زبدة الحلب في تاريخ حلب

ابن العديم

القسم الأول حلب قبل الإسلام

القسم الأول حلب قبل الإسلام اسمها زمن إبراهيم الخليل اسم حلب عربي لا شك فيه. وكان لقباً لتل قلعتها. وإنما عرف بذلك لأن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، كان إذا اشتمل من الأرض المقدسة، ينتهي إلى هذا التل فيضع به أثقاله، ويبث رعاءه إلى نهر الفرات وإلى الجبل الأسود. وكان مقامه بهذا التل يحبس به بعض الرعاء، ومعهم الأغنام، والمعز، والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا بمقدمه أتوه من كل وجه، من بلاد الشمال. فيجتمعون مع من اتبعه من الأرض المقدسة، لينالوا من بره، فكان يأمر الرعاء بحلب ما معهم طرفي النهار. ويأمر ولده وعبيده باتخاذ الطعام فإذا فرغ له من ذلك أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التل، فيتنادى الضعفاء: " إن إبراهيم حلب "، فيتبادرون إليه. فنقلت هذه اللفظة كما نقل غيرها، فصارت اسماً لتل القلعة. ولم يكن في ذلك الوقت مدينة مبنية. قيل: إن " بيت لاها " كان يقيم به أيضاً إبراهيم صلى الله عليه ورعاؤه يختلف إليه. وكان يفعل فيه أيضاً، كما يفعل في تل القلعة. لكن الاسم غلب على تل القلعة دون غيره. وقيل: إن إبراهيم صفى الله عليه لما قطع الفرات من حران أقام ينتظر ابن أخيه " لوطا "، في كثير ممن يتبعه في سنة شديدة المحل. وكان الكنعانيون يأتون

عند اليونانيين

إبراهيم عليه السلام بأبنائهم فيهبونهم منه، ويتصدق عليهم بأقواتهم من الطعام، والغنم. وصار إبراهيم عليه السلام إلى أرض حلب فاتخذ الركايا، وكرا الأعين، ومنها: عين إبراهيم عليه السلام وهي التي بنيت عليها مدينة حلب. وكان للكنعانيين بتل القلعة في رأسه بيت للصنم، فصار إليه إبراهيم عليه السلام فأخرج الصنم، وقال لمن حضره من الكنعانيين: أدعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم هذه الشدة. فقالوا: وهل هو إلا حجر. فقال لهم: فإن أنا كشفت عنكم هذه الشدة، ما يكون جزائي. قالوا له: نعبدك فقال لهم: بل تعبدون الذي أعبده فقالوا: فجمعهم في رأس التل، ودعا الله، فجاء الغيث. وضرب إبراهيم عليه السلام برأس ظله حين أقلع الغيث. وتوافت إليه رعاؤه، فكان يأمر أصحابه بإصلاح الطعام، ويضعه بين أوعية اللبن، ويأمر بعضهم فينادي: " ألا إن إبراهيم قد حلب فهلموا "، فيأتون من كل وجه، فيطعمون، ويشربون، ويحملون ما بقي إلى بيوتهم. فكان الكنعانيون يخبرون عن مقام إبراهيم بما كان يفعله. وصار قولهم " حلب " بطول هذا الاستعمال لقباً لهذا التل، فلما عمرت المدينة تحته سميت باسمه. وذكر بعضهم: أنها إنما سميت " حلب " باسم من بناها، وهو: حلب بن المهر ابن حيص بن عمليق من العمالقة. وكانوا إخوة ثلاثة: بردعه، وحمص، وحلب، أولاد المهر. فكل منهم بنى مدينة سميت باسمه. عند اليونانيين وكان اسم حلب باليونانية " باروا " وقيل بيرؤا. وذكر ارسطاطاليس في كتاب الكيان: أنه لما خرج الاسكندر لقصد دارا الملك، ومقاتلته، كان ارسطاطاليس في صحبته، فوصل إلى حلب وهي تعرف بلسان اليونانية " بيرؤا " فلما تحقق ارسطوطاليس حال تربتها، وصحة هوائها، استأذن الإسكندر في المقام بها، وقال له: إن بي مرضاً باطناً، وهواء هذه البلدة موافق لشفائي. فأقام بها فزال مرضه. بناؤها في قديم الزمان وقيل: إن الذي بنى مدينة حلب أولاً ملك من ملوك الموصل يقال له:

بلوكوس الموصلي. ويسميه اليونانيون: " سردينبلوس ". وكان أول ملكه في سنة ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسع وثمانين سنة لآدم صلوات الله عليه. وملك خمساً وأربعين سنة. وفي سنة تسع وعشرين من ملكه وهي سنة أربعة آلاف وثماني عشرة سنة لآدم، ملكت ابنته " أطوسا "، المسماة " سميرم " مع أبيها بلوكوس. وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب القانون المسعودي، وقال: بنيت حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى، وكان ملكه لمضي ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتين وستين سنة لآدم عليه السلام ومدة مقامه في الملك ثلاثون سنة. وشاهدت على ظهر كتاب عتيق من كتب الحلبيين بخط بعضهم: رأيت في القنطرة التي على باب أنطاكية، من مدينة حلب، في سنة عشرين وأربعمائة للهجرة كتابة باليونانية، فسألت عنها، فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الحراني أيده الله، أن أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له: أن أباه حدثه: أنه حضر مع أبي الصقر القبيصي، ومعهما رجل يقرأ باليونانية، فنسخوا هذه الكتابة وأنفذ إلي نسختها في رقعة وهي: " بنيت هذه المدينة، بناها صاحب الموصل، والطالع العقرب والمشتري فيه، وعطارد يليه، ولله الحمد كثيرا ". وهذا يدل على ما ذكرناه، وهو أن بلوكوس الموصلي هو الذي عمرها. وكان قبل الاسكندر. وذكر يحيى بن جرير التكريتي في كتاب له ضمنه أوقات بناء المدن، ما يدل على أن حلب بعد بناء بلوكوس خربت، وجدد عمارتها غيره، بعد موت الاسكندر فإنه قال بعد ذكر دولة الاسكندر وموته باثنتي عشرة سنة بنى سلوقوس اللاذقية، وسلوقية وأفامية، وبارؤا وهي حلب، واداسا وهي الرها، وكمل بناء أنطاكية وزخرفها وسماها على اسم ولده انطيوخوس وهي أنطاكية وكان شرع في بنائها قبله أنطيغنوس في السنة السادسة من موت الاسكندر. وذكر أنه بناها على نهر أورنطس وسماها: انطوغينا. وقال: كان الملك الأول على سوريا، وبابل، " سلوقوس نيقطور " وهو

حكامها من اليونان

سرياني، وملك في السنة الثالثة عشرة لبطلميوس بن لاغوس، بعد موت الاسكندر، وألزم اليهود أن يقيموا في المدن التي بناها وقرر عليهم الجزية. وسوريا هي الشام الأولى وهي: حلب وما حولها من البلاد على ما ذكره بعض الرواة وفي طرف بلد حلب، بناحية الأحص، مدينة عظيمة داثرة، وبها آثار قديمة، يقال لها سورية وإليها ينسب القلى السورياني، فلعل الناحية كلها ينسب إليها، ويطلق عليها اسمها، كما أطلق بعد ذلك على جميع الكورة اسم قنسرين. وقال بعض المؤرخين من المسيحية: الذي ملك بعد الاسكندر بطلميوس الأريب وهو الذي بنى مدينة حلب، وسماها " أشمونيت ". وذلك أنه اختار بناء المدينة في موضع، وأراد أن يكون بها الماء، فخرج ودار حولها، حتى رأى الأعين التي " بحيلان "، فأمر المهندس أن يبني عليهن بناء، ويحكمه، وأن يجريهن إلى المكان الذي هو مرسوم بمنزلة الملك. وجمع الناس للعمل في عمارة المدينة، فاحتفر في وسط المدينة حفيرة بثقها إلى النهر الذي أجراه، وأمر بالقساطل أن تعمل فاختفت، فاتخذت من الحجارة، فتم ما أراد وبنى له بناء في موضع الريحانيين يومنا هذا، واتخذ عليه قصراً، وبنى المدينة. وآخر ما بناه " باب أنطاكية " ورتب فيها ابنته " أشمونيت "، وسمى المدينة باسمها وأضاف لها جنداً وزوجها " بإيلياوس "، أحد أبناء ملوكهم، وكان قائد جيش الأريب، وصار إلى أنطاكية، وليست من بناء اليونان فإن رسمها قديم، فتمم بناءها، وأضافها إلى إيلياوس زوج أشمونيت. حكامها من اليونان وملك الأريب تسعاً وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس، ولفب

قنسرين

باليونانية: " محب أخيه "، وكانت أخته أشمونيت نائبة عنه، فبقي في الملك ستاً وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس الاورجاتس ولقب باليونانية بالفاعل فبقي في الملك أربعاً وعشرين سنة. وملك بعده بطلميوس فليفاطر ولقب باليونانية محب أبيه، وأشمونيت وزوجها وولدها يتولون حلب. وملك بعده " بطلميوس محب أمه " وهو ابن أشمونيت وكان ينزل حلب، وعمر على صخرتها قلعة، وحضنها، فخرج عليه في آخر أيامه " أنطياخوس " ملك الروم، واستنجد عليه فلم يكن لمحب أمه به طاقه، فخرج عنها مع أمه، فأسرهما أنطياخوس، وعذبهما، واستصفى أموالهما، وشرع في هدم ما جددت أشمونيت من بناء حلب. فقيل له إن الذي يفعله ليس من عادة الملوك، فكف عن هدمها، وتوعد من يسكن بحلب، فصار الناس إلى غيرها. وعاد إلى أنطاكية فاستحدث بها أبنية لنفسه. فلذلك يزعم قوم أن أنطاكية من بنائه، وليس الأمر كذلك، وإنما له فيها مثل ما لبطلميوس الأريب من التتميم. ويقال: إن أشمونيت وهي حلب تجاوزت عمارتها ما رسمه الأريب، حتى صارت العمارة إلى جميع الجوانب. وقيل: إن أشمونيت نصبت حواليها مائة آلف نصبة من الزيتون، ومن التين مائة آلف نصبة وغير ذلك من الأشجار الجبلية الشامية. ولم يبق بحلب موضع يتسب إلى أشمونيت غير العين المعروفة بأشمونيت. وماتت أشمونيت وولدها في أسر أنطياخوس تحت العقاب. وقيل هو الذي بنى قنسرين، وأجرى الماء إليها في قناة من عين المباركة. وقيل: بناها غيره. وعرف أنطياخوس ببطلميوس الرابع. وقيل: إن أشمونيت حال محاربتها أنطياخوس أتتها نجدة من مصر، فهزمته فصار إلى الشرق فمات. ثم ملك حلب بعد أشمونيت أبطلميوس ابيفانيس " وهو قائد العسكر، وفي زمانه اشترت اليهود منه موضع القلعة المعروفة اليوم بقلعة الشريف فتحصنوا بها، وكانوا يعينون الملك في القتال ويحملون له الأموال. ثم ملك بعده بطلميوس فيلوبطر، وهلك انطياخوس في أيامه.

من الرومان

من الرومان ثم ملك بعده جماعة من ملوك اليونان، إلى أن صار الملك إلى القياصرة ملوك الروم فملك منهم عدة ملوك إلى أن ملك أوغسطس قيصر بن مويوخس، فاستولى على الدنيا، وقهر الملوك، وقصد مضر ليستولي عليها، فلما بلغ حلب وكان أمره قد عظم، قال: إن بطلميوس الأريب لم يرض أن ينزل منزلاً لغيره. فسار إلى موضع مدينة قنسرين فأمر القواد أن يأمروا من قبلهم بتحويط منازلهم، وأخذ كل واحد ببناء ما حوطه، فبنى قنسرين وسماهما " مدينة العسكر ". ونقل الأسواق من حلب إليها، ولم يبق بحلب إلا من لا حاجة للعسكر به. وكانت هذه أعظم من فعل انطياخوس. وقيل: إنه أمر أن ينفق على القناة إليها فأنفق نائبه مالاً على القناة، وأجرى الماء فيها من عين المباركة، وساقها إلى القناطر إلى قنسرين، وبنى بها ثلاثة برك على شكل المثلث، وفايضها ينحدر إلى الأرضين التي تحتها. وصار الملك بعده إلى جماعة من القياصرة ملوك الروم. وصارت أنطاكية دار الملك، وبها مقام ملوك الروم، وكانوا يدعونها مدينة الله، ومدينة الملك، وأم المدن، لأنها أول بلد ظهر فيه دين النصرانية. ومعظم سور مدينة حلب من بناء الروم. وملك منهم ملك يقال له: فوقاس فسفك الدماء، وتتبع حاشية كسرى، فقتلهم، فتوجه كسرى أنوشروان إلى الشام فافتتح حلب، وأنطاكية، ومنبج، ورم ما استهدم من سور مدينة حلب بالقرميد الكبار، وهو ظاهر في سور المدينة الكبير، فيما بين بابي اليهود والجنان. وجدد كسرى بناء منبج وسماها منبه، وهو بالفارسية: أنا أجود، فعربت فقيل منبج. واستحسن أنطاكية فلما عاد إلى العراق بنى مدينة على صورتها، وسماها ردحسره، وهي التي تسمى رومية، وأدخل إليها سبي أنطاكية. فقيل إنهم لم ينكروا من منازلهم شيئاً فانطلقوا إليها إلا رجل اسكاف، كان على باب داره بأنطاكية شجرة فرصاد، فلم يرها على بابه ذلك، فتحير ساعة،؟ ثم دخل الدار، فوجدها مثل داره. ولما عاد كسرى عن الشام، قام هرقل بن فوق بن مروقس وجمع بطارقة

الروم، وأولي المراتب، وذكر لهم سوء آثار فوقاس ملك الروم " وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره، وإقدامه على الدماء، ودعاهم إلى قتله فقتلوه، ووقع اختيارهم على هرقل فملكوه. وفي أول سنة من ملكه كانت هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، واستولى على حلب، وعلى جميع البلاد، التي استولى عليها أنو شروان وكان جل مقامه بأنطاكية.

القسم الثاني حلب في صدر الإسلام

القسم الثاني حلب في صدر الإسلام قنسرين فلما افتتح المسلمون أجناد الشمام، وكانت وقعة اليرموك، وقتل المسلمون فيها معظم الروم، وأمير المسلمين عليهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه انتقل هرقل من أنطاكية، وعبر الفرات إلى الرها، وجعل بقنسرين ميناس الملك، وكان أكبر ملوك الروم بعد هرقل. فسار أبو عبيدة بعد فراغه من اليرموك إلى حمص ففتحها، ثم بعث خالد بن الوليد على مقدمته إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف لهم الروم، وثار أهل الحاضر بخالد بن الوليد، وعليهم " ميناس " وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل فالتقوا بالحاضرة فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم يقتلوا مثلهما. ومات الروم على دمه حتى لم يبق منهم أحد. وأما أهل الحاضر فكانوا من تنوخ، منذ أول ما تنخوا بالشام، ونزلوه وهم

حلب

في بيوت الشعر، ثم ابتنوا المنازل، فأرسلوا إلى خالد: أنهم عرب، وأنهم لم يكن من رأيهم حربه، فقتل منهم، وترك الباقين. فدعاهم أبو عييدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على النصرانية، فصالحهم على الجزية. وكان أكثر من أقام على النصرانية بنو سليح بن حلوان بن عمران ين الحاف بن قضاعة. ويقال: إن جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة المهدي، فكتب على أيديهم بالخضرة: قنسرين. ثم إن خالداً سار فنزل على قنسرين، فقاتله أهل قنسرين، ثم لجؤوا إلى حصنهم، فتحصنوا فيه، فقال: " إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله عليكم أو لأنزلكم إلينا " ثم إنهم نظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص فطلبوا منه الصلح، فصالحوه على حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها. وكان صلح حمص على دينار وطعام على كل جريب أيسروا أو أعسروا. وغلب المسلمون على جميع أرضها وقراها، وذلك في سنة ست عشرة للهجرة. حلب ثم إن خالداً رضي الله عنه سار إلى حلب، فتحصن منه أهل حلب. وجاء أبو عبيدة رضي الله عنه حتى نزل عليهم، فطلبوا إلى المسلمين الصلح والأمان، فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم، وكتب لهم أماناً. ودخل المسلمون حلب من " باب أنطاكية وحفوا حولهم بالتراس داخل الباب، فبني ذلك المكان مسجداً، وهو المسجد المعروف بالغضائري، داخل باب أنطاكية، ويعرف الآن بمسجد شعيب. ولما توجه أبو عبيدة إلى حلب بلغه أن أهل قتسرين قد نقضوا فرد إليهم السمط بن الأسود الكندي، فحصرهم ثم فتحها، فوجد فيها بقراً وغنماً، فقسم بعضها فيمن حضر، وجعل الباقي في المغنم.

خالد بن الوليد

وكان حاضر قنسرين قديماً نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزل الجبلين من تزل منهم، فلما ورد أبو عبيدة عليهم أسلم بعضهم، وصولح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلامن شذ منهم. وكان بقرب مدينة حلب حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية، ثم إنهم أسلموا بعد ذلك، وجرت بينهم وبين أهل حلب حرب أجلاهم فيها أهل حلب، فانتقلوا إلى قنسرين. وكانت قتسرين وحلب إذ ذاك مضافتين إلى حمص فأفردهما يزيد بن معاوية في أيامه. وقيل: أفردهما معاوية أبوه. خالد بن الوليد ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فعل خالد في فتح قنسرين وحلب، قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني. يعني أن خالداً كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر رضي الله عنه على الشام، فلما ولي عمر عزله وولى أبا عبيدة. ثم ولاه عمر رضي الله عنه على قنسرين فأدرب خالد وعياض بن غنم أول مدربة كانت في الإسلام، سنة ست عشرة. إمارة خالد ورجع خالد، فأتته الامارة من عمر رضي الله عنه على قنسرين، فأقام خالد أمير، تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحرة وخرج على أبي عبيدة في عساكر الروم، وأبو عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح حلب. فاستمد أبو عبيدة خالداً فأمده بمن معه، ولم يخلف أحداً، فكفر أهل قنسرين بعده، وبايعوا هرقل وكان أكفر من هناك تنوخ. واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر رضي الله عنه بذلك. وأشار خالد بالمناجزة فخالفوه، وخندقوا. وكتبوا إلى عمر رضي الله عنه واستصرخوه.

عمر وخالد بن الوليد

وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين، وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفاً، سوى أمداد قنسرين، من تنوخ وغيرهم، فنالوا من المسلمين كل منال. وكتب عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبث المسلمين في الجزيرة، ليشغلهم عن أهل حمص. وأمده عمر رضي الله عنه بالقعقاع ابن عمرو، فتوغلوا في الجزيرة، فبلغ الروم، فتقوضوا عن حمص إلى مدائنهم. وندم أهل قنسرين وراسلوا خالداً، فأرسل إليهم: " لو أن الأمر إلي ما باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكني في سلطان غيري، فإن كنتم صادقين، فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة ". فساموا سائر تنوخ ذلك، فأجابوا، وأرسلوا إلى خالد: " إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم ". فقال: " بل أقيموا، فإذا خرجنا، فانهزموا بهم ". فما علم أبو عبيدة، والمسلمون بذلك قالوا: " اخرج بنا " وخالد ساكت، فقال أبو عبيدة: " مالك يا خالد، لا تتكلم " فقال: " قد عرفت الذي عليه رأي، فلم تسمع من كلامي ". قال: لا فتكلم فإني أسمع منك، وأطيع. فأشار بلقائهم. فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين، والروم معهم. فاحتوى المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحد. وما زال خالد على إمارة قنسرين حتى أعرب خالد وعياض، سنة سبع عشرة، بعد رجوعهما من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، فأصابا أموالاً عظيمة. وقفل خالد سالماً، غانماً، وبلغ الناس ما أصابوا تلك الصائفة، وقسم خالد فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق، وكان الأشعث بن قيس من انتجع خالداً بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهم. عمر وخالد بن الوليد وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه من العراف بخروج من خرج منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها. فدعا البريد، وكتب معه إلى أبي عبيدة: أن

يقيم خالداً، ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته. حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله، أم من إصابة أصابها. فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله، فقد أسرف. واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه، ثم جمع الناس، وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: " يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة "؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئاً. فقام بلال إليه فقال: " إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ". ثم تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعاً وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول، أمن مالك أم من إصابة ". قال: " لا بل من مالي " فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده. ثم قال: " نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونحترم موالينا ". وأقام خالد متحيراً، لا يدري أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيماً ولا يخبره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظن الذي قد كان. فكتب إليه بالوصول. فأتى خالد أبا عبيدة فقال: " رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت، كتمتني سراً كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم لما. فقال أبو عبيدة: " إني والله ما كنت لأروعك ما وجدت من ذلك بداً، وقد علمت أن ذلك يروعك ". قال: فرجع خالد إلى قنسرين، فخطب أهل عمله، وودعهم. وقال خالد: " إن عمر ولاني الشام حتى إذا ألقى بوانيه وصار بثنية وعسلاً عزلني، واستعمل غيري ". وتحمل وأقبل إلى حمص فخطبهم، وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر فشكاه، وقال: " لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر ". فقال عمر: " من أين هذا الثراء. فقال: " من الأنفال والسهمان ". فقال: " ما زاد على الستين ألفاً فلك ". فشاطره على ما في يده وقوم عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد، والله إنك لعلي

ولاية حبيب بن مسلمة

الكريم، وإنك إلي الحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. ثم إنه عوضه بعد ذلك عما أخذه منه. ولاية حبيب بن مسلمة واستعمل أبو عبيدة على قنسرين حبيب بن مسلمة بن مالك. وأما هرقل فإنه تأخر من الرها إلى سميساط، وفصل عنها إلى القسطنطينية، فلما فصل علا على شرف، والتفت، ونظر نحو سورية، وقال: " عليك السلام يا سورية سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله وأمر عاقبته على الروم ". وطعن أبو عبيدة رضي الله عنه سنة ثماني عشرة، فاستخلف على عمله عياض بن غنم، وهو ابن عمه وخاله، وكان جواداً مشهوراً بالجودة فقال عمر: " إني لم أكن مغيراً أمراً قضاه أبو عبيدة ". ومات عياض سنة عشرين، فأمر عمر رضي الله عنه على حمص وقنسرين سعيد بن عامر حذيم الجمحي ومات سنة عشرين. فأمر عمر مكانه عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري، على حمص وقنسرين. ومات عمر رضي الله عنه مقتولاً في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وعمير بن سعد على حمص وقنسرين، ومعاوية على دمشق والسواحل وأنطاكية. فمرض عمير في إمارة عثمان مرضاً طال به، فاستعفى عثمان، واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له.

موقعة صفين

وضم حمص وقنسرين إلى معاوية سنة ست وعشرين، فاجتمع ولاية الشام جميعه على معاوية لسنتين من خلافة عثمان، فولى معاوية حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري على قنسرين وكان يسمى حبيب الروم لكثرة غزوه لهم. ومات عثمان رضي الله عنه مقتولاً في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، والشام مع معاوية، وحبيب على قنسرين، من تحت يده. موقعة صفين فجرى بين علي عليه السلام وبين معاوية اختلاف إلى أن سار كل منهما إلى صاحبه، والتقيا بصفين، وذلك بعد سنة وشهر من خلافة علي، في سنة سبع وثلاثين. وكان علي في تسعين ألفاً ومعاوية في مائة ألف وعشرين ألفا، وقتل بها من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفاً، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً. وكان مقامهما بصفين مائة يوم وعشرة أيام. وكانت الوقائع تسعين وقعة، ثم اتفقا على التحكيم، والتقى الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص بأذرح في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين.

القسم الثالث حلب في العصر الأموي

القسم الثالث حلب في العصر الأموي خلافة معاوية بن أبي سفيان ومات علي كرم الله وجهه مقتولاً بالكوفة، في سنة أربعين، ومعاوية متغلب على الشام جميعه، فصالح الحسن بن علي عليهما السلام وبويع بالخلافة، في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، فمصر معاوية قنسرين، وأفردها عن حمص. وقيل إنما فعل ذلك ابنه يزيد. وصار الذكر في ولاية قنسرين، ووظف معاوية الخراج على قنسرين أربعمائة آلف وخمسين آلف دينار، وحلب للخلفاء من بني أمية لمقامهم بالشام، وكون الولاة في أيامهم بمنزلة الشرط، لا يستقلون بالأمور والحروب، وولاة الصوائف ترد كل عام مع الجيوش الإسلامية إلى دابق. وقام جماعة متهم بنواحي حلب، فإن سليمان بن عبد الملك رابط بدابق إلى أن مات. وأقام عمر بن عبد العزيز بخناصرة إلى أن مات.

خلافة يزيد بن معاوية

ولم يزل حبيب بن مسلمة مع معاوية في حروبه، وقد وجهه إلى أرمينية والياً، ومات بها سنة اثنتين وأربعين. واستعمل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على غزو الروم، ولشدة بأسه خافه معاوية، وخشي منه، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله. وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها، فمات بحمص سنة ست وأربعين. وقاد مالك بن عبد الله الخثعمي الصوائف أربعين سنة. وسير معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم، وجعل عليهم سفيان بن عوف، وأمر يزيد ابنه بالغزاة معهم، فتثاقل، واعتل، فأمسك عنه أبوه. فأصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض شديد، وذلك في سنة اثنتين وخمسين. وشتا بأرض الروم بعده عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وغزا المسلمون الصائفة في سنة أربع وخمسين كذلك، وفتحوا قرب القسطنطينية. خلافة يزيد بن معاوية فلما مات معاوية سنة ستين، وولي ابنه يزيد أمرهم بالعود منها فعادوا. ومات يزيد بن معاوية بحوارين من أرض الشام في سنة أربع

خلافة مروان بن الحكم

وستين. وبويع بعده معاوية ابنه بالخلافة في الشام ولكنه لم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك. خلافة مروان بن الحكم وبويع بعده مروان بن الحكم، وذلك في سنة أربع وستين. وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة، واقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك، قتله دحية بن عبد الله، وقتل معه ثمانون رجلاً من أشراف أهل الشام. وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين. ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا. واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها. ولما مات مروان سنة خمس وستين قام ابنه عبد الملك في اليوم الذي مات فيه. خلافة عبد الملك في مروان وأقام عبد الملك بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم، ثم سار يريد قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث الكلابي، ثم قفل إلى دمشق فدبر لعمرو بن سعيد فقتله. واستعمل عبد الملك أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية فغزا منها، وأثخن العدو، وذلك في سنة ثلاث وسبعين.

خلافة الوليد بن عبد الملك

وأعاد الكرة في سنة خمس وسبعين حين خرجت الروم من قبل مرعش. وبعد سنتين غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك، وظل على الولاية إلى أن مات عبد الملك في شوال سنة ست وثمانين. خلافة الوليد بن عبد الملك وولى ابنه الوليد بن عبد الملك ومحمد بن مروان على ولايته فما زال كذلك إلى أن عزله الوليد بن عبد الملك في سنة تسعين. وولى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك. فدخل مسلمة حران وكان محمد بن مروان يتعمم للخطبة، فأتاه آت فقال: هذا مسلمة على المنبر يخطب! فقال محمد: هكذا تكون الساعة بغتة! وارتعدت يده، فسقطت المرآة من يده، فقام ابنه إلى السيف فقال: مه يا بني، ولآني أخي وولاه أخوه. وكان أكثر مقام مسلمة بالناعورة، وبنى فيها قصراً بالحجر الأسود الصلد، وحصناً بقي منه برج إلى زماننا هذا. وكان عبد الملك بن مروان يقول للوليد: كأنني لو قدمت بك قد عزلت أخي وليت أخاك. ومات الوليد بن عبد الملك في سنة ست وتسعين. خلافة سليمان وولي سليمان بن عبد الملك فسير أخاه مسلمة غازياً إلى القسطنطينية واستخلف مسلمة على عمله خليفة، ورابط فيها سليمان بمرج دابق إلى أن مات به سنة تسع وتسعين.

خلافة عمر بن عبد العزيز

خلافة عمر بن عبد العزيز وولي عمر بن عبد العزيز بن مروان، فكان أكثر مقامه بخناصرة الأحص. وولى من قبله على قنسرين هلال بن عبد الأعلى. ثم ولى أيضاً عليها الوليد بن هشام المعيطي على الجند، والفرات بن مسلم على خراجها، وتوفي عمر بدير سمعان من أرض معرة النعمان، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. خلافة يزيد بن عبد الملك وولي يزيد بن عبد الملك، والوليد على قنسرين، وكان مرائياً، سأل عمر أن ينقص رزقه تقرباً إليه، فعلم أنه إنما أراد أن يتزين عنده بذلك، فحط رزقه. وكتب إلى يزيد، وهو ولي عهده: " إن الوليد بن هشام كتب إلي كتاباً أكثر ظني أنه تزين بما ليس هو عليه فأنا أقسم عليك إن حدث وأفضى هذا الأمر إليك فسألك أن ترد رزقه، وذكر أني نقصته فلا يظفز منك بهذا. فلما استخلف يزيد كتب الوليد إليه: " إن عمر نقصني وظلمني فغضب يزيد، وعزله، وأغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر ويزيد كلها، فلم يل له عملاً حتى هلك. ومات يزيد بن عبد الملك بالبلقاء في شعبان سنة خمس ومائة. خلافة هشام فاستخلف هشام بن عبد الملك.

خلافة الوليد بن يزيد

وولى على قنسرين وعملها خال أخيه سليمان وهو الوليد بن القعقاع بن خليد العبسي وقيل: إنه ولى عبد الملك بن القعقاع على قنسرين، وإليهم ينسب حيار بني عبس، وإلى أبيهم ينسب القعقاعية قرية من بلد الفايا. وتوفي هشام سنة خمس وعشرين ومائة. خلافة الوليد بن يزيد وولي الوليد بن يزيد عبد الملك، وكانت بينه وبين بني القعقاع وحشة، فهرب الوليد بن القعقاع وغيره من بني أبيه من الوليد، فعاذت بقبر يزيد بن عبد الملك. فولى الوليد على قنسرين يزيد بن عمر بن هبيرة، وبعث إلى الوليد بن القعقاع، فأخذه من جوار قبر أبيه، ودفعه إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، وهو على قنسرين، فعذبه وأهله. فمات الوليد بن القعقاع في العذاب. خلافة يزيد بن الوليد وخرج يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد، فقتله في البخراء في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. ووثب على عامله بدمشق فأخذه، وسير أخاه مسرور بن الوليد، وولاها قنسرين، وقيل بل ولي قنسرين أخوه بشر بن الوليد، وبويع يزيد، ومات في ذي الحجة من هذه السنة. خلافة إبراهيم بن الوليد ومروان بن محمد وبويع إبراهيم بن الوليد، وخلع في شهر ربيع الأول، سنة سبع وعشرين ومائة.

فولي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان بحران، فسار منها في سنة سبع وعشرين ومائة. ونزل بحلب، وقبض على مسرور بن الوليد الوالي بحلب، وعلى أخيه بشر، بعد أن لقيهما فهزمهما وقتلهما بحلب. وكان معهما إبراهيم بن عبد الحميد بن عبد الرحمن، فقتله أيضاً. وولى على حلب وقنسرين عبد الملك بن الكوثر الغنوي، بعد أن خلع إبراهيم ابن الوليد نفسه وأمنه مروان. واستتب أمر مروان. وخرج على مروان سليمان بن هشام بن عبد الملك فالتقاه مروان بن محمد بخساف فاستباح عسكره في سنة ثمان وعشرين ومائة. وكان الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد حبسا بقلعة قنسرين، وكان يزيد بن الوليد حبسهما، فنهض عبد العزيز بن الحجاج ويزيد بن خالد القسري، فقتلاهما وقتلا معهما يوسف بن عمر الثقفي بقنسرين، وأخذا بعد ذلك فقتلهما مروان وصلبهما.

القسم الرابع حلب في العصر العباسي

القسم الرابع حلب في العصر العباسي خلافة أبي العباس وبويع أبو العباس السفاح، في شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بالكوفة. فسير عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، في جمع عظيم، للقاء مروان بن محمد، وكان مروان في جيوش كثيفة، فالتقيا بالزاب من أرض الموصل، في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين ومائة. فهزم مروان واستولى على عسكره، وسار مروان منهزماً حتى عبر الفرات من جسر منبج فأحرقه. فلما مر على قنسرين وثبت به طيء وتنوخ، واقتطعوا مؤخر عسكره ونهبوه، وقد كان تعصب عليهم، وجفاهم أيام دولته، وقتل منهم جماعة. وتبعه عبد الله بن علي، وسار خلفه، حتى أتى منبج، فنزلها. وبعث إليه أهل حلب بالبيعة مع أبي أمية التغلبي. وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن علي، فقلده حلب وقنسرين. وسار عبد الله وعبد الصمد أخوه معه إليها، فبايعه أبو الورد مجزاة، بن الكوثر بن زفر الحارث الكلابي وكان من أصحاب مروان ودخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة. وسار عبد الله إلى دمشق، ثم بلغ خلفه إلى نهر أبي فطرس، وأتبعه بأخيه

صالح، حتى بلغ إلى الديار المصرية، خلف مروان بن محمد، فأدركه ببوصير فقتله، ثم عاد إلى دمشق بعده. وذكر ابن الكلبي: وقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي، في مائة وخمسين فارساً وتقدم إلى الناعورة فعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم وكانوا مجاورين أبا الورد بحصن مسلمة بالناعورة وببالس فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد الكلابي، فخرج من مزرعته خساف في عدة من أهل بيته، وخالف وبيض، وجاء إلى الناعورة، والقائد المذكور نازل بحصن مسلمة بها، فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر الخلع والتبييض، ودعا أهل حلب وقتسرين إلى ذلك فأجابوه. فبلغ ذلك عبد الله بن علي، وهو بدمشق، فوجه أخاه عبد الصمد بن علي، في زهاء عشرة آلاف فارس، ومعه ذؤيب بن الأشعث على حرسه، والمخارق بن عفان على شرطه، فسار أبو الورد إليه، وجعل مقدم جيشه وصاحبه أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأبو الورد مدبر الجيش، ولقيهم فهزم عبد الصمد ومن معه. فلما قدم عبد الصمد على أخيه عبد الله أقبل عبد الله بن علي بعسكره لقتال أبي محمد وأبي الورد، ومعه حميد بن قحطبة، فالتقوا في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في آخر يوم من السنة، واقتتلوا بمرج الأجم، وثبت لهم عبد الله وحميد فهزموهم. وقتل أبو الورد. وأمن عبد الله بن علي أهل حلب وقتسرين وسودوا وبايعوا. ثم انصرف راجعاً إلى دمشق فأقام بها شهراً. فبلغه أن العباس بن محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوبة بن أبي سفيان السفياني قد لبس الحمرة، وخالف، وأظهر المعصية بحلب، فارتحل نحوه حتى

خلافة أبي جعفر المنصور

وصل إلى حمص، فبلغه أن أبا جعفر المنصور وكان يومئذ يلي الجزيره، وأرمينية، وأذربيجان وجه مقاتل بن حكيم العكي من الرقة، في خيل عظيمة لقتال السفياني، وأن العكي قد نزل منبج، فسار عبد الله مسرعاً حتى نزل مرج الأجم، فبلغه أن العكي واقع السفياني وهزمه، واستباح عسكره، وافتتح حلب عنوة، وجمع الغنائم، وسار بها إلى أبي جعفر وهو بحران. فارتحل عبد الله إلى دابق، وشتا بها، ثم نزل سميساط، وحصر فيها اسحاق ابن مسلم العقيلي، حتى سلمها ودخل في الطاعة. ثم قدم أبان بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، في أربعة آلاف من نخبة من كان مع إسحاق بن مسلم. فسير إليه حميد بن قحطبة، فهزم أباناً، ودخل سميساط، فسار إليها عبد الله، ونازلها حتى افتتحها عنوة. وكتب إليه أبو العباس يأمره بالمسير إلى الناعورة، وأن يترك القتال، ويرفع السيف عن الناس، وذلك في النصف من رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومائة. وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبية إلى تدمر ثم خرج إلى الحجاز، فظفر به وقتل، وكتب إليه السفاح أن يغزو بلاد الروم، فأتى دابق، فعسكر بها، وجمع، وتوجه إلى بلاد الروم. خلافة أبي جعفر المنصور فلما وصل دلوك يريد الإدراب، كتب إليه عامله بحلب يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور فرجع من دلوك، وأتى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح جعله ولي عهده. وغلب على حلب، وقنسرين، وديار ربيعة ومضر، وسائر الشام. ولم يبايع

المنصور. وبايعه حميد بن قحطبة وقواده الذين كانوا معه. وولى على حلب زفر بن عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي أبا عبد الله، في سنة سبع وثلاثين مائة. فسير المنصور أبا مسلم الخراساني صاحب الدعوة لقتال عبد الله بن علي، فسير عبد الله حميد بن قحطبة، وكتب له كتاباً إلى زفر بن عاصم إلى حلب، وفيه: " إذا ورد عليك حميد فاضرب عنقه ". فعلم حميد بذلك، فهرب إلى أبي مسلم الخراساني، خوفاً من عبد الله. ثم سار أبو مسلم إلى عبد الله بن علي، فالتقيا، وانهزم عبد الله وعبد الصمد أخوه معه، فسار أبو مسلم خلفه فوصل إلى الرقة وأخذ منها أموال عبد الله، وتبعه رصافة هشام فانهزم عبد الله إلى البصرة، وتوارى عند أخيه سليمان بن علي، فأخذ له أماناً من المنصور، وسيره إليه، فحبسه إلى أن سقط عليه الحبس، فمات. وقبض أبو مسلم على عبد الصمد بن علي، بالرصافة، وأخذ أمواله، وسيره إلى المنصور، فأمنه وأطلقه. وورد كتاب المنصور على أبي مسلم بولاية الشام جميعه، وحلب وقنسرين، وأمر أن يقيم له في بلاده نواباً، ففعل أبو مسلم ذلك. وسار إلى المنصور، فالتقاه في الطريق يقطين بن موسى، وقد بعثه المنصور إليه لإحصاء جميع ما وجدوا في عسكر عبد الله بن علي. فغضب أبو مسلم وقال: أنكون أمناء في الدماء وخونة في الأموال؟. ثم أقبل وهو مجمع على خلاف المنصور. فاستوحش المنصور منه، وقتله في سنة تسع وثلاثين ومائة. ولما عاد أبو مسلم من الشام ولي المنصور حلب وقنسرين وحمص صالح بن علي بن عبد الله بن العباس سنة سبع وثلاثين ومائة، فنزل حلب، وابتنى بها خارج المدينة قصراً بقرية يقال لها بطياس بالقرب من النيرب، وآثاره باقية إلى الآن. ومعظم أولاده ولدوا ببطياس. وقد ذكرها البختري وغيره في أشعارهم. وأغزى الصائفة مع ابنه الفضل في سنة تسع وثلاثين ومائة بأهل الشام، وهي أول صائفة غزيت في خلافة بني العباس. وكانت انقطعت الصوائف في أيام بني أمية قبل ذلك بسنين.

خلافة المهدي

وظهر في سنة إحدى وأربعين ومائة قوم يقال لهم الراوندية، خرجوا بحلب وحران. وكانوا يقولون قولاً عظيماً. وزعموا أنهم بمنزلة الملائكة. وصعدوا تلا بحلب، فيما قالوا ولبسوا ثياباً من حرير وطاروا منه فتكدوا وهلكوا. ودام صالح في ولاية حلب إلى أن مات في سنة اثنتين وخمسين ومائة. ورأيت فلوساً عتيقة، فتتبعت ما عليها مكتوب فإذا أحد الجانبين مكتوب عليه: ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة ست وأربعين ومائة. وعلى الجانب الآخر: " مما أمر به الأمير صالح بن علي أكرمه الله ". ولما مات صالح بن علي تولى حلب وقنسرين بعده ولده الفضل بن صالح، واختار له العقبة بحلب، فسكنها وأقام بحلب والياً مدة. ثم ولى المنصور بعد موسى بن سليمان الخراساني. ومات المنصور سنة ثمان وخمسين، وموسى على قنسرين وحلب. ورأيت فلوساً عتيقة فقرأت عليها: " ضرب هذا الفلس بقنسرين سنة سبع وخمسين ومائة ". وعلى الجانب الآخر: " مما أمر به الأمير موسى مولى أمير المومنين ". خلافة المهدي ولما ولي المهدي خرج عبد السلام بن هاشم الخارجي بالجزيرة، وكثر أتباعه فلقيه جماعة من قواد المهدي، فهزمهم، فبعث المهدي إليه جنوداً كثيرة، فهرب منهم إلى قنسرين، فلحقوه فقتلوه بها في سنة اثنتين وستين ومائة، وكان مقدم الجيش شبيباً. وعزم المهدي على الغزو فخرج حتى وافى حلب سنة ثلاث وستين ومائة، والتقاه العباس بن محمد إلى الجزيرة، وأقام له النزل في عمله، واجتاز معه على

خلافه هارون الرشيد

حصن مسلمة بالناعورة، فقال له العباس: " يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا مئة ". كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: " يا ابن عم، هذه ألفان لدينك وألفان لمعونتك، فإذا نفذت فلا تحتشمنا. فقال المهدي: " أحضروا من ههنا من ولد مسلمة ومواليه فأمر لهم بعشرين آلف دينار وأمر أن تجري عليهم الأرزاق. ثم قال: " يا أبا الفضل كافينا مسلمة وقضينا حقه! قال العباس: نعم، وزدت ونزل المهدي بقصر بطياس ظاهر حلب. وولي المهدي حين قدم قنسرين وحلب والجزيرة علي بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس حرباً وخراجاً وصلاة. ثم إن المهدي عرض العسكر بحلب وأغزى ابنه هارون بلاد الروم وسير محتسب حلب عبد الجبار فأحضر له جماعة من الزنادقة فقتلهم بحلب. وولي حلب والشام جميعه ابنه هارون. وأمر كاتبه يحيى بن خالد أن يتولى ذلك كله بتدبيره، وكانت توليته في سنة ثلاث وستين ومائة. ولما بويع الهادي أقر أخاه ويحي على حالهما. خلافه هارون الرشيد فلما أفضى الأمر إلى الرشيد ولي حلب وقنسرين عبد الملك بن صالح بن علي ابن عبد الله، فأقام بمنبج، وابتنى بها قصراً لنفسه وبستاناً إلى جانبه، ويعرف البستان يومنا هذا ببستان القصر، وكانت ولايته سنة خمس وسبعين، ثم صرفه لأمر عتب عليه فيه. ثم ولاها الرشيد موسى بن عيسى سنة ست وسبعين ومائة. ومر الرشيد على

عبد الملك بمنبج فأدخله منزله بها. فقال له الرشيد: " هذا منزتك. قال هو لك ولي بك. قال: فكيف هو؟ قال: دون منازل أهلي وفوق منازل الناس. قال: " فكيف طيب منبج؟ قال: " عذبة الماء، عذبة الهواء، قليلة الأدواء ". قال: فكيف ليله؟ قال: سحر كله وهاجت الفتنة بالشام بين النزارية واليمانية، فولى الرشيد موسى بن يحيى ابن خالد في هذه السنة الشام جميعه، فأقام به حتى أصلح بينهم. ثم ولاها الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك سنة ثمان وسبعين، وتوجه إليها سنة ثمانين، واستخلف عليها عيسى بن العكي. ثم إن الرشيد ولى حلب وقنسرين إسماعيل بن صالح بن علي لما عزله عن مصر سنة اثنتين وثمانين ومائة، وأقطعه ما كان له بحلب في سوقها وهي الحوانيت التي بين باب أنطاكية إلى رأس الدلبه وعزله وولاه دمشق. ثم ولى الرشيد بعده عبد الملك بن علي ثانية، فسعى به ابنه عبد الرحمن إلى الرشيد، وأوهمه أنه يطمع في الخلافة فاستشعر منه، وقبض عليه في سنة سبع وثمانين ومائة. وولى على حلب وقنسرين ابنه القاسم بن هارون، وأغزاه الروم ووهبه لله تعالى في سنة سبع وثمانين ومائة. ورابط القاسم بدابق هذه السنة والتي بعدها. وقيل: إن الرشيد لما غضب على عبد الملك بن صالح ولى أخاه عبد الله بن صالح ثم عزله سنة ثمان وثمانين وولى القاسم بن هارون ابنه. وقيل: إن أحمد بن إسحاق بن إسماعيل بن علي بن عبد الله ابن العباس ولي قنسرين للرشيد، وقد كان ولي له مصر، وعزله عنها سنة تسع وثمانين، فلا أتحقق ولايته في أي سنة كانت. وقد ذكر بعضهم: أن عبد الله بن صالح توفي ببغداد في أيام المنصور.

خلافة الأمين

وقال بعضهم: إنه توفي بسلمية في سنة ست وثمانين. فعلى هذا يكون الذي ولاه الرشيد ابن ابنه عبد الله بن صالح بن عبد الله بن صالح، والله أعلم. ثم إن الرشيد ولى حلب وقنسرين خزيمة بن خازم بن خزيمة، من قبل ابنه القاسم بن الرشيد، في سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولم يزل القاسم بن الرشيد في ولاية حلب وقنسرين حتى مات أبوه الرشيد في سنة ثلاث وتسعين ومائة في جمادى الآخرة فأقره أخوه الأمين عليها وجعل معه قمامة بن أبي زيد وولي خزيمة بن خازم الجزيرة. خلافة الأمين ثم إن محمداً الأمين عزل أخاه القاسم بن الرشيد عن حلب وقنسرين والعواصم وسائر الأعمال التي ولاه أبوه سنة أربع وتسعين ومائة، وولاها خزيمة ابن خازم في هذه السنة. ثم ولى الأمين حلب وقنسرين والجزيرة عبد الملك بن صالح بن علي، فخرج إليها، واجتمعت إليه العرب في سنة ست وتسعين ومائة. وهذه الولاية الثالثة لعبد الملك. وكان الأمين قد أخرجه من حبس أبيه حين مات سنة ثلاث وتسعين ومائة في ذي القعدة. واستمر عبد الملك في هذه الولاية إلى أن مات في سنة ست وتسعين ومائة بالرقة، ودفن في في دار من دور الإمارة. وكان يرى الأمين ما فعله به. فلما خلع الأمين حلف عبد الملك إن مات الأمين لا يعطي المأمون طاعة، فمات قبل الأمين فبقيت في نفس المأمون إلى أن خرج إلى الغزاة، ووجد قبر عبد الملك في دار الإمارة فأرسل إلى ابن عبد الملك: حول أباك من داري فنبشت عظامه وحول.

خلافة المأمون

ثم ولي خزيمة بن خزيمة حلب وقنسرين في سنة سبع وتسعين ومائة. وقيل إن الوليد بن طريف ولي حلب وقنسرين بعد عبد الملك بن صالح، وبعده ورقاء عبد عبد الملك ثم بعده يزيد بن مزيد، ثم استأمن إلى طاهر بن الحسين. خلافة المأمون فلما قتل الأمين وبويع المأمون ولي حلب والشام جميعه طاهر بن الحسين، وجعل إليه حرب نصر بن شبث فتحصن بكيسوم فقصده طاهر فلم يظفر به ولقيه، فكسر طاهر وعاد مفلولاً وذلك في سنة ثمان وتسعين ومائة. ثم أضاف إليه ولاية مصر وإفريقية في سنة أربعة ومائتين. ثم ولاه خراسان سنة ست. وولي ابنه عبد الله مصر والشام جميعه، وأمره بمحاربة نصر بن شبث في سنة ست ومائتين. وتوفي طاهر بخراسان سنة سبع ومائتين، فأضاف المأمون ولايته إلى ابنه عبد الله مع الشام. فسار عبد الله بن طاهر إلى الشام من الرقة واحتوى على الشام جميعه. وهدم سور معرة النعمان. وهدم معظم الحصون الصغار مثل حصن الكفر وحصن حناك وغير ذلك. ونزل بكيسوم وبها نصر بن شبث فحصره إلى أن ظفر

به، وخرج إليه بأمان. وخرب حصن كيسوم بعد وقائع كثيرة جرت بينه وبين نصر ابن شبث، وسار إلى مصر، وذلك كله في سنة تسع ومائتين. ولما فتح مصر فى سنة إحدى عشرة ومائتين كتب المأمون إليه: أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه فما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه وماتكره من شيء ... فاني لست أرضاه لك الله على ذاك ... لك الله لك الله ودامت ولاية عبد الله بن طاهر إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين، ووجهه المأمون إلى خراسان، وعزله عن الشام، وولى ابنه العباس بن المأمون حلب وقنسرين والعواصم والثغور، وأمر له بخمسمائة آلف دينار في سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم ولاها المأمون إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بن زريق وعزل ابن العباس في سنة أربع عشرة ومائتين. ثم إن المأمون عزل إسحاق بن إبراهيم في هذه السنة وولاه مصر وأعاد ابنه العباس إليها ثانية. ثم ولى المأمون حلب وقنسرين ورقة الطريفي وأظنه مع العباس وكانت لورقة حركة أيام الفتنة. فلما قدم المأمون حلب للغزاة ونزل بدابق، في سنة خمس عشرة ومائتين، لقيه عيسى بن علي بن صالح الهاشمي فقال له: يا أمير المؤمنين أيلينا أعداؤنا في أيام الفتنة وفي أيامك. فقال: " لا ولا كرامة. فصرف ورقة. وولي عيسى بن علي بن صالح نيابة عن ولده العباس فيما أرى، فوجد عنده

خلافة المعتصم

من الكفاية والضبط وحسن السيرة ما أراد فقدمه وكبر عنده وأحبه. وكان المأمون كلما غزا الصائفة لقيه عيسى بن علي بالرقة ولا يزال معه حتى يدخل الثغور ثم يرد عيسى إلى عمله. وولى المأمون في سنة خمس عشرة ومائتين قضاء حلب عبيد بن جناد بن أعين مولى بني كلاب، فامتنع من ذلك، فهدده على الامتناع فأجاب. ثم ولى المأمون عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح لما غزا الصائفة في سنة ثمان عشرة ومائتين العواصم. وفيها مات المأمون وإنما وليها عبيد الله عن العباس بن المأمون في غالب ظني فإن العباس ولي حلب وقنسرين والجزيرة من سنة أربع عشرة ومائتين إلى أن توفي أبوه المأمون بالبدندون من أرض طرسوس. خلافة المعتصم وبويع أبو إسحاق المعتصم فأقر العباس بن المأمون على ولايته وكان الجند قد شغبوا وطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل المعتصم إليه، وأحضره فبايعه، وخرج إلى الناس وقال لهم: ما هذا الحدث البادر قد بايعت عمي فسكنوا. وسار المعتصم إلى بغداد والعباس معه، فلما توجه المعتصم إلى الغزاة ومر بحلب، في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ودخل إلى بلاد الروم اجتمع به بعض الجند ووبخه على ما فعل من إعطاء المعتصم الخلافة، وحسن له تدارك الأمر، فاستمال جماعة من القواد وعزموا أن يقبضوا على المعتصم وهو داخل إلى الغزاة فلم يمكنهم العباس. وقال: " لا أفسد على الناس غزاتهم. فنمى الخبر إلى المعتصم فقبض على العباس، وعلى من ساعده على ذلك،

خلافة الواثق

وهو عائد من الغزاة، فلما وصل إلى منبج سأل العباس الطعام وكان جائعاً فقدم إليه طعام كثير فأكل. فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات بمنبج في ذي القعدة، من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وصلى عليه بعض إخوته ودفن بمنبج. وولى المعتصم حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح بن علي الهاشمي، ثم إنه ولى أشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر، وتوجه وألبسه وشاحين بالجوهر في سنة خمس وعشرين ومائتين. ونظر في صلات المعتصم لأشناس فوجد مبلغها أربعين ألف ألف درهم. وأظن أنه بقي في ولايته إلى أن مات سنة ثلاثين ومائتين في أيام الواثق. خلافة الواثق وولى الواثق عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها، وأظنه كان متولياً في أيام المعتصم من جهة أشناس، فأقره الواثق على ولايته. وولى الواثق قنسرين وحلب والعواصم، بعد عبيد الله، محمد بن صالح بن عبد الله بن صالح فكانت سيرته غير محمودة. وكان أحمر أشقر، فلقب: سماقة لشدة حمرته. ويقال: إنه أول من أظهر البرطيل بالشام، وأوقع عليه هذا الاسم، وكان لا يعرف قبل ذلك إلا الرشوة على غير إكراه. وكان أكثر الناس سكوتاً وأطولهم صمتاً لا يكاد يسمع له كلام إلا في أمر يأمر به، أو قول يجيب عنه. وكان قاضي حلب في أيامه أبا سعيد عبيد بن جناد الحلبي توقي سنة إحدي وثلاثين ومائتين، وكان المأمون ولاه قضاء حلب. وله يقول عمرو بن هوبر الكلبي في قصيدة يغض منه، أولها: لا در در زمانك المتنكس ... الجاعل الأذناب فوق الأرؤس

خلافة المتوكل

ما أنت إلا نقمة في نغمة ... أو أصل شوك في حديقة نرجس يا قبلة ذهبت ضياعاً في يد ... ضرب الآله بنانها بالنقرس من سر أبطح مكة آباؤه ... وجدوده وكأنه من قبرس وهذا عمرو بن هوبر كان من معراثا البريدية من ضياع معرة النعمان وولي في أيام المتوكل معرة مضرين وقتل بها. وكان الواثق قد ولى الثغور والعواصم دون حلب وأعمالها أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، وأمره بحضور الفداء مع خاقان وصاحب الروم ميخائيل، فأمضى الفداء سنة إحدى وثلاثين ومائتين. ثم إنه غزا شاتياً فأصاب الناس شدة فوجد الواثق عليه بسبب ذلك، وعزله وولاها نصر بن حمزة الخزاعي. خلافة المتوكل وولي الشارباميان، في أول أيام المتوكل على حلب وقنسرين والعواصم، واليين أنا ذاكرهما. وكان الشارباميان أحد قواد المتوكل وكان خصيصاً عنده. فإما أن يكون المتوكل ولاه جند قنسرين والعواصم أو أنه كان السلطان في أيام المتوكل فكان أمر الولاية إليه. فإنني قرأت في كتاب نسب بني صالح بن علي قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم علي بن إسماعيل بن صالح بن علي أبا طالب،

خلافة المنتصر

وإنما أراد أن يتزين به عتد المتوكل فامتنع من قبول ولايته، فأعلمه إن لم يفعل كتب فيه إلى الخليفة فقبلها وأقام على ولاية جند قنسرين والعواصم، حتى مات. فكانت أيامه أحسن أيام وسيرته أجمل سيرة، وكان علي بن إسماعيل إذا خرج إلى العواصم استخلف ابنه محمد بن علي على قنسرين وحلب فلا يفقد الناس من أبيه شيئاً. قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم عيسى بن عبيد الله بن الفضل بن صالح بن علي الهاشمي. قال: وولى المتوكل طاهر بن محمد بن إسماعيل بن صالح على المظالم بجند قنسرين والعواصم، والنظر في أمور العمال، وجاءته الولاية منه فألفاه الرسول في مرضه الذي مات فيه. وجعل المتوكل ولاية عهده إلى ابنه محمد المنتصر وولاه قنسرين، والعواصم، والثغور وديار مضر، وديار ربيعة، والموصل، وغير ذلك في سنة خمس وثلاثين ومائتين، فاستمر في الولاية إلى أن قتل أباه وكانت الولاة من قبله. خلافة المنتصر وفي أيام ولايته حلب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقع طائر أبيض دون الرحمة وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان، فصاح: يا معشر الناس، الله الله حتى صاح أربعين صوتاً. ثم طارة وجاء من الغد فصاح أربعين صوتاً. وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسمائة انسان سمعوه. ولا يبعد عندي أن تكون الدلبة التي ينسب إليها رأس الدلبة. وسمع في هذه السنة أصوات هائلة من السماء، وزلزلت نيسابور، وتقلعت جبال من أصولها، ونبع الماء من تحتها، ووصلت الزلزلة إلى الشام والثغور. وأظن أن نائب المنتصر في جند قنسرين في حياة المتوكل كان بغا الكبير فلما قتل المتوكل قدم بغا عليه. وسير المنتصر وصيفاً إلى الثغر الشامي فأقام به إلى أن مات.

