن كنت مسدى معروف إلى رجل ... لفضل شكر فإنى ذلك الرجل فامنن علىّ ببرّ منك ينعشنى ... فإننى شاكر المعروف محتمل قال يعقوب: قد جرّبنا شكرك فوجدناه قد سبق برّنا، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم [تصلح حالك] ، وليست آخر ما عندنا لك، فاستوفاها حتى مات.

ولما سخط المهدىّ على يعقوب أحضره، فقال: يا يعقوب! قال: لبّيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك، شرق بغصّتك، قال: ألم أرفع قدرك وأنت خامل، وأسيّر ذكرك وأنت هامل، وألبسك من نعم الله تعالى ونعمى ما لم أجد عندك طاقة لحمله، ولا قياما بشكره؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك، وردّ كيدك إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إن كنت قلت هذا بتيقّن وعلم فإنى معترف، وإن كان بسعاية الباغين، ونمائم المعاندين، فأنت أعلم بأكثرها؛ وأنا عائذ بكرمك، وعميم شرفك. فقال: لولا الحنث «1» فى دمك لألبستك قميصا لا تشد عليه زرّا «2» ؛ ثم أمر به إلى الحبس، فتولّى وهو يقول: الوفاء يا أمير المؤمنين كرم؛ والمودة رحم، وما على العفو ندم، وأنت بالعفو جدير، وبالمحاسن خليق. فأقام فى السجن إلى أن أخرجه الرشيد. أخذ معنى قول المهدى: «لألبسنك قميصا لا تشدّ عليه زرا» أبو تمام فقال: طوّقته بالحسام طوق ردّى ... أغناه عن مسّ طوقه بيده وقال ابن عمر فى معنى قول الطائى. طوّقته بحسام طوق داهية ... لا يستطيع عليه شدّ أزرار

[بين أحمد بن أبى دواد والواثق]

ولما قبض المهدى على يعقوب ورأى أبو الحسن النميرى ميل الناس عليه، وكان مختلطا به قال: يعقوب لا تبعد وجنّبت الردى ... فلأبكينّ كما بكى الغصن النّدى «1» لو أنّ خيرك كان شرّا كله ... عند الذين عدوا عليك لما عدا أخذ هذا المعنى بعض المحدثين [فى الغزل] فقال: لو أن هجرك كان وصلا كله ... مما أقاسى منك كان قليلا [بين أحمد بن أبى دواد والواثق] قال أبو العيناء: قال لى أحمد بن أبى دواد: دخلت على الواثق فقال لى: ما زال اليوم قوم فى ثلبك ونقصك! فقال: يا أمير المؤمنين، لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم، والذى تولّى كبره منهم له عذاب عظيم، والله ولىّ جزائه؛ وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذلّ- يا أمير المؤمنين- من كنت ناصره، وما ضاق من كنت جارا له، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت يا أبا عبد الله: وسعى إلىّ بصرم عزّة معشر ... جعل الإله خدودهنّ نعالها «2» قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أظرف من ابن أبى دواد؛ كنت يوما ألاعب المتوكل بالنّرد، فاستؤذن له عليه، فلما قرب منا هممت برفعها، فمنعنى المتوكل وقال: أجاهر الله وأستره من عباده؟ فقال له المتوكل: لما دخلت أراد الفتح أن يرفع النّرد! قال: خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم عليه! فاستحليناه، وقد كنا تجهّمناه.

[من خطباء العرب شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان]

[من خطباء العرب شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان] قيل لبعض الأمراء: إن شبيب بن شيبة «1» يتعمّل الكلام ويستدعيه، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح؛ فأمر رسولا فأخذ بيده فصعد به المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنّ لأمير المؤمنين أشبّاها أربعة: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر، فأما الأسد الخادر فأشبه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه حسنه وبهاءه، ثم نزل. وهذا الكلام ينسب إلى ابن عباس يقوله فى على بن أبى طالب رضى الله عنهما. وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وأخطبهم، ويشبّه بخالد بن صفوان؛ غير أن خالدا كان أعلى منه قدرا فى الخاصة والعامة. وذكر خالد شبيبا فقال: ليس له صديق فى السرّ ولا عدوّ فى العلانية. وكانت بينهما معارضة «2» للنسب والجوار والصناعة، ولما قال الشاعر: فنحّ شبيبا عن قراع كتيبة ... وأدن شبيبا من كلام ملفّق وكان لا ينظر إليه أحد وهو يخطب إلا تبين فيه الخجل. وقال أبو تمام لعلى بن الجهم: لو كنت يوما بالنجوم مصدّقا ... لزعمت أنّك نلت شكل عطارد أو قدّمتك السّنّ خلت بأنّه ... من لفظك اشتقّت بلاغة خالد وقالت له امرأة: إنك لجميل يا أبا صفوان. قال: كيف تقولين هذا وما فىّ عمود الجمال ولا رداؤه، ولا برنسه. عموده الطول، ولست بطويل، ورداؤه

البياض، ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشّعر، وأنا أشمط! ولكن قولى: إنك لمليح. وكان خالد حافظا لأخبار الإسلام، وأيام الفتن، وأحاديث الخلفاء، ونوادر الرواة، وكل ما تصرف فيه أهل الأدب، وله يقول مكى بن سوادة: عليم بتنزيل الكتاب ملقّن ... ذكور لما سدّاه أول أولا يبذّ قريع القوم فى كل محفل ... ولو كان سحبان الخطيب ودغفلا ترى خطباء الناس يوم أرتجاله ... كأنهم الكروان صادف أجدلا «1» أما سحبان الذى ذكره فهو خطيب العرب بأسرها غير منازع ولا مدافع، وكان إذا خطب لم يعد حرفا، ولم يتوقّف، ولم يتحبّس، ولم يفكر فى استنباط، وكان يسيل غربا، كأنه آذىّ بحر «2» . ويقال: إنّ معاوية قدم عليه وفد من خراسان وجّههم سعيد بن عثمان، وطلب سحبان فلم يوجد عامّة النهار، ثم اقتضب من ناحية كان فيها اقتضابا، فدخل عليه فقال: تكلّم، فقال: انظروا لى عصا تقيم من أودى، فقال له معاوية: ما تصنع بها؟ فقال: ما كان يصنع موسى عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب ربّه وعصاه بيده، فجاءوه بعصا فلم يرضها. فقال: جيئونى بعصاى، فأخذها، ثم قام فتكلم منذ صلاة الظهر إلى [أن فاتت] صلاة العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقّف، ولا تحبّس، ولا ابتدأ فى معنى فخرج منه إلى غيره حتى أتمّه ولم يبق منه شىء، ولا سأل عن أى جنس من الكلام يخطب فيه، فما زالت تلك حاله وكلّ عين فى السماطين؟؟؟ إلى أن أشار له معاوية بيده أن اسكت، فأشار سحبان بيده أن دعنى لا تقطع علىّ كلامى، فقال له معاوية: [الصلاة، فقال: هى أمامك ونحن فى صلاة يتبعها تحميد وتمجيد، وعظة وتنبيه

[عجلان بن سحبان]

وتذكير ووعد ووعيد، فقال معاوية:] إنك أخطب العرب، فقال سحبان: والعجم، والجنّ، والإنس. [عجلان بن سحبان] وكان ابنه عجلان حلو اللسان، جيّد الكلام، مليح الإشارة، يجمع مع خطابته شعرا جيدا، ويضرب الأمثال إذا خطب، وينتزع النادر من الشعر، والسائر من المثل، فتحلو خطبته، وكان يزن كلامه وزنا. [دغفل بن حنظلة النسابة] وأما دغفل الذى ذكره مكى بن سوادة فهو دغفل بن حنظلة بن يزيد أحد بنى ذهل بن ثعلبة النسّابة، وكان أعلم الناس بأنساب العرب، والآباء والأمهات، وأحفظهم لمثالبها، وأشدّهم تنقيرا وبحثا عن معايب العرب، ومثالب النسب. قال له معاوية يوما: والله لئن قلت فى هذا البيت «1» من قريش ما تجد فى آل حرب مقالا؛ فتبسّم دغفل؛ فقال له معاوية: والله لتخبرنّى بتبسمك، وما انضمّت عليه جوانحك، أو لأضربنّ عنقك، وما آمن أن تكذب أو تزيد. فقال: يا أمير المؤمنين، أنتم من بنى عبد مناف كسنام كوماء فتيّة «2» ، ذات مرعى خصيب، وماء عذب، وأكمة بارزة، فهل يوجد فى سنام هذه مدبّ قراد من عاهة؟ فقال له معاوية: أولى لك! لو قلت غير هذا؛ أما على ذلك لو رأيت هندا وأباها، وزوجها، وأخاها، وعمّها، وخالها، لرأيت رجالا تحار أبصار من رآهم فيهم، فلا تجاوزهم إلى غيرهم، جلالة وبهاء. [وصف العصا لأعرابى بين يدى الحجاج] وعلى ذكر العصا لقى الحجّاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت؟ قال: من

[عزة الخليل بن أحمد]

البادية. قال: ما بيدك؟ قال: عصا أركزها لصلاتى، وأعدّها لعداتى، وأسوق بها دابّتى، وأقوى بها على سفرى، وأعتمد بها فى مشيتى، ليتّسع بها خطوى، وأعبر بها «1» النهر فتؤمننى؛ وألقى عليها كسائى فتسترنى من الحرّ، وتقينى من القرّ، وتدنى ما بعد منى، وهى محمل سفرتى، وعلاقة إداوتى، ومشجب ثيابى، أعتمد بها عند الضّراب، وأقرع بها الأبواب، وأتّقى بها عقور الكلاب، تنوب عن الرّمح فى الطّعان، وعن الحرز «2» عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبى، وأورثها بعدى ابنى، وأهشّ بها على غنمى، ولى فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. [عزّة الخليل بن أحمد] قال النضر بن شميل: كتب سليمان بن على إلى الخليل بن أحمد يستدعيه الخروج إليه، وبعث إليه بمال كثير، فردّه وكتب إليه: أبلغ سليمان أنى عنه فى سعة ... وفى غنّى غير أنى لست ذا مال يسخو بنفسى أنى لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال والفقر فى النفس لا فى المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى فى النفس لا المال والمال يغشى أناسا لا خلاق لهم ... كالسّيل يغشى أصول الدّندن البالى «3» كلّ امرىء بسبيل الموت مرتهن ... فاعمل لنفسك، إنى شاغل بالى أخذ هذا الطائى فقال: لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالى وقال أيضا يصف قوما خضوا بابن أبى دواد: نزلوا مركز النّدى وذراه ... وعدتنا من دون ذاك العوادى

[من رسائل الصابى]

غير أن الرّبا إلى سبل الأن ... واء أدنى، والحظّ حظ الوهاد «1» وهذا الشعر من أصلح شعر الخليل، وكان شعره قليلا ضعيفا، بالإضافة إليه وهو أستاذ النحو والغريب، وقد اخترع علم العروض من غير مثال تقدمه، وعنه أخذ سيبويه، وسعيد بن مسعدة، وأئمة البصريين، وكان أوسع الناس فطنة، وألطفهم ذهنا. قال الطائى: فلو نشر الخليل إذا لعفّت ... رزاياه على فطن الخليل [من رسائل الصابى] وكتب أبو إسحاق الصابى إلى محمد بن عباس يعزيه عن طفل: الدنيا، أطال الله بقاء الرئيس، أقدار ترد فى أوقاتها، وقضايا تجرى إلى غاياتها، ولا يردّ منها شىء عن مداه، ولا يصدّ عن مطلبه ومنحاه؛ فهى كالسهام التى تثبت فى الأغراض، ولا ترجع بالاعتراض؛ ومن عرف ذلك معرفة الرئيس لم يغضّ من الزيادة، ولم يقنط من النقيصة «2» ، وأمن أن يستخفّ أحد الطرفين حلمه، ويستنزل أحد الأمرين حزمه، لم يدع أن يوطّن نفسه على النازلة قبل نزولها، ويأخذ الأهبة للحادثة قبل حلولها، وأن يجاور الخير بالشكر، ويساور المحنة بالصبر؛ فيتخيّر فائدة الأولى عاجلا، ويستمرىء عائدة الأخرى آجلا. وقد نفذ من قضاء الله تعالى فى المولى الجليل قدرا، الحديث سنّا، ما أرمض، وأومض، وأقلق وأقضّ؛ ومسنى من التألم له ما يحقّ على مثلى ممن توافت أيادى الرئيس إليه، ووجبت مشاركته فى الملمّ عليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسبه غصنا ذوى، وشهابا خبا، وفرعا دلّ على أصله، وخطّيا أنبته

وشيجه؛ وإياه أسأل أن يجعله للرئيس فرطا صالحا، وذخرا عتيدا، وأن ينفعه يوم الدين، حيث لا ينفع إلا مثله بين البنين، بجوده ومجده. ولئن كان المصاب عظيما، والحادث فيه جسيما، لقد أحسن الله إليه، وإلى الرئيس فيه؛ أمّا إليه فإن الله نزّهه بالاخترام «1» ، عن اقتراف الآثام، وصانه بالاحتضار، عن ملابسة الأوزار، فورد دنياه رشيدا، وصدر عنها سعيدا، نقى الصحيفة من سواد الذنوب، برىّ الساحة من درن العيوب، لم تدنّسه الجرائر، ولم تعلق به الصغائر والكبائر، قد رفع الله عنه دقيق الحساب، وأسهم له الثواب مع أهل الصواب، وألحقه بالصدّيقين الفاضلين فى المعاد، وبوّأه حيث أفضلهم من غير سعى ولا اجتهاد. وأما الرئيس فإن الله عز وجل لما اختار ذلك له قبضه قبل رؤيته إياه على الحالة «2» التى تكون معها الرقة، ومعاينته التى تتضاعف معها لحرقة، وحماه من فتنه المرافقة، ليرفعه عن جزع المفارقة، [وكان هو المبقّى] فى دنياه، وهو الواحد الماضى الذخيرة لأخراه، وقد قيل: إن تسلم الجلّة فالسّخل هدر «3» ؛ وعزيز علىّ أن أقول قول المهوّن للأمر من بعده، وألّا أوفى التوجّع عليه واجب فقده، فهو له سلالة، ومنه بضعة، ولكن ذلك طريق التسلية، وسبيل التعزية، والمنهج المسلوك فى مخاطبة مثله، ممن يقبل منفعة الذكرى وإن أغناه الاستبصار، ولا يأبى ورود الموعظة وإن كفاه الاعتبار، والله تعالى يقى الرئيس المصائب، ويعيذه من النوائب، ويرعاه بعينه التى لا تنام، ويجعله فى حماه الذى لا يرام، ويبقيه موفورا غير منتقص، ويقدّمنا إلى السوء أمامه، وإلى المحذور قدّامه، ويبدأ بى من بينهم فى هذه الدعوة، إذ كنت أراها من أسعد أحوالى، وأعدّها من أبلغ أمانىّ وآمالى.

[من رسائل البديع]

وكتب إلى بعض الرؤساه: قد جرت العادة- أطال الله بقاء الأمير! - بالتمهيد للحاجة قبل موردها، وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها، وسالك هذه السبيل يسىء الظن بالمسئول، فهو لا يلتمس فضله إلّا جزاء، ولا يستدعى طوله إلّا قضاء؛ والأمير بكرمه الغريب، ومذهبه البديع، يؤثر أن يكون السلف له، والابتداء منه، ويوجب للمهاجم برغبته عليه حقّ الثقة به منه، والحمد لله الذى أفرده بالطرائق الشريفة، وتوحّده «1» بالخلائق المنيفة، وجعله عين زمانه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة «2» . [من رسائل البديع] وكتب البديع فى بابه إلى بعض أصحابه: لك أعزّك الله عادة فضل، فى كل فضل، ولنا شبه مقت، فى كل وقت؛ ولعمرى إن ذا الحاجة مقيت الطّلعة، ثقيل الوطأة، ولكن ليسوا سواء [؛ أولو «3» حاجة تحتاج إليهم الأموال، وأولو حاجة تحوجهم الآمال. والأمير أبو تمام عبد السلام بن الفضل «4» المطيع لله أمير المؤمنين- أيده الله- إن أحوجه الزمان فطالما خدمه، وإن أهانه فكثيرا ما أكرمه ونعّمه. وقديما أقلّه السرير، وعرفه الخورنق والسدير. وإن نقصه المال فالعرض وافر، وإن جفاه الملك فالفضل ظاهر، وإن ابتلاه الله فليبتليكم به فينظر كيف تفعلون. وأنت تقابل مورده عليك من الإعظام، بما يستحقّ من الإكرام، فلا تنظرن إلى ثوب بال، فتحته شرف عال، ولا تقس على البرد، ما وراءه من المجد، ولكن إن نظرت ففى شامخ أصله، وراسخ عقله، وشهادة الفراسة له. ثم ليأت بعد هذه الآيات ما هو قضية المروءة معه، والأخوة معى، بالغا فى ذلك غاية جهده، والسّيف لا يرى فى غمده، والحمد لله حق حمده.

وله إلى أبى إسحاق إبراهيم بن أحمد بن حمزة: لو كانت الدنيا أطال الله بقاء الشيخ! - على مرادى تجرى، لاخترت أن أضرب بهذه الحضرة أطناب عمرى، وأنفق على هذه الخدمة أيام دهرى، ولكن فى أولاد الزنا كثرة. ولعين الزمان نظرة، وقد كنت حظيت من خدمة الشيخ المحسن بشرعة أنس نغّصها بعض الوشاة علىّ، وذكر أنى أقمت بطوس بعد استئذانى إلى مرو، وفى هذا ما يعلمه الشيخ، فإن رأى أن يحسن جبرى بكتاب يطرز به مقدمى فعل إن شاء الله تعالى. وله فى هذا الباب إلى أبى نصر الميكالى: الشيخ- أعزه الله- ملك من قلبى مكانا فارغا «1» ، فنزله غير منزل قلعة، ومن مودتى ثوبا سابغا، فلبسه غير لبسه خلعة، ومن نصب تلك الشمائل شبكا، وأرسل تلك الأخلاق شركا، قنص الأحرار فاستحثّهم، وصاد الإخوان واسترقهم. وتالله ما يغبن إلا من اشترى عبدا وهو يجد حرّا بأرخص من العبد ثمنا، وأقلّ فى البيع غبنا، ثم لا يهتبل «2» غرّة وجوده، وينتهز فرصة امتلاكه بجوده، وأنا أنم للشيخ على مكرمة يتيمة، ونعمة وسيمة. فليعتزل من الرأى ما كان بهيما، وليطلق من النشاط ما كان عقيما، وليحلل حبوة التقصير، وليتجنب جانب التأخير، وليفتضّ عذرتها، وينقض حجّتها وعمرتها، برأى يجذب المجد باعه، ويعمر النشاط رباعه؛ وتلك حاجة سيدى أبى فلان وقد ورد من الشيخ بحرا، وعقد به جسرا، وما عسر وعد هو مستنجزه، ولا بعد أمر هو منتهزه، ولا ضاعت نعمة أنا بريد شكرها، وعزيم نشرها، وولىّ أمرها؛ وهذا الفاضل قرارة مائها، وعماد بنائها؛ وقد شاهدت من ظرفه، ما أعجز عن وصفه، وعرفت من باطنه ما لم يدر بظاهره، ورأيت من أوله ما نمّ على آخره، ثم له البيت المرموق، والنسب الموموق، والأولية

القديمة، والشيمة الكريمة؛ وقد جمعتنا فى الود حلقة، ونظمتنا فى السفر رفقة، وعرفنى بما أنهض له وفيه، فضمنت له عن الشيخ كرما لا يغلق بابه، وغدقا «1» لا يخلف سحابه؛ فليخرجنى الشيخ من عهدة هذه الثقة، زادها إليه تأكدا، وإن رأى أن أسأل الشيخ فى معناه عرفنى كيف المأتى له، وإنما أطلت ليعلم صدق اهتمامى، وفرط تقليدى للمنّة والتزامى. وله جواب عن صنيعة بصاحب هذه العناية: ورد فلان سيدى وهو عين بلدتنا وإنسانها، ومقلتها ولسانها؛ فأظهر آيات فضله، لا جرم أنه وصل إلى الصميم، من الإيجاب الكريم، وهو الآن مقيم بين روح وريحان وجنة نعيم، تحيّته فيها سلام، وآخر دعواه ذكرك وحسن الثناء عليك بما أنت أهله، وأنا أصدق دعواه، وأفتخر به افتخار الخصىّ بمتاع مولاه، وقد عرفته ولسنه، وكيف يجرّ «2» فى البلاغة رسنه، فما ظنك به؟ وقد ملكتها المجالس ولحظتها العيون، وسلّ صارما من فيه، يعيد شكرك ويبديه، وينشر ذكرك ويطويه؛ والجماعة تمدح لمدحه، وتجرح بجرحه، فرأيك فى تحفظ أخلاقك التى أثمرت هذا الشكر، وأنتجت هذه المآثر الغر، موفقا إن شاء الله تعالى. ومن إنشائه فى مقامات الاسكندرى، قال: حدثنا عيسى بن هشام، قال: لما نطّقنى الغنى بفاضل ذيله، اتّهمت بمال سلبته، أو كنز أصبته، فخفرنى الليل، وسرت بى الخيل. وسلكت فى هربى مسالك لم يرضها السير، ولا اهتدت إليها الطير، حتى طويت أرض الرّعب وتجاوزت حدّه، وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده، وبلغت أذربيجان وقد حفيت الرواحل، وأكلّتها المراحل، ولما بلغتها:

نزلنا على أن المقام ثلاثة ... فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا فبينا أنا يوما فى بعض أسواقها إذ طلع رجل بركوة قد اعتضدها «1» ، وعصا قد اعتمدها، ودنيّة قد تقلّسها، وفوطة قد تطيلسها؛ فرفع عقيرته وقال: اللهم يا مبدئ الأشياء ومعيدها، ومحيى العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا، وبارئ النّسم أزواجا، وجاعل الشمس سراجا، والسماء سقفا، والأرض فراشا، وجاعل الليل سكنا والنهار معاشا، ومنشىء السحاب ثقالا، ومرسل الصواعق نكالا، وعالم ما فوق النجوم، وما تحت التخوم. أسألك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، وأن تعيننى على الغربة أثنى حبلها، وعلى العسرة أعدو ظلّها، وأن تسهّل لى على يدى من فطرته الفطرة، وأطلعته الطّهرة، وسعد بالدّين المتين، ولم يعم عن الحق المبين، راحلة تطوى هذا الطريق، وزادا يسعنى والرفيق. قال عيسى بن هشام: فناجيت نفسى بأن هذا الرجل أفصح من إسكندرّينا أبى الفتح، والتفتّ لفتة، فإذا هو أبو الفتح. فقلت: يا أبا الفتح، بلغ هذه الأرض كيدك، وانتهى إلى هذا الشّعب صيدك؟! فأنشأ يقول: أنا جوّالة البلا ... د وجوّابة الأفق أنا خذروفة الزما ... ن وعمّارة الطّرق لا تلمنى لك الرشا ... د على كديتى وذق وقال الطرماح بن حكيم: وما أنس م الأشياء لا أنس بيعة ... من الدهر إذ أهل الصفاء جميع

[أيام الشباب وأيام المشيب]

وإذ دهر نافيه اعتزاز، وطيرنا ... سواكن فى أوكارهنّ وقوع فهل لليالينا بنعف مليحة ... وأيامهنّ الصالحات رجوع؟ كأن لم يرعك الظاعنون إلى بلّى ... ومثل فراق الظاعنين يروع] «1» [أيام الشباب وأيام المشيب] وقال على بن محمد [بن الحسن] العلوى: واها لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارف وذهابهن بما عرفن ... من المناكر والمعارف أيام ذكرك فى دوا ... وين الصّبا صدر الصحائف واها لأيّامى وأيّا ... م الشهيات المراشف الغارسات البان قضبا ... نا على كثب الرّوادف والجاعلات البدر ما ... بين الحواجب والسوالف أيام يظهرن الخلا ... ف بغير نيّات المخالف وقف النعيم على الصّبا ... وزللت من تلك المواقف وقال ابن المعتز: دعتنى إلى عهد الصبّا ربّة الخدر ... وألقت قناع الخزّ عن واضج الثّغر وقالت وماء العين يخلط كحلها ... بصفرة ماء الزعفران على النّحر لمن تطلب الدنيا إذا كنت قابضا ... عنانك عن ذات الوشاحين والشذر أراك جعلت الشيب للهجر علّة ... كأن هلال الشهر ليس من الشهر وقال [أحمد بن أبى طاهر] :

يا من كلفت بحبّه ... كلفى بكاسأت العقار وحياة ما فى وجنتي ... ك من الشقائق والبهار وولوع ردفك بالترجرج ... تحت خصرك فى الإزار ما إن رأيت لحسن وجهك ... فى البريّة من نجار لما رأيت الشيب من ... وجهى بما يحكى الخمار [قالت غبار قد علا ... ك فقلت ذا غير الغبار هذا الذى نقل الملو ... ك إلى القبور من الديار] قالت ذهبت بحجّتى ... عنى بحسن الاعتذار يا هذه أرأيت ليلا مذ خلقت بلا نهار وقال خالد الكاتب: نظرت إلىّ بعين من لم يعدل ... لما تمكّن طرفها من مقتلى لما رأت شيبا ألمّ بمفرقى ... صدّت صدود مفارق متحمّل وظللت أطلب وصلها بتملّق ... والشيب يغمزها بألّا تفعلى وقال ابن الرومى: كفى حزنا أن الشباب معجّل ... قصير الليالى والمشيب مخلّد وعزّاك عن ليل الشباب معاشر ... فقالوا: نهار الشيب أهدى وأرشد فقلت: نهار المرء أهدى لسعيه ... ولكنّ ظلّ الليل أندى وأبرد محار الفتى شيخوخة أو منيّة ... ومرجوع وهّاج المصابيح رمدد «1» وقال: كان الشباب وقلبى فيه منغمس ... فى لذة لست أدرى ما دواعيها

روح على النفس منه كاد يبردها ... برد النسيم ولا ينفك يحييها كأن نفسى كانت منه سارحة ... فى جنّة بات ساقى المزن يسقيها يمضى الشباب ويبقى من لبانته ... شجو على النفس لا ينفكّ يشجيها «1» ما كان أعظم عندى قدر نعمته ... لنفسه لا لحلم كان يصبيها ما كان يوزن إعجاب النساء به ... والنفس أوجب إعجابا بما فيها وقال: إذا ما رأتك البيض صدّت، وربما ... غدوت وطرف البيض نحوك أصور «2» وما ظلمتك الغانيات بصدّها ... وإن كان فى أحكامها ما يجوّر «3» أعر طرفك المرآة وانظر؛ فإن نبا ... بعينيك عنك الشيب فالبيض أعذر إذا شنئت عين الفتى شيب نفسه ... فعين سواء بالشناءة أجدر «4» وقال كشاجم: وقفتنى ما بين حزن وبوس ... وثنت بعد ضحكة بعبوس إذ رأتنى مشطت عاجا بعاج ... وهى الآبنوس بالآبنوس وقال أبو نواس: بكرت تبصّرنى الرّشاد كأننى ... لا أهتدى لمذاهب الأبرار وتقول: ويحك قد كبرت عن الصّبا ... ورمى الزمان إليك بالأعذار فإلى متى تصبو وأنت متيّم ... متقلّب فى راحة الإقتار فأجبتها إنى عرفت مذاهبى ... فصرفت معرفتى إلى الإنكار

وقال أحمد بن زياد الكاتب: ولما رأيت الشيب حلّ بياضه ... بمفرق رأسى قلت: أهلا ومرحبا ولو خلت أنى إن تركت تحيتى ... تنكّب عنى رمت أن يتنكبا ولكن إذا ما حلّ كرة فسامحت ... به النفس يوما كان للكره أذهبا كأن هذا البيت ينظر إلى قول الأول: وجاشت إلىّ النفس أول مرة ... فردّت إلى معروفها فاستقرّت أبو الطيب: أنكرت طارقة الحوادث مرة ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا ابن الرومى: لاح شيبى فصرت أمرح فيه ... مرح الطّرف فى العذار المحلّى وتولّى الشباب فازددت غيّا ... فى ميادين باطلى إذ تولّى إنّ من ساءه الزمان بشىء ... لأحقّ الورى بأن يتسلّى [المتنبى: أترانى أسوء نفسى لمّا ... ساءنى الدهر؟ لا، لعمرى، كلّا] المتنبى: تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فيطمع [البحترى «1» ] : يكفيك من حق تخيل باطل ... تردى به نفس اللهيف فترجع

وقلما تصحّ مغالطات أهل العقول، عند أهل التحصيل، وما أحسن ما قال الطائى: لعب الشيب بالمفارق، بل جدّ ... فأبكى تماضرا ولعوبا «1» يا نسيب الثّغام ذنبك أبقى ... حسناتى عند الحسان ذنوبا «2» لو رأى الله أنّ فى الشيب فضلا ... جاورته الأبرار فى الخلد شيبا وقد جاء فى التشاغل عن الدهر وأحداثه، ونكباته، ومصائبه، وفجعاته، والتسلى عن الهموم، بماء الكروم، شعر كثير؛ فمما يتعلّق منه بذكر الشيب قول ابن الرومى: سأعرض عمّن أعرض الدهر دونه ... وأشربها صرفا وإن لام لوّم فإنى رأيت الكأس أكرم خلّة ... وفت لى ورأسى بالمشيب معمّم وصلت فلم تبخل علىّ بوصلها ... وقد بخلت بالوصل عنى تكتم «3» ومن صارم اللذات إن خان بعضها ... ليرغم دهرا ساءه فهو أرغم أمن بعد مثوى المرء فى بطن أمه ... إلى ضيق مثواه من القبر يسلم ولم يبق بين الضيق والضيق فرجة ... أبى الله! إنّ الله بالعبد أرحم! وقال العطوى: أعجبتنّ إن أناخ بى الدهر ... فحاكمته إلى الأقداح لا تردّ الهموم ينشبن أظفا ... را حدادا بشرب ماء قراح أحمد الله، صارت الكأس تأسو ... دون إخوانى الثقات جراحى وقال ابن الرومى [ونحله بشارا] : وقد كنت ذا حال أطيل ادّكارها ... وإرعاءها قلبى لأهتز معجبا «4»

شذور لأهل العصر، فى وصف الشيب ومدحه وذمه

فبدّلت حالا غير هاتيك، غايتى ... تنأسىّ ذكراها لتغرب مغربا وكنت أدير الكأس ملأى رويّة ... لأجذل مسرورا بها ولأطربا وكانت مزيدا فى سرورى ومتعتى ... فأضحت مفرّا من همومى ومهربا «1» وهذا كما قال فى قينة وإن لم يكن من هذا الباب: شاهدت فى بعض ما شاهدت مسمعة ... كأنّما يومها يومان فى يوم ظللت أشرب بالأرطال، لا طربا ... بذاك، بل طلبا للسّكر والنوم ومن مليح شعره فى الشيب: ومن نكد الدنيا إذا ما تنكرت ... أمور- وإن عدّت صغارا- عظائم إذا رمت بالمنقاش نتف أشاهبى ... أتيح له من بينهن الأداهم يروّع منقاشى نجوم مسائحى ... وهنّ لعينى طالعات نواجم «2» وقال أبو الفتح كشاجم: أخى قم فعاونّى على نتف شيبة ... فإنى منها فى عذاب وفى حرب إذا ما مضى المنقاش يأتى بها أتت ... وقد أخذت من دونها جارة الجنب كجان على السلطان يجزى بذنبه ... تعلّق بالجيران من شدّة الرعب وقد وشّحت هذا الكتاب بقطع مختارة فى الشيب والشباب، وجئت ههنا بجملة، وهذا النوع أعظم من أن نحيط به اختيارا، أو نبلغه اختبارا. شذور لأهل العصر، فى وصف الشيب ومدحه وذمه ذوى غصن شبابه. بدت فى رأسه طلائع المشيب، [أخذ الشيب بعنان شبابه] ، غزاه الشّيب بجيوشه، طرّز الشيب شبابه، أقمر ليل شبابه، ألجمه

بلجامه، وقاده بزمامه، علاه غبار وقائع الدهر. وزن هذا لابن المعتز هذا غبار وقائع الدهر بينا هو راقد فى ليل الشباب، أيقظه صبح المشيب. طوى مراحل الشباب، وأنفق عمره بغير حساب. جاوز من الشباب مراحل، وورد من الشّيب مناهل. فلّ الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. قضى باكورة الشباب، وأنفق نضارة الزمان. أخلق بردة الصّبا، ونهاه النهى عن الهوى. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغراب العقعق «1» . انتهى إلى أشدّ الكهل، واستعاض من حلك الغراب بقادمة النّسر. افترّ عن ناب القارح، وقرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدّهر، وأدرك عصر الحنكة وأوان المسكة. جمع قوّة الشباب إلى وقار المشيب. أسفر صبح المشيب، وعلته أبهة الكبر. خرج عن حدّ الحداثة، وارتفع عن غرّة الغرارة. نفض حبرة الصبا، وولّى داعية الحجا. لما قام له الشيب مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح. الشيب حلية العقل وشيمة الوقار. الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضّة سبكتها التجارب. سرى فى طريق الرّشد بمصباح الشّيب. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشّيب. الشيخ يقول عن عيان، والشاب عن سماع. فى الشيب استحكام الوقار وتناهى الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة الشيب مقدّمة الموت والهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد للموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. والموت ساحل، والشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر، صفاء التّبر على شغب الجمر «2» . لقد تناهت به الأيام تهذيبا وتحليما، وتناهت به السّنّ تجريبا وتحنيكا. قد وعظه الشّيب

فقر لغير واحد فى المشيب

بوخطه، وخبطه السن بابنه وسبطه، قد تضاعفت عقود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مسّ الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، وأساء إليه أثر السنّ، واعتراض الوهن. هو من ذوى الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية. هو همّ هرم، فد أخذ الزمان من عقله. كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء «1» ، وتركه كذى الغارب المنكوب، والسّنام المجبوب. رماه من قوسه «2» الكبر. أريق ماء شبابه، واستشنّ أديمه كسر الزمان جناحه، ونقض مرّته. طوى الدهر منه ما نشر، وقيّده الكبر، يرسف رسفان المقيّد، هو شيخ مجتثّ «3» الجثّة، واهى المنّة، مغلول القوة ومفلول الفتوة «4» ، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنيّة. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدّته قد تناهت. هل بعد الغاية منزلة، أو بعد الشيب سوى الموت مرحلة؟ ما الذى يرجى ممن كان مثله فى تعاجز الخطا، وتخاذل القوى، وتدانى المدى، والتوجّه إلى الدار الأخرى، أبعد دقّة العظم، ورقّة الجلد، وضعف الحسّ، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال. والذى بقى منه ذماء «5» يرقبه المنون بمرصد، وحشاشة هى هامة اليوم أوغد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنيّة الوداع، وأشرف على دار المقام، فلم يبق إلا أنفاس معدودة، وحركات محصورة. نضب غدير شبابه. فقر لغير واحد فى المشيب قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية. أكثم بن صيفى: المشيب عنوان الموت. الحجاج بن يوسف: الشيب نذير الآخرة. غيره: الشيب نوم الموت.

العتبى: الشيب مجمع الأمراض. العتابى: الشيب نذير المنيّة. محمود الوراق: الشيب أحد الميتتين. ابن المعتز: الشيب أول مواعد الفناء. وقال: عظّم الكبير فإنه عرف الله قبلك، وارحم الصغير فإنه أغرّ بالدنيا منك. غيره: الشبب قناع الموت. الشيب غمام قطره الغموم. الشيب قذى عين الشباب. نظر سليمان بن وهب فى المرآة فرأى الشيب، فقال: عيب لا عدمناه! وقيل لأبى العيناء: كيف أصبحت؟ فقال: فى داء يتمناه الناس! ابن المعتز: أنكرت شرّ مشيبى وولّت ... بدموع فى الرداء سجوم اعذرى يا شرّ شيبى بهمّ ... إنّ شيب الرأس نور الهموم مسلم بن الوليد: الشّيب كره، وكره أن أفارقه ... أعجب لشىء على البغضاء مودود يمضى الشباب فيأتى بعده بدل ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود وقال آخر: لو أنّ عمر الفتى حساب ... كان له شيبه فذالك «1» وقال بعضهم: ولى صاحب ما كنت أهوى اقترابه ... فلمّا التقينا كان أكرم صاحب عزيز علينا أن يفارق بعد ما ... تمنّيت دهرا أن يكون مجانبى يعنى الشيب، يقول: لم أكن أشتهى اقترابه، فلمّا حل كان أكرم صاحب، عزيز علىّ مجانبته؛ لأنه لا يجانب إلّا بالموت.

[بعض ما قالوه فى الخضاب]

أبو إسحاق الصابى: والعمر مثل الكاس ير ... سب فى أواخرها القذى أبو الفضل الميكالى: أمتع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث فخير عمر الفتى ريعان جدّته ... والعمر من فضة والشيب من خبث [بعض ما قالوه فى الخضاب] فى ذكر الخضاب: الخضاب أحد الشبابين عبدان الأصبهانى: فى مشيبى شماتة لعداتى ... وهو ناع منغّص لى حياتى ويعيب الخضاب قوم، وفيه ... لى أنس إلى حضور وفاتى لا ومن يعلم السرائر إنى ... ما تطلبت خلّة الغانيات «1» إنما رمت أن يغيّب عنى ... ما ترينيه كلّ يوم مراتى وهو ناع إلىّ نفسى، ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعاة؟ ابن المعتز: رأت شيبة قد كنت أغفلت قصّها ... ولم تتعهّدها أكفّ الخواضب فقالت: أشيب ما أرى؟ قلت: شامة ... فقالت: لقد شانتك عند الحبائب الأمير أبو الفضل الميكالى: قد أبى لى خضاب شيبى فؤاد ... فيه وجد بكتم سرى ولوع «2» خاف أن يحدث الخضاب نصولا ... ونصول الخضاب شىء بديع وقالوا: الخضاب من شهود الزور، والخضاب حداد المشيب، [إن خضب الشعر] فكيف يخضب الكبر. الخضاب كفن الشيب.

ابن الرومى: ليس تغنى شهادة الشّعر الأسود ... شيئا إذا استشنّ الأديم أفيرجو مسوّد أن يزكّى ... شاهد الخضب؟ أين ضلّ الحليم؟! لا لعمرى ما للخضاب لدى الأبصار ... إلا التكذيب والتأثيم يدّعى للكبير شرخ شباب ... قد تولّى به الشباب القديم والسواد الدّعىّ أوجب تكذيبا ... إذا كذّب السواد الصميم وله أيضا فى هذا المعنى: كما لو أردنا أن نحيل شبابنا ... مشيبا ولم يأت المشيب تعذّرا كذلك يعنينا إحالة شيبنا ... شبابا إذا ثوب الشباب تحسّرا أبى الله تدبير ابن آدم نفسه ... وأنّى يكون العبد إلّا مدبّرا وقال: قل للمسوّد حين شيّب: هكذا ... غشّ الغوانى فى الهوى إيّاكا كذب الغوانى فى سواد عذاره ... فكذبنه فى ودهنّ كذاكا «1» هيهات غرّك أن يقال غرائر ... أىّ الدواهى غيرهنّ دهاكا لا تحسبن خدعتهنّ بحيلة ... بل أنت ويحك خادعتك مناكا؟ وقال أبو الطيب المتنبى: ومن هوى كلّ من ليست مموهة ... تركت لون مشيبى غير مخضوب ومن هوى الصدق فى قولى وعادته ... رغبت عن شعر فى الوجه مكذوب ليت الحوادث باعتنى الذى أخذت ... منى بحلمى الذى أعطت وتجريبى فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم فى الشبّان والشيب

[الوليد بن يزيد وقد غلبت عليه لذاته]

غيره: يا خاضب الشيب بالحنّاء يستره ... سل الإله له سترا من النار وقد سلك أبو القاسم مسلكا طريفا فى قوله: أفدى المغاضبة التى أتبعتها ... نفسا يشيّع عيسها إذ آبا «1» والله لولا أن يسفّهنى الصّبا ... ويقول بعض القائلين تصابى لكسرت دملجها لضيق عناقه ... ولثمت من فيها البرود رضابا «2» بنتم فلولا أن أغيّر لمتى ... عتبا وألقاكم علىّ غضابا «3» لخضبت شيبا فى عذارى كامنا ... ومحوت محو النّقس منه شبابا «4» وخلعته خلع النجاد مذمما ... واعتضت من جلبابه جلبابا ولبست مبيضّ الحداد عليكم ... لو أننى أجد البياض خضابا وإذا أردت إلى المشيب وفادة ... فاجعل إليه مطيّك الأحقابا فلتأخذنّ من الزمان حمامة ... ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا ماذا أقول لريب دهر خائن ... جمع العداة وفرّق الأحبابا [الوليد بن يزيد وقد غلبت عليه لذاته] وقيل للوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا غلبت عليه لذّاته. وملكته شهواته: يا أمير المؤمنين؛ إن الرعية ضاعت بتضييعك أمرها، وتركك ما يجب عليك من مصلحتها. فقال: ما الذى أغفلناه من واجب حقّها، وأسقطناه من مفروض ذمامها؟ أما كرمنا دائم، ومعروفنا شامل، وسلطاننا قائم؛ وإنما لنا ما نحن فيه، بسط لنا فى النعمة، ومكّن لنا فى المكرمة، وأذلت لنا الأمة «5» ، ومدّ لنا فى الحرمة، فإن تركت ما به وسع، وامتنعت عما به أنعم، كنت أنا

[بين الحجاج وأهل العراق]

المزيل لنعمتى بمالا ينال الرعية ضره، ولا يؤودهم ثقله «1» . يا حاجب لا تأذن لأحد فى الكلام. وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد، وكان خاصا به: يا أمير المؤمنين؛ أنطقتنى بالأنس، وأنا أسكت بالهيبة، وأراك تأمرنا بأشياء أنا أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كلّ مقبول منك، معلوم فيه ثقتك «2» ؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه! وتعود فتقول. فقتل الوليد بعد ذلك بشهر. [بين الحجاج وأهل العراق] وقال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنى استعملتك على العراق، فاخرج إليها كميش الإزار «3» ، شديد الغرار، قليل العثار، منطوى الخصيلة، قليل الثميلة «4» ، غرار النوم، طويل اليوم، واضغط الكوفة ضغطة تحبق منها البصرة. وشكا الحجاج يوما سوء طاعة أهل العراق، وسقم مذهبهم، وسخط طريقتهم، فقال له جامع المحاربى: أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لبلدك، ولا لذات يدك، إلا لما نقموه من أفعالك؛ فدع ما يبعدهم عنك إلى ما يدنيهم منك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك ثلاثا. فقال له الحجاج: والله ما أرى أن أردّ بنى اللّخناء إلى طاعتى إلا بالسيف. فقال جامع: أيها الأمير؛ إنّ السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج:

[جامع المحاربى]

الخيار يومئذ لله. قال جامع: أجل، ولكن لا ندرى لمن يجعله الله. فغضب الحجاج وقال: يا هناه؛ إنك من محارب، فقال جامع: وللحرب سمّينا وكنا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا فقال له الحجاج: والله لقد هممت أن أخلع لسانك، فأضرب به وجهك. فقال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن كذبناك أغضبنا الله. فقال الحجاج: أجل، وسكن سلطانه، وشغل ببعض الأمر، وخرج جامع وانسلّ من صفوف الناس، وانحاز إلى جبل العراق. [جامع المحاربى] وكان جامع لسنا مفوّها، وهو الذى يقول للحجاج حين بنى واسطا: بنيتها فى غير بلدك، وأورثتها غير ولدك. وكان الحجاج من الفصحاء البلغاء، ويقال: ما رئى حضرى أفصح من الحجاج ومن الحسن البصرى. وكان يحبّ أهل الجهارة والبلاغة، ويؤثرهم ويقربهم. [أيوب بن القرية] ولما دخل أيوب بن القرّية على الحجاج- وكان فيمن أسر من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندى- قال له: ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: ثلاثة حروف، كأنّها ركب وقوف: دنيا، وآخرة، ومعروف. فقال له الحجاج: بئسما منّيت به نفسك يابن القرّية، أترانى ممن تخدعه بكلامك وخطبك؟ والله لانت أقرب إلى الآخرة من موضع نعلى هذه. قال: أقلنى عثرتى، وأسغنى ريقى، فإنه لا بدّ للجواد من كبوة، والسيف من نبوة، والحليم من صبوة. قال: أنت إلى القبر أقرب منك إلى العفو، ألست القائل وأنت تحرّض حزب الشيطان، وعدوّ الرحمن: تغدّوا بالحجاج قبل أن يتعشّى بكم! وقد رويت هذه اللفظة للغضبان بن القبعثرى. ثم قدمه فضرب عنقه.

[كثير بن أبى كثير]

قال الخريمى لأبى دلف وأخذه من قول ابن القرّية: له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف [كثير بن أبى كثير] وبعث الحجاج إلى عامله بالبصرة: اخترلى عشرة من عندك، فاختار رجالا فيهم كثير بن أبى كثير، وكان عربيّا فصيحا، فقال كثير: ما أرانى أفلت من يد الحجاج إلّا باللّحن، فلما دخلنا عليه دعانى فقال: ما اسمك؛ فقلت: كثير. قال: ابن من؟ فقلت فى نفسى: إن قلت ابن أبى كثير لم آمن أن يتجاوزها، قلت: ابن أبا كثير، فقال: اعزب «1» لعنك الله ولعن من بعث معك!! [من قولهم فى المديح] وقال النابغة الذبيانى يمدح آل جفنة: ولله عينا من رأى أهل قبة ... أضرّ بمن عادى وأكثر نافعا «2» وأعظم أحلاما وأكثر سيّدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا متى تلقهم لا تلق للبيت عورة ... فلا الضيف ممنوعا ولا الجار ضائعا وأنشد محمد بن سلام الجمحىّ للنابغة الجعدى: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا [أشم طويل الساعدين شمردل ... إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا] ومن حرّ المدح وجيّد الشعر قول الحطيئة: تزور امرأ يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد يرى البخل لا يبقى على المرء ماله ... ويعلم أنّ المرء غير مخلّد

[الشراب وخطره]

كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد وسمع عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه هذا البيت فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذى سدّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا مطاعين فى الهيجا مكاشيف للدجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ وتعذلنى أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذى علمت سعد وقال منصور النمرى: ترى الخيل يوم الحرب يظمأن تحته ... ويروى القنا فى كفّه والمناصل حلال لأطراف الأسنة نحره ... حرام عليها منه متن وكاهل «1» وقال آخر: فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففى بأسه شطر وفى جوده شطر فلا من بغاة الخير فى عينه قذى ... ولا من زئير الحرب فى أذنه وقر [الشراب وخطره] وقال بعض الظرفاء: الشراب أول الخراب، ومفتاح كلّ باب، يمحق الأموال «2» ، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة «3» ، ويضع الشريف،

[من اعتلال الطفيليين، وحيلهم]

ويهين الظريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث الشّنار «1» . وقال يزيد بن محمد المهلبى: لعمرك ما يحصى على الكأس شرّها ... وإن كان فيها لذّة ورخاء مرارا تريك الغىّ رشدا، وتارة ... تخيّل أن المحسنين أساءوا وأن الصديق الماحض الودّ مبغض ... وأنّ مديح المادحين هجاء وجرّبت إخوان النبيذ فقلّما ... يدوم لإخوان النبيذ إخاء [من اعتلال الطفيليين، وحيلهم] عوتب طفيلى على التطفيل فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتؤكل، وإنى لأجمع فيها خلالا؛ أدخل مجالسا، وأقعد مؤانسا، وأنبسط وإن كان ربّ الدار عابسا؛ ولا أتكلّف مغرما، ولا انفق درهما، ولا أتعب خادما. وقال ابن الدراج «2» الطفيلى لأصحابه: لا يهولنّكم إغلاق الباب، ولا شدّة الحجاب، وسوء الجواب، وعبوس البواب، ولا تحذير الغراب، ولا منابذة الألقاب؛ فإنّ ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذلّ السؤال، واحتملوا اللّكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، فى جنب الظفر بالبغية، ولدرك للأمنية، والزموا الطّوزجة للمعاشرين «3» ، والخفّة للواردين والصادرين، والتملّق للملهين والمطربين، والبشاشة للخادمين والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين، وادّخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنكم أحقّ بالطعام ممن دعى إليه، وأولى به ممن وضع له، فكونوا لوقته حافظين، وفى طلبه مشمّرين، واذكروا قول أبى نواس:

لنخمس مال الله من كلّ فاجر ... وذى بطنة للطيّبات أكول «1» هذا يقوله أبو نواس فى أبيات تستندر كلّها، ويستظرف جلّها، وهى: وخيمة ناطور برأس منيفة ... تهمّ يدا من رامها بزليل «2» إذا عارضتها الشمس فاءت ظلالها ... وإن واجهتها آذنت بدخول حططنا بها الأثقال فلّ هجيرة ... عبوريّة تذكى بغير فتيل «3» تأنّت قليلا ثم فاءت بمذقة ... من الظلّ فى رثّ الإناء ضئيل «4» كأنّا لديها بين عطفى نعامة ... جفا زورها عن مبرك ومقيل حلبت لأصحابى بها درّة الصبّا ... بصفراء من ماء الكروم شمول إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل فلما توافى الليل جنحا من الدجى ... تصابيت واستجملت غير جميل وأعطيت من أهوى الحديث كما بدا ... وذلّلت صعبا كان غير ذلول فغنّى وقد وسّدت يسراى خدّه ... ألا ربما طالبت غير منيل فأنزلت حاجاتى بحقوى مساعدى ... وإن كان أدنى صاحب وخليل فأصبحت ألحى السكر والسكر محسن ... ألا ربّ إحسان عليك ثقيل كفى حزنا أنّ الجواد مقتّر ... عليه، ولا معروف عند بخيل سأبغى الغنى إما وزير خليفة ... يقوم سواء أو مخيف سبيل بكل فتى لا يستطار فؤاده ... إذا نوّه الزحفان باسم قتيل لنخمس مال الله من كل فاجر ... وذى بطنة للطيبات أكول ألم نر أنّ المال عون على التقى ... وليس جواد معدم كبخيل

ألفاظ لأهل العصر فى صفة الطفيليين والأكلة وغيرهم

ألفاظ لأهل العصر فى صفة الطفيليين والأكلة وغيرهم شيطان معدته رجيم، وسلطانها ظلوم. هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. لو أكل الفيل ما كفاه، ولو شرب النيل ما أرواه، يجوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يرى ركوب البريد، فى حضور الثّريد «1» . أصابعه ألزم للشّواء، من سفّود الشّوّاء، وأنامله كالشبكة، فى صيد السمكة. هو أجوع من ذئب معتس بين أعاريب. العيون قد تقلّبت، والأكباد قد تلهبت، والأفواه قد تحلبت. امتدت إلى الخوان الأعناق، [واحتدت نحوه الأحداق] ، وتحلّبت له الأشداق. [وصف طائر] سأل المهدى صباح بن خاقان عن طائر له جاء من آفاق الغابة فقال: يا أمير المؤمنين، لو لم بين بحسن الصفة لبان بحسن الصورة. قال: صفه لى. قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قدّ قدّ الجلم «2» ، وقوّم تقويم القلم، ينظر من جمرتين، ويلفظ بدرّتين، ويمشى على عقيقتين، تكفيه الحبّة، وترويه الغبّة «3» ، إن كان فى قفص فلقه، أو تحت ثوب خرقه، إذا أقبل فديناه، وإذا أدبر حميناه. [أحظى النساء عند المهدى] ودخل عبد الله بن مصعب الزبيرى على المهدى، فقال: ويحك يا زبيرى؛ دخلت على الخيزران، فلما قامت لتصلح من شأنها نظرت إلى حسنة! فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أدركك فى ذلك ما أدرك المخزومى حيث قال: بينما نحن بالبلاكث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا

[وصف غلام]

خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيّا قلت: لبيك إذ دعانى لك الشّو ... ق وللحاديين كرّا المطيّا فأمر فرفعت الستور عن حسنة. ثم قال لى: يا زبيرى، واسوأتاه من الخيزران! ثم انثنى راجعا إليها فقلت: يا أمير المؤمنين، أدركك فى هذا ما أدرك جميلا «1» حيث يقول: وأنت التى حبّبت شغبا إلى بدا ... إلىّ وأوطانى بلاد سواهما حللت بهذا حلّة ثم حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما فدخل على الخيزران، فما لبث أن خرج؛ قال الزبيرى: فدخلت، فقال: أنشدنى فأنشدته لصخر بن الجعد: هنيئا لكأس جذّها الحبل بعد ما ... عقدنا لكأس موثقا لا نخونها وإشماتها الأعداء لما تألّبوا ... حوالىّ واشتدّت علىّ ضغونها فإن تصبحى وكّلت عينىّ بالبكا ... وأشمتّ أعدائى فقرّت عيونها فإنّ حراما أن أخونك ما دعا ... بيليل قمرىّ الحمام وجونها «2» وما طرد الليل النهار، وما دعت ... على فنن ورقاء شاك رنينها «3» فأمر لى على كل بيت بألف دينار، وكانت الخيزران وحسنة أحظى النساء عند المهدى. [وصف غلام] ووصف اليوسفى علاما فقال: كان يعرف المراد باللّحظ، كما يعرفه باللّفظ، ويعاين فى الناظر، ما يجرى فى الخاطر «4» ، أقرب إلى داعيه، من يد معاطيه؛

[بين خالد بن صفوان وعلى بن الجهم]

حديد الذهن، ثاقب الفهم، خفيف الجسم، يغنيك عن الملامة، ولا يحوجك إلى لا استزادة. وقال أبو نواس: ومنتظر رجع الحديث بطرفه ... إذا ما انثنى من لينه فضح الغصنا إذا جعل اللحظ الخفىّ كلامه ... جعلت له عينى لتفهمه أذنا وقال: وإنى لطرف العين بالعين زاجر ... فقد كدت لا يخفى علىّ ضمير وقد طرق هذا المعنى وإن لم يكن منه [من قال] : بلوت أخلّاء هذا الزمان ... فأقللت بالهجر منهم نصيبى وكلّهم إن تصفّحته ... صديق العيان عدوّ المغيب تفقّد مساقط لحظ المريب ... فإن العيون وجوه القلوب وهو كقول المهدى: ومطّلع من نفسه ما يسرّه ... عليه من اللحظ الخفىّ دليل إذا القلب لم يبد الذى فى ضميره ... ففى اللّحظ والألفاظ منه رسول [بين خالد بن صفوان وعلى بن الجهم] ودخل خالد بن صفوان على علىّ بن الجهم بن أبى حذيفة فألفاه يريد الركوب فقرّب إليه حمار ليركبه، فقال خالد: أما علمت أن العير «1» عار، والحمار شنار، منكر الصوت، قبيح الفوت، متزلّج «2» فى الضّحل، مرتطم فى الوحل، ليس بركوبة فحل، ولا بمطية رحل، راكبه مقرف «3» ، ومسايره مشرف. فاستوحش ابن أبى حذيفة من ركوب الحمار ونزل عنه، وركب فرسا ودفع الحمار إلى خالد فركبه، فقال له: ويحك يا خالد! أتنهى عن شىء وتأتى مثله؟ فقال: أصلحك الله! عير من بنات الكربال «4» ، واضح السربال، مختلج

[كر الحدثان]

القوائم «1» ، يحمل الرّجلة، ويبلغ العقبة، ويمنعنى أن أكون جبارا عنيدا، إن لم أعترف بمكانى فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. [كرّ الحدثان] قال ابن دأب: خرجت مع بعض الأمراء فى سفر إلى الشام، فمرّ بى رجل كنت أعرفه حسن الحال من أصحاب الأموال الظاهرة فى حال رثّة، فسلّم علىّ فقلت: ما الذى غيّر حالك؟ فقال: تنقل الزمان، وكرّ الحدثان؛ فآثرت الضّرب فى البلدان، والبعد عن المعارف والخلّان، وقد كان الأمير الذى أنت معه صديقا لى فاخترت البعد من الأشكال، حين حصّنى «2» الإقلال، واستعملت قول الشاعر: سأعمل نصّ العيس حتى يكفّنى ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان «3» فللموت خير من حياة يرى لها ... على المرء ذى العلياء مسّ هوان متى يتكلم يلغ حكم كلامه ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الفتى فى أهله بورك الفتى ... بغير لسان ناطق بلسان قال ابن دأب: فلما اجتمعت مع الأمير فى المنزل وصفت له الرجل، فقال لى: ويحك! اطلبه حتى أصلح من حاله، فطلبته فأعوزنى. [من قولهم فى الرثاء] وقال أبو الشيص يرثى [قتيلا] : ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنا ونصال فى رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «4»

وقال حارثة بن بدر الغدانى يرثى زيادا: صلّى الإله على قبر وطهّره ... عند الثويّة يسفى فوقه المور «1» تهدى إليه قريش نعش سيّدها ... فثمّ حلّ الندى والعزّ والخير «2» أبا المغيرة والدنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور قد كان عندك للمعروف عارفة ... وكان عندك للنّكراء تنكير وكنت تغشى فتعطى المال من سعة ... فالآن بابك أمسى وهو مهجور ولا تلين إذا عوشرت معتسرا ... وكان أمرك ما يوسرت ميسور لم يعرف الناس مذغيّبت فتيتهم ... ولم يجلّ ظلاما عنهم نور «3» فالناس بعدك قد خفّت حلومهم ... كأنما نفّخت فيها الأعاصير أخذ هذا البيت من قول مهلهل بن ربيعة فى أخيه كليب، وكان إذا انتدى «4» لم تحلّ حبوته، ولم ينطق أحد إلا مجيبا له، إجلالا ومهابة: أنبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس وتحدثوا فى أمر كلّ عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا وكان حارثة ذا بيان وجهارة [وأدب] ، وكان شاعرا عالما بالأخبار [والأنساب] ، وكان قد غلب على زياد، وكان حارثة منهوما فى الشراب، فعوتب زياد فى الاستئثار به، فقال: كيف أطّرح رجلا يسايرنى مذ دخلت العراق، ولم يصكك ركابه ركابى، ولا تقدّمنى فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عنى فلويت عنقى إليه، ولا أخذ علىّ الشمس فى شتاء قط، ولا الرّوح فى صيف، ولا سألته عن باب فى العلم إلا قدّرت أنه لا يحسن غيره. وقال له زياد: من أخطب؟ أنا أم أنت؟ فقال: الأمير أخطب إذا توعّد

أو وعد، وبرق ورعد، وأنا أخطب فى الوفادة، والثناء، والتحبير، وأنا أكذب إذا خطبت، وأحشو كلامى بزيادات [مليحة] شهيّة، والأمير يقصد إلى الحق، وميزان العدل، ولا يزيد فى كلامه، ولا ينقص منه. فقال له زياد: [قاتلك الله!] لقد أجدت تخليص صفتى وصفتك. ولما مات زياد جفاه عبيد الله [ابنه] ، فقال [له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبى المغيرة؟ فقال له عبيد الله] : إن أبا المغيرة بلغ مبلغا لا يلحقه فيه عيب، وأنا أنسب إلى من يغلب علىّ، وأنت تديم الشراب، وأنا حديث السن؛ فمتى قرّبتك فظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بى [ذلك] ، فدع الشراب وكن أول داخل وآخر خارج. فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرى ونفعى، أأدعه للحال عندك؟ ولكن صرّفنى فى بعض أعمالك. فولّاه سرّق من بلاد الأهواز. وقال أبو الأسود الدؤلى، وكان صديقا لحارثة: «1» أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق ولا تدعن للناس شيئا تصيبه ... فحظّك من ملك العراقين سرّق فما الناس إلا قائل فمكذب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق يقولون أقوالا بظنّ وتهمة ... فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا فقال له حارثة: جزاك إله العرش خير جزائه ... فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا أمرت بشىء لو أمرت بغيره ... لألفيتنى فيه لأمرك عاصيا

[وصف امرأة]

[وصف امرأة] قال الأصمعى: سمعت امرأة من العرب تصف امرأة وهى تقول: سطعاء بضّة، بيضاء غضّة، درماء رخصة، قبّاء طفلة، تنظر بعينى شادن ظمآن، وتبسم عن منوّر الأقحوان، فى غبّ التّهتان، وتشير بأساريع الكثبان، خلقها عميم، وكلامها رخيم، فهى كما قال الشاعر: كأنها فى القمص الرقاق ... مخّة ساق بين كفّى ساق «1» أعجلها الشاوى عن الإحراق ووصف أعرابى امرأة يحبّها فقال: هى زينة [فى] الحضور، وباب من أبواب السّرور، ولذكرها فى المغيب، والبعد من الرقيب، أشهى إلينا من كل ولد ونسيب، وبها عرفت فضل الحور العين، واشتقت بها إليهنّ يوم الدين. [من كلام الأعراب] وسئل أعرابى عن سفر أكدى فيه، فقال: ما غنمنا إلا ما قصرنا من صلاتنا، فأمّا ما أكلته منا الهواجر، ولقيته منا الأباعر، فأمر استخففناه، لما أمّلناه. وقال عبد قيس بن خفاف البرجمى لحاتم الطائى، وقد وفد عليه فى دماء حملها، قام ببعضها وعجز عن بعض: إنى حملت دماء عوّلت فيها على مالى وآمالى، فأمّا مالى فقدّمته، وكنت أكبر آمالى، فإن تحملها فكم من حقّ قضيت، وهمّ كفيت، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم آيس من غدك. وقيل لأعرابى: لم لا تضرب فى البلاد «2» ؟ فقال: يمنعنى من ذلك طفل بارك، ولصّ سافك، ثم إنى لست مع ذلك واثقا بنجح طلبتى، ولا معتقدا بقضاء

[من مقامات البديع]

حاجتى، ولا راجيا عطف قرابتى؛ لأنى أقدم على قوم أطغاهم الشيطان، واستمالهم السلطان، وساعدهم الزّمان، وأسكرتهم حداثة الأسنان. وخرج المهدى بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد تقول: قوم متظلّمون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الدّيون؛ وعضّتهم السنون، باد رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق «1» ، وصية الله، ووصية رسول الله، فهل آمر بخير، كلأه الله فى سفره، وخلفه فى أهله. فأمر نصرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم. [من مقامات البديع] ومن إنشاء البديع فى مقامات أبى الفتح الإسكندرى: حدثنى عيسى بن هشام قال: كنت ببغداذ، فى وقت الأراذ «2» ؛ فخرجت إلى السوق أعتام «3» من أنواعه، لابتياعه، فسرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أنواع الفواكه وصفّفها، وجمع أنواع الرّطب وصنّفها؛ فقبضت من كل شىء أحسنه، وقرضت من كل نوع أجوده؛ وحين جمعت حواشى الإزار، على تلك الأوزار، أخذت عيناى رجلا قد لفّ رأسه [ببرقع] حياء، ونصب جسده، وبسط يده، واحتضن عياله، وتأبّط أطفاله، وهو يقول بصوت يدفع الضعف فى صدره، والحرض فى ظهره: ويلى على كفّين من سويق ... أو شحمة تضرب بالدقيق أو قصعة تملأ من خرديق ... تفثأ عنّا سطوات الرّيق تقيمنا عن منهج الطريق ... يا رازق الثروة بعد الضيق سهّل على كفّ فتى لبيق ... ذى حسب فى مجده عريق

[من رسائل بديع الزمان]

يهدى إلينا قدم التوفيق ... ينقذ عيشى من يد الترنيق قال عيسى بن هشام: فأخذت من فاضل الكيس أخذة وأنلته إياها، فقال: يا من حبانى بجميل برّه ... أفضى إلى الله بحسن سره واستحفظ الله جميل ستره ... إن كان لا طقلة لى بشكره فالله ربّى من وراء أمره قال عيسى بن هشام: فقلت: إن فى الكيس فضلا، فابرز لى عن باطنك أخرج لك عن آخره، فأماط لثامه، فإذا شيخنا أبو الفتح السكندرى، فقلت: ويحك! أى داهية أنت؟ فقال: نقضّى العمر تشبيها ... على الناس وتمويها أرى الأيام لا تبقى ... على حال فأحكيها فيوما شرّها فىّ ... ويوما شرّتى فيها [من رسائل بديع الزمان] وسأل البديع أبا نصر بن المرزبان- عارية- بعض ما يتجمّل به، فأمسك عن إجابته؛ فأعاد الكتاب إليه بما نسخته: لا أزال- أطال الله تعالى بقاء مولانا الشيخ! - لسوء الانتقاد، وحسن الاعتقاد، أمسح جبين الخجل، وأمدّ يمين العجل، ولضعف الحاسّة، فى الفراسة، أحسب الورم شحما «1» ، والسراب شرابا، حتى إذا تجشمت موارده، لأشرب بارده، لم أجد شيئا. وما حسبت الشيخ سيدى ممن تعنيه «2» هذه الجملة حتى عرضت على النار عوده، ونشرت بالسؤال جوده، وكإتبته أستعيره حلية جمال، سحابة يوم أو شطره، بل مسافة ميل أو قدره، فعاص فى الفطنة غوصا عميقا، ونظر فى الكيس

نظرا دقيقا، وقال: هذا رجل مشحوذ المدية، فى أبواب الكدية «1» ، قد جعل استعارة الأعلاق طريق افتراسها، وسبب احتباسها، وقد منّى ضرسه، وحدّث بالمحال نفسه، ولا لطيفة فى هذا الباب، أحسن من التغافل عن الجواب، فضلا عن الإيجاب، وكلا فما فى أبواب الردّ أقبح مما قرع، ولا فى شرائع البخل أوحش مما شرع؛ ثم العذر له من جهتى مبسوط إن بسطه الفضل، ومقبول إن قبله المجد، وإنما كاتبته لأعيد الحال القديمة، وأشرط له على نفسى أن أريحه من سوم الحاجات من بعد، فمن لم يستحى من «أعطنى» ، لم يستحى له من «أعفنى» ؛ وعلى حسب جوابه أجرى المودة فيما بعد، فإن رأى أن يجيب فعل إن شاء الله. وله إلى سهل بن محمد بن سليمان: أنا إذا طويت عن خدمة مولاى- أطال الله بقاءه- يوما لم أرفع له بصرى، ولم أعدّه من عمرى، وكأنى بالشيخ- أعزه الله- إذا أغفلت مفروض خدمته، من قصد حضرته، والمثول فى حاشيته، وجملة غاشيته، يقول: إن هذا الجائع لمّا شبع تضلّع، واكتسى وتلفّع، وتجلّل، وتبرقع، تربّع وترفّع، فما يطوف بهذا الجناب، ولا يظهر بهذا الباب؛ وأنا الرجل الذى آواه من قفر، وأغناه من فقر، وآمنه من خوف، إذ لا حرّ بوادى عوف؛ حتى إذا وردت عليه رقعتى هذه، وأعارها طرف كرمه، وظرف شيمه، ونظر فى عنوانها اسمى قال: بعدا وسحقا، [وسبّا وتبّا] وحتّا ونحتا، وطعنا ولعنا، فما أكذب سراب أخلاقه، وأكثر أسراب نفاقه، فالآن انحلّ من عقدته، وانتبه من رقدته وكاتبنى يستعيدنى، كلّالا أزوّجه الرّضا ولا قلامة، ولا أمنحه المنى ولا كرامة، بل أدعه يركب راسه، ويقاسى أنفاسه، فستأتينى به الليالى، والكيس الخالى، ثم أريه ميزان قدره، وأذيقه وبال أمره، حتى

[عفو عن ذى جريرة]

إذا بلغ موضع الحاجة من الرقعة قال: مأربة لا حفاوة، ووطر ساقه، لا نزاع شاقه «1» ، فهذا بذا، ولا أبعد من تلك الهمم العالية، والأخلاق السامية أن يقول: مرحبا بالرّقعة وكاتبها، وأهلا بالمخاطبة وصاحبها [وقضاء الحاجة بإنحائها، وإبرازها، وهى الرقعة التى سالت إلى من التمسته، كما اقترحته بما طالبته، فرأيه فيه موفق إن شاء الله تعالى] . وله أيضا إلى بعض الرؤساء يسأله إطلاق محبوس [بسببه] . الشيخ- أطال الله بقاءه- إذا وصل يدى بيده لم ألمس الجوزاء، إلا قاعدا، وقد ناطها منّة فى عنق الدهر، وصاغها إكليلا لجبين الشّكر. وما أقصر يدى عن الجزاء، ولسانى عن الثناء. وهذا الجاهل قد عرف نفسه، وقلع ضرسه، ورأى ميزان قدره، وذاق وبال أمره، وجهز إلىّ كتيبة عجائز عاجزات «2» ؛ فأطلقن العويل والأليل، وبعثننى شفيعا إلى، واستعنّ بى علىّ، وتوسّلن بكلمة الاستسلام، ولحمة الإسلام، فى فكّ هذا الغلام؛ فإن أحبّ الشيخ أن يجمع فى الطّول بين الحوض والكوثر «3» ، وينظم فى الفضل ما بين الروض والمطر، شفّع فى إطلاقه مكارمه، وشرّف بذلك خادمه، وأنجزنا بالإفراج عنه، موفّقا إن شاء الله تعالى. [عفو عن ذى جريرة] وقال رجل لإبراهيم بن المهدى: اشفع لى إلى أمير المؤمنين فى فك أخى من حبسه، وكان محبوسا فى عداد العصاة، فقال للمأمون: ليس للعاصى بعد القدرة عليه ذنب، وليس للمصاب بعد الملك عذر «4» . فقال: صدقت؛ فما طلبتك؟ قال: فلان هبه لى. قال: هو لك.

ألفاظ لأهل العصر فى التهنة بالإطلاق من الأسر

وسأل أبو عبادة أحمد بن أبى خالد أن يطلق له أسارى، ففعل، فقال له: قد فككنا أسراك. فقال: لا فكّ الله رقاب الأحرار من أياديك! ألفاظ لأهل العصر فى التهنة بالإطلاق من الأسر الحمد لله حمد الإخلاص، على حسن الخلاص، الذى أفضى بك من ذلّة رقّ، إلى عزّة عتق، ومن تصلية جحيم، إلى جنّة نعيم. خرج من العقال، خروج السيف من الصّقال. خرج من إساره، خروج البدر من سراره. الحمد لله الذى فكّ أسرا، وجعل من بعد العسر يسرا. خرج من البلاء، خروج السيف من الجلاء. قد جعل الله لك من مضايق الأمور مخرجا نجيحا؟؟؟، ومن مغالق الأهوال مسرحا فسيحا «1» . [أبو نواس يمدح الأمين] مدح أبو نواس الأمين محمدا فى [أول] خلافته بقصيدته التى يقول فيها: أقول والعيس تعرورى الفلاة بنا ... صعر الأزمة من مثنى ووحدان يا ناق لا تسأمى أو تبلغى ملكا ... تقبيل راحته والرّكن سيّان مقابلا بين أملاك تفضله ... ولادتان من المنصور ثنتان متى تحطّى إليه الرّحل سالمة ... تستجمعى الخلق فى تمثال إنسان قال [الحسن] : هذا لأن محمدا ولده المنصور مرتين من قبل أن أباه هرون الرشيد بن المهدى بن أبى جعفر المنصور، ومن قبل أن أمه أمة العزيز بنت جعفر ابن [أبى جعفر] المنصور، وكان المنصور دخل عليها وهى طفلة تلعب، فقال: ما أنت إلا زبيدة، فغلب عليها هذا اللقب، ولم يل الخلافة من أبواه هاشميان غير على بن أبى طالب وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وابنه الحسن، وأمه فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم، والأمين محمد بن الرشيد.

رجع القول- فلما أنشده القصيدة قال: ما ينبغى أن يسمع مدحك بعد قولك فى الخصيب بن عبد الحميد: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأىّ فتى بعد الخصيب تزور؟ فتى يشترى حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور فما فاته جود، ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير «1» فقال: يا أمير المؤمنين، كلّ مدح فى الخصيب وغيره فمدح فيك؛ لأنى أقول، ثم ارتجل: ملكت على طير السعادة واليمن ... وجاءت لك العلياء مقتبل السنّ بمحيا وجود الدّين تحيا مهنأ ... بحسن وإحسان مع اليمن والأمن لقد طابت الدنيا بطيب ثنائه ... وزادت به الأيام حسنا إلى حسن «2» لقد فك أرقاب العفاة محمد ... وأسكن أهل الخوف فى كنف الأمن «3» إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثنى وفوق الذى نثنى وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذى نعنى قال: صدقت، مدح عبدى مدح لى؛ ووصله وقرّبه. وأما قول أبى نواس: إذا نحن أثنينا عليك بصالح فمن قول الخنساء: فما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلّا الذى فيك أفضل وما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلّا والذى نلت أطول

[بين الأخطل ومعاوية]

[بين الأخطل ومعاوية] وفد الأخطل على معاوية، فقال: إنى قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتنى بالحية، أو الأسد، أو الصقر، فلا حاجة لى بها، وإن كنت [قلت] كما قالت الخنساء، وأنشد البيتين، فقل. فقال الأخطل: والله لقد أحسنت، وقد قلت فيك بيتين ما هما بدونهما، ثم أنشد: إذا متّ مات العرف وانقطع النّدى ... فلم يبق إلا من قليل مصرّد وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا ... عن الدين والدنيا بحزن مجدّد وقول أبى نواس: وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة من قول كثير فى عبد العزيز بن مروان: متى ما أقل فى سالف الدهر مدحة ... فما هى إلّا لابن ليلى المعظّم وقال الفرزدق: وما أمرتنى النفس فى رحلة لها ... إلى أحد إلا إليك ضميرها ولما أنشد أبو تمام أحمد بن أبى دواد قصيدته: سقى عهد الحمى صوب العهاد وانتهى إلى قوله: وما سافرت فى الأفاق إلّا ... ومن جدواك راحلتى وزادى مقيم الظنّ عندك والأمانى ... وإن قلقت ركابى فى البلاد قال له ابن أبى دواد: هذا المعنى لك أو أخذته؟ قال: هو لى، وقد ألممت فيه بقول أبى نواس: وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذى نعنى وأخذه المتنبى فقال:

[بين السفاح وأبى نخيلة]

أشرت أبا الحسين بمدح قوم ... نزلت بهم فرحت بغير زاد وظنّونى مدحتهم قديما ... وأنت بما مدحتهم مرادى وأما قول أبى تمام: «وما سافرت فى الآفاق- البيت» فمن قول المثقب العبدى، [وذكر ناقته: إلى عمرو بن حمدان أبينى ... أخى النّجدات والمجد الرصين «1» وأما قول أبى نواس: فما فاته جود ولا حلّ دونه البيت، فمن قول الشمردل بن شريك [اليربوعى] : ما قصّر المجد عنكم يا بنى حكم ... ولا تجاوزكم يا آل مسعود يحل حيث حللتم لا يريمكم ... ما عاقب الدّهر بين البيض والسّود «2» إن يشهدوا يوجد المعروف عندهم ... خدنا وليس إذا غابوا بموجود وقد قال الكميت الأسدى: يسير أبان قريع السما ... ح والمكرمات معا حيث سارا وقول أبى نواس أيضا: فتى يشترى حسن الثناء بماله مأخوذ من قول الراعى: فتى يشترى حسن الثناء بماله ... إذا ما اشترى المخزاة بالمجد بيهس [بين السفاح وأبى نخيلة] دخل أبو نخيلة على أبى العباس السفاح، فاستأذنه فى الإنشاد، فقال: لعنك الله! ألست القائل لمسلمة بن عبد الملك: أمسلمة يا نجل خير خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض

شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضى وألقيت لما أن أتيتك زائرا ... علىّ لحافا سابغ الطول والعرض ونبهت من ذكرى وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض ثم أمره بأن ينشد، فأنشده أرجوزة يقول فيها: كنّا أناسا نرهب الهلّاكا ... ونركب الأعجاز والأوراكا وكلّ ما قد سرّ فى سواكا ... زور، وقد كفّر هذا ذاكا واسم أبى نخيلة؟؟؟ الجنيد بن الجون، [وهو مولى لبنى حماد] ، كان مقصّدا راجزا. قيل للحنساء: لئن مدحت أخاك لقد هجوت أباك! فقالت: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر «1» حتى إذا جدّ الجراء وقد ... ساوى هناك القدر بالقدر «2» وعلا صياح الناس: أيهما؟ ... قال المجيب هناك: لا أدرى برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجرى أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطّا على وكر وقيل لأبى عبيدة: ليس هذا فى شعر الخنساء. فقال: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا. وقد أحسن البحترى فى نحو هذا؛ إذ يقول فى يوسف بن أبى سعيد، [ومحمد] بن يوسف الطائى: جدّ كجد أبى سعيد إنه ... ترك السماك كأنه لم يشرف

ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى وغيرهما من النساء

قاسمته أخلاقه وهى الردى ... للمعتدى وهى الندى للمعتفى وإذا جرى فى غاية وجريت فى ... أخرى النقى شأوا كما فى المنصف «1» قول الخنساء: يتعاوران ملاءة الحضر أبرع استعارة، وأنصع عبارة، وقد قال عدى بن الرقاع: يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة هما نسجاها تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... فإذا السنابك أسهلت نشراها «2» وإلى هذا أشار الطائى فى قوله: تثير عجاجة فى كل ثغر ... يهيم بها عدىّ بن الرّقاع وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر جاهلى من بنى عقيل «3» فقال: ألا يا ديار الحىّ بالسّبعان ... عفت حججا بعدى وهنّ ثمان فلم يبق منها غير نؤى مهدّم ... وغير أثاف كالرّكىّ رعان وآيات هاب أورق اللون سافرت ... به الريح والأمطار كل مكان «4» قفار مروراة تحار بها القطا ... وتمسى بها الجابان تقتربان «5» يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميصين أسمالا ويرتديان ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى وغيرهما من النساء قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوى: أنشد أبو السائب المخزومى قول الخنساء: وإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا ... وإنّ صخرا إذا نشتو لنحّار

[من ترجمة الخنساء، وليلى الأخيلية]

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم فى رأسه نار فقال: الطلاق لى لازم إن لم تكن قالت هذا وهى تتبختر فى مشيها، وتنظر فى عطفها. ومن مستحسن رثاء الخنساء قولها ترثى أخاها صخرا: اذهب فلا يبعدنك الله من رجل ... منّاع ضيم وطلّاب لأوتار قد كنت فينا صريحا غير مؤتشب ... مركبا فى نصاب غير خوّار فسوف أبكيك ما ناحت مطوّقة ... وما أضاءت نجوم الليل للسارى أبكى فتى الحىّ نالته منيته ... وكل نفس إلى وقت بمقدار وقولها [تعنيه] : شهاد أنجية شدّاد أوهية ... قطّاع أودية للوتر طلابا سمّ العداة وفكّاك العناة إذا ... لاقى الوغى لم يكن للموت هيّابا يهدى الرّعيل إذا جار السبيل بهم ... نهد التليل لزرق السّمر ركابا [من ترجمة الخنساء، وليلى الأخيلية] والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو [بن الحارث] بن الشريد بن رياح بن [يقظة بن عصيّة بن خفاف] بن امرئ القيس، وتكنى أم عمرو، ومصداق ذلك قول أخيها [صخر] : أرى أمّ عمرو لا تملّ عيادتى ... وملّت سليمى مضجعى ومكانى سليمى: امرأته، وإنما لقبت الخنساء كناية عن الظبية، وكذلك [تسميتهم] الذلفاء. والذلف: قصر فى الأنف؛ وإنما يريدون به أيضا أن ذلك من صفات الظباء، وهى أشعر نساء العرب عند كثير من الرّواة؛ وكان الأصمعى يقدم ليلى الأخيلية، وهى ليلى بنت عبد الله بن كعب بن ذى الرحالة بن معاوية بن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل لها الأخيلية لقول جدها كعب:

نحن الأخايل ما يزال غلامنا ... حتى يدبّ على العصا مذكورا قال أبو زيد: [هذا البيت لها فسمّيت به، وليلى أغزر بحرا] ، وأكثر تصرفا، وأقوى لفظا؛ والخنساء أذهب فى عمود الرثاء. قال المبرد: كانت الخنساء وليلى الأخيلية فى أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول، وقلما رأيت امرأة تتقدّم فى صناعة، وإن قل ذلك، فالجملة ما قال الله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» . ومن أحسن المرائى ما خلط فيه مدح بتفجع على المرثى، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح، ولهجة معربة، ونظام غير متفاوت، فهو الغاية من كلام المخلوقين. واعلم أن من أجلّ الكلام قول الخنساء: يا صخر ورّاد ماء قد تناذره ... أهل المياه فما فى ورده عار مشى السّبنتى إلى هيجاء معضلة ... لها سلاحان أنياب وأظفار «1» وما عجول على بوّ تطيف به ... لها حنينان إعلان وإسرار ترتع فى غفلة حتى إذا ادّكرت ... فإنما هى إقبال وإدبار «2» يوما بأوجع منى حين فارقنى ... صخر، وللعيش إحلاء وإمرار لم تره جارة يمشى بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجار قال: ومن كامل قولها: فلولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وما يبكون مثل أخى، ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسّى يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكلّ غروب شمس

يعنى أنّها تذكره أول النهار للغارة، ووقت المغيب للأضياف. وقد قال ابن الرومى فيما يتعلق بطرف من هذا المعنى: رأيت الدهر يجرح ثم يأسو ... ويوسى أو يعوض أو ينسّى أبت نفسى الهلاع لرزء شىء ... كفى شجوا لنفى رزء نفسى أتجزع وحشة لفراق إلف ... وقد وطنتها لحلول رمس وقد أنكر على من تعلّل بالتأسى بما قال غيره «1» ، فقال فى ذلك: خليلىّ قد علّلتمانى بالاسى ... فأنعمتما لو أننى أتعلّل أللناس آثارى، وإلّا فما الأسى ... وعيشكما إلّا ضلال مضلّل وما راحة المرزوء فى رزء غيره ... أيحمل عنه بعض ما يتحمّل كلا حاملى عبء الرزية مثقل ... وليس معينا مثقل الظّهر مثقل وضرب من الظلم الخفىّ مكانه ... تعزّيك بالمرزوء حين تأمّل لأنك يأسوك الذى هو كلمه ... بلا بصر لو أن جورك يعدل وقالت الخنساء: وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسى على صخر ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر؟! وماذا يوارى القبر تحت ترابه ... من الجود يا بؤس الحوادث والدهر فشان المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة، ولم تزل الخنساء تبكى على أخويها صخر ومعاوية، حتى أدركت الإسلام؛ فأقبل بها بنو عمّها وهى عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذه الخنساء،

وقد قرّحت آماقها من البكاء فى الجاهلية والإسلام، فلو نهيتها لرجونا أن تنتهى، فقال لها عمر رضى الله عنه: اتقى الله وأيقنى بالموت، قالت: أبكى أبى وخير بنى مضر صخرا ومعاوية، وإنّى لموقنة بالموت، قال: أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة فى النار؟ قالت: ذلك أشدّ لبكائى عليهم! فرقّ لها عمر وقال: خلّوا عن عجوزكم لا أبا لكم! فكل امرىء يبكى شجوه، ونام الخلىّ عن بكاء الشجى. وكان عمرو بن الشريد يأخذ بيد ابنيه معاوية وصخر فى الموسم، ويقول: أنا أبو خيرى مضر، فمن أنكر فليغيّر، فلا يغير ذلك عليه أحد، وكان يقول: من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه، فتقرّ له العرب بذلك. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: أنا ابن الفواطم من قريش، والعواتك من سليم، وفى سليم شرف كثير. وكان يقال لمعاوية: فارس الجون، والجون من الأضداد، يقال للأسود والأبيض، وقتلته بنو مرّة، قتله هاشم بن حرملة، فطلبه دريد بن الصّمّة حتى قتله، وأما صخر فغزا أسد بن خزيمة فأصاب فيهم، وطعنه ثور ابن ربيعة الأسدى، فأدخل فى جوفه حلقا من الدرع فأندمل عليه، فنتأت قطعة من جنبه مثل اليد، فمرض لها حولا، ثم أشير عليه بقطعها، فأحموا له شفرة ثم قطعوها، فما عاش إلا قليلا. ومن جيد شعر ليلى الأخيلية ترثى توبة بن الحمير الخفاجى، وكان لها محبّا، وله فيها شعر كثير، وقتله بنو عوف بن عقيل، قتله عبد الله بن سالم: نظرت وركن من عماية دوننا ... وأركان جسمى أىّ نظرة ناظر «1» فآنست خيلا بالرقىّ مغيرة ... سوابقها مثل القطا المتواتر

فإن تكن القتلى بواء فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر «1» فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقاء المنايا دارعا مثل حاسر أتته المنايا بين درع حصينة ... وأسمر خطى وجرداء ضامر «2» كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص بفحصن الحصى بالكراكر «3» ولم يدع يوما للحفاظ وللنّهى ... وللحرب ترمى نارها بالشّرائر «4» وللبازل الكوماء يرغو حوارها ... وللخيل تعدو بالكماة المساعر «5» فتى لا تخطّاه الرّفاق، ولا يرى ... لقدر عيالا دون جار مجاور فتى كان أحيا من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان خادر «6» فتى لا تراه النّاب إلفا لسقبها ... إذا اختلجت بالناس إحدى الكبائر وكنت إذا مولاه خاف ظلامة ... أتاك فلم يقنع سواك بناصر وقد كنت مرهوب السّنان وبيّن ال ... لّسان ومدلاج السّرى غير فاتر ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها ... لتوبة فى حدّ الشتاء الصّنابر «7» وقال بعض الرواة: بينا معاوية يسير إذ رأى راكبا، فقال لبعض شرطه: ائتنى به وإياك أن تروعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: إياه أردت، فلما دنا الراكب حدر لثامه فإذا ليلى الأخيلية، فأنشأت تقول: معاوى لم أكد آتيك تهوى ... برحلى نحو ساحتك الركاب

تجوب الأرض نحوك ما تأنّى ... إذا ما الأكم قنعها السّراب وكنت المرتجى وبك استغاثت ... لتنعشها إذا بخل السحاب قال: فقال: ما حاجتك؟ قالت: ليس مثلى يطلب إلى مثلك حاجة، فتخيّر أنت! فأعطاها خمسين من الإبل؛ ثم قال: أخبرينى عن مضر، قالت: فاخر بمضر، وحارب بقيس، وكاثر بتميم، وناظر بأسد، فقال: ويحك يا ليلى! أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ليس كل الناس يقول حقا، الناس شجرة بغى، يحسدون النّعم حيث كانت، وعلى من كانت؛ كان يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللسان، شجى الأقران، كريم المخبر، عفيف المئزر، جميل المنظر، وكان كما قلت، ولم أتعدّ الحق فيه: بعيد الثّرى لا يبلغ القوم قعره ... ألدّ ملدّ يغلب الحقّ باطله «1» فقال معاوية: ويحك يا ليلى! يزعم الناس أنه كان عاهرا خاربا، فقالت من ساعتها مرتجلة: معاذ إلهى كان والله توبة ... جوادا على العلّات جمّا نوافله «2» أغرّ خفاجيّا يرى البخل سبة ... تحالف كفّاه النّدى وأنامله عفيفا بعيد الهمّ صلبا قناته ... جميلا محيّاه قليلا غوائله وكان إذا ما الضيف أرغى بعيره ... لديه أتاه نيله وفواضله وقد علم الجوع الذى كان ساريا ... على الضيف والجيران أنك قاتله وأنك رحب الباع يا توب بالقرى ... إذا ما لئيم القوم ضاقت منازله يبيت قرير العين من كان جاره ... ويضحى بخير ضيفه ومنازله فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى! لقد جزت بتوبة قدره، فقالت: يا أمير المؤمنين. والله لو رأيته وخبرته لعلمت أنى مقصرة فى نعته، لا أبلغ كنه ما هو له أهل. فقال لها معاوية: فى أى سنّ كان؟ فقالت: يا أمير المؤمنين:

أتته المنايا حين تمّ تمامه ... وأقصر عنه كلّ قرن يناضله وصار كليث الغاب يحمى عرينه ... فترضى به أشباله وحلائله عطوف حليم حين يطلب حلمه ... وسمّ ذعاف لا تصاب مقاتله فأمر لها بجائزة، وقال: أى ما قلت فيه أشعر؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ما قلت شيئا إلّا والذى فيه من خصال الخير أكثر، ولقد أجدت حيث أقول: جزى الله خيرا والجزاء بكفّه ... فتى من عقيل ساد غير مكلّف فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه فلم ينفكّ جمّ التّصرّف ينال عليات الأمور بهونة ... إذا هى أعيت كلّ خرق مسوّف «1» هو المسك بالأرى الضحاكى شبته ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف «2» ويقال: إنها دخلت على مروان بن الحكم فقال: ويحك يا ليلى! أكما نعتّ توبة كان؟ قالت: أصلح الله الأمير! والله ما قلت إلا حقا، ولقد قصرت، وما رأيت رجلا قطّ كأن أربط على الموت جأشا، ولا أقلّ انحياشا حين تحتدم براكاء الحرب، ويحمى الوطيس بالطّعن والضرب، كان والله كما قلت: فتى لم يزل يزداد خيرا لدن نشا ... إلى أن علاه الشّيب فوق المسايح تراه إذا ما الموت حلّ بورده ... ضروبا على أقرانه بالصفائح شجاع لدى الهيجاء ثبت مشايح ... إذا انحاز عن أقرانه كلّ سابح فعاش حميدا لا ذميما فعاله ... وصولا لقرباه يرى غير كالح فقال لها مروان: كيف يكون توبة على ما تقولين وكان خاربا؟ «والخارب سارق الإبل خاصة» ، فقالت: والله ما كان خاربا، ولا للموت هائبا، ولكنه

كان فتى له جاهلية، ولو طال عمره وأنسأه الموت لارعوى قلبه، ولقضى فى حب الله نحبه، وأقصر عن لهوه، ولكنه كما قال ابن عمه مسلمة بن زيد: فلله قوم غادروا ابن حميّر ... قتيلا صريعا للسيوف البواتر لقد غادروا حزما وعزما ونائلا ... وصبرا على اليوم العبوس القماطر إذا هاب ورد الموت كلّ غضنفر ... عظيم الحوايا لبّه غير حاضر مضى قدما حتى يلاقى ورده ... وجاد بسيب فى السنين القواشر «1» فقال لها مروان: يا ليلى، أعوذ بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، فوالله لقد مات توبة، وإن كان من فتيان العرب وأشدائهم، ولكنه أدركه الشقاء، فهلك على أحوال الجاهلية، وترك لقومه عداوة. ثم بعث إلى ناس من عقيل فقال: والله لئن بلغنى عنكم أمر أكرهه من جهة توبة لأصلبنكم على جذوع النخل، إياكم ودعوى الجاهلية، فإن الله قد جاء بالإسلام، وهدم ذلك كله. وروى أبو عبيدة عن محمد بن عمران المرزبانى قال: قال أبو عمرو بن العلاء الشيبانى: قدمت ليلى الأخيلية على الحجاج بن يوسف وعنده وجوه أصحابه وأشرافهم، فبينا هو جالس معهم إذ أقبلت جارية فأشار إليها وأشارت إليه؛ فلم تلبث أن جاءت جارية من أجمل النساء وأكملهن، وأتمهن خلقا، وأحسنهن محاورة؛ فلما دنت منه سلّمت ثم قالت: أتأذن أيها الأمير؟ قال: نعم، فأنشدت: أحجّاج إن الله أعطاك غاية ... يقصّر عنها من أراد مداها. أحجّاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكفّ الله حيث يراها

إذا ورد الحجاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العياء الذى بها ... غلام إذا هزّ القناة ثناها إذا سمع الحجاج صوت كتيبة ... أعدّ لها قبل النزول قراها أعدّ لها مصقولة فارسيّة ... بأيدى رجال يحلبون صراها «1» حتى أتت على آخرها. فقال الحجاج لمن عنده: أتعرفون من هذه؟ قالوا: ما نعرفها، ولكن ما رأينا امرأة أطلق لسانا منها، ولا أجمل وجها، ولا أحسن لفظا، فمن هى أصلح الله الأمير؟ قال: هى ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير التى يقول فيها: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... علىّ ودونى جندل وصفائح لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح ثم قال لها: يا ليلى، أنشدينا بعض ما قاله فيك توبة، فأنشدته: نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطّت نواها واستمرّ مريرها وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... وقد رابنى منها الغداة سفورها علىّ دماء البدن إن كان زوجها ... يرى لى ذنبا غير أنى أرورها وأنى إذا ما زرتها قلت: يا اسلمى ... فهل كان فى قولى اسلمى ما يصيرها حمامة بطن الواديين ترنمى ... سقاك من الغرّ الغوادى مطيرها أبينى لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت فى خضراء دان بريرها «2» وقد تذهب الحاجات يطلبها الفتى ... شعاعا وتخشى النفس ما لا يضيرها أيذهب ريعان الشباب ولم أزر ... عرائر من همدان بيضا نحورها ولو أن ليلى فى ذرى متمنّع ... بنجران لالتفّت علىّ قصورها

يقرّ بعينى أن أرى العيس ترتمى ... بنا نحو ليلى وهى تجرى صقورها وأشرف بالغور اليفاع لعلنى ... أرى نار ليلى أو يرانى بصيرها أرتنا حمام الموت ليلى، وراقنا ... عيون نقيّات الحواشى تديرها حتى أنت على آخرها. فقال: يا ليلى، ما رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير؛ ما رآنى قظ إلا متبرقعة، فأرسل إلىّ رسولا إنه ملمّ بنا، فنظر أهل الحىّ رسوله فأعدّوا له وكمنوا؛ ففطنت لذلك من أمرهم، فلما جاء ألفيت برقعى وسفرت فأنكر ذلك، فما زاد على التسليم وانصرف راجعا. فقال لها الحجاج: لله درك! فهل كانت بينكما ريبة قط؟ قالت: لا والذى أسأله صلاحك، إلا أنى رأيت أنه قال قولا فظننت أنه خضع لبعض الأمر، فقلت: وذى حاجة قلنا له: لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغى أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل فما كلمنى بشىء بعد ذلك حتى فرّق الموت بينى وبينه. فقال لها: حاجتك! قالت: أن تحملنى إلى قتيبة بن مسلم على البريد إلى خراسان، فحملها فاستظرفها قتيبة ووصلها، ثم رجعت فماتت بساوة «1» ، وقبرها هناك. وروى المبرد أنها لما أنشدته الأبيات «أحجاح إن الله أعطاك» .. إلى قولها «غلام إذا هز القناة ثناها» قال لها: لا تقولى غلام، ولكن قولى: همام، ثم قال لها: أى نسائى أحبّ إليك أن أنزلك عندها؟ قالت: ومن نساؤك أيها الأمير؟ قال: أم الجلاس بنت سعيد بن العاص الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت المهلب بن أبى صفرة العتكية «2» . قالت: هذه أحب إلى. فلما كان الغد دخلت إليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير، اجعلها أدما «3» .