خلافة المستعين

خلافة المستعين وولى المستعين في سنة خمسين ومائتين قنسرين وحلب وحمص موسى بن بغا، وتوجه إليها حين عاث أهل حمص على الفضل بن قارن. ثم ولي حلب والعواصم أبو تمام ميمون بن سليمان حدقة بن عبد الملك بن صالح في أيام المستعين، وكانت له حركة وبأس في فتنة المستعين. وعصى أهل حلب وأقاموا على الوفاء للمستعين ببيعتهم، فقدم عليهم أحمد المولد محاصراً لهم فلم يجيبوه إلى ما أراد من البيعة للمعتز. وكان السفير بينه ويينهم الحسين بن محمد صالح بن عبد الله بن صالح أبا عبيد الله الهاشمي. خلافة المعتز فلما بايعوا بعد ذلك للمعتز وانقضى أمر المستعين ولاه أحمد المولد جند قنسرين وحلب، في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فأقام مدة يسيرة، ثم انصرف إلى سلمية أعني الحسين بن محمد. وولي حلب وقنسرين والعواصم صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل ابن صالح، في فتنة المستعين، وكان له سعي وتقدم ورئاسة. ثم ولي بعده، فيما أرى، أبو ميمون بن سليمان بن عبد الملك بن صالح. وهذه ولاية ثانية له، ومات بالرقة. ثم ولي بعده ثانية صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي وانقضت ولاية بني صالح الهاشميين. ثم ولي حلب وقتسرين في أيام المعتز أبو الساج ديوداذ في شهر ربيع

خلافة المعتمد

الأول، سنة أربع وخمسين ومائتين، وبقي والياً إلى أن تغلب أحمد بن عيسى بن شيخ على الشامات في أيام المهتدي. خلافة المعتمد فلما مات، وولي المعتمد سير إلى ابن شيخ بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشام آمناً فأجاب إلى ذلك، ورحل عنها في سنة ست وخمسين ومائتين. ووليها أحمد بن طولون، مع أنطاكية وطرسوس وغيرها من البلاد وكان أحمد ابن طولون شهماً شجاعاً عاقلاً، وكان على مربطه أربعة آلاف حصان، وكانت نفقته في كل يوم آلف دينار. فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الملقب بالموفق على حلب وقنسرين والعواصم، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين. ثم ولاه بغداد، واليمن، وخراسان، وولى الشام لابنه جعفر وجعل له ولاية العهد، وهو صبي، وجعل الأمر بعده لأخيه أبي أحمد. فولى أبو أحمد الموفق سيما الطويل أحد قواد بني العباس ومواليهم حلب والعواصم. فابتنى بظاهر مدينة حلب داراً حسنة، وعمل لها بستاناً. وهو الذي يعرف الآن ببستان الدار ظاهر باب أنطاكية. وبهذه الدار سميت المحلة التي بباب أنطاكية الدارين، إحدى الدارين هذه، والدار الأخرى بناها قبله محمد بن عبد الملك بن صالح، فعرفت المحلة بالدارين لذلك. وإحدى الدارين تعرف

بالسليمانية على حافة نهر قويق، وحاضر السليمانية بها يعرف وهو حاضر حلب. وجدد سيما الطويل الجسر الذي على نهر قويق قريباً من داره. وركب عليه باباً أخذه من قصور بعض الهاشميين بحلب يقال له: قصر البنات. وأظن أن درب البنات بحلب يعرف به، وأظن القصر يعرف بأم ولد كانت لعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح اسمها بنات وهي أم ولده داود. وسمى سيما الباب باب السلامة وهو الباب الذي ذكره الواساني في قصيدته الميمية التي أولها: يا ساكني حلب العوا ... صم جادها صوب الغمامه وفي سيما الطويل يقول البختري: فردت إلى سيما الطويل أمورنا ... وسيما الرضا في كل أمر يحاوله فعصى أحمد بن طولون على أبي أحمد الموفق، وأظهر خلعه ونزل إلى الشام، فانحاز سيما الطويل إلى أنطاكية فحصره أحمد بن طولون بها فألقت عليه امرأة حجراً وقيل قوقاً فقتلته. وقيل بل قتله عسكر ابن طولون، وكان ذلك في سنة أربع وستين أو سنة خمس وستين ومائتين واستولى أحمد بن طولون على حلب والشام جميعه منابذاً لأبي أحمد الموفق، وكان قاضي حلب في أيامه عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله أبو بكر القاضي العمري. ودام على قضائها إلى أن مات أحمد. وكان سيما حين صارت له حلب قد قصد جماعة من الأشراف من بني صالح ابن علي بالأذى، واستولى على أملاكهم، وأودع بعضهم السجن. فلما ولي أحمد بن طولون قال صالح بن محمد بن اسماعيل بن صالح بن علي الهاشمي الحلبي، يمدحه ويشكره، ويذكر ظفره بسيما بقصيدة يقول فيها:

وقد لبستنا من قذا الجور ذلة ... ودار بنا كيد الأعادي فأحدقا وحكم فينا عاند فجرت له ... أفاعيل غر تترك اللب أخلقا إلى أن أتيحت بابن طولون رحمة ... أشار إلى معصوصب فتفرقا فدتك بنو العباس من ناصر لها ... أنار به قصد السبيل فأشرقا بنيت لهم مجداً تليداً بناؤه ... فلم نر بنياناً أعز وأوثقا منحتهم صفو الوداد ولم يكن ... سواك ليعطي الود صفواً مزوقا تجوز منك العبد لما قصدته ... وأسكن أشراف الأقاوم مطبقا بلا ترة أسدوا إليه وإنما ... يجازي الفتى يوماً على ما تحققا وهيهات ما ينجيه لو أن دونه ... ثمانين سوراً في ثمانين خندقا ثم إن أحمد بن طولون توجه إلى مصر، وولى مملوكه لؤلؤ حلب في سنة ست وستين، فخرج بكار الصالحي من ولد عبد الملك بن صالح، بنواحي حلب بينها وبين سلمية، ودعا إلى أبي أحمد الموفق في سنة ثمان وستين، فحاربه ابن العباس الكلابي فهزم الكلابي ووجه إليه لؤلؤ قائداً يقال له أبو ذر، فرجع وليس معه كبير أحد. ثم إن لؤلؤ ظفر به فقبض عليه. ثم إن لؤلؤ الطولوني خالف مولاه أحمد بحلب، وعصى عليه في سنة تسع وستين، وكاتب أبا أحمد الموفق في المسير إليه فأجابه إلى ذلك. وقطع لؤلؤ الدعاء لمولاه أحمد مدنه جميعها: حلب، وقنسرين، وحمص، وديار مضر، وترك أهل الثغور الدعاء لابن طولون، وأخرجوا نائبه منها وهموا بقبضه، فهرب. فنزل أحمد بن طولون من مصر في مائة آلف فقبض على حرم لؤلؤ وباع ولده وأخذ ما قدر عليه مما كان له، وهرب لؤلؤ منه ولحق بأبي أحمد طلحة بن المتوكل وهو على محاربة العلوي البصري عميد الزنج.

ولؤلؤ هو الذي قتل علوي البصرة في سنة تسع وستين ومائتين. وبقي لؤلؤ ببغداد إلى أن قبض عليه الموفق، وقيده في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، فوجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ الطولوني أنه لا يعرف لنفسه ذنبا إلا كثرة ماله وأثاثه. ولما انحدر لؤلؤ من الرقة كان معه من السفن والخزائن زهاء ثلاثمائة خزانة. ولما هرب لؤلؤ من مولاه إلى العراق في جمادى الأولى من السنة، اجتاز ببالس، وبها محمد بن العباس بن سعيد الكلابي أبو موسى، وأخوه سعيد فأسرهما. ثم إن ابن طولون وصل إلى الثغور، فأغلقوها في وجهه، فعاد إلى أنطاكية ومرض. فولى على حلب عبد الله بن الفتح، وصعد إلى مصر مريضاً، فمات سنة سبعين ومائتين. وولي ابنه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، فولى في حلب أبا موسى محمد بن العباس بن سعيد الكلابي، في سنة إحدى وسبعين ومائتين. ونزل أبو الجيش من مصر إلى حلب، وكاتب أبا أحمد بن المتوكل بأن يولى حلب ومصر وسائر البلاد التي في يده، ويدعى له على منابرها، فلم يجبه إلى ذلك، فاستوحش من الموفق. وولى في حلب القائد أحمد بن ذو غباش، وصعد إلى مصر فوصل إلى حلب إسحاق بن كنداج، وكان يلي ديار ربيعة، ومحمد بن أبي الساج، وكان يلي ديار مضر، فولاه الموفق حلب وأعمالها، وكتبا إلى العراق يطلبان نجدة تصل إليهما، فإن ابن جيعويه وغيره من قواد ابن طولون بشيزر. فسير الموفق ابنه أبا العباس أحمد بن طلحة، وكان قد جعل إليه ولاية عهده، فوصل إلى حلب في ربيع الآخر من سنة إحدى وسبعين ومائتين، وكان فيها محمد ابن ديوداذ بن أبي الساج، المعروف بالأفشين حينئذ والياً، وسار إلى قنسرين، وهي

يومئذ لأخي الفصيص التنوخي وهي عامرة وحاضر طيء لطيء وعليها أيضاً سور، وقلعتها عامرة. وسار إلى شيزر، فكسر العسكر المقيم، وسار إلى أن تواقع المعتضد وخمارويه على الطواحين، بقرب الرملة، وكانت الغلبة أولاً لأبي العباس المعتضد، فهرب خمارويه بمن خف معه إلى مصر، ونزل أبو العباس بخيمة خمارويه، وهو لا يشك في الظفر، فخرج كمين لخمارويه، فشدوا عليهم وقاتلوهم، فانهزموا، وتفرق القوم. ورجع الأمير أبو العباس إلى أن انتهى إلى أنطاكية، وكان محمد بن ديوداذ المعروف بالأفشين بن أبي الساج قد فارق أبا العباس لكلام أغلظ له فيه أبو العباس، فجاء قبل وقعة الطواحين، واستولى على حلب، ومعه إسحاق بن كنداج. وسار أبو العباس من أنطاكية إلى طرسوس فأغلقها أهلها دونه، ومنعوه من دخولها فسار إلى مرعش، ثم إلى كيسوم، ثم إلى سميساط، وعبر الفرات، ونكب عن حلب لاستيلاء الأقشين عليها وكان قد جرت بينهما وحشة. ونزل خمارويه إلى حلب، فصالحه الأفشين وصار في جملته، ودعا له على منابر أعماله، وحمل إليه خمارويه مائتي آلف دينار ونيفاً وعشرين آلف دينار لوجوه أصحابه، وعشرين ألف دينار لكاتبه، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وأعطاه ابن أبي الساج ولده رهينة على الوفاء بعهده، فراسل خمارويه أبا أحمد الموفق، وسأله الصلح فأجابه إلى ذلك، وولاه مصر، وأجناد الشام، وقنسرين، وحلب، والعواصم، والثغور. وصعد أبو الجيش إلى مضر، وكان أبو الجيش قد أعطى ابن أبي الساج يوم دفع ولده إليه ما مبلغه ثلاثون ألف دينار، فقال ابن أبا: خدعكم محمد بن ديوداذ، إذ أعطاكم بولة يبول مثلها في كل ليلة مرات، وأخذ منكم ثلاثين ألف دينار. ثم إن ابن أبي الساج نكث عهده مع أبي الجيش، وعاث في نواحي الأعمال

التي له، في ذي القعدة من سنة أربع وسنعين ومائتين، فخرج إليه أبو الجيش. والتقيا بالثنية، من أعمال دمشق فانهزم ابن أبي الساج واستبيح عسكره قتلاً وأسراً، ففي ذلك يقول البحتري: وقد تدلت جيوش النصر منزلة ... على جيوش أبي الجيش بن طولونا يوم الثنية إذ ثنى بكرته ... خمسين ألفاً رجالاً أو يزيدونا وكتب إلى ابن الساج يوبخه، ويقول له: كان يجب يا قليل المروءة والأمانة أن نصنع برهنك ما أوجبه غدرك! معاذ الله أن تزر وازرة وزر أخرى. ورجع أبو الجيش إلى مصر في سنة خمس وسبعين ومائتين. فعاد محمد بن ديوداذ، وعاث عليه في أطراف بلاده، فقصده فانهزم بين يديه، فوصل ابن طولون خلفه إلى الفرات. وهرب ابن أبي الساج، ولحق بأبي أحمد الموفق، فانضم إليه فخلع عليه، وأخرجه معه إلى الجبل، وذلك في سنة ست وسبعين ومائتين فولى أبو الجيش على حلب غلام أبيه ظغج بن جف والد الإخشيد أبي برك محمد بن طغج. ودعا يازمار، والي الثغور لخمارويه بطرسوس والثغور، وحمل إليه خماروية خمسين ألف دينار، وحمل إليه قبل الدعاء له ثلاثين آلف دينار ليتفقها في سبيل الله ومائة وخمسين ثوباً ومائة وخمسين دابة وسلاحاً كثيراً وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين.

خلافة المعتضد

خلافة المعتضد ورجع أبو الجيش إلى مصر، ومات المعتمد بعد ذلك في سنة تسع وسبعين فولي الخلافة أبو العباس أحمد بن طلحة المعتضد، فبايعه أبو الجيش بن طولون وخطب له في عمله. وسير إليه هدية ستية مع الحسين بن الجصاص. وطلب منه أن يزوج ابنته من علي بن المعتضد، فقال المعتضد بل أنا أتزوجها فتزوجها المعتضد وهي قطر الندى. وقيل: إنه دخل معها مائة هاون ذهب فى جهازها، وإن المعتضد دخل خزانتها، وفيها من المنائر والأباريق، والطاسات، وغير ذلك من الآنية الذهب. فقال: يا أهل مصر، ما أكثر صفركم. فقال له بعض القوم: يا أمير المؤمنين، إنما هو ذهب. وزفت إلى المعتضد مع صاحب أبيها الحسين بن عبد الله بن الجصاص. فقال المعتضد لأصحابه: أكرموها بشمع العنبر فوجد في خزانة الخليفة أربع شمعات من عنبر، في أربعة أتوار فضة. فلما كان وقت العشاء، جاءت إليه وقدامها أربعمائة وصيفة، في يد كل واحدة منهن تور ذهب وفضة، وفيه شمعة عنبر. فقال المعتضد لأصحابه: أطفئوا شمعنا واسترونا. وكانت إذا جاءت إليه أكرمها بأن يطرح لها مخدة: فجاءت إليه، يوماً فلم يفعل ما كان يفعله بها. فقالت: أعظم الله أجر أمير المؤمنين. قال: فيمن؟. قالت: في عبده خمارويه تعني أباها فقال لها: " أو قد سمعت بموته؟ قالت: لا ولكني لما رأيتك قد تركت إكرامي علمت أته قد مات أبي. وكان خبره قد وصل إلى المعتضد، فكتمه عنها. فعاد إلى إكرامه لها بطرح المخدة في كل الأوقات. وقتل خمارويه بدمشق في سنة ثمانين ومائتين، وحلب في ولاية طغج بن جف من قبله وأظن أن قاضي حلب بعد أيام أحمد بن طولون حفص بن عمر قاضي

حلب. وولي مكان خمارويه ولده جيش بن خمارويه، وطغج في حلب على حاله. وعزل القواد جيش بن خمارويه، وولوا أخاه هارون بن خمارويه، فولى طغج بن جف حلب على حاله، وسير إلى المعتضد رسولاً يطلب منه إجراءه على عادة أبيه في البلاد التي كانت في ولايته، فلم يفعل. وسير رسولاً إلى هارون، فاستنزله عن حلب وقنسرين، والعواصم، وسلم لهارون مصر وبقية الشام، واتفق الصلح مع المعتضد وهارون على ذلك، في جمادى الأولى من سنة ست وثمانين ومائتين. وكان هارون قد ولى قضاء حلب وقنسرين أبا زرعة محمد بن عثمان الدمشقي، فقلد المعتضد حلب وقنسرين ولده أبا محمد علي بن أحمد في هذه السنة. وولى بحلب من قبل ابنه الحسن بن علي المعروف بكوره الخراساني، وإليه تنسب دار كوره، التي داخل باب الجنان بحلب، والحمام المجاورة لها. وقد خربت الآن ولم يبق لها أثر. وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، فقلده النظر في هذه النواحي وسار المعتضد، في سنة سبع وثمانين ومائتين، خلف وصيف خادم ابن أبي الساج إلى الثغور إل أن لحقه. فضم عمل الثغور أيضاً إلى كوره، وعاد إلى أنطاكية، ووصيف معه. ثم رحل إلى حلب، فأقام بها يومين، ووجد لوصيف بعد أسره في بستان بحلب مال كان دفنه وهو بها مع مولاه مبلغه ستة وخمسون آلف دينار فحمل إلى المعتضد ثم رحل إلى بغداد، فمات في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين.

خلافة المكتفي

خلافة المكتفي وتولى الخلافة ولده أبو محمد، ولقب بالمكتفي، فصرف الحسن بن علي كوره عن ولايته، وولى حلب أحمد بن سهل النوشجاني، في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين. ثم صرفه عنها سنة تسعين ومائتين. وولى حلب في هذه السنة أبا الأغر خليفة بن المبارك السلمي، ووجهه إليها لمحاربة القرمطي صاحب الخال لعنه الله، فإنه كان قد عاث في البلاد وغلب على حمص، وحماة، ومعرة النعمان، وسلمية. وقتل أهلها وسبى النساء والأطفال. فقدم أبو الأغر حلب في عشرة آلاف فارس، فأنفذ القرمطي سرية إلى حلب، فخرج أبو الأغر إلى وادي بطنان، فلما استقر وافاه جيش القرمطي، يقدمه المطوق غلامه وكبسهم، وقتل عامة أصحابه وخادماً جليلاً يقال له بدر القدامي. وسلم أبو الأغر في ألف رجل، فصار إلى قرية من قرى حلب، وخرج إليه ابنه في جماعه من الرجالة والأولياء، فدخل إلى حلب وأقام القرامطة على مدينة حلب على سبيل المحاصرة. فلما كان يوم الجمعة، سلخ شهر رمضان من سنة تسعين ومائتين، تسرع أهل مدينة حلب إلى الخروج للقاء القرامطة فمنعوا من ذلك، فكسروا قفل الباب، وخرجوا إلى القرامطة، فوقعت الحرب بين الفئتين، ورزق الله الحلبيين النصر عليهم. وخرج أبو الأغر فأعانهم، فقتل من القرامطة خلق كثير. وخرج أبو الأغر يوم السبت يوم عيد الفطر إلى المصلى، وعيد بأهل حلب، وخطب الخطيب، وعادت الرعية على حال سلامة، وأشرف أبو الأغر على القرامطة، فلم يخرج منهم أحد إليه، ثم أنهم رحلوا إلى صاحبهم، في سنة ثلاثمائة. ثم إن المكتفي ولى حلب الحسين بن حمدان بن حمدون عم سيف الدولة،

فعاثت عليه العرب من كلب واليمن وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم، في شهر رمضان من سنة أربع وتسعين ومائتين، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب، وجرى بينه وبين القرامطة، في هذه السنة وقعة كسرهم فيها واستأصلهم. ثم إنه عزل عن حلب، وولي عيسى غلام النوشري، وكان المكتفي قد صار إلى الرقة في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكان وجه بمحمد بن سليمان صاحب الجيش إلى حلب والشام في عشرين ألف فارس وراجل، لمحاربة الطولونية والقرامطة، وفتح مصر. فقدم محمد بن سليمان حلب في أواخر سنة تسعين، والوالي بها على الحرب عيسى غلام النوشري، فدخلها محمد في أحسن تعبئة وزي. وأقام بها أياماً وطالب عمال الخراج بحمل المال، وقصده رؤساء بني تميم وبني كلاب. فأمر عيسى والي حلب أن يستخلف على عمله ويشخص معه إلى مصر فامتثل أمره، واستخلف على حلب ولده، وأتفق في جنده، ورحل في آخر شوال معه. فلما وافى معرة النعمان خلع عليه، وحمله، وولاه بلده إلى حدود حماة، ولقيهم القرامطة بين تل منس وكفر طاب، في عشرة آلاف فارس، فنصره الله عليهم، وانهزموا وقتل الرجالة، وأسر أكثر الخيالة. وصار محمد بن سليمان إلى مصر، وافتتحها من يد الطولونية، عند قتل هارون بن خمارويه، واستولى على أموالها. ثم ضم إلى طغج بن جف الطولوني أربعة آلاف رجل، وولاه حلب، وأخرجه عن مصر. فلما صار إلى حلب وجد بها ابن الواثقي، وقد أنفذه السلطان إلى حلب لعرض جيوش الواردين من مصر، وذلك في سنة اثنتين وتسعين ومائتين. فعرض ابن الواثقي جيشه لما وصل إلى حلب، وأمره بالنفوذ إلى بغداد، فرحل حتى وافى مدينة السلام.

خلافة المقتدر

وكذلك ورد حلب جماعة من القواد الطولونية، فعرضهم وتوجهوا إلى بغداد. ووافى وصيف البكتمري وابن عيسى النوشري صاحب حلب بغداد، يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ومعهما طغج، وأخوه، وابن لطغج، فخلع عليهم وطوق منهم البكتمري وابن عيسى النوشري. ثم شخص عيسى النوشري عن مصر إلى حلب، لأنه كان واليها. فلما كان بعد شخوصه إليها بأيام، ورد كتاب العباس بن الحسن الوزير بتولية عيسى النوشري مدينة مصر، ويؤمر محمد بن سليمان بالشخوص إلى طرسوس للغزو. فوجه محمد ابن سليمان من لحق عيسى بالرملة فرده، وورد إلى عيسى كتاب من السلطان بذلك فعاد والياً على مصر. وولى المكتفي في هذه السنة أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور، حلب، ودام بها إلى سنة اثنتين وثلاثمائة. وكان كريماً يهب ويعطي وإليه تنسب دار ذكا التي هي الآن دار الزكاة. وإلى جانبها دار حاجبه فيروز فانهدمت وصارت تلا يعرف بتل فيروز فنسفه السلطان الملك الظاهر رحمه الله في أيامه، وظهر فيه بقايا من الذخائر مثل الزئبق وغيره وهو موضع سوق الصاغة الآن. ولأبي بكر الصنوبري الشاعر فيه مدائح كثيرة. وعاد محمد بن سليمان إلى حلب، ووافاه مبارك القمي بكتب يؤمر فيها بتسليم الأموال، وركب إليه ذكا الأعور صاحب حلب، وأبو الأغر وغيرهما. فاختلط بهم وسار معهم إلى المدينة، فأدخلوه إلى الدار المعروفة بكوره، بباب الجنان، ووكلوا به في الدار. وشخص ذكا عن حلب لمحاربة ابن الخلنج مع أبي الأغر إلى مصر ووجه بمحمد بن سليمان مقبوضاً إلى بغداد. خلافة المقتدر وتوفي المكتفي سنة خمس وتسعين ومائتين، وولي أخوه أبو الفضل المقتدر. وعاثت بنو تميم في بلد، حلب، وأفسدت فساداً عظيماً، وحاصروا ذكا

بحلب فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسري من الرحبة حتى أناخ عليهم بخناصرة، وأسر منهم جماعة، وانصرف ولم يجتمع بذكا. ففي ذلك يقول شاعر من أهل الشام: أصلح ما بين تميم وذكا أبلج يشكي بالرماح من شكا يدل بالجيش إذا ما سلكا كأنه سليكة بن السلكا وكان وزير ذكا وكاتبه أبا الحسن محمد بن عمر بن يحيى النفري الكاتب، وإليه ينسب حمام النفري، وهي الآن داثرة. وداره هي المدرسة النورية، ومدحه الصنوبري. ثم إن المقتدر عزل ذكا عن حلب، وولاه دمشق ثم مصر إلى أن مات. وقيل إن المقتدر ولى حلب مولاه تكين الخادم أبا منصور ثم عزله عنها. والصحيح أنه ولى الشام ومصر مؤنس المظفر الخادم نيابة عن ابنه أبي العباس، فقدم إلى حلب وصعد إلى مصر. وولى مؤنس ذكا الأعور دمشق ومصر، وعزله عن حلب، وولى الأمير أبا العباس أحمد بن كيغلغ حلب سنة اثنتين وثلاثمائة وكان على قضاء حلب سنة تسعين محمد بن محمد الجدوعي. ثم ولي القضاء بحلب وقنسرين محمد بن أبي موسى عيسى الضرير الفقيه، في سنة سبع وتسعين ومائتين. وشخص إلى عمله لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر. ثم صرف محمد بن عيسى عن قضاء حلب وقنسرين، في سنة ثلاثمائة بأبي حفيص عمر بن الحسن بن نضر الحلبي القاضي. وكانت داره بسوق السراجين. وعزل أبو حفيص عن القضاء في حلب سنة اثنتين وثلاثمائة. ووليها أبو عبد الله محمد بن عبده بن حرب. وتوفي عمر بن الحسن القاضي سنة سبع وثلاثمائة، وكان محمد بن عبده بن حرب قاضياً بها سنة خمس وثلاثمائة.

ثم تولى قضاء حلب وحمص إبراهيم بن جعفر بن جابر أبو إسحاق الفقيه، في سنة ست وثلاثمائة. وولي الخراج من قبل المكتفي بحلب الحسن بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك. وتوفي بحلب في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة فجأة. وولي الخراج بعده علي بن أحمد بن بسطام والانفاق عبد الله بن محمد بن سهل، ثم توفي سنة اثنتين وثلاثمائة، وتولى مكانه محمد بن الحسن بن علي الناظري. وكان أبو العباس بن كيغلغ أديباً شاعراً، جواداً، وهو الذي مدحه المتنبي بقوله: كم قتيل كما قتلت شهيد ومن شعر الأمير أحمد بن كيغلغ قوله: قلت له، والجفون قرحى، ... قد أقرح الدمع ما يليها مالي في لوعتي شبيه ... قال: وأبصرت لي شبيهاً ثم ولى مؤنس المظفر حلب أبا قابوس محمود بن حبك الخراساني، وكان جباراً، قاسياً، منحرفاً عن أهل البيت. وقيل: هو محمود بن حمل، فدام والياً بها إلى سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. وكان مؤنس المظفر بالشام، فاستدعي إلى بغداد لقتال القرمطي، فسار إليها وولى حلب وصيف البكتمري الخادم سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. ثم عزله عنها سنة ست عشرة وثلاثمائة. ووليها في هذه السنة هلال بن بدر أبو الفتح، غلام المعتضد وكان أمير دمشق قبل ذلك، ثم عزل عن حلب، وولى قطربل وسامرا في سنة سبع عشرة، فوليها في هذه السنة وصيف البكتمري ثانية. ومات بحلب على ولايته يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة من سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وكان كاتبه عبد الله والد أبي العباس أحمد بن عبد الله الشاعر المعروف بابن

خلافة القاهر بالله

كاتب البكتمري، فوليها الأمير أحمد بن كيغلغ ثانية إلى سنة ثماني عشرة وثلاثمائة. ثم ولى مؤنس المظفر غلامه طريف بن عبد الله السبكري الخادم، في سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان ظريفاً شهماً شجاعاً، وحاصر بني الفصيص في حصونهم باللاذقية وغيرها، فحاربوه حرباً شديداً حتى نفد جميع ما كان عندهم من القوت والماء، فنزلوا على الأمان فوفى لهم، وأكرمهم، ودخلوا معه حلب مكرميم معظمين، فأضيفت إليه حمص مع حلب. خلافة القاهر بالله ثم إن القاهر قبض على مولاه مؤنس المظفر، وتولى طريف قبضه، وأحضره إلى القاهر في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرأى له ذلك. وولى القاهر بشرى الخادم دمشق وحلب، وسار إلى حلب ثم إلى حمص، فكسره ابن طغج وأسره، وخنقه. ووصل أبو العباس بن كيغلغ إلى حلب فاتفق مع محمد بن طغج وحالفه. خلافة الراضي وولي الخلافة الراضي بعد القاهر. وكان الراضي قد خاف على بدر الخرشني من الحجرية أن يفتكوا به، فقلده حلب وأعمالها، وهي بيد طريف سنة أربع وعشرين، وأمره بالمسير من يومه. فسار وبلغ طريف، فأنفذ صاحباً له إلى ابن مقلة، وبذل له عشرين آلف دينار ليجدد له العهد، وأن لا يصرف من حلب ووصل الخرشني فدافعه طريف، رجاء أن يقضي ابن مقلة وطره، فزحف بدر

الخرشني، والتقى طريف في أرض حلب، فانهزم طريف من بين يديه. وتسلم بدر حلب، وأقام بها مدة يسيرة ثم كوتب من الحضرة بالإنصراف فرجع إلى الحضرة، وقفد طريف حلب مرة ثالثة، فقلد طريف السبكري من جهته حلب والعواصم فأقام بها إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وكان قاضي حلب عبيد الله بن عبد الرحمن ابن أخي الإمام. ثم ولي حلب أبو العباس أحمد بن سعيد بن العباس الكلابي، ومدحه أبو بكر الصنوبري، وكان بها نائباً عن أبي بكر الإخشيذ محمد بن طغج بن جف في غالب طني فإن الإخشيذ استولى على الشام إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وفي ولاية أبي العباس الكلابي، وردت بنو كلاب إلى الشام من أرض نجد، وأغارت على معرة النعمان، فخرج إليهم والي المعرة معاذ بن سعيد بجنده، وتبعهم إلى البراغيثي، فعطفوا عليه، وأسروه وأكثر جنده. وأقام فيهم مدة يعذبونه، فخرج إليهم أبو العباس أحمد بن سعيد الكلابي والي حلب، فخلصه منهم. وكان ورودهم في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. ثم إن الراضي قدم الموصل، وكان أبو بكر محمد بن رائق ببغداد، وبينه وبين بجكم وحشة، فأنفذ الراضي أبا الحسين عمر بن محمد القاضي إلى أبي

خلافة المتقي

بكر محمد بن رائق يخيره في أحد البلدين واسط أو حلب وأعمالها، فاختار حلب، وأراد بذلك البعد عن بجكم. فأجابه الراضي إلى ذلك، وخلع عليه أبو جعفر وأبو الفضل ابنا الراضي وعقدا له. وجعل بجكم يحث الراضي على الوصول إلى بغداد، ويتأسف على خروج ابن رائق منها ليشفي غيظه، فقال له الراضي: هذا لا يصلح، وهذا رجل أمنته، وقلدته ناحية من النواحي، فسمع وأطاع وما أمكنك منه. فخرج أبو بكر بن رائق في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وقيل: دخل حلب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وسار عنها إلى قتال الإخشيذ محمد بن طغج بن جف الفرغاني، وولى في حلب نيابة عنه خاصة محمد بن يزداذ. خلافة المتقي وجرت بين أبي بكر بن رائق والإخشيد وقعة انهزم فيها الإخشيذ، وسلم دمشق إلى ابن رائق، واقتصر على الرملة ومصر. ثم وقع بينهما وقعة أخرى في الجفار، أسر فيها أبو الفتح مزاحم بن محمد ابن رائق، فرجع في عدة يسيرة حتى يخلص ابنه، فقتل أبو نصر بن طغج، فكفنه ابن رائق، وجعله في تابوت، وأنفذه إلى أخيه الإخشيذ مع ابنه مزاحم، وقال: ما أردت قتل أخيك، وهذا ولدي قد أنقذته إليك لتقيده به. فخلع الإخشيذ عليه، وأعطاه مالاً كثيراً، ورده. وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. ثم أن أبا بكر محمد بن طغج الإخشيذ سير كافوراً الخادم من مصر، ومعه عسكر وفي مقدمته أبو المظفر مساور بن محمد الرومي، أحد قواد الإخشيذ فوصل

إلى حلب، فالتقى كافور ومحمد بن يزداذ الوالي بحلب من قبل ابن رائق، فكسره كافور، وأسره، وأخذ منه حلب، وولى بها مساور بن محمد الرومي، وعاد كافور إلى مصر. وهذا أبو المظفر مساور بن محمد الرومي مدحه المتنبي بقوله: أمساور أم قرن شمس هذا ... أم ليث غاب يقدم الأستاذا يريد الأستاذ: كافوراً الخادم. وذكر فيها كسره بن يزداذ فقال: هبك ابن يزداذ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا ومساور هو صاحب الدار المعروفة بدار ابن الرومي بالزجاجين بحلب، وتعرف أيضاً بدار ابن مستفاد، وهي شرقي المدرسة العمادية التي جددها سليمان بن عبد الجبار بن أرتق بحلب، وهي المنسوبة إلى بني العجمي. وأظن أن قاضي حلب في هذا التاريخ كان أبا طاهر محمد بن محمد بن سفيان الدباس أو قبل هذا التاريخ. ثم اتفق الإخشيذ ومحمد بن رائق على أن يخلي له الإخشيذ حمص وحلب ويحمل إليه مالاً، وزوج الإخشيذ ابنته بمزاحم بن أبي بكر بن رائق. وقتل ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان أبا بكر بن رائق في رجب سنة ثلاثين وثلاثمائة بين يدي المتقي يوم الإثنين لتسع بقين منه. وكان ابن رائق شهماً مقداماً سخياً جواداً، لكنه كان عظيم الكبر، مستبداً برأيه، منزوعاً من التوفيق والعصمة والتسديد. وكان أحمد بن علي بن مقاتل بحلب من جهة أبي بكر بن رائق ومعه ابنه مزاحم بن محمد بن رائق. فقلد ناصر الدولة علي بن خلف ديار مضر والشام، وأنفذ معه عسكراً وكاتب يأنس المؤنسي أن يعاضده.

وكان يأنس يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة فسار إلى جسر منبج وسار أحمد بن مقاتل ومزاحم إلى منبج، فالتقوا على شاطىء الفرات. وسير يأنس كاتبه ونذيراً غلامه برسالة إلى ابن مقاتل، فاعتقلهما ووقعت الحرب بين الفئتين، ولحق يأنس جراح كادت تتلفه فعدل به إلى قلعة نجم ليشده. ونظر نذير غلامه وهو معتقل في عسكر ابن مقاتل، على بغل إلى شاكري ليأنس معه جنيبة مق خيله، فأخذ سيف الشاكري، وركب الجنيبة، وصار إلى ابن مقاتل فقتله وانهزم عسكره. وأفاق يأنس المؤنسي، فسار وعلي بن خلف متوجهين إلى حلب. وتلاوم قواد ابن مقاتل على هزيمتهم، فعادوا إلى القتال في وادي بطنان، فانهزموا ثانية، وملك علي بن خلف ويأنس المؤنسي حلب في سنة ثلاثين وثلاثمائة. ثم إن علي بن خلف سار منها إلى الإخشيذ محمد بن طغج، فاستوزره وعلا أمره معه، إلى أن رآه يوماً، وقد ركب في أكثر الجيش بالمطارد والزي، ومحمد جالس في متنزه له، فأمر بالقبض عليه، فلم يزل محبوساً إلى أن مات محمد بن طغج. فأطلق وبقي يأنس المؤنسي والياً على حلب في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. وكان يأنس هذا مولى مؤنس المظفر الخادم، وتولى الموصل في أيام القاهر. وكان يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة إلى أن كان من أمره ما ذكرناه. فاستأمن، إلى الإخشيذ، ودعا له على المنابر بعمله. واتفق ناصر الدولة بن حمدان وتوزون، في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، على أن تكون الأعمال من مدينة الموصل إلى آخر أعمال الشام لناصر الدولة، وأعمال السن إلى البصرة لتوزون وما يفتحه من وراء ذلك، وأن لا يعرض أحد منهما لعمل الآخر. فولى ناصر الدولة حلب وديار مضر والعواصم أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل صاحب ابن رائق في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ووافق

ناصر الدولة أبا محمد بن حمدان على أن يؤدي إليه إذا دخل حلب خمسين ألف دينار. فتوجه أبو بكر من الموصل ومعه جماعة من القواد، ولم يصل إليها فوقع بين الأمير سيف الدولة بن حمدان وبين ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان كلام بالموصل وأراد القبض عليه. فقلد ناصر الدولة أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، أخا الأمير أبي فراس، حلب وأعمالها، وديار مضر، والعواصم، وكلما يفتحه من الشام، فتوجه في أول شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ودخل الرقة بالسيف لأن أهلها حاربوه مع أميرها محمد بن حبيب البلزمي، فأسره وسمله، وأحرق قطعة من البلد وقبض على رؤساء أهله، وصادرهم. وتوجه إلى حلب ومعه أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل، وبحلب يأنس المؤنسي وأحمد بن العباس الكلابي، فهربا من بين يديه من حلب، وتبعهما إلى معرة النعمان ثم إلى حمص. وهرب أمير حمص إسحاق بن كيغلغ بين يديه، وملك هذه البلاد ودانت له العرب، ثم عاد إلى حلب، وأقام بها إلى أن وافى الإخشيذ أبو بكر محمد بن طغج ابن جف الفرغاني. وإنما لفب بالإخشيذ لأن ملك فزغانه يتسمى بذلك، وكان أبوه من أهل فرغانه. وقدمها الإخشيذ في ذي الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. ولما دنا الإخشيد من حلب انصرف الحسين بن حمدان عنها لضعفه عن محاربته إلى الرقة. وكان ابن مقاتل مع ابن حمدان بحلب، فلما أحس بقرب الإخشيذ منها وتعويل ابن حمدان على الإنصراف استتر في منارة المسجد الجامع إلى أن انصرف ابن حمدان. ودخل الإخشيذ فظهر له ابن مقاتل، واستأمن إليه، وقلده الإخشيذ أعمال الخراج والضياع بمصر.

خلافة المستكفي

وأما الحسين بن سعيد، فإنه لما وصل إلى الرقة وجد المتقي لله بها هارباً من توزون التركي وقد تغلب على بغداد، وسيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله ابن حمدان مع المتقي بالرقة، وقد فارق أخاه ناصر الدولة لكلام جرى بينهما. فلم يأذن المتقي لأبي عبد الله الحسين في دخول الرقة، وأغلقت أبوابها دونه، ووقعت المباينة بينه وبين ابن عمه سيف الدولة، وسفر بينهما في الصلح، فتم ومضى إلى حران ومنها إلى الموصل. وقذم الإخشيذ عند حصوله بحلب مقدمته إلى بالس، وسار بعدها بعد أن سير المتقي أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي يسأل الإخشيذ أن يسير إليه ليجتمع معه بالرقة، ويحدد العهد به، ويستعين به على نصرته، ويقتبس من رأيه. فلما وصل أبو الحسن إلى حلب تلقاه الإخشيذ، وأكرمه، وأظهر السرور والثقة بقرب المتقي، وأنفذ من وقته مالاً مع أحمد بن سعيد الكلابي إلى المتقي، وسار خلفه حتى نزل وبينه وبين المتقي الفرات، فراسله المتقي بالخرقي، وبوزيره أبي الحسين بن مقلة، فعبر إليه يوم الخمسين لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ووقف بين يدي المتقي لله، ثم ركب المتقي لله فمشى بين يديه، وأمره أن يركب فلم يفعل، وحمل إليه هدايا ومالاً كثيراً، وحمل إلى الوزير أبي الحسين بن مقلة عشرين آلف دينار ولم يدع أحداً من أصحاب المتقي وحواشيه وكتابه إلا بره ووصله. خلافة المستكفي واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى الشام ومصر، فأبى فأشار عليه بالمقام مكانه، وضمن له أن يمده بالأموال فلم يفعل، إلى أن كاتبه توزون، وخدعه، وقبض عليه وبايع المستكفي.

وكتب المتقي عهداً للإخشيذ بالشامات ومصر على أن الولاية له ولأبي القاسم أنوجور ابنه إلى ثلاثين سنة. وكتب الإخشيذ في هذه السفرة إلى عبده كافور الخادم إلى مصر وقال له: ومما يجب أن تقف عليه أطال الله بقاءك أني لقيت أمير المؤمنين بشاطىء الفرات فأكرمني، وحباني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله، فرحاً بأته كناه، والخليفة لا يكني أحداً.

القسم الخامس حلب والحمدانيون

القسم الخامس حلب والحمدانيون سيف الدولة الحمداني 333 - 356 هجرية وعاد الإخشيذ من الرقة إلى حلب وسار إلى مصر. وولى بحلب من قبله أبا الفتح عثمان بن سعيد بن العباس بن الوليد الكلابي وولى أخاه أنطاكية. فحسد أبا الفتح إخوته الكلابيون، وراسلوا سيف الدولة بن حمدان ليسلموا إليه حلب، وقد كان طلب سيف الدولة من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له ناصر الدولة: الشام أمامك، وما فيه أحد يمنعك منه. وعرف سيف الدولة اختلاف الكلابيين، وضعف أبي الفتح عن مقاومته، فسار إلى حلب، فلما وصل إلى الفرات خرج إخوة أبي الفتح عثمان بن سعيد بأجمعهم للقاء سيف الدولة، فرأى أبو الفتح أنه مغلوب إن جلس عنهم، وعلم حسدهم له، فخرج معهم. فلما قطع سيف الدولة الفرات، أكرم أبا الفتح دون إخوته، وأركبه معه في العمارية، وجعل سيف الدولة يسأله عن كل قرية يجتاز بها: ما اسمها. فيقول أبو الفتح: هذه الفلانية! حتى عبروا بقرية يقال لها إبرم وهي قرية قريبة من الفايا. فقال له سيف الدولة: ما اسم هذه القرية. قال أبو الفتح: إبرم. فظن سيف الدولة أنه قد أكرهه بالسؤال. فقال له إبرم من الإبرام. فسكت سيف الدولة عن سؤاله. فلما عبروا بقرى كثيرة، ولم يسأله عنها علم أبو الفتح بسكوت سيف الدولة. فقال له أبو الفتح: يا سيدي يا سيف الدولة، وحق رأسك، إن القرية التي

عليها اسمها إبرم، واسأل عنها غيري. فعجب سيف الدولة من ذكائه. فلما وصل حلب أجلسه معه على السرير. ودخل سيف الدولة حلب، يوم الإثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكان القاضي بها أحمد بن محمد بن ماثل، فعزله وولى أبا حصين علي بن عبد الملك بن بدر بن الهيثم الرقي، وكان ظالماً، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة. وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي حصين الدرك. ثم إن الإخشيذ سير عسكراً إلى حلب مع كافور ويأنس المؤنسي، وكان الأمير سيف الدولة غازياً بأرض الروم قد هتك بلد الصفصاف وعربسوس فغنم، ورجع فسار لطيته إلى الإخشيذية، فلقيهم بالرستن. فحمل سيف الدولة على كافور، فانهزم، وازدحم أصحابه في جسر الرستن، فوقع في النهر منهم جماعة. ورفع سيف الدولة السيف، فأمر غلمانه أن لا يقتلوا أحداً منهم. وقال: الدم لي والمال لكم فأسر منهم نحو أربعة آلاف من الأمراء وغيرهم، واحتوى على جميع سواده. ومضى كافور هارباً إلى حمص، وسار منها إلى دمشق، وكتب إلى الإخشيذ يعلمه بهزيمته، وأطلق سيف الدولة الأسارى جيمعهم، فمضوا وشكروا فعله. ورحل سيف الدولة بعد هزيمتهم إلى دمشق، ودخلها في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين، وأقام بها. وكاتبه الإخشيذ يلتمس منه الموادعة، والإقتصار على مافي يده، فلم يفعل. وخرج سيف الدولة إلى الأغراب، فلما عاد منعه أهل دمشق من دخولها.

فبلغ الإخشيذ ذلك فسار من الرملة، وتوجه يطلب سيف الدولة، فلما وصل طبرية عاد سيف الدولة إلى حلب بغير حرب، لأن أكثر أصحابه وعسكره استأمنوا إلى الإخشيذ. فاتبعه الإخشيذ إلى أن نزل معرة النعمان في جيش عظيم، فجمع سيف الدولة، ولقيه بأرض قنسرين، في شوال من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكان الإخشيذ قد جعل مطارده وبوقاته في المقدمة، وانتقى من عسكره نحو عشرة آلاف، وسماهم الصابرية فوقف بهم في الساقة. فحمل سيف الدولة على مقدمة الإخشيذ فهزمها، وقصد قبته وخيمه، وهو يظنه في المقدمة، فحمل الإخشيذ ومعه الصابرية فاستخلص سواده. ولم يقتل من العسكرين غير معاذ بن سعيد والي معرة النعمان، من قبل الإخشيذة فإنه حمل على سيف الدولة ليأسره، فضربه سيف الدولة بمستوفى كان معه فقتله. وهرب سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الإخشيذ وسار على حاله إلى الجزيرة فدخل الرقة. ونيل: إنه أراد دخول حلب فمنعه أهلها. ودخل الإخشيذ حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، وقطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب وكانت عظيمة جداً. وقيل. إنها كانت من أكثر المدن شجراً. وأشعار الصنوبري تدل على ذلك. ونزل عسكر الإخشيذ على الناس بحلب، وبالغوا في أذى الناس لميلهم إلى سيف الدولة. وعاد الإخشيذ إلى دمشق بعد أن ترددت الرسل بينه وبين سيف الدولة. واستقر الأمر على أن أفرج الإخشيذ له عن حلب وحمص وأنطاكية. وقرر عن دمشق مالاً يحمله إليه في كل سنة. وتزوج سيف الدولة بابنة أخي الإخشيذ عبيد الله بن طغج، وانتظم هذا الأمر على يد الحسن بن طاهر العلوي وسفارته، في شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.

فسار الإخشيذ إلى دمشق وعاد سيف الدولة إلى حلب، وتوفي الإخشيذ بدمشق في ذي الحجة، من سنة أربع وثلاثين، وقيل: في المحرم من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وملك بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، واستولى على التدبير أبو المسك كافور الخادم. وكان سيف الدولة، فيما ذكر، قد عمل على تخلية الشام. فلما مات الإخشيذ سار كافور بعساكر مولاه إلى مصر من دمشق، وكان قد استولى على مصر رجل مغربي، فحاربه كافور، وظفر به. وخلت دمشق من العساكر، فطمع فيها سيف الدولة، وسار إليها فملكها واستأمن إليه يأنس المؤنسي في قطعة من الجيش. وأقام سيف الدولة، وجبى خراجها، ثم أتته والدته نعم أم سيف الدولة إلى دمشق، وسار سيف الدولة إلى طبرية. وكان سيف الدولة في بعض الأيام يساير الشريف العقيقي بدمشق، في الغوطة بظاهر البلد، فقال سيف الدولة للعقيقي: ما تصلح هذه الغوطة تكون إلا لرجل واحد. فقال له الشريف العقيقي: هي لأقوام كثير. فقال له سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين ليتبرأن أهلها منها. فأسرها الشريف في نفسه، وأعلم أهل دمشق بذلك. وجعل سيف الدولة يطالب أهل دمشق بودائع الإخشيذ وأسبابه، فكاتبوا كافوراً فخرج في العساكر المصرية، ومعه أنوجور بن الإخشيذ. فخرج سيف الدولة إلى اللجون، وأقام أياماً قريباً من عسكر الإخشيذ ب أكسال، فتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به

الإخشيذية، فزحفوا إليه. وركب سيف الدولة يتشرف، فرآهم زاحفين في تعبئة، فعاد إلى عسكره فأخرجهم، ونشبت الحرب فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك. وانهزم سيف الدولة إلى دمشق فأخذ والدته، ومن كان بها من أهله وأسبابه، وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالوقعة، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة خمس وثلاثين. وجاء سيف الدولة إلى حمص، وجمع جمعاً لم يجتمع له قط مثله، من بني عقيل، وبني نمير، وبني كلب، وبني كلاب، وخرج من حمص. وخرجت عساكر ابن طغج من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء وكانت الوقعة أولاً لسيف الدولة ثم آخرها عليه، فانهزم، وملكوا سواده، وتقطع أصحابه في ذلك البلد، فهلكوا وتبعوه إلى حلب، فعبر إلى الرقة. وانحاز يأنس المؤنسي من عساكر سيف الدولة إلى أنطاكية. ووصل ابن الإخشيذ حلب، في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. فأقام بها وسيف الدولة في الرقة فراسل أنوجور يأنس المؤنسي وهو بأنطاكية، وضمن هو وكافور ليأنس أن يجعلاه بحلب في مقابلة سيف الدولة. وضمن لهما يأنس بأن يقوم في وجه سيف الدولة بحلب، وأن يعطيهم ولده رهينة على ذلك فأجابوه. وانصرف كافور وأنوجور بالعسكر عن حلب إلى القبلة، وأتاها يأنس فتسلمها. وقيل: إن الإخشيذية عادوا. وأقام سيف الدولة بحلب، فحالف عليه يأنس والساجية، وأردوا القبض عليه، فهرب وكتابه، وأصحابه، إلى الرقة وملك يأنس حلب. ولم يقم يأنس بحلب إلا شهراً، حتى أسرى إليه سيف الدولة إلى حلب، في شهر ربيع الآخر، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فكبسه، فانهزم يأنس إلى سرمين يريد الإخشيذ. فأنفذ سيف الدولة في طلبه سرية مع إبراهيم بن البارد العقيلي، فأدركته عند ذاذيخ، فاتهزم، وخلى عياله، وسواده، وأولاده. وانهزم إلى أخيه بميافارقين.

وكان ابن البارد قد وصل إلى سيف الدولة، في سنة خمس وثلاثين، وكان في خدمة أخيه ناصر الدولة، ففارقه، وقدم على سيف الدولة. ثم إن الرسل ترددت بين سيف الدولة وابن الإخشيذ وتجدد الصلح بينهما على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه، دون المال المحمول عن دمشق. وعمر سيف الدرلة داره بالحلبة، وقلد أبا فراس ابن عمه منبج، وما حولها من القلاع. واستقرت ولاية سيف الدولة لحلب من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وهذه هي الولاية الثالثة. وجرى بينه وبين الروم وقائع أكثرها له وبضعها عليه. فمنها: أنه فتح حصن برزويه في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة من ابن اخت أبي الحجر الكردي. ووقع بينه وبين الروم وقعة فكانت الغلبة للروم وملكوا مرعش ونهبوا طرسوس. وسار إلى ميافارقين، واستخلف على حلب ابن أخيه محمد ابن ناصر الدولة، وخرج لاون الدمستق إلى بوقا من عمل أنطاكية. وخرج إليه محمد فكسره الدمستق، وقتل من عسكره خلقاً، في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. ومنها: أنه غزا، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ومعه خلق عظيم، فظفر فيها، وغنم غنيمة كثيرة. فلما رجع إلى درب الجوزات، وفارقه أهل الثغور، فاجتمع الروم في الدرب على سيف الدولة، فقتل خلق عظيم من المسلمين، وأسر كذلك.

وما سلم إلا سيف الدولة على ظهر فرسه، وعرفوه فطلبوه، ولزوه إلى جبل عظيم، وتحته واد، فخاف أن يأسروه إن وقف أو رجع، فضرب فرسه بالمهماز، وقبله الوادي، لكي يقتل نفسه، ولا يأسروه فوقع الفرس قائماً. وخرج سيف الدولة سالماً. وسميت هذه الغزاة غزاة المصيبة، وأخذ له من الآلات، والأموال، ما لا يحصى حتى أنه ذكر أنه هلك منه من عرض ما كان معه في صحبته خمسة آلاف ورقة بخط أبي عبد الله بن مقلة رحمه الله وكان منقطعاً إلى بني حمدان، وكان قد بلغ سيف الدولة إلى سمندو وأحرق صارخة وخرشنة. ومنها: أن سيف الدولة بنى مرعش في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وأتاه الدمستق بعساكر الروم ليمنعه منها فأوقع به سيف الدولة الوقعة العظيمة المشهورة. ومنها: أن سيف الدولة دخل بلد الروم، في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وأغار على زبطرة، والتقاه قسطنطين بن بردس الدمستق على درب موزار وقتل من الفريقين خلق. ثم تم سيف الدولة إلى الفرات، وعبره، وقصد بطن هنزيط، ودخل سيف الدولة سميساط، فخرج الدمستق إلى ناحية الشام، فرجع سيف الدولة، فلحقه وراء مرعش، فأوقع به، وهزم جيشه، وقتل لاون البطريق في الحرب، وأسر قسطنطين ولد الدمستق، وحمله الإبريق إلى بيت الماء، وكان أمرد، فخرج فوجده قائماً يبكي، ولم يزل عنده حتى مات من علة اعتلها.

وكان الدمستق استتر في تلك الوقعة في القناة ودخل فترهب، ولبس المسوح، ففي ذلك يقول المتنبي: فلو كان ينجي من علي ترهب ... ترهبت الأملاك مثنى وموحدا وقال أبو العباس أحمد بن محمد النامي: لكنه طلب الترهب خيفة ... ممن له تتقاصر الأعمار فمكان قائم سيفه عكازه ... ومكان ما يتمنطق الزنار وبنى سيف الدولة الحدث، وقصده الدمستق بردس، فاقتتلا سحابة يومهما. وكان النصر للمسلمين، وذلك في سنة ثلاث وأربعين، وأسر صهر الدمستق، على ابنته أعورجرم، بعد أن سلمها القلعة أهلها إلى الدمستق. ومنها: أن سيف الدولة غزا سنة خمس وأربعين بطن هنزيط ونزل شاطىء أرسناس، وكبس يانس بن شمشقيق على تل بطريق فهزمه وفتحها. وقتل في هذه الوقعة رومانوس بن البلنطس صهر ابن شمشقيق، وأسر ابن قلموط، وانثنى سيف الدولة قافلاً إلى درب الخياطين، فوجد عليه كذو بن الدمستق فأوقع به وهزمه. وخلف ابن عمه أبا العشائر الحسين بن علي على عمارة عرنداس فقصده

ليون بن الدمستق فهزمه، وأسره، وحمله إلى قسطنطينية، فمات بها. وغزا في هذه السنة في جمادى الآخرة مع أهل الثغور وخرب مواضع من بلاد الروم مثل خرشنة وصارخة. وأسر الرست بن البلنطس، وأسر لاون بن الأسطراطيغوس، وابن غذال بطريق مقدونية، وهرب الدمستق وبركيل بطريق الخالديات، فلما قفل سيف الدولة فك قيود الأسارى، وخلع عليهم، وأحسن إليهم. وفي جمادى الأولى من سنة ست وأربعين كاتب الروم جماعة من غلمان سيف الدولة بالقبض عليه، وحمله إلى الدمستق عند شخوصه لمحاربته، وبذل لهم مالاً عظيماً على ذلك. فخرج سيف الدولة عن حلب وقد عزموا على ذلك، فصار بعض الفراشين إلى ابن كيغلغ فأخبره بما عزموا عليه، فأعلم سيف الدولة، فجمع الأعراب والديلم، وأمرهم بالإيقاع بهم عند إعلامه إياهم بذلك، فأوقعوا بهم، وقتل منهم مائة وثمانون غلاماً وقبض على زهاء مائتي غلام، فقطع أيديهم وأرجلهم وألسنتهم، وهرب بعضهم. وعاد إلى حلب وقتل من بها من الأسرى، وكانوا زهاء أربعمائة أسير وضيق على ابن الدمستق، وزاد في قيده، وصيره في حجرة معه في داره، وأحسن إلى ذلك الفراش، وقلد ابن كيغلغ أعمالاً، وتنكر على سائر غلمانه. ومنها: أن يانس بن شمشقيق خرج إلى ديار بكر، ونزل على حصن اليماني. وعرف سيف الدولة خبره، فسير إليه نجا الكاسكي في عشرة آلاف فارس، فالتقاه فانهزم نجا، وقتل من أصحابه خمسة آلاف فارس، وأسر مقدار ثلاثة آلاف راجل، واستولى على سواد نجا كله. وسار ابن شمشقيق والبراكموس إلى حصن سميساط، وفتحاه، ثم سارا إلى رعبان، وحصراها، وسار سيف الدولة إليهما، ولقيهما، فاستظهر الروم عليه استظهاراً كثيراً.

وعاد سيف الدولة منهزماً وتبعه الروم وقتلوا، وسبوا من عشيرته وقواده ما يكثر عدده، وذلك في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. وفي هذه السنة قدم ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بن حمدان أخو سيف الدولة مستنجداً بأخيه سيف الدولة إلى حلب ومعه جميع أولاده عندما قصد معز الدولة الموصل. وتلقاه سيف الدولة على أربع فراسخ من حلب، ولما رآه ترجل له. وأنفق سيف الدولة عليه وعلى حاشيته، وقدم لهم من الثياب الفاخرة والجوهر ما قيمته ثلاثمائة آلف دينار. وكان يجلس ناصر الدولة على السرير ويجلس سيف الدولة دونه. ولما دخل دار سيف الدولة وجلس على السرير، جاء سيف الدولة لينزع خفه من رجله، فمدهما إليه، فنزعهما بيده. وصعب على سيف الدولة لأنه قدر أنه إذا خفض له نفسه إلى ذلك رفعه عنه، فلم يفعل ذلك إظهاراً لمن حضر أنه وإن ارتفعت حاله، فهو كالولد والتبع. وكان يعامله بأشياء نحو ذلك قبيحة كثيرة فيحتملها على دخن. وتحمل عنه سيف الدولة لمعز الدولة مائتي ألفاً من الدراهم حتى انصرف عنه. وفي هذه السنة 348 هـ مات قسطنطيني بن لاون ملك الروم، وصير نقفور ابن الفقاس دمستقاً على حرب المغرب، وأخاه ليون بن الفقاس دمستقاً، على حرب المشرق، فتجهز ليون إلى نواحي طرسوس، وسبى، وقتل، وفتح الهارونية، وسار إلى ديار بكر. وتوجه إليه سيف الدولة فرحل الدمستق راجعاً إلى الشام، وقتل من أهله عدداً

متوافراً، وأخرب حصوناً كثيرة من حصون المسلمين، وأسر محمد ين ناصر الدولة. ومنها: غزوة مغارة الكحل: غزا سيف الدولة في سنة ثمان وقيل تسع وأربعين وثلاثمائة بلاد الروم، فقتل، وسبى. وعاد غانماً يريد درب مغارة الكحل، فوجد ليون بن الفقاس الدمستق قد سبقه إلية، فتحاربوا فغلب سيف الدولة. وارتجع الروم ما كان أخذه المسلمون، وأخذوا خزانة سيف الدولة وكراعه وقتل فيها خلق كثير. وأسر أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وترك بخرشنة. وأسر علي بن منقذ بن نصر الكناني فلم يؤخذ له خبر. وأسر مطر بن البلدي، وقاضي حلب أبو حصين الرقي، وقتلا. وقيل: إن أبا حصين قتل في المعركة فداسه سيف الدولة بحصانه، وقال: لا رضي الله عنك، فإئك كنت تفتح لي أبواب الظلم. وقيل إنهم لما أخذوا الطرق على سيف الدولة وثب به حصانه عشرين ذراعاً. وقيل أربعين، فنجا في نفر قليل. وولى سيف الدولة، بعد قتل أبي حصين، أحمد بن محمد بن ماثل قضاء حلب، وكان قد عزله بأبي حصين حين ملك. وذلك أنه لما قدم حلب خرج للقائه أبو طاهر بن ماثل فترجل له أهل حلب، ولم يترجل القاضي لأحد، فاغتاظ سيف، الدولة وعزله. ثم قدم سيف الدولة من بعض غزواته فترجل له ابن ماثل مع التاس. فقال له: ما الذي منعك أولاً، وحملك ثانياً؟. فقال له: تلك المرة لقيتك وأنا قاضي المسلمين، وهذه الدفعة لقيتك، أنا أحد رعاياك فاستحسن منه ذلك. فلما قتل أبو حصين أعاده إلى القضاء. وولى سيف الدولة أيضاً قضاء حلب أبا

جعفر أحمد بن إسحاق بن محمد بن يزيد الحلبي المعروف بالحرد، وكان حنفى المذهب. وفي سنة 350 هـ نقل الملك رومانوس إلى حرب المشرق نقفور بن الفقاس الدمستق، فسار إليه رشيق النسيمي أمير طرسوس في حمية من المسلمين، فبرز إليه نقفور فقاتله، وانهزم رشيق وقتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل. وعاد نقفور فضايق عين زربه وفتحها بالأمان في ذي القعدة سنة خمسين وثلاثمائة، وهدم سورها فانهزم أهلها إلى طرسوس. وفتح حصن دلوك، ومرعش، ورغبان، في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. ثم إن نقفور بن الفقاس الدمستق ويانس بن شمشقيق قصدا مدينة حلب في هذه السنة، وسيف الدولة بها، وكانت موافاتهما كالكبسة. وقيل: إن عدة رجاله مائتا آلف فارس، وثلاثون آلف راجل بالجواشن، وثلاثون آلف صانع للهدم وتطريق الثلج، وأربعة آلاف بغل عليها حسك حديد، يطرحه حول عسكره ليلاً. ولم يشعر سيف الدولة بخبرهم، حتى قربوا منه. فأنفذ إليهم سيف الدولة غلامه نجا في جمهور عسكره، بعد أن أشار عليه ثقاته ونصحاؤه بأن لا يفارق عساكره. فأبى عليهم ومضى نجا بالعسكر إلى الأثارب. ثم توجه منها داخلاً إلى أنطاكية فخالفه عسكر الروم، ووصل إلى دلوك، ورحل منها إلى تل حامد، ثم إلى تبل.

واتصل خبره بسيف الدولة فعلم أنه لا يطيقه مع بعد جمهور العسكر عنه، فخرج إلى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم: عساكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب أن تغلقوا أبواب المدينة، وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري، وأعود إليكم وأكون من ظاهر البلد، وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء. فأبى عامة الحلبيين وغوغاؤهم، وقالوا: لا تحرمنا أيها الأمير، الجهاد، وقد كلن فينا من يعجز عن المسير إلى بلد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة. فلما رأى امتناعهم عليه، قال لهم: اثبتوا فإني معكم. وكان سيف الدولة على بانقوسا، ووردت عساكر الروم إلى الهزازة، فالتقوا فانهزم الحلبيون، وقتل وأسر منهم جماعة كثيرة، وقتل أبو داود بن حمدان، وأبو محمد الفياضي كاتب سيف الدولة، وبشرى الصغير غلام سيف الدولة، وكان أسند الحرب ذلك اليوم إليه، وجعله تحت لوائه. ومات في باب المدينة المعروف بباب اليهود ناس كثير لفرط الزحمة. وكان سيف الدولة راكباً على فرس له يعرف بالفحى، فانهزم مشرقاً حتى بعد عن حلب. ثم انحرف إلى قنسرين فبات بها. وأقام الروم على ظاهر البلدة أربعة أيام محاصرين لها فخرج شيوخ حلب إلى نقفور يسألونه أن يهب لهم البلد، فقال لهم: تسلمون إلي ابن حمدان. فحلفوا أن ابن حمدان ما هو في البلد. فلما علم أن سيف الدولة غائب عنها طمع فيها وحاصرها. وقيل: إن نقفور خرج إليه شيوخ حلب باستدعاء منه لهم، يوم الأثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة من السنة. وكان نزوله على المدينة، يوم السبت العشرين من ذي القعدة. وجرى بينه وبينهم خطاب آخره على أن يؤمنهم، ويحملوا إليه مالاً، ويمكنوا عسكره أن يدخل من باب ويخرج من آخر، وينصرف عنهم عن مقدرة. فقالوا له: تمهلنا الليلة حتى نتشاور، ونخرج غداً بالجواب ففعل، ومضوا، وتحدثوا، وخرجوا بكرة الثلاثاء إليه، فأجابوه إلى ما طلب. فقال لهم نقفور:

أظنكم قد رتبتم مقاتلتكم في أماكن مختفين بالسلاح حتى إذا دخل من أصحابي من يمكنكم أن تطبقوا عليه وتقتلوه فعلتم ذلك. فحلف له بعضهم من أهل الرأي الضعيف أنه ما بقي بالمدينة من يحمل سلاحاً، وفيه بطش، فكشفهم نقفور عند ذلك، فعند ذلك قال لهم: انصرفوا اليوم واخرجوا إلي غداً، فانصرفوا. وقال نقفور لأصحابه: قد علمتم أنه ما بقي عندهم من يدفع، فطوفوا الليلة بالأسوار ومعكم الآلة، فأي موضع رأيتموه ممكناً فتسوررا إليه، فإنكم تملكون الموضع. فطافوا، وكتموا أمرهم، وأبصروا أقصر سور فيها مما يلي الميدان بباب قنسرين، فركبوه، وتجمعوا عليه، وكان وقت السحر، وصاحوا، ودخلوا المدينة. وقيل: إن أهل حلب قاتلوا، من وراء السور، فقتل جماعة من الروم بالحجارة والمقالع، وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلتهم. وطمع الروم فيها فأكبوا عليها، ودفعهم الحلبيون عنها فلما جنهم الليل اجتمع عليها المسلمون، فبنوها، فأصبحوا وقد فرغت، فعلوا عليها وكبروا، فبعد الروم عن المدينة إلى جبل جوشن. فمضى رجالة الشرط وعوام الناس إلى منازل الناس، وخانات التجار، لينهبوها. فاشتغل شيوخ البلد عن حفظ السور، ولحقوا منازلهم، فرأى الروم السور خالياً، فتجاسروا، ونصبوا السلالم على السور، وهدموا بعض الأبدان، ودخلوا المدينة من جهة برج الغنم، ليلة الثلاثاء لثمان بقين من ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين. وقيل: يوم الثلاثاء آخر ذي القعدة، في السحر. وأخذ الدمستق منها خلقاً من النساء والأطفال، وقتل معظهم الرجال، ولم يسلم منه إلا من اعتصم بالقلعة من العلويين، والهاشميين والكتاب، وأرباب الأموال. ولم يكن على القلعة يومئذ سور عامر فإنها كانت قد تهدمت، وبقي رسومها. فجعل المسلمون الأكف والبراذع بين أيديهم.

وكانت بها جماعة من الديلم الذين ينصب إليهم درب الديلم بحلب، فزحف إليها ابن أخت الملك، فرماه ديلمي فقتله فطلبه من الناس فرموه برأسه، فقتل عند ذلك من الأسرى اثني عشر آلف أسير. وقيل أكثر من ذلك، وقيل أقل، والله أعلم. وأقام نقفور بحلب ثمانية أيام ينهب، ويقتل، ويسبي باطناً وظاهراً. وقيل: إنه أخرب القصر الذي أنشأه سيف الدولة بالحلبة، وتناهى في حسنه، وعمل له أسواراً، وأجرى نهر قويق فيه من تحت الخناقية، يمر من الموضع المعروف بالسقايات حتى يدخل في القصر من جانب، ويخرج من آخر، فيصب في المكان المعروف بالفيض، وبنى حوله اصطبلاً ومساكن لحاشيته. وقيل: إن ملك الروم وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمائة وتسعين بدرة دراهم، ووجد له ألفاً وأربعمائة بغل، فأخذها ووجد له من خزائن السلاح ما لا يحصى كثرة فقبض جميعها، وأحرق الدار، فلم تعمر بعد ذلك، وآثارها إلى اليوم ظاهرة. ويقال: إن سيف الدولة رأى في المنام أن حية قد تطوقت على داره فعظم عليه ذلك، فقال له بعض المفسرين: الحية في النوم ماء. فأمر بحفر يحفر بين داره وبين قويق، حتى أدار الماء حول الدار. وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات، فدخل على سيف الدولة فقال له كلاماً معناه: أن الروم تحتوي على دارك. فأمر به فدفع، وأخرج بعنف. وقضى الله سبحانه أن الروم خرجوا، ففتحوا حلب، واستولوا على دار سيف الدولة، فذكر معبر المنام أنه دخل على سيف الدولة بعد ما كان من أمر الروم، فقال له ما كان من أمر ذلك المنام الملعن. وكان المعتصمون بالقلعة، والروم بالمدينة تحت السماء ليس لهم ما يظلهم من

الهواء والمطر، ويتسللون في الليل إلى منازلهم فإن وجدوا شيئاً من قوت أو غيره أخذوه وانصرفوا. ثم إن نقفور أحرق المسجد الجامع وأكثر الأسواق، والدار التي لسيف الدولة، وأكثر دور المدينة. وخرج منها سائراً إلى القسطنطينية بعد أن ضرب أعناق الأسارى من الرجال، حين قتل ابن أخت الملك، وكانوا ألفاً ومائتي رجل. وسار بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها. وقال: هذا البلد قد صار لنا، فلا تقضروا في عمارته، فإنا بعد قليل نعود إليكم. وكان عدة من سبى من الصبيان والصبايا بضعة عشر آلف صبي وصبية، وأخذهم معه. وقيل: إن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وهي الفص المذهب إلى أن أحرقه الدمستق لعنه الله وإن سليمان ابن عبد الملك اعتنى به كما اعتنى أخوه الوليد بجامع دمشق. وسار الدمستق عنها، يوم الأربعاء مستهل ذي الحجة من سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. واختلف في السبب الذي أوجب رحيل نقفور عن حلب، فقيل: إنه ورد إليه الخبر أن رومانوس الملك وقع من ظهر فرسه في الصيد بالقسطنطينية، وانهم يطلبونه ليملكوه عليهم. وقيل: سبب رحيله أن نجا عاد بجمهور العسكر إلى الأمير سيف الدولة فاجتمع به. وجعل يواصل الغارات على عسكر الروم، وتبلغ غاراته إلى السعدي، وأنه أخذ جماعة من متعلفة الروم. واستنجد سيف الدولة بأهل الشام، فسار نحوه ظالم بن السلال العقيلي في أهل دمشق، وكان يليها من قبل الإخشيذية. فكان ذلك سبباً لرحيله عن حلب. وكان هذا نقفور بن الفقاس الدمستق، قد دوخ بلاد الإسلام، وانتزع من أيدي

المسلمين جملة من المدن، والحصون، والمعاقل، فانتزع الهارونية، وعين زربه كما ذكرناه وكذلك دلوك، وأذنة، وغير ذلك من الثغور. ونزل على أذنه في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين، ولقيه نفير طرسوس فهزمهم وقتل منهم مقدار أربعة آلاف، وانهزم الباقون إلى تل بالقرب من أذنة، فأحاط الروم بهم وقاتلوهم وقتلوهم بأسرهم. وهرب أهل أذنة إلى المصيصة وحاصرها نقفور مدة فلم يقدر عليها بعد أن نقب في سورها نقوباً عدة. وقلت الميرة عندهم فانصرف، بعد أن أحرق ما حولها. وورد في هذا الوقت إلى حلب انسان من أهل خراسان ومعه عسكر لغزو الروم،، فاتفق مع سيف الدولة على أن يقصدا نقفور وكان سيف الدولة عليلاً فحمل في قبة، فألفياه وقد رحل عن المصيصة. وتفرقت جموع الخراساني لشدة الغلاء في هذه السنة بحلب والثغور وعظم الغلاء والوباء في المصيصة وطرسوس حتى أكلوا الميتة. وعاد نقفور إلى المصيصة وفتحها بالسيف في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وفتح أيضاً كفربيا في هذه السنة ومرعش. وفتح طرسوس من أيدي المسلمين في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وكان المسلمون يخرجون في كل سنة ويزرعون الزرع فيأتي بعساكره فيفسده.

فضعفت، وتخلى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها وكان فيها فيما ذكر أربعون ألف فارس، وفي عتبة بابها أثر الأسنة إلى اليوم. فلما رأى أهلها ذلك راسلوا نقفور المذكور، فوصل إليهم، وأجابوه إلى التسليم. وقال لهم: إن كافوراً الخادم قد أرسل إليكم غلة عظيمة في المراكب، فإن اخترتم أن تأخذوها وأنصرف عنكم، في هذه السنة، فعلت. فقالوا: لا. واشترطوا عليه أن يأخذوا أموالهم. فأجابهم إلى ذلك إلا السلاح. ونصب رمحين جعل على أحدهما مصحفاً، وعلى الآخر صليباً. ثم قال لهم: من اختار بلد الإسلام فليقف تحت المصحف، ومن اختار بلد النصرانية فليقف تحت الصليب. فخرج المسلمون فحزروا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي، وانحازوا إلى أنطاكية. ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا؟ فقالوا: على منبر طرسوس فقال: لا ولكني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من ذلك. واستولى بعد موت سيف الدولة في سنة سبع وخمسين على كفر طاب، وشيزر، وحماة، وعرفة، وجبلة، ومعرة النعمان، ومعرة مصرين، وتيزين، ثم فتح أنطاكية في سنة ثمان وخمسين، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. وصارت وقعاته للروم والنصارى كالنزه والأعياد. وحكم في البلاد حكم ملوك الروم. ولما رجع عن حلب سار إلى القسطنطينية مغذاً فدخلها في صفر سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، فوجد رومانوس قد مات وجلس في الملك ولداه باسيل وقسطنطين وهما صبيان ووالدتهما تفانو تدبرهما. فلما وصل نقفور سلموا الأمر إليه فدبرهما مدة. ثم رأى أن استيلاءه على الملك أصوب، وأبلغ في الهيبة فلبس الخف الأحمر، ودعا لنفسه بالملك، وتحدث مع البطرك في ذلك، فأشار عليه أن يتزوج تفانو أم الصبيين، وأن يكون مشاركاً لهما في الملك، فاتفقوا على ذلك وألبسوه التاج. ثم خافت على ولديها منه، فأعملت الحيلة، ورتبت مع يانس بن شمشقيق أن

تتزوج به. وبات نقفور في البلاط في موضعه الذي جرت عادته به. فلما ثقل في نومه أدخلت يانس ومعه جماعة، وشكلت رجل نقفور فلما دخل يانس قام نقفور من نومه ليأخذ السيف فلم يستطع فقتله. ولم يتزوج بها يانس خوفاً منها. أما سيف الدولة فإنه لما رحل الروم عن حلب، عاد إليها ودخلها في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. وعمر ما خرب منها وجدد عمارة المسجد الجامع، وأقام سيف الدولة إلى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وسار إلى ديار بكر بالبطارقة الذين كانوا في أسره ليفادي بهم، وأخذهم نجا وسار إلى ميافارقين فاستولى عليها. فلما وصل سيف الدولة، قال: أروني نجا، فأروه إياه على برج، فوقف تحته، وقال: يا نجا فقال: لبيك يا مولانا فقال: انزل. فنزل في الوقت، وخدمه على رسمه، وخلع عليه، وسلم إليه البلد والبطارقة. وقتل نجا قتله غلام لسيف الدولة اسمه قبجاج بحضرته، وكان سيف الدولة عليلاً فأمر به فقتل قبجاج في الحال. وسار سيف الدولة بالبطارقة إلى الفداء، ففدى بهم أبا فراس ابن عمه، وجماعة من أهله، وغلامه رقطاش، ومن كان بقي من شيوخ الحمصيين والحلبيين. ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى بقية المسلمين من العدو كل رجل باثنين وسبعين ديناراً حتى نفد ما كان معه من المال. فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته الجوهر المعدومة المثل وكاتبه أبا القاسم الحسين بن علي المغربي جد الوزير، وبقي في أيدي الروم إلى أن مات سيف الدولة، فحمل بقية المال وخلص ابن المغربي.

ولما توجه سيف الدولة إلى الفداء. ولى في حلب غلامه وحاجبه قرغويه الحاجب في سنة أربع وخمسين، فخرج على أعمال سيف الدولة مروان العقيلي، وكان من مستأمنة القرامطة. وكان مروان مع سيف الدولة حين توجه إلى آمد. وأقام سيف الدولة بكل ما يحتاج إليه عسكره، وأنفذ إليه ملك الروم هدية سنية، فقتل مروان القرمطي رجلاً من أصحاب الرسول، فتلافى سيف الدولة ذلك، وسير إلى ملك الروم هدية سنية، وأفرد دية المقتول، واعتذر أن مروان فعل ذلك على سكر، فرد الهدية والتمس إيفاد القاتل، ليقيده به أو يصفح عنه، فلم يفعل، وانتقضت الهدنة، وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. وولى بعد ذلك مروان السواحل. فلما توجه سيف الدولة إلى الفداء سار إلى ناحية حلب، فأنفذ إليه قرغويه غلاماً له اسمه بدر فالتقيا غربي كفر طاب، فأخذه مروان أسيراً وقتله صبراً، وكسر العسكر وملك حلب. وكتب إلى سيف الدولة بأنه من قبله، فسكن إلى ذلك، وأخذ مروان في ظلم الناس بحلب، ومصادرتهم. فلم تطل مدته، وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، من ضربه ضربه بها بدر حين التقيا بلت، في وجهه. وعاد الحاجب قرغويه إلى خلافة سيف الدولة. وكان بأنطاكية رجل يقال له الحسن بن الأهوازي يضمن المستغلات لسيف الدولة، فاجتمع برجل من وجوه أهل الثغر يقال له رشيق النسيمي وكان من القواد المقيمين بطرسوس فاندفع إلى أنطاكية حين أخذ الروم طرسوس، وتولى تدبير

رشيق وأطمعه في أن سيف الدولة لا يعود إلى الشام. فطمع واتفق مع ملك الروم على أن يكون في حيزه، ويحمل إليه عن أنطاكية في كل سنة ستمائة ألف درهم. وكان بأنطاكية من قبل سيف الدولة تنج اليمكي أو الثملي، فسار رشيق نحوه فوثب أهل أنطاكية على تنج، فأخرجوه، وسلموا البلد إلى رشيق. فأطمع ابن الأهوازي رشيقاً بملك حلب، لعلمه بضعف سيف الدولة، واشتغاله بالفداء. وعمل له ابن الأهوازي كتاباً ذكر أنه من الخليفة ببغداد، بتقليده أعمال سيف الدولة، فقرئ على منبر أنطاكية. واجتمع لابن الأهوازي جملة من مال المستغل، وطالب قوماً بودائع ذكر أنها عندهم، واستخدم بتلك الأموال فرساناً ورجالة، واستأمن إليه دزبر بن أوينم الديلمي وجماعة من الديلم الذين كانوا مع الحاجب قرغويه بحلب. فحصل مع رشيق نحو خمسة آلاف رجل، فسير إليه الحاجب غلامه يمين في عسكر. فخرج إليه رشيق من أنطاكية، والتقوا بأرتاح، فاستأمن يمن إلى رشيق ومضى عسكره إلى حلب، وتوجه رشيق إلى حلب، ونازل حلب، وزحف على باب اليهود، فخرج إليه بشارة الخادم في جماعة، فقاتل إلى الظهر، وانهزم بشارة ودخل من باب اليهود ودخلت خيل رشيق خلفه. واستولى رشيق على المدينة في اليوم الأول من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. ونادوا بالأمان للرعية، وقرؤوا كتاباً مختلفاً عن الخليفة بتقليد رشيق أعمال سيف الدولة، وأقام رشيق يقاتل القلعة ثلاثة أشهر وعشرة أيام. وفتح باب الفرج، ونزل غلمان الحاجب من القلعة فحملوا على أصحاب رشيق، فهزموها وأخرجوهم من المدينة. فركب رشيق ودخل من باب أنطاكية، فبلغ إلى القلانسيين وخرج من باب قنسرين، ومضى إلى باب العراق. فنزل غلمان الحاجب، وخرجوا من باب الفرج وهو الباب الصغير.

ووقع القتال بينهم وبين أصحاب رشيق، فطعن ابن يزيد الشيباني رشيقاً فرماه وكان ممن استأمن من عسكر سيف الدولة إلى رشيق، وأخذ رأسه، ومضى به إلى الحاجب قرغويه، وعاد الحاجب إلى حالته في خلافة الأمير سيف الدولة. وعاد عسكر رشيق إلى أنطاكية فرأسوا عليهم دزبر بن اوينم الديلمي، وعقدوا له الإمارة، واستوزر أبا علي بن الأهوازي، وقبل كل من وصل إليه من العرب والعجم. وسار إليه الحاجب قرغويه إلى أنطاكية، فأوقع به دزبر، ونهب سواده، وانهزم قرغويه وقد استأمن أكثر أصحابه إلى دزبر، فتحصن بقلعة حلب، وتبعه دزبر فملكها في جمادى الأولى من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وأقام بها وابن الأهوازي بعسكره في حاضر قنسرين، وجمع إليه بني كلاب، وجبى الخراج من بلد حلب وحمص، وفوض إلى القضاة، والولاة، والشيوخ، والعمال الأعمال والولايات. وجاء سيف الدولة فدخل حلب وعسكره ضعيف فبات بها وخرج إلى دزبر وابن الأهوازي. وكان سيف الدولة قد فلج وبطل شقه الأيسر فالتقوا شرقي حلب ب سبعين. فغدرت بنو كلاب بدزبر وابن الأهوازي حين نظروا إلى سيف الدولة، واستأمنوا إليه، فآمنهم، ووضع السيف في عسكر دزبر وضع محنق مغيظ فقتل جمعاً كثيراً، وأسر خلقاً، فقتلهم صبراً. وكان فيهم جماعة ممن اشتراه بماله من الروم، فسبقوه إلى الشام، وقبضوا الرزق من ابن الأهوازي، وجعلوا يقاتلونه، فما أبقى على أحد منهم. وحصل دزبر وابن الأهوازي في أسره. فأما دزبر فقتله ليومه، وأما ابن الأهوازي فاستبقاه أياماً ثم قتله.

ثم أن سيف الدولة قويت علته بالفالج، وكان بشيزر، فوصل إلى حلب فأقام بها يومين أو ثلاثة. وتوفي يوم الجمعة العاشر من صفر من سنة ست وخمسين وثلاثمائة. وقيل: توفي بعسر البول وحمل تابوته إلي ميافارقين فدفن بها في تربته. وكان على قضاء حلب إذ ذاك في غالب ظني أبو جعفر أحمد بن إسحاق ابن محمد بن يزيد الحنفي، بعد أحمد بن محمد بن ماثل. وينسب إلى سيف الدولة أشعار كثيرة، لا يصح منها له غير بيتين، ذكر أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كاتبه وهو جد الوزير أبي القاسم المغربي أنهما لسيف الدولة. ولم يعرف له غيرهما. وكتب بهما إلى أخيه ناصر الدولة وقد مد يده إلى شيء من بلاده المجاورة له، من ديار بكر، وكانت في يد أخيه: لست أجفو وإن جفيت ولا أت ... رك حقاً علي في كل حال إئما أنت والد والأب الجا ... في يجازى بالصبر والإحتمال ووزر لسيف الدولة أبو إسحاق القراريطي، ثم صرفه وولى وزارته أبا عبد الله محمد بن سليمان بن فهد ثم غلب على أمره أبو الحسين علي بن الحسين المغربي أبو الوزير أبي القاسم ووزر له.

القسم السادس حلب في أيام سعد الدولة الحمداني 356 - 381 هجرية

القسم السادس حلب في أيام سعد الدولة الحمداني 356 - 381 هجرية وقام بالأمر بحلب الحاجب قرغويه غلام سيف الدولة، من قبل ابن سيف الدولة، فبقي بها إلى أن مضى غلمان سيف الدولة إلى ميافارقين، فأحضروا ابنه سعد الدولة أبا المعالي شريف بن علي بن عبد الله بن حمدان، وكان مع والدته أم الحسن ابنة أبي العلاء سعيد بن حمدان بها. فدخل حلب، يوم الأثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول، من سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وزينت له المدينة، وعقدت له القباب، وجلس على سرير أبيه، وجلس الحاجب قرغويه على كرسي، والمدبر لدولته وزيره أبو إسحاق محمد بن عبد الله بن شهرام كاتب أبيه. وقبض أبو تغلب بن ناصر الدولة بن عبد الله بن حمدان على أبيه ناصر الدولة، في هذه السنة، فامتعض حمدان بن ناصر الدولة لذلك وعصى على أخيه بالرقة والرحبة. فسار أبو تغلب إليه إلى الرقة، وحصره فيها إلى أن صالحه على أن يقتصر على الرحبة، ويسلم إليه الرحبة والرافقة. وكتب لأبي تغلب توقيع بتقليده أعمال ناصر الدولة وسيف الدولة من المطيع، وهو بالرقة. وكأن قرغويه قد جاء إلى خدمته، وهو يحاصر أخاه، فلما صالح أخاه قدم حلب جريدة، وزار ابن عمه سعد الدولة، وعاد إلى الموصل. وأقام سعد الدولة إلى أن تجدد بينه وبين ابن عمه أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وهو خاله وحشة وكان بحمص.

فتوجه سعد الدولة إليه، فانحاز إلى صدد، ونزل سعد الدولة بسلمية، وجمع بين كلاب وغيرهم وقدم الحاجب قرغويه وبني كلاب على مقدمته، مع قطعة من غلمان أبيه، فتقدموا إلى صدد. فخرج إليهم أبو فراس وناوشهم، واستأمن أصحابه، واختلط أبو فراس بمن استأمن. فأمر قرغويه بعض غلمانه بالتركية بقتله، فضربه بلت مضرس، فسقط، ونزل فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة. وبقيت جثته مطروحة بالبرية، حتى كفنه رجل من الأعراب، وذلك في شهر ربيع من سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. ولطمت أمه سخية حتى قلعت عينها عليه، وكانت أم ولد. وفي سنة 357 هـ خرج في هذه السنة فاثور للروم في خمسة آلاف فارس وراجل، فصار إلى نواحي حلب، فواقعه قرغويه بعسكر حلب، فأسر قرغويه، ثم أفلت، وانهزم أصحابه، وأسر الروم جماعة من غلمان سيف الدولة. ثم إن نقفور ملك الروم خرج إلى معرة النعمان ففتحها، وأخرب جامعها وأكثر دورها، وكذلك فعل بمعرة مصرين، ولكنه أمن أهلها من القتل، وكانوا ألفاً ومائتي نفس، وأسرهم، وسيرهم إلى بلد الروم. وسار إلى كفر طاب وشيزر، وأحرق جامعها، ثم إلى حماة ففعل كذلك، ثم إلى حمص، وأسر من كان صار إلى تلك الناحية من الجفلة. ووصل إلى غرقة ففتحها وأسر أهلها، ثم نفذ إلى طرابلس وكان أهلها قد أحرقوا ربضها، فانصرف إلى جبلة ففتحها، ومنها إلى اللاذقية، فانحدر إليه أبو

الحسين علي بن إبراهيم بن يوسف الفصيص. فوافقه على رهائن تدفع إليه منها، وانتسب له فعرف نقفور سلفه، وجعله سردغوس. وسلم أهل اللاذقية. وانتهى إلى أنطاكية، وفي يده من السبي مائة ألف رأس، ولم يكن يأخذ إلا الصبيان والصبايا والشباب، فأما الكهول والمشايخ والعجائز فمنهم من قتله ومنهم من تركه. وقيل بأنه فتح في هذه الخرجة ثمانية عشر منبراً. وأما القرى فلا يحصى عدد ما أخرب منها وأحرق، ونزل بالقرب من أنطاكية، فلم يقاتلهم، ولم يراسلهم بشيء. وبنى حصن بغراس مقابل أنطاكية ورتب فيه ميخائيل البرجي، وأمر أصحاب الأطراف بطاعته. وتحدث الناس أنه يريد أن ينازل أنطاكية طول الشتاء، وينفذ إلى حلب أيضاً من ينازلها. فأشار الحاجب قرغويه على سعد الدولة أن يخرج من حلب، ولا يتحاصر فيها، فخرج إلى بالس فسير إليه قرغويه، وقال له: امض إلى والدتك، فإن أهل حلب لا يريدونك، ولا يتركونك تعود إليهم. وحالف قرغويه أهل حلب على سعد الدولة، وتقرب إليهم بعمارة القلعة وتحصينها، وعمارة أسوار البلدة وتقويتها فيئس سعد الدولة من حلب، ومضى أكثر أصحابه إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة. وقطع قرغويه الدعاء لسعد الدولة، فعمل على قصد حران والمقام بها، فمنعه أهلها منها، وراسلهم، ووعدهم بالجميل فلم يستجيبوا له، فسألهم أن يتزود منها يومين، فأذنوا له في ذلك. فمضى إلى والدته إلى ميافارقين، وحران شاغرة يدبرها أهلها، ويخطبون لأبي المعالي سعد الدولة. ولما قرب أبو المعالي من ميافارقين بلغ والدته أن غلمانه وكتابه عملوا على القبض عليها وحملها إلى القلعة، كما فعل أبو تغلب بناصر الدولة، فطردت الكتاب،

وأغلقت أبواب المدينة في وجه ابنها ثلاثة أيام حتى استوثقت منه، وفتحت له. وحين علم ملك الروم بتقوية قرغويه لحلب دخل بلاده. وأما قرغويه فاستولى على حلب في المحرم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وأمر غلامه بكجور وشاركه في الأمر ودعي لهما على المنابر في عمله. وكتب اسم بكجور على السكة. وكان يخاطب قرغويه بالحاجب، وغلامه بكجور بالأمير. وحصل زهير غلام سيف الدولة بمعرة النعمان، وكان واليها، وانضاف إليه جماعة من غلمان سيف الدولة. فأقاموا الدعوة بالمعرة لسعد الدولة وكاتبوا مولاهم سعد الدولة أبا المعالي واستدعوه إلى الشام، فسار ونزل منبج، فاجتمعوا معه. ونزلوا على حلب في شهر رمضان من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وحاصروا قرغويه وبكجور. وجرت بينهم حروب يطول ذكرها. وكتب قرغويه إلى الروم، فاستدعى بطريقاً كان في أطراف بلد الروم لنجدته، وهو خادم كان لنقفور ويعرف بالطربازي، فسار نحوه، ثم عدل إلى أنطاكية، وذلك أن ملك الروم لما نزل ببوقا، ومعه السبي والغنائم على ما ذكرناه توافق هو وأهلها، وكانوا نصارى في أن ينتقلوا إلى أنطاكية، ويظهروا أنهم إنما انتقلوا خوفاً من الروم، حتى إذا حصلوا بها، وصار الروم إلى أنطاكية وافقوهم على فتحها. ففعلوا ذلك ووافقوا نصارى أنطاكية، وكاتبوا الطربازي حين خرج بأن أنطاكية خالية، وليس بها سلطان. وكان أهلها من المسلمين قد ضيعوا سورها، وأهملوا حراستها فجاء الروم إليها مع الطربازي ويانس بن شمشقيق، في أربعين ألفاً. فأحاطوا بأنطاكية، وأهل بوقا على أعلى السور في جانب منه، فنزلوا وأخلوا السور، فصعده الروم وملكوا البلد، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين.

ودخل الروم فأحرقوا وأسروا، وكانت ليلة الميلاد. فلما طلع الروم على جبلها، جعلوا يأخذون الحارس فيقولون له: كبر وهلل، فمن لم يفعل قتلوه، فكان الحراس يهللون ويكبرون، والناس لا يعلمون بما هم فيه، حتى ملكوا جميع أبرجتها، وصاحوا صيحة واحدة، فمن طلب باب الجنان قتل أو أسر. واجتمع جماعة إلى باب البحر فبردوا القفل فسلموا، وخرجوا وبنوا قلعة في جبلها، وجعلوا الجامع صيرة للخنازير ثم إن البطرك جعله بستاناً. ثم إن الطربازي سار إلى حلب، منجداً لقرغويه وبكجور، وأبو المعالي محاصر لهما فانحاز أبو المعالي شريف عن حلب إلى خناصرة، ثم إلى معرة النعمان. فطمع الروم بحلب فنازلوها وهجموا المدينة من شماليها، وحصروا القلعة. فهادنهم قرغويه على حمل الجزية، عن كل صغير وكبير من سكان المواضع التي وقعت الهدنة عليها، دينار، قيمته ستة عشر درهماً إسلامية، وأن يحمل إليهم، في كل سنة عن البلاد التي وقعت الهدنة عليها سبعمائة ألف درهم. والبلاد: حمص، وجوسية، وسلمية، وحماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وحلب، وجبل السماق، ومعرة مصرين، وقنسرين،

والأثارب إلى طرف البلاط الذي يلي الأثارب وهو الرصيف، إلى أرحاب، إلى باسوفان، إلى كيمار، إلى برصايا، إلى المرج الذي هو قريب عزاز، ويمين الحد كله لحلب، والباقي للروم. ومن برصايا يميل إلى الشرق، ويتصل وادي أبي سليمان إلى فج سنياب، إلى نافوذا، إلى أوانا، إلى تل حامد إلى يمين الساجور، إلى مسيل الماء إلى أن يمضي ويختلط بالفرات. وشرطوا أن الأمير على المسلمين قرغويه، والأمر بعده لبكجورة وبعدهما ينصب ملك الروم أميراً يختاره من سكان حلب. وليس للمسلمين أن ينصبوا أحداً، ولا يؤخذ من نصراني جزية في هذه الأعمال، إلا إذا كان له بها مسكن أو ضيعة. وإن ورد عسكر إسلامي يريد غزو الروم منعه قرغويه، وقال له: امض من غير بلادنا، ولا تدخل بلد الهدنة. فإن لم يسمع أمير ذلك الجيش قاتله، ومنعه، وإن عجز عن دفعه كاتب ملك الروم والطربازي لينفذ إليه من يدفعه. ومتى وقف المسلمون على حال عسكر كبير كتبوا إلى الملك وإلى رئيس العسكر، وأعلموهما به لينظروا في أمرهما. وإن عزم الملك أو رئيس العسكر على الغزاة إلى بلد الإسلام، تلقاه بكجور إلى المكان الذي يؤمر بتلقيه إليه، وأن يشيعه في أعمال الهدنة، ولا يهرب من في الضياع ليبتاع العسكر الرومي ما يحتاجون إليه، سوى التبن، فإنه يؤخذ منهم على رسم العساكر بغير شيء. ويتقدم الأمير بخدمة العساكر الرومية إلى الحدث فإذا خرجت من الحد عاد الأمير إلى عمله، وإن غزا الروم غير ملة الإسلام سار إليه الأمير بعسكره، وغزوا معه كما يأمر.

وأي مسلم دخل في دين النصرانية فلا سبيل للمسلمين عليه، ومن دخل من النصارى في ملة الإسلام فلا سبيل للزوم عليه. ومتى هرب عبد مسلم أو نصراني، ذكراً كان أو أنثى، من غير الأعمال المذكورة إليها، لا يستره المسلمون، ويظهرونه، ويعطى صاحبه ثمنه عن الرجل ستة وثلاثون ديناراً، وعن المرأة عشرون ديناراً رومية، وعن الصبي والصبية خمسة عشر ديناراً فإن لم يكن له ما يشتريه أخذ الأمير من مولاه ثلاثة دنانير وسلمه إليه. فإن كان الهارب معمداً فليس للمسلمين أن يمسكوه، بل يأخذ الأمير حقه من مولاه، ويسلمه إليه. وإن سرق سارق من بلاد الروم، وأخفى هارباً أنفذه الأمير إلى رئيس العسكر الرومي ليؤدبه. وإن دخل رومي إلى بلد الإسلام فلا يمنع من حاجته. وإن دخل من بلد الإسلام جاموس إلى بلد الروم أخذ، وحبس. ولا يخرب المسلمون حصناً ولا يحدثوا حصناً فإن خرب شيء أعادوه. ولا يقبل المسلمون أميراً مسلماً ولا يكاتبوا أحداً غير الحاجب وبكجور. فإن توفيا لم يكن لهم أن يقبلوا أميراً من بلاد الإسلام، ولا يلتمسوا من المسلمين معونة، بل ينصب لهم من يختاره من بلاد الهدنة. وينصب لهم الملك بعد وفاة الحاجب وبكجور قاضياً منهم، يجري أحكامهم على رسمهم. وللروم أن يعمروا الكنائس الخربة في هذه الأعمال، ويسافر البطارقة والأساقفة إليها، ويكرمهم المسلمون. وإن العشر الذي يؤخذ من بلد الروم، يجلس مع عشار الملك مع عشار قرغويه، وبكجور فمهما كان من التجارة من الذهب، والفضة، والديباج الرومي، والقز غير معمول، والأحجار، والجوهر، واللؤلؤ، والسندس عشرة عشار الملك. والثياب والكتان، والمزبون، والبهائم، وغير ذلك من التجارات يعشره عشار الحاجب وبكجور بعده، وبعدهما يعشر ذلك كله عشار الملك. ومتى جاءت قافلة من الروم، تقصد حلب، يكتب الزروار المقيم في الطرف

إلى الأمير ويخبره بذلك لينفذ من يتسلمها، ويوصلها إلى حلب. وإن قطع الطريق عليها بعد ذلك، فعلى الأمير أن يعطيهم ما ذهب. وكذلك إن قطع على القافلة أعراب أو مسلمون في بلد الأمير، فعلى الأمير غرامة ذلك. وحلف على ذلك جماعة من شيوخ البلد مع الحاجب وبكجور وسلم إليهم رهينة من أهل حلب: أبو الحسن بن أبي أسامة، وكسرى بن كسور وابن أخت ابن أبي عيسى، وأخو أبي الحسن الخشاب، وأبو الحسن بن أبي طالب، وأبو الطيب الهاشمي، وأبو الفرج العطار، ويمن غلام قرغويه. وكان المتوسط في هذه الهدنة رجل هاشمي من أهل حلب يقال له طاهر. وعادت الروم عن حلب، وبقي الحاجب قرغويه في ولايتها، والتدبير إليه وإلى غلامه بكجور وذلك في صفر من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وأقام سعد الدولة أبو المعالي بمعرة النعمان ثلاث سنين، وراسله الحاجب وبكجور ومشايخ حلب، في سنة ثمان وخمسين، على أن يؤدي إلى الروم قسطاً من مال الهدنة. وكان القيم بأمر أبي المعالي وعسكره رقطاش غلام سيف الدولة، وكان قد نزل إليه من حصن برزويه، وحمل إليه غلة عظيمة وعلوفة وطعاماً ووسع على عسكره بعد الضائقة. ولم يؤد سعد الدولة ما هو مقرر من مال الهدنة على البلاد التي في يده. فخرج الروم وهجموا حمص على غفلة. وقيل: إن سعد الدولة استولى على حلب في سنة ثلاث وستين، ووصله في شهر ربيع الأول رسول العزيز وأبو القاسم أحمد بن إبراهيم الرسي من مصر فأقام الدعوة له بحلب في هذه السنة، وأرسل معه إلى مصر في جواب الرسالة قاضي حلب، وأظنه ابن الخشاب الهاشمي. ووصل إليه بكجور من حلب وهو بحمص، فخلع عليه أبو المعالي، وولاه حلب، وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر عملها فوافق بكجور غلمان سيف الدولة على القبض على مولاه قرغويه وقصد أبي المعالي، وقلعه من حمص، فقبض عليه. وسار أبو المعالي إلى حلب.

وقيل: دام الأمر بحلب مردوداً إلى قرغويه وبكجور، فأحب الأمير أبو الفوارس بكجور الحاجبي الكاسكي التفرد بالأمر دون مولاه، وحدث نفسه بالقبض عليه، فقبض عليه وغدر به، في ذي الحجة من سنة أربع وستين وثلاثمائة. واستولى على حلب، وانفرد بالأمر، وجعل الحاجب محبوساً بقلعة حلب. وكان سعد الدولة إذ ذاك بحمص، فحين علم بذلك طمع بحلب، فتوجه إليها ومعه بنو كلاب، بعد أن أقطعهم بحمص الإقطاع المعروف بالحمصي، فنزل بهم على معرة النعمان، وبها زهير الحمداني، وقد استولى عليها، وعصى على مولاه، ففتح باب حناك، ودخلوا منه فقاتلهم زهير، وأخرجهم. ثم أحرقوا باب حمص، فخرج زهير مسلماً نفسه بعد أن حلف كبار الحمدانية أنهم لا يمكنوا أبا المعالي منه. فلما حصل معه غدر به فتغيرت وجوه الحمدانية، فأمرهم بنهب الحصن فنبهوا ما فيه، وأنفذ زهيراً إلى حصن أفامية، فقتل هناك. وسار أبو المعالي، ونزل بهم على باب حلب: وحاصرها مدة فاستنجد بكجور بالروم، وضمن لهم تسليم حلب وأموالاً كثيره، فتخلوا عنه. وكان نقفور لعنه الله قد قتل على ما شرحناه. وجد سعد الدولة في حصارها والقتال، فسلم إليه بعض أهل البلد المرتبين في مراكز البلد برج باب الجنان، ورميت أبواب الحديد، وفتحها بالسيف فلم يرق فيها دماً وأمن أهلها. وانهزم بكجور إلى القلعة فاستعصى بها، وذلك في رجب من سنة خمس وستين وثلاثمائة. ثم أقام سعد الدولة يحاصر لقلعة مدة حتى نفد ما فيها من القوت، فسلمها بكجور إليه، في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وستين وثلاثمائة. وولى سعد الدولة بكجور حمص وجندها وكان تقرير أمر بكجور بين سعد الدولة وبينه، على يد أبي الحسن علي بن الحسين بن المغربي الكاتب، والد الوزير أبي القاسم.

واستقر أمر سعد الدولة بحلب، وجدد الحلبيون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين. وغير سعد الدولة الأذان بحلب، وزاد فيه: حي على خير العمل، محمد وعلي خير البشر. وقيل: إنه فعل ذلك في سنة تسع وستين وثلاثمائة، وقيل: سنة ثمان وخمسين. وسير سعد الدولة في سنة سبع وستين وثلاثمائة الشريف أبا الحسن اسماعيل بن الناصر الحسني يهنىء عضد الدولة بدخوله مدينة السلام، وانهزام بختيار بين يديه، فوجه إليه بتكنية الطائع، ووصلته خلعة منه ولقب بسعد الدولة فلبس الخلعة. ووصل معها خلع من عضد الدولة أيضاً وخاطبه في كتابه: بسيدي، ومولاي، وعدتي فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النامي بقصيدة أولها: هوى في القلب لاعجه دخيل وكان أبو صالح بن نانا الملقب بالسديد قد وزر لسعد الدولة، فانفصل عنه في سنة إحدى وسبعين، ومضى إلى بغداد فاستوزر مكانه أبا الحسن بن المغربي. ونزل بردس الفقاس الدمستق على حلب، في شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين، ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله. وطالب سعد الدولة بمال الهدنة، وترددت المراسلة بينهما، واستقر الأمر على أن يحمل إلى الروم كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة، ورحل في اليوم الخامس من وصوله. وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، نزل بردس الدمستق عل باب حلب في خمسمائة ألف ما بين فارس وراجل، وكان قد ضمن لباسيل وقسطنطين ملكي الروم الأخوين أن يفتتح حلب، وينقض سورها حجراً حجراً وأنه يحمل سبيها إلى القسطنطينية.