قيل لها: إنما أمر لك بشاء، فقالت: الأمير أكرم من ذلك؛ فجعلها إبلا أدما استحياء؛ وإنما كان أمر لها بشاء [أولا، والأدم أكرمها] . وأول هذا الحديث عن رجل من بنى عامر بن صعصعة يقال له ورقاء قال: كنت عند الحجاج فدخل الآذن «1» فقال: أصلح الله الأمير! بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير النادّ «2» . قال: أدخلها، فلما دخلت نسبها فانتسبت له. فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم، وقلّة الغيوم، وكلّب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرّفد. قال لها: أخبرينى عن الأرض. قالت: الأرض مغبرّة، والفجاج مقشعرّة، وأصابتنا سنون مجحفة مظلمة، لم تدع لنا هبعا ولاربعا، ولا عافطة ولا نافطة «3» أهلكت الرجال، ومزّقت العيال، وأفسدت الأموال، وأنشدت الأبيات التى مضت آنفا؛ فالتفت الحجاج [إلى أصحابه] . وقال: هل تعرفون هذه؟ قالوا: لا. قال: هذه ليلى الأخيلية التى تقول: نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدبّ على العصا مذكورا تبكى الرماح إذا فقدن أكفّنا ... حزنا وتلقانا الرّفاق؟؟؟. ورا وفى آخر حديثها قال لها: أنشدينا بعض شعرك، فأنشدته: لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه فى الحياة المعاير ومن كان مما يحدث الدهر جازعا ... فلابدّ يوما أن يرى وهو صابر فلا يبعدنك الله يا توب هالكا ... لدى الحرب إن دارت عليك المقادر فكل جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرئ يوما إلى الله صائر وكل قرينى ألفة لتفرّق ... شتات وإن ضنّا وطال التّعاشر

فأقسمت أبكى بعد توبة هالكا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر فقال الحجاج لصاحب له: اذهب بها فاقطع عنى لسانها، فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها. فقالت له: ويحك! إنما قال لك الأمير: اقطع لسانى بالعطاء، فارجع إليه فاسأله، فسأله فاستشاط غيظا، وهمّ بقطع لسانه، [ثم أمر بها فأدخلت] فقالت: أيها الأمير، كاد يقطع مقولى، وأنشدته: حجّاج أنت الذى ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصّمد حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور فى الدّجا يقد «1» احتذى الحجاج فى قوله: «اقطع لسانها» قول النبى صلى الله عليه وسلم لما أعطى المؤلفة قلوبهم يوم حنين مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أربعين فسخطها وقال: أتجعل نهيى ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى مجمع وما كنت إلا امرأ منهم ... ومن تضع اليوم لا يرفع «2» العبيد: اسم فرسه، وحصن [الذى ذكره] هو أبو عيينة بن حصن بن حذيفة ابن بدر سيد فزارة، وحابس: أبو الأقرع بن حابس، وقد تقدم نسبه- فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بإحضاره، فقال: أنت القائل: أتجعل نهبى ونهب العبيد ... بين الأقرع وعيينة وكان النبى عليه الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: «وما علّمناه الشّعر وما ينبغى له» . فقال: قم يا على فاقطع لسانه. قال العباس: فقلت: يا علىّ؛

[عود إلى رثاء شواعر العرب]

وإنك لقاطع لسانى؟ قال: إنى ممض فيك ما أمرت، فمضى بى حتى أدخلنى الحظائر، فقال: اعتدّ ما بين الأربعين إلى مائة، قلت: بأبى أنت وأمى! ما أحلمكم وأعلمكم وأعدلكم وأكرمكم! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاك أربعين، وجعلك من المهاجرين [فإن شئت] فخذها، وإن شئت فخذ مائة، وكن من المؤلّفة قلوبهم. فقلت: أشر علىّ. فقال: إنى آمرك أن تأخذ ما أعطاك. فأخذتها. وكانت ليلى الأخيلية قد حاجّت النابغة الجعدى فأفحمته. ودخلت على عبد الملك ابن مروان وقد أسنّت فقال: ما رأى توبة فيك حتى أحبك؟ قالت: رأى فىّ ما رأى الناس فيك حين ولّوك! فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها. [عود إلى رثاء شواعر العرب] وقالت هند بنت أسد الضبابية: لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زينا للمواكب والشّرب يلوذ به الجانى محافة ما جنى ... كما لاذت العصماء بالشاهق الصعب تظلّ بنات العمّ والخال حوله ... صوادى لا يروين بالبارد العذب وقالت أم خالد النميرية [تشبب بأثال الكلابى «1» ] : إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضه ... أتتنا بريّاه فطاب هبوبها «2» أتتنا بمسك خالط المسك عنبر ... وريح خزامى باكرتها جنوبها أحنّ لذكراه إذا ما ذكرته ... وتنهلّ عبرات تفيض غروبها «3» حنين أسير نازح شدّ قيده ... وإعوال نفس غاب عنها حبيبها

وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى [ثعلب] ، لأم الضحاك المحاربية وكانت تحب رجلا من الضّباب حبا شديدا: يأيها الراكب الغادى لطيّته ... عرّج أبثّك عن بعض الذى أجد ما عالج الناس من وجد تضمّنهم ... إلا وجدت به فوق الذى وجدوا حسبى رضاه وأنّى فى مسرّته ... ووده آخر الأيام أجتهد وقالت: هل القلب إن لاقى الضّبابىّ خاليا ... لدى الرّكن أو عند الصّفا ينحرّج وأزعجنا قرب الفراق، وبيننا ... حديث كتنفيس المريضين مزعج حديث لو أنّ اللحم يشوى بحره ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج وأنشد الزبير بن بكار لحليمة الخضرية، وقد أنشدها المبرد لنبهان العبشمى «1» وهو أشبه «2» : يقرّ بعينى أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود وأن أرد الماء الذى شربت به ... سليمى وإن ملّ السّرى كلّ واحد وألصق أحشائى ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود وقالت الفارعة بنت شداد ترثى أخاها مسعودا: يا عين بكّى لمسعود بن شدّا ... بكاء ذى عبرات شجوه بادى من لا يذاب له شحم السّديف ولا ... يجفو العيال إذ ما ضنّ بالزاد ولا يحلّ إذ ما حلّ منتبذا ... يخشى الرزية بين المال والنادى قوّال محكمة، نقّاض مبرمة ... فتاح مبهمة، حبّاس أوراد قتّال مسغبة، وثّاب مرقبة ... منّاع مغلبة، فكّاك أقياد حلّال ممرعة، فرّاج مفظعة ... حمّال مضلعة، طلّاع أنجاد

[عبرات المحبين]

حمّال ألوية، شهّاد أندية ... شدّاد أوهية، فرّاج أسداد جمّاع كلّ خصال الخير قد علموا ... زين القرين ونكل الظالم العادى أبا زرارة لا تبعد فكلّ فتى ... يوما رهين صفيحات وأعواد هلا سقيتم، بنى جرم، أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى كربة صادى نعم الفتى، ويمين الله، قد علموا ... يخلو به الحىّ أو يغدو به الغادى هو الفتى يحمد الجيران مشهده ... عند الشتاء وقد همّوا بإخماد الطاعن الطعنة النّجلاء يتبعها ... مثعنجرا بعد ما تغلى بإزباد والسابىّ الزّق للأضياف إن نزلوا ... إلى ذراه وغيث المحوج الغادى والمحسنات من النساء كثير، وقد تفرّق لهن فى أضعاف هذا الكتاب ما اختير. [عبرات المحبين] وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب: ومستنجد بالحزن دمعا كأنه ... على الخد مما ليس يرقا حائر «1» إذا ديمة منه استقلّت تهلّلت ... أوائل أخرى مالهنّ أواخر ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه ... لما انهلّ من عينيه فى الماء ناظر «2» وينظر من بين الدموع بمقلة ... رمى الشوق فى إنسانها فهو ساهر وقال آخر- ورويت لقيس بن الملوّح: نظرت كأنى من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصبابة أنظر فعيناى طورا يغرقان من البكا ... فأعشى، وطورا تحسران فأبصر وقال غيلان: وما شنّتا خرقاء واهية الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبلّلا بأضيع من عينيك للدّمع كلّما ... توهمت ربعا أو توسّمت منزلا

وقال آخر: ومما شجانى أنها يوم ودّعت ... تولّت وماء الجفن فى العين حائر «1» فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلىّ التفاتا أسلمته المحاجر «2» أبو عبادة البحترى: وقفنا والعيون مشغلّات ... يغالب طرفها نظر كليل نهته رقبة الواشين حتى ... تعلّق لا يغيض ولا يسيل وأنشد أبو الحسن [جحظة] : ومن طاعتى إياه أمطر ناظرى ... إذا هو أبدى من ثناياه لى برقا كأنّ دموعى تبصر الوصل هاربا ... فمن أجله تجرى لتدركه سبقا أخذ البيت الأول المتنبى فقال: يبتلّ خدّى كلما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها وقال أبو الشيص، واسمه محمد بن عبيد الله، وهو ابن عم دعبل: وقائلة وقد بصرت بدمع ... على الخدين منحدر سكوب أتكذب فى البكاء وأنت جلد ... قديما ما جسرت على الذنوب قميصك والدموع تجول فيه ... وقلبك ليس بالقلب الكثيب كمثل قميص يوسف حين جاءوا ... عليه عشية بدم كذوب [فقلت لها: فداك أبى وأمى ... رجمت بسوء ظنك فى الغيوب] أما والله لو فتّشت قلبى ... لسرّك بالعويل وبالنحيب دموع العاشقين إذا تلاقوا ... بظهر الغيب ألسنة القلوب

[من أخبار العباس بن الأحنف]

[من أخبار العباس بن الأحنف] وقال بشار بن برد: ما زال فتى من بنى حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال: نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكى بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار؟! قال: وهذا الذى عناه بشار هو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن طلحة ابن هرون بن كلدة بن خزيم بن شهاب [بن سالم] بن حبة بن كليب بن عدى ابن عبد الله بن حنيفة، وكان كما قال بعض من وصفه: كان أحسن خلق الله إذا حدّث حديثا، وأحسنهم إذا حدث استماعا، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف، وكان ملوكى المذهب، ظاهر النّعمة، حسن الهيئة، وكانت فيه آلات الظّرف، كان جميل الوجه، فاره المركب، نظيف الثّوب، حسن الألفاظ، كثير النوادر، رطيب الحديث، باقيا على الشراب، كثير المساعدة، شديد الاحتمال، ولم يكن هجّاء، ولا مدّاحا، كان يتنزّه عن ذلك، ويشبّه من المتقدمين بعمر بن أبى ربيعة. وسئل أبو نواس عن العباس وقد ضمّهما مجلس فقال: هو أرق من الوهم، وأحسن من الفهم. وكان أبو الهذيل العلاف المعتزلى إذا ذكره لعنه وزنّاه لأجل قوله: وضعت خدّى لأدنى من يطيف بكم ... حتى احتقرت وما مثلى بمحتقر «1» إذا أردت انتصارا كان ناصركم ... قلبى، وما أنا من قلبى بمنتصر فأكثروا أو أقلّوا من ملامكم ... فكلّ ذلك محمول على القدر

وقوله فى البيت الأوسط كقوله: قلبى إلى ما ضرّنى داعى ... يكثر أسقامى وأوجاعى لقلما أبقى على ما أرى ... يوشك أن ينعانى الناعى «1» كيف احتراسى من عدوى إذا ... كان عدوى بين أضلاعى وقيل [لعنان] جارية الناطفى: من أشعر الناس؟ قالت: الذى يقول وأهجركم حتى يقولوا: لقد سلا ... ولست بسال عن هواك إلى الحشر ولكن إذا كان المحب على الذى ... يحب شفيقا نازع الناس بالهجر وقال [العباس] : جرى السيل فاستبكانى السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتىّ غروب وما ذاك إلا أن تيقّنت أنه ... يمرّ بواد أنت منه قريب يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب فياساكنى شرقىّ دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وقال الصولى: ناظر أبو أحمد على بن يحيى المنجم رجلا يعرف بالمتفقه الموصلى فى العباس بن الأحنف والعتّابى، فعمل علىّ فى ذلك رسالة أنفذها لعلى بن عيسى؛ لأن الكلام فى مجلسه جرى. وكان مما خاطبه به أن قال: ما أهّل نفسه قطّ العتّابى لتقديمها على العباس فى الشعر، ولو خاطبه مخاطب لدفعه وأنكره؛ لأنه كان عالما لا يؤتى من قلة معرفة بالشعر، ولم أر أحدا من العلماء بالشعر مثل العتّابى والعباس، فضلا عن تقديم العتّابى عليه لتباينهما [فى ذلك] ، وإن العتابى متكلف، والعباس يتدفّق طبعا؛ وكلام هذا سهل عذب، وكلام ذاك متعقّد كزّ، وفى شعر هذا رقّة وحلاوة، وفى شعر ذاك غلظ وجساوة، وشعر هذا فى فنّ واحد وهو الغزل؛ وأكثر فيه وأحسن، وقد افتنّ العتّابى فلم يخرج فى شىء منه عمّا وصفناه.

وإن من أحسن شعر العتابى قصيدته التى مدح بها الرشيد وأولها: يا ليلة لى فى حوران ساهرة ... حتى تكلّم فى الصبح العصافير وقال فيها: أفى الأماقى انقباض عن جفونهما ... أم فى الجفون عن الآماق تقصير وهذا البيت أخذه من قول بشار الذى أحسن فيه كل الإحسان وهو قوله: جفت عينى عن التغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار فمسخه العتابى، على أن بشارا أخذه من قول جميل: كأنّ المحبّ لطول السّهاد ... قصير الجفون ولم تقصر إلا أن بشارا أحسن فيه؛ فنازعهما إياه فأساء، وإنّ حقّ من أخذ معنى قد سبق إليه أن يصنعه أجود من صنعة السابق إليه، أو يزيد عليه، حتى يستحقه، وأما إذا قصّر عنه فهو مسىء معيب بالسرقة، مذموم على التقصير. ولقد هاجى أبا قابوس النصرانىّ فغلّب عليه فى كثير مما جرى بينهما على ضعف منّة أبى قابوس فى الشعر، ثم قال فى هذه القصيدة: ماذا عسى مادح يثنى عليك وقد ... ناداك بالوحى تقديس وتطهير فتّ الممادح إلّا أنّ ألسننا ... مستعلنات بما تخفى الضمائير «1» فختم البيت فيها بأثقل لفظة لو وقعت فى البحر لكدّرته، وهى صحيحة، وما شىء أملك بالشعر بعد صحّة المعنى من حسن صحّة اللفظ، وهذا عمل التكلف، وسوء الطبع. وللعباس بن الأحنف إحسان كثير، ولو لم يكن إلا قوله: أنكر الناس ساطع المسك من دجلة ... قد أوسع المشارع طيبا

فهم يعجبون منه وما يد ... رون أن قد حللت منه قريبا قاسمينى هذا البلاء، وإلّا ... فاجعلى لى من التعزّى نصيبا إنّ بعض العتاب يدعو إلى العت ... ب، ويؤذى به المحبّ الحبيبا وإذا ما القلوب لم تضمر العط ... ف فلن يعطف العتاب القلوبا «1» وقوله: قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهى الصحيحة والمريض العائد تالله لو أنّ القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الصغير الوالد إن كان ذنبى فى الزيارة فاعلمى ... إنى على كسب الذنوب لجاهد «2» ألقيت بين جفون عينى فرقة ... فإلى متى أنا ساهر يا راقد يقع البلاء وينقضى عن أهله ... وبلاء حبّك كلّ يوم زائد سمّاك لى ناس وقالوا: إنها ... لهى التى تشقى بها وتكابد فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إنى ليعجبنى المحبّ الجاحد وقوله: إنى وإن كنت قد أسأت بى ال ... يوم لراج للعطف منك غدا أستمتع الله بالرجاء وإن ... لم أر منكم ما أرتجى أبدا وله: أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر متطيرا منها أتته وجسمها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر ولئن وفّى أبو أحمد العباس حقّه، لقد ظلم العتّابى ما كان مستحقه، من سر الكلام، وجودة رصف النظام. قال الصولى فى نسب العباس- وكان من

خؤولته-: هو العباس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هيمان من بنى [هفّان بن الحارث بن] ذهل بن [الديل بن] حنيفة. وله يقول الصريع يهجوه: بنو حنيفة لا يرضى الدّعىّ بهم ... فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا اذهب إلى عرب ترضى بنسبتهم ... إنى أرى لك لونا يشبه العربا وقال [أبو أحمد: قال] العباس: حرّ دعاه الهوى سرّا فلباه ... طوعا فأضحك مولاه وأبكاه فشاهدت بالذى يخفى لواحظه ... وعدّلتها بفيض الدمع عيناه جازيتنى إذ رعيت الودّ بعدك أن ... وكّلت طرفى بنجم الليل يرعاه الله يشهد أنى لم أخنك هوى ... كفاك بيّنة أن يشهد الله وقال: يا من يكاتمنى تغيّر قلبه ... سأكفّ نفسى قبل أن تتبرما «1» وأصدّ عنك وفى يدىّ بقيّة ... من حبل ودّك قبل أن يتصرّما يا للرجال لعاشقين تواقفا ... وتخاطبا من غير أن يتكلما حتى إذا خافا العيون وأشفقا ... جعلا الإشارة بالأنامل سلّما وقال: الله يعلم ما أردت بهجركم ... إلّا مساترة العدوّ الكاشح وعلمت أن تستّرى وتباعدى ... أبقى لوصلك من دنوّ فاضح وقال: يهيم بحرّان الجزيرة قلبه ... وفيها غزال فاتر الطّرف ساحره بؤازره قلبى علىّ وليس لى ... يدان بمن قلبى علىّ يؤازره «2»

[العين والقلب]

[العين والقلب] وقد قال سهل بن هرون: أعان طرفى على قلبى وأعضائى ... بنظرة وقفت جسمى على دائى وكنت غرّا بما يجنى على بدنى ... لا علم لى أنّ بعضى بعض أعدائى وقال النظام: إنّ العيون على القلوب إذا جنت ... كانت بليتها على الأجساد البحترى: ولست أعجب من عصيان قلبك لى ... حقّا إذا كان قلبى فيك يعصينى وقال الأصمعى: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه. فقلت: هذا والله يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام لعفراء فى أبياته التى أنشدها: وإنّى لتعرونى لذكراك روعة ... لها بين جلدى والعظام دبيب وما هو إلّا أن أراها فيه فجاءة ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب «1» وأصرف عن دائى الذى كنت أرتئى ... ويقرب منّى ذكره ويغيب ويضمر قلبى غدرها ويعينها ... علىّ، ومالى فى الفؤاد نصيب فقال الرشيد: من قال ذلك وهما، فقد قلته علما. [من مأثور الحكم] قال على بن عبيدة الريحانى: احم ودّك فإنه عرضك، وصن الأنس بك فإنه يغزر «2» حظك، ولا تستكثر من الطمأنينة إلا بعد استحكام الثّقة؛ فإن الأنس سريرة العقل، والطمأنينة بذلة المتحابيّن، وليس لك بعدهما تحفة تمنحها صاحبك، ولا حباء توجب به الشكر على من اصطفيت.

[الهوى]

وقال: ما أنصف من عاتب أخاه بالإعراض على ذنب كان منه، أو هجره لخلاف بما يكره عنده، إذا كان لا يعتدّ فى سالف أيام العشرة إلا بالرضا عنه، ومشاكلته فيما يؤنسه منه. فإن كان العاتب شكا جميع ما ستره من أخيه أولا، فلقد تتمّم الموافقة حظّ الاغتفار، وإن لم يكن وفى له بكلّ ما استحقّ منه فليقتصّ ممّا وجب منه عليه لأخيه بقدر ذنبه، ثم العودة إلى الألفة أولى من تشتّت الشّمل، وأشبه بأهل التصافى، وأكرم فى الأحدوثة عند الناس. وقال: الحياء لباس سابغ، وحجاب واق، وستر من المساوى، وأخو العفاف، وحليف الدّين، ومصاحب بالصّنع. ورقيب من العصمة، وعين كالئة «1» تذود عن الفساد، وتنهى عن الفحشاء والأدناس. وقال: لا يخلو أحد من صبوة إلّا أن يكون جاسى الخلقة «2» ، منقوص البنية، أو على خلاف تركيب الاعتدال. [الهوى] ورأى سعيد بن سلم «3» بن قتيبة ابنا له قد شرع فى رقيق الشعر وروايته، فأنكر عليه، فقيل له: إنه قد عشق، فقال: دعوه فإنه يلطف، وينظف، ويظرف. وقال الفضل بن أحمد بن أبى طاهر «4» ، واسم أبى طاهر طيفور: وصف الهوى قوم وقالوا: إنه فضيلة، وإنه ينتج الحيلة، ويشجّع قلب الجبان، ويسخّى قلب البخيل، ويصفّى ذهن الغبى، ويطلق بالشّعر لسان المفحم، ويبعث حزم العاجز الضعيف، وإنه عزيز تذل له عزّة الملوك، وتضرع فيه صولة الشجاع، وتنقاد له طاعة كل ممتنع، ويذلّل كلّ مستصعب، ويبرز كل محتجب، وهو داعية الأدب، وأول باب تفتّق به لأذهان والفطن،

وتستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم، وتسكن نوافر الأخلاق والشّيم «1» ، يمتّع جليسه، ويؤنس أليفه، وله سرور يجول فى النفس، وفرح مستكن فى القلب، وبه يتعاطف أهل المودّة، ويتّصل أهل الألفة، وعليه تتألّف الأشكال، وله صولات على القدر، ومكايد تبطل لطائف الحيل، وظرف يظهر فى الأخلاق والخلق، وأرواح تسطع من أهلها، وتعبق من ذويها. وقال اليمانى بن عمرو مولى ذى الرياستين: كان ذو الرياستين يبعث بى وبأحداث من أهله إلى شيخ بخراسان ويقول: تعلّموا منه الحكمة؛ فكنّا نأنيه، وإذا انصرفنا من عنده اعترضنا ذو الرياستين يسألنا عما أفادنا فنخبره؛ فسرنا إلى الشيخ يوما فقال لنا: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة، وفيكم أحداث، ولكم نعم، فهل فيكم عاشق؟ قلنا: لا، قال: اعشقوا؛ فإنّ العشق يطلق الغبىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويسخّى كفّ البخيل، ويبعث على النظافة وحسن الهيئة، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وشرف الهمة، وإياكم والحرام. قال: فانصرفنا، فسألنا عما أفادنا فى يومنا؛ فهبناه أن نخبره، فعزم علينا. فقلنا له: أمرنا بكذا وكذا، قال: صدق، أتعلمون من أين أخذ هذا الأدب؟ قلنا: لا. قال: إن بهرام جور كان له ابن رشّحه للملك من بعده، فنشأ ساقط الهمّة، خامل المروءة، دنىء النفس، سيّىء الأدب، كليل القريحة، كهام الفكر «2» ؛ فغمّه ذلك، ووكّل به من المؤدبين والمنجّمين والحكماء من يلازمه ويعلّمه، وكان يسألهم فيحكون له ما يسوءه، إلى أن قال له بعض مؤدبيه: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس منه، قال: وما ذلك؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها فغلبت عليه، فهو لا يهذى إلّا بأمرها، ولا يتشاغل إلّا بذكرها فقال بهرام جور: الآن رجوت صلاحه.

ثم دعا بأبى الجارية فقال: إنى مسرّ لك سرّا فلا يعدونّك «1» . فضمن له ستره فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأخذها بإطماعه بنفسها، ومراسلته من غير أن يراها، أو تقع عينه عليها؛ فإذا استحكم طمعه فيهما تجنّت عليه، وهجرته، فإذا استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلّا لملك، أو من همّته همة ملك، وأن ذلك يمنعها من مواصلته، ثم ليعلمه خبرها وخبره، ولا يطلعها على ما أسرّ إليه، فقبل ذلك أبوها منه. ثم قال للمؤدّب: خوّفه بى، وشجّعه على مراسلة الجارية، ففعل ذلك، وفعلت الجارية ما أمرها به أبوها؛ فلما انتهت إلى التجنّى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته من أجله أخذ فى الأدب، وطلب الحكمة، والعلم، والفروسية، ولعب الصّوالجة، والرّماية، حتى مهر فى ذلك، ورفع إلى أبيه أنه يحتاج من المطاعم والآلات والدوابّ والملابس والوزراء فوق الذى كان له؛ فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما أراد، ودعا بمؤدّبه، فقال: إنّ الموضع الذى وضع ابنى نفسه فيه بحبّ هذه المرأة لا يزرى به «2» ؛ فتقدّم إليه أن يرفع أمرها إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها، ففعل، فزوّجها منه، وأمر بتعجيل نقلها إليه، وقال له: إذا اجتمعت أنت وهى فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك. فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بنى، لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إياك، وليست فى حبالك، فأنا أمرتها بذلك، وهى من أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلّق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى؛ فزدها فى التشريف والإكرام بقدر ما تستحقّ منك. ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وأبوه مسرورا به، وزاد فى إكرام المرزبان، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته لسره وطاعته، وأحسن جائزته وجائزة المؤدب

[من رسائل الميكالى]

بامتثاله أمره، وعقد لابنه الملك من بعده. قال اليمانى: وكان الشيخ الحسن بن مصعب. ثم قال ذو الرياستين: قال على بن بلال: سيهلك فى الدنيا شفيق عليكم ... إذا غاله من حادث الدّهر غائله ويخفى لكم حبّا شديدا ورهبة ... وللناس أشغال، وحبّك شاغله كريم يميت السرّ حتى كأنه ... إذا استخبروه عن حديثك، جاهله يودّ بأن يمسى عليلا لعلّها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله ويرتاح للمعروف فى طلب العلا ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله «1» وذكر أعرابى الهوى فقال: هو أعظم مسلكا فى القلب من الرّوح فى الحسم، وأملك بالنفس من النّفس. يظهر ويبطن، ويكثف ويلطف، فامتنع عن وصفه اللسان، وعيى عنه البيان! فهو بين السّحر والجفون، لطيف المسلك والكمون. وأنشد: يقولون لو دبّرت بالعقل حبّها ... ولا خير فى حبّ يدبّر بالعقل [من رسائل الميكالى] فصل للأمير أبى الفضل الميكالى: لا زالت الأيام تزيد رتبته ارتفاعا، وباعه اتّساعا، وعزّته غلبة وامتناعا، فلا يبقى مجد إلا شيّدته معاليه ومكارمه، ولا ملك إلّا افترعته صرائمه وصوارمه. وله فصل: لا زالت حياة الأحرار بفضله متّسمة، ووجوه المكارم بغرر أيامه مبتسمة، وأهواء الصدور بخدمة ودّه مرتسمة، [وغنائم الشكر بين محاسن قوله وفعله مقتسمة] . وله: الله يديم راية الأمير الجليل محفوفة بالفلج والنصر، مكنوفة «2» بالغلبة

والقهر، حتى لا يزاول خطبا إلا تذلّلت به صعابه، ولا يمارس أمرا إلا تيسّرت أسبابه، ولا يروم «1» حالا إلا أذعن لهيبته وسلطانه، وخضع لسيفه وسنانه، وذلّ لمعقد لوائه، ومنثنى عنانه، إلى أن ينال من آماله أقاصيها، ويملك من باغيه أزمّتها ونواصيها [ويسامى الثريا بعلوّ همته ويناصيها] . وله فصل: إنما أشكو إليك زمانا سلب ضعف ما وهب، وفجع بأكثر مما أمتع، وأوحش فوق ما آنس، وعنف فى نزع ما ألبس؛ فإنه لم يذقنا حلاوة الاجتماع، حتى جرّعنا مرارة الفراق، ولم يمتعنا بأنس الالتقاء، حتى غادرنا رهن التلهّف والاشتياق، والحمد لله تعالى على كل حال يسىء ويسر، ويحلو ويمر، ولا أيأس من روح الله فى إباحة صنع يجعل ربعه مناخى «2» ، ويقصّر مدة البعاد والتراخى، فألاحظ الزمان بعين راض، ويقبل إلىّ حظّى بعد إعراض، وأستأنف بعزّته عيشا سابغ الذيول والأعطاف، رقيق المعانى والأوصاف، عذب الموارد والمناهل، مأمون الآفات والغوائل. وله فصل: أنا أسأل الله تعالى أن يردّ على برد العيش الذى فقدته، وفسحة السرور الذى عهدته؛ فيقصر من الفراق أمده، ويعلو للالتقاء حكمه ويده، ويرجع ذلك العهد الذى رقّت غلائله، وصفت من الأقذاء مناهله، فلم أتهنّأ بعده بأنس مقيم، ولا تعلّقت يوما إلا بعيش بهيم. فلو ترجع الأيام بينى وبينه ... بذى الأثل صيفا مثل صيفى ومربعى أشدّ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطّع وما على الله بعزيز أن يقرّب بعيدا، ويهب طالعا سعيدا، ويسهّل عسيرا، ويفكّ من رقّ الاشتياق أسيرا.

وله فصل من كتاب إلى أبى منصور عبد الملك الثعالبى: قرأت خبر سلامته، فسرى السرور فى الجوانح، واهتزّت النفس له اهتزاز الغصن تحت البارح: أليس لأخبار الأحبّة فرحة ... ولا فرحة العطشان فاجأه القطر يقولون: قد أوفى لوقت كتابه ... فتنتشر البشرى وبنشرح الصّدر ثم سألت الله تعالى أن يحرس علينا سلامته سابغة الملابس والمطارف، موصولة التالد بالطّارف. وله فصل من كتاب تعزية عن أبى العباس بن الإمام أبى الطيب: لئن كانت الرزيّة ممضّة مؤلمة، وطرق العزاء والسلوة مبهمة، لقد حلّت بساحة من لا تنتقض بأمثالها مرائره، ولا تضعف عن احتمالها بصائره، قد يتلقّاها بصدر فسيح، يحمى أن يبيخ الحزن جنابه، وصبر مشيح، يحمى أن يحبط الجزع أجره وثوابه؛ كيف لا وآداب الدين من عنده تلتمس، وأحكام الشرع من لسانه ويده تستفاد وتقتبس، والعيون ترمقه فى هذه الحال لتجرى على سننه، وتأخذ بآدابه وسننه؛ فإن تعزّت القلوب فبحسب تماسكه عزاؤها، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤها. [من شعر الميكالى] جملة من شعره فى تحسين القوافى والغزل قال: عذيرى من جفون راميات ... بسهم السّحر من عينى غزال غزانى طرفه حتى سبانى ... لأنتصرنّ منه بمن غزالى وله أيضا: أما حان أن يشتفى المستهام ... بزورة وصل وتأوى له «1»

[الاهتزاز لقضاء حوائج الناس]

يجمجم عن سؤله هيبة ... ويعلم؟؟؟ علمك تأويله وقال أيضا: شكوت إليه ما ألاقى فقال لى: ... رويدا ففى حكم الهوى أنت مؤتلى فلو كان حقّا ما ادّعيت من الجوى ... لقلّ بما ألقى إذا أن تموت لى وقال أيضا: تفرّق قلبى فى هواه فعنده ... فريق وعندى شعبة وفريق إذا ظمئت نفسى أقول لها: اسقنى ... فإن لم يكن راح لديك فريق «1» وقال أيضا: شافه كفّى رشأ ... بقبلة ما شفت فقلت إذ قبّلها ... يا ليت كفّى شفتى وقال: يا شادنا غاب نجم الحسن لولاه ... قد كان يوسف لما مات ولّاه ولّاه رقّى ظرف فى شمائله ... فاشتطّ فى الحكم لولا أن تولّاه ارحم فتى مدنفا ما إن يخلّصه ... من غمرة الوجد إلا أنت والله [الاهتزاز لقضاء حوائج الناس] قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: حدثنى أبو الهيثم بن السندى بن شاهك قال: قلت فى أيام ولايتى الكوفة لرجل من أهلها لا يجفّ قلمه ولا تستريح يده، ولا تسكن حركته فى طلب حوائج الناس، وإدخال المنافع على الضعفاء، وكان رجلا مفوّها: أخبرنى عن الشىء الذى هوّن عليك النصب، وقوّاك على التّعب، ما هو؟

[بين عميلة الفزارى وأسيد بن عنقاء]

قال: قد، والله، سمعت تغريد الأطيار بالأسحار على أفنان الأشجار، وسمعت [خفق] أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ طربى من ثناء حسن، على رجل قد أحسن، ومن شاكر منعم، ومن شفاعة شفيع محتسب لطالب ذاكر فقال أبو الهيثم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرما! فبأى شىء سهلت عليك المعاودة والطلب؟ قال: لا أبلغ المجهود، ولا أسأل إلا ما يجوز، وليس صدق العذر بأكره إلىّ من إنجاز الوعد، ولست لإكراه السائل بأكره منى لإجحاف المسئول، ولا أرى الراغب أوجب حقا علىّ للذى قدم من حسن ظنه من المرغوب إليه للذى احتمل من كله. قال إبراهيم: ما سمعت كلاما قطّ أشدّ مؤالفة لموضعه، ولا أليق بمكانه، من هذا الكلام. [بين عميلة الفزارى وأسيد بن عنقاء] وروى أبو بكر بن شقير النحوى عن أحمد بن عبيد قال: كان أسيد بن عنقاء الفزارى من أكبر أهل زمانه «1» ، وأشدّهم عارضة ولسانا، وطال عمره، ونكبه دهره؛ فاختلّت حاله، فخرج يتبقل «2» لأهله؛ فمرّ عليه عميلة الفزارى، فسلم عليه، وقال: يا عم؛ ما أصارك إلى ما أرى؟ قال: بخل مثلك بماله، وصون وجهى عن مسألة الناس. قال: أما والله لئن بقيت إلى غد لأغيرنّ من حالك ما أرى، فرجع ابن عنقاء إلى أهله فأخبرهم بما قال عميلة، فقالوا له: غرّك كلام غلام جنح ظلام فكأنما ألقموا فاه حجرا؛ فبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان السّحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟

[من غرر المدائح]

قالوا: عميلة قد ساق إليك ماله، فخرج ابن عنقاء له «1» ، فقسم ما له شطرين، وساهم عليه، فأنشأ ابن عنقاء يقول: رآنى على ما بى عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالى، أسرّ كما جهر دعانى فواسانى، ولو ضنّ لم يلم ... على حين لا بدو يرجّى ولا حضر فقلت له خيرا، وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أوليت من ذمّ أوشكر «2» ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى بثوب سابغ الذيل واتزر «3» غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر كأنّ الثريا علّقت فى جبينه ... وفى أنفه الشّعرى وفى خدّه القمر إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ، ولو شاء لانتصر [من غرر المدائح] وأنشد أبو حاتم عن أبى عبيدة للعرندس أحد بنى بكر بن كلاب يمدح بنى عمرو الغنويين، وكان الأصمعى يقول: هذا من «4» المحال، كلابىّ يمدح غنويا! هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار إن يسألوا العرف يعطوه، وإن خبروا ... فى الجهد أدرك منهم طيب أخبار لا ينطقون عن الأهواء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى منهم وفيهم يعدّ الخير متّلدا ... ولا يعدّ نثا خزى ولا عار [صروف الدهر] فصل لبعض الكتاب- ما تعجّبك مما لقيت من الحيف! هل ضمن الدهر أن

[من لا يوفى النعم حقها]

ينصف ولا يحيف «1» ، أو يبرم فلا ينقض، أو يعافى فلا يمرض، أو يصفو فلا يكدّر، أو يفى فلا يغدر؟ قدّر أن تعذب لى مشاربه، وتلين لى جوانبه، فحكم الدنيا لا تترك حامدا لها إلّا أسكتته، ولا ضاحكا إلّا أبكته، أقوى ما كان بها ثقة، وأشد ما كان لها مقة «2» ، وأوكد ما كان ركونا إليها، وأعظم ما كان حرصا عليها. [من لا يوفى النعم حقّها] وقال بعض الكتّاب يصف رجلا بالذم: ما ظنّك بمن يعنف بالنعم عنف من ساءته مجاورتها، ويستخفّ بحقها استخفاف من ثقل عليه حملها، ويطّرح الشكر عليها اطراح من لا يعلم أن الشكر يرتبطها. [عود إلى غرر المدائح] وقال أبو الشيص: يا من تمنّى على الدنيا مبالغها ... هلا سألت أبا بشر فتعطاها ما هبّت الريح إلّا هبّ نائله ... ولا ارتقى غاية إلّا تخطّاها غيره: طلاب العلا إلّا عليك يسير ... وباع الأعادى عن مداك قصير إذا عدّ أهل الفضل كنت الذى له ... وللفضل فيه أول وأخير وقال أبو الحجناء الأصغر نصيب يصف إسحاق بن صباح: كأنّ ابن صبّاح، وكندة حوله ... إذا ما بدا، بدر توسّط أنجما على أنّ فى البدر المحاق، وإن ذا ... تمام فما يزداد إلا تتمما

[فعلات الأجواد]

نرى المنبر الغربىّ يهتزّ تحته ... إذا ما علا أعواده وتكلّما فأنت ابن خير الناس إلا نبوّة ... ومن قبلها كنت السنام المقدّما ونصيب هو القائل فى البرامكة، وكان منقطعا إليهم: عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع إن العروق إذا استسر بها الثّرى ... أثّ النبات بها وطاب المزرع «1» فإذا جهلت من أمرىء أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع أخذ هذا من قول سلم الخاسر: لا تسأل المرء عن خلائقه ... فى وجهه شاهد من الخبر وقال نصيب فى بنى سليمان بن علىّ: بنى سليمان حزتم كلّ مكرمة ... وليس فوقكم فخر لمفتخر لا تسأل المرء يوما عن خلائقه ... فى وجهه شاهد ينبيك عن خبر حسب امرىء شرفا أن ساد أسرته ... وأنت سدت جميع الجنّ والبشر سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلا حاجة، فلم يقضها، وسأل آخر، فقضاها، فقال للأول: ذممت ولم تحمد، وأبت بحاجة ... تولّى سواكم شكرها واصطناعها أبى لك فعل الخير رأى مقصّر ... ونفس أضاق الله بالبخل باعها إذا ما أرادته على الخير مرّة ... عصاها، وإن همّت بشرّ أطاعها [فعلات الأجواد] قال رجل لهشام بن عبد الملك: قد افتقرت يا أمير المؤمنين إلى ظهور حسن رأيك، فإن رأيت إظهاره بسرور الصديق، ورغم العدو، فعلت،

قال هشام: أوجزت وملحت فيما سألت؛ فلا تردّ لك طلبة، فما سأله شيئا إلا أعطاه أكثر منه. قال حميد بن بلال: ولى عمرو بن مسعدة فارس وكرمان، فقال له بعض أصحابه: أيها الأمير، لو كان الحياء يظهر سؤالا لدعاك حيائى من كرمك فى جميع أهليك إلى الإقبال علىّ بما يكثر به حسد عدوّى، دون أن أسألك، فقال عمرو: لا تبغ ذلك بابتذالك ماء وجهك، ونحن نغنيك عن اراقته فى خوض السؤال، فارفع ما تريده فى رقعة يصل إليك سرا، ففعل. وقال رجل من أهل فارس: قدم على محمد بن طيفور، وهو عامل على بلاد أصبهان لبعض أهلها: كم تقدّرون صلات محمد فى كلّ سنة للشعراء والمتوسلين؟ قالوا: مائة ألف دينار، سوى الخلع والحملان «1» . وورد عليه يوما كتاب من بعض إخوانه فى شأن رجل استماحه له فى درجه «2» : أنت أعزّك الله تعالى أجلّ من أن يتوسّل بغيرك إليك، وأن يستماح جودك إلّا بك، غير أنى أذكرك بكتابى فى أمر حامله، ما شرع كرمك [من الشكر] وزرع إحسانك من الأجر، قبل الصادرين والواردين؛ فهنّاك الله تعالى ذلك، ولا زالت يد الله بجميل إحسانه ونعمته متواترة عليك. فقال محمد للرجل: احتكم لك وله؛ فأخذ منه ألف دينار، ولمن كتب له مثلها. وقال رجل لإبراهيم بن المهدىّ: قد أوحشنى منك تردّد غليل فى صدرى أهابك عن إظهاره، واجلّك عن كشفه، فقال له إبراهيم: لكنى أكشف لك معروفى، وأطهر إحسانى؛ فإن يكن غير هذين فى خلدك، فاكتب رقعة يخرج توقيعى؟؟؟ سرا لتقف على ما تحبّ، فبلغ كلامه المهدى فقال: هذا والله غاية الكرم.