واحتفل جمعاً وحشد من المجانيق والعرادات ما لا يحصى كثرة. وأقام بالحدث أياماً، يرهب الناس، ويهول عليهم، وسعد الدولة بحلب غير محتفل به. ثم إنه أقبل وعلى مقدمته ملك الجزرية تريثاويل، وعلى ميمنته وميسرته البطارقة في الحديد السابغ، فارتاع الناس لذلك، وبث سراياه، وسعد الدولة قد أمر الغلمان بلبس السلاح، فدام على هذا ثلاثة أيام، ثم صف لقتال البلدة وسعد الدولة لا يخرج إليه أحداً حتى استحكم طمعه. ثم إنه أمر غلمانه بالخروج إليهم في اليوم السابع، فحملوا حملة لم ير أشد منها وقتلوا فيها ملك الجزرية تريثاويل، وكان عمدة عسكرهم، فعند ذلك اشتد القتال. وأمر سعد الدولة عسكره بالخروج إليه، فالتقوا في الميدان فرجع عسكره أقبح رجوع، وعليه الكآبة، وسير سعد الدولة جيشه خلفه غازياً حتى بلغت عساكره أنطاكية. وكان الجيش مع وزيره أبي الحسن علي بن الحسين بن المغربي، فافتتح في طريقه دير سمعان عنوة بالسيف، وخرب دير سمعان، وكان بنية عظيمة وحصناً قوياً وقد ذكر لنا ذلك الواساني في بعض شعره. وقيل: إن الدمستق رأى في نومه المسيح، وهو يقول له مهدداً: " لا تحاول أخذ هذه المدينة، وفيها ذلك الساجد على الترس. وأشار إلى موضعه في البرج الذي بين باب قنسرين، وبرج الغنم في المسجد المعروف بمشهد النور. فلما أصبح ملك الروم سأل عنه فوجده ابن أبي نمير عبد الرزاق بن عبد السلام العابد الحلبي، وكان ذلك سبباً لرحيله عن حلب. وقيل: إنه صالح أهل حلب ورحل. وقيل: هذا كان في نزول أرومانوس على تبل، سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. وكان ابن أبي نمير من الأولياء الزهاد والمحدثين العلماء وتو في بحلب في سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وقبره بباب قنسرين. ويحتمل أن يكون في سنة إحدى وسبعين، حين نزل بردس على حلب ورحل

عنها عن صلح، في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فطلب من العزيز أن يوليه دمشق، وكاتب العزيز في إنفاذ عسكر ليأخذ له حلب، فأنفذ إليه عسكراً، فنزل على حلب إلى أن نزل الدمستق أنطاكية، فخاف أن يكبسه، فرحل عنها. ولما يئس الدمستق من حلب، وخاف على نفسه أن يقتله ملك الروم، خرج إلى جهة حمص، فهرب بكجور من حمص إلى جوسية، فكاتب الدمستق أهل حمص بالأمان، وأظهر لهم أنه يسير إلى دمشق، وأنه مهادن لجميع أعمال سعد الدولة، فاطمأنوا إلى ذلك، وأمرهم بإقامة الزاد والعلوفة. وهجم حمص في ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وأحرق الروم الجامع، وكثيراً من البلد. وكان استوحش أبو المعالي من بكجور، فأمره أن يترك بلده ويمضي. وصعد بكجور إلى دمشق فوليها في هذه السنة أعني سنة ثلاث من قبل المصريين، وجار على أهل دمشق، وظلم، وجمع الأموال لنفسه، فجرد إليه عسكر من مصر مع منير الخادم في سنة ثمان وسبعين. وكان بكجور يخاف من أهل دمشق لسوء سيرته، فبعث بعض عسكره، فكسره منير، فأرسل إليه بكجور وبذل له تسليم دمشق، والإنصراف عنها فأجابه إلى ذلك، فرحل عن دمشق متوجهاً إلى حوارين، في شهر رجب من سنة ثمان وسبعين. ومضى إلى الرقة، وأقام فيها الدعوة للمصريين. وكان سعد الدولة قد انتمى إلى المصريين، وأقام الدعوة لهم بحلب، في سنة ست وسبعين وثلاثمائة ووصلته خلع العزيز أبي المنصور، في شعبان من هذه السنة فلبسها.

ومات الأمير قرغويه بحلب في سنة ثمانين وثلاثمائة. ثم إن بكجور قوي أمره واستفحل، وأخذ إليه أبا الحسن علي بن الحسين المغربي، واستوزره لمباينة حصلت بينه وبين سعد الدولة وعاث على أعمال سعد الدولة، وجمع إليه بني كلاب، واستغوى بني نميرة فبرز مضرب الأمير سعد الدولة، يوم السبت الثاني والعشرين من محرم سنة إحدى وثمانين، إلى ظاهر باب الجنان. وسار يوم السبت سلخ المحرم، على أربع ساعات، وقد كان بكجور سار إلى بالس، وحاصر من كان بها فامتنعوا عليه، فقصده سعد الدولة، والتقوا على الناعورة، في سلخ المحرم من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وهزم بكجور، وهرب، واختفى عند رحا القديمي على نهر قويق، وبث سعد الدولة الناس خلفه، وضمن لمن جاء به شيئاً وافراً، فظفر به بعض الأعراب، وأتى به إلى سعد الدولة، فضرب عنقه صبراً بين يديه، ببندر الناعورة، وصلبه على سبع ساعات من يوم الأحد مستهل صفر. ورحل سعد الدولة يوم الثلاثاء إلى بالس فوجد بكجور قد أخرب ربضها، فأقام بها أربعة أيام. ورحل حتى أتى الرقة، وبها حرم بكجور وأمواله وأولاده فتلقاه أهل الرقة بنسائهم، ورجالهم، وصبيانهم، فأقام بقية يومه. ونزل أهل الرقة، فاحتاطوا بحرم بكجور وأولاده فآمنهم سعد الدولة، في اليوم التاسع من صفر، وتنجزت أمورهم إلى يوم الخميس الثاني عشر منه. ورضي عن أولاده، واصطنعهم، ووهب لهم أموال بكجور، وحلف لهم على ذلك، فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النامي بقصيدة أولها: غرائز الجود طبع غير مقصود ... ولست عن كرم يرجى بمصدود

ولما خرج أولاد بكجور بأموالهم وآلاتهم استكثرها سعد الدولة، فقال له وزيره أبو الهيثم بن أبي حصين: " أنت حلفت لهم على مال بكجور، ومن أين لبكجور هذا المال؟ بل هذه أموالك ". فغدر بهم، ونكث في يمينه، وقبض مال بكجور إليه، وكان مقداره ثمانمائة ألف دينار وصادر نواب بكجور، واستأصل أموالهم. ثم عاد إلى حلب فأصابه الفالج في طريقه. وقيل: أصابه في طريقه قولنج فدخل إلى حلب، وعولج فبرىء. ثم جامع جارية له، فأصابه الفالج، واستدعى الطبيب، وطلب يده ليجس نبضه، فناوله اليسري، فقال: اليمين فقال: ما أبقت اليمين يمين يشير إلى غدره، ونكثه في اليمين التي حلفها لأصحاب بكجور. وكان مبدأ علته لأربع بقين من جمادى الأولى، ومات ليلة الأحد لأربع بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وحمل في تابوت إلى الرقة، ودفن بها. وكان قاضي حلب في أيامه أبا جعفر أحمد بن إسحاق قاضي أبيه، ثم ولي قضاءها رجل هاشمي يقال له ابن الخشاب، ثم ولي الشريف أبو علي الحسن بن محمد الحسيني والد الشريف أبي الغنائم النسابة، وكان زاهداً عالماً ولاه سعد الدولة قضاء حلب وعزل ابن الخشاب عنه في سنة ثلاث وستين، ودام في ولايته إلى تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي بعده أبو محمد عبيد الله بن محمد. وكان العزيز أرسل إلى سعد الدولة يسأله إطلاق أولاد بكجور وتسييرهم إلى مصر فأهان الرسول، ولم يقبل الشفاعة، وورد عليه جواب متوعد متهدد.

القسم السابع سعيد الدولة الحمداني 381 - 392 هجرية

القسم السابع سعيد الدولة الحمداني 381 - 392 هجرية ثم إن غلمان سعد الدولة ملكوا ابنه أبا الفضائل سعيداً، ولقبوه سعيد الدولة، ونصبوه مكان أبيه في يوم الأحد. وصار المدبر له وصاحب جيشه من الغلمان الأمير أبو محمد لؤلؤ الكبير السيفي، فاستولى على الأمور وزوج ابنته سعيد الدولة، فرفع المظالم والرسوم المقررة على الرعية من مال الهدنة. ورد الخراج إلى رسمه الأول، ورد على الحلبيين أملاكاً كان اغتصبها أبوه وجده. وطمع العزيز صاحب مصر في حلب، فاستصغر سعيد الدولة بن سعد الدولة، فكتب إلى أمير الجيوش بنجوتكين التركي، وكان أمير الجيوش والياً بدمشق من قبل العزيز وأمره بالمسير إلى حلب وفتحها، فنزل في جيوش عظيمة ومدبر الجيش أبو الفضائل صالح بن علي الروذباري. فنزل على حلب في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وفتح حمص وحماة في طريقه، وحصر حلب مدة، فبذل له سعيد الدولة أموالاً كثيرة على أن يرحل عنه وعلى أن يكون في الطاعة، ويقيم الدعوة، ويضرب السكة باسم العزيز، ويكتب اسمه على البنود في سائر أعماله. فامتنع من قبول ذلك وقاتل حلب ثلاثة وثلاثين يوماً، وضجر أهل حلب فقالوا لابن حمدان: إما أن تدبر أمر البلد وإلا سلمناه. فقال: اصبروا علي ثلاثة أيام، فإن البرجي والي إنطاكية قد سار إلى نصرتي في سبع صلبان. فبلغ ذلك

بنجوتكين، فاستخلف بعض أصحابه وهم: بشارة القلعي، وابن أبي رمادة، ومعاضد ابن ظالم، في عسكر معهم كبير على باب حلب. وسار فالتقى البرجي عند جسر الحديد، وبنجوتكين في خمسة وثلاثين ألفاً والروم في سبعين ألفاً، فانهزم البرجي، وأخذ بنجوتكين سواده وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وأسر خلقاً كثيراً. فانحاز ابن أخت البرجي إلى حصن عم، فسار بنجوتكين إلى عم، فقاتل حصنها، وفتحه بالسيف، وأسر منها ابن أخت البرجي، ووالي الحصن، وثلاثمائة بطريق. وحصل عنده ألفا فارس وغنم من عم مالاً كثيراً، وأحرقها وما حولها ووجد في عم عشرة آلاف أسير من المسلمين فخرجوا وقاتلوا بين يديه. وسار إلى أنطاكية فاستاق من بلدها عشرة آلاف جاموس، ومن البقر والمواشي عدداً لا يحصى، وسار من ظاهر أنطاكية في بلاد الروم حتى بلغ مرعش، فقتل، وأسر، وغنم، وخرب، وأحرق. وعاد إلى عسكره على باب حلب المعروف بباب اليهود، وقاتلها من جميع نواحيها، وكان هذا في جمادى الأولى وجمادى الآخرة، فأقام على حلب إلى انقضاء سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وعاد إلى دمشق. ثم إنه عاد، وخرج من دمشق في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، ومدبر الجيش أبو سهل منشا بن إبراهيم اليهودي القزاز فنزلوا شيزر وقاتلوها، وفتحوها، وأمنوا سوسن الغلام الحمداني وكان والياً بها وجميع من كان معه. وسار بنجوتكين إلى أفامية، فتسلمها من نائب سعيد الدولة ثم سار أمير الجيوش بمن انتخبه من العسكر إلى أنطاكية، فغنموا بقراً وغنماً، ورماكاً وجواميس،

وبلغوا نواحي بوقا، وقطعوا بقراس، وعاد العسكر إلى الروج ثم إلى أفامية. وسار إلى دمشق، وسير العزيز أبا الحسن علي بن الحسين بن المغربي الكاتب، الذي كان وزيراً لسعد الدولة أبي المعالي مر، وفارقه عن وحشة وهو والد الوزير أبي القاسم بن المغربي في المحرم من سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، من مصر إلى بنجوتكين ليجعله مدبر جيشه والناظر في أعمال الشام إن فتحت، لخبرته بتلك الناحية. وسار معه عسكر كثير فوصل إلى دمشق. وسار منها بنجوتكين وابن المغربي في ثلانين ألف مقاتل، فوصلوا إلى ظاهر حلب في شهر ربيع الآخر، وضيق عليها بالحصار، فاستتجد سعيد الدولة ولؤلؤ بالروم، فخرج البطريق البرجي والي أنطاكية بعساكر الروم فنزل بالأرواج، على المقطعات على المخاض، وبث سراياه، ورتب قوماً يغيرون على أعمال حلب ويمنعون المتعلفة. وسار بنجوتكين فنزل مقابلهم، وسار عسكر حلب وفيهم الأمير رباح الحمداني وكبار الحمدانية، فنزلوا مع الروم على مخاضة أخرى، فقطع المغاربة الماء، وعبروا إليهم، وأنفذ بنجوتكين العرب مع قطعة من عسكره للقاء الحلبيين، فحين أشرفوا عليهم انهزموا عن المخاضة، ونهبتهم العرب. فحين شاهد الروم ذلك انهزموا، وتخلوا عن البرجي، واضطروه إلى الهزيمة، وتبعهم المغاربة مع بنجوتكين في يوم الجمعة لست خلت من شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، فظفر بهم، وغنم الأموال والرجال والخيل التي لا تحصى، وقتل خلقا كثيراً، وأسر خلقاً كثيراً من الروم، وسار فنزل على عزاز فأخذها. ثم عاد إلى حصار حلب فبنى مدينة بازائها وشتى بها وآثار العمارة التي تظهر حول نهر قويق هي آثار تلك العمائر ولم يزل على حلب إلى أن انقضت سنة أربع وثمانين، وكان حصارهم حلب أحد عشر شهراً، وأكلوا الخيل والحمير. وأنفذ أبو الفضائل سعيد الدولة ولؤلؤ أبا علي بن دريس إلى باسيل ملك الروم بالقسطنطينية، يستنجدانه، وكانت له على حلب قطيعة تحمل إليه، وقالا له: ما نريد منك قتالاً إنما نريد أن تجفله.

فخرج باسيل في ثلاثة عشر ألفاً، وعسكر بنجوتكين لا خير معهم لباسيل فسير باسيل جواسيس، وقال لهم: امضوا إلى العسكر، وأعلموهم بي. وكانت دواب أمير الجيوش بمرج أفامية، في الربيع، فلما أخبر الجواسيس عسكر أمير الجيوش بوصول باسيل إلى العمق، ضرب جميع آلته بالتار، ورحل إلى قنسرين، فصارت هزيمة. وجاء باسيل ملك الروم، فنزل موضعهم، فلم يمله، وكان قد خرج أبو الفضائل إلى ملك الروم، وشكره على ما فعل من رحيل بنجوتكين، ومعه هدية جليلة القدر فقبلها منه، ثم أعادها إلى حلب ووهب له القطيعة التي كانت له على حلب في تلك السنة، فقال قسطنطين لأخيه الملك باسيل: خذ حلب، والشام ما يمتنع منك. فقال: ما تسمع الملوك أني خرجت أعين قوماً فغدرت بهم. فقال له بعض أصحابه: ليست حلب غالية بغدرة. فقال الملك: بلى ولو أنها الدنيا. وكان إذا خرج أبو الفضائل إلى ملك الروم أقام لؤلؤ بحلب، وإذا خرج لؤلؤ أقام أبو الفضائل. وكان قد ضاق صدر أبي الفضائل لطول الحصار، وأراد تسليم حلب إلى بنجوتكين. فتوجع لؤلؤ فركب إليه أبو الفضائل يعوده، فحجبه ساعة، فشق عليه، وانصرف مغضباً فلحقه لؤلؤ وقال له: " ما كنت عليلاً، وإنما أردت أن أعلمك أنك متى مضيت إلى غير هذا البلد أنك تحجب على أبواب الناس، وقد شق عليك أني حجبتك، وأنا عبدك، والبلد بلدك. فرجع إلى قول لؤلؤ. وعصى رباح السيفي بالمعرة على مولاه أبي الفضائل، فخرج إليه مع لؤلؤ في سنة ست وثمانين، وانحاز إلى المغاربة، فخرج أبو الفضائل ولؤلؤ وحصراه مدة، فورد بنجوتكين لنجدته فانهزما ودخلا حلب. وخرج باسيل إلى أفامية بعد وقعة جرت للروم مع المغاربة فجمع عظام القتلى من الروم، وصلى عليهم ودفنهم، وسار إلى شيزر ففتحها بالأمان من المغاربة، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وسار ملك الروم إلى وادي حيران، فسبى منه خلقاً عظيماً من المسلمين،

موت سعيد الدولة

وخرج إليه أبو الفضائل من حلب إلى شيزر، فأكرمه وقال له: قد وهبت لك حلب. ووهب لأبي الفضائل في جملة ما وهبه سطيل ذهب، وقال: اشرب بهذا. موت سعيد الدولة ومات أبو الفضائل سعيد الدولة، ليلة السبت النصف من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، سقته جارية سماً، فمات. وقيل: إن لؤلؤ دس عليه ذلك وعلى ابتته زوجة أبي الفضائل، فماتا جميعاً. وكان قاضي حلب في أيامه عبيد الله بن محمد بن أحمد القاضي أبا محمد.

القسم الثامن ولدا سعيد الدولة علي وشريف

القسم الثامن ولدا سعيد الدولة علي وشريف وملك لؤلؤ السيفي ولديه أبا الحسن علياً وأبا المعالي شريفاً ابني سعيد الدولة، واستولى لؤلؤ على تدبير ملكهما، وليس إليهما شيء. وخاف لؤلؤ على حصن كفر روما، وحصن عار، وحصن أروح، أن يقصد فيها، فهدمها جميعاً سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. لؤلؤ الكبير وأحب لؤلؤ التفرد بالملك، فسير أبا الحسن وأبا المعالي ابني سعيد الدولة عن حلب إلى مصر مع حرم سعد الدولة، في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. وحصل الأمر له ولولده مرتضى الدولة أبي نصر منصور بن لؤلؤ. وقبض لؤلؤ على أحمد بن الحسين الأصفر بخديعة خدعه بها وذلك أنه طلب أن يدخل إليه إلى حلب، وأوهمه أن يصير من قبله، فلما حصل عنده قبض عليه، وجعله في القلعة مكرماً، لأنه كان يهول به على الروم. وكان هذا الأضفر قد عبر من الجزيرة إلى الشام مظهراً غزو الروم، فتبعه خلق، عظيم، وكان يكون في اليوم في ثلاثين ألفاً ثم يصير في يوم أخر في عشرة آلاف وأكثر وأقل. ونزل على شيزر وطال أمره فاشتكاه باسيل ملك الروم إلى الحاكم، فسير إليه والي دمشق في عسكر عظيم فطرده عنها ودام الأصفر معتقلاً في قلعة حلب إلى أن حصلت للمغاربة في سنة ست وأربعمائة. وتوفي قاضي حلب أبو طاهر صالح بن جعفر بن عبد الوهاب بن أحمد

أبو الهيجاء بن سعد الدولة

الصالحي الهاشمي، مؤلف كتاب الحنين إلى الأوطان، في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. وكان فاضلاً، وأظن أن ولايته القضاء كانت بعد أيام سعيد الدولة، بعد القاضي أبي محمد عبيد الله بن محمد بن أحمد. وولى لؤلؤ قضاء حلب في هذه السنة أبا الفضل عبد الواحد بن أحمد بن الفضل الهاشمي. وتوفي لؤلؤ الكبير بحلب في سلخ ذي الحجة من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وقيل: ليلة الأحد مستهل المحرم سنة أربعمائة، ودفن بحلب، في مسجده المعروف به، فيما بين باب اليهود وباب الجنان، وكانت داره القصر بباب الجنان، وله منها إلى المسجد سرب يدخل فيه إلى المسجد، فيصلي فيه. وكان لؤلؤ يعرف بلؤلؤ الحجراجي، ويعرف بذلك لأنه كان مولى حجراج، أحد غلمان سيف الدولة، فأخذه منه وسماه لؤلؤ الكبير. وكان عاقلاً محباً للعدل، شهماً وظهرت منه في بعض غزوات سيف الدولة شهامة، فتقدم على جماعة رفقته من السيفية والسعدية. منصور بن لؤلؤ وتقررت إمارة حلب بعده لابنه أبي نصر منصور بن لؤلؤ ولقب مرتضى الدوله، وكان ظالماً عسوفاً، فأبغضه الحلبيون وهجوه هجواً كثيراً فمما قيل فيه: لم تلقب وإنما قيل فألا ... مرتضى الدولة التي أنت فيها وسير مرتضى الدولة ولديه أبا الغنائم وأبا البركات إلى الحاكم وافدين عليه، فأعطاهما مالاً جسيماً، وأقطعهما سبع ضياع في بلد فلسطين، ولقب أباها مرتضى الدولة، وكان ذلك قبل موت لؤلؤ بسنة. أبو الهيجاء بن سعد الدولة وكان لسعد الدولة بن سيف الدولة بحلب ولد يقال له أبو الهيجاء، وكان قد أوصى سعد الدولة لؤلؤاً لما مات به، فلما أن ملك لؤلؤ خاف منه، وضيق عليه لؤلؤ

ومرتضى الدولة، وكان قد صاهر ممهد الدولة أبا منصور أحمد بن مروان صاحب ديار بكر على ابنته، وأظن ذلك كان في أيام أبيه. فخاف أبو الهيجاء من لؤلؤ وابنه مرتضى الدولة، فتحدث مع رجل نصراني يعرف بملكونا كان تاجراً وبزازاً لمرتضى الدولة، فأخرجه من حلب هارباً، والتجأ إلى ملك الروم فلقبه الماخسطرس. فلما كثر ظلم منصور وعسفه رغب الرعية وبنو كلاب المتدبرون ببلد حلب في أبي الهيجاء بن سعد الدولة، وكاتبوا صهره ممهد الدولة بن مروان في مكاتبة باسيل ملك الروم في إنفاذه إليهم. فأنفذ إلى الملك يسأله تسيير أبي الهيجاء إليه ليتعاضدا على حلب، ويكون من قبله من حيث لا يكلفه إنجاده برجال ولا مال. فأذن باسيل لأبي الهيجاء في ذلك، فوصل إلى صهر بميافارقين، فسير معه مائتي فارس وخزانه، وكاتب بني كلاب بالانضمام إليه. وسار قاصداً حلب في سنة أربعمائة فخافه منصور، ورأى أن يستصلح بني كلاب ويقطعهم عنه، لتضعف منته، فراسلهم ووعدهم بإقطاعات سنية، وحلف لهم أن يساهمهم أعمال حلب البرانية. واستنجد مرتضى الدولة بالحاكم، وشرط له أن يقيم بحلب والياً من قبله، فأنفذ إليه عسكر طرابلس مع القاضي علي بن عبد الواحد ابن حيدرة قاضي طرابلس، وأبي سعادة القائد والي طرابلس، في عسكر كثيف فالتقوا بالنقرة. وتقاعد العرب عن أبي الهيجاء لما تقدم من وعود مرتضى الدولة لهم، فانهزم أبو الهيجاء راجعاً إلى بلد الروم ونهبت خيامه وجميع ما كان معه. ثم دخل إلى القسطنطينية فأقام بها إلى أن مات. وكان الحاكم قد كتب لمنصور بن لؤلؤ في شهر رمضان من سنة أربع وأربعمائة

مرتضى الدولة وصالح بن مرداس

سجلاً، وقرىء في القصر بالقاهرة، بتمليكه حلب وأعمالها ولقب فيه بمرتضى الدولة. وكان في قلعة عزاز غلام من غلمان مرتضى الدولة فاتهمه في أمر أبي الهيجاء، فطلب مرتضى الدولة من النزول فلم يفعل، وخاف منه وقال: ما أسلمها إلا إلى القاضي ابن حيدرة فسلمها إليه. وكتب القاضي فيها كتاباً إلى الحاكم، وسلمها إلى مرتضى الدولة، فنقم عليه، وقتله بعد ذلك. وأما أبو الهيجاء فأقام بالروم إلى أن مات. وعاد قاضي طرابلس إلى منصور يطلب منه ما كان وعده به، فدافعه، فرجع إلى طرابلس خائباً. وكان أبو المعالي بن سعيد الدولة بمصر، فسيره الحاكم بعساكر المغاربة إلى حلب، فوصل معرة النعمان في سنة اثنتين وأربعمائة، وأرادت العرب الغدر به، وبيعه من مرتضى الدولة، لأنهم أغاروا. وركب يريدهم، فأخذه مضيء الدولة نصر الله بن نزال ورده إلى العسكر، ورجع فمات بمصر. مرتضى الدولة وصالح بن مرداس وأما بنو كلاب فانهم طلبوا من مرتضى الدولة ما شرطه لهم من الإقطاع، فدافعهم عنه، فتسلطوا على بلد حلب، وعاثوا فيه، وأفسدوا، ورعوا الأشجار وقطعوها، وضيقوا على مرتضى الدولة، فشرع في الاحتيال عليهم، وأظهر الرغبة في استقامة الحال بينهم وبينه وطلبهم أن يدخلوا إليه ليحالفهم ويقطعهم ويحضروا طعامه، واتخذ لهم طعاماً. فلما حصلوا بحلب مد لهم السماط وأكلوا وغلقت أبواب المدينة، وقيد الأمراء: وفيهم صالح بن مرداس، وفيهم أبو حامد وجامع ابنا زائدة. وجعل كبار الأمراء بالقلعة، ومن دونهم بالهزي. وقتل منهم أكثر من ألف رجل، وذلك

لليلتين خلتا من ذي القعدة من سنة اثنتين وأربعمائة. فجمع مقلد بن زائدة من كان من بني كلاب خارج حلب، وأجفل بالبيوت، ونزل بهم كفر طاب وقاتلها، فرماه ديلمي اسمه بندار فقتله، في أوائل سنة ثلاث وأربعمائة. وكان مرتضى الدولة قد أخرج أخويه أبا حامد وجامعاً وغيرهما، وجعلهم في حجرة، وجعل فيها بسطاً، وأكرمهم لأجل مقلد. فلما جاءه خبر قتله أنفذ إليهم يعزيهم به فقال بعضهم لبعض: اليوم حبسنا. وسير مرتضى الدولة إلى صالح بن مرداس، وهو في الحبس، وألزمه بطلاق زوجته طرود، وكانت من أجمل أهل عصرها، فطلقها، وتزوجها منصور، وهي أم عطية بن صالح، وإليها ينسب مشهد طرود، خارج باب الجنان، في طرف الحلبة. وبه دفن عطية ابنها ومات أكثر المحبسين بالقلعة في الضر، والهوان، والقلة، والجوع. وكان مرتضى الدولة في بعض الأوقات إذا شرب يعزم على قتل صالح، لحنقه عليه من طول لسانه، وشجاعته. فبلغ ذلك صالحاً، فخاف على نفسه، وركب الصعب في تخليصها واحتال حتى وصل إليه في طعامه مبرد فبرد حلقة قيده الواحدة، وفكها وصعبت الأخرى عليه، فشد القيد في ساقه، ونقب حائط السجن، وخرج منه في الليل، وتدلى من القلعة إلى التل، وألقى نفسه فوقع سالماً ليلة الجمعة مستهل المحرم سنة خمس وأربعمائة. واستتر في مغارة بجبل جوشن، وكثر الطلب له والبحث عنه، عند الصباح فلم يوقف له على خبر، ولحق بالحلة، واجتمعت إليه بنو كلاب، وقويت نفوسهم بخلاصه، وبعد ستة أيام ظفر صالح بغلام لمنصور كان قد أعطاه سيف صالح، فاستعاده منه وأيقن بالظفر، وتفاءل بذلك. ولما كان اليوم العاشر من صفر نزل صالح بتل حاصد من ضياع النقرة يريد

قسمتها، بعد أن جمع العرب واستصرخهم، وكان يعلم صالح محبة مرتضى الدولة لتل حاصد. فحين علم منصور بنزول صالح على تل حاصد، رأى أن يعاجله قبل وصول المدد إليه، فجمع جنده، وحشد جميع من بحلب من الأوباش، والسوقة، والنصارى، واليهود وألزمهم بالسير معه إلى قتال صالح، فخرجوا ليلة الخميس ثاني عشر صفر من سنة خمس وأربعمائة. وبلغني: أن مرتضى الدولة لما وصل إلى جبرين تطير وقال: جبرنا فلما وصل بوشلا قال: شللنا فلما وصل تل حاصد قال: حصدنا. وأصبح عليهم يوم شديد الحر فماطلهم صالح باللقاء، إلى أن عطش العوام وجاعوا وسير جاسوساً إلى العسكر فجاء وأخبره أن معظم عسكره من اليهود، والنصارى، وأنه سمع يهودياً يقول لأخر بلغتهم: والك حفيظه اطعزه واتأخر، وإياك يكون خلفه أخر يطعزك بمطعازه، ويخغب بيتك للدواغيث. فقوي طمع صالح فيهم، وحمل عليهم فكسرهم، وأسر مرتضى الدولة، وسالم بن مستفاد أبا المرجا الحمداني وخلقاً غيرهما. وقتل جمع كثير من العسكر ومقدار ألفي راجل من العوام، وآثار عظامهم إلى اليوم مدفونة في أرجام حجارة شبيهة بالتلال، فيما بين تل حاصد وبوشلا. وانهزم أبو الجيش وأبو سالم أخو مرتضى الدولة، وقصد القلعة فضبطها أبو الجيش المفلول، وضبط البلد أخوه أبو الجيش وأمه. وحدث بنو كلاب أنهم لم يروا ولم يسمعوا بأشجع من مرتضى الدولة، وأنه لو لم يقف به الحصان ما وصلوا إليه، وأنه لما وقف به الحصان لم يقدم عليه أحد

حتى جاءه صالح، فقال: إلي يا مولانا فرمى السيف من يده، فلما رماه تقربوا منه وأخذه صالح فقيده بالقيد الذي كان في رجله. وكان بين هرب صالح وأسره مرتضى الدولة أحد وأربعون يوماً. ورأى صالح أنه لا قدرة له على أخذ البلد لضبطه بأبي الجيش، فرأى أن يوقع الصلح، فتراسلوا في ذلك، وأشركوا أبا الجيش في تقرير ذلك، فخرج مشاريخ من أهل حلب من أبي الجيش في حديث الصلح وتقريره. فلما وصلوا إلى صالح سلموا عليه غير هائبين له ولا مبخلين، لقرب عهدهم برؤيته أسيراً حقيراً، وكلموه بكلام جاف، وراددوه في شروط شرطها عليهم، فأحس منهم بذلك، فقال لهم: قبل أن نتفرق بيننا أمر، اجتمعوا بأميركم، وشاوروه فيما تتحدثون به معي من الشروط. قال: فقاموا، ودخلوا على مرتضى الدولة، وفيهم الشاهدان الفذان شهدا على صالح بطلاق طرود، فوجدوا مرتضى الدولة على أقبح صورة مكشوف الرأس، على قطعة من كساء خلق، والقيد قد أثر في ساقيه فاحتقروه، وعظم صالح في أعينهم، فهنأوه بالسلامة، فقال: سلامة العطب أصلح منها، ثم قال: إن الأمير صالح يطلب مني طلاق طرود، فاشهدوا علي أنها طالق، ويطلب مني تسليم حلب، ولست الآن مالكها فدبروا الأمر على حسب ما ترونه ويستصوبه أخي أبو الجيش، الذي هو الآن المستولي على القلعة والمدينة. فلم يزالوا يترددون بينهما ويدخلون إلى حلب، ويشاورون أبا الجيش إلى أن استقر الأمر مع صالح بعد التضرع إليه وسؤاله باللطف في كلام خلاف ما بدأوه به على أن يطلق منصور على أن يحمل إليه خمسين ألف دينار عيناً ومائة وعشرين رطلاً بالحلبي فضة، وخمسمائة قطعة ثياب أصنافاً مختلفة، ويطلق جميع من في الحبوس من بني كلاب وحرمهم، وأن يقاسمه باطن حلب وظاهرها شطرين، ويجعل ارتفاع ذلك نصفين، وأن يزوجه مرتضى الدولة بابنته. فأجاب إلى ذلك ووقعت اليمين عليه، وأخرج إلى صالح أمه بجيلا وزوجته أم

الكرم ابنة رباح السيفي، وأولاده منها: أبا الغنائم، وأبا علي، وأبا الحسن، وأبا البركات، رهائن على المال. وأطلق مرتضى الدولة فدخل إلى حلب يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة خمس وأربعمائة، فلما حمل المال إلى صالح، خلى سبيل الرهائن، وباع كل واحد من العرب ما حصل في يده من الغنيمة والأسارى من الجند وغيرهم من الرعية المسلمين وأهل الذمة لأهاليهم بما اتفق، واستغنى العرب وقويت شوكتهم. ولما حصل منصور إلى حلب عاد إلى عادته الأولى في الغدر، ومنع صالحاً ما صالحه عليه من ارتفاع البلاد والتزوج بابنته، فضيق صالح عليه، وحاربه، ومنع الميرة أن تدخل إليه حتى ضاقت على الرعية فكرهوه. وانضاف إلى ذلك أنه وقعت التهمة بين مرتضى الدولة وبين غلامه فتح القلعي وكان والي القلعة في العاشر من شهر رجب من سنة ست، فاتهمه بأنه هو الذي هرب صالحاً، وتتابع لومه له، وقال: لولا قلة تحفظه وتضجيعه في الاحتياط على صالح لما هرب من السجن، وهذه المحن كلها بسببه. وتواعده. وعزم على أن يولي قلعة حلب صاحباً له يعرف بسرور، فأسر ذلك إليه فنم الخبر من سرور إلى رجل يقال له ابن غانم صديق لفتح، فأطلعه على ذلك، فخاف فتح القلعي منه، فوافق المقيمين معه على العصيان، فأجابوه إلى ذلك. وطلب نزوله فتعلل، وأخذ حذره منه، ثم كاشفه بالعصيان، فصعدت إليه بجيلا، والدة مرتضى الدولة وعنفته، فلم يصغ إلى قولها، فقالت له: كيف تفعل هذا مع ابن سيدك. لأنه كان مولى لؤلؤ السيفي فقال، كما فعل هو وأبوه بأولاد سيده يعني بولدي سعد الدولة: أبي الفضائل وأبي الهيجاء. ثم أنفذ فتح إلية وقال له: إما أن تخرج من حلب، وإلا سلمت القلعة إلى

صالح. فبينا مرتضى الدولة في قصره العتيق بباب الجنان، في ليلة السبت لست بقين من شهر رجب سنة ست وأربعمائة، إذ ضربت البوقات والطبول على القلعة، وصاح من فيها: الحاكم يا منصور صالح يا منصور فظن منصور أن صالحاً قد حصل في القلعة، ففتح باب الجنان، وهرب هو وأخوه، وأولاده، ومن تبعه من غلمانه إلى أنطاكية، وأخذ معه ما قدر على حمله من المال. فلما علم أهل حلب بخروجه قصدوا داره، فأخذوا منها من الذهب والفضة والمراكب والأثاث ثمانين ألفاً من الدنانير. وأخذ في جملة ما نهب له ثمانية وعشرون ألفاً من الدفاتر المجلدة، وكانت مفهرسة بخطه في درج، ونهبوا دور إخوته ودور بعض النصارى واليهود. ووصل مرتضى الدولة إلى أنطاكية لخمس بقين من شهر رجب، فطالع قطبان أنطاكية الملك باسيل بهرب منصور إليه، فأنفذ إليه يأمره بإكرامه، وأن يواصله براتب وإقامة، وكذلك برزق أجناده وأصحابه، ففعل ذلك، وكان جملتهم سبعمائة رجل من فارس وراجل، وأن لا ينقصه في المخاطبة والكرامة من الرسم الذي كان يخاطبه به في أيام إمارته، وأمر أن يلفب بالماخسطرس. واستدعى الملك إخوته وابنيه أبا الغنائم وأبا البركات، فخلع عليهم، وأنفذ على أيديهم توقيعاً بإقطاع عدة ضياع له ولهم، وكان من جملتها شيح ليلون، فعمر مرتضى الدولة حصنها، وسكن فيه ليقرب عليه ما يحتاج إلى معرفته من أمور حلب. وأما مرتضى الدولة فإنه عمر إلى أن قدم أرمانوس من القسطنطينية، ونزل على تبل في سنة إحد وعشرين وأربعمائة، وكان معه إذ ذاك. وتوفي بعد ذلك.

القسم التاسع حلب والفاطميون

القسم التاسع حلب والفاطميون فتح القلعي مبارك الدولة وأما فتح القلعي أبو نصر فإنه نادى بشعار الحاكم صاحب مصر، وصالح صالح بن مرداس على نصف الارتفاع ظاهراً وباطناً، وسلم إليه حرم منصور وحرم إخوته وأولاده، ليسيرهم إلى ابن لؤلؤ إلى أنطاكية، وفي الجملة بنته التي وعده أن يزوجه بها، فأخرجهم صالح إلى الحلة وضبط عنده بنته التي وعده بتزويجها منه، ودخل إليها وأنفذ إليه بقية الحرم. وتسلم صالح الأعمال والضياع التي تقرر مع ابن لؤلؤ أن يدفعها إليه. واستدعى والي أفامية أبا الحسن علي بن أحمد العجمي المعروف بالضيف، فأنزله بالمدينة بالقصر بباب الجنان، في أوائل شعبان من سنة ست وأربعمائة. وبقي فتح بالقلعة فأحسن الضيف السيرة، ورد على الحلبيين ما كان قد اغتصبه سيف الدولة وولده من أملاكهم، وبالغ في العدل. وكاتب فتح الحاكم يخبره بما فعل، فوردت مكاتبة الحاكم إليه يتضمن شكره على ما فعل، ولقبه مبارك الدولة وسعيدها. وكتب إلى أبي الحسن الضيف يأمره بمعاضدته، ولقبه سديد الدولة، وكتب إلى صالح بن مرداس يأمره بالإتفاق معهما، ولقبه أسد الدولة. وكتب لأهل حلب توقيعاً بإطلاق المكوس والمظالم، والصفح عن الخراج، وهو عندي متوج بعلامة الحاكم عليه: الحمد لله رب العالمين.

فاتك الحاكمي عزيز الدولة

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا من أمر الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لجميع أهل حلب وأعمالها. إنه لما انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنتم فيه من الظلمة المدلهمة، وقبيح ظفر من يتولى أموركم في المعاملات وزيادتهم عليكم في الخراج والجبايات، إضعافاً لكم، وعدولاً عن سنن الحق بكم، أمر زاد الله أمره علواً ونفاذاً بإطلاق المؤن من دار كوره ونظائرها، والصفح عن الواجب عليكم من مال الخراج لاستقبال سنة سبع وأربعمائة، لتعلموا أن ضياء الدولة النبوية قد لمع وظهر، وأن حندس الظلام قد انجاب ودثر. وذكر تمامه. ووصل من قبل الحاكم والي طرابلس مختار الدولة بن نزال الكتامي، ووالي صيدا مرهف الدولة بحكم التركي، وكانوا جميعاً في البلد من قبل الحاكم. ثم كتب الحاكم إلى حسان بن المفرج بن الجزاح الطائي وعشيرته، وسنان بن عليان الكلبي وعشيرته، بالاحتياط على حفظ حلب، وأتبع ذلك بمكاتبة إلى فتح، يمنيه ويعده الجميل إذا سلم القلعة. فأجاب إلى ذلك تسليمها، وأخذ جميع ما كان بها من الذخائر لمنصور من عين، وورق، ومتاع، وسلاح. فاتك الحاكمي عزيز الدولة وكتب بولاية صور، فسلم القلعة إلى الأمير عزيز الدولة أبي شجاع فاتك، في شهر رمضان من سنة سبع وأربعمائة. وكان الحاكم قد خلع عليه في جمادى الأولى من سنة سبع وأربعمائة. وحمله على عدة من الخيل بسروج محلاة بذهب مصفحة، وقلده سيفاً ومنطقه بمنطقه وسيره إلى حلب. وتوجه فتح إلى صور. وولى الضيف بحلب في سنة سبع وأربعمائة، حين تولى، القاضي أبا جعفر محمد بن أحمد السمناني الحنفي القضاء بحلب. وكان عزيز الدولة غلاماً أرمنياً لبنجوتكين مولى العزيز صاحب مصر. وكان

بنجوتكين شديد الشغف به، وكان أديباً عاقلاً، كريماً كبير الهمة. فولاه الحاكم حلب وأعمالها، ولقبه أمير الأمراء، عزيز الدولة، وتاج الملة. ودخل حلب يوم الأحد الثاني من شهر رمضان من سنة سبع وأربعمائة. وكان محباً للأدب والشعر. وصنف له أبو العلاء بن سليمان رسالة الصاهل والشاحج، وكتاب القائف. وفيه يقول القائد أبو الخير المفضل بن سعيد العزيزي، شاعره يمدحه، ويذكر وقود قلعة حلب ليلة الميلاد، وكان الغيم قد ستر النجوم: ابق للمعروف والأدب ... آمناً من صولة النوب يا عزيز الدولة الملك ال ... منتضى للمجد والحسب كيف يخشى الدين حادثة ... وعزيز الدين في حلب سد منه ثغرها بفتى ... لا يشوب الجد باللعب أضرم العنقاء قلعته ... فبدت في منظرعجب لزت الأرض السماء بها ... فثنت كشحاًعلى وصب ورمتها بالشرار كما ... رمت الغبراء بالشهب أوقدت تحت الغمام فما ... يلقها من مزنة يذب سخنت حوض الحيا فهمى ... بجحيم عنه منسكب لو تدوم النار نشفه ... حر ما يلقى فلم يصب ليلة غابت كواكبها ... خجلاً منا فلم تؤب طلعت شمس النهار بها ... والدجى مسدولة الحجب فلو أن النار لاحقة ... بالنجوم الزهر من كثب حكت الشماء غانية ... حليت بالدر والذهب حاربتها الريح فاضطرمت ... غضبة من شدة الغضب جاذبتها في تغيظها ... شعلاً محمرة العذب ضوءها عمن ألم على ... نأي شهر غير محتجب يا أمير الآمرين ويا ... مستجار القصد والطلب قد نفيت الليل عن حطب ... نفي مظلوم بلا سبب

وتركت الشمس حائرة ... في دجى الظلماء لم تغب وعزيز الدولة هذا، هو الذي جدد القصر تحت قلعة حلب، وتناهى في عمارته، وحمام القصر كانت له، وجعله ملاصقاً لسفح القلعة، وقصد بعمارته قربه إلى القلعة، خوفاً ممن جرى لمرتضى الدولة. وكان متصلاً بالقلعة وهو الذي أمر بعمارة القناديل الفضة للمسجد الجامع، وهي باقية إلى الآن واسمه عليها. وكلف عزيز الدولة أسد الدولة صالح بن مرداس أن يحمل والدته إلى حلب، لتسكن الأنفس ويعلم العوام التئام الكلمة والتضافر على الأعداء، ففعل ذلك في سنة ثمان وأربعمائة. ثم إن عزيز الدولة تغير عليه الحاكم فعصى عليه، وضرب الدينار والدرهم باسمه بحلب، ودعا لنفسه على المنبر، فأرسل الحاكم إلى الجيوش، وأمرها أن تتجهز إليه في سنة إحدى عشرة وأربعمائة. فلما بلغ عزيز الدولة ذلك أرسل إلى باسيل ملك الروم يستدعيه ليسلم إليه حلب، فخرج باسيل الملك، فلما بلغ موضعاً يعرف بمرج الديباج، بلغ عزيز الدولة وفاة الحاكم، فأرسل إلى باسيل يعلمه إنه قد انتقض ما كان بينهما من الشرط، وأنه إن ظهر كان هو وبنو كلاب حرباً له. فعدل باسيل إلى منازكرد فأخذها من الخزر، وكان الناس قد أجفلوا من ملك الروم إلى حلب، فكانت هذه الجفلة تسمى جفلة عزيز الدولة لأنها بسببه. ولما اطمأن عزيز الدولة بموت الحاكم، ووصلته من الظاهر الخلع من مصر، ودخل غلام له يدعى تيزون، وكان هندياً، وكان يميل إليه، ودخل في أول الليل عليه، وهو نائم في المركز، وفي يده سيف مجرد مستور في كمه ليقتله، فوجد صبياً من رفقته يغمزه فلما رآه الصبي حرك مولاه ليوقظه، فبادر الهندي، وضرب عزيز الدولة فقتله، وثئى بالصبي، وقتل الهندي. وذلك كله لأربع ليال خلت من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.

محمد الكتامي صفي الدولة

وعمل شاعره المفضل بن سعيد: لحمامه المقضي ربي عبده ... ولنحره المفري حد حسامه وكان الوالي بالقلعة، ومن قبل عزيز الدولة، أبا النجم بدراً التركي مملوكاً كان لبنجوتكين مولى عزيز الدولة فاتك، وكانت بينهما في أيام بنجوتكين صداقة ومودة بحكم المرافقة. فلما تقدم عزيز الدولة قربه واصطفاه، وولاه القلعة بحلب من قبله. وقيل: إنه مملوك لعزيز الدولة، ويعرف ببدر الكبير. وقيل: إنه هو الذي حمل تيزون على قتل عزيز الدولة: فلما قتل استولى على البلد، يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ولقب وفّي الدولة وأمينها. وكان كاتب بدر رجلاً يقال له ابن مدبر إلى أن وردت العساكر المصرية من جهة الطاهرة وزعيمها سديد الدولة علي بن أحمد الضيف، فتسلم حلب من وفّي الدولة بدر. محمد الكتامي صفي الدولة ولما دخل الضيف على بحر بكتاب الطاهر، لطف به، واسترسل إليه، وطرح القيد في رجله، وقبض عليه، وأنزله من القلعة، وتسلمها منه، فسلمها إلى صفي الدولة أبي عبد الله محمد ابن وزير الوزراء أبي الحسن علي بن جعفر بن فلاح الكتامي، يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان صفي الدولة هذا شاعراً أديباً، وأبوه علي وزر للحاكم، وجده جعفر بن فلاح أحد قواد المصريين، ووليت القلعة يمن الدولة سعادة الخادم المعروف بالقلانسي، وكان تخادماً بلحية بيضاء، وكان من أفاضل المسلمين، فيه الدين والعلم، وجعل الطاهر في المدينة والياً، وفي القلعة والياً خوفاً أن يبدو من والي حلب ما بدا من عزيز الدولة فاتك. وعزل صفي الدولة بن فلاح عن حلب، يوم الاثنين النصف من المحرم سنة أربع عشرة وأربعمائة.

ابن ثعبان سند الدولة

ابن ثعبان سند الدولة وولي حلب الأمير سند الدولة أبو محمد الحسن بن محمد بن ثعبان الكتامي الجيملي، وكان وأهله من وجوه كتامة، وكان والياً بحصن أفامية. وهو الذي كتب إليه أبو العلاء بن سليمان " الرسالة السندية " في مجلد واحد، وكان وزيره أبو سعيد مسبح. وتوفي سند الدولة بمرض ناله بحلب، يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة. ثعبان سديد الملك وكان خبر مرضه قد وصل إلى الظاهر، فكتب إلى أخيه سديد الملك أبي الحارث ثعبان بن محمد بن ثعبان إلى تنيس، وكان يليها، أن يسير والياً إلى حلب. فخرج من تنيس في البحر إلى طرابلس، وسار من طرابلس جريدة فورد إلى حلب، وقد توفي أخوه. وكان وصوله إلى حلب، يوم الأحد السابع عشر من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وأربعمائة. وكان قاضي حلب، في سنة خمس عشرة وأربعمائة أبا أسامة عبد الله بن أحمد ابن علي أبي أسامة، نيابة عن ابن أبي العوام قاضي مصر عن الظاهر. وولي القلعة أبو الحارث موصوف الخادم الصقلابي الأبيض الحاكمي، من قبل الطاهرة وكان شجاعاً، عاقلاً، وأقاما فيها واليين أحدهما بالمدينة، والآخر بالقلعة، إلى أن حالف الأمير أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي سنان بن عليان الكلبي، وحسان ابن المفرج بن الجراح الطائي على الظاهرة وتحالفوا على احتواء الشام، وتقاسموا البلاد. فتكون فلسطين وما برسمها لحسان، ودمشق وما ينسب إليها لسنان، وحلب

وما معها لصالح. فأنفذ الظاهر إلى فلسطين أنوشتكين الدزبري والياً، فاجتمع الأمراء الثلاثة على حربه، فهزموه إلى عسقلان. وفتح حسان الرملة بالسيف، في رجب سنة خمس عشرة وأربعمائة. وأحرق أكثرها، ونهبها، وسبى خلقاً من النساء والصبيان.

القسم العاشر حلب والمرداسيون

القسم العاشر حلب والمرداسيون صالح بن مرداس وسير صالح بن مرداس كاتبه أبا منصور سليمان بن طوق، فوصل إلى معرة مصرين، وغلب عليهاة وقبض واليها، وقيده، وسار إلى حلب في جماعة من العرب، لسبع بقين من رجب. فجرى بينه وبين سديد الملك ثعبان وموصوف الخادم، حرب في أيام متفرقة. وسار صالح بن مرداس إلى حلب، في جمع كثير، ونزلها يوم الأحد لسبع وعشرة ليلة خلت من شهر رمضان من سنة خمس عشرة وأربعمائة، على باب الجنان. وجاب الحلل يوم الاثنين، وحاصرها ستة وخمسين يوماً، فوقع خلف بين موصوف والخادم وبين أبي المرجا سالم بن مستفاد غلام سيف الدولة بن حمدان، وكان من كبار القواد بحلب، وداره بالزجاجين، وحمامه أيضاً، آثارها باقية إلى وقتنا هذا. فعزم موصوف على قتل سالم هذا، فجمع سالم جمعاً، وفتح باب قنسرين، وخرج إلى صالح، فأخذ منه الأمان لنفسه، ولجميع أهل المدينة. وسلمت المدينة إليه، يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة. واحتمى سديد الملك بن ثعبان في القصر الملاصق للقلعة، ونصبت المنجنيقات والعرادات عليه وعليها. ثم إن صالحاً رتب أبا المرجا سالم بن المستفاد، وكاتبه سليمان بن طوق على قتال القصر والقلعة بحلب. وسار إلى فلسطين منجداً حسان بن المفرج على الدزبري، فإنه جمع، وعاد

إليه في جيش كثيف، فالتقى الجيشان فكسر الدزبري، وعاد مفلولاً. وأما قلعة حلب فإن الحلبيين نقبوها، ووصل النقب إلى بئرها المعين، وقل الماء فيها، ودام الحصار عليها سبعة أشهر. وراسل من في القلعة سالماً وسليمان في الصلح في عاشر ربيع الآخرة فلم يجيباهم. ونصبوا الصلبان ثلاثة أيام، ودعوا لملك الروم، ولعنوا الطاهر، ونقر الناقوس، وقاتلوا القلعة، ثم نفروا يوم الجمعة ثاني عشر الشهر، وحملوا المصاحف على أطراف الرماح في الأسواق، ونادوا النفير وزحفوا. فاستأمن جماعة من المغاربة الذين في القلعة، فخلع عليهم، وطيف بهم في المدينة. وبسطت ثياب الديباج والسقلاطون، وبدر المال مقابل القلعة، وبذلت لمن ينزل إلى ابن مستفاد وسليمان مستأمناً. فلما يئس أهل القلعة من النجدة نزل رجل أسود يعرف بأبي جمعه، وكان عريف المصامدة إلى المدينة، وبقي أياماً ينزل من القلعة ويصعد فأفسده سالم بن مستفاد وسليمان بن طوق. فلما جاء ليطلع القلعة في بعض الأيام تقدم موصوف الخادم والي القلعة برد الباب في وجهه، فصاح إلى أصحابه، فالتفت المصامدة والعبيد في القلعة، ووقع الصوت إلى أهل حلب، فطلعوا إلى القلعة من كل مكان. ودخلها ابن طوق وابن مستفاد، يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة ست عشرة وأربعمائة وقبض على موصوف الصقلبي وسديد الملك ثعبان، وأبي الفضل بن أبي أسامة. فأما ثعبان ففدى نفسه بمال دفعه إلى صالح، وأما موصوف فضرب رقبته صبراً بين يديه. وأما القاضي أبو الفضل بن أبي أسامة فدفنه حياً في القلعة. ولما جدد الملك العزيز أبو المظفر محمد بن غازي رحمه الله الدار الكبرى التي ابتناها بقلعة حلب، وحفر أساسها، وجدوا مطمورة فيها رجل في ساقيه لبنة

نهاية صالح بن مرداس

حديد، وهو جالس فيها قد دفن حياً ولم يبق إلا عظامه، وهو على هيئة القاعد فيها. ولا أشك في أنه ابن أبي أسامة المذكور والله أعلم. وملك صالح في هذه السنة: حمص، وبعلبك، وصيدا، وحصن ابن عكار بناحية طرابلس. وكان في يده الرحبة، ومنبج، وبالس، ورفنية. وكان، وهو محبوس بالقلعة عند مرتضى الدولة، قد رأى في المنام كأن إنساناً قد دخل عليه، فألبسه قلنسوة ذهب، ففزج الله عنه، وخرج من السجن، وكان منه ما ذكرنا. ثم إن الظاهر سير عسكراً مع الدزبري وضم رافع بن أبي الليل إليه وقدمه على الكلبيين، وجهزه إلى محاربة حسان بن المفرج الطائي، لأنه كان قد أخرب الشام، وعاث، وأفسد. فلما علم حسان بقربه استصرخ صالحاً، فتوجه نحوه، فرأى صالح ذلك الشخص في المنام بعينه، قد دخل عليه وانتزع من رأسه القلنسوة الذهب، فتطير من ذلك. نهاية صالح بن مرداس ولما وصل إلى حسان ونشبت الحرب بينهما وبين الدزبري، وذلك بالموضع المعروف بالأقحوانة على الأردن، طعن صالح فسقط عن فرسه، طعنه طريف الفزاري فرآه رافع بن أبي الليل فعرفه، فأجهز عليه، وقطع رأسه، وبادر به الدزبري. وقيل: طعنه رجل يقال له ريحان. وكان أسد الدولة صالح على فرس، فما زال يرمح حتى رماه، وجاءه رافع فأخذ رأسه، وكان مقتله لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة. وقيل: في يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى من السنة. في الوزير تاذرس وكان قاضي حلب في أيامه القاضي أبا يعلى عبد المنعم بن عبد الكريم بن سنان المعروف بالقاضي الأسود، بعد ابن أبي أسامة، ولي قضاءها سنة ست عشرة، واستمر على القضاء في أيام ابنه شبل الدولة. وكان وزير صالح تاذرس بن الحسن النصراني، فأخذ في الوقعة وصلب وكان هذا النصراني متمكناً عند صالح، وكان صاحب السيف والقلم. وقيل: إته كان يترجل له لعنه الله، الولاة والقضاة، فمن دونهم إلا القاضي أبا يعلى عبد المنعم بن عبد الكريم بن

سنان قاضي حلب، والشيخ أبا الحسن المهذب بن علي بن المهذب فإنه أراد أن يترجل له فحلف أن لا يفعل. وقيل: إن أهل حاس قرية بمعرة النعمان قتلوا حماه، كان يقال له الخوري، وكان من أهل تلمنس، لأذيته لهم، فحين سمع تاذرس بقتل حميه الخوري، خرج في عسكر حلب، وطلب أهل حاس في الجبال والضياع، وهرب القاتلون إلى أفامية، فلحقهم، فسلمهم إليه واليها. فكتب إلى صالح يستأذنه في قتلهم، فأذن له فقتلهم، وصلبهم، فلما أنزلوا عن الخشب ليصلى عليهم ويدفنوا، صلى عليهم خلق عظيم. وقال الناس حينئذ، يكايدون النصارى: قد رأينا عليهم طيوراً بيضاً، وما هي إلا الملائكة، فبلغت هذه الكلمة تاذرس لعنه الله فنقمها على أهل المعرة، واعتدها ذنباً لهم. فاتفق أن صاحت امرأة في الجامع، يوم الجمعة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغصبها نفسها، فنفر كل من في الجامع إلا القاضي والمشايخ، وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه، وكان أسد الدولة صالح في صيدا، سنة سبع عشرة وأربعمائة. فلما توجه إلى حلب، سنة ثمان عشرة، لم يزل به تاذرس حتى اعتقل مشايخ المعرة وأماثلها، فاعتقل منهم سبعين رجلاً، وقطع عليهم ألف دينار وقال له صالح حين لج عليه: أأقتل المهذب أو أبا المجد، بسبب ماخور! ما أفعل! " وقد بلغني أنه دعي لهم في آمد وميافارقين، فغلبه على رأيه، فبقوا في الاعتقال في الحصن، سبعين يوماً، إلى أن اجتاز صالح بالمعرة، واستدعى أبا العلاء ابن سليمان بظاهر المعرة.

فلما حصل عنده بالمجلس قال له الشيخ أبو العلاء، ساعياً فيهم: مولانا السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها، كالنهار الماتع، اشتد هجيره، وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع، لأن صفحه، وخشن حداه، " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " فقال صالح: " قد وهبتهم لك أيها الشيخ ". ولم يعلم أبو العلاء بما قطع عليهم من المال فأخذ منهم. ثم قال أبو العلاء شعراً: تغيبت في منزلي برهة ... ستيرالعيوب فقيد الحسد فلما مضى العمر إلا الأقل ... وحم لروحي فراق الجسد بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئيرالأسد فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد

القسم الحادي عشر ثانيا نصر بن صالح بن مرداس

القسم الحادي عشر ثانياً نصر بن صالح بن مرداس حرب الأخوين ولما قتل صالح بن مرداس، ملك حلب بعده ابناه معز الدولة أبو علوان ثمال في القلعة، وشبل الدولة نصر في المدينة. وأوقعا في هذه السنة على قيبار بقطبان أنطاكية ميخائيل الخادم. وكان قصد بلد حلب بغير أمر الملك ولاطفه ثمال ونصر، فلم يرجع عن قصد بلد حلب، فكبساه في قيبار، وهو يقاتل حصنها وقتل جماعة من الفريقين، وانهزم عسكر الروم يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة. ثم استعطفاه واستقامت الحال بينهم، وداما على ذلك إلى أن جرى بين معز الدولة ثمال وبين زوجته كلام، فغضبت عليه، وخرجت إلى الحلة بظاهر حلب، فأمر ثمال أن يصاغ لها لآلكة من ذهب مرصعة بالجواهر فلما استوت أخذها في كمه وخرج. فحين علم نصر ركب واجتاز تحت القلعة، كأنه يريد الخروج من باب

نصر والروم

العراق، في جماعة من أصحابه، وجذب سيفه لما قارب باب القلعة، وهجمها فلم يمانعه أحد من الأجناد لهيبته، وتبعه أصحابه مجردين سيوفهم، فجلس في المركز وقال: إن من قدم أخي علي فقد أساء لأنني أولى بمداراة الرجال، وهو أولى بمداراة النساء. ومن ذلك اليوم جعل لأبواب قلعة حلب سلسلة تمنع الراكب الصعود فجاء، ورسم أن لا يدخلها أحد متقلداً سيفاً، ولو أنه أقرب الناس مودة إلى مالكها. فتفرد نصر بالأمر في القلعة والبلد، وذلك في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. وكان وزيره أبا الفرج المؤمل بن يوسف الشماس، الذي ينسب إليه حمام الشماس بحلب، في الجلوم، وكان نصرانياً وكان حسن التدبير، محباً لفعل الخير وكان أخوه ناظراً في البلد البراني، فعمره، وعمر المساجد البرانية. فجمع أبو علوان ثمال بن صالح الأعراب، وعزم على منازلة أخيه نصر، فسير نصر إلى ملك الروم أرمانوس وكان قد هلك باسيل في سنة خمس عشرة، وولي أرمانوس يستدعيه إلى حلب فخرج على ما قيل في ستمائة ألف حتى وصل إلى أنطاكية. فتوسط مقدمو العرب بين نصر وثمال، ووقفوا بينهما على أن يكون لنصر حلب، ولثمال بالس والرحبة، فرجع نصر عما كان راسل به ملك الروم. نصر والروم وأرسل ابن عمه مقلد بن كامل بن مرداس إلى ملك الروم، يسأله أن لا يقصده، ويحمل إليه من القطيعة ما كان يحمله أولاد سيف الدولة إلى باسيل، فأبى واعتقل مقلد بن كامل عنده، فحين تحقق رجوع نصر عن رأيه الأول جبن وضعف عن منازلة حلب. وسار من أنطاكية إلى قيبار في بضعة عشر يوماً، وكسرت سرية له عرب حلب، وكانوا قد طاردوا عسكر الروم، فاستظهر الروم عليهم، وكان معه ملك

البلغر، وملك الروس، والأبخاز، والخزر، والأرمن والبجناك، والأفرنج. ونزل الملك بجيوشه على تبل قريباً من الجبل، في موضع بعيد عن الماء، وضرب على عسكره خندقاً، وكانت أمواله على سبعين جمازة، وكان قدر موضع عسكره لمن يدور حوله مقدار يوم في يوم للمجد الراكب على فرس. ولقيه في طريقه أبو علوان دفاع بن نبهان الكلابي في خيل قليلة، فنال من سرياه كل ما طلب، وأرسل الملك سرية فيها صناديد عسكره إلى عزاز، فلقيتها بنو كلاب، فظفروا بها، وقتلوا بطارقها، وأسروا جماعة من أولاد الملوك الذين معهم، وجسرت عليهم بنو كلاب، فحاصروهم في الموضع الذي نزلوا فيه. ولقد أخبر بعض من شاهدهم أن مقثاوة كانت قريبة من العسكر بمقدار رمية سهم، وأن الروم لم يقطعوا منها قثاءة واحدة، خوفاً من العرب أن تتخطفهم. ولما كسرت السرية التي أرسلها الملك أجمع رأيه على العود إلى بلاده، واعتذر قائلاً: لولا عطش عسكري لبلغت مرادي. وهجم نصر والعرب على سوق الملك فنهبوه، وتأخر رحيل ملك الروم من منزلته ثلاثة أيام. وأقبل شبل الدولة نصر في تسعمائة وثلاثة وعشرين فارساً، وقيل في سبعمائة فارس، فحين أشرف على الروم ظنوا أنها كبسة فانهزموا، ومنح الله أكتافهم يوم الاثنين لسبع ليال خلت من شعبان سنة إحدى وعشرين. ونزع ارمانوس الملك خفه الأحمر لئلا يعرف، ولبس خفا أسود ولا يلبس الخف الأحمر عندهم إلا الملك وهرب. وأخذ شبل الدولة تاجه وبلاطه ولباده، وهرب في أرمن كانوا معه حموه بالسهام.

وأخذ الروم الطريق إلى الجبل منهزمين وطلعوا فيه، وحصلوا في بلد قورس، وكان للروم. ولحق بعضهم ولم يبق مع الملك إلا القليل. وقتل المسلمون من بطارقته وغيرهم ما لا يحصى، وأسروا من أولاد الملوك وغيرهم كذلك، واشتغل الناس بالنهب، وأخذوا من الدواب والثياب والديباج والأمتعة وآلات العسكر ما لا يوصف. وذكر أن طائفة من بني قطن من نمير وردت عند الهزيمة، فأخذت ثقل الملك نحواً من ثلاثمائة بغل محملة، حتى أنهم تقاسموا الدنانير الأرمانوسية بالقصعه، فحصل لكل واحد منهم ثماني عشرة جفنة. وكان ملك الروم لما رحل طرح النار في المنجنيقات والعرادات والتراس، ونهب الناس منها ما أبقته النار، حتى أن أكثر سقوف بلد حلب جعلت التراس عليها عوض الدفوف. وقيل: إن الناس بحلب باتوا على السور قبل الوقعة بيوم، وفيهم ابن نمير العابد، فبات يصفي على السور، وسجد في آخر الليل، فنام وهو ساجد، فرأى في منامه علياً عليه السلام راكباً، ولباسه أخضر، وبيده رمح، وهو يقول له: " ارفع رأسك يا شيخ، فقد قضيت حاجتك. فانتبه بقوله فحكى للناس ذلك، فتباشروا به. وحكي عن مرتضى الدولة إنه قال، " استدعاني أرمانوس في آخر تلك الليلة التي رأى ابن نمير تلك الرؤيا فيها، فقال لي: لكم بحلب راهب. فعلمت أنه يعني أبن نمير، فقلت: نعم، فقال: صفه لي، فوضفته، وحليته، فقال لي: رأيت هذا الرجل بعينه في هذه الساعة، وكأني قد أشرفت على سور هذه المدينة، وهو قائم عليه يومىء إلي بيده ويقول: ارجع، فما تصل إلى هذا البلد. وتكرر ذلك، ولا أرى أنه يتم فيه شيء. فلما كان من غد كسرت السرية التي أرسلها الملك إلى عزاز، ثم كانت الوقعة والهزيمة بعد ذلك. وقد ذكرنا عن ابن نمير نحواً من هذه الحكاية، عند منازلة ملك الروم حلب. وحكى بعض الكتاب بحلب: إنه كان في خدمة وثاب بن محمد بن نصر، عند

تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، وهو في نوبتيه على ظاهر حماة، فخلع على وثاب فرجية وشق، وقال: " هذه مباركة أخذها أبي السلطان ألب أرسلان من ديوخانس ملك الروم لما كسره. قال: فاستدعى وثاب قحف مينا ظاهراً وباطناً، وقال: " هذا يا مولانا مبارك نشرب به لأن جدي نصراً أخذه من الملك أرمانوس بناحية عزاز ". فقال تاج الدولة: " يا وثاب لم يكن بد من مساواتي في الافتخار. فقال، " لا بل عزفت مولانا كبر بيتي، وإنني له كبعض العبيد الصغار. فقال له بالتركي: بل أنت أخي الكبير. فقام وثاب، وقبل الأرض قدام السرير، فزاد في إقطاعه، وخلع وحمله على مركوبه. وقيل: إن ثمالاً ونصراً حقد عليهما ملك الروم ما جرى منهما على ميخائيل بناحية قيبار، فخرج بنفسه، فسيرا ابن عمهما مقلد بن كامل يبذلان له الطاعة والخدمة، وكان قد سير إليهما يسومهما تسليم حلب، ويقول إنه يخاف أن تتم عليهما حيلة فتخرج حلب من أيديهما وعرض عليهما عوضاً عنها ما اختاراه، فاعتقلا رسوله انتظاراً لما يرد من جواب رسالتهما. فبلغه ذلك فاعتقل مقلد بن كامل، وخرج بنفسه، فأخرجا حرمهما من حلب إلى البرية خوفاً منه، حتى كان من أمره ما ذكرناه، وكان ثمال في القلعة يحفظها، ونصر باشر القتال. فلما عاد ملك الروم سار نصر وثمال لاحضار حرمهما، فسبق نصر إليها، واستولى عليها، وعوض ثمالاً بوساطة من توسط بينهما الرحبة وبالس ومنبج وأعمالها. وخرج بعد هذه الكسرة قطبان أنطاكية الخادم المعروف بنقيطا وتفسيره بالعربية الدويك في خلق عظيم، فعاث في البلد العربي، وأفسد، وفتح حصن المنيفة، وهجم رفنية، وسبى عشرة آلاف من أهلها، ونقض أبرجة سورها في سنة

إحدى وعشرين، وفتح في سنة اثنتين حصن بني الأحمر، وحصن بني غناج، وغير ذلك من الحصون وخربها. فراسله شبل الدولة ولاطفه إلى أن صالحه، وجعله سفيراً بينه وبين ملك الروم في طلب الهدنة، فاستقر أن يحمل نصر في كل سنة إلى ملك الروم دراهم خمسمائة ألف درهم، في نجمين من السنة، قيمتها ثمانية ألاف مثقال ذهب. وأطلق الملك مقلد بن كامل بن مرداس رسول نصر، وأعطاه صليباً من ذهب مرصعاً أماناً لنصر، ووفاء بالشرط. وسير شبل الدولة نصر شيخ الدولة أبا الحسن بن الأيسر إلى الظاهر بمصر، وحمل إليه هدية من جملة ما غنمه من الروم، من الثياب، والصياغات، والأواني، والألطاف الكثيرة. وقاد في صحبته نحو مائة وخمسين رأساً من الدواب، خيلاً وبغالاً ووقع فعله عندهم أحسن موقع. وقام أبو الحسن الجرجرائي بتمهيد أمره. وأقام ابن الأيسر إلى أن توفي الظاهر، فخلع المستنصر على ابن الأيسر، وسير معه خلعاً لنصر بن صالح، ولفبه مختص الأمراء، خاصة الأمامة، شمس الدولة ومجدها، ذو العزيمتين. وفي أيام نصر اجتمع بجبل السماق قوم يعرفون بالدرزية منسوبون إلى رجل خياط أعجمي، وجاهروا بمذهبهم، وخربوا ما عندهم من المساجد، ودفعوا نبوة الأنبياء، وجحدوهم إلا الإمام الحاضر الذي يدعو إليه الدرزي، وأحلوا نكاح المحارم، وتفاقم أمرهم، وتحصنوا في مغاير شاهقة على العاصي، وانضوى إليهم خلق من فلاحي حلب، وطمعوا بالاستيلاء على البلاد.

نهاية نصر بن صالح بن مرداس

فخرج إليهم نقيطاً قطبان أنطاكية، وحاصرهم في المغاير، ودخن عليهم، وساعده على ذلك نصر بن صالح صاحب حلب، ثم التمسوا الأمان بعد اثنين وعشرين يوماً، فأخرجوهم بالأمان، وقبضوا على دعاتهم وقتلوهم، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. وفي هذه السنة استوحش سالم بن مستفاد الحمداني من شبل الدولة نصر، وكان صالح بن مرداس قد ولاه رئاسة حلب بعد ما سلمها إليه، وقدمه على الأحداث، وأبقاه نصر بعده على حاله إلى هذا التاريخ واستقر عليه أحداث حلب ورعاعها ولبسوا السلاح، وعولوا على محاربة القلعة. وكان يتردد بين سالم وبين شبل الدولة كاتب نصراني يعرف بتوما وكان يحرف ما ينقله عن ابن مستفاد إلى نصر، ويزيد في التجني، ويسوم شططاً لا يمكن إجابته إليه، وذلك من غير علم ابن مستفاد. فلما رأى شبل الدولة نصر كثرة تعديه حمل نفسه على محاربته، وركب إليه، فلما رآه الحلبيون دعوا له وانقلبوا إليه، وقاتلوا دار ابن مستفاب، فطلب الأمان فحلف له أنه لا يجري له دماً وحبسه بالقلعة، ونهبت داره، ثم خاف استبقاءه فقتله خنقاً، ليخرج عن يمينه بأنه لم يجر له دماً. وتبين لنصر بعد قليل كذب ذلك النصراني الكاتب، وما كان يحرفه في رسالته فقبض عليه، وطالبه بمال، فلما استصفى ماله دخل عليه بعض أجناد القلعة فخنقه في ذي القعدة. وقيل ذي الحجة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة. نهاية نصر بن صالح بن مرداس ودام نصر بن صالح في مملكة حلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وقتل في المصاف بينه وبين أمير الجيوش الدزبري.

وذلك أن أمير الجيوش استقر بدمشق، بعد قتله صالح بن مرداس بالأقحوانة، فسعى جعفر بن كليد الكتامي والي حمص في إفساد ما بين نصر بن صالح وأنوشتكين الدزبري. وكان عند أنوشتكين استعداد لذلك لقتله صالحاً أباه، فشرع جعفر بن كليد يغري أنوشتكين بنصر، ويحمله على أذاه حتى خرجا إلى الوحشة والمنافرة. فكاتب الدزبري ملك الروم، واستأذنه في محاربة نصر، واستنقاذ حلب منه، وأن يؤدي ما عليه من الحمل المقرر إليه، فأذن له في ذلك، فاستمال الدزبري جميع العرب من الطائيين والكلبيين وبعض الكلابيين، وسيرهم إلى نصر بن صالح ومعهم رافع بن أبي الليل. ومن قبله من المقاربة، واجتمع إليه علان بن حسان بن الجراح الطائي. ورحل الدزبري قاصداً حماة، وكان عسكره قد تقدم إلى وادي الملوك، شرقي الرستن، فحين عرف نصر بخروجهم جمع بني عمه وعسكره، ونزل تلا غربي سلمية، والتقوا فكسر نصر وأصحابه، وشرع في جمع من قدر عليه، واستنجد بشبيب بن وثاب أخي زوجته. ورحل الدزبري عقيب الوقعة الأولى إلى حماة، فدخلها، ونهبها. ثم رحل منها فالتقوا عند تل فاس، غربي لطمين، فانهزم ثمال بن صالح. وثبت نصر في خواص أصحابه، وقاتل قتالاً شديداً، فطعن ووقع، واحتز رأسه في نصف شعبان. وقيل: لسبع عشرة ليلة بقيت منه، من سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وحمل رأسه إلى الدزبري فحمله، وتأسف عليه، وأظهر عليه حزناً، وأنفذ من تسلم جثته فصلبت في حماة على الحصن، ثم أمر بإنفاذ ثياب، وطيب، وتكفين الجثة في تابوت، ودفنها في المسجد فنقلها مقلد بن كامل لما ملك حماة إلى قلعة حلب. وقيل: إن الذي قتله ريحان الجويني، وأجهز عليه هفكين التركي المعروف بالسروري. وتأمل المنجمون الوقت والزمان الذي قتل فيه أبوه فكان بين قتله وقتل أبيه أربعة أيام، يريد من السنين الشمسية.

القسم الثاني عشر ثمال بن صالح بن مرداس

القسم الثاني عشر ثمال بن صالح بن مرداس ولما هرب ثمال بن صالح وصل إلى حلب، ومعه شبيب بن وثاب، في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان، فملكها ثمال، ووعده مشايخها بالمعونة والنصر، فخوفه خليفة بن جابر الكعبي، وقال له: ربما خذلتك عشيرتك وقعد بك أهل البلد، ولم يمكنك الثبات والمقاومة، ولا الانصراف على حال السلامة. وأراد بذلك غشه لا نصحه. وكان أمير الجيوش قد سير في أثرهم إلى حلب عسكراً يقدمه طغان المظفري، فخاف ثمال من المقام بحلب، وولى بقلعة حلب مقلد بن كامل بن مرداس، وبالمدينة خليفة بن جابر الكعبي. وأطلق للتجار ديوناً كانت لهم على أخيه مقدارها ثلاثون ألفاً ذهباً، ليستميل الناس بذلك إلى طاعته، وأخذ أولاد أخيه، وأخذ شبيب زوجة أخيه أخته علوية المعروفة بالسيدة وأخذا من المال والآنية الذهب والفضة والثياب ما قدرا على حمله، وساروا إلى الجزيرة. وقيل: أن السيدة أخذت من القلعة عند قتل نصر خمسين ألف دينار، وأخذ ثمال ثلاثين ألفاً، وسار ثمال يستنجد بأخواله بني خفاجة. ووقعت الفتنة بحلب، ونهبت دار السلطان، وأموال التجار. وكان رسول ملك الروم قد وصل إلى حلب فنهب العامة متاعه ودوابه.

وأما طغان فإئه لما وصل بالعسكر إلى حلب نزل على المدينة، فراسله خليفة ابن جابر الكعبي ومن وافقه من الحلبيين في تسليم البلد، فتسلمه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان. وأنفذ رسولاً إلى الدزبري يعلمه بذلك، فأغذ السير إلى حلب، ووصل إليها في عدة قليلة، واجتاز في طريق بمعرة النعمان، فالتقاه أهلها، فأكرمهم وسألهم عن أبي العلاء بن سليمان. وقال لهم: لأسيرن فيكم بسيرة العمرين. وإجتمع عنده بالمعرة كثير من العرب، فخشي منهم، فأركب رجلاً من أصحابه جملاً، ونادى بمعرة النعمان وبظاهرها: من لم يأخذ معه قوت ثلاثة أيام فلا يلومن إلا نفسه. فلم يبق من العرب أحد حوله، وظن كل منهم أنه يطلب حلته وتم أمير الجيوش إلى حلب، فدخلها يوم الثلاثاء السابع من شهر رمضان، والقلعة مستعصية على أصحابه في يد سيف الدولة مقلد بن كامل بن مرداس، وقد احتوى على الأموال التي بها، واستولى على جمهورها. فترددت الرسل بينه وبين مقلد حتى قرر له عما في القلعة ثمانين ألف دينار، وثياباً، وفرشاً، وآلات فضة، مكراً وخديعة، وأن يأخذ المقلد الباقي. وقنع الدزبري بذاك، وأفرج له عن نزوله وخروجه فسلم مقلد القلعة وصعد إليها أمير الجيوش، يوم الثلاثاء لثمان بقين وقيل لسبع بقين من شهر رمضان. وأقام مقلد يوماً واحداً بعد نزوله من القلعة، وهرب بما معه من الأموال خوفاً من غدر الدزبري به، ولحق بحلته وبثمال بن صالح بالجزيرة، ونادى الدزبري في مدينة حلب بأن يخرج منها جميع الجند والحواشي الذين كانوا يخدمون ابن صالح. واجتمع الناس من سائر البلدان ليهنئوه بالفتح، وجلس للهناء في القصر بباب الجنان وعيد عيد الفطر بحلب، فذكر أنه لم ير بحلب عيد أحسن منه، لكثرة ما أظهر فيه من العدة والآلة، وأحسن إلى أهل حلب، وأمر برد ما كان صالح اغتصبه من أملاك الحلبيين، وتزوج بنت منصور بن زغيب. وولى بقلعة حلب مملوكين له. أحدهما يقال له فاتك، والآخر سبكتكين، وولى بالمدينة غلامه رضي الدولة بنجوتكين.

ثم قصد بالس ومنبج، فأخذهما. ورام أخذ الرحبة فلم يقدر عليها. وأقام بحلب إلى أن عيد عيد الأضحى، وسار إلى دمشق. ومدحه ابن حيوس بقصيدة يذكر فيها قتل نصر، ويقول فيها: ولما طغى نصر أتحت له الردى ... ولم ينجه الجمع الكثير ولا الحشد وبأخرى يذكر فيها حلب، أولها: هل بعد فتحك ذا لباغ مطمع ... لله هذا العزم ماذا يصنع وولى قضاء حلب أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي سنة واحدة، ثم وليه بعده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة جد جد أبي. ومات شبيب بن وثاب النميري في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. واستولى أخوه مطاعن وقوام على ما كان في يده من الجزيرة، وكانت أخته السيدة علوية امرأة نصر مقيمة بالرافقة، فتحيلت على غلام أخويها الوالي بالرافقة إلى أن أخرجته، واستولت على البلد، وتزوجت بثمال لتقيم هيبتها به، ويحفظ أمرها. ووقع في هذه السنة وقعة بين عسكر الروم وعسكر حلب، فكسر عسكر أنطاكية الحلبيين، وعاد الدمستق إلى أنطاكية. ودخل طغان حلب، وحصل ثمال بن صالح في الرقة، وخشي الدزبري من قربه إلى حلب، فاشترى قلعة دوسر ليكون مطلاً عليه. وراسل نصر بن مروان صاحب ميافارقين في أن يزوج ابنته لابنه، فأجابه إلى ذلك، فاستوحش المصريون منه لذلك، وأنفذ إلى مصر ليحضر زوجته وابنته، فلم يطلقهما الوزير. وثقل على الوزير الجرجرائي فتح الدزبري حلب، لأنه لم يكن برأيه، وأنكر

نهاية الدزبري

ذلك فقال الدزبري: قد خرف الوزير، وبسط لسانه فيه بالكلام القبيح، فكاتب ولاة الشام بترك الانقياد له، وكتب توقيعاً عن المستنصر لثمال بن صالح بحلب، وشرط عليه أن يحمل جميع ما بقلعتها من المال إلى المستنصر. وكاتب أجناد دمشق، وأغراهم به، فثاروا عليه، وأحدقوا به بقصر كان له في ظاهر دمشق، فهرب من دمشق ليلاً ومعه ثلاثمائة صبي من غلمانه الأتراك ليس لواحد منهم لحية، وعلى وسط كل واحد منه ألف دينار، وأحدقت به بنو كلاب فلم يقروا عليه. ونزل بحصن المعرة، ثم سار منها إلى حلب، ولقيه عسكره بها في أراضي سرمين، فدخل حلب في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. نهاية الدزبري وشرع ثمال بن صالح في جمع عشيرته، وحشد من أجابه من العرب وغيرهم لمنازلة حلب، وطمع في الدزبري. فرأى بنفسه الذل لما لم يكن له طاقة بدفعهم، وزاد هذه وغمه، حتى مرض مرضاً حاداً، ومات بعد ثلاثة أيام، يوم الأحد النصف من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ودفن بحلب، ثم نقل منها إلى البيت المقدس، في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. ثمال حاكماً في حلب فدبر البلد بعده مملوكه رضي الدولة بنجوتكين التركي أبو منصور، بقية جمادى الأولى وثمانية وعشرين يوماً من جمادى الآخرة، فوصل معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح بالتوقيع الذي سيره إليه المستنصر، فسلم بنجوتكين وأهل المدينة إليه، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، بعد

أن نزل إليها ومعه مقلد ابن عمه في جماعة، وقاتلوها أياماً، واستظهر الحلبيون عليهم، فرحلوا إلى ناحية قنسرين. وجرى بين الحلبيين والمغاربة عربدة، وقتل بينهم جماعة، ونهبت أهراء السلطان، وطلع أصحاب الدزبري إلى القلعة خوفاً على أنفسهم، فلم يمكنهم سبكتكين من دخولها، فنزلوا في القصر تحت القلعة. واستدعى الحلبيون ثمالاً ومقلداً. فورد مقلد في مقدمته من قنسرين، فتسلمها يوم الإثنين لليلتين بقيتا من جمادى. ووصل ثمال يوم الثلاثاء، فدخلها واجتمع إليه أحداثها. واعتصم سبكتكين بالقلعة شهراً وسلمها إليه. وقيل: إنه بقي بها إلى النصف من صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وإذ القلعيين رموا على الحلبيين، وأتوا على عدد كثير منهم، وأصلح الحلبيون المنجنيقات، وقاتلوا بها القصر الذي تحت القلعة، ونقبوه، وخربوا حيطانه مما يلي المدينة مع قطعة من سور المدينة من ناحية باب العراق. وثبت سبكتكين على الحصار مدة سبعة أشهر، واستنصر الفريقان، ونفد ما مع آل مرداس من المال، ووقع المرض في القلعيين فأفناهم، وأيس الباقون من نفوسهم فجنحوا إلى التسليم واصطلحوا على شروط منها أن لا يعرض لأحد من القلعيين بمساءة، وانتظم الأمر وسلمها سبكتكين بجميع ما فيها بعد أن أخذ لنفسه ثلاثين ألف دينار، ولورثة الدزبري اثنين وثلاثين ألف دينار. واستقر ملك حلب لمعز الدولة أبي العلوان ثمال بن صالح بن مرداس، ووصله تشريف من المستنصر في سنة ست وثلاثين. ودرت الأرزاق في أيامه على الناس، وأحسن السيرة معهم، وجاد بالعطاء. وظهر في أيامه ببعلبك رأس يحيى بن زكريا في حجر منقور فنقل إلى حمص ثم إلى حلب، فوضع بمقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقلعة حلب في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.

وكان ثمال لما طاول حصار قلعة حلب قد رغب إلى تدورا ملكة الروم، وسير رسولاً يلتمس نصرتها وإعانتها وانتماءه إليها، فرتبت ثمالاً ماخسطرس على حلب، ومقلد ابن عمه بسطرخس، وجعلت له واجب الماخسطرية عن حلب، ورتبت صالح ابن ثمال، ومنيع بن مقلد، ومحمود بن نصر، وعطية وحسناً أخوي ثمال، بطارقة. ورتبت السيدة علوية أم محمود بطريقة، وأطلقت لجماعتهم واجبات هذه المراتب، وسيرت إليهم هدايا كثيرة، وشرطت على ثمال أن يحمل في كل سنة ما كان يحمله أخوه نصر، على الشروط المشروطة عليه. وكان المستنصر قد وقع لثمال بحلب على أن يحمل إليه جميع ما بقلعتها من المال على ما ذكرناه فلما استولى ثمال على حلب حمل إلى المستنصر من ذلك مائتي ألف دينار وأفرد برسم عمارة القلعة ومساكنها ومصانعها خمسة وسبعين ألف دينار وإقامة العوض عما استنقد من العدة وهلك من أصحاب الأسلحة باستعمالها والابتذال لها في الحرب ثلاثين ألف دينار، وما أخذه من آلات ذهب وفضة وغيرها خمسة عشر ألف دينار. فلما علم المستنصر بذلك شق عليه ذلك، ووقعت الوحشة بينه وبين معز الدولة ثمال، فعصى ثمال على المستنصر، فسير المستنصر إليه إلى حلب الأمير ناصر الدولة أبا محمد الحسن بن الحسين بن الحسن بن حمدان، ومعه عبد العزيز ابن حمدان، وشجاع الدولة بن كليد. وكان ناصر الدولة بن حمدان قد ولي دمشق من قبل المستنصر بعد الدزبري، فوصلوا إلى حلب بعد أن فتحوا حماة ومعرة النعمان، في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، فطاف بحلب ولم ينزل بها فخرج أهل حلب لقتاله، فهزمهم واختنق منهم في الباب على ما يقال سبعة عشر ألف نفس وعاد ناصر الدوله فنزل بصلدي قرية قريبة من حلب على نهر قويق فجاءهم سيل في الليل لم يسمع بمثله، فغرق أكثر المضارب، وأتلف الرجال، وأهلك

قدوم رفق الخادم ونهايته

الدواب المشبوحة، فانهزم ناصر الدولة عن حلب إلى دمشق، فقبض عليه الأمير منير الدولة بها، في شهر رجب من سنة أربعين وأربعمائة، وسير إلى مصر. وكان معز الدولة ثمال قد خاف من الحلبيين أن يسلموا البلد إلى أبي محمد بن حمدان حين توجه إلى حلب، فقبض أعيان الحلبيين ومنهم قاضي حلب أبو الحسن بن أبي جرادة واعتقلهم بالقلعة سنة أربعين، فلما كفي أمر ابن حمدان أطلقهم في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وقتل معز الدولة منهم الشريف أبا علي محمد بن محمد صالح المحبره بسعاية ابن الأيسر به، دون الباقين، فإن ابن الأيسر صعد إلى مصر رسولاً فتحقق براءة الباقين من تهمة تتطرق إليهم. ووصل شجاع الدولة بن كليد والي حمص، في سنة أربعين وأربعمائة عائثاً على بلد حلب، فخرج إليه مقلد بن كامل بن مرداس وأبو الوفاء حفاظ المعري، في جمع من الكلابيين ورجالة الحلبيين والفلاحين، فالتقوا بكفر طاب. ومضى ابن كليد لينهزم، فلحقته بنو كلاب، فقتل في هذه المرة شجاع الدولة ابن كليد والي حمص، قتله جعفر بن كامل بن مرداس، وحمل رأسه إلى حلب. وكان المنجم رأى أنه يدخل إلى حلب، فدخلها قطعاً، وانهزمت عساكره. فسار مقلد بن كامل إلى حماة ففتحها بعد أن قاتل حصنها أياماً، ثم سار إلى حمص ووجد ابن منزو قد أتاها في عسكر من دمشق، فانهزم إلى باطن حمص، وقاتل قتالاً عظيماً فقل عليه الماء، فخرج ابن منزو إليهم بالأمان. قدوم رفق الخادم ونهايته ثم إن المستنصر سير الأمير أبا الفضل رفق الخادم في جيش كثيف إلى حلب، في سنة إحدى وأربعين، وقيل سنة اثنتين، ونزل على حلب على مشهد

السيدة والمستنصر

الجف، فقاتله الحلبيون، فانكسر عليها وجرح وأخذ أسيراً، فمات في قلعة حلب في الأسر. وسير معز الدولة كل من بقي من أصحابه مأسوراً إلى مصر، ففي ذلك يقول الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة: يارفق رفقاً رب فحل غزه ... ذا المشرب الأهنى وهذا المطعم حلب هي الدنيا تلذ وطعمها ... طعمان: شهد في المذاق وعلقم قد رامها صيد الملوك فما انثنوا ... إلا ونار في الحشا تتضرم وكان رفق لما نزل على حلب داهن عليه العرب الكلبيون، فأشار عليه عسكره أن يرحل عن حلب إلى صلدغ فلم يفعل، فأشير عليه أن يقبض على أمراء طيء وكلب فلم يفعل، فقيل له أن ينشىء سجلاً عن السلطان بأنه قد أقطع الشام لمعز الدولة، ويعود بهيبته فلم يفعل، فلما رآه أمراء العسكر لا يلتفت إليهم، ولا يقبل مشورتهم، ووقع القتال، انهزم العرب فانهزم العسكر معهم، فسير رفق إليهم وأمرهم بالعود يلتفتوا. وخرج من حلب خيل يسيرة فشاهدوا رحيل العسكر فظنوا أنه حيلة فاتبعوهم، وغنموا منهم. وخرج من بحلب فلحقوا رفق الخادم، في طرف جبل جوشن، وجرح ثلاث جراحات، وأخذ والضرب القوي برأسه، فمات في القلعة ودفن في مشهد الجف. ونهب من العسكر شيء عظيم من الأموال والقماش والدواب. السيدة والمستنصر ثم أن معز الدولة ثمالاً استمال المستنصر بعد هذه الوقعة، ولاطفه، وحمل القسط إلى مصر على يد شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، وسير معه ولده وثاب وزوجته علوية بنت دينار، وهدايا، وألطافاً فاخرة، وتحفاً جليلة. فلما وصلت أكرمها المستنصر غاية الإكرام، وحضرت بين يديه،

المرداسيون والروم

فقالت الأرض، وقالت: خصك الله يا أمير المؤمنين بأفضل تحية وسلام. فرد عليها أفضل رد، وسألها عمن خلفته بالشام، فقالت: في نعيم وخير إن أنعمت عليهم بأمان وذمام، حسبما جرت به عادة هذا البيت المنيف من الإحسان والإكرام. فأعجبه منها سرعة جوابها وحسن توصلها، وقال لها: أنت المسماة بالسيدة؟. فقالت: نعم، سيدة قومي وأمتك يا أمير المؤمنين، صلوات الله عليك ". فقال: ما خيب الله من فوض تدبير أمره إليك في هذه الرسالة. ثم أمرها أن تمل على كاتبها تذكرة ليوقع لها بجميع ما تقترحه توقيعاً مفرداً، وتوقيعاً بحلب وسائر أعمالها لمعز الدولة. وأمر لمعز الدولة بتشريف ولجميع بني عمه، وأفاض عليها ما غمرها وجميع أصحابها وحاشيتها، وعادت بمقصودها. ولما وردت زوجة معز الدولة إلى حلب سكن معز الدولة إلى ذلك، واطمأن، ونشر العدل، وطابت قلوب الرعية. وولى وزارته في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة رجلاً من أهل الرحبة يقال له أبو الفضل إبراهيم بن عبد الكريم بن الأنباري، ولقبه الثقة الكافي، وكان رجلاً حسن السياسة. المرداسيون والروم وسير ثمال شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، في سنة ثلاث وأربعين، رسولاً إلى القسطنطينية بالمال! المقرر عليه في كل سنة، وبهدية فشاهدوا من سداده وكمال مروءته ما أوجب لهم أن ميزوه عن غيره من الرسل، وأكرموه، وجعلوه بسطرخس في مرتبة مقلد بن كامل، وجعلوا مقلداً ماخسطرس في مرتبة ثمال، وجعلوا ثمالاً ابريدرس، وسيروا إليه هدية سنية عوضاً عن هديته. ومات قاضي حلب أبو الحسن بن أبي جرادة في سنة خمس وأربعين، فولى القضاء بحلب القاضي أبا محمد كسرى بن عبد الكريم بن كسرى وإليه ينسب آدر بني كسرى بحلب.

في الوزارة

في الوزارة ثم قدم الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حلب فاستوزره معز الدولة، وفوض أموره جميعها إليه، فاستقامت، وتضاعف ارتفاعه، وضبط أمواله، فحسد على مكانه، وقربه منه، فسعي به إلى معز الدولة. وكان معز الدولة له وفاء وذمة فنبهه على ما سعي به عليه، فاستأذنه في المفارقة ففسح له في ذلك، فسار من حلب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقصد ابن مروان. فولى معز الدولة وزارته سديد الدولة أبا القاسم هبة الله بن محمد بن الرعباني الرحبي إلى أن سلم حلب إلى المستنصر، وسافر ابن الرعباني إلى مصر، فولاه المستنصر وزارة مصر عشرة أيام، ثم عزله، ثم أعاده إلى الولاية فأقام فيها عشرة أيام وانصرف. خلع الفاطميين وصلت الخلع والتشريف من مصر لثمال، في محرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة، على يدي أبي الغنائم صالح بن علي بن أبي شيبة،، فمدحه أبو القاسم هبة الله بن فارس المؤدب بقصيدة أولها: لا زال طوعاً لأمرك الأمم ... ولا خلت من ديارك النعم وتنكر معز الدولة ثمال لثقته وأمينه شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، وقد سعي به، فصرفه عما كان يتولاه من أموره، وأقام مقامه سالماً ومسلماً ابني علي بن تغلب.. واستوحش ابن الأيسر من المقام بحلب خوفاً على نفسه فتسبب في أن سار إلى مصر. وأرسل ثمال سالماً إلى تدورا الملكة بهدية، والتمس منها الزيادة في مرتبته، فقبلت هديته، وعوضته عنها، وأجابته إلى ملتمسه، وجعلت سالماً بسطرخس عوضاً عن ابن الأيسر.

البساسيري وثمال

البساسيري وثمال واندفع البساسيري المتغلب على بغداد إلى الشام، في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، منهزماً من طغرلبك، وحصل في أرض الرحبة، ووصل في قل من الرجال، فلقيه معز الدولة ثمال وأكرمه وحمل إليه مالاً عظيماً. وحدث بعض العرب من بني كلاب أنهم لم يروا مثله في الشجاعة والمكر والحيلة، وكان إذا ركب معز الدولة قفز إليه، ليمسك له الركاب، ويصلح ثيابه في السرج، وهمت بنو كلاب بالقبض عليه فمنعهم معز الدولة. ثم ندم بعد ذلك فإنه تقدم إلى بالس، وشتى بشط الفرات، واجتمعت إليه العرب والأتراك، ففزع منه معز الدولة، وكان قد عرض عليه معز الدولة أولاً مفاتيح الرحبة فلم يأخذها منه، ثم طلبها منه في هذه الحالة ليجعل فيها ماله وأهله، في سنة ثمان وأربعين، فسلمها معز الدولة إليه. خصائل ثمال وكان معز الدولة كريماً معطاء حليماً. فمما يحكى من كرمه: أن العرب اقترحوا عليه مضيرة، فتقدم إلى وكليه أن يطبخها لهم، وسأله: كم ذبحت لأجلها؟. فقال: سبعمائة وخمسين رأساً. فقال: والله لو أتممتها ألفاً لوهبت لك ألف دينار. واستغنى أهل حلب في أيامه، حتى أن الأمير أبا الفتح بن أبي حصينة امتدحه بقصيدة، شكا فيها كثرة أولاده، وكان له أربعة عشر ولداً، قال فيها: جنيت على نفسي بنفسي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي شب من ظهري عداد الثريا مثل نصف عدادهم ... ومن نسله ضعف الثريا متى يثري وأخشى الليالي الغادرات عليهم ... لأن الليالي غير مأمونة الغدر ولي منك إقطاع قديم وحادث ... تقلبت فيه تحت ظلك من عمري وما أنا بالممنوع منه ولا الذي ... أخاف عليه منك حادثة تجري ولكنني أبغيه ملكاً مخلداً ... خلود القوافي الباقيات على الدهر

تسليمه حلب وخروجه إلى مصر

فأمر معز الدولة بإحضار شهود، أشهدهم بتمليكه ضيعتين من أعمال حلب ومنبج، مضافتين إلى ما كان له من الإقطاع، فاثرى وحسنت حاله، وعمر بحلب داراً وكتب على روشنها: دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي للأيام من باس قل لبني الدنيا إلا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس فكتب معز الدولة له داراً إلى جانب داره، وهي الآن لبعض السراف بحلب بالبلاط، تجاه المسجد، والدار التي بناها إلى جانبها مقابل حمام الواساني. ومما يحكى عن معز الدولة: أن فراشاً من جملة الحفدة، صب يوماً من الأيام على يده ماء بإبريق كان في يده، فصادفت أنبوبة الإبريق بعض ثنيته، فكسرتها وسقطت في الطست، فهم به الغلمان فمنعهم، وأمر برفعها، وعما عنه، فقال ابن أبي حصينة: حليم عن جرائمنا إليه ... وحتى عن ثنيته انقلاعا ولما اتسع الرزق على معز الدولة، ولم يبق له عدو يقصده، اضطرب عليه بنو كلاب، وامتدت أعينهم إلى ما في يده، واستقلوا ما كان يصل منه إليهم، وأكثروا في العنت له، وقالوا: لولانا ما صرت إلى ما صرت إليه، وما أنت بأحق منا بذلك، فينبغي أن تفرضه على جميعنا. وأوجب الزيادة في ذلك أن معز الدولة في سنة تسع وأربعين، سلم الرقة والرافقة إلى منيع بن شبيب بن وثاب النميري، لأئها كانت لأبيه وكانت عمته السيدة زوجة معز الدولة وكانت قبله عند أخيه شبل الدولة، فولدت له محمود بن نصر وهي التي أخذتها من غلمان أبيها، على ما ذكرناه، فأعادها إلى منيع، فكثر اشتطاط بني كلاب وفسادهم. تسليمه حلب وخروجه إلى مصر فكاتب معز الدولة المستنصر في تسليم حلب إليه، وطلب أن يعوضه عنها أماكن تبعد عن مواطن الكلبيين، ليأمن شرهم وتزول منتهم عنه، فأجابه المستنصر

حكم ابن ملهم

إلى ذلك، وعوضه عنها بيروت، وعكا، وجبيل. وأنفذ المستنصر نوابه فتسلموها منه، وهم: مكين الدولة أبو علي الحسن ابن علي بن ملهم بن دينار العقيلي، وعين الدولة أبو الحسن علي بن عقيل، والقاضي أبو محمد عبد الله بن عياض قاضي صور، تسلموا البلد والقلعه، في ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. وقد كان أبو علي بن ملهم مقيماً برفنية، فقلد الحرب والخراج بحلب. وفي الليلة التي سلمها معز الدولة إليهم احترق المركز الشرقي بالقلعة، وولوا في قلعة حلب رجلاً يعرف بركن الدولة. وصعد معز الدولة مع عين الدولة وقاضي صور إلى مصر، فلقي من المستنصر من الكرامة والحباء ما لم يلقه وافد منه ولا من آبائه، وجعل له كل يوم، إلى أن وصل إلى مصر، ثلاثمائة دينار، وأعطي ما لم يعط أحد من المال والجوهر والآلة، وكان إذا ركب السلطان حجبه، وكان ذنب دابته عند رأس دابة السلطان. واعتل معز الدولة بمصر، فركب السلطان، فوقف بباب داره حتى خرج إليه وسأله عن حاله. حكم ابن ملهم وأما ابن ملهم فإنه أقام بحلب، وعدل في الرعية، وأحسن السيرة، وبسط وجهه ويده لهم، ورخصت الأسعار في أيامه، وبنى كثيراً من أبرجة سور حلب، إلى أن تجمعت بنو كلاب وامتدت أطماعهم إلى حلب. وذلك أن البساسيري كان من المنتمين إلى المصريين، ودعا لهم ببغداد، في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فعاد السلطان طغرلبك، وجمع جموعاً عظيمة، ولقي البساسيري

حلب بين محمود بن نصر وناصر الدولة

فقتله، وكانت الرحبة في يده على ما ذكرناه. فسار الأمير أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، فأخذ ما تركه البساسيري بها، من السلاح الذي لم ير مثله، كثرة وجودة، وأموالاً جزيلة كانت للبساسيري، ثم ولى فيها بعض أصحابه. حلب بين محمود بن نصر وناصر الدولة فطمع بنو كلاب حينئذ في حلب، وقوي جأشهم، وقدموا عليهم الأمير محمود بن نصر بن صالح، لأن حلب كانت لأبيه شبل الدولة، فسار إليها محمود ببني كلاب، في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، ونزل عليها، وقاتلها، وأقام عليها سبعة أيام، ومعه منيع بن مقلد بن كامل، ثم رحل عنها. فطلب الأحداث من مكين الدولة مالاً ينفقه فيهم، فقال: " قد أخذتم واجبكم المقرر على الكمال، وتسلمتم أيضاً فلا تطمعوا في وصول شيء آخر إليكم. فعصى أحداث حلب عليه، وغدروا به، وأنفذوا إلى محمود بن نصر بن صالح فردوه. فلما قرب منهم محمود، وثب أهل حلب على مدار الشريف القاضي معتمد الدولة يحيى بن يزيد الحسيني الزيدي، وكان قاضي الشام، وعلى دار رجل يعرف بالطهير جلال الدولة، وكانا مكرمين لأهل حلب فنهبوا داريهما، وأخرجوهما راجلين، حفاة، مكشفي الرؤوس إلى الضياع العربية، وكان من جملتهم: كندي، وابن الزغري، وابن عنتر، وابن الناقد. ووصل محمود ببني كلاب، فسلموا إليه حلب يوم الإثنين مستهل جمادى

الآحزة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وانحاز مكين الدولة بن ملهم إلى القلعة، وتحصن بها، وأنفذ إلى مصر رسولاً فطلب النجدة والإعانة، فوصل الأمير ناصر الدولة أبو علي الحسين ابن الأمير ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن حمدان وهو ولد ناصر الدولة الذي نازل حلب أولاً في أيام معز الدولة وقدم في عسكر ضخم في جيوش المغاربة، حتى نزل حمص لنصرة أصحاب القلعة، فسارت إليه بنو كلاب وبنو خفاجة، وكانوا جيراناً لهم بالطعن، في خلق كبير. فرجع ناصر الدولة بن حمدان إلى بعلبك، وهمت بنو كلاب باتباعه، فأبى عليهم أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح بن مرداس، وانحاز عنهم فافترقوا، ورجعوا إلى قنسرين. وأقبل ناصر الدولة حتى نزل أفامية، واستدعى من قدر عليه من بني كلاب، واستحلفهم أربعين يميناً، وخلع عليهم خلعاً فاخرة، وسار بعد أن استوثق منهم، فلما وصل إلى سرمين أجفلت بنو كلاب ومحمود إلى الشرق، وأجفل أحداث حلب منها وحصلوا مع بني كلاب، وذلك ليلة الإثنين السابع من رجب من السنة. ونزل مكين الدولة بن ملهم وأصحابه من القلعة، فنهبوا المدينة. وقتلوا من وجدوا من أحداثها، وعدتهم أربعون رجلاً، وصلبوا في محال حلب جماعة من القتلى، ونهبوا كل موضع جليل يعرفونه بالمدينة، وقياسر الوكلاء، وأموال التجار، وغير ذلك. ووصل ناصر الدولة أبو علي الحسين فنزل حلب، وأراد أن ينهبها، فقيل له: إن أصحاب مكين الدولة قد سبقوك، ولم يبق لك ولأصحابك إلا الإسم بلا فائدة فامتنع من النهب. وقال: لا بد من أهل المدينة أن يقسطوا لي خمسين ألف دينار، عوضاً عن ترحيل محمود عنهم، فبذلوا له خدمة فلم يفعل، وقال: أنا أمضي

حلب بين عطية بن صالح ومحمود بن نصر

إلى الفنيدق وأقابل محموداً على فعله، وأعود أنتقم من الحلبيين. فسار عن حلب في مقدار خمسة عشر ألف فارس، ومحمود في دون الألفين، ونزلوا على الفنيدق وهو المعروف الآن بتل السلطان، وانهزمت بنو كلب وبنو طيء، وبقي العسكر وحده، وقل الماء عليهم، فكسروا. وأسر الدنين بن أبي كلب الجهبلي الكلابي ناصر الدولة، وأمكنته الهزيمة فلم ير على نفسه أن يولي، وأسر كل مقدم كان في عسكره. وقتلت بنو كلاب أكثر عسكره، وغنموا كل ما كان في العسكر، ولم يسلم منهم إنسان بالجملة إلا عارياً. وبعد ذلك علم محمود بن نصر بن صالح بأسر الأمير ناصر الدولة، فاشتراه من الدنين بألفين وسبعمائة دينار، وقيل: بأقل من ذلك. وأسر رجل يقال له جبر من بني كلاب أخا ناصر الدولة، فاشتري أيضاً بمال كثير، وكانت الكسرة في يوم الأربعاء سلخ شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. حلب بين عطية بن صالح ومحمود بن نصر ووصل وقت الكسرة أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح بن مرداس إلى حلب، وتسلم المدينة من المغاربة، يوم الخميس، ودار فيها ساعة، ونزل عند شافع ابن عجل بن الصوفي في داره، التي هي الآن مدرسة القاضي بهاء الدين بن شداد. وقيل: إن ملهم استدعاه، وسلم المدينة، وفرج الله عن أهل حلب. وقدم الأمير محمود بن نصر إلى المدينة، فانهزم عطية منه آخر النهار من يوم الخميس مستهل شعبان، وتسلم محمود البلد يوم الجمعة الثاني من شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وهذا من أغرب الإتفاقات أن يملك حلب ثلاثة من الملوك وفي تلاثة أيام متتابعة.