[من نوادر الرثاء]

وكتب محمد بن طيفور لبعض خاصته بمال كثير وصل به، فكتب الرجل إليه: قد استغرقت نعمتك وجوه الشكر لك، وغرر الحمد فيما سلف منك، ولولا فرط عجزى عن تلقّى ما يجب لك من الحمد لقبلت ما أنفذته. فكتب إليه محمد: قد صغّر شكرك لنا ما أسلفناه إليك؛ فخذ ما أنفذناه ثوابا عن معرفتك بشكر التافه «1» عندى، وإلّا سمح شكرك بما رأيناك له أهلا إلى أن يتسع قبول مثلك ما يستحقّ به جميل الدعاء، وجزيل الثناء، إن شاء الله تعالى. [من نوادر الرثاء] ولما مات قرد زبيدة بنت جعفر ساءها ذلك، ونالها من الغمّ ما عرفه الصغير والكبير من خاصّتها، فكتب إليها أبو هارون العبدىّ: أيتها السيدة الخطيرة؛ إنّ موقع الخطب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور بنيل الكثير المفرح، ومن جهل قدر التعزية عن التّافه الخفىّ، عمى عن التهنئة بالجليل السّنىّ، فلا نقصك الله الزائد فى سرورك، ولا حرمك أجر الذاهب من صغيرك. فأمرت له بجائزة. وكتب أبو إسحاق الصابى عن ابن بقية فى أيام وزارته إلى أبى بكر بن قريعة يعزّيه عن ثور أبيض بقوله، وجلس للعزاء عنه تراقعا وتحامقا: التعزية على المفقود أطال الله بقاء القاضى إنما تكون بحسب محلّه من فاقده، من غير أن تراعى قيمته ولا قدره، ولا ذاته ولا عينه؛ إذ كان الغرض فيها تبريد الغلّة، وإخماد اللّوعة، وتسكين الزّفرة، وتنفيس الكربة، فربّ ولد

عاق، وشقيق مشاقّ، ودى رحم أصبح لها قاطعا، [ولأهله فاجعا] ، وقريب قوم قد قلّدهم عارا، وناط بهم شنارا، فلا لوم على ترك التعزية عنه، وأحر بها أن تستحيل تهنئة بالراحة منه؛ وربّ مال صامت غير ناطق، قد كان صاحبه به مستظهرا، وله مستثمرا، فالفجيعة به إذا فقد موضوعة موضعها، والتعزية عنه واقعة منه موقعها. وقد بلغنى أن القاضى أصيب بثور كان له، فجلس للعزاء عنه شاكيا، وأجهش عليه باكيا، والندم عليه والها «1» ، وحكيت عنه حكايات فى التأبين له، وإقامة النّدبة عليه، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقر التى تفرقت فى غيره، واجتمعت فيه وحده؛ فصار كما قال أبو نواس، فى مثله من الناس: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد لأنه يكرب الأرض مغمورة «2» ، ويثيرها مزروعة، ويرقص فى الدواليب ساقيا وفى الأرحاء طاحنا، ويحمل الغلّات مستقلا، والأثقال مستخفّا؛ فلا يؤوده عظيم، ولا يعجزه جسيم، ولا يجرى فى الحائط» مع شقيقه، ولا فى الطريق مع رفيقه، إلا كان جلدا لا يسبق، ومبرّرا لا يلحق، وفائتا لا ينال شأوه وغايته، ولا يبلغ مداه ونهايته. ويشهد الله أنّ ما ساءه ساءنى، وما آلمه آلمنى، ولم يجز عندى فى حق ودّه استصغار خطب جلّ عنده، فأرقه وأمضّه وأقلقه، ولا تهوين صعب بلغ منه وأرمضه، وشفّه وأمرضه؛ فكتبت هذه الرقعة، قاضيا بها من الحق فى مصابه هذا بقدر ما أظهر من إكباره إياه، وأبان من إعظامه له؛ وأسأل الله تعالى أن يخصّه من المعوضة بأفضل ما خص به البشر، عن البقر، وأن يفرد هذه البهيمة العجماء بأثرة من الثواب، يضيفها إلى المكلّفين من أهل

الألباب «1» ؛ فإنها وإن لم تكن منهم، فقد استحقّت ألّا تفرد عنهم، بأن مسّ القاضى سببها، وصار إليه منتسبها، حتى إذا أنجز الله ما وعد به [عباده المؤمنين] من تمحيص سيئاتهم، وتضعيف حسناتهم، والإفضاء بهم إلى الجنة التى رضيها لهم دارا، وجعلها لجماعتهم قرارا؛ وأورد القاضى- أيّده الله تعالى- موارد أهل النعيم، مع أهل الصراط المستقيم، جاء وثوره هذا مجنوب معه، مسموح له به؛ وكما أنّ الجنة لا يدخلها الخبث، ولا يكون من أهلها الحدث، ولكنه عرق يجرى من أعراضهم، كذلك يجعل الله ثور القاضى مركبا من العنبر الشّخرى، وماء الورد الجورى؛ [فيصير ثورا له طورا؛ وجونة عطر «2» له طورا] وليس ذلك بمستبعد ولا مستنكر، ولا مستصعب ولا متعذّر؛ إذ كانت قدرة الله بذلك محيطة، ومواعيده لأمثاله ضامنة، بما أعدّه الله فى الجنة لعباده الصادقين، وأوليائه الصالحين؛ من شهوات أنفسهم وملاذّ أعينهم، وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائض كرمه، بمانعه ذلك مع صالح مساعيه، ومحمود شيمه؛ وقلبى متعلّق بمعرفة خبره، أدام الله عزّه فيما ادّرعه من شعار الصبر، واحتفظ به من إيثار الأجر، ورفع إليه من السكون لأمر الله تعالى فى الذى طرقه، والشكر له فيما أزعجه وأقلقه، فليعرفنى القاضى من ذلك ما أكون ضار با معه بسهم المساعدة عليه، وآخذا بقسط المشاركة فيه. فصل من جواب أبى بكر: وصل توقيع سيدنا الوزير أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه، وأكمل رفعته وعلاه، وحرس مهجته ووقاه، بالتعزية عن الثور الأبيض، الذى كان للحرث مثيرا، وللدواليب مديرا، وبالسبق إلى سائر المنافع شهيرا، وعلى شدائد الزمان مساعدا وظهيرا «3» . لعمرك لقد كان بعمله

[عود إلى المختار من الرثاء]

ناهضا، ولحماقات البقر رافضا، وأنّى لنا بمثله وشرواه «1» ، ولا شروى له؛ فإنه كان من أعيان البقر، وأنفع أجناسه للبشر، مضاف ذلك إلى خلّات لولا خوفى من تجدّد الحزن عليه، وتهييج الجزع وانصرافه إليه لعددتها؛ ليعلم- أدام الله عزه- أن الحزين عليه غير ملوم. وكيف يلام امرؤ فقد من ماله قطعة يجب فى مثلها الزكاة، ومن خدم معيشته بهيمة تعين على الصوم والصلاة، وقد احتذيت ما مثّله الوزير من جميل الاحتساب، والصبر على المصاب؛ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون قول من علم أنه أملك لنفسه وماله وأهله «2» وأنه لا يملك شيئا دونه؛ إذ كان جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، هو الملك الوهّاب، المرتجع ما ارتجع مما يعوض عليه نفيس الثواب. وقد وجدت- أيد الله الوزير- للبقر خاصة فضيلة على سائر بهيمة الأنعام، تشهد بها العقول والأفهام، وذكر جملة من فضائلها. وكأنّ أبا نواس فى قوله: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد نظر فى هذا المعنى إلى قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا [عود إلى المختار من الرثاء] وقالت امرأة من العرب، يقال: إنها امرأة العباس عمّ النبى صلى الله عليه وسلم، ترثى بنيها «3» : رعوا من المجد أكنافا إلى أجل ... حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا ميت بمصر، وميت بالعراق، ... وميت بالحجاز، منايا بينهم بدد كانت لهم همم فرّقن بينهم ... إذا القعاديد عن أمثالهم قعدوا

بثّ الجميل، وتفريج الجليل، وإعطاء الجزيل الذى لم يعطه أحد وقال عبدة بن الطبيب فى قيس بن عاصم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترّحما تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «1» فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما وقيس بن عاصم هو القائل: إنى امرؤ لا يعترى حسبى ... دنس يغيّره ولا أفن من منقر فى بيت مكرمة ... والأصل ينبت حوله الغصن «2» خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفّة لسن «3» لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحسن جواره فطن وقالت أخت الوليد بن طريف الشيبانى ترثيه: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يعدّ الزاد إلّا من التّقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف عليك سلام الله وقفا؛ لأننى ... أرى الموت وقّاعا بكل شريف فقدناك فقدان الربيع، وليتنا ... فديناك من فتياننا بألوف وخرج الوليد فى أيام الرشيد، فقتله يزيد بن مزيد، وفى ذلك يقول بكر ابن النطاح الحنفى: يا بنى تغلب لقد فجعتكم ... من يزيد سيوفه بالوليد لو سيوف سوى سيوف يزيد ... قارعته لاقت خلاف السعود واتر بعضها يقتل بعضا ... لا يفلّ الحديد غير الحديد

[من شعر بكر بن النطاح]

[من شعر بكر بن النطاح] وكان بكر كثير التعصب لربيعة والمدح فيهم، وهو القائل: ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل ونحن وصفنا دون كل قبيلة ... بشدة بأس فى الكتاب المنزّل وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت ... فتاة بعفد أو سخاب قرنفل «1» يريد قول الله عز وجل: «سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» . جاء فى بعض التفاسير أنهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب. وبكر القائل أيضا فى أبى دلف: يا عصمة العرب الذى لو لم يكن ... حيّا لقد كانت بغير عماد إنّ العيون إذا رأتك حدادها ... رجعت من الإجلال غير حداد وإذا رميت الثغر منك بعزمة ... فتّحت منه مواضع الأسداد فكأن رمحك منقع فى عصفر ... وكأنّ سيفك سلّ من فرصاد لوصال من غضب أبو دلف على ... بيض السيوف لذبن فى الأغماد أذكى وأوقد للعداوة والقرى ... نارين نار وغى ونار زناد وأبو دلف هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شنج بن معاوية بن خزاعى بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل ابن لجيم. وقد رويت الأبيات التى مرت لأخت الوليد بن طريف لعبد الملك بن بجرة النميرى. وقال أبو هفّان واسمه منصور بن بجرة، قال: أنشدنى دعبل لنفسه: وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك؟؟؟ مثل افتقاد الدّيم

عليك السلام فكم من وفاء ... أفارق منك وكم من كرم فقلت: أحسنت، ولكن سرقت البيتين من ربيعيين: الأول من قول القطامى: ما للكواعب ودّعن الحياة كما ... ودّعننى واتخذن الشيب ميعادى والثانى من قول ابن بجرة: فقدناك فقدان الربيع وليتنا وأنشد البيت. فقال: بلى، والله سرق الطائى من ابن بجرة بيتا كاملا فقال: عليك سلام الله وقفا فإننى ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر كذا وردت الحكاية من غير وجه، وكان يجب إذا كان من ربيعيين أن يكون «فقدناك فقلدن الربيع» لأخت الوليد. وقد قال السموءل فى قصر العمر: يقرب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وقال ابن قتيبة: أخذ النميرى قوله: «أيا شجر الخابور» من قول الجن فى عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه باسوق وقد أنشده أبو تمام الطائى للشماخ فى أبيات أولها: جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزّق [ومن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق] قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... نوافج فى أكمامها لم تفتّق «1» وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّى سبنتى أزرق العين مطرق تظل الحصان البكر تلقى جنينها ... نثا خبر فوق المطىّ معلّق

[من كلاب الأعراب]

وقد قال بشار قريبا من قوله: [ولا المال إلا من قنا وسيوف] : على جنبات الملك منه مهابة ... وفى الدرع عبل الساعدين قروع إذا اختزن المال البخيل فإنمه ... خزائنهم خطّيّة ودروع وهذا كقول أبى الطيب المتنبى فى فاتك الإخشيدى: كنا نظن دياره مملوءة ... ذهبا فمات وكلّ دار بلقع وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شىء يجمع «1» ومن بارع هذا النحو قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثى: وإنى لأرباب القبور لغابط ... لسكنى سعيد بين أهل المقابر وإنى لمفجوع به إذ تكاثرت ... عداتى ولم أهتف سواه بناصر وكنت كمغلوب على نصل سيفه ... وقد حزّ فيه نصل حرّان باتر أتيناه زوّارا فأمجدنا قرّى ... من البثّ والداء الدخيل المخامر وأبنا بزرع قد نما فى صدورنا ... من الوجد يسقى بالدموع البوادر ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... أصبنا عظيمات اللهى والمآثر «2» أى لم نصب مالا، ولكنا أصبنا فعالا. [من كلاب الأعراب] دخلت أعرابية على عبد الله بن أبى بكرة بالبصرة، فوقفت بين السّماطين «3» ، فقالت: أصلح الله الأمير، وأمتع به؛ حدرتنا إليك سنة اشتدّ بلاؤها، وانكشف غطاؤها، أقود صبية صغارا، وآخرين كبارا، فى بلد شاسعة، تخفضنا خافضة، وترفعنا رافعة، لملمّات من الدهر برين عظمى، وأذهبن لحمى، وتركتنى والهة أدور بالحضيض، وقد ضاق بى البلد العريض، فسألت فى أحياء العرب: من الكاملة فضائله، المعطى سائله، المكفىّ نائله «4» ؛

فدللت عليك- أصلحك الله تعالى- وأنا امرأة من هوازن؛ وقد مات الوالد، وغاب الرّافد، وأنت بعد الله غياثى، ومنتهى أملى، فافعل بى إحدى ثلاث: إما أن تردّنى إلى بلدى، أو تحسن صفدى «1» . أو تقيم أودى! فقال: بل أجمعها لك، فلم يزل يجرى عليها كما يجرى على عياله، حتى ماتت. قال العتبىّ: وقف أعرابىّ بباب عبيد الله بن زياد، فقال: يأهل الغضارة «2» ، حقب السحاب «3» ، وانقشع الرّباب «4» ، واستأسدت الذّئاب، وردم الثّمد، وقلّ الحفد «5» ، ومات الولد، وكنت كثير العفاة، صخب السقاة، عظيم الدّلاة «6» ، لا أتضاءل للزمان، ولا أحفل بالحدثان، حىّ حلال «7» ، وعدد ومال، فتفرقنا أيدى سبا، بعد فقد الأبناء والآباء؛ وكنت حسن الشارة، خصيب الدّارة، سليم الجارة، وكان محلى حمى، وقومى أسى، وعزمى جدا؛ قضى الله ولا رجعان لما قضى، بسواف المال «8» ، وشتات الرجال، وتغيّر الحال، فأغيثوا من شخصه شاهده، ولسانه وافده، وفقره سائقه وقائده. [من مقامات بديع الزمان] ومن مقامات الإسكندرى من إنشاء بديع الزمان، قال: حدثنا عيسى بن هشام، قال: دخلت البصرة وأنا من سنّى فى فتاء «9» ، ومن الزّىّ فى حبر ووشاء «10» ، ومن الغنى فى بقر وشاء؛ فأتيت المربد مع رفقة تأخذهم العيون، ودخلنا غير بعيد فى بعض تلك المتنزهات، ومشينا فى تلك المتوجّهات، وملكتنا أرض فحللناها، وعمدنا لقداح اللهو فأجلناها، مطّرحين للحشمة،

إذ لم يكن فينا إلا منّا، فما كان إلّا بأسرع من ارتداد الطّرف حتى عنّ لنا سواد، تخفضه وهاد، وترفعه نجاد، وعلمنا أنه يهم بنا، فأتلعنا «1» له، حتى انتهى إلينا «2» سيره، ولقينا بتحية الإسلام، ورددنا عليه مقتضى السلام؛ ثم أجال فينا طرفه وقال: يا قوم؛ ما منكم إلّا من يلحظنى شزرا، ويوسعنى زجرا «3» ، ولا ينبئكم عنى، بأصدق منى؛ أنا رجل من أهل الإسكندرية، من الثغور الأموية، قد وطّأ لى الفضل كنفه، ورحبت بى عبس، ونمانى بيت، ثم جعجع بى الدهر عن ثمّه ورمّه «4» ، وأتلانى زغاليل حمر «5» الحواصل: كأنهم حيّات أرض محلة ... فلو يغضّون لذكىّ سمّهم إذا نزلنا أرسلونى كاسبا ... وإن رحلنا ركبونى كلهم ونشزت علينا البيض «6» ، وشمست منا الصّفر، وأكلتنا السّود «7» ، وحطمتنا الحمر، وانتابنا أبو مالك، فما تلقّانا أبو جابر إلّا عن عفر «8» ، وهذه البصرة ماؤها هضوم، وفقيرها مهضوم، والمرء من ضرسه فى شغل، ومن نفسه فى كلّ، فكيف بمن: يطوّف ما يطوّف ثم يأوى ... إلى زغب محدّدة العيون كساهنّ البلى شعثا فتمسى ... جياع الناب ضامرة العيون ولقد أصبحن اليوم وقد سرّحن الطّرف فى حىّ كميت، وفى بيت كلا بيت، وقلبن الأكفّ على ليت، فقضضن عقد الضلوع، وأفضن ماء الدموع، وتداعين باسم الجوع: والفقر فى زمن اللثا ... م لكلّ ذى كرم علامه

[من رسائل البديع]

وقد اخترتكم يا سادة، ودلّتنى عليكم السعادة، وقلت: قسما، إن فيهم شيما، فهل من فتى يعشّيهن، أو يغشّيهن؟ وهل من حرّ يغدّيهن، أو يردّيهن؟ قال عيسى بن هشام: فوالله ما استأذن على سمعى كلام رائع أبرع مما سمعت، لاجرم أنا استمحنا الأوساط، ونفضنا الأكمام، وبحثنا الجيوب «1» ؛ وأنلته مطرفى، وأخذت الجماعة أخذى، وقلنا له: الحق بأطفالك، فأعرض عنّا بعد شكر وفّاه، ونشر ملأ به فاه. [من رسائل البديع] ومن رسائله إلى بعض الرؤساء: خلقت- أطال الله بقاء السيد وأدام تأييده- مشروح جنان الصدر، جموح عنان الحلم «2» ، فسيح رقعة الصدر: حمولا صبورا لو تعمّدنى الردى ... لسرت إليه مشرق الوجه راضيا ألوفا وفيّا لو رددت إلى الصّبا ... لفارقت شيبى موجع القلب باكيا والله لأحيلنّ السيد على الأيام، ولأكلنّ استحالة رأيه فىّ على الليالى، ولا أزال أصفيه الولاء، وأسنيه الثناء، وأفرش له من صدرى الدّهناء، وأعيره أذنا صماء، حتى يعلم أىّ علق باع، وأىّ فتى أضاع، وليقفنّ موقف اعتذار، وليعلمنّ بنصح أتّى الواشون أم بحبول «3» ، ولا أقول: يا حالف اذكر حلّا، ولكن يا عاقد «4» اذكر حلّا، ولست كمن يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى رهطه، ويستاق إلى رمى يزيد لسبطه «5» ، ولكنى أقول: هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

[عود إلى غرر المديح]

وأنا أعلم أن السيد لا يخرج عن تلك الحلية، بهذه الرّقية، وأن جوابه أخشن من لقائه، فإن نشط للاجابة فلتكن المخاطبة قرأت رقعتك، فهو أخف مؤنة، وأقل تبعة. وله إلى [الشيخ] العميد: أنا- أطال الله بقاء الشيخ العميد-[مع إخوان نيسابور] فى ضيعة لا فيها أعان، ولا عنها أصان، وشيمة ليست بى تناط، ولا عنى تماط، وحرفة لا عنّى تزال، ولا فيها أدال، وهى الكدية التى علىّ تبعتها، وليس لى منفعتها، فهل للشيخ العميد أن يلطف بصنيعته لطفا يحط عنه درن العار، وشيمة التكتّب بالأشعار «1» ، ليخفّ على القلوب ظلّه، ويرتفع عن الأحرار كله «2» ، ولا يثقل على الأجفان شخصه، بإتمام ما كان عرضه عليه من أشغاله، ليعلق بأذياله، ويستفيد من خلاله؛ فيكون قد صان العلم عن ابتذاله، والفضل عن إذلاله «3» ، واشترى حسن الثناء بجاهه، كما يشتريه بماله، والشيخ العميد فيما يوجبه من وعد يعتمده، ووفاء يتلو ما يعده، عال رأيه إن شاء الله [عود إلى غرر المديح] وقال بعض أهل العصر، وهو أبو العباس الناشىء، يمدح سعد الدولة أبا المعالى شريف بن سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان: كأن مرآة فهم الدهر فى يده ... يرى بها غائب الأشياء لم يغب ما يرفع الفلك العالى سماء علا ... إلا علاها شريف كوكب العرب يا من بعين الرضا يلقى مؤمله ... والبخل يطبق أجفانا على الغضب لو يكتب الملك أسماء الملوك إذا ... أعطاك موضع بسم الله فى الكتب

غرّبت فى كل يوم منك مكرمة ... فليس ذكرك فى أرض بمغترب بيته الأول كقول القائل: أطلّ على الأشياء حتى كأنما ... له من وراء الغيب مقلة شاهد [وكما قال] أبو تمام الطائى: أطلّ على كلا الأفقين حتى ... كأنّ الأرض فى عينيه دار «1» وأفرط ابن الرومى فقال: أحاط علما بكلّ خافية ... كأنما الأرض فى يديه كره وقال محمد بن وهيب: عليم بأعقاب الأمور، كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه وقال بعض شعراء بنى عبد الله بن طاهر: وقوفك تحت ظلال السيوف ... أقرّ الخلافة فى دارها كأنك مطّلع فى القلوب ... إذا ما تناجت بأسرارها وقال البحترى للفتح بن خاقان: كأنك عين فى القلوب بصيرة ... ترى ما عليه مستقيم ومائل وقال فى سليمان بن عبد الله بن طاهر: ينال بالظن ما فات اليقين به ... إذا تلبس دون الظن إيقان كأن آراءه والظن يجمعها ... تريه كل خفىّ وهو إعلان «2» ما غاب عن عينه فالقلب يذكره ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان وقال أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب يمدح عبيد الله بن سليمان [بن وهب الوزير] :

إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل الأنوران الشمس والقمر وإن مضى رأيه أوحدّ عزمته ... تأخّر الماضيان السيف والقدر من لم يبت حذرا من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان الخوف والحذر ينال بالظن ما يعيا العيان به ... والشاهدان عليه العين والأثر كأنه الدهر فى نعمى وفى نعم ... إذا تعاقب منه النفع والضرر كأنه وزمام الدهر فى يده ... يرى عواقب ما يأتى وما يدر وأصل هذا قول أوس بن حجر: الألمعىّ الذى يظن بك الظنّ كأن قد رأى وقد سمعا وهذا المعنى قد مرّ فى أثناء الكتاب. قال أبو الحسن جحظة البرمكى: قلت لخالد الكاتب: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أرقّ الناس شعرا، قلت: أتعرف قول الأعرابى: فما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف الليالى حيث لم تك ظنّت تمنّت أحاليب الرعاء، وخيمة ... بنجد، فلم يقدر لها ما تمنّت إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وريح الصبا من نحو نجد أرنّت «1» بأعظم من وجد بليلى وجدته ... غداة غدونا غدوة واطمأنّت وكانت رياح تجمل الحاج بيننا ... فقد بخلت تلك الرياح وضنّت فصاح خالد وقال: ويحك! ويلك يا جحظة! هذا والله أرقّ من شعرى.

[تكاليف المجد]

[تكاليف المجد] فصل لأبى العباس بن المعتز لن تكسب- أعزك الله- المحامد، وتستوجب الشرف، إلا بالحمل على النفس والجال «1» ، والنهوض بحمل الأثقال، وبذل الجاه والمال، ولو كانت المكارم تنال بغير مئونة لاشترك فيها السّفل والأحرار، وتساهمها الوضعاء مع ذوى الأخطار؛ ولكنّ الله تعالى خصّ الكرماء الذين جعلهم أهلها، فخفّف عليهم حملها، وسوّغهم فضلها، وحظرها على السّفلة لصغر أقدارهم عنها، وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم، واقشعرارها منهم. [وقال أبو الطيب المتنبى: لولا المشقّة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال] وقال الطائى: والحمد شهد لا يرى مشتاره ... يجنيه إلّا من نقيع الحنظل «2» شرّ لحامله، ويحسبه الّذى ... لم يؤذ عاتقه خفيف المحمل أخذه الطائى من قول مسلم بن الوليد، وقيل غيره: الجود أخشن مسّا يا بنى مطر ... من أن تبزّكموه كفّ مستلب ما أعلم الناس أنّ الجود مدفعة ... للذّمّ لكنّه يأتى على النّشب «3» وقال بعض الأجواد: إنا لنجد كما يجد البخلاء، ولكنّا نصبر ولا يصبرون. [احتمال الغضب] وقال الجاحظ: قيل لأبى عبّاد وزير المأمون، وكان أسرع الناس غضبا: إنّ لقمان الحكيم قال لابنه: ما الحمل الثقيل؟ قال: الغضب. قال أبو عباد:

نبذة من لطائف ابن المعتز، وفضل تحققه بالبديع والاستعارات مما تتعين العناية بمطالعتها

لكنّه والله أخفّ علىّ من الريش! قيل له: إنما عنى لقمان أنّ احتمال الغضب ثقيل، فقال: لا، والله لا يقوى على احتمال الغضب من الناس إلا الجمل! وغضب يوما على بعض كتّابه، فرماه بدواة كانت بين يديه فشجّه، فقال أبو عبّاد: صدق الله تعالى فى قوله: (والذين إذا ما غضبوا هم يعقرون) . فبلغ ذلك المأمون فأحضره، وقال له: ويحك! ما تحسن تقرأ آية من كتاب الله تعالى! قال: بلى يا أمير المؤمنين، إنى لأحفظ من سورة واحدة ألف آية؛ فضحك المأمون وأمر بإخراجه. نبذة من لطائف ابن المعتز، وفضل تحققه بالبديع والاستعارات مما تتعيّن العناية بمطالعتها قال أبو بكر الصولى: اجتمعت مع جماعة من الشعراء عند أبى العباس عبد الله بن المعتز، وكان يتحقق بعلم البديع تحققا ينصر دعواه فيه لسان مذاكرته، فلم يبق مسلك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شعبا من شعابه، وأوردنا أحسن ما قيل فى بابه، إلى أن قال أبو العباس: ما أحسن استعارة اشتمل عليها بيت واحد من الشعر؟ قال الأسدى: قول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها قال أبو العباس: هذا حسن، وغيره أحمد منه، وقد أخذه من قول ثعلبة ابن صعيرة المازنى «1» : فتذاكرا ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها فى كافر

وقول ذى الرمة أعجب إلىّ منه: ألا طرقت مىّ هيوما بذكرها ... وأيدى الثّريا جنّح فى المغارب وقال بعضنا: بل قول لبيد أيضا: ولقد حميت الخيل تحمل شكّتى ... فرط، وشاحى- إن غدوت- لجامها قال أبو العباس: هذا حسن، ولكن نعدل عن لبيد. وقال آخر: [قول الهذلى] : ولو أننى استودعته الشمس لاهتدت ... إليه المنايا عينها ورسولها قال أبو العباس: هذا حسن، وأحسن منه «1» - فى استعارة لفظ الاستيداع- قول الحصين بن الحمام؛ لأنه جمع الاستعارة والمقابلة فى قوله: نطاردهم نستودع البيض هامهم ... ويستودعونا السمهرى المقوّما «2» وقال آخر: بل قول ذى الرّمة: أقامت به حتى ذوى العود فى الثّرى ... وساق الثّريّا فى ملاءته الفجر قال أبو العباس: هذا لعمرى نهاية الخبرة؛ وذو الرمة أبدع الناس استعارة، وأبرعهم عبارة، إلا أنّ الصواب حتى «ذوى العود والثرى» ؛ لأن العود لا يذوى ما دام فى الثرى، وقد أنكره على ذى الرمة غير ابن المعتز. قال أبو عمرو ابن العلاء: كانت يدى فى يد الفرزدق فأنشدته هذا البيت، فقال: أرشدك أم أدعك؟ قال: فقلت: بل أرشدنى، فقال: إنّ العود لا يذوى فى الثّرى، والصواب «حتى ذوى العود والثرى» . قال الصولى: وكأنه نبه على ذى الرمة؛ فقلت: بل قوله: ولمّا رأيت الليل والشمس حيّة ... حياة الذى يقضى حشاشة نازع

[كتمان الحب]

قال أبو العباس: اقتدحت زندك يا أبا بكر فأورى «1» ، هذا بارع جدا، وقد سبقه إلى هذه الاستعارة جرير حيث يقول: تحيى الروامس ربعها وتجدّه ... بعد البلى فتميته الأمطار «2» وهذا بيت جمع الاستعارة والمطابقة؛ لأنه جاء بالإحياء والإماتة، والبلى والجدة، ولكن ذو الرمة قد استوفى ذكر الإحياء والإماتة فى موضع آخر فأحسن، وهو قوله: ونشوان من طول النعاس كأنه ... بحبلين فى مشطونة يترجّح «3» إذا مات فوق الرّحل أحييت روحه ... بذكرك والعيس المراسل جنّح فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إلا وقد غمره من بحر أبى العباس ما غاض معه معينه، ولم ينهض حتى زوّدنا من برّه ولطفه نهاية ما اتسعت له حاله. [كتمان الحب] وقال ابن المعتز: لما رأيت الحبّ يفضحنى ... ونمت علىّ شواهد الصبّ ألقيت غيرك فى ظنونهم ... وسترت وجه الحبّ بالحبّ وقال العباس بن الأحنف فى هذا المعنى: قد جرّر الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظّنّ غيركم ... وصادق ليس يدرى أنه صدقا [وقريب من هذا المعنى قول الفارضى رضى الله عنه، وإن لم يكن منه: تخالفت الأقوال فينا تباينا ... برجم أصول بيننا ما لها أصل «4»

فشنّع قوم بالوصال، ولم أصل ... وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل وما صدق التشنيع عنها لشقوتى ... وقد كذبت عنى الأراجيف والنقل] «1» وقال ابن المعتز: لنا عزمة صمّاء لا تسمع الرّقى ... تبيت أنوف الحاسدين على رغم وإنا لنعطى الحقّ من غير حاكم ... علينا، ولو شئنا لملنا مع الظلم وقد أخذه أبو العباس من قول أعرابى: ألا يا شفاء النفس ليس بعالم ... بك الناس حتى يعلموا ليلة القدر سوى رجمهم بالظنّ والظنّ كاذب ... مرارا وفيهم من يصيب ولا يدرى وقال الحسين بن مطير: لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى ... على كبدى نارا بطيئا خمودها ولو تركت نار الهوى لتضرّمت ... ولكنّ شوقا كلّ يوم يزيدها وقد كنت أرجو أن تموت صبابتى ... إذا قدمت أيامها وعهودها فقد جعلت فى حبّة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها بمرتجّة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف نهودها وصفر تراقيها، وحمر أكفّها ... وسود نواصيها، وبيض خدودها مخصّرة الأوساط، زانت عقودها ... بأحسن مما زيّنتها عقودها يمنّيننا حتى ترفّ قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طلّ يجودها وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتربان طويل عمودها «2» وقال: قضى الله يا أسماء أن لست بارحا ... أحبك حتى يغمض العين مغمض

فحبك بلوى غير أن لا يسرّنى ... وإن كان بلوى أننى لك مبغض «1» فواكبدا من لوعة البين كلّما ... ذكرت ومن رفض الهوى حين يرفض ومن عبرة تذرى الدموع وزفرة ... تقضقض أطراف الحشاثم تنهض «2» فياليتنى أقرضت جلدا صبابتى ... وأقرضنى صبرا على الشوق مقرض إذا أنا رضت القلب فى حبّ غيرها ... بدا حبّها من دونه يتعرّض وكان الحسين قوىّ أسر الكلام، جزل الألفاظ، شديد العارضة، وهو القائل فى المهدى: له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيمطر يوم الجود من كفّه النّدى ... ويقطر يوم البؤس من كفّه الدم فلو أن يوم البؤس خلّى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم ولو أن يوم الجود خلّى نواله ... على الأرض لم يصبح على الأرض معدم وأنشد أبو هفّان له: أين أهل العتاب بالدّهناء ... أين جيراننا على الأحساء جاورونا والأرض ملبسة نو ... ر الأقاحى تجاد بالأنواء «3» كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء أخذ هذا المعنى دعبل، ونقله إلى معنى آخر، فقال: أين الشباب؟ وأيّة سلكا؟ ... أم أين يطلب؟ ضلّ، بل هلكا لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقال مسلم بن الوليد فى هذا المعنى: مستعبر يبكى على دمنة ... ورأسه يضحك فيه المشيب

[معالى الأخلاق]

[معالى الأخلاق] وأنشد الزبير بن بكّار: أحبّ معالى الأخلاق جهدى ... وأكره أن أعيب وأن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشرّ الناس من حبّ السبابا وأترك قائل العوراء عمدا ... لاهلكه وما أعيا الجوابا ومن هاب الرجال تهيّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا [رياضة النفس «1» على الفراق] وعلى ذكر قوله: إذا أنا رضت القلب فى حبّ غيرها أنشد الأصمعى لغلام من بنى فزارة: وأعرض حتى يحسب الناس أنما ... بى الهجر، لا والله ما بى لها هجر [ولكن أروض النفس أنظر هل لها ... إذا فارقت يوما أحبّتها صبر] قال إسحاق الموصلى: قال لى الرشيد: ما أحسن ما قيل فى رياضة النفس على الفراق؟ قلت: قول أعرابى: وإنى لأستحيى عيونا، وأتّقى ... كثيرا، وأستبقى المودّة بالهجر فأنذر بالهجران نفسى أروضها ... لأعلم عند الهجر هل لى من صبر [فقال الرشيد: هذا مليح، ولكنى أستملح قول اعرابى آخر: خشيت عليها العين من طول وصلها ... فهاجرتها يومين خوفا من الهجر وما كان هجرانى لها عن ملالة ... ولكننى جرّبت نفسى بالصبر] «2»

قال الصولى: قال لى المبرد: عمك إبراهيم بن العباس أحزم رأيا من خاله العباس بن الأحنف فى قوله: كان خروجى من عندكم قدرا ... وحادثا من حوادث الزمن من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبى، وأن أستعدّ للحزن وقال عمك إبراهيم: وناجيت نفسى بالفراق أروضها ... فقالت: رويدا لا أغرّك من صبرى «1» فقلت لها: فالهجر والبين واحد ... فقالت أأمنى بالفراق وبالهجر» فقلت له: إنه نقل كلام خاله: عرضت على قلبى الفراق فقال لى ... من الآن فايأس لا أغرّك من صبرى إذا صد من أهوى رجوت وصاله ... وفرقة من أهوى أحرّ من الجمر وقال العباس بن الأحنف: أروض على الهجران نفسى لعلّها ... تماسك لى أسبابها حين أهجر وأعلم أن النفس تكذب وعدها ... إذا صدق الهجران يوما وتغدر وما عرضت لى نظرة مذعرفتها ... فأنظر إلا مثّلت حين أنظر [وقال المتنبى من المعنى: حببتك قلبى قبل حبّى من نأى ... وقد كان غدّارا فكن أنت وافيا وأعلم أنّ البين يشكيك بعدها ... فلست فؤادى إن وجدتك شاكيا] قال الحاتمى: والذى أراه وأذهب إليه أن أحسن من هذا المعنى قول أبى صحر الهذلى: ويمنعنى من بعض إنكار ظلمها ... إذا ظلمت يوما وإن كان لى عذر مخافة أنّى قد علمت لئن بدا ... لى الهجر منها ما على هجرها صبر

شذور من كلام أهل العصر فى مكارم الأخلاق

وأنى لا أدرى إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغنّ بى الهجر فياحبّها زدنى جوّى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأحزان موعدك الحشر شذور من كلام أهل العصر فى مكارم الأخلاق ابن المعتز- العقل غريزة تزينها التجارب. وله: العاقل من عقل لسانه «1» ، والجاهل من جهل قدره. غيره: إذا تمّ العقل نقص الكلام. حسن الصورة الجمال الظاهر، وحسن الخلق الجمال الباطن. ما أبين وجوه الخير والشرّ فى مرآة العقل إذا لم يصدئها الهوى. العاقل لا يدعه ما ستر الله من عيوبه أن يفرح بما أظهر من محاسنه. بأيدى العقول تمسك أعنّة النفوس عن الهوى. أخر بمن كان عاقلا أن يكون عما لا يعنيه غافلا. التواضع من مصايد الشرف. من لم يتّضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره. يحيى بن معاذ- التكبّر على المتكبر تواضع. الحلم حجاب الآفات. أحيوا الحياء بمجاورة من يستحيا منه. من كساه الحياء ثوبه، ستر عن الناس عيبه. الصبر تجرّع الغصص، وانتظار الفرص. قلوب العقلاء حصون الأسرار. انفرد بسرّك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون. الأناة «2» حسن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة. من حسن خلقه وجب حقّه. إنما يستحق اسم الإنسانية من حسن خلقه. يكاد سيىء الخلق يعدّ من البهائم والسباع. أرسطاطاليس- المروءة استحياء المرء نفسه. المعروف حصن النعم من صروف الزمن. للحازم كنز فى الآخرة من عمله، وفى الدنيا من معروفه. لا تستحى من القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه.

أبو بكر الخوارزمى- الطّرف «1» يجرى وبه هزال، [والسيف يمضى وبه انفلال] ، والحرّ يعطى وبه إقلال «2» . بذل الجاه أحد المالين. شفاعة اللسان أفضل زكاة الإنسان. بذل الجاه رفد للمستعين «3» . الشفيع جناح الطالب. التقوى هى العدّة الباقية، والجنّة الواقية. ظاهر التقوى شرف الدنيا، وباطنها شرف الآخرة. من عفّت أطرافه، حسنت أوصافه. قال أبو الطيب المتنبى: ولا عفّة فى سيفه وسنانه ... ولكنها فى الكف والفرج والفم لقمان- الصّمت حكم وقليل فاعله. أربع كلمات صدرت عن أربعة ملوك كأنما رميت عن قوس واحدة؛ قال كسرى: لم أندم على ما لم أقل، وندمت على ما قلت مرارا. قيصر: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منى على ردّ ما قلت. ملك الصين: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتنى، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. ملك الهند: عجبت ممن يتكلّم بالكلمة إن رفعت ضرّته، وإن لم ترفع لم تنفعه. ما الدّخان على النار، ولا العجاج «4» على الريح، بأدلّ من ظاهر الرجل على باطنه، وأنشد: قد يستدلّ بظاهر عن باطن ... حيث الدخان فثمّ موقد نار من أصلح ماله فقد صان الأكرمين المال والعرض. من لم يجمد فى التقدير ولم يذب فى التدبير فهو سديد التدبير «5» . عليك بالقصد بين الطرفين، لا منع ولا إسراف، ولا بخل ولا إتراف. لا تكن رطبا فتعصر، ولا يابسا فتكسر، ولا حلوا فتسترط، ولا مرّا فتلفظ. المأمون بن الرشيد- الثناء أكثر من الاستحقاق ملق وهذر، والتقصير عىّ وحصر.

مواعظ عقلها بعض أهل العصر تتعلق بهذا الفصل

إكرام الأضياف، من عادة الأشراف. وفى الخبر: لا تتكلّفوا للضيف فتبغضوه؛ فمن أبغض الضيف أبغضه الله. ينبغى لصاحب الكريم أن يصبر عليه إذا جمعتهما نبوة الزمان، فليس ينتفع بالجوهرة الكريمة من لم ينتظر نفاقها. مواعظ عقلها بعض أهل العصر تتعلق بهذا الفصل أغض على القذى، وإلا لم ترض أبدا «1» . أجمل الطلب فسيأتيك [ما قدر لك، صن عرضك] ، وإلّا أخلقت وجهك. جاور الناس بالكفّ عن مساويهم. انس رفدك، ولا تنس وعدك، كذّب أسواء الظنون بأحسنها «2» . أغن من ولّيته عن السرقة، فليس يكفيك من لم تكفه. لا تتكلف ما كفيت فيضيع ما أوليت. ابن المعتز- لا تسرع إلى أرفع موضع فى المجلس، فالموضع الذى ترفع إليه خير من الموضع الذى تحطّ منه. لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك. ينبغى للعاقل أن يدارى زمانه مداراة السابح للماء الجارى. العتابى- المداراة سياسة رفيعة تجلب المنفعة، وتدفع المضرّة، ولا يستغنى عنها ملك ولا سوقة، ولا يدع أحد منها حظه إلا غمرته صروف المكاره. [من رسائل العتابى وأدبه] وكتب العتابى إلى بعض إخوانه: لو اعتصم شوقى إليك بمثل سلوّك عنى لم أبذل وجه الرغبة إليك،

ولم أتجشّم مرارة تماديك، ولكن استخفتنا صبابتنا، فاحتملنا قسوتك، لعظيم قدر مودتك، وأنت أحقّ من اقتصّ «1» لصلتنا من جفائه، ولشوقنا من إبطائه. وله: كتبت إليك ونفسى رهينة بشكرك «2» ، ولسانى علق بالثناء عليك، والغالب على ضميرى لائمة لنفسى، واستقلال لجهدى فى مكافأتك، وأنت- أصلحك الله! - فى عزّ الغنى عنى، وأنا تحت ذلّ الفاقة إلى عطفك، وليس من أخلاقك أن تولى جانب النّبوة منك من هو عان فى الضّراعة إليك. ودخل العتابى على الرشيد فقال: تكلّم يا عتابى؛ فقال: الإيناس «3» قبل الإبساس، لا يحمد المرء بأول صوابه، ولا يذمّ بأول خطئه؛ لأنه بين كلام زوّره، أوعىّ حصره. ومرّ العتابى بأبى نواس وهو ينشد الناس: ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فبكى صبوة ولات أوان فلما رآه قام إليه، وسأله الجلوس، فأنى؟؟؟ وقال: أين أنا منك وأنت القائل، وقد أنصفك الزمان: قد علقنا من الخصيب حبالا ... أمّنتنا طوارق الحدثان وأنا القائل وقد جار علىّ، وأساء إلىّ: لفظتنى البلاد، وانطوت الأك ... فاء دونى، وملّنى جيرانى والتقت حلقة علىّ من الدّه ... ر فماجت بكلكل وجران نازعتنى أحداثها منية النف ... س وهدّت خطوبها أركانى خاشع للهموم معترف القل ... ب كئيب لنائبات الزمان

[شعر الأعراب]

[شعر الأعراب] قال عبد الرحمن بن أخى الأصمعى: سمعت عمّى يحدث قال: أرقت ليلة من الليالى بالبادية، وكنت نازلا عند رجل من بنى الصّيداء «1» ، وكان واسع الرّحل، كريم المحل، فأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أبا مثواى «2» ، فقلت: إنى قد هلعت «3» من الغربة، واشتقت إلى أهلى، ولم أفد فى قدمتى هذه كبير علم. وإنما كنت أغتفر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة؛ فأظهر الجفاوة حتى أبرز غداء له فتغدّيت، وأمر بناقة مهريّة «4» كأنها سبيكة لجين [فارتحلها] واكتفلها، ثم ركب وأردفنى، وأقبلها مطلع الشمس؛ فما سرنا كبير مسير حتى لقينا شيخ على حمار، له جمّة قد صبغها بالورس «5» ، كأنها قنبيطة، وهو يترنّم، فسلّم عليه صاحبى، وسأله عن نسبه فاعتزى أسديا من بنى ثعلبة. قال: أتروى أم تقول؟ قال: كلّا. قال: أين تؤم؟ فأشار إلى موضع قريب من الموضع الذى نحن فيه. فأناخ الشيخ، وقال لى: خذ بيد عمك فأنزله عن حماره، ففعلت، وألقى له كساء قد اكتفل به، ثم قال: أنشدنا يرحمك الله وتصدق على هذا الغريب بأبيات يبثهن عنك، ويذكرك بهن، فأنشدنى له: لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفراقد تمنّيننا بالوصل وعدا، وغيمكم ... ضباب، فلا صحو، ولا الغيم جائد إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد وقلّ غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحد إذا أنت لم تعرك بجنبيك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد

[خصومة قرشية]

إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمّة ورواعد إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد «1» إذا أنت لم تترك طعاما تحبّه ... ولا مقعدا تدعو إليه الولائد تجلّلت عارا لا يزال يشبّه ... عليك الرجال نثرهم والقصائد وأنشدنى لنفسه: تعزّ فإنّ الصبر بالحرّ أجمل ... وليس على ريب الزمان معوّل فلو كان يغنى أن يرى المرء جازعا ... لنازلة أو كان يغنى التذلّل لكان التعزّى عند كل مصيبة ... ونازلة بالحرّ أولى وأجمل فكيف وكلّ ليس يعدو حمامه ... وما لامرىء مما قضى الله مزحل فإن تكن الأيام فينا تبدّلت ... بنعمى وبؤسى والحوادث تفعل فما ليّنت منا قناة صليبة ... ولا ذلّلتنا للذى ليس يجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة ... تحمّل ما لا يستطاع فتحمل وقينا بحدّ العزم منا نفوسنا ... فصحّت لنا الأعراض والناس هزّل قال: فقمت إليه، وقد نسيت أهلى، وهان علىّ طول الغربة، وضنك العيش، سرورا بما سمعت، ثم قال: يا بنى؛ من لم يكن الأدب والعلم أحبّ إليه من الأهل والولد لم ينجب. [خصومة قرشية] خاصم بعض القرشيين عمر بن عثمان بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فأسرع إليه القرشى فقال: على رسلك، فإنك لسريع الإيقاد «2» وشيك الصريمة، وإنى والله ما أنا مكافئك دون أن تبلغ غاية التعدى، فأبلغ غاية الإعذار.

[ادعاء]

[ادّعاء] قال عبد الله بن عبد العزيز، وكان من أفاضل أهل زمانه: قال لى موسى ابن عيسى: أنهى «1» إلى أمير المؤمنين، يعنى الرشيد، أنك تشتمه، وتدعو عليه، فبأىّ شىء استجزت «2» ذلك؟ قال: أما شتمه فهو والله إذا أكرم علىّ من نفسى، وأما الدعاء عليه فوالله ما قلت «اللهم إنه أصبح عبئا ثقيلا على أكتافنا، لا تطيقه أبداننا، وقذى فى عيوننا، لا تنطبق عليه أجفاننا، وشجى فى حلوفنا، لا تسيغه أفواهنا؛ فاكفنا مؤنته، وفرّق بيننا وبينه» ! ولكنى قلت: «اللهم إن كان تسمّى الرشيد ليرشد فأرشده، أو أتى غير ذلك «3» فراجع به، اللهم إن له فى الإسلام بالعباس حقّا على كلّ مسلم، وله بنبيك قرابة ورحما، فقرّبه من كل خير، وباعده من كل شر، وأسعدنا به، وأصلحه لنفسه ولنا» . فقال له: يغفر الله لك يا عبد العزيز، كذلك بلغنا. [عزل وال] ولما حجّ الرشيد سنة ست وثمانين ومائة دخل مكة وعديله يحيى بن خالد؛ فانبرى إليه العمرى فقال: يا أمير المؤمنين، قف حتى أكلّمك! فقال: أرسلوا زمام الناقة، فأرسلوه، فوقفت فكأنما أوتدت، فقال: [أقول؟ قال:] قل، فقال: اعزل عنا إسماعيل بن القاسم. [قال: ولم؟ قال:] لأنه يقبل الرشوة، ويطيل النّشوة، ويضرب بالعشوة، قال: قد عزلناه [عنك،] ثم التفت إلى يحيى فقال: أعندك مثل هذه البديهة؟ فقال: إنه ليجب أن يحسن إليه، قال: إذا عزلنا عنه من يريد عزله فقد كافأناه.