ثمال في حلب

وأيس مكين الدولة بن ملهم وركن الدولة والي القلعة، من حلب ومن نجدة تصل إليهما من مصر بعد هذه الكسرة فأنفذا من استحلف محمود بن نصر على شروط اشترطاها عليه، وسلما إليه القلعة في عاشر شعبان من هذه السنة، بعد أخذا أولاد بني كلاب: ولد محمود بن نصر، وولد شبل بن جامع، وولد محمود زائدة، وولد منصور بن زغيب، وجعلاهم في حصن أفامية رهينة على أنفسهما وعسكرهما وأموالهما ثم سيرهم مع الأمراء في الروج إلى أفامية سالمين، وأخذ أولادهم الرهائن ورجعوا إلى حلب. وأما ناصر الدولة، فبقي في أسر محمود إلى أن قدم البلد عمه معز الدولة فاصطنعه منيع بن وثاب، وخلى سبيله في سنة ثلاث وخمسين. وسير محمود كل من كان في أسره من الأمراء والقواد إلى مصر، بعد أن أحسن إليهم، وشلت يد ناصر الدولة في وقعة الفنيدق، فلما وصل إلى مصر ولاه المستنصر دمشق، فقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز الحلبي الفكيك فيه: على حلب به حلبت دماء ... وحكم فيكم الرمح الأصم وقد أرسلته والي دمشق ... يد شلا وأمر لايتم وفي ذلك يقول أبو نصر منصور بن تميم بن الزنكل السرميني من قصيدة يذكر فيها مآثر بني كلاب: أليس هم ردوا ابن حمدان عنوة ... على عقبه لا يتقون العواقبا أليس ابنه يوم الفنيدق قاده ... دنين أبي كلب وعراه سالبا ثمال في حلب ولما أخذ محمود حلب من ابن ملهم، كان عمه معز الدولة بمصر، فصرفه المستنمر عن عكا وبيروت وجبيل، وقال له: إن هذه الأماكن أخذتها عوضاً عن حلب، وقد عادت إلى ابن أخيك، فتمضي إلى حلب وتستعيدها منه، فقال: إن نوابكم فرطوا فأعينوني بمال فأعانوه على ذلك بمال، وسيروه، وقرروا ألقابه الأجل، الأعز، تاج الأمراء، عماد الملك، سيف الخلافة، عضد الإمامة، بهاء الدولة العلوية، وزعيم جيوشها المستنصرية، علم الدين ذو الفخرين مصطفى أمير المؤمنين. فعاد معز الدولة إلى حلب وجمع قوماً من عشيرته بعد أن كاتبهم حين وصل إلى حمص فأجابوه ولقيه أكثرهم بحمص وبعضهم بحماة فلما نزل معرة

النعمان، أقام بها ثمانية أيام، وضيق العرب على الناس، وكان ذلك في قوة الشتاء، فنزلوا منازل الناس. وسير محمود الشيخ أبا محمد عبد الله بن محمد الخفاجي رسولاً إلى ملك الروم، يستنجده على عمه وبقي عندهم إلى أن ملك ثمال حلب، وكتب الخفاجي إلى حلب القصيدة المشهورة: هذا كتابي عن كمال سلامة ورحل ثمال، فنزل حلب محاصراً لابن أخيه محمود، فأغلق محمود باب حلب في وجهه، وعمل قوم من الأحداث، وفتحوا لمعز الدولة باب قنسرين. ودخل أصحابه إلى أن وصلوا درب البنات، فنزل محمود من القلعة، وعاد أخرجهم ولم يقتل منهم واحد، وقبض على من كان سبب ذلك من الأحداث وهم: ابن حيون، وابن المغازلي، وذلك في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. ووصل منيع بن شبيب بن وثاب إلى حلب لنصرة محمود ببني نمير، وحصل مع محمود بالقلعة، فرحل معز الدولة عن حلب، ونزل منيع ببني نمير مدة عشرين يوماً في ضيافة محمود، وأشار على محمود باطلاق ناصر الدولة بن حمدان ففعل، وخلع عليه، وقاد خيلاً كثيرة إليه، وسيره إلى مصر. وسار محمود إلى الحانوتة ليجمع العرب على عمه، فعاد معز الدول ثاني يوم مسيره، ونزل على حلب، ثم رحل طالباً لمحمود فلقيه، وكسره، وانهزم محمود، ودخل حلب في ثلاث فوارس آخر صفرة وأسر معز الدولة أكثر عسكره، والأحداث الذين كانوا معه، وهم: كندي، وصبح، وابن الأقراصي، والشطيطي، واللباد. واستأمن منهم صبح إلى القلعة، فحبسه نائب محمود، وقيده خيفة من حيلة تتم عليه. وقصد محمود حسام الدولة منيع بن مقلد، وقال له: " أنت كنت مساعدي ومعاضدي في كسر العسكر المصري الواصل مع ناصر الدولة وأوثر أيضاً أن تساعدني على عمي. فاستمهله إلى غد ذلك اليوم، ورحل في الليل طالباً معز الدولة، وقال لنائبه: " تقول لمحمود: عمك هو الشيخ الكبير، والعرب تأنف من

وساطة ومصالحة

معاضدة الولد على الوالد، بل أنا برحيلي أصلح الأمر بينكما إن شاء الله. فأمر محمود كاتبه أبا العلاء صاعد بن عيسى بن سمان النصراني بأن يعمل شعراً، يذكره فيه بعهده، ويعتب عليه في أطراح وده، فكتب إليه: ألا أيها الساري تخب برحله ... قصيرة فضل النسغين إذا تسري تحمل هداك الله عني رسالة ... إذا بلغت يوماً شفيت بها صدري إلى معشر إن تنح نحوي سهامهم ... فأخطأ منها ما توغل في صدري وخص حسام الدولة بن مقلد ... أخا الغارة الشغواء والكرم الدثر ومن علقت كفاي حبل وداده ... وما خلت أن تغتاله نوب الدهر تذكر هداك الله يوماً أظلنا ... به الموت في ظل الردينية السمر لقد غالني في ودك الدهر بعد ما ... غدوت أراه وهو من أنفس الذخر وحاشا لذاك العهد من بعد ما غدا ... نقي الحواشي أن يدنس بالغدر وأنت من القوم الذي نفوسهم ... ترى الغدر بالإخوان ضرباً من الكفر سأصفيك ما صافيت يوماً بحفظه ... وآمل إن ضيعتني عاجل النصر وأنت عليم أئني غير جازع ... إذا ما رماني الدهر بالنوب الغبر وإني إذا ما يدج ليل خطوبها ... أصدعه بالسيف عن فلق الفجر وما الموت إلا خطة حم وقتها ... وأكرمها ما كان في طلب الفخر أبي الله والأصل الذي طاب فرعه ... إلى اليوم إعطاء القياد على قسر وأخسر من تلقاه في الناس صفقة ... فتى عند مجد لا يريش ولا يبري فلا تحتقر ذنباً جنيت على الوفا ... ولا تعتذر ومنه فما لك من عذر فقال منيع بن مقلد وأبو العلوان ثمال لما وصلت هذه القصيدة: من أن لمحمود هذه الفصاحة؟ ومن له بالشعر؟.. فقيل: " إن هذا شعر أبي العلاء بن سمان النصراني. فقال منيع بن المقلد: لقد ألبسني هذا النصراني من العار طوقاً لا يبلى، ولئن عشت لأقابلنه بما يكون له أهلاً. وساطة ومصالحة وترددت الرسل بين ثمال ومحمود، في تسليم حلب، وتوسط بينهما مشايخ

حرب الروم

العشيرة، وقالوا: هذا بمنزلة والدك، فتأخذ من الأعمال ما شئت. فأجابهم محمود: بأن هذا صحيح، ولكنه ضيع مملكتنا وإرثنا، وقد استعدتها بسيفي، وبذلت فيها مهجتي. فاعترف له معز الدولة بذلك، وضمن له معيشة بخمسين ألف دينار، وثلاثين ألف مكوك غلة. وشهد مشايخ العشيرة بها. وعاد محمود إلى حلب في آخر ربيع الأول وقد استقر الصلح بينهما يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وفتحت أبواب البلد عند دخوله، ثم خرج إلى عمله إلى المخيم، واستركبه يوم الإثنين مستهل ربيع الآخر من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وداخله القلعة، وسلمها إليه، وسار محمود ليحضر أهله من الحلة. ولما استقر معز الدولة بالقلعة، نفى من الحلبين الأحداث العتق جماعة، وصلب منهم خمسة عشر رجلاً. وكاتب المستنصر بظفره بحلب، فسير إليه الخلع مع ظفر المستفادي، ولأخيه ولأولاده، ولحسام الدولة منيع بن مقلد. ولما وصل ظفر رأى المصلبين من الأحداث فسأل فيهم فدفنوا. ولما ملك معز الدولة حلب جاء أبو العلاء بن سمان ليسلم عليه، فحمل عليه ليطعنه، فطرح نفسه من بغلته، وغيب شخصه عنه، وسار إلى أنطاكية، وصار بها أسقفاً إلى أن مات. وفسد ما بين منيع بن وثاب وبين ثمال. وكان منيع بالرحبة، فسير ثمال أخاه أسد الدولة عطية بن صالح، في شعبان من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، لدفع منيع عنها، فأخذها عطية، وأقام بها، وعصى على أخيه ثمال، وعاد محمود إلى حلب من الحلة بأمه السيدة، واجتمع بعمه معز الدولة، وسارت السيدة، وأصلحت ما بين أخيها منيع وبين زوجها معز الدولة. حرب الروم وفي المحرم من سنة أربع وخمسين وأربعمائة، عمر الروم حصن قسطون

وحصن عين التمر، فسار معز الدولة في جمادى الأولى لغزوهم، ففتح حصن أرتاح، فراسلوه في الصلح، فأرسل إليهم شافع بن الصوفي يقول: لا أجيب إلى الصلح إلا على أن تهدموا الحصنين المجددين، وأن يكون ليلون للمسلمين، لا علقة لهم فيه، ويحملون عن حصن أرتاح مالاً ويرده عليهم. فضمنوا ذلك. فرحل في الثاني من جمادى الآخرة، ودخل إلى حلب، ولم يف الروم إلا بعض ما ضمنوا له من الشروط. وبلغ معز الدولة أن قوماً من أحداث حلب مضوا إلى أنطاكية، وتحدثوا مع واليها في تسليم معرة مصرين، والتدرج منها إلى غيرها، وقالوا له: " حزبنا في حلب وأصحابنا تحت أوامرنا. فلما صح عند معز الدولة ذلك، طلبهم وأحضر منهم قوماً وقتلهم. وهم: ابن أبي الريحان، وابن نطر، وابن الشاكري، وبهلول، وصلبهم، وترك باقيهم، وذلك في شهر رمضان من سنة أربع وخمسين. وكبس الروم في شوال مريمين العقبة، وأحرقوها، ونهبوها، وأدركهم الأمير منصور بن جابر، والأمير حارثة بن عبد الله، وظفروا بالروم على كثرتهم وقلة المسلمين، فقتلوا من الروم مقدار آلف وخمسمائة. وسار معز الذولة، في العشر الثاني من شوال، للغزو فنزل قيبار، وفتحها، ونهبها، وقتل الرجال، وسبى النساء والصبيان. ثم مرض معز الدولة في العشر الأول من ذي القعدة، من سنة أربع وخمسين وأربعمائة، واضطرب البلد، فبلغه ذلك، فاستدعى أخاه أبا ذؤابة عطية بن صالح، ووصى له بحلب، وولاه الأمر. وتوفي يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة ودفن في مقام إبراهيم الفوقاني بالقلعة، داخل الباب الغربي، وعمل عليه ضريح، وبقي إلى أيام الملك رضوان، وقلع وبلط عليه.

القسم الثالث عشر عطية بن صالح بن مرداس

القسم الثالث عشر عطية بن صالح بن مرداس عطية وابن أخيه وجلس أخوه أسد الدولة عطية بن صالح بن مرداس في منصبه يوم الجمعة، فبلغ ذلك محمود بن نصر بن صالح وهو في حلته فلم يرض بالوصية، وأرسل إلى عطية يقول له: " إن معز الدولة شرط على نفسه أن يرد علي البلد عند موته لما تسلمه مني، وأنا أخذته بسيفي من المصريين عن غلبة وقهر، وهو إرثي عن أبي. وعرف ذلك مشايخ العشيرة واجتمعوا على صحة ما ذكره، وساعدوه على منازلة حلب، فكان في كل وقت يقصدها ويرعى زرعها ويأخذ ما في ضواحيها ويرحل عنها. فجاء في رجب من سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ونزل بحلته على عين سليم، فخرج إليه أسد الدولة عطية فكسره، ونهب حلته وانهزم محمود ثم إنه تجمع إليه شبل الدولة بن جامع، ومحمد بن زغيب، وغيرهما من بني كلاب، ونزلوا على قنسرين وعطية نازل على السعدي بباب حلب فلم يقدروا على التزول على حلب. فسار إليهم سيف الدولة منيع بن مقلد بن كامل فقوي جأش محمود به لأنه كان ذا مال عظيم. وكان كريماً يطعم العرب ويعلق على خيلهم، ويخلع ويهب، فلما حصل معهم نزلوا على حلب. وحاصروا حلب شهوراً فضرب حجر المنجنيق منيع بن مقلد فقتله. وقيل: إن رجلاً حقيراً ضرب صدغه بمقلاع فيه حجر، فبقي أياماً، ومات، وذلك في العشر الأول من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة.

وأوصى منيع بجميع ماله وما يملكه لخاله أسد الدولة أبي ذؤابة عطية الذي كان يحاربه. وكان إقطاعه يرتفع منه كل سنة ثمانون ألف دينار، وكان له في حصن يقال له المجدد، ثلاثمائة ألف دينار، وسلاح وآلة بمال عظيم. وكان أبو الحسن علي بن محمد بن عيسى العمري الحلبي وزير منيع، وكان عطية قد دعاه إلى خدمته فامتنع، فلما مات منيع عاد أبو الحسن العمري إلى حلب فقبض عليه عطية، وقتله لحقده على ما فعله من امتناعه من خدمته. ولعله احتج بأنه حمل منيعاً على حصار حلب مع محمود، وبعد أن قتله صلبه، ورثاه أبو محمد الخفاجي بأبياته التي يقول فيها: ومعذل جار على غلوائه ... يروى حديث نداه عن أعدائه واستوزر عطية أبا الحسن علي بن يوسف بن أبي الثريا الذي داره الآن مدرسة ابن أبي عصرون بحلب. ثم صالح عطية بن مرداس ابن أخيه محموداً، على أن يدفع لمحمود إقطاعاً بخمسة وعشرين آلف دينار، من ذلك: سرمين وباقي الإقطاع في بلد حلب من الأرتيق، وتحالفاً على ذلك وتمماه. وفي نصف جمادى الأولى سنة ست وخمسين وأربعمائة، سلم ثابت بن معز الدولة إلى ابن عمه محمود معرة النعمان وكفرطاب وحماة، وكان فيها من قبل عمه. وذلك أن بني كلاب تجمعوا بأرض شيزر: شبل بن جامع بن زائدة، ومحمود ابن زائدة، ومنصور بن محمد بن زغيب، وحسين بن كامل بن حسين بن سليمان بن الدوح، وجماعة معهم من سبيعة وذؤيبة، وأجمع رأيهم على الوثوب على بلدان أسد الدولة عطية. فأخذوا حماة وكفرطاب، وأتوا إلى معرة النعمان وفيها شهم الدولة خليفة بن جبهان، فأخذ منهم أماناً وسلمها، وساروا حتى نزلوا قريباً من حلب، فسار عطية من حلب يكبس محموداً، وكان بمالد، فظفر به محمود، وعاد عطية منهزماً إلى حلب. ونزل محمود ببني كلاب على حلب، ومنعوا منها الميرة، وحصروها، وقاتلوها قتالاً كثيراً، وأشرفت على أمر عظيم من الجوع وقلة ما يدخلها. وكان أسد الدولة عطية قد أرزق أحداثها، فمنعوا باقي أهلها من التسليم.

استنجاد المرداسيين بالترك

فلما رأى أسد الدولة ضعف البلد صالح ابن أخيه محموداً. فكان لعطية حلب والرحبة وبالس ومنبج وعزاز وقنسرين. وسلم بعد ذلك ما كان في يده غير هذه المواضع المذكورة إلى ابن أخيه محمود بن نصر بن صالح، ووقع الصلح على ذلك. استنجاد المرداسيين بالترك واستدعى عطية بن خان وكان في ديار بني مروان مغاضباً لأبيه ملك الترك، وكانت الروم تمده بالخلع والدنانير إكراماً لأسد الدولة عطية لأنه كان مهادنهم، فقدم ابن خان إلى عطية في آلف قوس فأكرمهم وأضافهم. فلما حصل ابن خان على باب حلب وكان هذا أول دخول الترك إلى الشام اتجمعت بنو كلاب إلى محمود بن نصر بن صالح، وقصدوا حلب فرأى محمود أنه لا طاقة لهم بالترك فانهزم. ومشى السفراء بين محمود وبين عطية، فانعقد الصلح بينهما على أن يأخذ عطية حلب والرحبة ومنبج وعزاز وبالس وأعمال ذلك، ويأخذ محمود ابن أخيه من الأثارب قبلة واقطاعه الذي كان قديماً وما كان في يده في أيام معز الدولة ثمال. وتم ذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وخرج عطية بالأتراك وأحداث حلب إلى الغزو، ففتح كمنون، وسبى أهلها، وعاد إلى حلب غانماً. ودخل ابن خان حلب فخاف الحلبيون وعطية منه، فأغرى عطية بهم الأحداث من أهل حلب فنهبوهم ليلاً، في صفر من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا خيولهم وسلاحهم وما قدروا عليه من رحلهم. وركب ابن خان منهزماً وكان ظاهر البلد وصاح تحت القلعة: " أليس قد غدرت بي وبأصحابي يا عطية، والله لأنزلك منها على أقبح قضية ". وسار إلى الشرق

حلب من عطية إلى محمود

فعبرت طائفة منهم إلى الجزيرة فنهبتهم بنو نمير، ورجع الباقون فصادفوا عسكرا للروم في بطريق لهم يعرف بالنحت، فلم يجدوا أبداً من شق عسكر الروم، وكان في عشرين ألفاً ففتح لهم الروم طريقاً بينهم ليطبقوا عليهم فعبروا سالمين. وقتلوا من الروم خلقاً عظيماً، وكان السالم منهم نحوا من مائة وخمسين رجلاً، فركبت عليهم العرب بنو قريظ وربيعة بن كعب وغيرهم، فأشار أمير منهم يقال له قمار على الملك أن يموت كريماً، ولا يثق بالعرب فلم يفعل. والتجأ إلى منصور بن جابر فغدر به بعد أن كان أعطاه مقنعة زوجته ومخصرته، وقتل قمار وجماعة. حلب من عطية إلى محمود وسلم ابن خان في جماعة فلحق بمحمود، ونزل عليه وهو بسرمين، فأمنهم، وبعث بهم إلى معرة النعمان. ثم أن محموداً سير ولده إلى أنطاكية رهينة، فوجهوا قطعة منهم، وتلقاه بالجنايب في كل منزل بمراكبها، وجعلوا له كل يوم خمسين ديناراً، وخلعوا عليه وعلى أصحابه خلعاً سنية، ووهبوا له في جملة ما وهبوا دبوس ذهب وزنه ثلاثمائة مثقال. وسار محمود بمن جمعه من العرب، ومعه ابن خان التركي ومن انضوى إليه من التركمان، إلى مرج دابق، فخرج عطية إليهم، وجمع جموعاً كثيرة من العوفيين وغيرهم، وقصد محموداً والتركمان، في يوم الخميس حادي عشر جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين، فالتقوا، فانهزم عطية إلى حلب، وتبعه محمود بمن معه. ونزل على حلب محاصراً لها وفيها عمه عطية وجاءه ظفر المستفادي رسولاً من المستنصر، وهو محاصر حلب، ولقبوه عظيم أمراء العرب عضد الدولة، سيف الخلافة، ذو الفخرين، وكان يلقب أولاً عز الدولة، وشمسها، فبقي محاصراً حلب مائة يوم ويومين. ثم سلمها إليه عمه أسد الدولة بن صالح بعد حصار شديد وجوع عظيم، وأخذ عمه عطية الرحبة، وعزاز ومنبج، وبالس، وجميع الضياع التي شرقي حلب وشماليها، وأخذ محمود حلب وقبليها، واصطلحا صلحاً خالصاً ذلت به لهما العرب.

القسم الرابع عشر محمود بن نصر بن صالح

القسم الرابع عشر محمود بن نصر بن صالح ودخلها محمود بن نصر يوم السبت النصف من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأربعمائة، واستقرت ألقابه: الأجل، شرف أمراء العرب، سيف لخلافة، معز الدولة وفخرها، وعضدها، ناصر الملك، ذو الحسبين. ومضى عطية إلى الرحبة وكانت ألقاب عطية خالصة الأمراء، عمدة الإمامة، عضد الخلافة، أسد الدولة وسيفها، ذو العزيمتين. وأقطع محمود معرة النعمان الملك هارون بن خان ملك الترك، فدخل المعرة يوم الأربعاء السابع عشر من شوال، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ووصل معه إليها من الترك، والديلم، والكرد، والأوج مقدار آلف رجل مع حاشيتهم فنزل بالمصلى. فما روي أعص منهم عن البساتين والكروم وغيرها، ولم يكونوا يأخذون من حد شيئاً إلا بثمنه، وسقوا دوائهم الماء بثمنه. وفزعت العرب منه فزعاً عظيماً، ثم استدعي إلى حلب وعوض معرة النعمان. وخرج محمود بن نصر بابن خان والتركمان، في سنة تسع وخمسين، ومعه بنو عوف من بني أبي بكر بن كلاب، فنزل المعشيرة، من بلد حماة، ثم أتى حماة، وطىء جميع العرب وأذلها. وكانت العرب تطلب فتنة تقع بينه وبين عمه عطية بن صالح، وكان بحمص، فظنت بنو كلاب إنه يحاربه، فلم يفعل عطية، لمعرفته بغدر العرب به مرة بعد أخرى، وأراد أن لا ينهدم مجد آل مرداس. وفي هذه السنة سلم حسين بن كامل بن الدوح " حصن أسفونا " إلى نواب

هزيمة الروم

المصريين، بعد أن نهب عسكر الترك حناك، وجميع ضياعه بالشام. ووقع الوباء العظيم بحلب، حتى إنه مات في رجب من هذه السنة زهاء عن أربعة آلاف فضلاً عن سائر الشهور. وفيها طلعت طائفة كبيرة من الترك، فنزل بعضها على دلوك وتقدم منهم نحو ألف، فنهبوا بلد أنطاكية عن آخره، وأخذوا نحو أربعين آلف جاموس. وقيل أكثر، حتى أن الجاموس كان يباع بدينار، وأكثره بدينارين وثلاثة. وأما البقر، والغنم، والمعز، والحمير، والجواري، فلم يقع على ذلك إحصاء من الكثرة. وكانت الجارية تباع بدينارين والصبي بتطبيقة نعال للخيل. هزيمة الروم وخرب بلد الروم خراباً لم يسمع بمثله، وبقيت الغلات في البيادر ما لها من يرفغها منهم، حتى كان الفلاحون وسائر العوام يمضي الواحد منهم ويأخذ ما يريد، فلا يجد من يدافعه عن ذاك، لأن الروم تحصنوا في الحصون والجبال، والمغاير، وتركوا بيوتهم على حالها لم يأخذوا منها شيئاً، لأن الترك أتوهم على غفلة، وكان ذلك في شوال. وكان مقدمهم أفشين بن بكجي، وكان قد غضب عليه العادل ألب أرسلان بسبب خادم كان زعيم بعض عساكره، فقتله الأفشين. وقطع الفرات إلى بلد الروم، ثم خرج إلى أعمال حلب، وباع الغنائم التي كانت معه. ونزل في سنة ستين حول أنطاكية، وضاق الشيء فيها حتى بلغت الحنطة قفيزين بدينار. فلما لم يبق شيء دون فتحها أتته كتب العادل ألب أرسلان من العراق بالرضا عنه. وقيل إن أصحاب مؤونة السوق بحلب حصل في دفاترهم نحو سبعين آلف مملوك ومملوكة سوى ما بيع بغير مؤونة في بلد الروم وسائر البلدان، وأخذ من أصحاب أنطاكية مائة آلف دينار، ومثلها من ثياب الديباج والآلة. وسار إلى العراق في جمادى الآخرة من السنة.

بين المرداسيين والروم

وفي هذه السنة سلم أمير من أمراء المغاربة يعرف بابن المرأة حصن أسفوناً إلى الأمير عز الدولة محمود بن نصر بن صالح. وتولى ذلك الأمير سديد الملك أبو الحسن علي بن متقذ. بين المرداسيين والروم وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان، فتحت أرتاح بالسيف، ونهب جميع ما فيها وما في حصنها من الأموال والذراري، وكان فيها خلق عظيم من النصرانية لأن جميع من كان في تلك المواضع منهم حصل بها لأنها كانت الكرسي لهم هناك. وقتل من رجالها نحو ثلاثة آلاف رجل، وقد كان الملك ابن خان حاصرها زهاء خمسة أشهر. وأتى عسكر عظيم من عساكر الروم، فنزل على باب أنطاكية ليصالح الملك ابن خان عن أرتاح وغيرها من بلادهم، فلم يتم بينهم صلح. وإنما كان غرض العسكر أن يدس إلى أنطاكية غلة حملت إلى السويداء لتقويتها. وكان فتح أرتاح فتحاً عظيماً لأن عملها قريب من أعمال الشام، من الفرات الى العاصي إلى أفامية إلى باب أنطاكية إلى الأثارب. وقيل بأنهم أحصوا إلى شهر رمضان من هذه السنة أنه افتقد من الروم في الدرب إلى أفامية بحساب قتلا وأسراً ثلاثمائة آلف نفر. وخرج ملك الروم في سنة إحدى وستين وأربعمائة إلى ديار الشام فأخذ كثيراً من أهل منبج، وهرب أهلها من حصنها فأخذه، وشحنه رجالاً وغلة وعدة. وسار إلى عزار فوقف عليها ساعة، ورجع جاولاً، وسلط الله عليه وعلى أصحابه الغلاء، والعلة، والوباء. فذكر ملك الروم للقاضي القضاعي رسول المصريين أنه ومات له في يوم واحد ثلاثة آلاف من خيله سوى عسكره. وقيل: إن منبج بقيت في بلد الروم سبع سنين، وهذا الملك هو ديوجانس. ولا يبعد عندي أنه الذي عناه هرقل بقوله: " لا يعود إليك رومي إلا خائفاً حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد ".

وفي يوم السبت أول شعبان من هذه السنة، جمع قطبان أنطاكية ودوقسها المعروف بالنحت جموعاً كثيرة. وطلع إلى حصن أسفونا بعملة عملها عليه قوم يعرفون ببني ربيع من أهل جوزن ففتحوه، وقتلوا كثيراً من رجاله وكانوا ثمانين رجلاً، وأسروا الباقين. وكان الوالي به رجلاً من الأتراك يعرف بنادر. وبلغ الخبر إلى الأمير عز الدولة محمود بن نصر بن صالح، وهو يسير في الميدان بظاهر مدينة حلب، فسار في الوقت يوم الإثنين في الترك والعرب، ولم يدخل البلد، واجتمع عليه خلق عظيم سمع من يحزرهم بخمسين ألفاً، فحاصره سبعة أيام، وفتحه يوم السبت وقتل جميع رجاله، وكانوا ألفين وسبعمائة، وفي ذلك يقول أبو محمد الخفاجي: إن أظهرت لعلاك " أنطاكية " ... حزناً فقد ضحكت على قطبانها بعث البريد مخبراً عن وثبة ... ما كان أحوجه إلى كتمانها لما أطل له لواؤك خافقاً ... عرفت وجوه الذل في صلبانها وفيه يقول أبو الفضل عبد الواحد بن محمد الحلبي الربعي: رددت على الإسلام شرخ شبابه ... وكادت عليه أن تقام المآتم وظن طغاة الروم منذ أغبهم ... نزالك أنا حين ذاك نسالم ثم إن محموداً هادن الروم في هذه السنة على أن اقترض منهم أربعة عشر ألف دينار، وعلى أن يجعل ولده نصراً رهناً عليها، ويهدم حصن أسفونا. فأخرج ثابت ابن عمه معز الدولة وشبل بن جامع، وجمعا الناس من معرة النعمان وكفرطاب وأعمالها، وخربا حصن أسفونا. ووقعت فتنة بحلب بين الحلبيين والأتراك، وقتل من الأتراك نحو أربعين رجلاً ومن الحلبيين عشرة. ووصل في سنة اثنتين وستين وأربعمائة صندق التركي خارجاً من بلد الروم، ومعه عسكر عظيم، ودخل إلى بلد حلب من الأرتيق إلى الجزر إلى بلد معرة النعمان وكفرطاب إلى حماة وحمص إلى رفنية.

السلطان العادل ومحمود

وشتوا في هذه السنة فنهبوا الضياع وسبوا منها، وعاقبوا من وجد هناك، وفتحوا جباب الغلة ومدافنها. وقطع القطائع الكثيرة على مواضع امتنعت عليه ولقي أهل الشام من عسكره شدة عظيمة، وهو أول نهب وفساد جرى بالشام من الأتراك. ولما انقضى زمن الشتاء عاد إلى بلد الروم بعد أن أكرمه محمود بن نصر بتحف وهدايا حملها إليه. السلطان العادل ومحمود ثم إن محمود بن نضر بن صالح راسل في هذه السنة السلطان العادل ألب أرسلان، واستقر الأمر بينهما على أن يخطب محمود بحلب للإمام القائم خليفة بغداد وبعده للسلطان العادل ألب أرسلان وبعده لنفسه، فوصل إليه نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن علي الزينبي لإقامة الدعوة العباسية، ومعه الخلع من القائم بأمر الله ومن السلطان. .فجمع محمود أهل حلب وقال لهم: " قد ذهبت دولة المصريين وهذه دولة جديدة، ومملكة سديدة ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحفون دماءكم لأجل مذهبكم والرأي أن نقيم الخطبة خوفاً من أن يجيئنا وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل ". فأجاب مشايخ البلد إلى ذلك فلبس المؤذنون والخطيب السواد، وخطب الإمام القائم وبعده للسلطان ألب أرسلان، وبعمه لمحمود، ولقب الأمير الأجل حسام الدولة العباسية، وزعيم جيوشها الشامية تاج الملوك، ناصر الدين، شرف الأمة، ذو الحسبين خالصة أمير المؤمنين. وأمر ابن خان الأتراك بالوقوف على باب الجامع، وقتل كل من يخرج ممتنعاً من الصلاة وسماع الخطبة، فسأله الشيوخ إلا يفعل خوفاً من وقوع فتنة. وأخذت العامة الحصر التي في الجامع، وقالوا: " هذه حصر علي بن أبي طالب فيجيء أبو

بكر بحصر حتى يصلي عليها الناس وكان ذلك يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة اثنتين وستين وأربعمائة. ومدحه الشيخ أبو محمد بن سنان الخفاجي الحلبي بقصيدة طويلة، يقول فيها: ما يصنع الحسب الكريم بعاجز ... يبنى له الشرف الرفيع ويهدم وكان ناصر الدولة بن حمدان قد تغلب على مصر، ووقع بينه وبين جماعة من الأمراء بمصر وحشة، فأنفذ إليه الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد البخاري المعروف بقاضي حلب وأظن ناصر الدولة قلده قضاء حلب حين وردها، ووقعت به وقعة الفنيدق، والسلطان ألب أرسلان حين حاصر حلب وهو معه فعرف بذلك أرسله ابن حمدان رسولاً إلى السلطان ألب أرسلان يستدعي عساكره ليسلم إليه ديار مصر ويغير الدعوة، وذلك في سنة اثنتين وستين. فلما ورد عليه الرسول إلى خراسان جهز العساكر العظيمة التي تملأ الفضاء، ووصل معها على طريق ديار بكر، ونزل الرها في أول سنة ثلاث وستين، وأقام عليها نيفاً وثلاثين يوماً. وسير الفقيه أبا جعفر قاضي حلب المذكور رسولاً إلى محمود بن نصر بن صالح يستدعيه إلى وطء بساطه وخدمته أسوة بمن وفد عليه من الملوك مثل: شرف الدولة مسلم بن قريش، وابن مروان، وابن وثاب، وابن مزيد، وأمير الترك والديلم. فلم يجب محمود إلى ذلك، وخاف منه. فسار عن الرها إلى الشام قاصداً محمود بن نصر، فقطع الفرات في النصف من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، من نهر الجوز، ونزل على بعض المروج فأعجبه، فقال له الفقيه أبو جعفر قاضي حلب: " يا مولانا أحمد الله تعالى على هذه النعمة، وهي أن هذا النهر لم يقطعه قط تركي إلا مملوك. وأنت قد قطعته ملكاً ". فأحضر الأمراء والأتراك وأمره بإعادة القول. قال: فأعدته، فحمد الله تعالى حمداً كثيراً. ونزل بنقرة بني أسد إلى أرض قنسرين إلى الفنيدق. وكان نقيب النقباء

بحلب لم ينفصل عنها بعد إقامة الدعوة، فسأله محمود أن يخرج إلى السلطان، ويصلح أمره معه، فخرج مستفسراً ومتوسلاً. وتلطف الأمر، وأحسن السفارة، وخاطب السلطان بأنه قريب العهد بالخطبة للخليفة، وقد لبس تشريفه. فقال السلطان: " أي شيء تساوي خطبته للخليفة ولبى تشريفه، مع ما سبق من شقه العصا وخروجه عن الطاعة " وأبى قبول الشفاعة فيه بدون وطء محمود بساطه. فخاف محمود ولم يجب إلى ذلك، وتمادى الأمر نحو شهرين. وحضن محمود حلب وجفل الناس من سائر الشام إليها، وحصل الرعب في قلوبهم هيبة له، لما اجتمع إليه من العساكر الجمة، والجيوش الكثيفة الضخمة. وكان الأمر بخلاف ما ظن الناس، فإنه لما أيس من خروج محمود إليه عاد من الفنيدق وكانت خيمته على ذلك التل فعرف بتل السلطان من ذلك اليوم. ونزل على حلب في آخر جمادى الآخرة من السنة، وكانت الخيام والعساكر من حلب إلى نقرة بني أسد، إلى عزاز، إلى الأثارب، متقاربة بعضها من بعض، ولم يتعرض أحد من العسكر بمال أحد، ولا سبيت حرمة، ولا قاتل حصناً. وبلغني أن عسكره العظيم لم يأخذ عليقة تبن من فلاح إلا بثمنه، وأقام محاصراً حلب شهراً ويومين. ولم يقاتلها غير يوم واحد، وقصد المطاولة بالبلد بعد أن أشرف على الأخذ، وقال: " أخشى أن أفتح هذا الثغر بالسيف فيصير إلى الروم ". ونقب برج الغنم، وعلق، فظفر أهل حلب بمن دخل ذلك النقب وأخذوا بعضهم، ووقع الردم على الباقين. وعصب الحلبيون برج الغنم بشقة أطلس، وكان السلطان نازلاً بميدان باب قنسرين، فسأل عن ذلك فقيل: " هولاء الحلبيون يقولون على سبيل المزح: قد صدع البرج رأسه من حجارة المنجنيق فقد عصبوه!. فغضب، وفرق في تلك الليلة ثمانين آلف فردة نشاب خلنج، غير ما رماه بقية العسكر. وأصبح وأمر بالزحف فجد الناس في قتال البلد، وحمل السلطان بنفسه في ذلك اليوم، فوقعت يد فرسه في خسف كان هناك، وأصاب في الحال رأس فرسه

وقعة منازكرد

حجر المنجنيق فركب غيره، وعاد، وصرف الناس عن الحرب بعد أن أشرف البلد على الأخذ إبقاء لحرمة البلد، وكان عسكره دائرا بالبلد من جميع وجوهه. ثم إن السلطان راسل الأمراء من بني كلاب وأحضرهم من البرية، فوصلوا إليه، وعول على تقليد بعضهم وتركه في مقابلة محمود وعوده لأجل ما بلغه من ظهور ملك الروم إلى بلاد أرمينية عازماً على قصد خراسان. ولما علم محمود بأن البلد قد أشرف على الفتح، وعلم بوصول الأمراء من بني كلاب، وأنه إن تم ذلك خرج الشام من يده، فراسل السليماني وكان يتردد إليه في الرسالة يعلمه إنه قد عزم على وطء بساط السلطان وخدمته خوفاً مما أشرف عليه. فخرج إلى السلطان بنفسه، ومعه والدته علوية، المعروفة بالسيدة، في أول شعبان، وأخذ مفاتيح البلد معه، فدخلا والعسكر سماطان بين يديه، فخدماه، وسلما عليه، فأكرمهما، وأحسن اليهما، وقال للسيدة: أنت السيدة. قالت: " سيدة قومي "، وقد ذكرنا إنه جرى لها ذلك مع المستنصر. وأطلق له البلد، وشرفه، وخلع عليه، وكتب له توقيعاً بحلب، وتردد خروج محمود إلى خدمته مرة بعد أخرى، وقرر معه السلطان أن يخرج بعسكره، ويضيف إليه السليماني، وأن يتوجها إلى بلاد دمشق والأعمال المصرية لفتحها ففعل ما أمره به، وعاد السلطان إلى بلاده. وقعة منازكرد وقيل: إنه خفف ابنه مع فوج من عساكره بكورة حلب، وقصد ملك الروم، وأسرع في السير لأنه بلغه أن ملك الروم خرج في جموع لا تحصى، وأنه وصل إلى قاليقلا، وهي أرزن الروم. فوصل السطان إلى أذربيجان حين بلغه أن ملك

الروم قد أخذ على سمت خلاط، وكان السلطان في خواص جنده، وجموع عساكره بعيدة عنه، ولم ير العود إلى بلاده، فسير وزيره نظام الملك وزوجته الخاتون إلى تبريز مع أثقاله. وبقي في خمسة عشر آلف فارس من نخبة عسكره مع كل واحد فرسه وجنيبه، والروم في زهاء ثلاثمائة آلف أو يزيدون ما بين فارس وراجل، من جموع مختلفة من الروم، والروس، والخزر، واللان، والغز، والقفجق، والكرج الأبخاز، والفرنج، والأرمن. وفيهم خمسة آلاف جرخي، وفيهم ثلاثون آلف مقدم ما بين دوقس، وقومص، وبطريق. فرأى السلطان أن الإمهال للحشد والجمع مضر، فركب في نخبته وقال: أنا أحتسب نفسي عند الله، وهي إما السعادة بالشهادة، وإما النصر كما قال تعالى " ولينصرن الله من ينصره " ثم سار مرتباً جيشه قاصداً جموع الروم. وكان ملك الروم قدم مقدماً في عشرين آلف مدرع من شجعان عسكره، ومعه صليبهم الأعظم، فوصل إلى خلاط، فنهب وسبى، فخرج إليه عسكر خلاط، ومعه صندق التركي الخارج إلى بلد حلب، في سنة اثنتين وستين على ما قدمنا ذكره فكسره صندق، وأسره، وصادف ذلك وصول السلطان، فأمر بجدع أنفه. وعجل إنفاذ الصليب الذي كان في صحبته إلى نظام الملك، وأمره بتعجيل

إنفاذه إلى دار السلام مبشراً بالفتح، وتلاحق عسكر الروم، فنزلوا على خلاط محاصرين لها، ونزل الملك على منازكرد فسلموها إليه بالأمان خوفاً من معرة جيوشه إن استولوا عليهم، وذلك في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة. فلما كان يوم الأربعاء سير أهل منازكرد، وخرج بنفسه ليشيعهم وهو في جموعه وحشوده ووافق ذلك وصول العسكر السلطاني، ووقعت العين في العين، فحمل المسلمون حملة رجل واحد، فردوهم على أعقابهم. وشرع أهل منازكرد يتسللون من بينهم فقتل الروم بعضهم، ونجا الباقون، وترك الروم طريقهم الذي كانوا سالكيه، وعاد ملكهم فنزل في مضاربه بين خلاط ومنازكرد، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده. فلما أصبحوا بكرة الخميس وصل السلطان ألب أرسلان في بقية عساكره، فنزل على النهر، وملك الروم على موضع يعرف بالزهوة في مائتي آلف فارس، والسلطان في خمسة عشر ألف، فأرسل السلطان رسولاً حمله سؤالاً وضراعة، ومقصوده أن يكشف أمرهم، ويختبر حالهم ويقول لملك الروم: " إن كتت ترغب في الهدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها وكلنا الأمر إلى الله عز وجل ". فظن الزومي أنه إنما أرسله عن ضرورة فأبى واستكبر، وأجاب بأني سوف أجيب عن هذا الرأي بالري، فغاظ السلطان جوابه، وانقطعت المراسلة بينهما. وأقام الفريقان يوم الخميس على تعبئة الصفوف، فقال أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي فقيه السلطان وإمامه: " أنت تقاتل عن دين الله الذي وعد بإظهاره على الأديان، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، والناس يدعون لك على المنابر في أقطار الأرض ". فلما أصبحوا يوم الجمعة ركب السلطان بجموعه وركبت الروم فتواقفوا، فلما

حان وقت الزوال نزل السلطان عن فرسه، وأحكم مد حزامه، وتضرع بالدعاء إلى الله تعالى، ثم ركب وفرق أصحابه فرقاً كل فرقة منهم لها كمين، ثم استقبل بوجهه الحرب. وحمل ملك الروم بجمعه، فاستطرد المسلمون بين أيديهم، واستجروا الروم إلى أن صار الكمين من ورائهم، ثم خرج الكمين من خلفهم، ورد المسلمون في وجوههم، فأتزل الله نصره، وكسرت الروم، وأسر الملك، واستولى المسلمون على عساكرهم، وغنموا ما لا يعد كثرة ولا يحصى عدداً وعدة. وقيد الملك أسيراً إلى بين يدي السلطان، فأقامه بين يديه ومعه بازي وكلب صيد. وكانت مع الروم ثلاثة آلاف عجلة تحمل الأثقال والمنجنيقات، وكان من جملتها منجنيق بثمانية أسهم تحمله مائة عجلة، ويمد فيه ألف ومائتا رجل، وزن حجره بالرطل الكبير قنطار، وحمل العسكر من أموالهم ما قدروا عليه. وسقطت قيمة المتاع والسلاح والكراع، حتى بيعت اثنتا عشرة خوذة بسدس دينار، ولم يسلم من عسكر الروم إلا العسكر الذي كان محاصراً خلاط، فلما بلغتهم الكسرة رحلوا عن البلد جافلين، فاتبعهم المسلمون وتخطفوا أطرافهم، فلم يلو أولهم على أخرهم. فمن عجيب الإتفاق ما حكي: أنه كان لسعد الدولة كوهرائين مملوك أهداه لنظام الملك، فرده عليه فجعل يرغبه فيه، فقال نظام الملك: " وماذا عسى أن يكون من هذا المملوك، يأتينا بملك الروم أسيراياً، مستهزئاً به. ثم أنسي هذا الحديث إلى أن كان في هذه الحادثة فاتفق وقوع ملك الروم في أمر ذلك الغلام، فخلع السلطان عليه، وبالغ في إكرامه، وحكمه في طلبه واقتراحه، فطلب بشارة غزنة، فكتب له بذلك. ثم رحل السلطان إلى أذربيجان، والملك في قيده، فأحضره السلطان بين يديه، وسأله عن سبب خروجه وتعريضه نفسه وعسكره لهذا الأمر، فذكر أنه لم يرد إلا حلب، وكل ما جرى علي كان محمود السبب فيه والباعث عليه، فقال:

خبر عطية بن صالح

" اصدقني عما كنت عازماً عليه لو ظفزت بي " فقال: لاكنت أجعلك مع الكلاب في ساجور. فقال السلطان: ما الذي توثر أن يفعل بك. فقال: " انظر عاقبة فساد نيتي واختر لنفسك "، فرق له قلب السلطان، فمن عليه، وأطلقه، وأكرمه، وخلع عليه بعد أن شرط عليه أن لا يتعرض بشيء من بلاد الإسلام، وأن يطلق أسرى المسلمين كلهم، وسيره إلى بلاده، وسير معه قطعة من العساكر توصله. فلفا انصرف ديوجانس إلى قسطنطينية خلعوه من الملك، ولم يتم له ما أراد. وقيل: إنه كحل، ومات بعد مدة. ولم ينقل إنه أسر للروم ملك في الإسلام قبل هذا. وأما محمود بن نصر بن صالح فإنه سار بعسكره بعد رحيل السلطان عن حلب، ومعه بنو كلاب والسليماني، في شعبان من هذه السنة، فنزلوا بالقرب من بعلبك قاصدين دمشق وبلادها وبها يومئذ ابن منزو الكتامي، حسب ما تقدم السطان إليه، وأقام محمود ليتبين ما يفعل. خبر عطية بن صالح وكان عمه عطية بن صالح قد صار مع الروم مستنجداً بهم على ابن أخيه محمود، وبعد أن قصد المصريين فلم يحصل على شيء منهم. فخرج عطية مع النحت دوقس أنطاكية وعسكر الروم، فهجموا معه معرة مصرين وأحرقوا بعضها، وقتلوا من قدروا عليه. وبلغ الخبر محموداً وهو في أرض بعلبك فعاد إلى حلب، وسار السليماني

الوزير أبو بشر

ليلحق بالسلطان ألب أرسلان، واتصلت غارات الروم على الشام، فاستنجد محمود " بقر لو التركي " ومن معه من الأمراء بفلسطين، وهم: ابن أخي الملك ابن خان، وأتسز بن أوق وإخوته. وكانوا أول من طلع من الترك إلى بلاد فلسطين، وفتحوها، وأقاموا بها فنزلوا إلى محمود متجدين له، وأقاموا إلى أن تفرق عسكر الروم. ودخل عطية عم محمود إلى قسطنطينية، فسقط من سطح كان نائماً عليه وهو سكران، فمات سنة أربع وستين، وسار محمود إلى الرحبة فأخذها، وحمل إلى حلب ودفن بها غربي باب الجنان، في مشهد أمه طرود قبلي بستان النقرة، وصلى عليه ابن أخيه محمود. ثم عاد الأتراك بعد أن حمل إليهم محمود مالاً وخيلاً. الوزير أبو بشر وفي سنة أربع وستين وأربعمائة، تغيرت أخلاق محمود بعد رحيل السلطان، وتنكر لأصحابه، وتغير على وزيره أبي بشر النصراني، وكان هو الذي ساعده بماله حتى ملك حلب، واستجذب العرب إليه، وكان القائد أبو الحسن بن أبي الثريا الذي كان وزير عطية قد سعى به ليلي وزارة محمود، وطالبه بمال جليل. وكان محمود قد رغب في جمع المال، وغلب عليه حب الدنيا فذكر له أبو بشر أنه عاجز عن أداء ما طولب به، وأنه مما لا تصل يده إليه ولا إلى بعضه. فأمر محمود بقتل ولد كان لأبي بشر وبقتل أخيه، فقتلا وقطع رأساهما، وعلقا في عنقه، فسمع أبو بشر وهو يقول: ويح دهري ما أمره ... ما وفي خير بشره وحلف أبو بشر أنه بعد ما فعله بابنه وأخيه لا يظهر له شيئاً من ماله. وقال: كل من عنده شيء مودع فهو في حل منه وسعة. وندم محمود على ما فعل، وأراد الرجوع له، وأرسل إليه شافع بن الصولي أن يقرر عليه شيئاً ويطلقه فامتنع. واتفق أن محموداً اصطبح، وقدم إليه طعام بعد سكره، فأنفذ منه لأبي بشر مع

ابن منقذ

فراشه، فقام قائماً، وقئل الأرض، وشكر ودعا. فعرف ابن أبي الثريا، فركب، ولقي الفراش ودفع إليه مائة دينار، وسأله أن يقول لمحمود: إن هذا شيخ خرف لأنه لم يقبل طعام مولانا، وقال: كافأه الله وعجل عليه لما. ففعل الفراش ذلك. ودخل ابن أبي الثريا عقيبه على محمودث وجاراه في حديث لا يتعقق بأبي بشر فلم يقبل عليه، ووجده مملوء القلب غيظاً من جواب الفراش. فقال ابن أبي الثريا: " الله لا يشغل لمولانا خاطراً، فما أراه منبسطاً في مجلسه ولا مصغياً إلى المملوك لما. فحدثه بما قال الفراش، فقال يا مولانا: لم تزل إليه محسناً ويقابلك بالإساءة فكيف يكون بعدما جرى عليه وعلى ابنه وأخيه ما جرى. وأنا أدري أنك تريد ماله، وقد تكرر قوله إنه لا يعطيك شيئاً. قال محمود: " هذا سيفي وخاتمي، خذهما وامض إليه فان لم يقر بشيء فاقتله. فقام ابن أبي الثريا من عنده بذلك، واشتغل محمود بالشرب فنهم منه، وأحضر ابن أبي الثريا أبا بشر فلم يطالبه بمال بل قال له، " ما زلت تتجلد حتى صرت إلى هذه الحال ". فقال: " يا قائد السوء قد علمت أن هذا كله من سعيك، والأجل لا مرد له، وهذا موت الشمهداء، ولكن استعد لرجلك بحبل، فستموت ميتة الكلاب، وتجر جيفتك إلى الخندق. وقتل أبو بشر، ورمي وسط بئر بستان القصر. وصعد الوزير أبو نضر بن النخاس ثاني يوم قتل أبي بشر إلى خدمة محمود، فقال له سراً: " تمضي إلى أبي بشر لتقرير ما عليه، ويطلق لما. فقال: " يا مولانا وما قد قتلته. فأطرق محمود ساعة وقال: تمت علي وعليه الحيلة، ويجب يا أبا نصر أن تكتم هذا الأمر " قال أبو نصر: فما حدثت به إلا بعد موت محمود، واستقل أبن أبي الثريا بوزارة محمود. ابن منقذ وأما سديد الملك أبو الحسن بن متقذ فإنه استشعر من تاج الملوك أن يقبضه وكان أخاه من الرضاعة فاجتمع باسباسلار أبي حرب، المعروف، بخريبة الفايا، وكان صاحب سر محمود ونديمه، وكان لابن منقذ إليه إحسان كثير وصنائع جمة، فمال له:، قد استشعرت من تاج الملوك فانظز ما تعمله معي، فقال: " تكلفني أن يقول الأمير أريد اقبض على فلان فأخبرك بذلك، لا والله، ولكن أنا أنفذ إليك مع عجوز عندي ألفي دينار، فإذا نفدت طلبتها منك فشأنك ونفسك

" فبقيت تلك الدنانير عنده مئة ثم نفذ العجوز لطلبها، وكان قد أصلح حاله للسفر، فدفع إليها الدنانير، وركب من يومه، وخرج من حلب إلى كفرطاب، فاستصحب منها ما أراد. وسير حسين بن كامل بن الدوح إلى سديد الملك بن منقذ يسأله الاجتماع فاجتمعا، فقال: له حسين: " ايش رأيك في الدخول إلى حلب " فقال: ما أقول لك شيئاً لأن لك مالاً عظيماً، فإن أشرت عليك بتركه كنت ملوماً عندك، ولكني أقول لك ما أعمل، وأنت ترى رأيك والله لا نظرت محموداً أبداً " وسار إلى طرابلس فكتب محمود إلى ابن عمار يأمره بالقبض عليه، ويبذل له ثلاثة آلاف درهم ورقية فلم يظفر به. وسار ابن منقذ حتى وصل إلى طرابلس في سنة خمس وستين، فلقي ابن عمار وأخاه، فكاتبهما محمود فتنكرا له. وعزم ابن منقذ على الطلوع إلى مصر، فاتفق موت أمين الدولة ابن عمار فشد ابن منقذ من جلال الملك علي بن عمار وعاضده بمماليكه ومن طلع معه أهل كفرطاب، فأخرجوا أخا أمين الدولة، وتولى جلال الملك، وعظم محل منقذ عنده حتى كان حكمه في طرابلس مثله وكاتبه محمود بتطييب قلبه، فلم به، ولم يعد إلى حلب حتى مات. وقيل: إن ابن النحاس، كاتب محمود، كتب إليه كتاباً من نفسه يضمن له الرضا عن محمود، وكتب في آخره: إن شاء الله " وشدد النون من إن، ففطن منقذ بأنه أراد قوله تعالى: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك "، فكتب جوابه: وكتب إن الخادم، وكسر الألف، وشدد النون من إنا، ففطن أبن النحاس بأنه أراد قوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ". وأما محمود فإنه لما يئس من عود أبي الحسن بن منقذ قبض على أملاكه

خبر الخفاجي

جميعها وأقام حسين بن الدوح فإنه دخل إلى حلب فقتله محمود ولم يمهله. خبر الخفاجي وكان محمود قد خطر له أن يولي في كل قلعة من قلاعه رجلاً من أهل حلب، وتكون ذريته وأهله تحت يديه، وطلب من الوزير ابن أبي الثريا أن يختار له من يوليه عزاز، فقال: " لا أجد لذلك إلا أبا محمد بن سنان الخفاجي " وكان أبو نصر بن النحاس حاضراً، فصوب الرأي فيه فأحضره محمود وولاه بعد أن امتنع ثم أجاب. ثم إنه استوحش عليه فاستدعاه محمود عدة دفعات إلى حلب، فتعلل عليه ولم يحضر، وكان أبو نصر بن النحاس صديقه وكان كاتب محمود، فكان يكتب إليه ويحذره. فأمره في بعض الأيام أن يكتب إليه كتاباً يتلطفه ويأمره بالحضور والكتاب عن أبي نصر، لأنه كان يعلم ما بينهما من المودة، وأمره أن يضمن له عن محمود كل خير، وأمره أن يكتب الكتاب بين يديه، ولم يقع له أن يلغز فيه شيئاً. قال أبو نصر: " فما قدرت أن أعمل فيه سوى أن شددت النون من إن شاء الله، وتناهيت في لفظ الكتاب، وقلت: لو عرفت ضد ما كتبت لما كنت بصورة من يغشه " وأخذ محمود الكتاب ووقف عليه، وكرر فيه نظره فرآه كافياً شافياً، فأمر بإلصاقه وعنوانه، ودفعه لبعض أصحابه ووصاه أن يقول: " هذا كتاب دفعه إلي أبو نصر بداره " وسار الفراش. فلما وقف أبو محمد عليه كرر فيه نظره، وبقي متعجباً منه، ويقول: " أخي أبو نصر أعطاك الكتاب بداره أم بالديوان أم بالقلعة قدام الأمير " فقال: " بل بداره " فقال: ما هذا صحيح، فحلف له فلم يصدقه إلى أن قال: " وقعت على المعنى. وكتب جوابه يذكر فيه شكر أبي نصر، وأنه مهتنم بالحضور عند زوال حمى جسمه ثم إنه كاتب أبا نصير خفية، وأعلمه أنه عثرر على المعنى في تشديد " إن ". وقد ذكرنا أنه جرى له ذلك مع ابن منقذ فيحتمل أن يكون وقع ذلك معهما جميعاً. ثم إن محموداً أنكر وقال: " ما أعرف قتله إلا منك "، فقال: " كيف " قال: تمضي إليه اليوم ومعك ثلاثون فارساً يقفون لك في بعض الطريق، وتقدم منك إليه

من يعلمه بوصولك ومعك في رانك هذه الخشكنانة ومعك أنت خشكنان غيره، فإذا فعلت ذلك لا بد أن ينزل ويلتقيك من قلعة عزاز، ويعرض عليك الصعود والنزول عنده، فقال له: أنا موجل ومستحلف أن لا أنزل على الأرض، ولا آكل لك طعاماً، وطول الحديث معه إلى أن تعلم أنه قد جاع، ثم اذكر أنت الجوع واخرج لك خشكنانة من الذي معك، ثم أخرج المسمومة فادفغها إليه، وكل أنت التي لك وتحدث معه ويكون حديثكما على فرسيكما وأنتما بمعزل من أصحابكما، وطول معه الحديث ولا تبرح حتى يستوفي أكلها، وعلامة صدقك موته، وإلا ضربت عنقك. قال أبو نصر بن النحاس: فنزل علي من ذلك أمر تمنيت الموت معه فخرجت وأنا على غاية من الجزع والتأسف كيف قضى الله ذلك على يدي، وجعلت دقعة أعول على الهرب، ثم إني أفكر في أولادي وأهلي، وإنني إن فعلت ذلك أهلكتهم لعلمي بظلم صاحبي، ثم إن الفرسان متوكلة بي. فلما اجتمعت به فعلت ما ذكره لي، ثم ودعته عند استيفاء أكل الخشكنانة ورجعت من موضعي مبادراً، وأبعدت من أرض عزاز، وركنت جنيباً كان معي وجديت في السير خوفاً من الطلب وصعد أبو محمد إلى المركز، فوجد مغصاً شديداً ورعدة، ثم قال: لاقتله أخي أبو نصر، اطلبوه فركبت الخيل خلفه فلم تلحقه. ووصل أبو نصر فاجتمع بمحمود، فعرفه ما جرى فلما كان من ذلك الغد وصل رسول من عزاز يستدعي الشريف النقيب أبا المعالي الفضل بن موسى وابنه سنان بن أبي محمد الخفاجي، وجماعة من أهله وذكر الرسول أنه في السياق فمنع محمود ولده من الخروج، وأمر الشريف أن يتولى القلعة إلى أن ينفذ إليها والياً، فولاها بعد خمسة أيام وأحداً من أصحابه. وتوفي أبو محمد في قلعة عزاز في سنة لست وستين وأربعمائة، وقيل سنة أربع وستين وهو الصحيح، وحمل إلى حلب، وصفى عليه الأمير محمود بن صالح وقيل: إنه توفي في سنة ثلاث وستين والأول أصح ولما أحس بالموت عمل: خف من أمنت ولاتركن إلى أحد ... فما نصحتك إلا بعد تجريب إن كانت الترك فيهم غير وافية ... فما تزيد على غدر الأعاريب تمسكوا بوصايا اللؤوم بينهم ... وكاد أن يدرسوها في المحاريب

الشاعر ابن حيوس

وقيل: إنه كان كتبها أبو محمد من عزاز إلى سديد الملك بن منقذ، ويذكر له في كتابه أخواله ولجاج محمود في طلبه، وتغير نيته فيه، وخوفه من غائلته وظلمه. الشاعر ابن حيوس وفي سنة خمس وستين وأربعمائة وقيل في شوال سنة أربع وستين وفد أبو الفتيان بن حيوس على محمود بن نصر بن صالح، وكان سديد الملك بن منقذ اجتمع به بطرابلس، ورأى نفور بني عمار منه لأجل ميله إلى الدولة المصرية، فأشار عليه أن يقصد محموداً بحلب، فقصده صحبة نصر بن سديد الملك بن منقذ، فأحضره محمود. وكان قد جلس في مجلسه وأمر بإحضار الشراب فشرب أقداحاً، ثم قال: ارفعوا الخمر فإن ابن حيوس يحضرني ممتدحاً، وفي نفسي أن أهبه جائزة سنية فإن كان الشراب في مجلسي قيل وهبه وهو سكران " فرفع وحضر الأمير أبو الفتيان فأنشده قصيدته الميمية التي أولها: قفوا في القلى حيث انتهيتم تذمماً، ... ولا تقتفوا من جار لما تحكما أرى كل معوج المودة يصطفى ... لديكم، ويلقى حتفه من تقوما وهي قصيدة طويلة، أحسن فيها كل الإحسان، وذكر إشارة ابن منقذ عليه بقصده فقال: سأشكر رأياً منقذياً أحلني ... ذراك فقد أولى جميلا وأنعما فوهب له آلف دينار ذهباً في صينية فضة، وجعلها له رسماً علية في كل سنة. واحتفر الخندق بحلب فجاءه أبو الفتيان فقال: " هذه أعمال يعجز عنها كسرى وذو الأكتاف " فقال محمود: " ما كان الأمير أبو الحسن ينفذك حتى عملت واجتمع بباب محمود بن نصر جماعة من الشعراء، فلم تصل إلى واحد منهم جائزة غير ابن حيوس، فكتب إليه ابن الدويدة، المعروف بالقاق: على بابك الميمون منا عصابة ... مفاليس فانظز في أمور المفاليس وقد قنعت منك العصابة كلها ... بعشر الذي أعطيته لابن حيوس

وفاة محمود بن نصر

وما بيننا هذا التفاوت كله ... ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس فقال محمود: " والله لو قال بمثل الذي أعطيته لأعطيتهم مثله " ثم أمر لهم بالجائزة مائة دينار أو أكثر. وقصد الروم ناحية عزاز في جموعهم، فخرج محمود إليهم في عدة قليلة تناهز ألف فارس، فاندفع الروم بين أيديهم، وقصدوا أنطاكية واحتموا بها في سنة أربع وستين وافتتح محمود قلعة السن في تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وستين. وفاة محمود بن نصر ومرض محمود بن نصر بن صالح بحلب في جمادى الأولى من سنة سبع وستين وأربعمائة وحدثت به قروح في المعا كانت سبب منيته. وكان محمود في أول ملكه حسن الأخلاق، لين الجانب، كريم النفس، عفيفاً عن الفروج والأموال، ثم تنكر وزاد عليه حب الذنيا، وجمع المال فلحقه من البخل ما لا يوصف.