[حرمة الكعبة]

[حرمة الكعبة] ولما وجّه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير وأوصاه بما أراد أن يوصيه، قال الأسود بن الهيثم النخعى: يا أمير المؤمنين، أوص هذا الغلام [الثقفى] بالكعبة ألّا يهدم أحجارها، ولا يهتك أستارها، ولا ينفّر أطيارها، وليأخذ على ابن الزبير شعائها؟؟؟، وعقابها، وأنقابها «1» ، حتى يموت فيها جوعا، ويخرج مخلوعا. [كتاب ينصر محاربا] وكتب عبد الله بن طاهر إلى نصر بن شبيب وقد نزل به ليحاربه فى جنده، فوجده «2» متحصنا منه، فكتب إليه: اعتصامك بالقلال قيّد عزمك عن القتال، والتجاؤك إلى الحصون «3» ، ليس ينجيك من المنون، ولست بمفلت من أمير المؤمنين، فإما فارس مطاعن، أو راجل مستأمن. فلما قرأه حصره الرعب عن الجواب، فلم يلبث أن خرج مستأمنا. [من حكم الفرس] قال بزرجمهر بن البختكان لبعض الملوك: أنعم تشكر، وأرهب تحذر، ولا تهازل فتحقر، فجعلهن الملك نقش خاتمه بدلا من اسمه واسم أبيه. ولما قتل أنوشروان بزرجمهر وجد فى منطقته رقعة فيها مكتوب: إذا كانت الحظوظ بالجدود فما الحرص؟ وإذا كانت الأمور ليست بدائمة فما السرور؟ وإذا كانت الدنيا غرّارة فما الطمأنينة؟ [قال سقراط] : من كثر احتماله وظهر حلمه قلّ ظلمه وكثر أعوانه، ومن قلّ همّه على ما فاته استراحت نفسه وصفا ذهنه وطال عمره. وقال: من تعاهد

[حكم للهند]

نفسه بالمحاسبة أمن عليها المداهنة. وقال: الأمانىّ حبال الجهل، والعشرة الحسنة وقاية من الأسواء. وشتمه بعض الملوك وكان على فرس وعليه حلل وبزّة- فقال له سقراط: إنما تفخر علىّ بغير جنسك، ولكن رد كلّ جنس إلى جنسه وتعال الآن فلنتكلم. وقال سقراط: من أعطى الحكمة فلا يجزع لفقد الذهب والفضّه؛ لأن من أعطى السلامة والدّعة لا يجزع لفقد الألم والتعب؛ لأن ثمار الحكمة السلامة والدّعة، وثمار الذهب والفضة الألم والتعب؛ وقال: القنية ينبوع الأحزان؛ فأقلّوا القنية تقلّ همومكم. وقال: القنية مخدومة، ومن خدم غير نفسه فليس بحر وقال أبو الطيب: أبدا تستردّ ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا وكفت كون فرحة تورث اله ... مّ وخلّ يغادر الوجد خلّا [حكم للهند] وفى كتاب الهند: العاقل حقيق أن تسخو نفسه عن الدنيا، علما بأنه لا ينال أحد منها شيئا إلا قلّ إمتاعه به وكثر عناؤه فيه، ووباله عليه، واشتدّت مؤنته عند فراقه، وعلى العاقل أن يدوم ذكره لما بعد هذه الدار، ويتنزّه عما تسيّره إليه نفسه من هذه العاجلة، ويتنحّى عن مشاركة الكفرة والجهال فى حبّ هذه الفانية التى لا يألفها ولا ينخدع بها إلا المغترون. وفيه: لا يجدّنّ العاقل فى صحبة الأحباب والأخلاء، ولا يحرصنّ على ذلك كل الحرص. فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى، والمؤنات، والأحزان، ثم لا يفى «1» ذلك بعاقبة الفراق. وفيه: ليس من شهوات الدنيا ولذاتها شىء إلّا وهو مولّد أذى وحزنا،

[وصية من عتبة بن أبى سفيان]

كالماء المالح الذى كلما ازداد له صاحبه شربا ازداد عطشا، وكالقطعة من العسل فى أسفلها سم للذائق؛ فيه حلاوة عاجلة، وله فى أسفلها سمّ ذعاف، وكأحلام النائم التى تسرّه فى منامه، فإذا استيقظ انقطع السرور، وكالبرق الذى يضىء قليلا، ويذهب وشيكا «1» ، ويبقى صاحبه فى الظلام مقيما، وكدودة الإبريسم ما ازدادت عليه لفّا إلا ازدادت من الخروج بعدا. وفيه: صاحب الدين قد فكر؛ فعلته السكينة، وسكن فتواضع، وقنع فاستغنى، ورضى فلم يهتمّ، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض الشهوات فصار حرّا، وطرح الحسد فظهرت له المحبّة، وسخت نفسه عن كل فان، فاستكمل العقل، وأبصر العاقبة، فأمن الندامة، ولم يؤذ الناس فيخافهم، ولم يذنب إليهم فيألهم العفو. [وصية من عتبة بن أبى سفيان] وقال سعد القصر مولى عتبة بن أبى سفيان: ولأنى عتبة أمواله بالحجاز، فلما ودّعته قال: يا سعد، تعاهد صغير مالى فيكبر، ولا تجف كبيره «2» فيصغر؛ فإنه ليس يمنعنى كثير ما عندى، من إصلاح قليل ما فى يدى، ولا يمنعنى قليل ما عندى من كثير ما ينو بنى «3» . قال: فقدمت الحجاز، فحدثت به رجالا من قريش، ففرّقوا به الكتب إلى الوكلاء. [يزيد بن معاوية] وقال يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد: إنّ أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا، فلا تتّكلنّ منى على عذر، فقد اتكلت منك على كفاية، ولأن أفول لك: إياك، أحبّ إلىّ من أن أقول: إياى؛ فإنّ الظنّ إذا أخلف فيك أخلف منك، فلا ترح نفسك وأنت فى أدنى حظّك، حتى تبلغ

[فضل العمامة]

أقصاه؛ واذكر فى يومك أخبار غدك، واستزدنى بإحسانك إلى أهل الطاعة، وإساءتك إلى أهل المعصية، أزدك إن شاء الله تعالى. [فضل العمامة] ذكرت العمامة عند أبى الأسود الدؤلى فقال: جنّة فى الحرب، ودثار فى البرد، وكنّة فى الحرّ، ووقار فى النّدى، وشرف فى الأحدوثة، وزيادة فى القامة، وهى [بعد] عادة من عادات العرب. [من رسائل ابن العميد] وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى: وقفت على ما وصفت من برّ مولانا الأمير لك، وتوفّره بالفضل عليك، وإظهار جميل رأيه فيك، وما أنزله من عارفة «1» لديك؛ وليس العجب أن يتناهى مثله فى الكرم إلى أبعد غاية، وإنما العجب أن يقصر شىء من مساعيه عن نيل المجد كلّه، وحيازة الفضل بأجمعه؛ وقد رجوت أن يكون ما يغرسه من صنيعة عندك أجدر غرس بالزّكاء «2» ، وأضمنه للزّيع والنّماء؛ فارع ذلك، واركب فى الخدمة طريقة تبعدك من الملال، وتوسطك فى الحضور بين الإكثار والإقلال، ولا تسترسل إلى حسن القبول كلّ الاسترسال؛ فلأن تدعى من بعيد خير من أن تقصى «3» من قريب، وليكن كلامك جوابا تتحرّز فيه من الخطل ومن الإسهاب، ولا يعجبنّك تأتّى كلمة محمودة فيلجّ بك الإطناب توقّعا لمثلها؛ فربما هدمت ما بنته الأولى، وبضاعتك فى الشرف مزجاة، وبالعقل يزمّ اللسان، ويرام السّداد، فلا يستفزّنك طرب الكلام على ما يفسد تمييزك؛ والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه؛ فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها. وتحصّل وزنها، وتطالع موضعها؛ فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى

الإسعاف هشّة، فأظهر ما فى نفسك غير محقّق، ولا توهم أنّ عليك فى الرد ما يوحشك، ولا فى المنع ما يغيظك، وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يدك، ليخفّ كلامك، ولا يثقل على سامعه منك. أقول ما أقول غير واعظ ولا مرشد، فقد جمّل الله خصالك، وحسّن خلالك، وفضّلك فى ذلك كله؛ لكنى أنبه تنبيه المشارك لك، وأعلم أنّ للذكرى موصعا منك لطيفا. وله أيضا: سألتنى عمن شفّنى «1» وجدى به، وشغفنى حبّى له، وزعمت أنى لو شئت لذهلت عنه ولو أردت لاعتضت منه. زعما، لعمر أبيك، ليس بمزعم. كيف أسلو عنه، وأنا أراه، وأنساه وهو لى تجاه؛ هو أغلب علىّ، وأقرب إلىّ، من أن يرخى لى عنانى، أو يخلينى واختيارى، بعد اختلاطى بملكه، وانخراطى فى سلكه، وبعد أن ناط حبّه بقلبى نائط، وساطه بدمى سائط «2» . وهو جار مجرى الرّوح فى الأعضاء، متنسم تنسّم روح الهواء؛ إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحبّ السلوّ عنه مع هناته، وما أوثر الخلوّ منه مع ملاته؛ هذا على أنه إن أقبل علىّ بهتنى إقباله، وإن أعرض عنى لم يطرقنى خياله، يبعد عنى مثاله «3» ، ويقرب من غيرى نواله، ويردّ عينى خاسئة، ويثنى يدى خالية، وقد بسط آفات العيون المقاربة، وصدق مرامى الظنون الكاذبة، وصله ينذر بصدّه، وقربه يؤذن ببعده، يدنى عند ما ينزح، ويأسو «4» مثل ما يجرح، محالته أحوال «5» ، وخلّته خلال، وحكمه سجال، الحسن فى عوارفه، والجمال من منائحه، والبهاء من أصوله وصفاته، والسّناء من نعوته وسماته، اسمه مطابق لمعناه، وفحواه موافق

[هرب من الوباء]

لنجواه، يتشابه حالاه، ويتضارع قطراه، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تنساه يستدير. [هرب من الوباء] وقع بالكوفة وباء، فخرج الناس وتفرّقوا بالنجف، فكتب شريح إلى صديق له خرج بخروج الناس: أما بعد، فإنك بالمكان الذى أنت فيه بعين من لا يعجزه هرب، ولا يفوته طلب؛ وإنّ المكان الذى خلّفت لا يعجّل لأحد حمامه «1» ، ولا يظلمه أيّامه، وإنا وإياك لعلى بساط واحد، وإن النجف من ذى قدرة لقريب. وهرب أعرابى ليلا على حمار حذارا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ سمع قائلا يقول: لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذى ميعة طيّار أو يأتى الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام السارى «2» فكرّ راجعا، وقال: إذا كان الله أمام السارى فلات حين مهرب. [قتيل الحب] قال الأصمعى: أخبرنى يونس بن حبيب قال: أتى قوم إلى ابن عباس بفتى محمول ضعفا، فقالوا: استشف لهذا الغلام، فنظر إلى فتى حلو الوجه، عارى العظام؛ فقال له: ما بك؟ فقال: بنا من جوى الشوق المبرّح لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب «3» ولكنما أبقى حشاشة ما نرى ... على ما به عود هناك صليب «4» فقال ابن عبّاس: أرأيتم وجها أعتق، ولسانا أذلق، وعودا أصلب، وهوى أغلب، مما رأيتم اليوم؟ هذا قتيل الحبّ، لا قود ولادية!

[مسلم بن الوليد صريع الغوانى]

وكان ابن عباس رضى الله عنهما حبر قريش وبحرها، وله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل. وفيه يقول حسان ابن ثابت: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا شفى وكفى ما فى النفوس؛ فلم يدع ... لذى لسن فى القول جدّا ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا [مسلم بن الوليد صريع الغوانى] وقال مسلم بن الوليد: أعاود ما قدمته من رجائها ... إذا عاودت باليأس فيها المطامع رأتنى غنىّ الطّرف عنها فأعرضت ... وهل خفت إلا أن تشير الأصابع «1» وما زيّنتها النفس لى عن لجاجة ... ولكن جرى فيها الهوى وهو طائع فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصبا ... وقد فاجأتها العين والستر واقع «2» فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدى الأسارى أثقلتها الجوامع «3» وكان مسلم أنصاريا صريحا، وشاعرا فصيحا، ولقب صريعا أيضا لقوله: سأنقاد للذّات متبع الهوى ... لأمضى همّا أو أصيب فتى مثلى هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... صريع حميّا الكأس والأعين النّحل واجتلب له هذا الاسم لأجل هذا البيت؛ وقد قال القطامى: صريع غوان راقهنّ ورقنه ... لدن شبّ حتى شاب سود الذّوائب ومسلم أول من لطّف البديع، وكسا المعانى حلل اللفظ الرفيع، وعليه يعوّل الطائى، وعلى أبى نواس، ومن بديع شعره الذى امتثله الطائى قوله: تساقط يمناه الندى وشماله الرّدى وعيون القول منطقه الفصل

كأنّ نعم فى فيه تجرى مكانها ... سلافة ما مجّت لأفراخها النّحل له هضبة تأوى إلى ظلّ برمك ... منوط بها الآمال، أطنابها السّبل عجول إلى أن يودع الحمد ماله ... يعدّ الندى غنما إذا اغتنم البخل «1» وقد حرم الأعراض بالبيض والندى ... فأموالهم نهب وأعراضهم بسل «2» حبا لا يطير الجهل فى عرصاتها ... إذا هى حلت لم يفت حلّها ذحل «3» بكبّ أبى العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل متى شئت رفّعت الستور عن الغنى ... وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل متى شئت رفّعت الستور عن الغنى ... إذا أنت زرت الفضل أو أذن الفضل وقوله أيضا: إذا كنت ذا نفس جواد ضميرها ... فليس يضر الجود أن كنت معدما رآنى بعين الجود فانتهز الذى ... أردت فلم أفغر إليه به فما ظلمتك إن لم أجزل الشكر بعد ما ... جعلت إلى شكرى نوالك سلما فإنك لم يترك نداك ذخيرة ... لغيرك من شكرى ولا متلوّما وقال ليزيد بن مزيد: موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل ينال بالرّفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتى على مهل لا يرحل الناس إلا نحو حجرته ... كالبيت يضحى إليه ملتقى السّبل يقرى المنيّة أرواح الكماة كما ... يقرى الضيوف شحوم الكوم والبزل «4» يكسو السيوف رءوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل قد عوّد الطير عادات وثقن بها ... فهنّ يتبعنه فى كل مرتحل وهذا المعنى كثير.

[من شعر أبى نواس]

[من شعر أبى نواس] قال عمرو الوراق: سمعت ابا نواس ينشد قصيدته: أيّها المنتاب عن عفره ... لست من ليلى ولا سمرة لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره فحسدته عليها، فلما بلغ إلى قوله: وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت فى صوره راح فى ثنيى مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره تتأيّى الطير غزوته ... ثقة بالشّبع من جزره تحت ظل الرمح تتبعه ... فهى تتلوه على أثره فقلت: ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدى بعصائب جوانح قد أيقنّ أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب فقال: اسكت، فلئن أحسن الاختراع، لما أسات الاتباع. أخذه الطائى فقال: وقد ظلّلت عقبان راياته ضحى ... بعقبان طير فى الدماء نواهل أقامت على الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل [وصف جيش] وقال المتنبى يصف جيشا: وذى لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج، ولا الوحش المثار بسالم تمرّ عليه الشمس وهى ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم إذا ضوءها لا فى من الطير فرجة ... تدوّر فوق البيض مثل الدراهم

[شعب بوان]

[شعب بوّان] ونظير قول أبى الطيب فى هذا البيت وإن لم يكن فى معناه قوله يصف شعب بوّان، وسيأتى، وفى هذا الشّعب يقول ابو العباس المبرد: كنت مع مع الحسين بن رجاء بفارس؛ فخرجت إلى شعب برّان، فنظرت إلى تربة كأنها الكافور، ورياض كأنها الثوب الموشى، وماء ينحدر كأنه سلاسل الفضة، على حصباء كأنها حصى الدر؛ فجعلت أطوف فى حنباتها، وأدور فى عرصاتها، فإذا فى بعض جدرانها مكتوب: إذا أشرف المكروب من رأس تلعة ... على شعب بوّان أفاق من الكرب وألهاه بطن كالحرير لطافة ... ومطّرد يجرى من البارد العذب «1» وطيب رياص فى بلاد مريعة ... وأغصان أشجار جناها على قرب «2» يدير علينا الكاس من لو لحظته ... بعينك مالمت المحبين فى الحبّ فبالله يا ريح الشمال تحمّلى ... إلى شعب بوّان سلام فتى صبّ «3» قال أبو العباس: فأخبرت سليمان بن وهب بما رأيت، فقال: وقد رأيت تحت هذه الأبيات: ليت شعرى عن الذين تركنا ... خلفنا بالعراق هل ذكرونا؟ أم يكون المدى تطاول حتى ... قدم العهد بيننا فنسونا «4» إن حفوا حرمة الصّفاء فإنا ... لهم فى الهوى كما عهدونا وشعر المتنبى: مغانى الشّعب طيبا فى المغانى ... بمنزلة الربيع من الزمان ولكنّ الفتى العربىّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنّة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان طبت فرساننا والخيل حتى ... خشيت وإن كرمن من الحران

[رجع إلى وصف الجيش]

غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان فجئت وقد حجبن الشمس عنّى ... وجئن من الضياء بما كفانى وألقى الشرق منها فى بنانى ... دنانيرا تفرّ من البنان [ومنها: يقول بشعب بوّان حصانى ... أعن هذا يسار إلى الطعان؟ أبوكم آدم سنّ المعاصى ... علمكم مفارقة الجنان] إنما أردت هذا البيت. ومنها: لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوانى ومواه يصلّ بها حصاها ... صليل الحلى فى أيدى الغوانى [رجع إلى وصف الجيش] وأول من ابتكر هذا المعنى الأول الأفوه الأودى فى قوله: وأرى الطير على آثارنا ... رأى عين ثقة أن ستمار «1» وقال حميد بن ثور وذكر ذئبا: إذا ما غدا يوما رأيت غيابة ... من الطير ينظرن الذى هو صانع «2» فهمّ بأمر تم أزمع غيره ... وإن ضاق أمر مرة فهو واسع وقال مسلم بن الوليد: وإنى؟؟؟ لأستجيى القنوع ومذهبى ... فسيح وأقلى الشّحّ إلا على عرضى وما كان مثلى يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت نعمة من فتى محض وإنى وإشرافى عليك بهمّتى ... لكالمبتغى زبدا من الماء بالمخض أخذه أبو عثمان الناجم فقال: لم تحصّل بمخضك الماء إلا ... زبدا حين رمت بالجهل زبدا

[وصف وسفينة]

[وصف وسفينة] وقال مسلم أيضا يصف السفينة: كشفت أهاويل الدّجى عن مهوله ... بجارية محمولة حامل بكر إذا أقبلت راعت بقنّة قرهب ... وإن أدبرت راقت بقادمتى نسر «1» أطلّت بمجدافين يعتورانها ... وقوّمها كبح اللّجام من الدّبر كأنّ الصبا تحكى بها حين واجهت ... نسيم الصّبا مشى العروس إلى الخدر [مما قيل فى وصف الأساطيل] وقال أبو القاسم بن هانىء يصف أسطول المعز بالله: أما والجوارى المنشآت التى سرت ... لقد ظاهرتها عدّة وعديد قباب كما ترخى القباب على المها ... ولكنّ من ضمّت عليه أسود [وما راع ملك الروم إلّا اطلاعها ... تنشّر أعلام لها وبنود] ولله مما لا يرون كتائب ... مسوّمة يجرى بها وجنود أطال لها أنّ الملائك خلفها ... فمن وقفت خلف الصفوف ردود «2» وأن الرياح الذاريات كتائب ... وأن النجوم الطالعات سعود عليها غمام مكفهرّ صبيره ... له بارقات جمّة ورعود «3» مواخر فى طامى العباب كأنها ... لعزمك بأس أو لكفّك جود أنافت بها آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد [من الطير إلا أنهن جوارح ... وليس لها إلا النفوس مصيد] وليس بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصّفّاح وهو صلود من الراسيات الشّم لولا انتقالها ... فمنها قنان شمّخ وريود «4» من القادحات النار تضرم للصّلى ... فليس لها يوم اللقاء خمود

إذا زفرت غيظا ترامت بمارج ... كما شبّ من نار الجحيم وقود تعانق موج البحر حتى كأنه ... سليط له فيه الذّبال عتيد «1» ترى الماء فيها وهو قان خضابه ... كما باشرت ردع الخلوق جلود «2» فأنفاسهن الحاميات صواعق ... وأفواههن الزافرات حديد يشبّ لآل الجاثليق سعيرها ... وما هى من آل الطريد بعيد لها شعل فوق الغمار كأنها ... دماء تلقيها ملاحف سود وغير المذاكى نجرها غير أنها ... مسوّمة تحت الفوارس قود فليس لها إلا الرياح أعنّة ... وليس لها إلا العباب كديد «3» ترى كلّ قوداء التليل كما انثنت ... سوالف غيد أعرضت وخدود «4» رحيبة مدّ الباع وهى نضيجة ... بغير شوى عذراء وهى ولود تكبرن عن نقع يثار كأنها ... موال وجرد الصافنات عبيد لها من شفوف العبقرى ملابس ... مفوّفة فيها النّضار جسيد كما اشتملت فوق الأرائك خرّد ... أو التفعت فوق المنابر صيد لبوس تكفّ الموج وهو غطامط ... وتدرأ بأس اليمّ وهو شديد فمنه دروع فوقها وجواشن ... ومنها خفاتين لها وبرود وقال على بن محمد الإيادى يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد: أعجب لأسطول الإمام محمد ... ولحسنه وزمانه المستغرب لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجّب من كل مشرفة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصّب دهماء قد لبست ثياب تصنّع ... تسبى العقول على ثياب ترهّب

من كل أبيض فى الهواء منشّر ... منها وأسحم فى الخليج مغيّب «1» كملاءة فى البر يقطع شدّها ... فى البحر أنفاس الرياح الشذّب محفوفة بمجاذف مصفوفة ... فى جانبين دوين صلب صلّب كقوادم النّسر المرفرف عرّيت ... من كاسيات رياشه المتهدّب تحتثّها أيدى الرجال إذا ونت ... بمصعّد منه بعيد مصوّب «2» خرقاء تذهب إن يد لم تهدها ... فى كل أوب للرياح ومذهب جوفاء تحمل موكبا فى جوفها ... يوم الرهان وتستقلّ بموكب ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرّب يعلو بها حدب العباب مطارة ... فى كل لج زاخر مغلولب تسمو بأجرد فى الهواء متوّج ... عريان منسوج الذؤابة شوذب «3» يتنزّل الملّاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب فكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب «4» وكأنما جنّ ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب سجروا جواحم نارها فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهّب من كل مسجور الحريق إذا انترى؟؟؟ ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب عريان يفدمه الدخان كأنه ... صبح يكرّ على الظلام الغيهب ولواحق مثل الأهلّة جنّح ... لحق المطالب فائتات المهرب يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتغلّب كنضائض الحيات رحن لواعبا ... حتى يقعن ببرك ماء الميزب شرعوا جوانبها مجادف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب

[من لطائف التودد]

تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا، وتجتمع اجتماع الربرب «1» والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرّب عقربا من عقرب وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال فى عدد السلاح المذهب فكأنما البحر استعار بزيّهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب [من لطائف التودّد] كتب العباس «2» بن جرير إلى الفضل بن يحيى: لا أعلم منزلة توحشنى من الأمير ولا توحشه منى؛ لأننى فى المودة له كنفسه، وفى الطاعة كيده، وإنما ألطفه من فضله، وقد بعثت بعض ما ظننت أنه يحتاج إليه فى سفره. وذكر ما بعث. وكتب غيره فى هذا المعنى: إذا كان اللّطف دليل محبّة، وميسم قربة، كفى قليله عن كثيره، وناب يسيره عن خطيره، لا سيما إذا كان لمقصود به ذا همّة لا يستعظم نفيسا، ولا يستصغر خسسا؛ وقد حزت من هذه الصفة أجلّ فضائلها، وأرفع منازلها. وفى هذا المعنى: إن يد الأنس طويلة بكل ما بلغت، منبسطة بكل ما أدركت، من حيث يد الحشمة قصيرة عن كل ما حوت، مقبوضة دون ما أمّلت؛ لأن باب القول مطلق لذوى الخصوص «3» ، محظور عند ذوى الهموم، ولتمكن ما بيننا عاطيتك من لطفى مالا دونه قلّة، ثقة منك بأنه يرد على ما لا فوقه كثرة.

ومن ألفاظ أهل العصر فى إقامة رسم الهدية فى المهرجان والنيروز

ومن ألفاظ أهل العصر فى إقامة رسم الهدية فى المهرجان والنيروز لمثل هذا اليوم الجديد والأوان السعيد سنّة، وعلى مثلى فيها أن يتحف ويلطف، وعلى مثل سيدنا، ولا مثل له، أن يقبل ويشرف. لليوم رسم إن أخلّ به الأولياء عدّ هفوة، وإن منع منه الرؤساء حسب جفوة، ومولاى يسوّغنى الدّالة فيما اقترن بالرقعة، ويكسبنى بذلك الشرف والرفعة. الهدايا تكون من الرؤساء مكاثرة بالفضل، ومن النظراء مقارضة بالمثل، ومن الأولياء ملاطفة بالقلّ «1» ، وقد سلكت فى هذا اليوم مع مولاى سبيل أهل طبقته من الأرباب، وقد حملت إلى مولاى هدية [الملاطف، لا هدية] المحتفل، والنفس له، والمال منه. ولهم فى التهنئة بالنيروز والمهرجان وفصل الربيع هذا اليوم غرّة فى أيام الدهر، وتاج على مفرق العصر. أسعد الله مولانا بنوروزه الوارد عليه، وأعاده ماشاء وكيف شاء إليه. أسعد الله تعالى سيدنا بالنوروز الطالع عليه ببركاته، وأيمن طائره فى جميع أيامه ومتصرفاته؛ ولا يزال يلبس الأيام ويبليها وهو جديد، ويقطع مسافة نحسها وسعدها وهو سعيد. أقبل النيروز إلى سيدنا ناشرا حلله التى استعارها من شيمته، ومبديا حالته «2» التى اتخذها من سجيته، ومستصحبا من أنواره ما اكتساه من محاسن فضله وإكرامه، ومن أنظاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه. ويوكد الوعد بطول بقائه حتى يملّ العمر، ويستغرق الدهر. سيدنا هو الربيع الذى لا يذبل شجره، [ولا يزول سحره] ولا ينقطع ثمره، ولا يقلع غمامه، ولا تتبدّل أيامه؛ فأسعده الله تعالى بهذا

[الصفات التى تلرم فى رجل الشرطة]

الربيع المتشبّه بأخلاقه، وإن لم ينل قدرها، ولم يحمل فضلها، ولم يجد بدّا من الإقرار بها. سيدنا هو الربيع الدى يتّصل مطره، من حيث يؤمن ضرره، ويدوم زهره، من حيث يتعجل ثمره؛ فلا زال آمرا ناهيا، قاهرا عاليا، تتهيّأ الأعياد بمصادفة سلطانه، وتستفيد المحاسن من رياض إحسانه. أسعد الله سيدنا بهذا النّوروز الحاضر، الجديد الناضر، سعادة تستمرّ له فى جميع أيامه على العموم دون الخصوص، لتكون متشابهات [فى اكتناف] المواهب لها، واتصال المسارّ فيها، لا يفرق إلا بمقدار يزيد التالى على الخالى، ويدرج الآنى على الماضى. عرّف الله سيدنا بركة هذا المهرجان، وأسعده فيه، وفى كل زمان وأوان، وأبقاه ما شاء فى ظلال الأمانى والأمان. هذا اليوم من محاسن الدهر المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، فلقّى الله تعالى سيدنا بركة وروده، وأجزل حظّه من أقسام سعوده، هذا اليوم من غرر الدهور، ومواسم السرور، معظّم فى الملك الفارسى، مستظرف فى الملك العربى؛ فوفر الله تعالى فيه على مولاى السعادات، وعرّفه فى أيامه البركات، على الساعات واللحظات [الصفات التى تلرم فى رجل الشرطة] وقال الحجاج بن يوسف: دلّونى على رجل للشرطة، فقيل: أى رجل تريد؟ فقال: أريد رجلا دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة «1» ، يهون عليه سبال الشريف فى الشفاعة «2» ! فقالوا: عليك بعبد الرحمن [بن عبد الله] التميمى، فأرسل إليه يستعمله، فقال: لست أعمل لك عملا إلا أن تكفينى ولدك، وأهل بيتك، وعيالك وحاشيتك، فقال: يا غلام ناد: من طلب إليه حاجة منهم فقد برئت منه الذمة.

[من كلام الأعراب]

وقال أشجع بن عمرو السّلمى يمدح فى هذا المعنى إبراهيم بن عثمان بن نهيك صاحب شرطة الرشيد، وكان جبارا عنيدا: فى سيف إبراهيم خوف واقع ... بدوى النفاق، وفيه أمن المسلم ويبيت بكلأ والعيون هواجع ... مال المصيع ومهجة المستسلم شدّ الخطام بأنف كلّ مخالف ... حتى استقام له الذى لم يخطم لا يصلح السلطان إلا شدة ... تغشى البرىّ بفضل ذنب المجرم ومن الولاة مفخّم لا يتّقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدم «1» منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم [من كلام الأعراب] عذلت أعرابية أباها فى الجود وإتلاف ماله، فقالت: حبس المال، أنفع للعيال، من بذل الوجه فى السؤال؛ فقد قلّ النوال، وكثر البخّال، وقد أتلفت الطارف والتّلاد، وبقيت تطلب ما فى أيدى العباد ومن لم يحفظ ما ينفعه، أوشك أن يسعى فيما يضرّه. قال الأصمعى: سمعت أعرابية تقول: اللهم ارزقنى عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك التنعم، رجاء لما وعدت، وخوفا مما أوعدت. وقال آخر: اللهم من أراد بنا سوءا فأحطه به كإحاطة القلائد، بأعناق الولائد، وأرسخه على هامته، كرسوخ السّجيل، على هام أصحاب الفيل وقال بعض الأعراب: نالنا وسمىّ، وخلفه ولىّ «2» ؛ فالأرض كأنها وشى [عبقرىّ] ؛ ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حداد؛ فخرّبت البلاد، وأهلكت العباد؛ فسبحان من يهلك القوىّ الأكول. بالضعيف المأكول.

[مع الولاة والخلفاء]

[مع الولاة والخلفاء] وقال عمارة بن حمزة لأبى العباس السفاح- وقد أمر له بجوائز نفيسة، وكسوة وصلة، وأدنى مجلسه-: وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرّك، فوالله لئن أردنا شكرك على كنه صلتك، فإنّ الشكر ليقصر عن نعمتك، كما قصرنا عن منزلتك، غير أنّ الله تعالى جعل لك فضلا علينا بالتقصير منا، ولم تحرمنا الزيادة منك لنقص شكرنا. وقال أبو العباس السفاح لخالد بن صفوان: كيف علمك بأخوالى بنى الحارث ابن كعب؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، وفيهم خصال ليست فى غيرهم من قومهم، هم أحسبهم أمما، وأكرمهم شيما، وأهناهم طعما، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم همما، هم الجمرة فى الحرب، والرأس فى كلّ خطب، وغيرهم بمنزلة العجب «1» . وعزّى خالد بن صفوان عمر بن عبد العزيز وهنّأه بالخلافة، فقال: الحمد لله الذى منّ على الخلق بك، والحمد لله الذى جعل نبوتكم رحمة، وخلافتكم عصمة، ومصائبكم أسوة، وجعلكم قدوة. وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: قدمت وأعطيت كلّا بقسطه من نظرك ومجلسك، فى صوتك وعدلك، حتى كأنك من كلّ أحد، وحتى كأنك لست من أحد. وقال رجل لخالد: إن أباك كان دميما، «2» ولكنه كان حليما، وإنّ أمك كانت حسناء، ولكنها كانت رعناء، فيا جامع شرّ أبويه! شذور فى المقابح ومساوى الأخلاق على بن عبيدة الريحانى- أدنس شعار المرء جهله.

[من المفاخرات]

ابن المعتز- نعم الجاهل، كالرياض فى المزابل. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد فيها قبحا. لسان الجاهل مفتاح حتفه. لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا. الجاحظ- البخل والجبن غريزة واحدة، يجمعهما سوء الظن بالله. البخل يهدم مبانى الشرف. وقال ابن المعتر: لما عرف أهل النّقص حالهم عند ذوى الكمال، استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس ينفع الطمع فى وثاق الذلّ. الغضب يصدئ العقل حتى لا يرى صاحبه صورة حسن فيرتكبه، ولا صورة قبيح فيجتنبه. الغضب ينبىء عن كامن الحقد. من أطاع غضبه أضاع أدبه. حدّة الغضب تعثر المنطق «1» ، وتقطع مادّة الحجّة، وتفرّق الفهم «2» . غضب الجاهل فى قوله، وغضب العاقل فى فعله. عقوبة الغضب تبدأ بالغضبان: تقبّح صورته، وتثلّم دينه، وتعجّل ندمه. ما أقبح الاستطالة «3» عند الغنى، والخضوع عند الفقر. من يهتك ستر غيره تكشّفت عورات بيته. نفاق المرء من ذلة الشرير لا يظنّ بالناس خيرا لأنه يراهم بعين طبعه. من عدّد نعمه محق كرمه. خلف الوعد خلق الوغد، من أسرع كثر عثاره. [من المفاخرات] فاخر كاتب نديما، فقال الكاتب: أنا معونة، وأنت مؤنة؛ وأنا للجدّ، وأنت للهزل؛ وأنا للشدّة وأنت للّذة؛ وأنا للحرب، وأنت للسلم. فقال النديم: أنا للنعمة، وأنت للخدمة؛ وأنا للحضرة، وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس؛ تدأب لراحتى، وتشقى لسعادتى؛ فأنا شريك، وأنت معين، كما أنك تابع، وأنا قرين.

[من وصايا الحكماء]

وفاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف إن تم مراده، وإلّا فإلى السيف معاده. قال أبو تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجد واللعب إبراهيم بن المهدى: فقد تلين ببعض القول تبذله ... والوصل فى جبل صعب مراقيه كالخيزران منيع حين تكسره ... وقد يرى ليّنا فى كفّ لاويه أبو الهيدام «1» عامر بن عمارة المرّى يرثى: سأبكيك بالبيض الرّقاق وبالقنا ... فإن بها ما أدرك الواتر الوترا ولسنا كمن يبكى أخاه بعبرة ... يعصّرها من ماء مقلته عصرا ولكننى أشفى فؤادى بغمرة ... وألهب فى قطرى جوانبه جمرا وإنا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظّهرا [من وصايا الحكماء] لقى رجل حكيما فقال: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنية، ويباعد الأمنية. قال: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به منهم تعب، ومن فاته نصب. قال: فما الغنى عنه؟ قال: قطع الرجاء منه، قال: فأىّ الأصحاب أبرّ وأوفى؟ قال: العمل الصالح والتقوى. قال: أيهم أضر وأردى «2» ؟ قال: النفس والهوى، قال: فأين المخرج؟ قال: سلوك المنهج. قال: وما هو؟ قال: بذل المجهود، وترك الراحة، ومداومة الفكرة. قال: أوصنى. قال: قد فعلت.

[من المدح]

وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه: عظنى بعظة تنفى عنى الخيلاء «1» ، وتزهّدنى فى الدنيا. قال: فكّر فى خلقك، واذكر مبدأك ومصيرك، فإذا فعلت ذلك صغرت عندك نفسك، وعظم بصغرها عندك عقلك؛ فإن العقل أنفعها لك عظما، والنفس أزينهما لك صغرا؛ قال الملك: فإن كان شىء يعين على الأخلاق المحمودة فصفتك هذه. قال: صفتى دليل، وفهمك محجّة، والعلم علية «2» ، والعمل مطية، والإخلاص زمامها، فخذ لعقلك بما يزينه من العلم، وللعلم بما يصونه من العمل، وللعمل بما يحققه من الإخلاص، وأنت أنت! قال: صدقت. [من المدح] وقال ابن الرومى: تغنون عن كل تقريظ بمجدكم ... غنى الظباء عن التكحيل بالكحل تلوح فى دول الأيام دولتكم ... كأنها ملّة الإسلام فى الملل وقال أيضا: كلّ الخصال التى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا، وطاب العود والورق وقال البستى [فى نحو هذا] : فتى جمع العلياء علما وعفّة ... وبأسا وجودا لا يفيق فواقا كما جمع التفاح حسنا ونضرة ... ورائحة محبوبة ومذاقا قال أبو العباس المبرد: حدثنى عجل بن أبى دلف قال: امتدح رجل أبى بكلمة، فوصله بخمسمائة دينار ولم يره، وهى:

[أحمد بن أبى فنن]

ما لى وما لك قد كلفتنى شططا ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف أمن رجال المنايا خلتنى رجلا ... أمسى وأصبح مشتاقا إلى التّلف أرى المنايا على غيرى فأكرهها ... فكيف أمشى إليها بارز الكتف أخلت أنّ سواد الليل غيّرنى ... وأن قلبى فى جنبى أبى دلف قلت: هذا كحديث الذى دخل فى قوم على شراب فسقوه غير الشراب الذى يشربون، فقال: نبيذان فى مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كنت تفعل فعل الكرام ... فعلت كفعل أبى البخترى تتبّع إخوانه فى البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر فاتصل شعره بأبى البخترى فأعطاه ألف دينار ولم يره. [أحمد بن أبى فنن] والأبيات التى مدح بها أبو دلف هى لأحمد بن أبى فنن «1» ، وكان شاعرا مجيدا، وهو القائل: ولما أبت عيناى أن تملك البكى ... وأن تحبسا سحّ الدموع السواكب «2» تثاءبت كى لا ينكر الدمع منكر ... ولكن قليلا ما بقاء التثاؤب «3» أعرّضتمانى للهوى ونممتما ... علىّ؟ لبئس الصاحبان لصاحب وقال: وحياة هجرك غير معتمد ... إلا لقصد الحنث فى الحلف ما أنت أملح من رأيت ولا ... كلفى بحبّك منتهى كلفى

[الاستطراد]

قال الصولى: كنا بحضرة أبى العباس المبرد فأنشد هذين البيتين فاستظرفهما وأنشدنا فى ذلك: وحياة غيرك غير معتمد به ... حنثا ولكن معظما لحياتكا «1» ما ينقضى طمعى وإن أطمعتنى ... فى الوعد منك إلى اقتضاء عداتكا «2» وقال الخثعمى: ولم أر مثل الصدّ أدعى إلى الهوى ... إذا كان ممن لا يخاف على وصل وآلت يمينا كالزجاج رقيقة ... وما حلفت إلّا لتحنث من أجلى وكان أحمد بن أبى فنن أسود، ولذلك قال: أخلت أن سواد الليل غيّرنى ولما أدخل على المعتزّ وامتدحه قال: هذا الشاعر الآدم «3» ، قال بعض من حضر: لا يضره سواده مع بياض أياديك عنده، قال: أجل، ووصله. أخذ قوله: أرى المنايا على غيرى فأكرهها من قول أعرابى قيل له: ألا تغزو؟ قال: أنا والله أكره الموت على فراشى، فكيف أمشى إليه ركضا؟ [الاستطراد] وهذا المذهب الذى سلكه أحمد ضرب من البديع يسمّى الاستطراد، وذلك أن الفارس يظهر أنه يستطرد لشىء ويبطن غيره، فيكرّ عليه، وكذلك هذا

الشاعر يظهر أنه يذهب لمعنى فيعن له آخر فيأتى به، كأنه على غير قصد، وعليه بناه، وإليه كان معزاه «1» ، وقد أكثر المحدثون منه فأحسنوا فى ذلك. قال الأصمعى: كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فقال: أنشدنى من شعرك، فأنشده: وآمرة بالبخل قلت لها: اقصرى ... فليس إلى ما تأمرين سبيل أرى الناس خلّان الجواد، ولا أرى ... بخيلا له فى العالمين خليل ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئا أن يكون منيل فعالى فعال المكثرين تجمّلا ... ومالى كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل فقال الرشيد: يا فضل؛ أعطه عشرين ألف درهم. ثم قال: لله أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أتقن أصولها، وأبين فصولها. وأقل فضولها! فقال: والله يا أمير المؤمنين؛ لا قبلت منها درهما واحدا. قال: ولم؟ قال: لأن كلامك، والله، خير من شعرى. فقال: يا فضل؛ ادفع إليه أربعين ألفا. قال الأصمى: فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك منى. ومن ذلك «2» قول أبى تمام يصف فرسا: وسابح هطل التّعداء هتّان ... على الجراء أمين عير خوّان أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه ... فخلّ عينيك فى ريّان ظمآن فلو تراه مشيحا والحصى زيم ... بين السنابك من مثنى ووحدان أيقنت- إن لم تثبّت- أنّ حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان وقد احتذى البحترى هذا الحذو فى حمدويه الأحول، وكان حمدويه هذا عدوا للممدوح، فقال:

[سبق المتقدمين إلى الاستطراد]

وأغرّ فى الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل كالهيكل المبنىّ إلّا أنه ... فى الحسن جاء كصورة فى هيكل ملك العيون؛ فإن بدا أعطينه ... نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول وفى قصيدته هذه يحكى أن البحترى قال له أصحابه: إنك ستعاب بهذا البيت؛ لأنك سرقته من أبى تمام، قال: أعاب من أخذى من أبى «1» تمام؟! والله ما قلت شعرا قط إلا بعد أن أحضرت شعره فى فكرى، قال: وأسقط البيت بعد، فلا يوجد فى أكثر النسخ. [سبق المتقدمين إلى الاستطراد] وهذا معنى قد أعجب المحدثين، وتخيّلوا أنهم لم يسبقوا إليه، وقد تقدّم لمن قبلهم، قال الفرزدق: كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا جلسوا أفواه بكر بن وائل قال الحاتمى: وأنى جرير بهذا النوع فحثا «2» فى وجه السابق إلى هذا المعنى فضلا عمن تلاه؛ فإنه استطرد فى بيت واحد، فهجا فيه ثلاثة، فقال: لما وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل وقيل هذا البيت مما يرد على الحاتمى، وهو قوله: أعددت للشعراء كأسا مرّة ... فسقيت آخرهم بكأس الأول قال أبو إسحاق: وأوّل من ابتكره السموءل بن عادياء اليهودى، وكل أحد تابع له فقال: وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول

وقد قال طرفة فى هذا المعنى: فلو شاء ربى كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربى كنت عمرو بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير، وعادنى ... بنون كرام سادة لمسوّد قيس بن خالد: ذو الجدّين الشيبانى. وعمرو بن مرثد: سيد بنى قيس بن ثعلبة، فدعا [عمرو] طرفة لما بلغه ذلك، فقال: أما البنون فإن الله يعطيك، ولكن لا تريم حتى تكون من أوسطنا حالا؛ وأمر بنيه وكانوا عشرة، فدفع إليه كلّ واحد منهم عشرا من الإبل؛ فانصرف بمائة ناقة. وكان ابن عبدل منقطعا إلى عبد الله بن بشر بن مروان «1» ، فتأخر عنه برّه، وغاب أياما، ثم أتاه فسأله عن غيبته، فقال: خطبت ابنة عم لى بالسواد، فزعمت أنّ لها ديونا وأسلافا «2» هناك، وأنى إذا جمعتها لها صارت إلى محبتى، ففعلت ذلك، فلما استنجزتها كتبت إلىّ: سيخطئك الذى أمّلت منّى ... إذا انتقضت عليك قوى حبالى كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعدّ ذلك رأس مال «3» فقال: ما أحسن ما ألطفت بالسؤال! وأجزل صلته. ومن بديع هذا الباب قول بشار بن برد: خليلىّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره؛ إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة؛ إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته فى حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلّا وأنت كمين فقل لأبى يحيى متى تبلغ العلا ... وفى كل معروف عليك يمين وقال بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق:

[شاعر باهلى فى حضرة الرشيد]

عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت: قم فجئنى بكوكب فقلت لها: هذا التعنّت كله ... كمن يشتهى لحم عنقاء مغرب سلى كلّ أمر يستقيم طلابه ... ولا تذهبى يا درّ فى كلّ مذهب فأقسم لو أصبحت فى عزّ مالك ... وقدرته ما رام ذلك مطلبى فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح ثعلب واعتذر رجل إلى رجل بحضرة عبد الأعلى بن عبد الله فلم يقبل عذره، فقال عبد الأعلى: أما والله لئن كان احتمل إثم الكذب ودنامته، وخضوع الاعتذار وذلّته، فعاقبته على الذّنب الذاهب، ولم تشكر له إنابة التائب، إنك لمن يسىء ولا يحسن. وقال الحطيئة: يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدّوا المكان الذى سدّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا «1» وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردّوا ويعذلنى أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذى علمت سعد «2» [شاعر باهلى فى حضرة الرشيد] ووصّل سعيد بن سلم إلى الرشيد شاعرا باهليّا، فأنشده قصيدة حسنة، فاسترابه الرشيد، وقال: أسمعك مستحسنا، وأنكرك متّهما «3» ؛ فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل فى هذين، وأشار إلى الأمين والمأمون وكانا جالسين.

[كاتب الحجاج عند سليمان بن عبد الملك]

فقال: يا أمير المؤمنين، حملتنى على غير الجدد: هيبة الخلافة، ووحشة الغربة، وروعة المفاجأة، وجلالة المقام، وصعوبة البديهة، وشرود القوافى، على غير الرويّة، فليمهلنى أمير المؤمنين حتى يتألّف نافر القول. فقال الرشيد: لا عليك ألّا تقول؛ قد جعلت اعتذارك عوض امتحانك. فقال: يا أمير المؤمنين؛ نفّست الخناق، وسهّلت ميدان السباق، ثم قال: بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبّة الإسلام فاخضرّ عودها هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت- أمير المؤمنين- عمودها فقال الرشيد: وأنت بارك الله فيك، سل ولا تكن مسألتك دون إحسانك فقال: الهنيدة يا أمير المؤمنين «1» ! فأمر له بها، وبخلع نفيسة، وصلة جزيلة. [كاتب الحجاج عند سليمان بن عبد الملك] دخل يزيد بن أبى مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فازدراه ونبت عينه عنه، فقال: ما رأت عينى كاليوم قطّ، لعن الله امرأ أجرّك رسنه، وحكّمك فى أمره. فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك؛ فإنك رأيتنى والأمر عنى مدبر، وعليك مقبل؛ فلو رأيتنى والأمر علىّ مقبل، وعنك مدبر، لاستعظمت منى ما استصغرت، واستكبرت ما استقللت. قال: عزمت عليك يابن أبى مسلم لتخبرنّى عن الحجاج، أتراه يهوى فى جهنم أم قد قرّ بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا فى الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأمّن دولتكم، وأخاف عدوّكم، وكأنى به يوم القيامة وهو عن يمين أبيك، ويسار أخيك، فاجعله حيث شئت. فقال له سليمان: اعزب «2» إلى لعنة الله! فخرج، فالتفت سليمان إلى جلسائه

[من أدب إبراهيم بن العباس الموصلى]

فقال: قاتله الله! ما أحسن بديهته، وترفيعه لنفسه ولصاحبه! وقد أحسن المكافأة فى الصنيعة، خلّوا عنه. [من أدب إبراهيم بن العباس الموصلى] قال إبراهيم بن العباس الموصلى: والله ما اتّكلت فى مكاتبة قط إلّا على ما يجلبه خاطرى، ويجيش به صدرى، إلّا قولى فى فصل: وصار ما كان يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم. وقولى فى رسالة أخرى: «فأنزلوه من معقل إلى عقّال، وبدّلوه آجالا بآمال» ، فإنى ألممت فى هذا بقول الصريع «1» : موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل وفى المعنى الأول يقول أبو تمام: فإن يبن حيطانا عليه فإنما ... أولئك عقّالاته لا معاقله وكان يقول: ما تمنّيت كلام أحد أن يكون لى إلّا قول عبد الحميد بن يحيى: الناس أصناف متباينون، وأطوار متفاوتون، منهم علق مضنّة لا يباع، وغل مظنّة لا يبتاع. ورد كتاب بعض الكتاب إلى إبراهيم بن العباس بذم رجل ومدح آخر؛ فوقّع فى كتابه: إذا كان للمحسن من الجزاء ما يقنعه، وللمسىء من النّكال ما يقمعه، بذل المحسن الواجب عليه رغبة، وانقاد المسىء للحق رهبة. فوثب الناس يقبّلون يده. ووقع لرجل متّ إليه بحرمة: تقدمت بحرمة مألوفة، ووسيلة معروفة، أقوم بواجبها، وأرعاها من جميع جوانبها. وإبراهيم بن العباس هو القائل: لنا إبل كوم يضبق بها الفضا ... وتغبرّ منها أرضها وسماؤها

فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن يستذمّ دماؤها «1» حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حقّ فناؤها وقال الصولى: وجدت بخط عبد الله بن أبى سعيد إبراهيم بن العباس أنشده لنفسه: وعلّمتنى كيف الهوى وجهلته ... وعلّمكم صبرى على ظلمكم ظلمى وأعلم مالى عندكم فيردّنى ... هواى إلى جهلى فأرجع عن علمى فقلت: أسبقك إلى هذا أحد؟ فقال: العباس بن الأحنف بقوله: تجنّب يرتاد السلوّ فلم يجد ... له عنك فى الأرض العريضة مذهبا فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرا ... وعاد إلى ما تشتهين وأعتبا «2» قال الصولى: وأظن أنّ ابن أبى سعيد غلط فى هذه الرواية؛ لأن الأشبه بقول ابن العباس: «فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرا» قوله: كم قد تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدّد حزن هوّن الماضى وكم سخطت وما باليتم سخطى ... حتى رجعت بقلب ساخط راضى وأنشد له: لمن لا أرى أعرضت عن كلّ من أرى ... وصرت على قلبى رقيبا لقاتله أدافعه عن سلوة وأردّه ... حياء إلى أوصابه وبلابله وقال فى هذا النحو: وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع وما بك إن بعدوا وحدة ... ولا معهم إن بعدت اجتماع وقال الطائى: إذا جئت لم أحزن لبعد مفارق ... وإن غبت لم أفرح بقرب مقيم

[رثاء مصلوب]

فيا ليتنى أفديك من غربة النوى ... بكلّ أخ لى واصل وحميم وأصل هذا من قول مالك بن مسمع للأحنف بن قيس: «ما أشتاق للغائب إذا حضرت، ولا أنتفع بالحاضر إذا غبت» . وقال إبراهيم بن العباس: تدانت بقوم عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها «1» وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها وليلى كمثل النار ينفع ضوءها ... بعيدا نأى عنها ويحرق جارها كأنه نظر إلى قول النّظار الفقعسىّ: يقولون هذى أمّ عمرو قريبة ... دنت بك أرض نحوها وسماء ألا إنما بعد الخليل وقربه ... إذا هو لم يوصل إليه سواء وقوله: «وليلى كمثل النار» كقول العباس بن الأحنف: أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا صرت كأنّى ذبالة نصبت ... تضئ للنّاس وهى تحترق وقال إبراهيم بن العباس: أميل مع الصديق على ابن عمى ... وآخذ للصديق من الشقيق وإن ألفيتنى حرّا مطاعا ... فإنك واجدى عبد الصّديق أفرّق بين معروفى ومنّى ... وأجمع بين مالى والحقوق [رثاء مصلوب] قال العقيلى يرثى صديقا له أخذ فى خربة «2» فقتل وصلب: لعمرى لئن أصبحت فوق مشدّب ... طويل تعفّيك الرياح مع القظر

[كلام لا يحتمل الجواب]

لقد عشت مبسوط اليدين مرزّأ ... وعوفيت عند الموت من ضغطة القبر وأفلتّ من ضيق التراب وغمّه ... ولم تفقد الدنيا؛ فهل لك من شكر فما تشتفى عيناى من دائم البكى ... عليك، ولو أنى بكيت إلى الحشر فطوبى لمن يبكى أخاه مجاهرا ... ولكننى أبكى لفقدك فى ستر [كلام لا يحتمل الجواب] وكتب محمد بن كثير إلى هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين؛ لولا حظ كرم الفعل فى مطالع السؤال، لألهى المطل قلوب الشاكرين، ولصرف عيون الناظرين إلى حسن المحبة، فأىّ الحالين يبعد قولك عن مجاز فعلك؟ فقال هارون الرشيد: هذا الكلام لا يحتمل الجواب؛ إذ كان الإقرار به يمنع من الاحتجاج عليه. [تعجيل الإحسان] وقال يحيى بن أكثم للمأمون يذكر حاجة له قد وعده بقضائها، واغفل ذلك: أنت يا أمير المؤمنين أكرم من أن نعرّض لك بالاستنجاز، ونقابلك بالادّكار، وأنت شاهدى على وعدك، وأن تأمر بشىء لم تتقدّم أيامه، ولا يقدر زمانه، ونحن أضعف من أن يستولى علينا صبر انتظار نعمتك، وأنت الذى لا يؤوده «1» إحسان، ولا يعجزه كرم؛ فعجّل لنا يا أمير المؤمنين ما يزيدك كرما، وتزداد به نعما، ونتلقّاه بالشكر الدائم. فاستحسن المأمون هذا الكلام، وأمر بقضاء حاجته. قدم على المأمون رجل من أبناء الدهاقين وعظمائهم، من أهل الشام، على عدة سلفت له من المأمون «2» ، من توليته بلده، وأن يضمّ إليه مملكته، فطال على

[فضل الإيجاز]

الرجل انتظار خروج أمر أمير المؤمنين بذلك، فقصد عمرو بن مسعدة وسأله إيصال رقعة إلى المأمون من ناحيته، فقال: اكتب بما شئت فإنى موصله، قال: فتولّ ذلك عنى، حتى تكون لك نعمتان. فكتب عمرو: إن رأى أمير المؤمنين أن يفكّ أسر عدته من ربقة المطل، بقضاء حاجة عبده، والإذن له بالانصراف إلى بلده، فعل موفّقا. فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمرا، وجعل يعجب من حسن لفظها، وإيجاز المراد فيها، فقال له عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتابة له فى هذا الوقت بما سأل؛ لئلا يتأخّر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة تنفى دناءة المطل. ومن كلام عمرو بن مسعدة: أعظم الناس أجرا، وأنبههم ذكرا، من لم يرض بحياة العدل «1» فى دولته، وظهور الحجّة فى سلطانه، وإيصال المنافع إلى رعيّته فى حياته، حتى احتال فى تخليد ذلك فى الغابرين بعده، عناية بالدين، ورحمة بالرّعية، وكفاية لهم من ذلك ما لو عنوا باستنباطه لكان يعرض أحد الأمرين، إما الإكداء «2» عن إصابة الحق فيه لكثرة ما يعرض من الالتباس، وإما إصابة الرأى بعد طول الفكر، ومقاساة التجارب، واستغلاق كثير من الطرق إلى دركه؛ وأسعد الرّغاة من دامت سعادة الحق فى أيامه، وبعد وفاته وانقراضه. [فضل الإيجاز] وقال رجل لسويد بن منجوف، وقد أطال الخطبة بكلام افتتحه للصلح بين قوم من العرب: «يا هذا؛ أتيت مرعى غير مرعاك، أفلا أدلّك عليه؟ قال: نعم. قال:

[أبو مسلم]

قل: «أما بعد، فإنّ فى الصلح بقاء الآجال، وحفظ الأموال، والسلام» . فلما سمع القوم هذا الكلام تعانقوا وتواهبوا التّرات «1» [أبو مسلم] قال عبد الله بن مسعود «2» : لما أمر أبو مسلم بمحاربة عبد الله بن على «3» دخلت عليه فقلت: «أيها الأمير، تريد عظيما من الأمر» ؟ قال: وما هو؟ قلت: عم أمير المؤمنين وهو شيخ قومه، مع نجدة، وبأس، وحزم، وحسن سياسة. فقال لى: يا بن شبرمة، أنت بحديث تعلم معانيه، وشعر توضح قوافيه، أعلم منك بالحرب؛ إن هذه دولة قد اطردت أعلامها، وامتدت أيامها، فليس لمناوئها والطامع فيها يد تنيله شيئا من الوثوب عليها، فإذا ولّت أيامها فدع الوزغ بذنبه فيها. قال بعض حكماء خراسان: لما بلغنى خروج أبى مسلم أتيت عسكره لأنظر إلى تدبيره وهيبته، فأقمت فيه أياما، فبلغنى عنه شدة عجب، وكبر ظاهر، فظننت أنه تحلّى بذلك لعىّ فيه أراد أن يستره بالصّمت، فتوصّلت إليه بحيث أسمع كلامه، وأغيب عن بصره، فسلمت فردّ ردا جميلا، وأمر بإدخال قوم يريد تنفيذهم فى وجه من الوجوه، وقد عقدوا لرجل منهم لواء، فنظر إليهم ساعة متأمّلا لهم، وقال: افهموا عنى وصيّتى إياكم؛ فإنها أجدى عليكم من أكثر تدبيركم، وبالله توفيقكم. قالوا: نعم أيها السالار، ومعناه السيد بالفارسية، فسمعته يقول، ومترجم يحكى كلامه بالفارسية لمن عبّر له منهم بالعربية: «أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها سبب الظّفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب، وعليكم بعصبيّة الأشراف، ودعوا عصبية الدناءة؛ فإن الأشراف تظهر بأفعالها، والدناءة بأقوالها» .

[حساب]

وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال: بمثل أبى مسلم يدرك ثار، وينفى عار، ويؤكد عهد، ويبرم عقد، ويسهّل وعر، ويخاض غمر، ويقلع ناب، ويفتح باب. [حساب] وقال رجل لأبى جعفر المنصور: أين ما تحدّث به فى أيام بنى أمية؟ إنّ الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين، ولم تعامل بالعدل فى الرعية، وقسمة الفىء بالسويّة، صار عاقبة أمرها بوارا، وحاق بولاتها سوء العذاب. قال: فتنفس ثم قال: قد كان ما تقول، ولكنا يا أخى استعجلنا الفانية على الباقية، وكأن قد انقضت هذه الدار. فقال له الرجل: فانظر على أى حالة تنقضى. وقال أبو الدوانيق وكان فصيحا بليغا: «عجبا لمن أصار علمه غرضا لسهام الخطايا، وهو عارف بسرعة المنايا، اللهم إن تقض للمسيئين «1» صفحا فاجعلنى منهم، وإن تهب للظالمين فسحا فلا تحرمنى ما يتطوّل به المولى على أخسّ عبيده» . [من كلام الأحنف بن قيس] سئل الأحنف بن قيس عن العقل؟ فقال: رأس الأشياء؛ فيه قوامها، وبه تمامها؛ لأنه سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجسد «2» ، وزينة كل أحد، لا تستقيم الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه. ولما خطب زياد خطبته المشهورة قام الأحنف بن قيس، فقال: الفرس بشدّه، والسيف بحدّه، والمرء بجدّه، وقد بلغ بك جدك ما أرى، وإنما الثناء بعد البلاء، فإنا لا نثنى حتى نبلو «3»

[مما كتبه ابن الزيات]

[مما كتبه ابن الزيات] وكتب ابن الزيات عهد الواثق على مكة بحضرة المعتصم: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد قلّدك مكة وزمزم، تراث أبيك الأقدم، وجدّك الأكرم، وركضة جبريل «1» ، وسقيا إسماعيل، وحفر عبد المطلب، وسقاية العباس؛ فعليك بتقوى الله تعالى، والتوسعة على أهل بيته. وكتب: لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليه، وزيادة منتظرة له، ثم قال لمحمد بن رباح: كيف ترى؟ قال: كأنهما قرطان بينهما وجه حسن، ومع ذلك ذكر ابن الزيات أمر الحرم بتعظيم وتفخيم ألفاظ لأهل العصر فى التهنئة بالحج، وتفخيم [أمر] الحرم و [تعظيم] أمر المناسك والمشاعر، وما يتص بها من الأدعية قصد البيت العتيق، والمطاف الكريم، والملتزم النبيه، والمستلم النزيه. [وقف بالمعرّف العظيم، وورد زمزم والحطيم] . حرم الله الذى أوسعه للناس كرامة، وجعله لهم مثابة «2» ، وللخليل خطّة، وللذبيح خلّة، ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبلة، ولأمّته كعبة، ودعا إليه حتى لبّى من كل مكان سحيق، وأسرع نحوه من كل فجّ عميق، يعود عنه من وفّق وقد قبلت توبته، وغفرت حوبته «3» ، وسعدت سفرته، وأنجحت أوبته، وحمد سعيه، وزكا حجّه، وتقبل عجّه وثجّه «4» . انصرف مولاى عن الحجّ الذى انتضى له عزائمه، وأنضى فيه رواحله، وأتعب نفسه بطلب راحتها، وأنفق ذخائره بشراء سعة الجنة وساحتها؛ فقد زكت إن شاء الله تعالى أفعاله وتقبّلت أعماله، وشكر سعيه، وبلغ هديه.

[من شعر قطرى بن الفجاءة]

قد أسقطت عن ظهرك الثقل العظيم، وشهدت الموقف الكريم، ومحصت عن نفسك بالسّعى من الفجّ العميق، إلى البيت العتيق. حمدا لمن سهل عليك قضاء فريضة الحج، ورؤية المشعر والمقام، وبركة الأدعية والموسم، وسعادة أفنية الحطيم وزمزم قصد أكرم المقاصد، وشهد أشرف المشاهد؛ فورد مشارع الجنة، وخيّم بمنازل الرحمة. وقد جمعت مواهب الله لديك: فالحجّ أديت فرضه، وحرم الله وطئت أرضه، والمقام الكريم قمته، والحجر الأسود استلمته، وزرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم مشافها لمشهده، ومشاهدا لمسجده. ومباشرا باديه ومحضره، وماشيا بين قبره ومنبره، ومصليا عليه حيث صلّى، ومتقربا إليه بالقرابة العظمى، وعدت وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، وتجارتك رابحة، والبركات عليك غادية ورائحة. تلقّى الله دعاءك بالإجابة، واستغفارك بالرضا، وأملك بالنّجح، وجعل سعيك مشكورا، وحجّك مبرورا. عرّف الله تعالى مولاى مناهج ما نواه، وقصده وتوخّاه، ما يسعده فى دنياه، ويحمد عقباه. [من شعر قطرى بن الفجاءة] قال أبو حاتم: أتيت أبا عبيدة ومعى شعر عروة بن الورد، فقال لى: ما معك؟ قلت: شعر عروة، قال: شعر فقير، يحمله فقير، ليقرأه على فقير! قلت: ما معى [شعر] غيره؛ فأنشدنى أنت ما شئت، فانشدنى: يا رب ظلّ عقاب قد وقيت به ... مهرى من الشمس والأبطال تجتلد «1» وربّ يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلى اقتسارا وأطراف القنا قصد «2» ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به ... لهوى اصطلاء الوغى وناره تقد

[من جيد المديح]

مشهّرا موقفى والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطّرد ورب هاجرة تغلى مراجلها ... مخرتها بمطايا غارة تخد «1» تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد يصطادها أسد فإن أمت حتف أنفى لا أمت كمدا ... على الطعان وقصر العاجز الكمد «2» ولم أقل لم أساق الموت شاربه ... فى كأسه والمنايا شرّع ورد ثم قال: هذا والله هو الشعر، لا ما يتعللون به من أشعار المخانيث. والشعر لقطرى بن الفجاءة المازنى، وكان يكنى فى السلم أبا محمد، وفى الحرب أبا نعامة، وكان أطول الخوارج أياما، وأحدّهم شوكة، وكان شاعرا جوادا، وهو القائل أيضا: لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متهيّبا لحمام فلقد أرانى للرماح دريئة ... من عن يمينى تارة وأمامى حتى خضبت بما تحدّر من دمى ... أكناف سرجى أو عنان لجامى ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام [من جيّد المديح] وقال المسيب بن علس: تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب وكالشهد بالراح ألفاظهم ... وأخلاقهم منهما أعذب وكالمسك ترب مقاماتهم ... وترب أصولهم أطيب وقال آخر: اذكر مجالس من بنى أسد ... بعدوا فحنّ إليهم القلب الشرق منزلهم، ومنزلنا ... غرب، وأين الشرق والغرب؟

[بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد]

من كل أبيض جلّ زينته ... مسك أحمّ وصارم عضب «1» ومدجّج يسعى لغارته ... وعقيرة بفنائه تخبو «2» آخر: رأيتكم بقية آل حرب ... وهضبتها التى فوق الهضاب تبارون الرياح ندى وجودا ... وتمتثلون أفعال السحاب يذكرنى مقامى اليوم فيكم ... مقامى أمس فى ظلّ الشباب [بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد] كتب سعيد بن عبد الملك إلى سعيد بن حميد: أكره- أطال الله بقاءك! - أن أضعك ونفسى موضع العذر والقبول، فيكون أحدنا معتذرا مقصّرا، والآخر قابلا متفضّلا، ولكن أذكر ما فى التلاقى من تجديد البرّ، وفى التخلّف من قلة الصبر، وأسأل الله تعالى أن يوفّقك وإيانا لما يكون منه عقبى الشكر فاجابه: وصل كتابك- أكرمك الله تعالى! - الحاضر سروره، للطيف موقعه، الجميل صدوره ومورده، الشاهد ظاهره على صدق باطنه، ونحن- أعزّك الله- نجعل جزاءك حسن الاعتراف بفضلك، ومجاراتك التقصير دونك؛ ونرى أن لا عذر فى التخلف عنك، وإن حالت الأشغال بيننا وبينك. وإن كنت سامحت فى العذر قبل الاعتذار، وسبقت إلى فضيلة الاغتفار، فلا زلت على كلّ خير دليلا، وإليه داعيا، وبه آمرا؛ ولقد التقينا قبل وصول كتابك لقاء أحدث وطرا، وهاج شوقا، وأرجو أن تتّسع لنا الجمعة بما ضاقت به الأيام؛ فننال حظّا من محادثتك والأنس بك

[منزلة سعيد بن حميد]

[منزلة سعيد بن حميد] ولسعيد بن حميد حلاوة فى منظومه ومنثوره، لكنه قليل الاختراع، كثير الإغارة على من سبقه؛ وكان يقال: لو رجع كلام كل أحد إلى صاحبه لبقى سعيد ابن حميد ساكتا. وفيه يقول أبو على البصير: رأس من يدعى البلاغة منى ... ومن الناس، كلهم فى حرامّه وأخونا ولست أكنى سعيد ب ... ن حميد تؤرخ الكتب باسمه هذا المعنى ينظر إلى قول منصور الفقيه وإن لم يكن منه: تضيق به الدنيا فينهض هاربا ... إذا نحن قلنا: خيرنا الباذل السّمح فإن قيل: من هذا الشقى؟ أقل لهم ... على شرط كتمان الحديث: هو الفتح وكان سعيد يهوى فضل الشاعرة؛ فعزم مرة على سفر، فقالت له: كذبتنى الودّ أن صافحت مرتحلا ... كفّ الفراق بكفّ الصبر والجلد لا تذكرنّ الهوى والشوق لو فجعت ... بالشوق نفسك لم تصبر على البعد وكان سعيد عند بعض إخوانه، فنهض منصرفا وأخذ بعضا دتى الباب، وأنشأ يقول: سلام عليكم، حالت الكأس بيننا ... وولّت بنا عن كل مرأى ومسمع فلم يبق إلا أن يصافحنى الكرى ... فيجمع سكرا بين جسمى ومضجعى وقال [سعيد] : أرى ألسن الشكوى إليك كليلة ... وفيهنّ عن غير الثناء فتور «1» تقيم على العتب الذى ليس نافعا ... وليس لها إلا إليك مصير وما أنت إلّا كالزمان تلوّنت ... نوائب من أحداثه وأمور فإن قلّ إنصاف الزمان وجوده ... فمن ذا على جور الزمان يجير

[من السرقات الشعرية]

[من السرقات الشعرية] أما قوله: تقيم على العتب الذى ليس نافعا فمن قول المؤمّل: لا تغضبنّ على قوم تحبّهم ... فليس منك عليهم ينفع الغضب يا جائرين علينا فى حكومتهم ... والجور أقبح ما يؤتى ويرتكب لسنا إلى غيركم منكم نفرّ إذا ... جرتم، ولكن إليكم منكم الهرب وأول من نبّه على هذا المعنى النابغة الذبيانىّ فى قوله للنعمان بن المنذر. فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع خطاطيف حجن فى حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع سرقه أشجع السّلمى فقال لإدريس بن عبد الله بن الحسين بن على، وقد بعث إليه الرشيد من اغتاله فى المغرب: أتظنّ يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخلافة أو يقيك حذار إنّ السيوف إذا انتضاها عزمه ... طالت، وتقصر دونها الأعمار هيهات إلّا أن تحلّ ببلدة ... لا يهتدى فيها إليك نهار وقال سلم الخاسر يعتذر إلى المهدى: إنى أعز بخير الناس كلهم ... وأنت ذاك لما يأتى ويجتنب وأنت كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... فى كل ناحية ما فاتك الطّلب فليس إلا انتظارى منك عارفة ... فيها من الخوف منجاة ومنقلب وقول سلم: ولو ملكت عنان الريح أصرفه

كأنه من قول الفرزدق للحجاج: ولو حملتنى الريح ثم طلبتنى ... لكنت كمود أدركته مقادره «1» وقول على بن جبلة لحميد الطوسى: وما لامرئ حاولته منك مهرب ... ولو رفعته فى السماء المطالع أخذه البحترى فقال: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا فلو انّهم ركبوا الكواكب لم يكن ... ليجيرهم من حدّ بأسك مهرب وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فى نحو قول النابغة: وإنى وإن حدّثت نفسى بأننى ... أفوتك إنّ الرأى منى لعازب لأنك لى مثل المكان المحيط بى ... من الأرض لولا استنهضتنى المذاهب وأما قول سعيد: وما أنت إلا كالزمان والبيت الذى يليه، فكأنه ألمّ فيه بقول شمعل الثعلبى وإن لم يكن المعنى بنفسه: أمن جذبة بالرجل منى تباشرت ... عداتى، ولا عتب علىّ ولا هجر فإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما صنع الدهر وقال رجل من طيئ وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتل رجلا اسمه زيد فأقاد منه السلطان، فقال الطائى يفتخر على الأسديين: علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مشحوذ الغرار يمانى «2» فإن تقتلوا زيدا بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان وقول الثعلبى مأخوذ من قول النابغة، وهو أوّل من ابتكره: وعيرتنى بنو ذبيان خشيته ... وما علىّ بأن أخشاك من عار

ومن جيد شعر سعيد بن حميد: أهاب وأستحيى وأرقب وعده ... فلا هو يبدانى ولا أنا أسأل هو الشمس مجراها بعيد وضوءها ... قريب، وقلبى بالبعيد موكّل وهذا المعنى وإن كان كثيرا مشهورا فما يكاد يدانى فى الإحسان فيه. وقد قال أبو عيينة: غزتنى جيوش الحبّ من كل جانب ... إذا حان من جند قفول غزا جند أقول لأصحابى: هى الشمس، ضوءها ... قريب، ولكن فى تناولها بعد وقال العباس بن الأحنف: هى الشمس مسكنها فى السماء ... فعزّ الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا وقال البحترى: دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تدانى ... ويدنو الضوء منها والشعاع وقال ابن الرومى: وذخرته للدهر أعلم أنه ... كالدهر فيه لمن يؤول مآل ورأيته كالشمس إن هى لم تنل ... فالنّور منها والضياء ينال وقال المتنبى: بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا لمن طلبا كأنها الشمس يعيى كفّ قابضها ... شعاعها وتراه العين مقتربا وقال سعيد بن حميد، ويروى لفضل الشاعرة:

ما كنت أيام كنت راضية ... عنّى بذاك الرضا بمغتبط علما بأنّ الرضا سيتبعه ... منك التجنّى وكثرة السّخط فكلّ ما ساءنى فعن خلق ... منك وما سرّنى فعن غلط وفى هذا المعنى يقول أبو العباس الهاشمى من ولد عبد الصمد بن على، ويعرف بأبى العبر. أبكى إذا غضبت، حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفا من الغضب فالموت إن غضبت، والموت إن رضيت ... إن لم يرحنى سلوّ عست فى تعب وقال العباس بن الأحنف: إذا رضيت لم يهننى ذلك الرّضا ... لصحة علمى أن سيتبعه عتب وأبكى إذا ما أذنبت خوف عتبها ... فأسألها مرضاتها ولها الذّنب وصالكم هجر، وقربكم قلى ... وعطفكم صدّ وسلمكم حرب وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكلّ ذلول من أموركم صعب «1» وقال: قد كنت أبكى وأنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب إن تمّ ذا الهجر يا ظلوم ولا ... تمّ فمالى فى العيش من أرب «2» وما أحسن قول القائل: وما فى الأرض أشقى من محبّ ... وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا فى كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق «3» فيبكى إن نأوا حذرا عليهم ... ويبكى إن دنوا خوف الفراق

[الاقتباس من القرآن الكريم]

وتسخن عينه عند التنائى ... وتسخن عينه عند التلاق [الاقتباس من القرآن الكريم] وقال سعيد بن حميد: إذا نزعت فى كتابى «1» بآية من كتاب الله تعالى أثرت إظلامه، وزيّنت أحكامه، وأعذبت كلامه. أمثال للعرب والعجم والعامة وما يماثلها من كتاب الله تعالى [مما هو أجل منها وأعلى] أخرجها أبو منصور عبد الملك الثعالبى قال علىّ رضى الله تعالى عنه: «القتل أنفى للقتل» ، وفى القرآن: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» . والعرب تقول لمن يعيّر غيره بما هو فيه: «عيّر بجير بجره ونسى بجير خبره «2» » ، وفى القرآن: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ» . وفى معاودة العقوبة عند معاودة الذنب: «إن عادت العقرب عدنا لها» وفى القرآن: «وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا» . «وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ» . وفى ذوق الجانى وبال أمره: «يداك أو كتا، وفوك نفخ» . وفى القرآن: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» . وفى قرب الغد من اليوم قول الشاعر وإن غدا لناظره قريب وفى القرآن: «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» . وفى ظهور الأمر: «قد وضح الأمر لذى عينين» ، وفى القرآن: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» . وفى الإساءة إلى من لا يقبل الإحسان: «أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة» .

وفى القرآن: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» . وفى فوت الأمر: «سبق السّيف العذل» ، وفى القرآن العظيم: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» . وفى الوصول إلى المراد ببذل الرغائب: «من ينكح الحسناء يعط مهرها» وفى القرآن: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» . وفى منع الرجل مراده: وقد حيل بين العير والنّزوان «1» وفى القرآن: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» . وفى تلافى الإساءة: «عاد غيث على ما أفسد» ، وفى القرآن: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا» . وفى الاختصاص: «كل مقام بمقال «2» » . وفى القرآن «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» . العجم: «من احترق كدسه تمنى إحراق أكداس الناس «3» » ، وفى القرآن: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» . العامة: «من حفر لأخيه بئرا وقع فيها» ، وفى القرآن: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» . ومن الشعر: كل امرىء يشبهه فعله ... ما يفعل المرء فهو أهله وفى القرآن: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» . العامة: «كل البقل ولا تسأل عن المبقلة» . وفى القرآن: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» .

جملة من مكاتبات [بعض] أهل العصر

شعر: كم مرة حفّت بك المكاره ... خار لك الله وأنت كاره وفى القرآن: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» . العامة: «المأمول خير من المأكول» ، وفى القرآن: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» . العامة: «لو كان فى اليوم خير ما سلّم علىّ الصياد» ، وفى القرآن: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» . المتنبى: مصائب قوم عند قوم فوائد وفى القرآن: «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» . عند الخنازير تنفق العذرة وفى القرآن: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» . العجم: «لم يرد الله بالنملة صلاحا إذ أنبت لها جناحا» ، وفى القرآن: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً» . العامة: الكلب لا يصيد كارها، وفى القرآن: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» . العجم: «كل شاة تناط برجلها» ، وفى القرآن: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» . جملة من مكاتبات [بعض] أهل العصر أبو القاسم محمد بن على الإسكافى عن الأمير نوح بن نصر وعن ابنه عبد الملك لأبى طاهر وشمكير بن زياد يشكره على حميد سيرته: من حمدناه- أعزّك الله تعالى- من أعيان الملّة الذين بهم افتخارها، وأعوان الدولة الذين بهم استظهارها، بخلّة ينزع فيها من خلال «1» الفضل، وخصلة يكمل بها من خصال العدل. وإنّك- أعزّك الله! - من نحمده بالارتقاء فى درج الفضائل، والاستواء فى كلّ الشواكل؛ فإنه ليس من محمدة إلا وسهمك فيها فائز، [ولا من شدة إلا ومهلك «2» فيها بارز] ، وذلك- أعزك الله تعالى! - أمر قد أغنى صدق خبره عن العيان، وكفى بيان أثره تكلّف الامتحان، ولو أعطينا النفوس مناها،

وسوّغناها هواها، لأوردنا عليك فى ذرور «1» كلّ شارق جديد شكر، وجدّدنا لك مع اعتراض كل خاطر جميل ذكر، لكنا للعادة فى ترك الهوى، والثقة بأنك مع صالح آدابك تحلّ الأدنى من الإحماد محلّ الأوفى، فيقضى لك بأنه- وإن عظم قدره- يسير العدد، وعلى ما هو- وإن تناهى لفظه- باقى الفخر مدى الأبد، وكان مما اقتضانا الآن تناولك به أخبار تواترت، وأقوال تظاهرت، بإطباق سكان الحضرة ونيسابور من أهل عملك على شكر ما يتزيّد لهم وفيهم من موادّ عدلك، وحسن فضلك، حتى لقد ظلّوا ولهم فى شكر ذلك محافل تعقد، ومشاهد تشهد، يعجب بها السامع والرائى، ويقترن بها المؤمن والداعى؛ فإن هذا- أعزّك الله- حال يطيب مسمعه، ويلذّ موقعه، حتى لقد ملأ القلوب بهجا، والصدور ثلجا، حتى استفزّها فرط الارتياح، وصدق الانشراح، إلى هذا الكتاب أن أعجلناه، وهذا الشكر أن أجزلناه. بعد ذكر لك اتصل كل الاتصال، وأجمل كل الإجمال، وتضاعف به حظّك من الرأى أضعافا، وأشرف محلك على كل المحال إشرافا، ونحن نهنيك- أعزك الله- على التوفيق الذى قسمه الله لك، والتيسير الذى وكله بك، ونبعثك على استدامتها بصالح النية، وبصادق البغية، لتدنو من العدل على ما ترعى، وتحسن الهدى فيما تتولّى. فرأيك أبقاك الله تعالى فى إحلال ذلك محله من استبشار به تستكمله، واستثمار له تعجّله [إن شاء الله تعالى] . وكتب إليه يعزيه: «إن أحقّ من سلّم لأمر الله تعالى ورضى بقدره، حتى يمحّض مصطنعا «2» ، ويخلص مصطبرا، وحتى يكون بحيث أمر الله من الشكر إذا وهب، والرضا إذا سلب، أنت أعزك الله تعالى؛ لمحلّك من الشكر والحجا، وحظك من الصبر والنّهى، ثم لما ترجع إليه من ثبات الجنان «3» عند النازلة،

وقوة الأركان لعزّ الدولة الفاضلة، فإنّ لك فيها وفى سهمك الفائز، ومهلك البارز، عوضا عن كل مرزوء، ودركا لكل مرجوّ، ونسأل الله أن يجعلك من الشاكرين لفضله إذا أبلى، والصابرين لحكمه إذا ابتلى «1» ، وأن يجعل لك لا بك التعزية، ويقيك فى نفسك وفى ذويك الرزيّة، بمنه وقدرته. وله إليه: ترامى إلينا خبر مصابك بفلان؛ فخلص إلينا من الاغتمام به ما يحصل فى مثله ممّن أطاع ووفى، وخدم ووالى، وعلمنا أن لفقدك مثله لوعة، وللمصاب به لذعة؛ فآثرنا كتابنا هذا إليك فى تعزيتك، على يقيننا بأنّ عقلك يغنى عن عظتك، ويهدى إلى الأولى بشيمتك، والأزيد فى رتبتك، فليحسن- أعزك الله- صبرك على ما أخذه منك، وشكرك على ما أبقى لك، وليتمكّن فى نفسك ما وفّر لك من ثواب الصابرين، وأجزل من ذخر المحسنين، وليرد كتابك مما ألهمك الله تعالى من عزاء، وأبلاكه من جميل بلاء، إن شاء الله تعالى وله إليه جواب: وصل كتابك- أعزّك الله تعالى- مفتتحا بالتعزية عن فلان، وبوصف توجّعك للمصيبة، ونحن نحمد الله تعالى الذى ينعم فضلا، ويحكم عدلا، ويهب إحسانا، ويسلب امتحانا، على مجارى قضيّته كيف حرت آخذة ومعطية، ومواقع مشيئته كيف مضت سارّة ومسيئة، حمد عالمين أن لا حكم إلا له، ولا حول إلا به، ومستمسكين بما أمر به عند المساءة من الصبر، والمسرة من الشكر، راجين ما أعده الله من الثواب للصابرين، والمزيد للشاكرين. وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب «2» ، وأما وحشتك- أعزك الله- للحادث على الماضى، عفا الله عنه، فمثلك من ذوى الصفاء والوفاء اختصّ بذلك واهتم له، وعرف مثله فاغتمّ به؛ فإن الطاعة نسب بين أوليائها، والنعمة سبب بين أبنائها،

[من مقامات بديع الزمان]

فلا عجب أن يمسك فى هذا العارض ما يمسّ أولى المشاركة، ويخصّك من الاهتمام ما خص ذوى المشابكة. وله إليه أيضا فى أمر غزاة: ورد خبرك أكرمك الله تعالى بنفوذك لوجهك فيمن جمعهم الله تعالى للسّعى فى سبيله إلى جملتك؛ فامّلنا أن يكون ذلك موصولا بأعظم الخيرة، مؤدّيا إلى أحسن المغبّة. إلا أنّا أحسسنا من الغزاة الذين بهم تعتضد، وإياهم تستنجد، فتور نيّات، وفساد طويّات؛ وهذا كما علمت باب عظيم يجب الاطلاع بالفكر والرأى عليه، والاحتراس بالجدّ والجهد من الخطل فيه. [فسبيلك أن تتأمّل أمرك بعين استقصاء العورة، واستدراك الآخرة] ، فإن أنت وجدت فى عدتك تمام القدرة، وفى عدّتك مقدار الكفاية، ولم تجد نيّات أولئك الغزاة مدخولة، ولا عراهم محلولة «1» ، استخرت الله تعالى فى المسير بكلّ ما تقدر عليه من الحزم فى أمرك، ثم إن تكن الأخرى، وكان القوم على ما ذكرت من كلال البصائر، وضعف المرائر «2» ، عملت على التلوّم لحديث يحدّثك به كتابنا هذا إن اجتليت ما ذكرته، وإن لم تبلغ بلاغة ما اخترته، فاعتلق بذيله «3» . [من مقامات بديع الزمان] وهذه المقامة من إنشاء البديع، قال عيسى بن هشام: غزوت الثغر بقزوين سنة خمس وسبعين، فما اجتزنا حزنا، إلّا هبطنا بطنا، حتى وقف بنا المسير على بعض قراها، فمالت الهاجرة بنا إلى ظل أثلاث فى حجرها عين كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، تسيح فى الرّضراض، سيح النّضناض «4» ؛ فنلنا من المأكل ما نلنا، ثم ملنا إلى الظل فقلنا؛ فما ملكنا النوم حتى سمعنا صوتا أنكر من صوت الحمار، ورجعا أضغف من رجع الحوار، يشفعهما صوت طبل كأنه خارج

من ما صغى أسد؛ فذاد عن «1» القوم رائد النوم، وفتحت العيون إليه وقد حالت الأشجار دونه، وأصغيت فإذا هو يقول على إيقاع صوت الطّبل: أدعو إلى الله فهل من مجيب ... إلى ذرّى رحب وعيش خصيب وجنّة عالية ما تنى ... قطوفها دانية ما تغيب «2» يا قوم إنى رجل ثائب ... من بلد الكفر وأمرى عجيب «3» إن أك آمنت فكم ليلة ... جحدت فيها وعبدت الصّليب يا ربّ خنزير تمشّشته ... ومسكر أحرزت منه النّصيب «4» ثمّ هدانى الله، وانتاشنى ... من زلّة الكفر اجتهاد المصيب «5» فظلت أخفى الدّين فى أسرتى ... وأعبد الله بقلب منيب أسجد للّات حذار العدى ... ولا أجى الكعبة خوف الرقيب وأسأل الله إذا جنّنى ... ليلى وأضنانى يوم عصيب ربّ كما أنك أنقذتنى ... فنجّنى؛ إنى فيهم غريب ثم اتّخذت الليل لى مركبا ... وما سوى العزم أمامى نجيب وقدك من سيرى فى ليلة ... يكاد رأس الطفل فيها يشيب حتى إذا ما جزت بحر العمى ... إلى حمى الدين نفضت الوجيب وقلت إذ لاح شعار الهدى ... نصر من الله وفتح قريب ولما بلغ هذا البيت قال: يا قوم؛ وطئت والله بلادكم بقلب لا العشق شاقه، ولا الفقر ساقه، وقد تركت وراء ظهرى حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وخيلا مسوّمة، وقناطير مقنطرة، وعدّة وعديدا، ومراكب وعبيدا، وخرجت خروج الحيّة من جحره، وبرزت بروز الطائر من وكره، مؤثرا دينى على

[عاقبة السؤال بلفظ حسن]

دنياى. وجامعا يمناى إلى يسراى، واصلا سيرى بسراى «1» ، فلو رفعتم النار بشررها، ورميتم الروم بحجرها، وأعنتمونى على غزوها مساعدة وإسعادا، ومرافدة وإرفادا، ولا شطط، فكلّ قادر على قدرته، وحسب ثروته. ولا أستكثر البدرة، ولا أردّ التمرة، وأقبل الذّرة، ولكل منى سهمان، سهم أذلّقه للقاء «2» ، وسهم أفوّقه بالدّعاء، وأرشق به أبواب السماء، عن قوس الظلماء. قال عيسى بن هشام: فاستفزنى رائع ألفاظه، وسروت جلباب النوم، وعدوت إلى القوم، وإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، بسيف قد شهره، وزىّ قد نكره؛ فلما رآنى غمزنى بعينه وقال: رحم الله امرأ أحسن حدسه؛ وملك نفسه، وأغنانا بفاضل قوله، وقسم لنا من نيله! ثم أخذ ما أخذ، فقمت إليه فقلت: أنت من أولاد بنات الروم؟ فقال: أنا حالى مع الزما ... ن كحالى مع النسب نسبى فى يد الزما ... ن إذا سامه انقلب أنا أمسى من النبي ... ط وأضحى من العرب [عاقبة السؤال بلفظ حسن] قال سليمان بن عبد الملك: ما سألنى أحد قط مسألة يثقل علىّ قضاؤها، ولا يخفّ على أداؤها، بلفظ حسن يجمع له القلب فهمه إلا قضيتها، وإن كانت العزيمة نفذت فى منعه «3» ، وكان الصواب مستقرّا فى دفعه، ضنّا بالصواب أن يردّ سائله، أو يحرم نائله. [ابن رفاعة يتحدث عن النعمان بن المنذر والحارث الغسانى] وقال أبو عبيدة: كان أبو قيس بن رفاعة يفد سنة إلى النعمان بن المنذر

[أربعة أبيات]

اللحمى وسنة إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى، فقال له الحارث يوما وهو عنده: يا بن رفاعة، بلغنى أنك تفضّل النعمان علىّ! قال: كيف أفضّله عليك أبيت اللعن! فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمّك أشرف من أبيه، [ولآباؤك أشرف من جميع قومه] ، ولأمسك أفضل من يومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من بذله، ولقليلك أكثر من كثيره، [ولثمادك أغزر من غديره، ولكرسيّك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهره، ولشهرك أشرف من حوله، ولحولك خير من حقبه، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعزّ من جنده، ولهزلك أصوب من جدّه، وإنك لمن غسّان أرباب الملوك، وإنه لمن لحم كثيرى النوك! فعلام أفضّله عليك؟ وقد روى مثل هذا الكلام للنابغة الذبيانى مع النعمان بن المنذر] . [أربعة أبيات] وقال المفضل الضبى: دخلت على المهدى فقال قبل أن أجلس: أنشدنى أربعة أبيات لا تزد عليهنّ، وعنده عبد الله بن مالك الخزاعى، فأنشدته «1» : وأشعث قد قدّ السّفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج دعوت إلى ما نابنى وأجابنى ... كريم من الفتيان غير مزلّج» فتى يملأ الشّيزى ويروى سنانه ... ويضرب فى رأس الكمى المدجّج فتى ليس بالراضى بأدنى معيشة ... ولا فى بيوت الحىّ بالمتولج فقال المهدى: هذا هو، وأشار إلى عبد الله بن مالك، فلما انصرفت بعث إلىّ بألف دينار، وبعث إلىّ عبد الله بأربعة آلاف. [أبو الأسود الدؤلى وامرأته] ننازع أبو الأسود الدؤلى وامرأته إلى زياد فى ابنهما، وأراد أبو الأسود أخذه

[عظات ووصايا]

منها فأبت، وقالت المرأة: أصلح الله الأمير، هذا ابنى، كان بطنى وعاؤه، وحجرى فناؤه، وثديى سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام؛ فلم أزل بذلك سبعة أعوام، فلما استوفى فصاله، وكملت خصاله، واستوكعت أوصاله «1» ، وأمّلت نفعه، ورجوت عطفه، أراد أن يأخذه منى كرها، فآدنى أيها الأمير؛ فقد أراد قهرى، وحاول قسرى. فقال أبو الأسود: هذا ابنى حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه فى أدبه، وأنظر فى تقويم أوده «2» ، وأمنحه علمى، وألهمه حلمى، حتى يكمل عقله، ويستكمل فتله. فقالت المرأة: صدق أصلحك الله؛ حمله خفّا، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرها. فقال زياد: اردد على المرأة ولدها؛ فهى أحقّ به منك، ودعنى من سجعك. [عظات ووصايا] قال الأصمعى: بلغنى أن بعض الحكماء كان يقول: إنى لأعظكم، وإنى لكثير الذنوب، مسرف على نفسى، غير حامد لها، ولا حاملها على المكروه فى طاعة الله. وقد بلوتها فلم أجد لها شكرا فى الرضاء، ولا صبرا على البلوى. ولو أن أحدا لا يعظ أخاه حتى يحكم أمره لترك الأمر.... ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير من النسيان، واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت، فكم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدا لا يبلغه؟ ولو تنظرون الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. جمع عبد الملك أهله وولده فقال: يا بنى أميّة، ابذلوا نداكم، وكفوا أذاكم، وأجملوا إذا طلبتم، واغفروا إذا قدرتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم؛ فإن العفو بعد القدرة، والثناء بعد الخبرة، وخير المال ما أفاد حمدا ونفى ذما

[وصف هشام بن عبد الملك بصفته]

[وصف هشام بن عبد الملك بصفته] ودخل سعيد الجعفرى على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنى أريد أن أصفك بصفتك، فإن انحرف كلامى فلهيبة الإمام، واجتماع الأقوام، وتصرف الأعوام، ولربّ جواد عثر فى أرسانه «1» وكبا فى ميدانه «2» ، ورحم الله امرأ قصّر من لفظه، وألصق الأرض بلحظه، ووعى قولى بحفظه. فخاف هشام أن يتكلّم فيقصّر عن جائزة مثله، فعزم عليه فسكت. [حاتم الطائى يتحمل الديات عن عبد قيس البرجمىّ] قال عبد قيس بن خفاف البرجمىّ لحاتم الطائى وقد وفد عليه فى دماء تحملها وعجز عن البعض: إنه وقعت بينى وبين قومى دماد فتواكلوها، وإنى حملتها فى مالى وأملى، فقدّمت مالى، وكنت أملى، فإن تحملها فربّ حقّ قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك. [وصف ثقيل] قال أبو على العتابى: حدثنى الحمدونى قال: بعث إلىّ أحمد بن حرب المهلبى فى غداة، السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة موضوعة مغطّاة؛ وقد وافت عجاب المغنّية، فأكلنا جميعا، وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داقّ يدقّ الباب، فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان؛ فقال لى: هو فتى من آل المهلب، ظريف، نظيف، فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يتبختر وقدّامى قدح شراب فكسره، فإذا رجل «3» آدم ضخم، قال: وتكلم فإذا هو أعيا الناس، فجلس بينى وبين عجاب، قال: فدعوت بدواة وكتبت إلى أحمد ابن حرب:

[طيلسان ابن حرب]

كدّر الله عيش من كدّر العي ... ش! فقد كان صافيا مستطابا جاءنا والسماء تهطل بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا كسر الكاس وهى كالكوكب الدر ... رىّ ضمّت من المدام رضابا قلت لما رميت منه بما أكره ... والدهر ما أفاد أصابا عجّل الله نقمة لابن حرب ... تدع الدار بعد شهر خرابا ودفعت الرقعة إلى أحمد، فقال: [ويحك] ألا نفست فقلت بعد حول؟ فقلت: أردت أقول بعد يوم، فخفت أن تصيبنى مضرّة ذلك، وفطن الثقيل فنهض، فقال: آذيته! فقلت: هو آذانى. [طيلسان ابن حرب] وقال الحمدونى فى طيلسان ابن حرب: ولى طيلسان إن تأمّلت شخصه ... تيقنت أنّ الدهر يفنى وينقرض تصدّع حتى قد أمنت انصداعه ... وأظهرت الأيام من عمره الغرض كأنى لإشفاقى عليه ممرّض ... أخا سقم مما تمادى به المرض فلو أنّ أصحاب الكلام يرونه ... لما روك فيه وادّعوا أنه عرض «1» [وقال فيه: لطيلسان ابن حرب نعمة سبقت ... بها تبيّن فضلى فهو متّصل قد كنت دهرا جهولا ثم حنّننى ... عليه خوفى من الأقوام إن جهلوا أظل أجتنب الإخوان من حذر ... كأنما بى جرح ليس يندمل يا طيلسانا إذا الألحاظ جلن به ... فعلن فعل سهام فيه تنتضل لئن بليت فكم أبليت من أمم ... تترى أبادتهم أيامك الأول

وكم رآك أخ لى ثم أنشدنى: ... ودّع هريرة إن الركب مرتحل] وقال فيه «1» . يا بن حرب كسوتنى طيلسانا ... أمرضته الأوجاع فهو سقيم فإذا ما لبسته قلت: سبحا ... نك محيى العظام وهى رميم طيلسان له إذا هبّت الري ... ح عليه بمنكبىّ هميم أذكرتنى بيتا لحسّان فيه ... حرق للفؤاد حين أقوم لو يدبّ الحولىّ من ولد الذّ ... رّ عليها لأندبتها الكلوم «2» وقال أيضا: يا قاتل الله ابن حرب لقد ... أطال إتعابى على عمد بطيلسان خلت أنّ البلى ... يطلبه بالوتر والحقد أجدّ فى رفوى له، والبلى ... يلهو به فى الهزل والجد ذكّرنى الجنة لما غدا ... أصحابها منها على حرد «3» إن أتهم الرّفّاء فى رفوه ... مضى به التمزيق فى نجد غنيته لما مضى راحلا: ... يا واحدى تتركنى وحدى! وقال أيضا فيه: إنّ ابن حرب كسانى ... ثوبا يطيل انحرافه أظلّ أدفع عنه ... وأتّقى كلّ آفه فقد تعلمت من خش ... يتى عليه الثقافة وقال أيضا: طيلسان ما زال أقدم فى الدهر ... من الدهر ما لرفويه حيله

[من رسائل ابن العميد]

وترى ضعفه كضعف عجوز ... رثّة الحال ذات فقر معيله غمرته الرقاع فهو كمصر ... سكنته نزّاع كلّ قبيله إن أزيّنه يابن حرب بذمى ... فجرير قد زان قبلى بجيله جرير: ابن عبد الله البجلى، وله صحبة [رضى الله عنه، وقد] قال غسان فى هجائه جريرا: لعمرى لئن كانت بجيلة زانها ... جرير لقد أخزى كليبا جريرها وقال الحمدونى فى معناه لأول «1» : يابن حرب إنى أرى فى زوايا ... بيتنا مثل ما كسوت جماعه طليلسان رفوته ورفوت الرّ ... فو منه حتى رفوت رقاعه فأطاع البلى وصار خليعا ... ليس يعطى الرفّاء فى الرفو طاعه فإذا سائل رآنى فيه ... ظنّ أنى فتى من أهل الضّياعة «2» وقال فيه: طيلسان لابن حرب ... يتداعى لا مساسا «3» قد طوى قرنا فقرنا ... وأناسا فأناسا لبس الأيام حتّى ... لم تدع فيه لباسا غاب تحت الحسّ حتى ... لا يرى إلا قياسا [من رسائل ابن العميد] كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى: كتابى وأنا بحال لو لم ينغّص منها الشوق إليك، ولم يرنّق صفوها النّزاع نحوك، فعددتها من الأحوال الجميلة، واعتددت حظّى منها فى النعم الجليلة؛ فقد جمعت ليها بين سلامة عامّة، ونعمة تامة، وحظيت منها فى جسمى بصلاح، وفى سعيى

بنجاح، لكن ما بقى أن يصفو لى عيش مع بعدى عنك، ويخلو ذرعى مع خلوّى منك، ويسوغ لى مطعم ومشرب مع انفرادى دونك، وكيف أطمع فى ذلك وأنت جزء من نفسى، وناظم لشمل أنسى، وقد حرمت رؤيتك، وعدمت مشاهدتك، وهل تسكن نفس متشعّبة ذات انقسام، وينفع أنس متشتّت بلا نظام، وقد قرأت كتابك جعلنى الله تعالى فداءك؛ فامتلأت سرورا بملاحظة خطّك، وتأمّل تصرفك فى لفظك، وما أقرّظهما فكلّ خصالك مقرّظ عندى، وما أمدحهما فكلّ أمرك ممدوح فى ضميرى وعقدى، وأرجو أن تكون حقيقة أمرك موافقة لتقديرى فيك، فإن كان كذلك وإلا فقد غطّى هواك وما ألقى على بصرى. وله إلى عضد الدولة يهنئه بولدين: أطال الله بقاء الأمير الأجلّ عضد الدولة، دام عزّه وتأييده، وعلوّه وتمهيده، وبسطته وتوطيده، وظاهر له من كل خير مزيده، وهنّاه ما اختصّه به على قرب الميلاد، من توافر الأعداد، وتكثّر الأمداد، وتثمّر الأولاد، وأراه من النجابة فى البنين والأسباط «1» ، ما أراه من الكرم فى الآباء والأجداد، ولا أخلى عينه من قرّة، ونفسه من مسرّة، ومتجدّد نعمة، ومستأنف مكرمة، وزيادة فى عدده، وفسح فى أمده، حتى يبلغ غاية مهله، ويستغرق نهاية أمله، ويستوفى ما بعد حسن ظنّه؛ وعرفه الله السعادة فيما بشّر عبده من طلوع بدرين هما انبعثا من نوره، واستنارا من دوره، وحقّا بسريره، وجعل وفودهما متلائمين، وورودهما توأمين، بشيرين بتظاهر النعم، وتواتر القسم، ومؤذنين بترادف بنين [يغصّ] بجمعهم منخرق الفضاء، ويشرق بنورهم أفق العلاء، وينتهى بهم أمد النماء «2» ، إلى غاية تفوت