القسم الخامس عشر نصر بن محمود بن نصر بن صالح

القسم الخامس عشر نصر بن محمود بن نصر بن صالح وأوصى بحلب لابنه شبيب وكان أصغر أولاده فلم تنفذ أصحابه وصيته، وملكوا حلب ولده الأمير نصر بن محمود، وجده لأمه الملك العزيز بن جلال الدولة ابن بويه، وأحصي ما وجد في خزائن محمود فكانت قيمته من العين والمتاع والآلات، والثياب، والمراكب آلف ألف وخمسمائة آلف دينار. وأمن الناس في أيام نصر وكانت سيرته أصلح من سيرة أبيه، وأحسن إلى أهل حلب، وأطلق من كان في اعتقال أبيه من أحداثهم، وعم الناس بجوده. وكان بحراً للمكارم إلا أنه كان لا يستطيع أن يرى أحداً يأكل طعامه مع كرمه وجوده. ودخل عليه أبو الفتيان بن حيوس حين ولي حلب فأنشده القصيدة التي أولها: كفى الذين عزا ما قضاه لك الدهر ... فمن كان ذا نذر فقد وجب النذر اعتذر فيها عن تأخره عن سلفه فقال: تباعدت عنكم حرفة لازهادة ... وسرت إليكم حين مسني الضر فجاد ابن نصر لي بألف تصرمت ... وإني لأرجو أن سيخلفها نصر فأطلق له نصر آلف دينار، وقال: وحياتي، لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها. ولم يزل يواصل ابن حيوس بالحباء وجزيل العطاء، وأنشده ابن حيوس يوماً بديهاً وقد خرج ينظر المد في قويق: أرى الأرض تثني بالنبات على الحيا ... ولو تستطيع النطق خصتك بالحمد

بك افترت الأنام عن ناجذ الغنى ... وغرد طير العيش في الزمن الرغد عهدنا مدود الأرض تأتي بحورها ... ولم نر بحراً قط سار إلى مد فأعطاه صلة جزيلة: وجهز نصر عساكره إلى منبج صحبة أحمد شاه، وكانت في أيدي الروم، فحصرها مدة، وأيس واليها من نجدة تأتيه، فسلمها في صفر من سنة ثمان وستين وأربعمائة، فقال في ذلك ابن حيوس من قصيدة: وطريدة للدهر أنت رددتها ... قسراً فكنت السيف يقطع مغمداً ووصل في سنة ثمان وستين وأربعمائة أتسز بن أوق التركي إلى أعمال حلب القبلية، ونزل العاصي على الجلالي، وجفل أهل الشام بين يديه، وكان قد سمى نفسه الملك المعظم فنهب كل ما قدر عليه، وملك رفنية، وسلمها إلى أخيه جاولي، وترددت سراياه في جميع الشام، وتمادى فساده. وترددت الرسل بينه وبين نصر بن محمود صاحب حلب، فلم يستقر بينهما أمر، وعاد إلى دمشق فتسلمها. واعتمد جاولي مدة مقامه برفنية إساءة المجاورة، وشن الغارات والأذى في الأعمال القبلية من عمل حلب، فجهز إليه نصر بن محمود عسكر حلب ومقدمهم أحمد شاه التركي، وذكر أنه شيباني فسار إليه، والتقوا بأرض حماة، فكسره جاولي وغنم عسكره. وعاد أحمد شاه ونزل مذكين وجمع إليه من سلم من عسكره، فلما اجتمعوا عولوا على العودة إلى حلب، فقال لهم أحمد شاه: " ما بقى لنا وجه إلى حلب بعد هذه الكسرة، فإن راجعتم الحرب وأظفرنا الله بهم كان الأمر لنا بحكم الظفر، هـ ان أبيتم ذلك فأنا أسير إلى الفرات وأستدعي أهلي، فما لي وجه ألقى به نصر بن محمودة وإنما أعطى ومنح وأكرم لمثل هذا الموقف. فأجمعوا أمرهم على معاودة الحرب فأسرى من موضعه إلى عسكر جاولي وكبسه، فاستثأر منهم، ونهب عسكره، وأسر منهم ما يزيد عن ثلاثمائة نفس،

مقتل نصر

وسيرهم في الوثاق إلى حلب مشاة، وهرب جاولي إلى رفنية، وسار بعد ذلك إلى أخيه بدمشق. وكان نصر حين ملك حلب واستقر بها أمر بقتل وزير أبيه أبي الحسن علي بن أبي الثريا القائد، صاحب الدار التي هي المدرسة العصرونية، فقتل وكان راكباً تحت القلعة، وهو في حشمه على بغلته، وعمل في رجله حبل وجذبت جثته من تحت القلعة إلى باب أنطاكية، جزاء على ما فعله بأبي بشر، وصدق قال أبي بشر فيه على ما ذكرناه وكان نصر قد اتهمه بأنه أشار على أبيه أن يولي أخاه الأصغر شبيباً، وكذلك قتل نصر ناجية بن علي أحد ولاة أبيه. واستوزر نصر أبا نصر محمد بن الحسن التميمي المعروف بابن النحاس الحلبي، وبقي وزيراً بعده لسابق أخيه إلى أن اعتقله، ثم أطلق وكان أبو نصر كاتباً لمحمود قبل وزارته. وفي يوم عيد الفطر من سنة ثمان وستين وأربعمائة، عيد نصر بن محمود، وهو في أحسن زي، وكان الزمان ربيعاً والأرض نضرة، واحتفل الناس في عيدهم وتجملوا بأفخر ملابسهم، ودخل عليه ابن حيوس فأنشده قصيدة منها: ضفت نعمتان خصتاك وعمتا ... حديثها حتى القيامة يوثر مقتل نصر وقبض نصر على الأمير أحمد شاه التركي، واعتقله في القلعة، وجلس فشرب إلى العصر، وحمله السكر على الخروج إلى الأتراك، وسكناهم في الحاضر، وأراد أن ينهبهم، وحمل عليهم، فرماه تركي بسهم في حلقه فقتله، وتبعه أصحابه فوجدوه قد مات، وذلك يوم الأحد مستهل شوال من سنة ثمان وستين وأربعمائة وكان نصر أهوج.

القسم السادس عشر سابق بن محمود بن نصر

القسم السادس عشر سابق بن محمود بن نصر وزحفت الأتراك إلى البلد وكان والي القلعة رجلاً يقال له ورد، وعنده الأمير سديد الملك أبو الحسن بن منقذ، وكان قد كان من طرابلس إلى حلب في أيام نصر، وعندهما جماعة من الخواص، فلما علموا بذلك استدعوا أخاه سابق بن محمود. وحمل من العقبة، وكان ساكنا بها في الدار التي تنسب إلى عزيز الدولة فاتك، ورفع إلى القلعة بحبل من السور، وهو سكران، ونادوا بشعاره، وأطاعه الأجناد، وأشاروا عليه بإطلاق أحمد شاه فأطلقه في الحال، وخلع عليه. فنزل أحمد شاه إلى العسكر بالحاضر فسكن الثائرة، وأخمد الفتنة، واستقرت قاعدة سابق، ولفب عز الملك أبو الفضائل، ودخل عليه ابن حيوس فأنشده قصيدة أولها: لي لها أن أحفظ العهد والوا ... وإن لم يفد إلا القطيعة والصدا فأطلق له سابق آلف دينار، وجعل له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وكان سابق من متخلفي بني مرداس. ولما ملك سابق اجتمعت بنو كلاب إلى أخيه وثاب، وعولوا على معونته عليه، وأخذ حلب له من أخيه سابق وانضاف إلى وثاب أخوه شبيب بن محمود، ومبارك أبن شبل ابن خالهما، وعامة بني كلاب. فلما تحقق سابق ذلك استدعى أحمد شاه أمير الأتراك، وكان في آلف فارس وشاوره، فأنفذ أحمد شاه إلى رجل من الأتراك يعرف بابن دملاج واسمه محمد بن

هزيمة وثاب

دملاج في يوم الأربعاء مستهل ذي القعده، من سنة ثمان وستين. هزيمة وثاب وتحالفوا وخرجوا إلى وثاب وبني كلاب، في يوم الخميس مستهل ذي الحجة من سنة ثمان وستين وأربعمائة، وكان بنو كلاب في جمع عظيم ما اجتمعوا قط في مثله يقال إنهم يقاربون سبعين آلف فارس وراجل، وكانوا قد عاثوا في بلد حلب، وكانوا نزولاً بقنسرين فعند معاينتهم الأتراك انهزموا من غير قتال وخلفوا حللهم وكل ما كانوا يملكونه وأهاليهم وأولأدهم. فغنم أحمد شاه وأصحابه ومحمد بن دملاج وأصحابه كل ما كان لبني كلاب فيقال: إنهم أخذوا لهم مائة آلف جمل وأربعمائة آلف شاة، وسبوا من حرمهم الحرائر جماعة كبيرة، ومن إمائهم أكثر، وكل ما كان في بيوتهم وعفوا عن قتل عبيدهم المقاتلة، وكانوا يزيدون عن عشرة آلاف عبد مقاتل فلم يقتلوا أحداً منهم، وكان الذي غنمه الترك من العرب في ذلك اليوم ما لا يحصى كثرة، وأسروا جماعة منهم. وعاد أحمد شاه بالأسرى إلى حلب فتقدم سابق بن محمود بإطلاقهم، وأنزل أخته زوجة مبارك بن شبل في دار، وأكرمها لأنها كانت فيمن أخذ ذلك اليوم. وبعد هذه الهزيمة بثلاثة عشر يوماً دعا محمد بن دملاج التركي أحمد شاه، فخرج إليه، وكان نازلاً شمالي حلب، فلما أكلوا وشربوا قبض محمد بن دملاج على أحمد شاه وأسره، وكان في نفر قليل فأقام في أسره تسعة أيام ثم إن سابق بن محمود اشترى أحمد شاه من محمد بن دملاج بعشرة آلاف دينار وعشرين فرساً، يوم السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة من السنة. إعانة ملكشاه لوثاب بن محمود فعند ذلك سار وثاب بن محمود ومبارك بن شبل، وحامد بن زغيب، إلى باب السلطان أبي الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان، وحضروا عنده، وشكوا إليه حالهم، وسألوه أن يعينهم على سابق، ويكشف عنهم ما نزل بهم منه.

وأنكر السلطان ذلك ووعدهم بما طابت به نفوسهم، ووقع لهم بإقطاعهم في الشام، وأقطع الشام لأخيه تاج الدولة تتش، وأمره بالمسير إلى الشام في أوائل سنة سبعين وأربعمائة وتقدم السلطان ملك شاه إلى أفشين بن بكجى، وصندق التركي، ومحمد بن دملاج، وابن طوطو، وابن بريق، وغيرهم، من أمراء الترك بالكون مع تاج الدولة والمسير في خدمته فسار تاج الدولة ومعه وثاب بن محمود ومبارك بن شبل وحامد بن زغيب، حتى وصل إلى ديار بكر، وتواصلت إليه آلاف حاد مع المذكورين، وكان أحمد شاه قد حصر أنطاكية مئة ومعه عسكر حلب واشتد الغلاء بها في هذه السنة، واستقرت الحال على خمسة آلاف دينار مقاطعة، فأخذها، ورحل عنها إلى حلب. ولما قرب تاج الدولة من الشام هرب جماعة الأتراك المقيمين بحاضر حلب مع أحمد شاه إلى حصن الجسر وكان ابن منقذ جدد عمارته ليضايق به شيزر، ويقطع المادة عنها من بلد الروم، وأذن له سابق بن محمود في ذلك، فجدد في هذه السنة فتركوا أموالهم وأهاليهم بهذا الحصن، وعادوا إلى خدمتهم بحلب، ولم يأمنوا أهل حلب أن يتركوا حرمهم عنده لما كانوا فعلوه بابن خان، وتغير الهواء بالجسر عليهم، فهلك عاقتهم بهذا الموضع. وأما تاج الدولة تتش فإنه أقام بالمروج إلى أن وصلته بنو كلاب بالطعن، ونزلوا حلب في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. ووصل شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش في عسكر كثير بأمر ملك شاه، ونزل معه على حلب معيناً له، وحصروها ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، وكان نزوله على حلب لثلاث خلون من ذي القعدة من سنة إحدى وسبعين وأربعمائة لمكان القتال عليها متصلاً. وقتل أحمد شاه مقدم الأتراك بحلب بطعنة أصابته في الحرب، وكان هوى

قصيدة ابن النحاس

شرف الدولة أبي المكارم مع سابق، وكان يسير إليه في الباطن بما يقوي نفسه، وكان ينكر على بني كلاب خلطتهم بعسكر الترك. فاستأذن بنو كلاب تاج الدولة في رحيل الطعون فأذن لهم فأحس شرف الدولة أبو المكارم بتغير النية فيه، وتحقيق التهمة به من مراسلة سابق وأهل حلب، فاستأذن تاج الدولة في الرحيل، ورحل وجعل عبور عسكره على باب حلب، وباع أصحابه أهل حلب كل ما كان في العسكر عصبية وتقوية لهم، وقوى نفوسهم ونفس سابق. وسار بعد أن قوي أهل حلب بما ابتاعوه من عسكره بعد الضعف الشديد إلى بلاده، وأشار على مبارك ووثاب وشبيب بالاحتياط على أنفسهم أو الهرب إلى حلب. ولم يك بقي مع تاج الدولة من بني كلاب غيرهم في نفر يسير، فكاتبهم سابو وتألفهم وقال لهم: " إني إنما أذب وأحامي عن بلادكم وعزكم، ولو صار هذا البلد إلى تتش لزال ملك العرب وذلوا " وجرت أمور أوحشتهم من الأتراك، فهربوا إلى حلب بعد أن قتل أصحابهم قبل الهزيمة وبعدها، وصاروا إلى سابق. قصيدة ابن النحاس وكتب سابق إلى الأمير أبي زائدة محمد بن زائدة قصيدة من شعر وزيره أبي نصر بن النحاس، يعرفه ما هو فيه من الضيق، ويسأله الإقبال عليه والقيام بمعونته ويحذره من التخلف عنه، فيكون ذلك مسبباً لزوال ملك العرب، ويعتب عليه في التوقف عنه فيما كان جرى مع أحمد شاه التركي، والقصيدة هي: دعوت لكشف الخطب والخطب معضل ... فلبيتني لما دعوت مجاوباً ووفيت بالعهد الذي كان بيننا ... وفاء كريم لم يخن قط صاحب وما زلت فراجاً لكل ملمة ... إذا المحرب الصنديد ضجع هائباً فشمر لها وانهض نهوض مشيع ... له غمرات تستقل النوائباً وقل ل " كلاب ": بدد الله شملكم ... أويحكم ماتتقون المعايبا! أتستبدلون الذل بالعز ملبساً ... وتمسون أذناباً وكنتم ذوائباً

وما زلتم الآساد تفترس العدى ... فما بالكم مع هؤلاء ثعالباً ثبوا وثبة تشفي الصدور من الصدا ... ولا تخجلوا أحسابنا والمناقباً ولا بد من يوم نحكم بيننا ... وبين العدى فيه القنا والقواضباً أرى الثغر روحاً أنتم جسد له ... إذا الروح زالت أصبح الجسم عاطبا وقد ذذت عنه طالباً حفظ عزكم ... إباء ولاقيت المنايا السواغبا وها أنا لا أنفك أبذل في حمى ... حماكم مجدا، مهجتي والرغائبا أأذخر مالي عنكم وذخائري ... إذا بت عن طرق المكارم عازبا شكرت صنيع " ابن المسيب " إذ أتى ... يجر مغاويراً تسد السباسبا ومنها: أيا راكباً يطوي الفلاة بجسرة ... هملعة لقيت رشدك راكبا ألا ابلغ " أبا الريان " عني ألوكة ... تريح من الإيلاف ما كان واجبا أخا شخصه لا يبرح الدهر حاضراً ... تمثله عيني وإن كان غائبا متى تجمع الأيام بيني وبينه ... أشد عليه ما حييت الرواجبا وأهد إلى " شبل " سلامي وقل له: ... لك الخير دع ما قد تقدم جانبا فتلك حقود لوتكلم صامت ... لجاء إليها الدهرمنهن تائبا وقد أمكنتكم فرصة فانهضوا لها ... عجالاً وإلأ أعوز الدر جالبا فإتي رأيت الموت أجمل بالفتى ... وأهون أن يلقى المنايا مجاوبا وكان قد بلغ سابقا أن أميراً من أمراء خراسان يقال له تركمان التركي قد توجه منجداً لتاج الدولة، ومعه عسكر، فأخرج سابق منصور بن كامل الكلاب، أحد أمراء بني كلاب من حلب ليلاً، وأعطاه كتابه إلى الأمير أبي زائدة، وفيه هذه الأبيات، ومعه بعض أصحاب سابق ومعهم مال. فلما وقف الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة على هذه الأبيات، اتفق مع منصور ونائب سابق، وجمعوا ما يزيد عن آلف فارس وخمسمائة راجل من بني نمير، وقشير، وكلاب، وعقيل، وكل ذلك بتدبير الأمير شرف الدولة أبي المكارم ومشورته.

عودة تاج الدولة

ووفد بهم الأمير أبو زائدة، ووصلوا إلى وادي بطنان. واتفق وصول المعروف بتركمان التركي في آلف فارس من الغز، ومعه جملة من العدد لمحاصرة حلب ومعونة تتش. وعبر تركمان على طريق الفايا، فسار الأمير أبو زائدة بمن معه من الجمع، ولقوا تركمان في أرض الفايا، فأوقعوا به وكبسوا عسكره، وقتلوه، ونهبوا ما كان فيه بأسره وجميع ما كان للتجار الواصلين في صحبته، واتصل هذا الخبر بتاج الدولة وهو منازل حلب، فرحل عنها إلى الفرات، وتوجه نحو ديار بكر وشتى بها. عودة تاج الدولة ثم عاد وقطع الفرات، وتسلم منبج وحصن الفايا وحصن الدير، وشحنها بالرجال، وسار بالعسكر إلى حصن بزاعا، وكان صاحبه شبل بن جامع، وبعض رجال هذا الحصن ممن كانت له النكاية العظيمة في عسكر تركمان، فقاتله تاج الدولة، وفتحه بالسيف، وقتل كافة من كان فيه، ونهبه وشحنه بالرجال. ورحل إلى عزاز وقد انضوى إلى قلعتها خلق عظيم، ومنعهم الوالي بها من الصعود إليها فالتجئوا إلى سند القلعة بأقمشتهم، والناس عليها، وأساء الوالي بها وكان اسمه عيسى، التدبير والسياسة. فزحف العسكر إلى القلعة، وقاتلها، وضربها بالنار، فاحترقت أقمشة الناس، وغلاتهم، وحرمهم، وأولادهم، وأشرفت على الأخذ وخرج قوم من الحريق إلى عسكر تاج فأمنهم، وتقدم إليهم بالعودة إلى ضياعهم. ورحل الملك تاج الدولة إلى جبرين قور سطايا، فأخذها وشحنها بالرجال، فخرج الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة من حلب في الليل، ووصل إلى ضيعة تعرف بكرمين، فوجد بها خمسين فارساً من الغز، فقتلوا أكثرهم، وغنموا كل ما كان معهم، وعادوا إلى حلب سالمين.

فأسرى تاج الدولة في الليل من جبرين عند ذلك في جميع عسكره، وهم ملبسون مستعدون، فصبحوا حلب صباحاً، وأغاروا عليها، فخرج عسكر حلب فالتقوا على الخناقية على باب حلب ثم إن بعض عسكر حلب انهزموا لغير موجب، وهزم الله عسكر تتش بغير قتال. وكان الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة وابن عمه شبل بن جامع بن زائدة في قدر خمسين فارساً مقابلهم، فحملوا عليه، واتفقت هزيمتهم، فقتلوا من الغز جماعة وغنموا. ولو عاد عسكر حلب في إثرهم ما كان أفلت منهم إلامن سبق به فرسه. وشاع لمحمد بن زائدة في ذلك اليوم ذكر جميل. وتقدم الأمير محمد بن زائدة إلى الشيخ أبي نصر منصور بن تميم المعروف بابن زنكل أن يجيب أبا الفضائل سابق بن محمود عن القصيدة التي أنفذها إليه، ويعرفه ما لبني كلاب من الأيام المعروفة، ويذكر هذه الوقائع، فعمل: دعوت مجيباً ناصحاً لك مخلصاً ... يرى ذاك فرضاً لا محالة واجباً فلبيت لا مستنكفاً جزعاً ولا ... هدانا إذا خاض الكريهة هائباً ومنها: ولما دعاني المدركي ابن صالح ... شققت، ولم أرهب، إليه الكرائبا أسابق صرف الدهر في نصر " سابق " ... إلى " تركمان " الترك أزجي النجائبا فلما التقيناهم غدا البعض سالباً ... لأنفسهم، والبعض للمال ناهبا فيا لك من يوم سعيد بيمنه ... عن الثغر أضحى عسكر الصد هاربا وكان يرى في كفه الشام حاصلاً ... ويوم " بزاعا " رد ما ظن خائبا وليلة " كرمين " تركنا كرامهم ... كضأن بها لاقت مع القدر قاصبا وفي يوم " خناقية " قد خنقتهم ... بعثير ذل رد ذا الشرخ شائبا عطفت لهم إذ خام من خام منهم ... بفتيان كالعقبان شامت توالبا فلله قومي الصادرون لو انثنوا ... معي، أو فريق كنت للجمع ناكبا فولوا وقضبان المخافة فيهم ... مسابقة أرماحنا والقواضبا

أعمال تاج الدولة

فكم فارس منهم تركنا مجدلاً ... يباشر ترب القاع منه الترائبا وإذ أيقنوا أن ليس للكسر جابر ... تولوا وعن " جبرين " حثوا الركائبا وخلوا بها كسباً حووه، وأبصروا ... سلامتهم منا أجل مكاسبا أعمال تاج الدولة وأما تاج الدولة تتش فإنه رحل من جبرين، وسار إلى دمشق فملكها، وتسلمها من أتسز بن أوق التركي، ثم فسح من عسكره أفشين التركي، ومعه أكثر العسكر، وعاد شمالاً ونهب عسكره ضياعاً في أعمال بعلبك. ووصل رفنية في اليوم العاشر من جمادى الأولى، وفيها جماعة كثيرة من التجار والقوافل متوجهين إلى طرابلس، فهجمها بغتة، وقتل ممن كان بها جماعة، واستباح أموالهم وحريمهم، وأقام بها عشرة أيام. ثم سار فنزل حصن الجسر، فأكرمه أبو الحسن بن منقذ فأعلمه بما عول عليه من نهب الشام، فسأله في بلدة كفرطاب إلا يعترضها فأجابه. وسار فنزل قسطون فجرى أمرها في النهب والعقوبة مجرى رفنية، وأقام بها نيفاً وعشرين يوماً ثم تنقل وعسكره بالمنجنيقات على أبراج جبل السماق وغيرها، حتى لم يبق بها موضع ولا برج إلا افتتحه وأهلكه، واستباح حريمهم وأولادهم، واستغرق أحوال أهل سرمين والمعرة بالقطائع، وطلع إلى جبل بني عليم فلم يتم له بها شيء. وسار فنزل ضياع معرة النعمان الشرقية بالمنجنيقات، ففتح أبراجها وحصونها بالسيف، وأخذ ما لا لمكن إحصاؤه، وغلب أهلها فهلك منهم خلق، ونزل تل منس، وقطع عليها خمسة آلاف دينار، ولم يتمكن من أخذها. وانتقل إلى عمل معرة النعمان ففعل مثل ذلك، وسار إلى معرتاج من بلد كفرطاب، فتحصن أهلها في أبراجها، وتعثرت عليه فأحرقها، وهلك جميع من كان فيها. وبلغ تاج الدولة ذلك، وهو بدمشق، فأسرع السير إلى أن وصل إلى ظاهر كفرطاب يطلب أرسلان تاش، فوجده قد رحل إلى بلاد الروم، فعاد إلى دمشق وسكن الناس فى طريقه

شرف الدولة في حلب ونهاية المرداسيين

وحين رجع أفشين من الشام ولم يبق في أعمال حلب ضيعه مسكونة من بلد المعرة إلى حلب، توجه إلى بلد أنطاكية فأخرب ما قدر عليه، ونهب وسبي ما وجده، وحمل إليه من أنطاكية مال، وتوجه إلى الشرق بعد امتلاء صدره وصد عسكره من النهب. وجرى من هذا الحادث بالشام أمر لم يسمع بمثله، وتلف أهله بعد ذلك بالجوع ووجد قوم قد قتلوا قوماً وأكلوا لحومهم، وبيعت الحنطة ستة أرطال بدينار وما سوى ذلك بالنسبة. وجدد من سلم من الشام إلى بلد شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش، فأحسن إليهم وتصدق عليهم، وكان ذلك الإحسان منه أكبر الأسباب في مملكته حلب. شرف الدولة في حلب ونهاية المرداسيين ولما جرى هذا الحادث طمع شرف الدولة في الشام، وكاتبه سابق بن محمود يبذل له التسليم إليه، ووفدت عليه بنو كلاب بأسرها، فتوجه إلى حلب، ونزل بالس يوم عيد النحر من سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. ونزل حلب في السادس عشر من ذي الحجة، سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة فغلقت أبوابها في وجهه، وكان عند سابق أخواه شبيب ووثاب بحلب، فلم يمكناه من التسليم، فلم يقاتلها، وأهلها يحرصون على التسليم إليه لما هم فيه من الجوع وعدم القوت. وكان مع شرف الدولة في عسكره غلة كثيرة وقوة تجوز الحد، وتزيد عن الوصف وكان الرئيس بحلب ونقيب الأحداث بها الشريف حسن بن هبة الله الهاشمي، المعروف بالحتيتي، وكان ولده أبو منصور قد خرج مع عسكر سابق لقتال بعض الأتراك المخالفين في بيت لاها فأسروه، وبقي أسيراً في الموضع مع خطلج أحد أصحاب أحمد شاه.

فلما وصل شرف الدولة إلى حلب وفد الذك كلهم عليه، وتقربوا إليه بولد الشريف الحتيتي وقيل: إنه طلبه منهم فلما حضر عنده خلع عليه، وأطلقه فدخل البلد، وأخذ معه جماعة من أصحابه، وفتح باب حلب، ونادى بشعار شرف الدولة في اليوم السادس والعشرين من ذي الحجة، من سنة ائنتين وسبعين وأربعمائة. وتسلمها، ودخل أصحابه إليها، وقلع أبوابها جميعها، وفتح باب أربعين وكان مسدوداً وأحسن إلى كافة أهلها، وخل على أحداثهم، وتصدق بمال كثير وغلة. وكان سديد الملك بن منقذ قد وفد على شرف الدولة ونزل معه على حلب، وكان شرف الدولة قد عزم على الرحيل من حلب لما حل بهم من الضجر ومصابرة أهل حلب، وغلت الأشعار عندهم حتى صار الخبز ستة أرطال بدينار. وفر سديد الملك أبو الحسن بن منقذ من سور القلعة، فاطلع إليه صديق له من أهل الأدب، فقال له: " كيف أنتم " فقال: طول جب " خوفر من تفسير الكلمة، فعاد ابن منقذ وهو يقلب هذا الكلام فصح له إنه قصد بكلامه أنهم قد ضعفوا. وأوجس أنها كلمتان، وأن قوله: طول يريد به: مدا، وجب " يريد به " بير " فقال " مدابير والله، فأعلم شرف الدولة بدلك فقوى نفسه فملكها. ولما فتحت المدينة انحاز سابق إلى القلعة، وأخواه شبيب ووثاب في القصر، لضيق القلعة، وشرف الدولة محاصر للقلعة بالمنجنيقات والعساكر ولم يبق بالشام وحصون جبل بهرا، وحمص، وفامية شيزر ومن لم يفد على السلطان إلا وفد عليه. ودبر شبيب ووثاب، وهما في القصر على سابق وقفزا في القلعة، وصاح الأجناد بها: شبيب يا منصور، وقبض سابق وحبس، وتسلم شبيب ما كان بها من مال وسلاح. ثم وقعت السفارة بينهم وبين شرف الدولة على أن أقطع شبيباً ووثابا قلعتي عزاز والأثارب وعدة ضياع وأقطع سابق بن محمود مواضع أخر في أعمال الرحبة،

وأن يتزوج منيعة بنت محمود أخت سابق، وكان السفير بينهم في ذلك الأمير سديد الملك علي بن منقذ، وبتدبيره جرى ذلك. ووافق ذلك أن غار الماء في قلعة حلب، ونزل منها أولاد محمود وانقضت دولة آل مرداس وكان الوزير لسابق بن محمود الشيخ أبا نصر محمد بن الحسن بن النحاس وعزله، واعتقله مدة ثم أطلقه. وولى وزارته أبا منصور عيسى بن بطرس النصراني فامتنع، فألزم بها، ووزر به في النصف من شوال سنة تسع وستين وأربعمائة.

لقسم السادس عشر حلب ومسلم بن قريش

لقسم السادس عشر حلب ومسلم بن قريش مسلم في حلب وتسلمها أبو المكارم في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، بعد حصار أربعة أشهر للقلعة وقال ابن أبي حصينة يهنىء شرف الدولة بفتح القلعة: لقد أطاعك فيها كل ممتنع ... خوف اتتقامك حتى غارت الفلب ولما ملك شرف الدولة حلب أحسن إلى أهلها، وخفف عنهم أثقالاً كثيرة، وصفح عن كلف كانت عليهم في أيام بني مرداس. ونقلت الغلات إلى حلب، فرخصت الأسعار بعد الغلاء الشديد وفي يوم تسلمه القلعة ودخوله إليها دخل زوجته منيعة أخت سابق، في اليوم والساعة، وهو اتفاق لم يسمع بمثله، ففتح حصنين. وقال في ذلك أبو نصر بن الزنكل يمدح شرف الدولة: فرعت أمنع حصن وافترعت به ... نغم الحصان ضحى من قبل يعتدل وحزت بحر الدجى شمس الضحى فعلى ... مثليكما شرفاً لم تسدل الكلل ومدحه، ابن حيوس بالقصيدة التي أولها: ما أدرك الطلبات مثل متمم ... إن أقدمت أعداؤه لم يحجم فلما وصل إلى قوله: أنت الذي نفق الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدم اهتز شرف الدولة وأمره بالجلوس، فأتمها جالساً وأجازه بألفي دينار وقرية.

وقيل: إته لما مدحه ابن حيوس قال له أبو العز بن صدقة البغدادي وزير شرف الدولة: هذا رجل كبير السن ولم يبق من عمره إلا القليل، فأرى أن تعظم له الجائزة فيحصل على الذكر الجميل " فأقطعه الموصل جائزة له. فمات في هذه السنة قبل أن يصل إليها وترك مالاً جزيلاً فقيل لشرف الدولة: هذا لا وارث له إلا بيت المال " فقال: والله لا يدخل خزانتي مال قد جمعه من صلات الملوك انظروا له قرابة. فسألوا عن ذلك فوجدوا له من ذوي الأرحام بنت أخ فأعطاها ماله جميعه وهي بنت أخيه أبي المكارم محمد بن سلطان ابن حيوس. ولما سفر ابن منقذ في تسليم حلب وتسلمها شرف الدولة وعد ابن منقذ وعوداً جميلة، ومناه أماني حسنة وأكرمه غاية الإكرام. ونقل شرف الدولة إلى الشام من الغلال ما ملأ الأهراء، وعاد بالرفق على الناس، وكذلك نقل إليها من سائر الحبوب ومن البقر والغنم والمعز والدجاج شيء كثير. وعاش الناس في أيامه ورخصت الأسعار بحسن تدبيره وتسلم حصن عزاز من واليها عيسى وتسلم حصن الأثارب بعد حصار وحرب، وكذلك الحصون التي كانت في أيدي أصحاب تاج الدولة من أعمال حلب التي افتتحها. وصفت له جميع أعمال حلب، وقال لسديد الملك: " امض في دعة الله فأنا سائر إلى بلادي ويجب أن تصلح حالك فأنا أصل وأبلغتك كل ما توثره ورجع إلى بلاده، وجعل أخاه علي بن قريش بحلب مع قطعة من عسكره بحلب. وكاتب السلطان أبا الفتح ملك شاه يعلمه بما جرى، ويسأله في تقرير شيء يحمله من الشام فأجيب إلى ذلك. ووصل أبو العز بن صدقة البغدادي وزير شرف الدولة إلى حلب لجمع أموالها في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وعدل عما كان ابتدأ به من العدل والإحسان، وصادر جماعة، وضاعف الخراج.

وكان شرف الدولة بالقادسية فدخل الحمام وهي ملاصقة لداره، فوثب عليه مملوكان برسم خدمته، فجعلا في حلقه أنشوطة ليخنقاه، وانتظرا صاحباً لهما يدخل بسكين، فصاح شرف الدولة فسمعت صياحه زوجته خاتون أخت السلطان ألب أرسلان، فخرجت إليه فانهزما عنه ومرض من ذلك أياماً، وأخذا وقتلا. ولما بلغ ذلك أبا العز بن صدقة البغدادي عاد من حلب إلى القادسية. وكان سديد الملك بن منقذ قد عمر قلعة الجسر، وقصد مضايقة شيزر وبها أشقف الباره وضيق عليه إلى أن راسله واشتراها منه، واستحلفه على أشياء اشترطها عليه. ولم يزل ابن منقذ يعده الجميل ويتلطف له إلى أن سلم إليه حصن شيزر ليلة الأحد النصف من شهر رجب من سنة أربع وسبعين وأربعمائة. ووفى له ابن منقذ بكل ما عاهده علي، فثقل ذلك على شرف الدولة وحسد ابن منقذ على شيزر فسار عسكر حلب مع مؤيد الدولة علي بن قريش إلى شيزر، ونزلوا عليها في يوم الجمعة خامس ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة، بعد مراسلات جرت فلم يجب ابن منقذ إلى ما التمس منه. وكان علي بن قريش قد أخذ في طريقه حصناً لابن منقذ يقال له أشفونا غربي كفرطاب، وكان ابن منقذ قد تأهب للحصار، وحمل من الجسر إلى شيزر ما يكفي لمن فيه مدة طويلة من سائر الأشياء. وحصره علي بن قريش مدة إلى أن وصل شرف الدولة بنفسه، فنزل على شيزر يوم الأربعاء سلخ المحرم من سنة خمس وسبعين وأربعمائة. ثم رحل عنها إلى حمص يوم السبت ثالث صفر، وأقام عسكره على شيزر، فتطارح ابن منقذ عليه، وسير إبنه أبا العساكر وامرأته منصورة بنت المطوع وأخته رفيعة بنت منقذ إلى حمص. فدخلوا عليه، وحملوا إليه مالاً، فأنفذ إلى عكسره، ورحله عن شيزر في الثامن والعشرين من صفر من السنة.

عودة مسلم بن قريش

عودة مسلم بن قريش ولما وصل شرف الدولة إلى حماة قبض على جميع الأتراك الذين بالشام وأخذ منهم الحصون التي كانت في أيديهم، وهي بيت لاها، وتل اغدي، وهاب، وكفرنبل، وقبض على وثاب وشبيب ابني محمود، وأخذ منهما قلعة عزاز والأثارب، وأطلقهما بعد ذلك، وحمل الأتراك، وحبسهم في الرحبة فداموا بها إلى أن قتل. وقبض شرف الدولة على أكثر أقطاع بني كلاب بالشام، وعاد إلى حلب، وقبض على حسن بن وثاب النميري أمير بني نمير، وكان قد حصره بسروج في العام الخالي فسلمها إليه بعد أن عوضه عنها بنصيبين فاعتقله بحلب مدة وقتله وفي نزوله على شيزر، وقتاله حصن الجسر، وفعل وزيره أبي العز ابن صدقة من المصادره، يقول أبو المعافى سالم بن المهذب المعري: أمسلم لا سلمت من حادث الردى ... وزرت وزيراً ما شددت به أزرا ربحت ولم تخسر بحرب ابن منقذ ... من الله والناس المذمة والوزرا فمت كمداً " فالجسر " لست بجاسر ... عليه، وعاين شيزراً أبداً شزرا فبلغت الأبيات شرف الدولة، فقال: " من يقول هذا فينا " قالوا: " رجل من أهل المعرة يقال له ابن المهذب " قال: " ما لنا وله، اكتبوا إلى الوالي بالمعرة يكف عنه، ويحسن إليه فربما يكون قد جار علي وأحوجه إلى أن قال ما قال ". وعاد شرف الدولة إلى الجزيرة، وقد جرت منه هذه الحوادث، وأجحف ببني كلاب، فأجمع رأي وثاب وشبيب ابني محمود، وخلف ابن ملاعب الأشهبي صاحب حمص، وأبي الحسن بن منقذ، ومنصور بن الدوح على مكاتبة الملك تاج الدولة بدمشق، وشكوا أحوالهم، وعرضوا عليه خدمتهم، وأطمعوه في الشام.

من دمشق إلى حران

فسار من دمشق إلى الشام وقصد ناحية أنطاكية وأقام عليها مدة، واتصل به خبر شرف الدولة وما هو عليه من الجمع والتأهب، واجتماع العرب إليه من بني نمير، وعقيل، والأكراد، والمولدة، وبني شيبان، للنزول على دمشق. وخرج عسكر حلب مع بعض أصحاب شرف الدولة إلى أعمالها، ورتبوا ولاتهم فيها وساروا إلى حماة، وبها وثاب بن محمود، فلقي عسكر شرف الدولة وكبسه وقتل منه جماعة، وعاد من سلم منهم إلى حلب. فنزل وثاب بن محمود ومنصور بن كامل بن الدوح وابن ملاعب وابن منقذ على معرة النعمان، وقطعوا كثيراً من شجرها، ورعوا زرعها بالظعون، وقلبوه بالفدن، وقاتلوها أياماً، ولم يمكنهم أهلها من فتحها خوفاً منهم. وبلغ شرف الدولة ذلك كله، فسار ومعه أكثر بني كلاب وبني نمير، وبعض بني عقيل، ووصله بعض بني طيء وكلب وعليم، ونزل في بالس في محرم سنة ست وسبعين. من دمشق إلى حران وسار إلى دمشق وحاصرها، وقاتل دمشق في بعض الأيام وخرج إليه عسكر دمشق، وحمل عليه حملة صادقة فانكشف عسكره وتضعضع، وعاد كل فريق إلى مكانه. وعاد عسكر دمشق بحملة أخرى، فانهزمت العرب، وثبت شرف الدولة مكانه، وأشرف على الأسر، وتراجع إليه أصحابه، وكان قد ظن أن العسكر المصري ينجده فخاف أمير الجيوش من ميل العرب إليه فتثاقل عنه. وورد عليه من حران خبر أزعجه، وذلك إنه كان قد تسلمها من يحيى بن

الشاطر أحد عبيد ابن وثاب النميري، وكان يليها لعلي بن وثاب الطفل، وكان وثاب يعدل فيهم ويرفق بهم، فولى فيها جعفر العقيلي، فعدل عما كان وثاب يسلكه من العدل، وأظهر مذهب التشيع والإعلان به، وكان يتولى الحكم بها القاضي ابن جلبة، فاتفق مع أهل حران على العصيان على شرف الدولة، وكاتبوا يحيى بن الشاطر الذي تسلمها منه مسلم فوصل إليهم، ومعه ابن عطية النميري وجماعة، ووثبوا على أصحاب شرف الدولة فهربوا إلى الحصن، وقاتلهم ابن جلبة ومن انضم إليه. فسير الوالي جماعة إلى شرف الدولة يعلمه بالحال، فبعضهم أخذ بالقرب من حران، وبعضهم أخذه أصحاب تاج الدولة، فعرف تاج الدولة الخبر قبل معرفة شرف الدولة فقويت نفسه. وعرف شرف الدولة ذلك واستضر عسكره بتواصل الغارات عليه عندما قويت نفس تاج الدولة، وكان ذا مكر وخديعة، فرحل إلى مرج الصفر، وأوهم أنه يسير مقتبلاً لأمر عزم عليه، وقلق أهل دمشق لذلك. ثم رحل مشرقاً في البرية على وادي بني حصين ونزل شرقي حماة، وراسل ابن ملاعب، وطيب نفسه إلى أن نزل فخلع عليه، وقرر معه أن يكون بينه وبين تاج الدولة درءا يمنع من الأذية في بلاده، فأجابه إلى ذلك، وخلع عليه شرف الدولة وأكرمه وطيب نفسه. وسار شرف الدولة إلى حران بعد أن أشرف الحصن على الأخذ، فقاتل حران، ونقب نقوباً في سورها وثلم ثلمتين، وأقام عليها شهرين، ومضى أبو بكر ابن القاضي ابن جلبة ويحيى بن الشاطر.

سلطان ومسلم بن قريش

واستنجد بجماعة من الأتراك فسير ابن عمه ثروان بن وهيب فكسرهم وأسر منهم خلقاً عبر بهم على حران وسيرهم إلى بلاده. وهجم حران بالسيف من الثلمتين وهم يقاتلون ولم تسكن الحرب حتى أعطى لؤلؤ الخادم الأمان، وأمن أبا بكر ابن القاضي وكان قد عاد إلى البلد، فحينئذ تفرق الناس. ونهب عسكر شرف الدولة البلد، وقطع عليهم آلف دينار، وقبض على خلق منهم، وقتل ابن جلبة وولديه وثلاثة وتسعين رجلاً صبراً، وصلبهم، وصلب ابن جلبة أمامهم، ولم يف له بعهده، وذلك كله في سنة ست وسبعين. سلطان ومسلم بن قريش ووصل ابن جهير وزير القائم ليتسلم ديار بكر ومعه عسكر من ملك شاه وكان ابن جهير قد وزر مرة لثمال بن صالح، ثم وزر لابن مروان، ثم للقائم فوصل ابن مروان إلى شرف الدولة، واستنجده عليه فأنجده، فالتقوا على آمد، فكسرهم ابن جهير، وأخذ أموال شرف الدولة، وأسر أصحابه، وأطلق من أسر من بني عقيل. ثم إن ابن جهير بث سراياه في أعمال شرف الدولة فعاثت في بلاده، ونهبت، وذلك في سنة سبع وسبعين. ووصله مال من حلب فتقوى به، وسار إلى الرحبة وسير عمه مقبل بن بدران رسولاً إلى مضر يطلب معونتهم، ويبذل لهم الطاعة، وكاتب السلطان ملك شاه يذكره بخدمته وطاعته ويذكر ما فعله ابن جهير. فلما عرف ملك شاه ذلك وانفاذه عمه إلى مصر سار إلى الموصل ومعه نظام

سليمان وأنطاكية

الملك، وكان نظام الملك يميل إلى شرف الدولة، ويشير بالإحسان إليه والصفح عنه وكاتب الوزير نظام الملك شرف الدولة يشير عليه بالوفود على السلطان، ووعده بما طابت به نفسه، فسار من الرحبة إليه، ولقيه نظام الملك على مراحل من الموصل. فترجل شرف الدولة وقبل يده، وكان في محفة لمرض منعه من الركوب، فأمره بالركوب، وقال له: ذهب خوفك وشرح صدرك، وحقق أملك وكان قد استصحب معه كل ما قدر عليه من بقايا ذخائره وأمواله وخيله عقيب هذه النكبة العظيمة. ودخل على السلطان فأكرمه وأحسن إليه، وأجابه إلى كل ما طلبه، وسامحه بما كان بقي عليه من مقاطعة الشام، وجدد له التوقيع بالبلاد الشامية والجزرية وكل ما كان في يده، وقرر معه مسير ولده محمد وأن يكون في عسكره، وكاتب أخاه تاج الدولة أن لا يعرض لبلاده، وكان قد توجه إليها، وسار أبو العز بن صدقة إلى حلب لإنجادها عليه، وبلغه خروج عسكر من مصر فرجع من لطمين. سليمان وأنطاكية وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة، شرع سليمان بن قطلمش في العمل على أنطاكية والاجتهاد في أخذها إلى أن تم له ما أراد فأسرى من نيقيه في عسكره، وعبر الدروب وأوهم أن الفلاردوس.