غاية الإحصاء، ولا زالت السبل عامرة، والمناهل غامرة، يصافح صادرهم بالبشر [الوارد] ، وآملهم بالنيل القاصد. وقال أبو الطيب وذكر أبا دلف وأبا الفوارس ابنى عضد الدولة: فلم أر قبله شبلى هزبر ... كشبليه، ولا فرسى رهان فعاشا عيشة القمرين يحيى ... بضوئهما ولا يتحاسدان ولا ملكا سوى ملك الأعادى ... ولا ورثا سوى من يقتلان [وكانا ابنا عدو كاثراه ... له ياءى حروف أنيسيان] دعاء كالثّناء بلا رياء ... يؤدّيه الجنان إلى الجنان وكتب أبو القاسم الإسكافى عن نوح بن نصر إلى وشمكير بن زياد فى استبطاء وتهنئة: وصل كتابك ناطقا مفتتحه بجميل العذر، فيما نقل من المكاتبة، وبعث من المطالعة، ومعربا مختتمه عن جملة خبر السلامة التى طبّقت أعمالك، والاستقامة التى عمّت أحوالك، وفهمناه، ولولا أنّ مواتاتك- أيدك الله تعالى- فيما تأتى وتذر، وترتئى وتدبّر، عادة لنا أورثتناها قرابة ما بين وفاقنا ووفاقك، وملاءمة حال ألجأتنا لحال استحقاقك؛ لكنا ربما ضايقناك فى العذر الذى اعتذرت به، وإن كان واضحا طريقه، وناقشناك فيه، وإن كان واجبا تصديقه، لفرط الأنس [يخلص إلينا] بكتابك، والارتياح بخطابك، اللّذين لا يؤدّيان إلا خبر سلامة توجب الإحماد، فنحن نأبى إلّا إجراء تلك العادة، كما عودتنا، وإلّا التجافى عما تريد فيه من الزيادة التى أردتها، ولا ندع مع ذلك أن يصل تسويفك «1» إلى الإقلال الذى اخترته بإحمادك على الكتاب إذا كتبته، توخّيا «2» لأن تكون مؤهلا فى الحالين لخالصة

ألفاظ لأهل العصر فى ضروب التهانى وما ينخرط فى سلكها من ذلك فى النهنئة بالمولود وما يجرى مجراها من الأدعية، وما يختص منها بالملوك أو الرؤساء

التنويل، مقدما فى درج التفضيل، موفىّ حقائق الإيثار، موقىّ لواحق الاستقصار، ونستعين بالله على قضاء حقوقك، وعلى جميل النية فى أمورك؛ فإن ذلك لا يبلغ إلا بقوّته، ولا يدرك إلا بحوله، وأما بعد فقد عفّى «1» - أعزّك الله تعالى- ما أفاد كتابك بخبر السلامة من أنسه، على آثار من سبقه بخبر العلة من وحشة، فأوجبتنا مقابلة موهبة الله تعالى فى المحبوب صنع، والمكروه دفع، نستقبل به إخلاص المواهب لنا، ونستديم به أخصّ المراتب بنا، فرأيك- أعزّك الله تعالى- فى المطالعة بذكر تستمدّه فى الفوة والصحة من مزيد، والطاعة والكفاية من توفيق وتسديد، موفقا إن شاء الله تعالى. ألفاظ لأهل العصر فى ضروب التهانى وما ينخرط فى سلكها من ذلك فى النهنئة بالمولود وما يجرى مجراها من الأدعية، وما يختصّ منها بالملوك أو الرؤساء مرحبا بالفارس المصدّق للظنون، المقرّ للعيون، المقبل بالطالع السعيد، والخير العتيد، أنجب الأبناء لأكرم الآباء. أنا مستبشر بطلوع النجم الذى كنّا منه على أمل، ومن تطاول استسراره [الذى كنا منه] على وجل، إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة فى نسق كالفريد المتّسق «2» . قد طلع فى أفق الحرية أسعد نجم، [ونجم «3» ] فى حدائق المروءة أذكى نبت. يا بشراى بطلوع الفارس الميمون جدّه، المضمون سعده، عليه خاتم الفضل وطابعه، وله سهم الخير وطالعه. الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذى نراه إن شاء الله بدرا لا يضمر السّرار بهاه، ولا يبلغ المحاق سناءه وسناه، وقد بشّرت قوابله بالإقبال وعلو الجدّ «4» ، واقترن قدومه بالطالع السّعد. هنّاك الله تعالى بقوّة الظّهر،

واشتداد الأزر. الفارس المكثر لسواد الفضل، الموفّر لحال الأهل، المستوفى شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة، وأبقاه حتى نراه، كما رأينا جدّه وأباه. عرفت آنفا ما كثّر الله به عدده، وشدّ عضده، من طلوع الفارس الذى أضاء له الأفق، وطال به باع السعادة، فعظمت النّعمى لدىّ، وأوردت البشرى غاية المنى علىّ. مرحبا بالفارس القادم، بأعظم المغانم، سوىّ الخلق [سامى العرق] يلوح عليه سيماء المجد، وتتجاذبه أطراف الملك والحمد. وردت البشرى بالفارس الذى أوسع رباع المجد تأهيلا، ومناكب الشرف ارتفاعا، وأعضاد العزّ اشتدادا. واتتنى بشرى البشائر «1» ، والنعم المحروسة على النظائر، فى سلالة العز وسليله، وابن منبر الملك وسريره، والأمير القادم بغرّة المكارم، الناهض إلى إلى ذروة العلياء، بآباء أمراء، وملوك عظماء. مرحبا بالفارس المامول لشدّ الظهور، المرجوّ لسدّ الثغور. الحمد لله الذى شدّ أزر الدولة، ونظم قلادة الإمرة، ودعم سرير العزّة، ووطّد منابر المملكة، بالقمر السعد، وشبل الأسد الورد. قد تنسّمت المكارم والمعالى، وتباشرت الخطب والقوافى، بالفارس المأمول لشدّ أزر الملك، وسدّ ثغر المجد، وتطاول السرير شوقا إليه، واهتزّت المنابر حرصا عليه. قد افترّ جفن العالم عن العين البصيرة، واستغرب مضحكه عن اللّمعة المنيرة؛ أما الأمير فالتاج لجبينه يبهى، والركاب بقدمه تزهى «2» ، أللهم أرنى هذا الهلال بدرا قد علا الأقدار قدرا، وبلّغه الله فيه من مناه، حتى نراه وأخاه، منيفين على ذروة المجد، آخذين من أوفر الحظوة بأعلى الجد. ولهم: والله يمتّع به، ويرزق الخير منه، ويحقّق الأمل فيه. عرف الله تعالى آثار بركة المولود المسعود، وعضّد الفضل بالزيادة فى عدده، وأقرّ عين

ولهم فى ذكر المولود العلوى

المجد بالسّادة من ولده. عرفه الله تعالى من سيادة مقدمه، ما يجمع الأعداء تحت قدمه. عمرك الله تعالى حتى ترى هذا الهلال قمرا باهرا، وبدرا زاهرا، يكثر به عدد حفدتك، ويعظم معه غصّة حسدتك، من حيث لا تهتدى النوائب إلى أغراضكم، ولا تطمع الحوادث «1» إلى انتقاصكم، متّعك الله بالولد، وجعله من أقوى العدد، ووصله بإخوة متوافرى العدد، شادّى الأزر والعضد. هناك الله تعالى مولده، وقرن باليمن مورده، وأراك من بنيه أولادا برره [وأسباطا وحفدة، وعرفك بركة قدومه، ونجح مقدمه، وسعد طالعه، ويمن طائره، وعمّرك الله] حتى نرى؟؟؟ زيادة الله منه كما رأيتها به «2» ، والله يبلّغك أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرق مع إخوته مساعى الفضل، ويشيدوا قواعد الفخر، ويزحموا صدور الدّهر، ويضبطوا أطراف الأرض؛ والله يحرسه من نواظر الأيام أن ترنو إليه «3» ، وأطماع الليالى أن تتوجه عليه، حتى يستقلّ بأعباء الخدمة، وينهض بأثقال الدعوة، ويخف فى الدفع عن البيضة، ويسرع فى حماية الحوزة، والله يديم لمولانا من العمر أكلاه، ومن العزّ أهناه، ليطبّق العالم بفضله وعدله، ويدبّر الأرض بالنجباء من نسله. ولهم فى ذكر المولود العلوى غصن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شجره أهل أن يحلو ثمره، وفرع بين الرسالة والإمامة منتماه، خليق أن يحمد بدؤه وعقباه. مرحبا بالطالع بأيمن طالع، ومن هو من أشرف المناصب والمنابع، حيث الرسالة والخلافة، والإمامة والزّعامة، أبقاه الله تعالى حتى يتهنّأ فيه صوانع المنن «4» ، ويعد حسنه من بنى الحسن.

ولهم فى التهنئة بالإملاك والنفاس، وما يقترن به من الأدعية

ولهم فى التهنئة بالإملاك «1» والنفاس، وما يقترن به من الأدعية من اتصل بمولاى سببه، وشرف به منصبه، كان حقيقا بالرغبة إلى الله تعالى فى توفيره وتكثيره، وزيادته وتثميره، لتزكو منابت الفضل، وتنمى مغارس النبل والفخر، وتطيب معادن المجد. بارك الله لمولاى فى الأمر الذى عقده، وأحمده إيّاه «2» وأسعده، وجعله موصولا بنماء العدد، وزكاء الولد، واتصال الحبل، وتكثير النسل والله تعالى يخير له فى الوصلة الكريمة، ويقرنها بالمنحة الجسيمة. قد عظّم الله بهجتى، وضاعف غبطتى، بما أتاحه من سرور ممهّد، بجمع شمل مجدّد، فلا زالت النعم به محفوفة، والمسارّ إليه مصروفة، جعل الله هذه الوصلة أكيدة العقدة، طويلة المدة، سابغة البركة والفضل، طيبة الذرية والنّسل. وصل الله هذا الاتصال السعيد، والعقد الحميد، بأكمل المواهب، وأحمد العواقب، وجعل شمل مسرّتك ملتئما، وسبب أنسك منتظما. عرّفك الله تعجيل البركات، وتوالى الخيرات، ولا أخلاك الله من هذه الوصلة [من التهانى بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك الحسّاد. هناك الله مولاى الوصلة] بكثرة العدد، ووفور الولد، وانبساط الباع واليد، عالى القدر والجد. ولهم فى التهنئة بالولاية والأعمال، وما يتصل بها من الأدعية للوزراء والقضاة والعمال عرفت أخبار البلد الذى أحسن الله إلى أهله، وعطف عليهم بفضله، إذ أضيف إلى ما يلاحظه مولاى بعين إيالته، ويشفى خلله بفضل أصالته. أنا من سرّ

بالولاية يلبس مولاى ظلالها، ويسحب أذيالها، بنعم مستفادة، ورتب مستزادة، سرورى بما أعلمه بكسبه «1» الثناء فى كل عمل يدبّره، من أحدوثة جميلة، ومثوبة جزيلة، ويؤثره من إحياء عدل، وإماتة جور، وعمارة لسبل الخيرات، وإيضاح لطرق المكرمات، سيدى يوفى على الرتب التى يدعى لها بحلوله «2» ؛ فهنيئا لها بتجمّلها بولايته، وتحلّيها بكفايته. الأعمال إن بلغت أقصى الآمال، فكفاية مولاى تتجاوزها وتتخطاها، والرتب وإن جلّت قدرا، وكبرت ذكرا، فصناعته تسبقها «3» وتنسؤها، غير أنّ للتهانى رسما لا بدّ من إقامته، وشرطا لا سبيل إلى نقض عادته. الأعمال وإن بلغت أقصى الآمال فكفاية سيدى توفى عليها إيفاء الشمس على النجوم، وترتفع عنها ارتفاع السماء على التخوم. سيدى أرفع قدرا وأنبه ذكرا، من أن نهنّئه بولاية وإن جلّ أمرها وعظم قدرها. قد أعطيت قوس الوزارة باريها، وأضيفت إلى كفئها وكافيها، وفسخ فيها شرط الدنيا الفاسد فى إهداء حظوظها إلى أوغادها، ونقض بها حكمها الجائر فى العدول بها عن نجباء أولادها. الدنيا أعز الله الوزير مهنّأة بانحيازها «4» إلى رأيه وتنفيذه، والممالك مغبوطة باتصالها إلى أمره وتدبيره. قد كانت الدّنيا مستشرفة لوزارته، إلى أن سدت بما كانت الأيام عنه مخبرة، وحظيت بما كانت الظنون به مبشّرة. أنا أهنّىء الوزارة بإلقائها إلى فضله مقادتها، وبلوغها فى ظلّه إرادتها، وانحيازها من إيالته إلى واضحة الفخر، وتوشحها من كفايته بعزّة سائدة على وجه الدهر. الحمد لله الذى أقرّ عين الفضل، ووطّأ مهاد المجد، وترك الحساد يتعثّرون فى ذيول الخيبة، ويتساقطون فى فضول الحسرة؛ وأرانى الوزارة وقد استكمل الشيخ إجلالها، ووفّى لها جمالها:

ولهم فى التهنئة بذكر الخلع والأجبية

فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها والقاضى علم العلم شرقا وغربا، ونجم الفضل غورا ونجدا، وشمس الأدب برّا وبحرا، فسبيل الأعمال أن تهنّأ إذا ردّت إلى نظره الميمون، وعصبت برأيه المأمون. [أسعد الله القاضى بما جدّ] له من رأى مولانا وارتضاه، واعتمده لأجل أمر الشريعة وأمضاه، وأسعد المسلمين والدين بما أصاره إليه، وجمع زمامه فى يديه. عرّف الله سيدى من سعادة عمله، أفضل ما ترقّاه بأمله، ولقّاه من مناجح أمره، أفضل ما انتحاه بفكره. خار الله له فيما تولّاه وتطوّقه، وبلّغه فى كل حال أمله وحققه، وعرفه من يمن ما باشره تدبيره «1» الخير [والخيرة] والبركات الحاضرة والمنتظرة، وجعل المناجح إليه أرسالا، لا تملّ تواليا واتّصالا. أسعده الله أفضل سعادة قسمت لوالى عمل، وأسهم له أخصّ بركة أسهمت لمسامى أهل «2» ، أحضر الله السداد عزمه، والرشاد همّه، وكنقه العصمة وأيّده، وقرنه بالتوفيق ولا أفرده. هنأه الله تعالى الموهبة التى ساقها إليه، ومدّ رواقها عليه؛ إذ كانت من عقائل المواهب، مسفرة عن خصائص المراتب، وحلّت فيه محلّ الاستحباب لا الإيجاب، والاستحقاق دون الاتفاق. هنأ الله نعمته الفضل «3» الذى الولاية أصغر آلاتها، والرياسة بعض صفاتها ولهم فى التهنئة بذكر الخلع والأجبية أهنّى سيدى مزيد الرّفعة، وجديد الخلعة، التى تخلع قلوب المنازعين، واللواء الذى يلوى أيدى المنابذين، والحظّ الذى لو امتطاه إلى الأفلاك لحازها، أو سامى به الجوزاء، لجازها. بلغنى خبر ما تطوّعت به سماء المجد، وجادت به

ولهم فى التهنئة بالقدوم من سفر

أنواء الملك، فصن من الخلع أسناها، ومن المراكب أبهاها، [ومن السيوف أمضاها، ومن الأفراس أجراها، ومن الإقطاعات أنماها] . لبس خلعته متجلّلا منها ملابس العز، وامتطى فرسه فارعا به ذروة المجد، وتقلّد سيفه حاصدا بحد طلى أعدائه «1» وغامطى نعمائه، واعتنق طوقه متطوّقا عزّ الأبد، واعتضد بالسوارين الموديين بقوة الساعد والعضد، وساس أولياءه ولواء العزّ عليه خافق، وهو بلسان الظّفر والنّصر ناطق. قد لبس خلعته التى تعمد بها [رفعته] ، وامتطى حملانه الذى واصل به إحسانه «2» ، تمنطق بحسامه الذى ظاهر أبواب إنعامه، وتختم بخاتميه، اللذين بسطا من يديه؛ ووقّع من دواته، التى أعلت من درجاته قد زرّرت عليه سماء الشرف عرى الخلعة، التى تتراءى صفحات العزّ على أعطافها، وتمترى مزايا المجد من أطرافها، وركب الحملان الذى نتناول قاصيتى المنى من ناصيته، والمركب الذى تستخذى «3» حلى الثريا لحليته، والسيف والمنطقة الناطقان عن نهاية الإكرام، الناظمان قلائد الإعظام. خلع تخلع قلوب الأعداء من مقارّها «4» ، وتعمر نفوس الأولياء بمسارّها، وسيف كالقضاء مضاء وحدّا، ولواء يخفق قلوب المنازعين إذا خفق، وحملات تصدع منكب الدّهر إذا انطلق «5» . ولهم فى التهنئة بالقدوم من سفر أهنّى سيدى ونفسى بما يسّره الله من قدومه سالما، وأشكره على ذلك شكرا قائما؛ غيبة المكارم مقرونة بغيبتك، وأوبة النعم موصولة بأوبتك؛ فوصل الله تعالى قدومك من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة. وهناك أيامك، وبلّغك محابّك؛ ما زلت بالنيّة مسافرا، وباتّصال الذكر

[من أحسن الشعر]

والفكر لك ملاقيا، إلى أن جمع الله شمل سرورى بأوبتك «1» ، وسكّن نافر قلبى بعودتك، فأسأل الله أن يسعدك بمقدمك سعادة تكون فيها [بالإقبال] مقابلا، وبالأمانى ظافرا، ولا أوحش منك أوطان الفضل، ورباع المجد، بمنّه وكرمه. [من أحسن الشعر] قال الهيثم بن عدى: أنشدنى مجالد بن سعيد شعرا أعجبنى، فقلت: من أنشدكه؟ قال: كنا يوما عند الشعبى فتناشدنا الشعر، فلما فرغنا قال: أيّكم يحسن أن يقول مثل هذا، وأنشدنا: خليلىّ مهلا طالما لم أقل مهلا ... وما سرفا م الآن قلت ولا جهلا «2» وإنّ صبا ابن الأربعين سفاهة ... فكيف مع اللاتى مثلت بها مثلا يقول لى المفتى وهنّ عشية ... بمكّة يسحبن المهدّبة السّحلا «3» تق الله لا تنظر إليهنّ يا فتى ... وما خلتنى بالحج ملتمسا وصلا فوالله لا أنسى وإن شطّت النوى ... عرانينهن الشمّ والأعين النّجلا ولا المسك فى أعرافهن ولا البرى ... جواعل فى أوساطها قصبا خدلا خليلىّ لا والله ما قلت مرحبا ... لأوّل شيبات طلعن ولا أهلا «4» خليلىّ إن الشيب داء كرهته ... فما أحسن المرعى وما أقبح المحلا قال مجالد: فكتبت الشعر، ثم قلنا للشعبى: من يقوله؟ فسكت، فحسبنا أنه قائله. [المراثى التى قيلت على قبر عمرو بن حممة الدوسى] قال الشّرقى بن القطامى: لما مات عمرو بن حممة الدّوسى- وكان أحد من تتحاكم العرب إليه- مرّ بقبره ثلاثة نفر من أهل المدينة قادمين من الشام: الهدم ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد، وهو أبو كلثوم بن الهدم الذى نزل عليه

النبى صلى الله عليه وسلم، وعتيك بن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية، وحاطب ابن قيس بن هيشة ابن معاوية. وحاطب بن هيشة الذى كانت بسببه حرب حاطب، فعقروا رواحلهم على قبره، وقام الهدم فقال: لقد ضمّت الأثراء منك مرزّأ ... عظيم رماد النار مشترك القدر إذا قلت لم تترك مقالا لقائل ... وإن صلت كنت الليث تحمى حمى الأجر حليما إذ ما الحلم كان حزامة ... وقوفا إذا كان الوقوف على الجمر «1» ليبكك من كانت حياتك عزّه ... وأصبح لما متّ يغضى على الصّغر سقى الأرض ذات الطّول والعرض مثجم ... أحمّ الذرى واهى العرى دائم القطر «2» وما بى سقيا الأرض لكنّ تربة ... أضلّك فى أحشائها ملحد القبر وقام عتيك بن قيس فقال: برغم العلا والجود والمجد والنّدى ... طواك الرّدى يا خير حاف وناعل لقد غال صرف الدهر منك مرزّأ ... نهوضا بأعباء الأمور الأثاقل يضمّ العفاة الطارقين فناؤه ... كما ضمّ أمّ الرأس شعب القبائل ويسرو دجا الهيجا مضاء عزيمة ... كما كشف الصبح اطّراق الغياطل «3» ويستهزم الجيش العرمرم باسمه ... وإن كان جرّارا كثير الصواهل فإما تصبنا الحادثات بنكبة ... رمتك بها إحدى الدواهى الضآبل «4» فلا تبعدن إن الحتوف موارد ... وكلّ فتى من صرفها غير وائل «5» وقام حاطب بن قيس فقال: سلام على القبر الذى ضمّ أعظما ... تحوم المعالى نحوه فتسلّم

[بلاغة الأعراب]

سلام عليه كلما ذرّ شارق ... وما امتدّ قطع من دجى الليل مظلم [فيا قبر عمرو جاد أرضا تعطّفت ... عليك ملثّ دائم القطر مرزم تضمّنت جسما طاب حيّا وميتا ... فأنت بما ضمّنت فى الأرض معلم فلو نطقت أرض لقال ترابها ... إلى قبر عمرو الأزد حلّ التكرم إلى مرمس قد حلّ بين ترابه ... وأحجاره بدر وأضبط ضيغم فلا يبعدنك الله حيّا وميّتا ... فقد كنت نور الخطب والخطب مظلم لعمر الذى حطّت إليه على الونا ... حدابير عوج نيّها متهمّم] لقد هدم العلياء موتك جانبا ... وكان قديما ركنها لا يهدّم [بلاغة الأعراب] قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يذكر قومه فقال: كانوا إذا اصطفّوا تحت القتام، مطرت بينهم السّهام، بشؤبوب الحمام «1» ، وإذا تصافحوا بالسيوف، فغرت أفواهها الحتوف، فرب قرن عارم قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد أضحكتها أسنتهم، وخطب مشمئز ذلّلوا مناكبه، ويوم عماس قد كشفوا ظلمته بالصبر حتى تتجلّى. كانوا البحر لا ينكش غماره، ولا يننه؟؟؟ تيّاره. قال العتبى: سئل أعرابى عن حاله [عند موته] فقال: أجدنى مأخوذا بالنّقلة، محجوجا بالمهلة، أفارق ما جمعت، وأقدم على ما ضيّعت، فيا حيائى من كريم قدّم المعذرة، وأطال النظرة «2» ، إن لم يتداركنى بالمغفرة، ثم قضى. وقال بعض الرواة: كان يقال: الإخوان ثلاثة: أخ يخلص لك ودّه، ويبلغ لك فى مهمّك جهده، وأخ ذو نيّة يقتصر بك على حسن نيته، دون رفده «3» ومعونته، وأخ يجاملك بلسانه، ويشتغل عنك بشأنه، ويوسعك من كذبه بأيمانه. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: وقفت علينا أعرابية فقالت: يا قوم، تعثر بنا الدهر، إذ قلّ منا الشكر، وفارقنا الغنى، وحالفنا الفقر، فرحم الله امرأ فهم

[ذل السؤال]

بعقل، وأعطى من فضل، وواسى من كفاف، وأعان على عفاف. [ذل السؤال] قال أبو بكر الحنفى: حضرت مسجد الجماعة بالكوفة، وقام سائل يتكلّم عند صلاة الظهر ثم عند العصر والمغرب، فلم يعط شيئا، فقال: اللهم إنك بحاجتى عالم غير معلّم، واسع غير مكلّف، وأنت الذى لا يرزؤك نائل، ولا يحفيك «1» سائل، ولا يبلغ مدحتك قائل، أنت كما قال المثنون، وفوق ما يقولون، أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، ونصرا بالهدى، وقرّة عين فيما تحب وترضى، ثم ولّى لينصرف، فابتدره الناس يعطونه، فلم يأخذ شيئا، ثم مضى وهو يقول: ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا، ولو نال الغنى بسؤال وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخفّ كلّ نوال [من مقامات بديع الزمان] ومن مقامات الإسكندرى إنشاء البديع: حدّثنا عيسى بن هشام قال: كنت فى بلاد الأهواز، وقصاراى لفظة شرود أصيدها، أو كلمة بليغة أستفيدها؛ فادّانى السير إلى رقعة [من البلاد] فسيحة، وإذا هناك قوم مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعضا على إيقاع لا يختلف، وعلمت أنّ مع الإيقاع لحنا، ولم أبعد لأنال من السماع حظّا، أو أسمع من البليغ لفظا، فما زلت بالنظّارة، أزحم هذا وأدفع ذاك، حتى وصلت إلى الرجل، وصرفت الطرف منه إلى حزقّة كالقرنب «2» ، مكفوف فى شملة من صوف، يدور كالخذروف «3» ، متبرنسا بأطول منه، معتمدا على عصا فيها جلاجل، يضرب الأرض بها على إيقاع غنج، ولفظ هزج، من صدر حرج، وهو يقول: يا قوم قد أثقل دينى ظهرى ... وطالبتنى طلّتى بالمهر «4»

أصبحت من بعد غنى ووفر ... ساكن قفر وحليف فقر يا قوم هل بينكم من حرّ ... يعيننى على صروف الدهر يا قوم قد عيل بفقرى صبرى ... وانكشفت عنى ذيول السّتر وفضّ ذا الدهر بأيدى البتر ... ما كان لى من فضّة وتبر آوى إلى بيت كقيد الشّبر ... خامل قدر وصغير قدر «1» لو ختم الله بخير أمرى ... أعقبنى من عسرة بيسر هل من فتى فيكم كريم النّجر ... محتسب فىّ عظيم الأجر إن لم يكن مغتنما للشكر قال عيسى بن هشام: فرقّ له والله قلبى، واغرورقت عينى، وما لبثت أن أعطيته دينارا كان معى، فأنشأ يقول: يا حسنها فاقعة صفراء ... معشوقة منقوشة قوراء يكاد أن يقطر منها الماء ... قد أثمرتها همّة علياء نفس فتى يملكه السّخاء ... يصرفه فيه كما يشاء يا ذا الذى يعنيه ذا الثناء ... ما يتقصّى قدرك الإطراء فامض على الله لك الجزاء ورحم الله من شدّها فى قرن بمثلها، وآنسها بأختها، فناله الناس ما نالوه «2» ؛ ثم فارقهم وتبعته، وعلمت أنه متعام لسرعة ما عرف الدينار، فلما نظمتنا خلوة مددت يمناى إلى يسرى عضديه، وقلت: والله لترينّى سرّك، أو لأكشفنّ سترك؛ فكشف عن توأمتى لوز «3» ، وحدرت لثامه، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: أنت أبو الفتح؟ فقال: لا أنا أبو قلمون ... فى كلّ لون أكون

[من شعر كشاجم]

اختر من الكسب دونا ... فإنّ دهرك دون زجّ الزمان بحمق ... إنّ الزمان زبون لا تخدعنّ بعقل ... ما العقل إلا الجنون [من شعر كشاجم] وقال أبو الفتح كشاجم: ما زال حرّ الشوق يغلب صبرها ... حتى تحدّر دمعها المتعلّق وجرى من الكحل السحيق بخدّها ... خطّ تؤثّره الدموع السّبّق فكأنّ مجرى الدمع حلية فضّة ... فى بعضه ذهب وبعض محرق وقال: ما لذة أكمل فى طيبها ... من قبلة فى إثرها عضّه كأنما تأثيرها لمعة ... من ذهب أجرى فى فضّه خلستها بالكره من شادن ... يعشق بعضى بالمنى بعضه وقال: ومستهجن مدحى له إن تأكّدت ... له عقد الإخلاص، والحرّ يمدح «1» ويأبى الذى فى القلب إلّا تبيّنا ... وكلّ إناء بالذى فيه يرشح وقال: وإذا افتخرت بأعظم مقبورة ... فالناس بين مكذّب ومصدّق فأقم لنفسك فى انتسابك شاهدا ... بحديث مجد للقديم محقّق وقال: يا مسدى العرف إسرارا وإعلانا ... ومتبع البرّ والإحسان إحسانا أقلع سحابك قد غرّقتنى نعما ... ما أدمن الغيث إلّا كان طوفانا «2»

[الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره]

هذا مولد من قول أبى نواس: لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا البحترى: ألحّ جودا ولم تضرر سحائبه ... وربما ضرّ فى إلحاحه المطر مواهب ما تجشّمنا السؤال لها ... إن الغمام قليب ليس يحتفر «1» وقد أخذ على ذى الرمة قوله: ألا يا اسلمى يا دارمىّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر قالوا: وأحسن منه قول طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى وقد تحرز ذو الرمة مما تؤول عليه بالسلامة فى أول البيت. وقال كشاجم: أيا نشوان من خمر بفيه ... متى تصحو وريقك خندريس «2» أرى بك ما أراه بذى انتشاء ... ألحّ عليه بالكاس الجليس تورّد وجنة وفتور لحظ ... تمرّضه وأعطاف تميس وقال: وما زال يبرى جملة الجسم حبّها ... وينقصه حتى نقصت عن النقص «3» وقد ذبت حتى صرت إن أنا زرتها ... أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى [الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره] كتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء: نبت بى غرّة الحداثة، فردّتنى إليك التجربة، وقادتنى الضرورة، ثقة بإسراعك إلىّ وإن أبطأت عنك،

وقبولك العذر وإن قصرت عن واجبك، وإن كانت ذنوبى سدّت علىّ مسالك الصفح عنى، فراجع فىّ مجدك وسؤددك، وإنى لا أعرف موقفا أذل من موقفى، لولا أنّ المخاطبة فيه لك، ولا خطّة أدنى من خطّتى، لولا أنها فى طلب رضاك. وهذا المعنى الذى ذهب إليه من الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره قد أكثر الناس منه قديما وحديثا وسأفيض فى طرف من ذلك: وأنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلى، وهو أخو [المرار العدوى، نسب إلى أمة العدوية، وهى فكيهة بنت تميم بن الدّول بن جبلة بن عدى بن] عبد مناة بن أد بن طابخة؛ فولدت لمالك بن حنظلة عديّا ويربوعا؛ فهؤلاء من ولده يقال لهم [بنو] العدويّة، وكان زياد نزل بصنعاء فاجتواها «1» ومنزله بنجد، فقال فى ذلك قصيدة يقول فيها وذكر قومه: مخدّمون ثقال فى مجالسهم ... وفى الرحال إذا صاحبتهم خدم «2» لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم ... إلّا يزيدهم حبّا إلىّ هم [وأراه أول من استثار هذا المعنى. وكان ابن أبى عرادة السعدى مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرما فتركه وصحب غيره فلم يخمد أمره، فرجع إليه، فقال: عتبت على سلم فلما فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرء بعد طول من السقم] وقال مسلم بن الوليد: حياتك يا بن سعدان بن يحيى ... حياة للمكارم والمعالى جلبت لك الثناء فجاء عفوا ... ونفس الشكر مطلقة العقال

وترجعنى إليك- وإن نأت بى ... ديارى عنك- تجربة الرجال وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد للبحترى: أخ لك عاداه الزمان فأصبحت ... مذممة فيما لديه المطالب متى ما تذوّقه التجارب صاحبا ... من الناس تردده إليك التجارب وأنشد: حياة أبى العباس زين لقومه ... لكلّ امرئ قاسى الأمور وجرّبا ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقى من الناس أعتبا «1» قال الصولى: جرى ذكر المكتفى بحضرة الراضى فأطريته وأكثرت الثناء عليه، فقال لى: يا صولى؛ كنت أنشدتنى لجرير: أسليك عن زيد لتسلى، وقد أرى ... بعينيك من زيد قذى ليس يبرح فقلت: يا أمير المؤمنين، من شكر القليل كان للكثير أشدّ شكرا، وأعظم ذكرا، قال: فأين أنا لك من المكتفى؟ فأنشدته للطائى: كم من وساع الجود عندى والنّدى ... لمّا جرى وجريت كان قطوفا «2» أحسنتما صفدى، ولكن كنت لى ... مثل الربيع حيا وكان خريفا وكلا كما اقتعد العلا فركبتها ... فى الذّروة العليا وجاء رديفا «3» إن غاض ماء المزن فضت، وإن قست ... كبد الزمان علىّ كنت رءوفا وكان المكتفى أول من نادمه الصولى، واختلط به. ولم يل الخلافة أحد اسمه علىّ إلا علىّ بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، وعلىّ بن المعتضد المكتفى بالله، وكان سبب اتصاله به وانقطاعه إليه أنّ رجلا يعرف بمحمد بن أحمد الماوردى نزع إلى المكتفى بالرّفة، وكان ألعب الناس

[فى بيعة يزيد بن معاوية]

بالشطرنج، فلما قدم عليه بغداد وهو خليفة قال: يا أمير المؤمنين، أنا أعلم الناس بهذه الصناعة، فأقطعنى ما كان للرازى الشطرنجى؛ فغاظ ذلك المكتفى، وندب له الصولى فلم ير معه الماوردى شيئا. فقال له المكتفى: صار ماء وردك بولا، قال الصولى: فأقبل المكتفى علىّ ورتّبنى فى الجلساء، فحجبت يوما عنه، واتصل بى أن خصمى شمّت بى، فكتبت قصيدة للمكتفى أقول فيها: قد ساء ظنّ الناس بى وتنكّروا ... لمّا رأونى دون غيرى أحجب إن كان غلبيه يقرّب أمره ... دونى فإنى عن قريب أغلب فضحك، وأمر لى بمائتى دينار، واندرجت فى خدمته. [فى بيعة يزيد بن معاوية] اجتمعت وفود العرب عند معاوية رحمه الله تعالى، وكان إذا أراد أن يفعل شيئا ألقى منه ذرءا إلى الناس «1» ، فإذا امتنعوا كفّ، وإن رضوا أمضى، فعرض ببيعة يزيد، فقامت خطباء معدّ فشقّقوا الكلام، وأطنبوا فى الخطاب، فوثب شاب من غسّان قابضا على قائم سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الحيف فى حكم السيف «2» ، وبعد النسيم الهيف «3» ؛ فإنّ هؤلاء عجزوا عن الصّيال، فعوّلوا على المقال، ونحن القاتلون إذا صلنا، والمعجبون إذا قلنا، فمن مال عن القصد أقمناه، ومن قال بغير الحق وقمناه «4» ، فلينظر ناظر إلى موطىء قدمه، قبل أن تدحض فيهوى هوىّ الحجر من رأس النّيق «5» ؛ فتفرّق الناس عن قوله، ونسوا ما كانوا فيه من الخطب.

[فى الإقدام حياة]

[فى الإقدام حياة] وقال المهلب يوما لجلسائه: أراكم تعنّفوننى فى الإقدام، قالوا له: إى والله، إنك لسقوط بنفسك فى المهالك، قال: إليكم عنى! فوالله لولا أن آتى الموت مسترسلا، لأتانى مستعجلا؛ إنى لست آتى الموت من حبّه، إنما آتيه من بغضه، ثم تمثّل بقول الحصين بن الحمام المرى: [تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما ومن هذا أخذ أبو الطيب المتنبى قوله] : أرى كلّنا يهوى الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبّا فحبّ الجبان النفس أورده التّقى ... وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا وقال أبو دلف: الحرب تضحك عن كرّى وإقدامى ... والخيل تعرف آثارى وأيّامى سيفى مدامى، وريحانى مثقفتى، ... وهمّتى مقة التفصيل للهام «1» وقد تجرّد لى بالحسن منفردا ... أمضى وأشجع منى يوم إقدامى «2» سلّت لواحظه سيف السّفام على ... جسمى فأصبح جسمى ربع أسقام [من أخبار أبى دلف وشعره] وكان أبو دلف شاعرا مجيدا، وجوادا كريما. جامعا لآلات الأدب والظرف، وله شعر جيد فى كل فن، وهو القائل: أحبك يا جنان؛ فأنت منى ... محلّ الروح من جسد الجبان ولو أنى أقول: مكان روحى ... لخفت عليك بادرة الزمان

لإقدامى إذ ما الخيل جالت ... وهاب كماتها حرّ الطّعان «1» وكان يتعشّق جارية ببغداد فإذا شخص إلى الحضرة زارها، فركب فى بعض قدماته إليها، فلما صار بالجسر مشى على طرف طيلسان بعض المارّين، فخرقه، فأخذ بعنانه، وقال: يا أبا دلف؛ ليست هذه كرخك، هذه مدينة السلام؛ الذئب والشاة بها فى مربع واحد! فثنى عنانه متوجّها إلى الكرخ، وكتب إلى الجارية: قطعت عن لقائك الأشغال ... وهموم أتت علىّ ثقال فى بلاد يهان فيها عزيز الق ... وم حتى تناله الأنذال حيث لا مدفع بسيف عن الضيم ... ولا للكماة فيها مجال ومقام العزيز فى بلد الهو ... ن إذا أمكن الرحيل محال فعليك السلام يا ظبية الكر ... خ أقمتم وحان منّا ارتحال ودخل أبو دلف على المأمون بعد الرّضا عنه، فسأله عن عبد الله بن طاهر، فقال: خلّفته يا أمير المؤمنين أمين غيب، نصيح جيب، أسدا عاتيا، قائما على براثنه، يسعد به وليّك، ويشقى به عدوّك، رحب الفناء لأهل طاعتك، ذا بأس شديد لمن زاغ عن قصد محجّتك، قد فقّهه الحزم، وأيقظه العزم، فقام فى نحر الأمور على ساق التشمير، يبرمها بأيده «2» وكيده، ويفلّها بحدّه وجدّه؛ وما أشبهه فى الحرب إلا بقول العباس بن مرداس: أكرّ على الكتيبة لا أبالى ... أحتقى كان فيها أم سواها [فقال قائل: ما أفصحه على جبليّته! فقال المأمون: وإن بالجبل قوما أمجادا، كراما أنجادا، وإنهم ليوفّون السيف حظّه يوم النّزال، والكلام حقّه يوم المقال، وإن أبا دلف منهم] .

[من رسائل الميكالى]

[من رسائل الميكالى] فصل لأبى الفضل الميكالى من كتاب تعزية عن أبى العباس بن الإمام أبى الطيب. لئن كانت الرزيّة بمصيبة مؤلمة، وطرق العزاء والسّلوة مبهمة، لقد حلّت بساحة من لا تنتقض بأمثالها مرائره، ولا تضعف عن احتمالها بصائره، بل يتلقّاها بصدر فسيح يحمى أن يفتح الحزن بابه، وصبر مشيح يحمى أن يحبط الجزع أجره وثوابه، ولم لا وآداب الدين من عنده تلتمس، وأحكام الشرع من بنانه ولسانه تستفاد وتقتبس، والعيون ترمقه «1» فى هذه الحال لتجرى على سننه، وتأخذ بآدابه وسننه؛ فإن تعزّت القلوب فبحسن تماسكه عزاؤها، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤها. وله من تعزية إلى أبى عمرو البحترى: قدّس الله روحه، وسقى ضريحه؛ فلقد عاش نبيه الذّكر، جليل القدر، عبق الثناء والنّشر، يتجمّل به أهل بلده، ويتباهى بمكانه ذوو مودّته، ويفتخر الأثر وحاملوه بتراخى بقائه ومدّته، حتى إذا تسنّم ذروة «2» الفضائل والمناقب، وظهرت محاسنه كالنجوم الثواقب، اختطفته يد المقدار، ومحى أثره بين الآثار، فالفضل خاشع الطّرف لفقده، والكرم خالى الرّبع من بعده، والحديث يندب حافظه ودارسه، وحسن العهد يبكى كافله وحارسه. وله: فأما الشكر الذى أعارنى رداءه، وقلّدنى طوقه وسناءه؛ فهيهات أن ينتسب إلا إلى عادات فضله وإفضاله، ولا يسير إلّا تحت رايات عرفه ونواله، وهو ثوب لا يحلّى إلا بذكره طرازه، واسم له حقيقته ولسواه مجازه، ولو أنه

[عتاب]

حين ملك رقّى بأياديه، وأعجز وسعى عن حقوق مكارمه ومساعيه، خلّى لى مذهب الشكر وميدانه، ولم يجاذبنى زمامه وعنانه، لتعلّقت عن بلوغ بعض الواجب بعروة طمع، ونهضت فيه ولو على وهن وظلع «1» ، ولكنه يأبى إلا أن يستولى على أمد الفضائل، ويتسنم ذرا الغوارب منها والكواهل؛ فلا يدع فى المجد غاية إلّا يسبق إليها فارطا، ويخلّف من سواه عنها حسيرا ساقطا؛ لتكون المعالى بأسرها مجموعة فى ملكه، منظومة فى سلكه، خالصة له من دعوى القسيم وشركه. وله فصل من كتاب إلى أبى سعيد بن خلف الهمذانى: فأما التّحفة التى شفعها بكتابه فقد وصلت، فكانت ضرّة لزهر الربيع، موفية بحسن الخطّ على الوشى الصنيع، وليس يهتدى لمثل هذه اللطائف فى مبرّة الإخوان، إلّا من يعدّ من أفراد الأقران، ولا يرضى من نفسه فى إقامة شعائر البرّ دون القران «2» ، والله يمتّعه بما منحه من خصائص هى فى آذان الزمان شنوف «3» ، وفى جيده عقد برصوف. [عتاب] وقال أبو يعقوب الخريمى يعاتب الوليد بن أبان: أتعجب منى إن صبرت على الأذى ... وكنت امرأ ذا إربة متجمّلا فإنّى بحمد الله لا رأى عاجز ... رأيت، ولا أخطأت للحقّ مفصلا ولكن تدبّرت الأمور؛ فلم أجد ... سوى الحلم والإغضاء خيرا وأفضلا وأقسم لولا سالف الودّ بيننا ... وعهد أبت أركانه أن تزيّلا وأيامك الغرّ اللواتى تقدّمت ... وأوليتنيها منعما متطوّلا

[من ترجمة أبى يعقوب الخريمى]

رحلت قلوص الهجر ثم اقتعدتها ... إلى البعد ما ألفيت فى الأرض معملا وأكرمت نفسى والكرامة حظّها ... ولم ترنى لولا الهوى متذلّلا وعارضت أطراف الصّبا أبتغى أخا ... يعين إذا ما الهمّ بالمرء أعضلا أخا كأبى عمرو، وأنّى بمثله ... إذا الحرّ بالمجد ارتدى وتسر بلا جزى الله عثمان الخريمىّ خير ما ... جزى صاحبا جزل المواهب مفضلا أخا كان إن أقبلت بالودّ زادنى ... صفاء وإن أدبرت حنّ وأقبلا أخا لم يخنّى فى الحياة ولم أبت ... يخوّفنى الأعداء منه التنقّلا إذا حاولوه بالسعاية حاولوا ... به هضبة تأبى بأن تتخلخلا يحكّمنى فى ماله ولسانه ... ويركب دونى الراعبىّ المؤللا «1» كفى جفوة الإخوان طول حياته ... وأورث مما كان أعطى وأحزلا وبات حميدا لم يكدّر صنيعه ... ولم أقله طول الحياة وماقلا وكنت أخا لو دام عهدك واصلا ... نصورا إذا ما الشرّ خبّ وهرولا فغيّرك الواشون حتى كأنما ... ترانى شجاعا بين عينيك مقبلا [من ترجمة أبى يعقوب الخريمى] وأبو يعقوب هذا إسحاق بن حسان، قال المبرد: كان أبو يعقوب جميل الشعر، مقبولا عند الكتاب، وله كلام قوى، ومذهب متوسط، وكان يرجع إلى نسب كريم فى الصّغد، وكان له ولاء فى غطفان، وكان اتصاله بمولاه أبى عثمان بن خريم المرى الذى يقال له خريم الناعم، وكان أبو عثمان هذا قائدا جليلا، وسيدا كريما. وسئل [خريم] عن لذة الدنيا، فقال: الأمن فإنه لا عيش لخائف، والعافية فإنه لا عيش لسقيم، والغنى فإنه لا عيش لفقير. وقيل له:

ما بلغ من نعمتك؟ قال: لم ألبس جديدا فى صيف، ولا خلقا فى شتاء. وفى نسبه فى الصّغد يقول: أبا لصّغد باس أن تعيرنى جمل ... سفاها ومن أخلاق جارتنا البخل «1» وما ضرّنى أن لم تلدنى يحابر ... ولم تشتمل جرم علىّ ولا عكل «2» يقول فيها: [ودون الندى فى كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل] وودّ الفتى فى كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جزل وأعلم علما ليس بالظن أنه ... لكل أناس من ضرائبهم شكل وأن أخلّاء الزمان غناؤهم ... قليل إذا ما المرء زلّت به النعل تزوّد من الدنيا متاعا لغيرها ... فقد شمّرت حذّاء وانصرم الحبل «3» وهل أنت إلا هامة اليوم أوغد ... لأمّك من إحدى طوارقها الثّكل وقال يتشوق الحسن بن التّختاخ «4» : ألا مبلغ عنى خليلى ودونه ... مطا سفر لا يطعم النوم طالبه رسالة ثاو بالعراق وروحه ... بفسطاط مصر حيث جمّت عجائبه له كلّ يوم حنّة بعد رنّة ... يجيش بها فى الصدر شوق يغالبه إلى صاحب لا يخلق النأى عهده ... لناء ولا يشقى به من يصاقبه تخيّره حرّا نقيّا ضميره ... جميلا محيّاه كريما ضرائبه هو الشهد سلما، والذّعاف عداوة ... وبحر على الورّاد تجرى غواربه فيا حسن الحسن الذى عمّ فضله ... وتمّت أياديه وجمّت مناقبه إليك على بعد المزار تطلّعت ... نوازع شوق ما تردّ عوازبه أرى بعدك الإخوان أبناء علة ... لهم نسب فى ودّهم لا أناسبه

فقر وفصول فى معان شتى

فهل يرجعن عيشى وعيشك مرّة ... ببغداد دهر منصف لا نعاتبه ليالى أرعى فى جنابك روضة ... وآوى إلى حصن منيع مراتبه «1» وإذ أنت لى كالشهد بالرّاح صفّقا ... بماء رصاف صفقته جنائبه «2» عسى ولعلّ الله يجمع بيننا ... كما لاءمت صدع الإناء مشاعبه فقر وفصول فى معان شتى قال العتابى: حظّ الطالبين من الدّرك، بحسب ما استصحبوا من الصّبر. بعض الحكماء: الحلم عدّة للسفيه، وجنّة من كيد العدو، وإنك لن تقابل سفيها بالإعراض عن قوله إلّا أذللت نفسه، وفللت حدّه، وسللت عليه سيوفا من شواهد حلمك عنه، فتولّوا لك الانتقام منه. وقال آخر: العجلة مكسبة للمذمّة، مجلبة للنداءة، منفّرة لأهل الثقة، مانعة من سداد الرغبة. وأتى العتابىّ وهو بالرّى رجل يودّعه فقال: أين تريد؟ قال: بغداد، قال: إنك تريد بلدا اصطلح أهله على صحّة العلانية، وسقم السريرة، كلّهم يعطيك كله، ويمنعك قله وقال يحيى بن خالد لرجل دخل عليه: ما كان خبرك مع فلان؟ قال: قد افتديت مكاشفته واشتريت مكاشرته «3» بألف درهم، فقال يحيى: لا تبرح حتى يكتب الفضل وجعفر عنك هذا القول. قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يدعو، ويقول: اللهم ارزقنى عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك التنعم، رجاء لما وعدت، وخوفا مما أوعدت. وللعتابى: أما بعد فإنه ليس بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروهه،

ومن انتظر بمعاجلة الدرك مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته. كتب بعض الكتاب إلى أخ له: إن رأيت أن تحدّد لى ميعادا لزيارتك، أتقوّته «1» إلى وقت رؤيتك، ويؤنسنى إلى حين لقائك، فعلت إن شاء الله فأجابه: أخاف أن أعدك وعدا يعترض دون الوفاء به مآلا أقدر على دفعه، فتكون الحسرة أعظم من الفرقة. فأجاب المبتدئ: أنا أسر بموعدك، وأكون جذلا «2» بانتظارك، فإن عاق عن الإنجاز عائق، كنت قد ربحت السرور بالتوقّع لما أحبّه، وأصبت أجرى على الحسرة بما حرمته. وكتب أخ إلى أخ له يستدعيه: أما بعد فإنه من عانى الظّمأ بفرقتك استوجب الرىّ من رؤيتك، والسلام. وكتب آخر فى بابه: يومنا يوم طاب أوّله، وحسن مستقبله، وأتت السماء بقطارها، فحلّت الأرض بأنوارها «3» ، وبك تطيب الشّمول، ويشفى الغليل، فإن تأخّرت عنا فرّقت شملنا، وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا. قال إسحاق الموصلى: قال لى ثمامة بن أشرس، وقد أصبت بمصيبة: لمصيبة فى غيرك لك ثوابها، خير من مصيبة فيك لغيرك أجرها. ومرّ عمر بن ذر بابن عياش المنتوف، وكان سفه عليه فأعرض عنه، وتعلّق بثوبه، وقال: يا هناه؛ إنا لم نجد لك جزاء إذ عصيت الله فينا، خيرا من أن نطيعه فيك. أخذه من قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وكتب بعض الكتاب إلى رئيسه: ما رجائى عدلك بزائد على تأميلى فضلك، كما أنه ليس خوفى صيالك، بأكثر من خشيتى نكالك؛ لأنك

[بين حنيفة ونمير]

لا ترضى للمحسن بصغير المثوبة، كما لا تقنع للمسىء إلّا بموجع العقوبة. وقال آخر: ما عسيت أن أشكرك عليه من مواعد لم تشب بمطل، ومرافد لم تشن بمنّ، وعهد لم يمازجه ملق، وودّ لم يشبه مذق. وقال آخر: علقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها بنخوة، وترامت له أحوال الصرامة غير مستعمل معها السطوة، هذا مع دماثة فى غير حصر، ولين جانب من غير خور «1» . فصل لابن الرومى: إنى لوليّك الذى لم تزل تنقاد لك مودته من غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذى رغبة مطمعا، ولذى رهبة مهربا. أبو فراس الحمدانى: كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب، ولا يخشى عليه عقاب [بين حنيفة ونمير] غزت حنيفة نميرا فانتصفوا منهم، فقيل لرجل منهم: كيف صنع قومك؟ قال: اتبعونى وقد أحقبوا كل جمالية خيفانه «2» ، فما زالوا يخصفون [أخفاف] المطىّ بحوافر الخيل، حتى لحقوهم؛ فجعلوا المرّان أرشية الموت، فاشتفّوا بها أرواحهم. [دعاء] ودعا أعرابى فقال: اللهم إن كان رزقى نائيا فقرّبه، أو قريبا فيسّره، أو ميسّرا فعجله، أو قليلا فكثره، أو كثيرا فثمّره. [من رسائل البلغاء] وكتب عنبسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عامله على الرّقّة، يصف خروج الأعراب بناحية سنجار وعيثهم بها «3» : يا أمير المؤمنين، قد قطع سبل المجتازين،

من المسلمين والمعاهدين، نفر من شذّاذ الأعراب الذين لا يرقبون فى مؤمن إلّا «1» ولا ذمّة، ولا يخافون من الله حدّا ولا عقوبة، ولولا ثقتى بسيف أمير المؤمنين وحصده هذه الطائفة، وبلوغه فى أعداء الله ما يردع قاصيهم ودانيهم، لأذّنت بالاستنجاد عليهم، ولا بتعثت الخيل إليهم، وأمير المؤمنين معان فى أموره بالتأييد والنصر إن شاء الله. فكتب إليه المأمون: أسمعت غير كهام السمع والبصر ... لا يقطع السيف إلا فى يد الحذر سيصبح القوم من سيفى وضاربه ... مثل الهشيم ذرته الريح بالمطر فوجّه عنبسة بالبيتين إلى الأعراب، فما بقى منهم اثنان. وكتب المطلب بن عبد الله بن مالك إلى الحسن بن سهل فى رجل توسّل به: طلب العافين الوسائل إلى الأمير- أعزّه الله- ينبىء عن شروع موارد إحسانه، ويدعو إلى معرفة فضله، وما أنصفه- أعزه الله تعالى- من توسّل إلى معروفه بغيره؛ فرأى الأمير- أعزه الله- فى التطوّل على من قصرت معرفته عن ذلك بما يريد الله تعالى فيه موفقا إن شاء الله تعالى. فكتب إليه الحسن: وصلك الله بما وصلتنى فى صاحبك من الأجر والشكر، وأراك الإحسان فى قصدك إلى بأمثاله فرضا يفيدك شكره، ويعقبك أجره، فرأيك فى إتمام ما ابتدأت به وإعلامى ذلك مشكورا. وكان المطلب ممدّحا كريما، وقد حسد دعبل شرفه وإنعامه، وغبط إحسانه وإكرامه، إذ يقول: اضرب ندى طلحة الطلحات معترفا ... بلؤم مطّلب فينا وكن حكما تخلص خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تعدّ لها لؤما ولا كرما وأمر طلحة أعرف من أن يوصف.

[رثاء يزيد بن مزيد]

وما أبعد قول دعبل من قول البحترى لصاعد بن مخلد وأهل بيته: بنى مخلد كفوا تدفّق جودكم ... ولا تبخسونا حظنا فى المكارم ولاتنصروا مجدى قنان ومخلد ... بأن تذهبوا عنا بسمعة حاتم «1» وكان لنا اسم الجود حتى جعلتم ... تغضّون منا بالخلال الكرائم [رثاء يزيد بن مزيد] قال الزبير بن بكار: لما مات يزيد بن مزيد بأرمينية قام حبيب بن البراء خطيبا، فقال: أيها الناس، لا تقنطوا من مثله وإن كان قليل النظير، وهبوه من صالح دعائكم مثل الذى أخلص فيكم من نواله، والله ما تفعل الديمة الهطلة فى البقعة الجدبة ما عملت فينا يداه من عدله ونداه. فسرق هذا أبو لبابة [الشاعر] فقال: ما بقعة جادها غيث وقرّنها؟؟؟ ... فأزهرت بأقاحى النّبت ألوانا أبهى وأحسن مما أثّرت يده ... فى الشرق والغرب معروفا وإحسانا [وقال ابن المبارك يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة: وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشترى وإذا توعّرت المسالك لم يكن ... فيها السبيل إلى نداك بأوعر «2» وإذا صنعت صنيعة أتممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدّر وإذا هممت لمعتفيك بنائل ... قال الندى- فأطعته- لك: أكثر «3» يا واحد العرب الذى ما إن لهم ... من معدل عنه ولا من مقصر]

[من رسائل بديع الزمان]

[من رسائل بديع الزمان] كتب البديع أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن يحيى: أما أبو فلان فلا شك أنّ كتابى يرد منه على صدر محا اسمى من صحيفته، وقطع حظّى من وظيفته، ونسى اجتماعنا على الحديث والغزل، وتصرفنا فى الجدّ والهزل، وتقلّبنا فى أعطاف العيش، بين الوقار والطّيش، وارتضاعنا ثدى العشرة؛ إذ الزمان رقيق القشرة، وتواعدنا أن يلحق أحدنا بصاحبه، وتصافحنا من قبل ألّا نصرم الحبل، وتعاهدنا من بعد ألّا ننقض العهد، وكأنى به وقد اتخذ إخوانا فلا بأس، فإن كان للجديد لذة فللقديم حرمة، والأخوّة بردة لا تضيق بين اثنين، ولو شاء معاشرنا فى البين، وكان سألنى أن أرتاد له «1» منزلا ماؤه روىّ، ومرعاه غذى، وأكاتبه لينهض إليه راحلته؛ فهاك نيسابور «2» ضالّته التى نشدتها وقد وجدتها، وخراسان أمنيته التى طلبتها وقد أصبتها، وهذه الدولة بغيته التى أرادها وقد وردتها، فإن صدّقنى رائدا، فليأتنى قاصدا. وله إلى بعض إخوانه يعزيه عن أبيه: وصلت رقعتك يا سيدى والمصاب لعمر الله كبير، وأنت بالجزع جدير، ولكنك بالعزاء أجدر، والصبر عن الأحبّة رشد كأنه الغىّ، وقد مات الميت فليحى الحىّ، والآن فاشدد على مالك بالخمس، فأنت اليوم غيرك بالأمس، وكان الشيخ رحمه الله وكيلك، تضحك ويبكى لك، وقد موّلك ما ألّف فى سراه «3» وسيره، وخلفك فقيرا إلى الله غنيا عن غيره، وسيعجم الشيطان عودك، فإن استلانك رماك بقوم يقولون: خير المال ما أتلف بين الشراب والشباب، وأنفق بين الحباب «4» والأحباب، والعيش بين القداح والأقداح «5» ، ولولا الاستعمال، ما أريد المال! فإن أطعتهم فاليوم فى الشراب، وغدا فى الخراب، واليوم واطربا للكاس، وغدا واحربا من

الإفلاس، يا مولاى ذلك الخارج من العود يسمّيه الجاهل نقرا، ويسمّيه العاقل فقرا. وكذلك المسموع فى الناى، هو فى الآذان زمر، وفى الأبواب سمر، فإن لم يجد الشيطان مغمزا فى عودك من هذا الوجه، رماك بقوم يمثّلون الفقر حذاء عينيك، فتجاهد قلبك، وتحاسب بطنك، وتناقش عرسك «1» ، وتمنع نفسك، وتتوقّى دنياك بوزرك، وتراه فى الآخرة فى ميزان غيرك، لا، ولكن قصدا بين الطريقين، وميلا عن الفريقين، لا منع ولا إسراف، والبخل فقر حاضر، وضرّ عاجل، وإنما يبخل المرء خيفة ما هو فيه. ومن ينفق الساعات فى جمع ماله ... مخافة فقر فالذى صنع الفقر وليكن لله فى مالك قسم، وللمروءة قسم؛ فصل الرّحم ما استطعت، وقدّر إذا قطعت، فلأن تكون فى جانب التقدير، خير من أن تكون فى جانب التبذير. وله إلى رئيس عناية برجل: كتابى أظال الله بقاء الرئيس، والكاتب مجهول، والكتاب فضول، وبحسب الرأى موقعه، فإن كان جميلا فهو تطوّل، وإن كان شينا فهو تقوّل، وأية سلك الظنّ فله- أيّده الله تعالى- المنّ، من نيسابور عن سلامة شاملة نسأل الله تعالى ألّا يلهينا بسكرها، عن شكرها، والحمد لله رب العالمين. يقول الشيخ- أيّده الله تعالى: من هذا الرجل؟ وما هذا الكتاب؟ فأمّا الرجل فخاطب ودّ أولا، وموصل شكر ثانيا؛ وأما الكتاب فلحام أرحام الكرام؛ فإن يعن الله الكرام تتّصل الأرحام. هذا الشريف قد حاربه زمان السوء؛ فأخرجه من البيت الذى بلغ السماء مفخرا، ثم طلب فوقه مظهرا «2» ؛ وله بعد جلالة النسب، وطهارة الأخلاق، وكرم العهد، وحضرنى فسألته عما وراءه، فأشار إلى ضالّة الأحرار، وهو الكرم مع اليسار،

ونبّه على قيد الكرام، وهو البشر مع الإنعام، وحدّث عن برد الأكباد، وهو مساعدة الزمان للجواد، ودلّ على نزهة الأبصار، وهو الثّراء، ومتعه الأسماع، وهو الثناء، وقلّما اجتمعا، وعزّ ما وجدا معا. وذكر أنّ الشيخ الرئيس- أيده الله- جماع هذه الخيرات، وسألنى الشهادة له، وبذل الخط بها، ففعلت، وسألت الله إعانته على همّته؛ فرأى الشيخ- أيده الله تعالى فى الوقوف على ما كتبت، وفى الإجابة- إن نشط- الموفّق إن شاء الله وله إلى ابن أخته: وصل كتابك بما ضمّنته من تظاهر نعم الله عليك، وعلى أبويك، فسكنت إلى ذلك من حالك، وسألت الله بقاءك، وأن يرزقنى لقاءك، وذكرت مصابك بأخيك، رحمه الله تعالى، فكأنما فتتّ عضدى، وطعنت فى كبدى، فقد كنت معتضدا بمكانه، والقدر جار لشانه، وكذلك المرء يدبّر، والقضاء يدمّر، والآمال تنقسم، والآجال تبتسم، فالله يجعله لك فرطا، ولا يرينى فيك سوءا أبدا، وأنت إن شاء الله تعالى وارث عمره، وسداد ثغره، ونعم العوض بقاؤك. إنّ الأشاء إذا أصاب مشذّبا ... منه اتمهل ذرا وأثّ أسافلا «1» وأبوك سيدى أيده الله تعالى وألهمه الجميل، وهو الصبر، وأناله الجزيل، وهو الأجر، وأمتعه بك طويلا، فما سؤت بديلا، وأنت ولدى ما دمت والعلم شانك، والمدرسة مكانك، والدفتر نديمك، وإن قصّرت، ولا إخالك، فغيرى خالك. وله من كتاب إلى أبى القاسم الداودى بسجستان: كتابى- أطال الله بقاء الفقيه- كتاب من ينسى الأيام وتذكره، ويطويها

وتنشره، ويبيد أبناء دهره، وراء ظهره، ويخرج أهل زمانه، من ضمانه، فإذا تناولهم بيمناه، وتسلّمهم بيسراه، أقسم أن صفقته هى الرابحة، وكفّته هى الراجحة، وأنا- أيد الله الفقيه- على قرب العهد، بالمهد، قد قطعت عرض الأرض، وعاشرت أجناس الناس، فما أحد إلا بالجهل اتّبعته، وبالخبرة بعته، وبالظن أخذته، وباليقين نبذته، وما حمد وضعته فى أحد إلّا ضيّعته، ولا مدح صرفته إلى أحد إلّا غربته، ومن احتاج إلى الناس، وزنهم بالقسطاس، ومن طاف نصف الشرق، فقد لقى ربع الخلق، ومن لم يجد فى النّصف لمحة دالّة، لم يجد فى الكل غرّة لائحة، وكان لنا صديق يقول: إن عشت تسعين عاما مت ولم أملك دينارا؛ لأنى قد عشت ثلاثين ولم أملك ثلثها، وهذا لعمرى ياس، يوجبه قياس، وقنوط، بالحجة منوط، ودعابة ستكون جدّا، ووراء هذه الجملة موجدة على قوم، وغربدة إلى يوم، والأمير السيد واسع مجال الهمم، ثابت مكان القدم، وأنا فى كنفه صائب سهم الأمل، وافر الجذل، والحمد لله على ما يوليه، ويولينا معشر مواليه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وذرّيته. وله إلى إبراهيم بن حمزة خادم الأستاذ الجليل: قد أتبع قدمه، إلى الخدمة قلمه، وأتلى لسانه، فى الحاجة بنان، وقد كان استأذنه فى توفير هذا اليوم فى مجلس السيد الجليل فأذن له على عادته السليمة، وشيمته القويمة، ومن وجد كلأرتع «1» ، ومن صادف غيثا انتجع «2» ، ومن احتاج للحاجات سأل، وبقى أن يشفع الأستاذ الجليل بإزاء الحوض عفره «3» ، وينظم إلى روض الإحسان مطره، ويطرّز أنسنا بأبى فلان؛ فقد وصف لى حتى حننت شوقا إليه، ووجدا به، وشغفا له، وغلوّا فيه، ورأيه فى الإصغاء إلى الكرم عال، إن شاء الله تعالى.

[من مقامات بديع الزمان]

[من مقامات بديع الزمان] ومن إنشائه فى مقامات أبى الفتح السكندرى: حدّثنا عيسى بن هشام قال: حدانى إلى سجستان أرب «1» ، فاقتعدت طيّته، وامتطيت مطيّته، واستخرت الله تعالى فى العزم حدوته أمامى، والحزم جعلته قدّامى، حتى هدانى إليها، ووافيت دروبها «2» ، وقد وافت الشمس غروبها، واتفق المبيت حيث انتهيت؛ ولما انتضى نصل الصباح، وبرز جبين المصباح، مضيت إلى السوق أتّخذ منزلا، فحيث انتهيت من دائرة البلد إلى نقطتها، ومن قلادة السوق إلى واسطتها، خرق سمعى صوت له من كلّ عرق معنى، فانتحيت وفده، حتى وقفت عنده؛ فإذا رجل على فرسه، مختنق بنفسه، قد ولّانى قذاله وهو يقول: من عرفنى فقد عرفنى، ومن لم يعرفنى فأنا أعرّفه بنفسى، أنا باكورة اليمن، أنا أحدوثة الزمن، أنا أدعيّة الرجال، وأحجيّة ربات الحجال «3» ، سلوا عنى الجبال وحزونها، والبحار وعيونها، والخيل ومتونها، من الذى ملك أسوارها، وعرف أسرارها، ونهج سمتها، وولج حرّتها؟ وسلوا الملوك وخزائنها، والأغلاق ومعادنها، والعلوم وبواطنها، والخطوب ومغالقها، والحروب ومضابقها، من الذى أخذ مختزنها، ولم يؤدّ ثمنها؟ ومن الذى ملك مفاتحها، وعرف مصالحها؟ أنا والله فعلت ذلك، وسفرت بين الملوك الصّيد، وكشفت أستار الخطوب السّود. أنا والله شهدت حتى مصارع العشّاق، ومرضت حتى لمرض الأحداق، وهصرت الغصون الناعمات، وجنيت جنى الخدود المورّدات، ونفرت عن الدنيات نفور طبع الكريم عن وجوه اللئام، ونبوت عن المحرمات نبوّ سمع الشريف عن قبيح الكلام، والآن لما أسفر صبح المشيب، وعلتنى أبّهة الكبر، عمدت

لإصلاح أمر المعاد، بإعداد الزّاد، فلم أر طريقا أهدى إلى الرشاد مما أنا سالكه، يرانى أحدكم راكب فرس وهوس «1» ، فيقول: هذا أبو العجب، لا، ولكنى أبو العجائب، عاينتها وعانيتها، وأمّ الكبائر قايستها وقاسيتها، وأخو الأعلاق، صعبا أخذتها، وهونا أضعتها، وغاليا اشتريتها، ورخيصا بعتها؛ فقد والله صحبت لها المواكب، وزاحمت المناكب، ورعيت الكواكب، وأنضيت الركائب، ولا منّ عليكم، فما حصلتها إلا لأمرى، ولا أعددتها إلّا لنفسى، لكنى دفعت إلى مكاره نذرت معها ألّا أدخر عن المسلمين نفعها، ولا بدّ لى أن أخلع ربقة هذه الأمانة من عنقى إلى أعناقكم، وأعرض دوائى هذا فى أسواقكم، فليشتره منى من لا يتقزّز من موقف العبيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد، وليصننه من أنجبت جدوده، وسقى بالماء الطّاهر عوده. قال عيسى بن هشام: فدرت إلى وجهه لأعلم علمه، فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، وانتظرت إجفال النعامة بين يديه، ثم تعرّضت فقلت: كم يحلّ دواءك هذا؟ قال: يحلّ الكيس ما مست الحاجة؛ فانصرفت وتركته. ومن إنشائه فى هذا الباب: حدّثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام، قافلا من البيت الحرام «2» ، أميس ميس الرّجلة «3» ، على شاطىء الدّجلة، أتأمّل تلك الطرائف، وأتقصّى تلك الزخارف، إذ انتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين، يلوى الطّرب أعناقهم، ويشقّ الضحك أشداقهم، فساقنى الحرص إلى ما ساقهم، حتّى وقفت بمسمع صوت رجل دون مرأى وجهه، لشدّة الهجمة، وفرط الزّحمة، وإذا هو قرّاد يرقص قرده، ويضحك من عنده، فرقصت رقص المحرج، وسرت سير الأعرج، فوق أعناق الناس، يلفظنى عاتق هذا لسرّة ذاك، حتى افترشت لحية رجلين، وقعدت بين اثنين، وقد

أشرقنى الخجل بريقه، وأرهقنى المكان لضيقه، فلما فرغ القرّاد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كسانى الرّيب حلّته، ووقفت لأرى صورته، فإذا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: ما هذه الدناءة؟ ويحك! فقال: الذنب للأيام لا لى ... فاعتب على صرف اللّيالى بالحمق أدركت المنى ... ورفلت فى ثوب الجمال ومن إنشائه فى هذا الباب أيضا: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بأصفهان أعتزم المسير إلى الرّىّ، فحللتها حلول الفىّ «1» ، أتوقّع النّقلة كل لمحة، وأترقّب الرّحلة كلّ صبحة؛ فلما حمّ ما توقّعته، وأزف ما ترقّبته، نودى للصلاة نداء سمعته، وتعيّن فرض الإجابة؛ فانسللت من بين الصحابة، أغتنم الجماعة أدركها، وأخشى فوات القافلة أتركها، لكنى استعنت ببركة الصلاة، على وعثاء الفلاة؛ فضرت إلى أول الصفوف، ومثلت للوقوف، وتقدّم الإمام للمحراب، وقرأ فاتحة الكتاب، [وثنّى بالأحزاب «2» ] ، بقراءة حمزة، مدّة وهمزة، وأتبع الفاتحة بالواقعة، وأنا أتصلّى بنار الصبر وأتصلّب، وأتقلّى على جمر الغيظ وأتقلّب، وليس إلا السكوت والصبر، أو الكلام والقبر، لما عرفت من خشونة القوم فى ذلك المقام، أن لو قطعت الصلاة دون السلام، فوقفت بقدم الضرورة على تلك الصورة، إلى انتهاء السورة، وقد قنطت من القافلة، ويئست من الراحلة، ثم حنى قوسه للركوع، بنوع من الخشوع، وضرب من الخضوع، لم أعهده قبل ذلك، ثم رفع رأسه ويده، وقال: سمع الله لمن حمده، وقام، حتى ما شككت أنه نام، ثم أكبّ لوجهه، فرفعت رأسى أنتهز فرصة، فلم أر بين الصفوف فرجة، فعدت للسجود، حتى كبّر للقعود، وقام للركعة الثانية، وقرأ الفاتحة والقارعة، فعدت للسجود، حتى كبّر للقعود، وقام للركعة الثانية، وقرأ الفاتحة والقارعة، قراءة استوفى فيها عمر الساعة، واسترقّ أرواح

[جارية ذات أدب وجمال تبذ أبناء الخلفاء]

الجماعة، فلما فرغ من ركعتيه، مال للتحية بأخدعيه، فقلت: قد قرب الفرج، وآن المخرج، فقام رجل فقال: من كان منكم يحبّ الصحابة والجماعة، فليعرنى سمعه ساعة. قال عيسى بن هشام: فلزمت أرضى، صيانة لعرضى، فقال: حقيق علىّ ألّا أقول على الله إلا الحق، قد جئتكم ببشارة من نبيّكم، لكنى لا أؤدّيها حتى يطهّر الله هذا المسجد من نذل جحد نبوّته، وعادى أمّته. قال عيسى بن هشام: فربطنى بالقيود، وشدّنى بالحبال السّود، ثم قال: رأيته صلى الله عليه وسلم [فى المنام] كالشمس تحت الغمام، والبدر ليلة التّمام، يسير والنجم يتبعه، ويسحب الذّيل والملائكة ترفعه، ثم علّمنى دعاء، وأوصانى أن أعلّم ذلك أمّته، وقد كتبته فى هذه الأوراق بخلوق «1» ومسك، وزعفران وسكّ؛ فمن استوهبه منى وهبته، ومن أعطى ثمن القرطاس أخذته. قال عيسى بن هشام: فانثالت عليه الدراهم، حتى حيّرته؛ ونظرت فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: كيف اهتديت إلى هذه الحيلة؟ ومتى اندرحت فى هذه القبيلة؟ فأنشأ يقول: الناس حمر فجوّز ... وابرز عليهم وبرّز حتى إذا نلت منهم ... ما تشتهيه ففروز «2» [جارية ذات أدب وجمال تبذّ أبناء الخلفاء] وصفت لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من الأنصار ذات أدب وجمال، فساومه فى ابتياعها، فامتنع وامتنعت، وقالت: لا أحتاج للخلافة ولا أرغب فى الخليفة، والذى أنا فى ملكه أحبّ إلىّ من الأرض ومن فيها. فبلغ ذلك عبد الملك فأغراه بها؛ فأضعف الثمن لصاحبها وأخذها قسرا، فما أعجب بشىء

إعجابه بها، فلما وصلت إليه، وصارت فى يديه، أمرها بلزوم مجلسه، والقيام على رأسه؛ فبينما هى عنده، ومعه ابناه الوليد وسليمان، قد أخلاهما للمذاكرة، فأقبل عليهما فقال: أىّ بيت قالته العرب أمدح؟ فقال الوليد: قول جرير فيك: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقال سليمان: بل قول الأخطل: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا فقالت الجارية: بل أمدح بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت: يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل فأطرق، ثم قال: أى بيت قالته العرب أرقّ؟ فقال الوليد: قول جرير: إنّ العيون التى فى طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا فقال سليمان: بل قول عمر بن أبى ربيعة: حبّذا رجعها يديها إليها ... من يدى درعها تحلّ الإزارا فقالت الجارية: بل بيت يقوله حسان: لو يدبّ الحولىّ من ولد الذرّ عليها ... لأندبتها الكلوم «1» فأطرق، ثم قال: أى بيت قالته العرب أشجع؟ فقال الوليد: قول عنترة: إذ يتّقون بى الأسنّة لم أخم ... عنها، ولو أنى تضايق مقدمى «2» فقال سليمان: بل قوله: وأنا المنية فى المواطن كلها ... فالموت منى سابق الآجال فقالت الجارية: بل بيت يقوله كعب بن مالك: نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق فقال عبد الملك: أحسنت، وما نرى شيئا فى الإحسان إليك أبلغ من ردّك

[نهشل بن حرى]

إلى أهلك. فأجمل كسوتها، وأحسن صلتها، وردّها إلى أهلها. ومثل قول كعب بن مالك قول نهشل بن حرّىّ: إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منّا والمصلّينا إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة: ألا أين المحامون الو كان فى الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا إذا الكماة تأبّوا أن ينالهم ... حدّ السيوف وصلناها بأيدينا «1» إنما أردت هذا البيت. وقوله: لو كان فى الألف منا واحد أخذه من قول طرفة بن العبد: إذا القوم قالوا من فتى خلت أننى ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد [نهشل بن حرّىّ] وكان نهشل شاعرا ظريفا، وهو نهشل بن حرّىّ بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، وكان اسم جده ضمرة هذا: شقّة، ورد على النعمان بن المنذر فقال: من أنت؟ فقال: أنا شقّة، وكان قضيفا «2» نحيفا دميما، فقال له النعمان: نسمع بالمعيدىّ لا أن تراه، والمعيدى: تصغير المعدّىّ، فذهبت مثلا، فقال: أبيت اللعن! إن الرجال لا تكال بالقفزان، وليست بمسوك «3» يستقى بها من الغدران، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إذا نطق نطق ببيان، وإذا قاتل قاتل بجنان، فقال: أنت ضمرة! ونهشل هو القائل: ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر قيام على الجمر أقمنا به حتى تجلّى، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر

[أثر الشعر]

[أثر الشعر] وكان عبد الملك يقول: يا بنى أمية، أحسابكم أعراضكم، لا تعرضوها على الجهال، فإنّ الذمّ باق ما بقى الدهر؛ والله ما سرّنى أنى هجيت ببيت الأعشى، وأن لى طلاع الأرض ذهبا، وهو قوله فى علقمة بن علاثة: يبيتون فى المشتى ملاء بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا والله ما يبالى من مدح بهذين البيتين ألا يمدح بغيرهما، وهما قول زهير: هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا «1» على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل وقال ابن الأعرابى: أمدح بيت قاله المحدثون قول أبى نواس: أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان [تغطيت من دهرى بظل جناحه ... فعينى ترى دهرى وليس يرانى فلو تسأل الأيام عنى مادرت ... وأين مكانى ما عرفن مكانى وهذا كقول أعرابى، ذكر بعض الرواة أن مالك بن طوق كان جالسا فى بهو مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابى تخبّ به ناقته، فقال: إياى أراد، ونحوى قصد، ولعل عنده أدبا ينتفع به. فأمر حاجبه بإدخاله، فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابى؟ قال: الأمل فى سيب الأمير والرحاء لنائله «2» . قال: فهل قدّمت أمام رغبتك وسيلة؟ قال: نعم، أربعة أبيات قلتها بظهر البرية؛ فلما رأيت ما بباب الأمير من الأبهة والجلالة استصغرتها، قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك؟ ولك أربعة آلاف درهم، فإن كانت أبياتك أحسن فقد ربحنا عليك، والا قد نلت مرادك وربحت علينا، قال: قد رضيت، فأنشده:

[أنصف بيت، وأصدق بيت]

وما زلت أخشى الدهر حتى تعلقت ... يداى بمن لا يتّقى الدهر صاحبه فلما رآنى الدهر تحت جناحه ... رأى مرتقى صعبا منيعا مطالبه وأنى بحيث النجم فى رأس باذخ ... تظلّ الورى أكنافه وجوانبه فتى كسماء الغيث والناس حوله ... إذا أجدبوا جادت عليهم سحائبه قال: قد ظفرنا بك يا أعرابى، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم. قال: فإن لى صاحبا شاركته فيها ما أراه يرضى بيعى، قال: أتراك حدّثت نفسك بالنكث؟ قال: نعم، وجدت النكث فى البيع أيسر من خيانة الشريك، فأمر له بها. [أنصف بيت، وأصدق بيت] وأنصف بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت لأبى سفيان بن الحارث فى جوابه عما هجا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى محمد بن عمار عن أبيه قال: أنشد النبىّ حسان بن ثابت قوله: هجوت محمدا، فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء فقال النبىّ عليه السلام: جزاؤك الجنة يا حسّان. فلما انتهى إلى قوله: فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء قال النبىّ عليه السلام: وقاك الله حرّ النار. فلما قال: أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء قال من حضر: هذا أنصف بيت قالته العرب. وأصدق بيت قالته العرب وأمدحه قول كعب بن زهير فى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم وفى عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم (17- زهر الآداب 4)

ألفاظ لأهل العصر فى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم

وقال الأصمعى: والجهال يروون هذا البيت لأبى دهبل، واسمه وهب بن ربيعة، فى عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق والى اليمامة، والصواب ما ذكرناه، وهو بصفات النبىّ صلى الله عليه وسلم أعلق، وبمدحه أليق. ألفاظ لأهل العصر فى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاب بأمته الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم بالظلّ بعد الحرور. وهو خيرة الله من خلقه، وحجّته فى أرضه. الهادى إلى حقّه، والمنبه على حكمه. والداعى إلى رشده، والآخذ بفرضه. مبارك مولده، سعيدة غرّته، قاطعة حجّته، سامية درجته، ساطع صباحه، متوقّد مصباحه، مظفّرة حروبه، ميسّرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وختم بأن لا نبىّ بعده. يفصح بشعاره على المنابر، وبالصلاة عليه فى المحاضر، وتعمر بذكره صدور المساجد، وتستوى فى الانقياد له حالة المقرّ والجاحد. آخر الأنبياء فى الدنيا عمرا، وأولهم يوم القيامة ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجّة وبرهانا. صدع بالرسالة، وبلغ بالدلالة، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم. أرسله الله قمرا للاسلام منيرا، وقدرا على أهل الضلال مبيرا. صلى الله عليه وسلم. خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجحت بالصلاة عليه الطلبات. خير مبعوث، وأفضل وارث وموروث. وخير مولود، دعا إلى خير معبود. صلى الله على كاشف الغمّة عن الأمة. الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعى إلى الصدق، الذى ملك هوادى الهدى، ودلّ على ما هو خير وأبقى. صلى الله عليه بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب. صلى الله على أتمّ بريته خيرا وفضلا، وأطيبهم فرعا وأصلا، وأكرمهم عودا ونجارا، وأعلاهم منصبا وفخارا، وعلى أهله الذين عظّمهم توقيرا، وطهّرهم تطهيرا هم مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومعارج البركة ومصابيحها. أعلام الإسلام وأيمان الإيمان. الطيبون الأخيار، الطاهرون الأبرار. الذين أذهب عنهم الأرجاس، وجعل مودتهم واجبة على الناس. هم حبل الهدى وشجرة الإيمان، أصلها نبوّة، وفرعها مروّة، وأغصانها تنزيل، وورقاتها تأويل، وخدمها ميكال وجبريل.

ولبديع الزمان إلى بعض الأشراف فى درج كلام تقدّم: إن جعلنا نعدّ فخاركم، ونحدّ آثاركم، نفد الحصى قبل نفودها، وفنيت الخواطر، قبل أن تفنى المآثر، ولم لا، وإن ذكر الشرف فأنتم بنو بجدته، أو العلم فأنتم عاقد وإزرته. أو الدين فأنتم ساكنو بلدته، أو الجود فأنتم بنو بجدته، أو التواضع صبرتم لشدّته، أو الرأى صلتم بحدته، وإنّ بيتا تولى الله عز وجل بناءه، ومهّد الرسول عليه السلام فناءه، وأقام الوصىّ رضوان الله عليه عماده، وخدم جبريل عليه السلام أهله، لحقيق أن يصان عن مدح لسان قصير. وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم أعرابىّ فقال: بأبى وأمى رسول رب العالمين، ختمت به الدنيا، وفتحت به الآخرة، صلى الله عليه وسلم، به يبدأ الذكر الجميل ويختم. إلى هذا المكان أمسكت العنان. والإطناب فى هذا الكتاب يعظم ويتّسع، بل يتصل ولا ينقطع؛ إذ كان غرضى فيه أن ألمح المعنى من معانيه، ثم أنجرّ معه حيث انجرّ، وأمرّ فيه كيف مرّ، وآخذ فى معنى آخر غير موصول بشكله، ولا مقرون بمثله، وقد أخل نظاما، وأفرد تؤاما، نشرا لبساط الانبساط، ورغبة فى استدعاه النشاط. وهذا التصنيف لا تدرك غايته، ولا تبلغ نهايته؛ إذ المعانى غير محصورة بعدد، ولا مقصورة إلى أمد. وقد أبرزت فى الصدر، صفحة العذر، يجول فرندها، ويثقب زندها، وذلك أنى ما ادّعيت فيما أتيت إلا ما [لا] يكون ما تركته أفضل مما أدركته، وأنى لم أسلك مذهبا مخترعا لم أسبق إليه، ولا قصدت غرضا مبتدعا لم أغلب عليه، ومن ركب مطيّة الاعتذار، واجتنب خطيّة الإصرار فقد خرج من تبعة التقصير، وبرىء من عهدة المعاذير. وأما بعد فإن أحقّ من احتكم إليه واقتصر عليه الاعتراف بفضل الإنصاف، وليعلم من ينصف أن الاختيار ليس يعلم ضرورة، ولا يوقف له على صورة، فيكثر الإغماض، ويقل الاعتراض، ويعلم أنّ ما لا يقع بهواه، قد يختاره سواه، وكلّ يعمل اقتداره، ويحسن اختياره، فلو وقع الاجتماع على ما يرضى ويسخط، ويثبت ويسقط، لارتفع حجاج المختلفين، فى أمر الدنيا والدين.

وقال المتنبى: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف فى الشجب فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل: تشرك جسم المرء فى العطب الشجب: الموت، وهى لفظة معروفة، وإن كانت غير مألوفة عند أهل النقد. وقد أنكرها البحترى على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فى مجاذبته إياه حيث يقول: ولو أنّ الحكيم وازن فى اللفظ واختار لم يقل شجبه وكان أبو الطيب نظر إلى ما رواه أبو ظبيان، قال: اجتمع نفر من أهل الكلام على رجل من الملحدين، فجعلوا لا يأتون بمسألة إلا سألهم الدليل عليها، وناقضهم فيها، فأعياهم كثرة ما يقول ويقولون، فقال بعضهم: أما بعد فإن الموت لا شكّ فيه فقال الملحد: ما رأيت خاطبا وواعظا وشاهدا لا يردّ أوجز منه، وقلما ترى معنى إلا وهو يدافع أو يناقض ويحار به عن سواء المحجّة. وقيل: من طلب عيبا وجده. قال أبو عمرو بن سعيد القطر بلى: ليس من بيت إلا وفيه لطاعن مطعن، إلا قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقول طرفة بن العبد: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وقول على بن زيد: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد وللعلم بذلك قال قتيبة بن مسلم لأبى عيّاش المنتوف، وقد دخل عليه وبين يديه سلّة زعفران: أنشدنى بيتا لا يصارف ولا يكذّب وهى لك، فأنشده ما ليس لطاعن فيه مطعن: فما حملت من ناقة فوق كورها ... أبرّ وأوفى ذمّة من محمد [صلى الله عليه وسلم، ورحم وكرّم، وشرّف وعظم، وعلى آله الطيبين، وسلم تسليما] قد تم كتاب «زهر الآداب، لأبى إسحاق الحصرى» والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على كريم الآباء والأمهات

فهرس الجزء الرابع من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى

فهرس الجزء الرابع من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى ص الموضوع 907 فاتحة الجزء 908 نماذج من الشعر الجيد 908 لابن المعتز 909 لعلى بن الخليل أمام الرشيد 911 وصف دعوة لمحمد بن حازم 911 من مستحسن الأجوبة 912 من ترجمة معن بن زائدة وأخباره 912 الرأى والشجاعة 913 قضاء الله وعدله 913 بنو كليب 913 من جيد كلام الأعراب 916 جمل من ألوان المديح 917 ألفاظ لأهل العصر فى ضروب الممادح 920 أدعية فى صدور الكتب 921 لابن المعتز فى القاسم بن عبيد الله 921 منزلة صناعة الكلام 923 بعض ما قيل فى النسيب 923 لأبى كبير الهذلى 924 عمران بن حطان والحجاج 925 من ترجمة عمران بن حطان 926 بين أعرابى وبعض الولاة - الدنيا وأهلها - أربع كلمات طيبات 927 بين معاوية وعمرو بن سعيد - من تواضع الرشيد 928 للمتنبى فى حمى أصابته بمصر ألفاظ لأهل العصر فى العيادة ص الموضوع 929 فقر فى تهوين العلة - جمل فى شكاة أهل الفضل 930 جمل فى تنسم الإقبال وذكر الإبلال 932 فقر فى أدعية العيادة - من كلام الأطباء والفلاسفة 933 فقر فى ذكر المرض والصحة 935 من الأجوبة المفحمة - رثاء قدح انكسر 938 لكشاجم فى رثاء منديل - وله يصّف سقوط الثلج 939 للصنوبرى 940 لأبى الفتح البستى - لأبى الفضل الميكالى 940 لأهل العصر فى وصف الثلج والبرد 941 لهم فى وصف القيظ والحر 942 العجلة أم الندامة - تأميل ورجاء 942 من حسن التقسيم 945 بين قينة وأربعة من عشاقها 947 بين ابن المعتز وقينة 948 بين ابن المعتز وبعض الوزراء - من شعر ابن المعتز 950 جرير فى المدينة يغرى بشعر قيس ابن الخطيم - يعقوب بن داود 952 بين أحمد بن أبى دواد والواثق 953 من خطباء العرب شبيب بن شبة

ص الموضوع 954 ومنهم خالد بن صفوان - سحبان وائل 955 عجلان بن سحبان - دغفل بن حنظلة النسابة 956 عزة الخليل بن أحمد 957 من رسائل الصابى 959 من رسائل بديع الزمان 961 المقامة الأذربيجانية للبديع 963 مختار من الشعر فى أيام الشباب والمشيب 968 شذور لأهل العصر فى وصف الشيب 970 فقر لغير واحد فى المشيب 972 بعض ما قالوه فى الخضاب 974 الوليد بن يزيد بن عبد الملك 975 بين الحجاج وأهل العراق 976 جامع المحاربى - أيوب بن القرية 977 كثير بن أبى كثير والحجاج - مختار مما قالوه فى المديح 978 الشراب وخطره 979 من اعتلال الطفيليين وحيلهم 981 وصف طائر - أحظى النساء عند المهدى 982 وصف غلام 983 بين خالد بن صفوان وعلى بن الجهم 984 كرة الحدثان - مختار مما قالوه فى الرثاء 985 من أخبار حارثة بن بدر الغدانى 987 وصف امرأة - من كلام الأعراب 988 المقامة الأزاذية لبديع الزمان ص الموضوع 989 من رسائل البديع 991 عفو عن ذى جريرة 992 لأهل العصر فى التهنئة بالإطلاق - لأبى نواس فى مدح الأمين 994 بين الأخطل ومعاوية 995 بين السفاح وأبى نخيلة 996 من شعر الخنساء 997 مما يستخسن من رثاء الخنساء 998 ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير 999 موازنة بين الخنساء وليلى 1000 لابن الرومى - للخنساء 1001 عمرو بن الشريد وأبناه صخر ومعاوية - من رثاء ليلى الأخيلية لتوبة 1002 وفود ليلى على معاوية 1004 وفودها على مروان بن الحكم 1005 وفودها على الحجاج الثقفى 1009 العباس بن مرداس السلمى 1010 عود إلى رثاء شواعر العرب 1012 عبرات المحبين 1014 من أخبار العباس بن الأحنف 1015 موازنة بين العتابى والعباس الأحنف 1019 العين والقلب - من مأثور الحكم 1020 الهوى 1023 من رسائل أبى الفضل الميكالى 1025 من شعر الميكالى 1026 الارتياح لقضاء حوائج الناس 1027 بين عمبلة الفزارى وأسيد بن

ص الموضوع 1028 من غرر المدائح - صروف الدهر 1029 من لا يوفى النعم حقها - عود إلى غرر المدائح 1030 فعلات الأجواد 1032 من نوادر الرثاء - رثاء قرد - رثاء ثور 1035 عود إلى المختار من الرثاء 1039 من كلام الأعراب 1040 المقامة البصرية لبديع الزمان 1042 من رسائل بديع الزمان 1043 عود إلى غرر المديح 1046 تكاليف المجد لابن المعتز - احتمال الغضب 1047 نبذة من لطائف ابن المعتز 1049 كتمان الحب 1052 معالى الأخلاق - رياضة النفس على الفراق 1054 من كلام أهل العصر فى مكارم الأخلاق 1056 من رسائل العتابى وأديه 1059 خصومة قرشية 1060 دعاء - عزل وال 1061 حرمة الكعبة - من حكم الفرس 1062 من حكم الهند 1063 وصية عتبة بن أبى سفيان لبعض ولاته - يزيد بن معاوية ص الموضوع 1064 فضل العمامة - من رسائل ابن العميد 1066 هرب من الوباء - قتيل الهوى 1067 ابن عباس حبر قريش - مسلم بن الوليد صريع الغوانى 1069 من شعر أبى نواس - وصف جيش للمتنبى 1070 شعب بوان 1071 عود إلى وصف الجيش 1072 وصف سفينة - مما قيل فى وصف الأساطيل 1075 من لطائف التودد 1076 لأهل العصر فى الإهداء فى المهرجان - وفى التهنئة بالنيروز وفصل الربيع 1077 الصفات التى تلزم فى رجل الشرطة 1078 من كلام الأعراب 1079 مع الولاة والخلفاء - شذرات فى مساوىء الأخلاق 1080 من المفاخرات 1081 من وصايا الحكماء 1082 من المديح 1084 الاستطراد، وأمثلة منه 1086 سبق المتقدمين إلى الاستطراد 1088 شاعر باهلى فى حضرة الرشيد 1089 كاتب الحجاج عند سليمان بن عبد المطلب 1090 من أدب إبراهيم بن العباس الموصلى 1092 رثاء مصلوب

ص الموضوع 1093 كلام لا يحتمل الجواب، تعجيل الإحسان 1094 فضل الإيجاز 1095 أبو مسلم الخراسانى 1096 حساب، من كلام الأحنف بن قيس 1097 مما كتبه ابن الزيات - لأهل العصر فى التهنئة بالحج 1098 من شعر قطرى بن الفجاءة 1099 من جيد المديح 1100 بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد 1101 منزلة سعيد بن حميد الأدبية 1102 نماذج من السرقات الشعرية 1106 الاقتباس من القرآن الكريم - أمثال للعرب والعجم وما يقابلها من القرآن الكريم 1108 جملة من مكاتبات بعض أهل العصر 1111 المقامة القزوينية لبديع الزمان 1113 عاقبة السؤال بلفظ حسن 1114 أربعة أبيات، أبو الأسود وامرأته 1115 عظات ووصايا 1116 وصف هشام بن عبد الملك بصفته - حاتم الطائى يتحمل ديات، وصف ثقيل 1117 طيلسان ابن حرب 1119 من رسائل ابن العميد 1121 لأبى الطيب فى ابنى عضد الدولة - للاسكافى فى استبطاء وتهنئة 1122 لأهل العصر فى ضروب للتهانى 1124 فى ذكر المولود العلوى 1125 فى التهنئة بالإملاك والنفاس - فى التهنئة بالولاية والأعمال ص الموضوع 1127 فى التهنئة بذكر الخلع والأجبية 1128 فى التهنئة بالقدوم من سفر 1129 من أحسن الشعر - ما قيل من الشعر على قبر عمرو بن حممة الدوسى 1131 بلاغة الأعراب 1132 ذل السؤال، المقامة الأهوازية (المكفوفية) 1134 من شعر كشاجم 1135 الرجوع للرئيس بعد تجربة غيره 1137 من اسمه على من الخلفاء 1138 فى بيعة يزيد بن معاوية 1139 فى الإقدام حياة - من أخبار أبى دلف وشعره 1141 من رسائل الميكالى 1142 للخريمى يعاتب الوليد بن أبان 1143 من ترجمة أبى يعقوب الخريمى 1145 فقر وفصول فى معان شتى 1147 دعاء، من رسائل البلغاء 1149 رثاء يزيد بن مزيد الشيبانى 1150 من رسائل بديع الزمان 1154 المقامة السجستانية للبديع 1157 جارية ذات أدب وجمال تبذأ بناء الخلفا 1159 نهشل بن حرى، ومختار من شعره 1160 أثر الشعر 1161 أنصف بيت، وأصدق بيت 1162 ألفاظ لأهل العصر فى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم 1163 خاتمة مؤلف الكتاب

§1/1