استدعاه، وأسرع السير إلى أن وصل أنطاكية ليلاً، فقتل أهل ضيعة تعرف بالعمرانية جميعهم لئلا ينذروا به، وعلقوا حبالاً في شرفات السور بالرماح، وطلعوا مما يلي باب فارس، وحين صار منهم على السور جماعة نزلوا إلى باب فارس وفتحوه ودخل هو وعسكره من الباب وأغلقوه، وكانوا مائتين وثمانين رجلاً، وذلك يوم الأحد العاشر من شعبان، وقيل يوم الجمعة الثامن، ولم يشعر بهم أهل البلد إلى الصباح. وصاح الأتراك صيحة واحدة فتوهم أهل أنطاكية أنه عسكر الفلاردوس حتى قاتلوهم فانهزموا وعلموا أن البلد قد هجم فبعضهم هرب إلى القلعة وبعضهم رمى بنفسه من السور فنجا. واستقل سليمان عسكره فوصل إليه ابن منجاك في ثلاثمائة فارس، ولم يزل عسكره يتواصل حتى قوي، فأمن الناس وردهم إلى دورهم، ورد أكثر السبي وصلى المسلمون يوم الجمعة خامس عشر شعبان في القسيان، وأذن فيه ذلك اليوم مائة وعشرة من المؤذنين وخلق كثير من أهل الشام. وكان يوم فتحها أول يوم من كانون الأول، وكان فتح الروم لها أول ليلة من كانون الثاني لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. ووجد خط بعض المنجمين وهو ابن أخت الصابي على ظهر كتاب عند القاضي أبي الفضل بن أبي جرادة يقول: " ذكر المخبر عن أخذ مدينة أنطاكية أن دخول العدو يعني الروم إليها في وقت كذا وكذا من الليل، فإن صح قول المخبر فإنها تثبت في أيدي الروم مائة وتسع عشرة سنة ". وكان قد وقف على هذا الخط محمود بن نصر بن صالح، وقد ذكر في مجلسه، وأظن ذلك حين نزل الأفشين التركي على أنطاكية، وخاف محمود من أن يملك أنطاكية فلم يتفق فتحها حينئذ، وكان الأمر كما ذكر المنجم، ففتحها سليمان ابن قطلمش عند تمام المدة. وأقام سليمان بن قطلمش يحاصر قلعة أنطاكية إلى الثاني عشر من شهر رمضان

من السنة وفتحها بالأمان ليقيها من القتل والسبي ونهب الترك من أنطاكية ما يفوت الإحصاء ويزيد عن الوصف وسكنها سليمان بعسكره وفتح الحصون المجاورة لها، بعضها عن طوع وبعضها عن استدراج. وصار لسليمان من نيقية إلى طرابلس، وملك الثغور الشامية، وكان حسن السيرة في جنده وعسكره جواداً بماله، فمال إليه الناس لذلك ولما فتح أنطاكية أهدى إلى شرف الدولة من الغنيمة هدية حسنة ولما استقر حال شرف الدولة مع ملك شاه واطمأن عاد إلى القادسية، وناصف الجند في أرزاقهم، ونقصها عليهم، فصار أكثرهم إلى سليمان، وتركوه، فأقطعهم، وأحسن إليهم وسبب لهم أرزاقاً تكفيهم. وكان جماعة من أصحاب بني مرداس يخافون شرف الدولة وهم متفرقون في الشام فصاروا إليه. وكان من ضياع أنطاكية وأعمالها مواضع عدة تغلب محمود والأتراك عليها، وقبضوها من الروم لضعفهم، وصارت في أعمال حلب، فقبضها سليمان وأقطعها وغيرها مما يجاور أعمال أنطاكية. وكان الشريف حسن الحتيتي رئيس حلب وغيره من أصحاب شرف الدولة خافوا منه لما استقر حاله مع السلطان أن يتم له الصلح مع ابن قطلمش فيتفرغ لهم ويقبضهم، ويستأصل أموالهم، فتوصلوا إلى المفاسدة بينهما بمن صار في حلته من أهل الشام ليشتغل عنهم شرف الدولة وكان لأبي المكارم على أنطاكية يحملها الروم إليه فطمع بها من سليمان فلم يجبه إلى ذلك وقال: تلك جزية كانت على الروم لتمسك عن جهادهم، وقد قمت أنا بفريضة الجهاد، وصارت أنطاكية للمسلمين فكيف أؤدي عنها إليك جزية؟ ففسد ما بينهما لذلك. وسار شبيب بن محمود ومنصور بن الدوح وجماعة من بني كلاب إلى أنطاكية، وحضروا عند سليمان، ووعدهم ووعدوه بما لم يقبح من بعضهم لبعض،

غارات سليمان ومقتل مسلم

وأخذوا قطعة من عسكره، وخرجوا فعاثوا في بلاد شرف الدولة، ثم إنهم خافوا منه فهربوا إلى أسفونا. غارات سليمان ومقتل مسلم وتواصلت غاراته على بلد حلب وسرمين وبزاعا وقبض شرف الدولة على وزيره أبي العز بن صدقة وصادره وحبسه، وسير ابن الحلزون إلى حلب ليدبر أمرها، فوصل إلى حلب، وراسل سليمان في الصلح. وقبض على علي بن قريش بأمر أخيه شرف الدولة، وصادره على عشرة آلاف دينار، وأخذ منه منبج لأنها كانت إقطاعه، فعند ذلك ازدادت وحشة الشريف وغيره لما شاهدوه من فعله بأخيه وكذا كانت سيرته في أصحابه وبهذا الطريق فسد حاله، وأما رعيته فكانوا معه على أجمل حال وأحسنه. وحيث تحقق شرف الدولة احتلال حلب ونواحيها بغارات سليمان جمع عسكره وانضاف إليه بعض الأتراك، ووصل إلى عزاز في صفر من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وأشير عليه بالنزول على حلب ومراسلة سليمان في الصلح، فامتنع واستدعى بني كلاب فوصله منهم جماعة من أعيانهم وفرسانهم، وسار فنزل على نهر عفرين بموضع يقال له قززاحل. ووصل سليمان من أنطاكية في أربعة آلاف فارس، وكان شرف الدولة في عدة تزيد عن ستة آلاف ليس فيهم مناصح، وجاء شرف الدولة بطيخ فنزل هو وبعض بني عمه وأكلوا، فقال ابن عمه: كلوا أكلة من عاش يخبر أهله ... ومن مات يلقى الله وهو بطين فقال شرف الدولة: قتلنا فألك يا ابن العم. والتقوا في آخر نهار السبت، لست بقين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، والشمس في وجوه عسكر شرف الدولة، وكان اللقاء بغتة في غير وقت يظن فيه، فانهزم عسكر شرف الدولة، وجاءته طعنة فقتل ولما طعن قال: " يا شام الشؤم واتهم بعض أصحابه قتله وكان القتل بين الفريقين قليلاً لأن أصحاب شرف

الدولة لم يثبتوا معه لقبح رأيهم فيه ورحل سليمان ونزل بظاهر حلب، وحمل شرف الدولة، وطرحه على باب حلب فدفن هناك وانفرد الشريف أبو علي الحسن بن هبة الله الهاشمي المعروف بالحتيتي بتدبير حلب وسالم بن مالك العقيلي بالقلعة. وكان القاضي بحلب في أيام شرف الدولة القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى وتولى قضاء حلب في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ومات في أيام أبي المكارم مسلم بن قريش، فولي قضاءها أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة وهو ابن بنت كسرى المذكور، وابن القاضي أبي الحسن المقدم قبل كسرى وكان أبو المكارم شرف الدولة يخاطبه بابن العم لكونه عقيلياً، والقاضي عقيلي ومن شعر أبي المكارم بن قريش: إذا قرعت رجلي الركاب تزعزعت ... لها الشم واهتز الصعيد إلى مصر ومن شعره أيضاً: الدهر يومان ذا أمن وذا خطر ... والماء صنفان ذا صاف وذا كدر

القسم السابع عشر حلب وملكشاه السلجوقي التركي

القسم السابع عشر حلب وملكشاه السلجوقي التركي سليمان حولى حلب وأما سليمان بن قطلمش فإنه حاصر حلب مدة، ثم ترددت الرسل إلى أهل حلب في التسليم، فاستقرت الحال بينهم على موادعة مدة. وسير سليمان بن قطلمش قطعة من عسكره لاتباع العرب الذين كانوا مع شرف الدولة، فهربوا، ولحقهم شدة عظيمة من دخول البرية في حزيران. وتوجه سليمان إلى معرة النعمان وكفر طاب، وتسلمهما، ثتم سار إلى شيزر، فقاتلهما وقرر أمرها على مال يحمل إليه، وأخذ لطمين، وشحنها بالرجال، وعدل أصحابه بالشام عما عرف من سيرة العرب. وجرت بالمعرة أسباب وصل لأجلها حسن بن طاهر وزير سليمان، في النصف من جمادى الأولى، يطلب أصحابه فثارت فتنة بالبلد، وأخرجوه منه فخرج لوقته، وأصبح قاتل البلد، وقتل جماعة من أهله في الحرب، وأمن الناحية الغربية، وأمن الباقي منها وجعل على أهل البلد عشرة آلاف دينار. وأما بلاد شرف الدولة فملكها بعده أخوه إبراهيم، ما خلا حلب، وكاتب من بحلب في تسليمها إليه فلم يرده الخبر. وأما الشريف حسن الحتيتي فإنه كان متقدم الأحداث ورئيسهم، فعمر لنفسه في صفر من سنة ثمان وسبعين قلعة الشريف المنسوبة إليه، وبنى عليها سوراً دائراً، وفصل بينها وبين المدينة بسور وخندق خوفاً على نفسه أن يسلمه أهل حلب، وكانوا يبغضونه، ويكرهون ولايته عليهم

مقتل سليمان بن قطلمش

واتفق الشريف وسالم بن مالك صاحب القلعة الكبيرة على أن كاتبا السلطان ملك شاه يبذلان له تسليم حلب إليه، ويحثانه على الوصول أو وصول نجدة تدفع سليمان بن قطلمش. وعمر سليمان بن قطلمش قلعة قنسرين وتحول إليها وتزوج منيعة بنت محمود ابن صالح زوجة مسلم بن قريش. ونزل على حلب وطال انتظار الشريف حسن لنجدة تصله من السلطان، فاجتمع بمبارك بن شبل أمير بني كلاب، واتفقا على أن سار مبارك بن شبل إلى تاج الدولة تتش يستدعيه إلى حلب ليتسلمها. وعرفه ما استقر بينه وبين الشريف الحتيتي عن تسليمه حلب، ورغبة الكافة في مملكته ففرح بدلك وجمع العسكر، وخرج من دمشق في المحرم من سنة تسع وسبعين وأربعمائة إلى حلب، فحصر حصن سليمان بن قطلمش في قنسرين ووصل إلى تاج الدولة جماعة من بني كلاب، ورحل إلى الناعورة وعول على مراسلة الشريف حسن فإن سلم إليه تغلب وإلا عاد لحربه فبادر سليمان وهو نازل في عسكره على حلب، وعارضه في طريقه على عين سيلم وتراءى العسكران، فدبر أرتق عسكر تاج الدولة أحسن تدبير، والتقوا فانهزم عسكر سليمان. مقتل سليمان بن قطلمش وقتل سليمان وأسر وزيره الحسن بن طاهر وخلق من عسكره في يوم الأربعاء الثامن عشر من صفر، فأطلق تاج الدولة الوزير ومن أسر، وغنم عسكره والعرب الذين معه جميع ما كان في العسكر. واختلف في قتل سليمان، فقيل: عارضه فارس من فرسان تاج الدولة فرماه في صدغه بسهم فقتله.

تتش في حلب

وقيل: بأنه لما يئس من النصرة نزل عن فرسه، وقتل نفسه بسكين خفه. وقيل: إن المصامدة تتبعت أسلاب القتلى فظفروا بدرع مرصع بالياقوت والعقيان النفيس. ونمى الخبر إلى تاج الدولة، فأحضره فقال: هذا يشبه سلب الملوك وسار إلى الموضع وإذا به مختلط بدمه فقال: يشبه أن يكون هذا وقد كان قال لهم: لا تبينوه لي حتى أركموه من بين القتلى فقيل له: ومن أين علمت ذلك فقال: قدمه تشبه قدمي، وأقدام بني سلجوق تتشابه. ثم قال بلسانه: ظلمناكم، وأبعدناكم ونقتلكم ثم مسح عينيه واغتم لقتله، وترحم عليه، وأحضر أكفانا نفيسة فكفنه، وصلى عليه، وحمله إلى حلب فدفنه إلى جانب مسلم بن قريش قبل أن ينقل مسلم إلى سر من رأى وقيل: دفن معه في قبر واحد. تتش في حلب ولما جرى ما جرى من قتل سليمان وسار تاج الدولة إلى حلب عدل الشريف حسن الحتيتي عما كان اتفق عليه مع مبارك بن شبل، وامتنع من تسليم حلب إلى تاج الدولة، واحتج بأن كتب ملك شاه وصلته بتجهيز العساكر إليه. فأقطع تاج الدولة بلد حلب وأعمالها لعسكره إلا ما كان لبعض العرب الذين وفدوا عليه، فإنه أقره في أيديهم، ثم رحل إلى مرج دابق وأقام أياماً. ثم عاد ونازل حلب، فعمد رجل من تجار حلب يجرف بابن البرعوني الحلبي، وراسل تاج الدولة في تسليم حلب إليه، ورفع بعض أصحابه بحبال إلى بحض أبراج السور، وساعده قوم من الأحداث ونادوا بشعار تاج الدولة في ذلك الموضع وتسامع الناس فنادوا بشعاره في البلد جميعه وذلك في ليلة السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة. فانهزم هبة الله أبو الشريف حسن من قلعة ابنه إلى القلعة الكبيرة إلى سالم بن

ملكشاه في حلب

مالك، وبقي الشريف حسن في قلعته المجددة، ومعه فيها رجال من أحداث حلب، فخافوا على أهلهم بحلب، فخرجوا منها وبقي الشريف حسن في قلعته في نفر قليل، فطلب الأمان فأمنه تاج الدولة بوساطة ظهير الذين أرتق. وخرج أرتق وصار عنده بماله وأهله، وسلم القلعة إلى تاج الدولة تتش وسيره أرتق إلى بيت المقدس بماله فأقام به. وعصى سالم بن مالك بالقلعة الكبيرة، وكان شرف الدولة بن قريش لما ولاه فيها أوصاه أن لا يسلمها إلا إلى السلطان ملكشاه، فالتزم بوصيته، وامتنع أن يسلمها إلى تتش وأقام تتش بمدينة حلب إلى اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، وأحسن إلى أهلها، وخلع على أحداثها، فوصله الخبر أن السلطان ملك شاه وصلت عساكره إل نهر الجوز قاصدين مدينة حلب، فسار تاج الدولة إلى دمشق، وترك بعض أصحابه بقلعة الشريف ومعه عدة في اليوم المذكور، ومعه قوم من بياض حلب، فأقام نائبه أياماً يسيرة، ثم سار ولحقه في دمشق. ملكشاه في حلب ووصلت عساكر ملك شاه حلب مع برسق واياز وبوزان وغيرهم، ونزل بعضهم إلى بلد الروم، وامتدوا فيما بينها وبين أنطاكية، ووصل بعضهم إلى حلب، وسارع أهل حلب وسالم بن مالك ومبارك بن شبل إلى طاعة الواصل وخدمته. ثم إن السلطان وصل بعدهم إلى الرها فسلمها إليه الفلاردوس وأسلم على يده، وسار منها إلى قلعة دوسر وهي المعروفة بجعبر فتسلمها في طريقه من جعبر بن سابق القشيري، وقتله لما بلغه عنة من الفساد وقطع الطريق. وسار حتى وصل حلب في الثالث والعشرين من شعبان من سنة تسع وسبعين وأربعمائة وتسلم حلب وقلعتها وسائر قلاع الشام، وعوض سالم بن مالك عن قلعة

آق سنقر وال على حلب

حلب بقلعة دوسر، وأقطعه معها الرقة وعدة ضياع وتوجه السلطان إلى أنطاكية فتسلمها من الحسن بن طاهر وزير سليمان بن قطلمش، ورتب بأنطاكية يغي سيان بن ألب في عسكر واستخدم حسن بن طاهر في ديوانها، وتم إلى السويدية، وصلى على البحر، وحمد الله على ما أنعم علمه مما تملكه من بحر المشرق إلى بحر المغرب. آق سنقر وال على حلب وعاد إلى حلب، ورتب بها الأمير قسيم الدولة أق سنقر ومعه عسكر، واستخدم بها تاج الرؤساء ابن الحلال في جمع الأموال. ووصل إليه الشريف حسن الحتيتي وهو بحلب يلتمس العودة إلى حلب، ويذكر خدمته وما جرى عليه، فتظلم منه أهل حلب فلم يأذن له السلطان فيما التمسه. وكان هذا السلطان من أعظم الناس هيبة وأكثر الملوك عدلاً حتى أن أحداً لا يقول: إن أحداً من ذلك العالم العظيم من عسكره وحزره أربعمائة آلف أخذ لأحد من الرعايا قسراً وظلماً ما يساوي درهماً واحداً، حتى أن البازيار الذي له اقتنص طائرين من الدجاج من الأثارب طعماً للبزاة في الطريق، فعلم بذلك فعظم عليه حين رآه وهدده حتى أعادها إلى صاحبها بعد عوده من أنطاكية. وخرج هذا السلطان إلى ضياع معرة النعمان يتصيد، وبات بضيعة بينها وبين المعرة ثلاثة فراسخ، فابتاع منها أصحابه ما احتاجوه بأوفى ثمن، ووضع السلطان في هذه السنة المكوس من جميع بلاده، ولم يبق من يستخرج مكساً في مملكته. وأقام السلطان بحلب إلى أن عيد بها عيد الفطر، وعاد منكفئاً إلى الجزيرة،

وقد قرر ولاية حلب، وولى بقلعتها نوحاً التركي، وبلغه عصيان تكش بترمذ فسار السلطان، وقطع ما بين حلب ونيسابور في عشرة أيام، وعاد منكفئاً إلى الجزيرة وقد قرر ولاية حلب لقسيم الدولة أق سنقر التركي في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وجعل معه أربعة ألاف فارس ومكنه فيها. وقيل إنه مملوك لملكشاه، وقيل إنه لصيق وإن اسم أبيه النعمان، وولى على جمع المال بحلب في الديوان تاج الرؤساء أبا منصور بن الخلال الرحبي وقال شاعر حلبي فيه وفي الوزير ابن النحاس: قد زنجر العيش على الناس ... ما بين خلال ونحاس فأحسن قسيم الدولة في حلب السيرة وأجمل السياسة وأقام الهيبة وأفنى قطاع الطريق، وتتبع الذعار في كل موضع فاستأصل شأفتهم. وعمرت حلب في أيامه بسبب ذلك لورود التجار والجلابين إليها من كل مكان. وحكى لي والدي رحمه الله: أنه استأصل أرباب الفساد إلى حد بلغ به أن نادي في قرى حلب وضياعها أن لا يغلق أحد بابه، وأن يتركوا آلاتهم التي للحرث في البقاع في الليل والنهار فخرج متصيداً فمر على فلاح وقد فرغ من عمله، وأخذ آلة الحرث معه إلى منزله، فانفرد من عسكره وقال له: ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحد من أهل القرى شيئاً من آلة الحرث فقال: بلى والله حفظ الله قسيم الدولة والله لقد أمنا في أيامه من كل ذاعر ومفسد، وما رفعت هذا خوفاً عليها ممن يأخذها، وإنما ههنا دويبة يقال لها ابن آوى إذا تركنا هذه العدة ههنا جاءت وأكلت هذه الجلود التي عليها. فلما عاد قسيم الدولة أمر بالصيادين وبثهم في أقطار بلد حلب لصيد بنات آوى حتى أفنوها من ضواحي حلب وكان ذلك سبباً لقلتها في بلد حلب إلى يومنا هذا، دون غيرها من البلاد. وفي أيام قسيم الدولة جدد عمارة منارة حلب الموجودة في زماننا هذا، وجددت في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.

وجرى خلف بين أهل لطمين وبين نصر بن علي بن منقذ في سنة إحدى وثمانين، فخرج أن سنقر إلى شيزر، وقاتلها، وقتل من أهلها مائة وثلاثين رجلاً، وعاد إلى حلب بعد أن نهب ربضها، واستقرت الموادعة بينه وبين نصر صاحب شيزر. وكان أق سنقر قد تزوج خاتون داية السلطان ملك شاه، وكانت جالسة معه في بعض الأيام في داره بحلب، وفي يده سكين فأومأ بها إليها على سبيل المداعبة االمزاح، فوقعت في قلبها للقضاء المحتوم غير متعمد لها، فماتت وحزن عليها حزناً شديداً وتأسف لفقدها، وحملها في تابوت لتدفن في مقابر لها بالشرق، وخرج من حلب لتوديع تابوتها في مستهل جمادى الآخرة وتسلم أق سنقر حصن برزويه، في شعبان اثنتين وثمانين وأربعمائة، من لأرمن، وهو آخر ما كان قد بقي في أيدي الكفار من أعمال أنطاكية وأقام في يده تسعة أشهر، وهدمه في ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانين. وكتب ولاة الشام إلى السلطان ملك شاه يشكون ما يلقونه من خلف بن ملاعب بحمص من قطع الطريق وإخافة السبيل، فكتب إلى قسيم الدولة وتاج الدولة ويغي سيان وبوزان صاحب الرها، فساروا في عساكرهم، فحاصروها وضايقوها ففتحوها، وأعطاها السلطان تاج الدولة تتش ونزل قسيم الدولة على أفامية، فأخذها من خلف بن ملاعب وسلمها إلى نصر بن منقذ ثم إن السلطان أمر بحمل ابن ملاعب في قفص حديد إلى أصبهان، فحبسه إلى أن مات ملك شاه، وتوجه إلى مصر وعاد إلى الشام، واحتال حتى ملك أفامية بالحيلة بعد ذلك. ولما فتحت حمص تسلمها قسيم الدولة إلى أن ورد عليه أمر السلطان بتسليمها إلى تتش.

وفاة السلطان ملكشاه

وفاة السلطان ملكشاه ومات السلطان ملك شاه ببغداد في الليلة السادسة عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة وكان أن سنقر قد خرج من حلب وافداً عليه، فلما بلغه الخبر عاد إلى حلب، وخطب لابنه محمود مدة يسيرة، ثم إنه خطب بعد ذلك لتاج الدولة تتش، على ما يذكر. انتصار تتش ولما عاد إلى حلب قبض على شبل بن جامع أمير بني كلاب وعلى ولده مبارك، واعتقلهما بالقلعة. وراسل تاج الدولة قسيم الدولة ويغي سيان وبوزان وجذبهم إلى طاعتهم، والكون في جملته ليسيروا معه إلى بلاد أخيه ليفتحها، ويأخذ المملكة فأجابوه إلى ذلك، وخطبوا له في أعمالهم. فسار في أول سنة ست وثمانين، وسار إليه قسيم الدولة ويغي سيان وبوزان، ووثق به أن سنقر، وفتح تاج الدولة الرحبة ونصيبين، فجمع إبراهيم بن قريش وتأهب للقاء تاج الدولة والتقى العسكران على دارا، وعاد كل فريق إلى موضعه، فركب الأمير قسيم الدولة في خلق من العسكر، وحمل حتى توسط عسكر إبراهيم فلم يثبت العرب، وتبعه باقي العسكر، فقتل منهم ما يقارب عشرة آلاف. وأسر إبراهيم بن قريش وعمه مقبل وغيرهم فقتلهم تاج الدولة صبراً وسبيت الحرم، وقتل جماعة من نساء العرب نفوسهن. وأمر تاج الدولة بعد ذلك يجمع الأسرى ووهبهم من محمد بن شرف الدولة وكان قد صار في جملته قبل الحرب، وأقطعه نصيبين.

السلطان بركيارق في حلب

وعظمت هيبة تاج الدولة بعد هذه الوقعة، وراسلته زوجة أخيه تحثه على الوصول، واستقر الحال على أن تتزوجه، فسار عند ذلك بعد أن تسلم من ابن جهير آمد وجزيرة ابن عمر، حتى وصل إلى تبريز، ففسخ عنه قسيم الدولة أن سنقر صاحب حلب وعماد الدولة بوزان وسارا إلى بر كيارق ليكونا في خدمته، وكان بالقرب من الري. وكان سبب نفار قسيم الدولة وبوزان تقريب تاج الدولة يغي سيان وميله إليه، وقيل: لأنه لم يولهما شيئاً من البلاد التي افتتحها، فرجع تاج الدولة إلى ديار بكر، وشحنها بالرجال، وسار منها إلى سروج فأخذها وولى فيها بعض ثقاته. ووصله الخبر بوصول أن سنقر وبوزان إلى باب السلطان بركيارق، وإكرامه لهما، وأنهما وجدا خاله مستولياً على أمره، فقتلاه وبعض الأمراء. فانبسطت يد بركيارق، واستقامت أحواله، وخاطبه أق سنقر وبوزان أن يسير معهما إلى بلادهما حلب والرها وحران، لئلا يجري عليهما حادث من تاج الدولة عند عودته، وضمنا له أن يكونا بينه وبين تاج الدولة، فسار معهما إلى الرحبة، وعقد بينهما وبين علي بن شرف الدولة حلفاً. السلطان بركيارق في حلب وسار علي بن قريش، ومعه جماعة من بني عقيل وقطعة من عسكر السلطان بركيارق مع قسيم الدولة، فأوصلوه إلى حلب، فدخلها في شوال من سنة ست وثمانين وأربعمائة. وسار بوزان إلى بلاده، وعاد من كان معهما إلى السلطان وأما تتش فإنه قطع الفرات وتوجه إلى أنطاكية، وأقام بها مع يغي سيان مدة، فغلت بها الأسعار فسار إلى دمشق في ذي القعدة من هذه السنة. وكان وثاب بن محمود مع نفر يسير من بني كلاب، فأنفذ أن سنقر بعد مسير تتش إلى دمشق من أحرق حصن أسفونا وحصن القبة، وقبض أقطاع وثاب.

موقعة سبعين ومقتل أق سنقر

وفي سنة سبع وثمانين، قبض على الوزير أبي نصر محمد بن الحسين بن النحاس بسعاية المجن بركات الفوعي به إلى قسيم الدولة. ولم يزل به إلى أن أمره بخنقه، وهو معتقل عنده، فخنقه في هذه السنة. وفي شهر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين وأربعمائة، خرج تاج الدولة تتش من دمشق، ومعه خلق عظيم من العرب، ولقيه يغي سيان بعسكر أنطاكية بالقرب من حماة وأقاموا هناك أياماً، وزوج ولده الملك رضوان من ابنة يغي سيان، وسيره عائداً إلى دمشق. وسار تاج الدولة بعساكره فنزل تلمس، وأقام بها أياماً، فوصله الخبر بوصول كربوقا صاحب الموصل وبوزان صاحب الرها، ويوسف بن أبق صاحب الرحبة، في ألفين وخمسمائة فارس إلى حلب، لنجدة أن سنقر، فعدل تاج الدولة إلى الحانوتة، ورحل إلى الناعورة، وعول على قصد الوادي، وأن يسير منه إلى أعمال أنطاكية، وأخذ العسكر دواب النقرة وبعض زرعها. موقعة سبعين ومقتل أق سنقر فخرج أق سنقر ومن وصله من النجدة وجماعة كثيرة مع شبل بن جامع ومبارك ابن شبل من بني كلاب وكان قد أطلقهما من الإعتقال في هذه السنة ومحمد بن زائدة في جماعته وجماعة من أحداث حلب والديلم والخراسانية، وعدة عسكره تزيد عن ستة آلاف فارس وراجل، في أحسن أهبة وأكمل عدة. وقصد عسكر الملك تاج الدولة، يوم السبت تاسع جمادى الأولى من السنة، والتقوا على سبعين، وكان أول من قطع السواقي التي كانت بين العسكرين وبرز للحرب أن سنقر، ورتب مصاف عسكره. وبقي عسكر بوزان وكربوقا لم يتمكن من قطع السواقي، فيختلطون بالعسكر،

ولم يستنصح أن سنقر العرب الذين معه، وخاف ميلهم إلى تاج الدولة، وكان عسكر تاج الدولة في مثل هذه العدة من العرب والرجالة، وكان الترك معه في قلة لأق أصحابه وخواصه كانوا متفرقين في البلاد التي افتتحها. وحمل عسكر تاج الدولة على عسكر أن سنقر فلم يثبت لحظة واحدة، وانهزمت العرب وبوزان وكربوقا نحو حلب فدخلاها، واستأمن يوسف بن أبق إلى تاج الدولة. وأسر أن سنقر وجماعة من خواصه ووزيره أبو القاسم بن بديع، وأحضر بين يدي تاج الدولة أسيراً، فقتله صبراً، وقال له تاج الدولة: لو ظفرت بي ما كنت صنعت. قال: كنت أقتلك، فقال له: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله. وحكى وثاب بن محمود قال: جلس تاج الدولة، وطلب قسيم الدولة، فأحضر مكشوف الرأس، مكتوفاً، فقام تاج الدولة، وكلمه كلاماً كثيراً، فلم يرد عليه جواباً، فضربه بيده أطار رأسه وحمل رأسه إلى حلب والي دمشق، ودفن جسده في القبة التي على سطح جبل قرنبيا، غربي المشهد الذي ابتناه بقرنبيا، ثم نقله ابنه زنكي لما فتح حلب إلى مدرسة الزجاجين، ووقف شامر قرية من بلد حلب، على من يقرأ على قبره. واختار قسيم الدولة وقتاً للخروج إلى اللقاء، وهو وقت قران زحل للمريخ في بزج الأسد وهو طالع بيت السلطان بحلب وكان موقناً بالظفر، فخرج وأمرهم أن يلحقوه بالحبال لكتافهم بها، وكان تاج الدولة قد عزم على ما ذكرناه، ولم يكن موثراً لقاءه، فنصره الله تعالى كما شاء وأراد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا تأثير لشيء في ملكوته. وأسر شبل بن جامع أمير بني كلاب فوهبه تاج الدولة لابن أخيه وثاب بن محمود.

القسم الثامن عشر حلب ورضوان بن تتش

القسم الثامن عشر حلب ورضوان بن تتش 487 - 507 هجرية تتش في حلب وعول بوزان وكربوقا على الإعتصام بحلب، وانتظار النجدة من بركيارق، لأن كتاب الطائر وصل إلى حلب يخبر بوصول النجدة إلى الموصل، وقرروا مع الأحداث ذلك. فوصل تاج الدولة بعسكره إلى حلب، وتحير أهلها فيما يفعلونه، فبادر قوم من الأحداث ممن لا يعرف ولا يذكر ففتحوا باب أنطاكية. ودخل وثاب بن محمود في مقدمة أصحاب تاج الدولة إلى حلب، وسكن البلد، فنزل الوالي بقلعة الشريف، وسلمها إلى تاج الدولة فدخلها، وبات بها، فراسله نوح والي القلعة الكبيرة، وسلمها إليه بعد أن توثق منه، وطلع تاج الدولة إليها في الحادي عشر من جمادى الأولى من السنة. مقتل بوزان ثم تتش وقبض تاج الدولة على بوزان فضرب رقبته صبراً، وأخذ كربوقا واعتقله بحمص، وأقطع الشام لعسكره، وأقطع معرة النعمان واللاذقية ليغي سيان، ورتب أبا القاسم بن بديع وزيراً بحلب. وأقام ثلاثة أيام ثم توجه فقطع الفرات، وتسلم حران، وسار إلى الرها فتسلمها، وقيل: بأن واليها امتنع من تسليمها إلا بعلامة من بوزان، وأن بوزان كان محبوساً بحلب،

رضوان في حلب

فأنفذ إليه من قطع رأسه ورماهم به، فسلموا الرها إليه، وتسلم ديار بكر. وسار إلى ميافارقين فقتل بني جهير بعد أن قطع رؤوس أولادهم وعلقها في رقابهم. وعدل عن الموصل، وسار للقاء زوجة أخيه خاتون الجلالية لإتمام ما كان استقر بينهما فماتت في الطريق. وتوجه تاج الدولة إلى الري، فوصله خلق كثير من التركمان وعساكر أخيه، وملك كل بلدة مر بها، وخطب له على منابر الإسلام: الشام والفرات، وبغداد وعند وصوله إلى همذان كتب إلى ولده الملك رضوان يستدعيه من دمشق فتوجه إليه ومعه بقية من تخلف من أصحابه بالشام ودخل تاج الدولة الري وملكها في المحرم سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وخرج بركيارق من أصبهان، والتقوا على خمسة فراسخ من الري في يوم الأحد السابع عشر من صفر فانهزم عسكر تاج الدولة تتش واستبيح ونهب، وقتل ذلك اليوم تاج الدولة وخواصه في الحرب. وقتل تاج الدولة بعض أصحاب قسيم الدولة، بعد أن اصطنعه وقربه، ضربه بنشابة في ترقوته اليسرى فوقع، وقطع رأسه وطيف به العسكر، ثم حمل إلى بغداد فطيف به، وتفرق من سلم منهم إلى مواضعهم. رضوان في حلب ووصل الخبر إلى ولده الملك رضوان، وهو نازل على الفرات بعانة متوجهاً إلى والده، فقلق وخاف من وصول من يطلبه فحط خيمه في الحال.

دقاق في دمشق

ورحل مجدا حتى وصل حلب في جماعة من غلمانه وحاشيته، وترك باقي عسكره من ورائه، فسلم وزير أبيه أبو القاسم بن بديع إليه المدينة والقلعة، وصعد إليها، وأخذوا الأهبة لمن يقصدها. ووصل إليه إلى حلب من الفل أخوه أبو نصر دقاق وجناح الدولة حسين، فاستولى جناح الدولة على تدبير ملك رضوان، وكان تاج الدولة قد جعله مدبراً له، وهو أتابكه في حياته، وجعل دقاق مع أتابك ظهير الدين. ولما افتتح ديار بكر سلمها إلى ظهير الدين، وشمس الملوك دقاق معه، ولم يزل بها إلى أن سار إلى الري فسارا معه. دقاق في دمشق وعاد دقاق إلى حلب فأقام بها مدة يسيرة، وراسله الأمير ساوتكين الخادم وكان نائب تاج الدولة بدمشق في حفظ القلعة والبلد، وقرر لدقاق مملكة دمشق سرا، وخاف من أخيه رضوان، فخرج من حلب وهرب إلى دمشق من غير أن يعلم به أحد، وجد في السير، وتبعه رضوان، وأنفذ خلفه عدة من الخيل ففاتهم، فدخل دمشق فسارع ساوتكين إلى طاعته، وصارت دمشق وبلادها بحكمه. وقتل رضوان أخويه أبا طالب وبهرام ابني تتش، وكان أتابك طغتكين معتقلاً عند السلطان بركيارق، وقبض في الوقعة فطلبوا منه كربوقا والجماعة الذين معه،

خلف بن ملاعب

وكانوا في يد رضوان فاتفق رأيهم أن يسيروا عضب الدولة أبق بن عبد الرزاق إلى رضوان لاستخلاص كربوقا وكان أبق أيضاً من جملة من قبض عليه من الجماعة الذين كانوا مع تتش فخاطبوا السلطان في إطلاقه وتسييره فأجابهم إلى ذلك، وسيره إلى حلب، فلما وصله أكرمه رضوان وأطلق كربوقا في شعبان وسيره مكرماً. فأطلق بركيارق أتابك طغتكين وجميع من كان في اعتقاله من خواص تاج الدولة، ووصل دمشق فابتهج دقاق بوصوله وقويت نفسه، وألقى تدبير أموره إليه فقام فيها أحسن قيام. فاستأذن عضب الدولة الملك رضوان في الوصول إليه فأذن له، وقرر معه قرب العودة إلى حلب وترك اقطاعه بحلب على حاله، فوصل دمشق واختار المقام بها، وكتب إلى أصحابه بعزاز يأمرهم بتسليمها إلى رضوان فسلموها. خلف بن ملاعب ولما وصلت هذه الأخبار وثب أهل أفامية على حصنها فأخذوه من الأتراك، وقتلوا بعضهم، وكان تاج الدولة قد أخذه من ابن منقذ، وسار جماعة من أهلها إلى مصر يستدعون والياً من قبلهم لميلهم إلى الإسماعيلية ونفورهم من الترك. ووصل خلف بن ملاعب في سنة تسع وثمانين وأربعمائة وتسلمها، وعاد إلى الفساد وقطع الطريق، وقتل خلقاً من أفامية. المؤامرة على جناح الدولة وأما الملك رضوان فإنه خرج في سنة ثمان وثمانين من حلب، ومعه جناح الدولة حسين ووصله يغي سيان ويوسف بن أبق من أنطاكية بعسكرهما، وتوجهوا إلى الرها، ومعهم رهائن أهلها ليتسلمها الملك رضوان من المقيمين فيها من أصحاب والده. فلما نزلوا الرها أراد يغي سيان ويوسف أن يقبضا جناح الدولة ويتفردا بتدبير رضوان، فهرب منهما، وقطع الفر ات، ووصل حلب، وتبعه رضوان، فدخل حلب،

من سروج إلى بيت المقدس

وهرب رهائن الرها من العسكر ودخلوها. وعاد يغي سيان ويوسف بن أبق، وقد استوحش رضوان منهما. من سروج إلى بيت المقدس وكتب رضوان إلى سكمان، وإقطاعه سروج، يستدعيه إلى حلب لمعونته، فسار وقطع الفرات فلقيه يوسف بن أبق في عدة وافرة فخافه سكمان، فأظهر موافقته وصار معه. وخاف جناح الدولة من اجتماعهم، وكان عقيب وصول رضوان من الرها قد سير جماعة من عسكر حلب إلى معرة النعمان مع عضب الدولة لأخذها من يغي سيان، وكاتب وثاب بن محمود فوصل ببني كلاب لمساعدته على أخذ المعرة، فأخرجوا ابن يغي سيان وأصحابه منها، وتسلموها. وعاد عضب الدولة ووثاب، فلما وصلا حلب حدث ما ذكرناه من أمر سكمان ويوسف بن أبق، فخرج جناح الدولة بالعسكر، فلقيه يوسف بالقرب من مرج دابق فهرب يوسف ونهبوا عسكره، وأعانهم على ذلك وسكمان، ودخل يوسف أنطاكية وعاد جناح الدولة وسكمان ووثاب وأبق إلى حلب. وأقطع الملك رضوان معرة النعمان سكمان بن أرتق وأعمالها، ثم سار رضوان وسكمان لقصد دمشق وانتزاعها من أخيه دقاق، وترك جناح الدولة بحلب. فلما نزلا دمشق وصل إليهما أن دقاق قبض على نجم الدين إيلغازي بن أرتق، واعتقله لتهمة وقعت به، فعاد الملك رضوان إلى حلب، وسار سكمان إلى بيت المقدس وتسلمها من نواب أخيه وأقام بها. وراسل يوسف بن أبق الملك رضوان واستأذنه في الوصول إلى خدمته فأذن له، ووصل حلب وسكنها. المجن ويوسف بن أبق ثم خاف رضوان وحسين منه فتقدما إلى بركات بن فارس رئيس حلب المعروف بالمجن بقتله، فهجم عليه وأصحابه فقتلوه ونهبوا داره وأخذوا رأسه،

الحرب بين دقاق ورضوان

وسيروه إلى بزاعا ومتبج، فتسلموها من أصحابه، وقبضوا على اقطاع أخيه وأصحابهما، وهربوا من حلب وكان الملك قد توهم منه الارتداد عن الاسلام. ثم أن رضوان وجناح الدولة خرجا في سنة تسع وثمانين إلى تل باشر، وشيح الدير، وفتحاها بالسيف من أصحاب يغي سيان، وأغارا على أعمال أنطاكية، وعادا إلى حلب، وسارا في أول شهر رمضان منها إلى دمشق. الحرب بين دقاق ورضوان فسار يغي سيان متجداً لدقاق فضعفت نفس رضوان ولم يتمكن من العودة، فسار إلى بيت المقدس، فتبعه دقاق وطغتكين ويغي سيان وأقاموا متحابسين مدة. وأشرف عسكر رضوان على التلف فانفصل عنه جناح الدولة، وهرب على طريق البرية إلى حلب، وتبعه الملك رضوان بعد مدة وحصلا بجميع العساكر بحلب. وعاد دقاق وطغتكين إلى دمشق ويغي سيان إلى أنطاكية وعاد سكمان بن أرتق من القدس على البرية حتى وصل حلب على البرية في المحرم من سنة تسعين وأربعمائة. واجتمع بجناح الدولة واتفقا على قصد بلاد يغي سيان فخرج دقاق وطغتكين، فوصلا حماة وعاد العسكر في بلدها ووصلهما يغي سيان، وساروا إلى كفرطاب في الثاني من ربيع الأول، فقاتلوها، ونهبوها، وقرروا على أهلها مالاً. وهرب أصحاب سكمان من المعرة فتسلمها يغي سيان وقرر عليها مالاً، وتنقل العسكر في الجزر وغيرها من أعمال حلب، فاستنجد رضوان بسليمان بن إيلغازي صاحب سميساط فوصل بعسكر كثير إلى حلب. وجمع رضوان من قدر عليه من الترك والعرب وأحداث حلب، ونزل عسكر دقاق بقنسرين

الخطبة للفاطميين

ونزل عسكر حلب بحاضر قنسرين فاتفق الأمر على أن يجتمعوا على نهر قويق ويتحدثوا، فاجتمعوا وتحدثوا، والنهر بينهم، فلم يتفق الصلح، فقال يغي سيان لسكمان: " هؤلاء الملوك يقتتلون على ملكهم، أنت يا بياع اللبن دخولك معهم لأي صفة قال: غداً تبصر ايش أنا. فأصبحوا والتقوا يوم الاثنين خامس شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وأربعمائة فأبلى سكمان بلاء حسناً. ولم تزل الحرب بينهم إلى آخر النهار، فانهزم يغى سيان إلى أنطاكية، ودقاق وطغتكين إلى دمشق، وأسر في الحرب اصباوه، فاعتقل بحلب ثم أطلق، فهرب إلى دمشق ولم يقتل من العسكر إلا القليل. وقتل الفلاحون في الطريق وقت الهزيمة من الأرمن الذين كانوا مع يغي سيان جماعة كثيرة، وتغيرت نية الملك رضوان على جناح الدولة حسين فهرب من حلب إلى حمص، وخرج من حلب ليلاً ومعه زوجته أم الملك رضوان، وأقام بحمص لأنها كانت في يده وحصنها. ووصل يغي سيان إلى حلب عقيب ذلك، وخدم رضوان، ودبر أمره، وتزوج رضوان ابنة يغي سيان خاتون جنجك. الخطبة للفاطميين وعول رضوان على قصد جناح الدولة بحمص، وقصد دقاق بدمشق، ووصله رسول آلاف الأفضل من مصر يدعوه إلى طاعة المستعلي وإقامة الدعوة له، وعلى يده هدية سنية من مصر، ووعده بأن يمده بالعساكر والأموال. فتقدم بالدعوة للمصريين على سائر منابر الشام التي في يده، ودعا الخطيب

الفرنج في الشام

أبو تراب حيدرة بن أبي أسامة بحلب للمستعلي ثم للأفضل ثم لرضوان، في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من هذه السنة. وكان قد ولى الخطابة أبا تراب وعزل جد أبي أبا غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة عن القضاء والخطابة بحلب، لأن توليته كانت على قاعدة أبيه من بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وكان أبوه القاضي أبو الفضل هبة الله قد مات في هذه السنة المذكورة، وهو على القضاء والإمامة بحلب، وولى رضوان قضاء حلب في سنة تسعين القاضي فضل الله الزوزني العجمي الحنفي، وسيره رسولاً إلى مصر، وناب عنه في القضاء حال غيبته أبو الفضل أحمد ابن أبي أسامة الحلبي ودامت الدعوة بحلب إلى رجب من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وقيل: لم تدم أكثر من أربع جمع وأعادها رضوان للإمام المستظهر ثم بركيارق ثم لنفسه، ولم يصح له مما التمسه من المصريين شيء. وأعاد القضاء والخطابة إلى جد أبي غانم على قاعدته الأولى، في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، حين قتل الزوزني، وكان خرج من بين يدي رضوان، فقتل في بعض الدروب، وكان أزرى على الباطنية وعلى معتقدهم فقيل إنهم قتلوه. الفرنج في الشام ولما سار رضوان ويغي سيان وصلا إلى شيزر متوجهين إلى حمص لقصد حمص، فتواصلت الأخبار بوصول خلق من الفرنج قاصدين أنطاكية، فقال يغي سيان: عودنا إلى أنطاكية ولقاء الفرنج أولى، وقال سكمان: مسيرنا إلى بكر وأخذها من المتغلبين عليها ونتقوى بها، وأنزل أهلي بها ونعود إلى حمص أولى، واختلفوا. فسار الملك رضوان نحو حلب حفلاً وكان معه وزيره أبو النجم بن بديع أخو

وزير أبيه تتش أبي القاسم، وكان قد ولاه وزارته حين ملك حلب، فاتهماه أنه هو الذي يفسد حال رضوان، فطلع إلى حصن شيزر، وأقام به عند ابن منقذ خشية من يغي سيان وسكمان، فلما سارا عن شيزر سار إلى حلب ولحق بالملك رضوان بها. ولما عاد رضوان مغاضباً ليغي سيان وسكمان عاد والأمراء من شيزر إلى أنطاكية، وبلغهم نزول الفرنج البلانة ونهبها. ولما دخل يغي سيان أنطاكية أخرج ولديه شمس الدولة ومحمداً، فسار أحدهما إلى دقاق وطغتكين يستنجدهما، وبث كتبه إلى جناح الدولة ووثاب بن محمود وبني كلاب، وسار محمد ابنه إلى التركمان وكربوقا وأمراء الشرق وملوكه، وسارت كتبه إلى جميع أمراء المسلمين وفي ثامن شهر رمضان، وصل من قبرس إلى ميناء اللاذقية اثنتان وعشرون قطعة في البحر، فهجموه وأخذوا منه جميع ما كان للتجارة ونهبوا اللاذقية، عادوا، ووصلت الفرنج إلى الشام، واعتبروا عسكرهم فكانوا ثلاثمائة آلف وعشرين ألف إنسان، لأنهم وصلوا من جهة الشمال. وفي اليوم الثاني من شوال نزلت عساكر الفرنج على بغراس وأغاروا على أعمال أنطاكية، فعند ذلك عصى من كان في الحصون والمعاقل المجاوره لأنطاكية، وقتلوا عن كان بها، وهرب من هرب منها. وفعل أهل أرتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج وهذا كله لقبح سيرة يغي سيان وظلمه في بلاده. ونزل الفرنج على أنطاكية لليلتين بقيتا من شوال من سنة تسعين وأربعمائة. وخرج في المحرم من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة نحو ثلاثين ألفاً من الفرنج إلى أعمال المسلمين ببلد حلب، فأفسدوا ونهبوا وقتلوا من وجدوا. وكان قد وصل الملك دقاق وأتابك ومعهما جناح الدولة، ونزلوا أرض شيزر،

الخيانة ودخول أنطاكية

ومعهم ابن يغي سيان وهم سائرون لإنجاد أبيه، فبلغهم خبر هذه السرية، فساروا إليها بقطعة من العسكر، فلقوهم في أرض البارة فقتلوا منهم جماعة. وعاد الفرنج إلى الروج، وعرجوا منه إلى معرة مصرين، فقتلوا من وجدوا وكسروا منبرها، وحين عاد العسكر الدمشقي من البارة فارقهم ابن يغي سيان ووصل إلى حلب يستنجد بالملك رضوان، فأخذ عسكر حلب وسكمان، ودخل بهما إلى أنطاكية فلقيهم من الفرنج دون عدتهم، فانهزم عسكر المسلمين إلى حارم وذلك في آخر صفر، وتبعهم عسكر الفرنج إلى حارم فانهزموا إلى حلب، وغلب أهل حارم من الأرمن عليها. وفي شهر ربيع الأول من السنة وصل خلق من الأرمن إلى تل قباسين بناحية الوادي فقتلوا من فيه، وخرج المسلمون الذين بالوادي وجماعة من الأتراك تبعوهم وقتلوا منهم جماعة، والتجأ الباقون إلى بعض الحصون الخربة، فأدركهم عسكر حلب فقاتلهم يومين، وأخذوهم فقتلوا بعضهم، وحمل الباقي أسرى إلى حلب فقتلوا، وكانو يزيدون عن آلف وخمسمائة. الخيانة ودخول أنطاكية ولما نزل الفرنج لعنهم الله، بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد خندقاً لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم، ولا يكاد يخرج عسكر أنطاكية ويعود إلا ظافراً. وجعل يغي سيان الناس على البعد والقرب وكان حسن التدبير في سياسة العسكر وجمع كربوقا صاحب الموصل عسكراً عظيماً، وقطع به الفرات ووصل دقاق وطغتكين وجناح الدولة، ووصل سكمان بن أرتق، وفارق رضوان وسار مع دقاق.

ووصل وثاب بن محمود ومعه جماعة من العرب ووصلوا تل منس وقاتلوها لأنه بلغهم أنهم كاتبوا الفرنج وأطمعوهم في الشام، وقرر عليهم دقاق مالاً أخذ بعضه ورهائن على الباقي، وسيرهم إلى دمشق. وسار دقاق بالعساكر إلى مرج دابق، واجتمع بكربوقا فيه في آخر جمادى الآخرة، ورحلوا منه نحو أنطاكية، فلما كان ليلة الخميس أول ليلة من رجب واطأ رجل يعرف بالزراد من أهل أنطاكية وغلمان له على برج كانوا يتولون حفظه، وذلك أن يغي سيان كان قد صادر هذا الزراد وأخذ ماله وغلته، فحمله الحنق على أن كاتب بيمند وقال له: أنا في البرج الفلاني، وأنا أسلم إليك أنطاكية أن أمنتني وأعطيتني كذا وكذا. فبذل له ما طلب، وكتم أمره عن باقي الفرنج وكان بعسكر الفرنج تسعة قوامص مقتمين عليهم كندفري، وأخوه القمص، بيمند، وابن أخته طنكريد وصنجيل وبغدوين وغيرهم. فجمعهم بيمند وقال لهم: هذه أنطاكية إن فتحناها لمن تكون فاختلفوا، وكل طلبها لنفسه، فقال: الصواب أن يحاصرها كل رجل منا جمعة، فمن فتحت في جمعته فهي له، فرضوا بذلك. فلما كانت نوبته دلى لهم الزراد لعنه الله، حنلاً، فطلعوا من السور، وتكاثروا، ورفع بعضهم بعضاً وجاءوا إلى الحراس، فقتلوهم، وتسلمه بيمند بن الانبرت. وطلع الفرنج في سحرة هذه الليلة إلى البلد وصاح الصائح من ناحية جبل، فتوهم يغي سيان أن القلعة قد أخذت فخرج من البلد في جماعة منهزمين فلم يسلم منهم أحد. ولما حصل بالقرب من أرمناز ومعه خادم من غلمانه وقع عن ظهر فرسه،

فحمله الخادم الذي كان معه، وأركبه، فلم يثبت على ظهر الفرس، وعاد فسقط، وأدركه الأرمن، فهرب الخادم عنه، وقتله الأرمن وحملوا رأسه إلى الفرنج، واستشهد في ذلك اليوم بأنطاكية ما يفوت الإحصاء ويجاوز العدد، ونهبت الأموال والآلات والسلاح، وسبي من كان بأنطاكية ووصل هذا الخبر إلى عم وانب، فهرب من كان بها من المسلمين وتسلمها الأرمن. وبلغ الخبر إلى دقاق وكربوقا ومن كان معهما، فرحلوا إلى أرتاح، وسار بعضهم إلى جسر الحديد وقتلوا من كان فيه من الفرنج، وتوجهوا نحو أنطاكية، فعرفوا أن قلعتها باقية في أيدي المسلمين، فأعلموا العساكر الإسلامية بذلك، فوصلوا إلى أنطاكية سحرة يوم الثلاثاء سادس رجب، فانهزم من كان بظاهر البلد من الفرنج إليها. ونزل المسلمون بظاهرها مما يلي الجبل، ودخلوا البلد من ناحية القلعة، وقاتلوا الفرنج في جبل المدينة، وأشرف الفرنج على التلف فبنوا سوراً على بعض الجبل يمنع المسلمين من النزول إليهم، وأقاموا أياماً، وعدم القوت عندهم، واحتوى كربوقا على كثير مما كان في قلعة أنطاكية، وولى فيها أحمد بن مروان، وترادفت رسل الملك رضوان في أثناء ذلك إلى كربوقا، فتوهم دقاق من ذلك، وخاف جناح الدولة من أصحاب يوسف بن أبق وأخيه. وجرت بين الأتراك والعرب الذين مع وثاب منافرة عادوا لأجلها، وتفرق كثير من التركمان بتدبير الملك رضوان ورسالته. وتحيل بعض الأمراء من بعض ثم اجتمع رأيهم على التحول إلى المنازلة في السهل بظاهر أنطاكية، فنزلوا باب البحر، وجعل المسلمون بينهم وبين البلد خندقاً.

وأكل الفرنج بأنطاكية الميتات والدواب، فخرجوا من أنطاكية يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر رجب. فأشار وثاب بن محمود أن يمنعوا من الخروج، وأشار بعض الأمراء أن لا يمكنوا من الخروج بأجمعهم ويقتلوا أولاً فأولاً، فلم يعرج المسلمون على شيء من: ذلك لأنهم أيقنوا بالظفر بالفرنج، وخرجوا بأجمعهم في خلق عظيم، وعاث التركمان في العسكر فانهزم، وتوهم الفرنج أن ذلك مكيدة فتوقفوا عن تبعهم، فكان ذلك سبباً لسلامة من أراد الله سلامته، ولم يبق غير كربوقا ومعه أكثر عسكره، فأحرق سرادقه وخيامه وانهزم نحو حلب. وقتل من المطوعة والغلمان والسوقة خلق كثير، ولم يقتل مذكور، ونهب من المسلمين من الآلات والخيام والكراع والغلات ما لا يحصى، ومن انقطع من العسكر نهبه الأرمن وعاد الفرنج إلى قلعة أنطاكية، وبها أحمد بن مروان، فراسله الفرنج وأمنوه، ومن كان معه، وسلمها إليهم يوم الأحد الثاني من شعبان من السنة، وأنزلوه في دار بأنطاكية، وأطلقوا أصحابه وسيروا معهم من يوصلهم إلى أعمال حلب، فخرج الأرمن فأخذوا بعضهم وقتلوا بعضهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. ولما وصل كربوقا إلى حلب خرج إليه الملك رضوان، وحمل له خياماً وغيرها، ورحل عنها وعاد عسكر دمشق إليها وتفرقت العساكر. وبعد أيام من هذه الوقعة خرج جماعة من الفرنج في شعبان، وزحفوا مع أهل تلمنس وجميع نصارى بلد المعرة على المعرة وقاتلوها، فوصلت قطعة من عسكر حلب إليهم، فالتقوا بين تل منس والمعرة، فانهزم الفرنج وبقي الرجالة منهم، فقتل منهم زائداً عن ألف رجل، وحملت رؤوسهم إلى معرة النعمان. وفي هذه السنة وهي سنة إحدى وتسعين في جمادى الأولى عزل الملك رضوان وزيره أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع، وولى وزارته أبا الفضل هبة بن

المجن الفوعي

عبد القاهر بن الموصول وكان أبو الفضل حسن السيرة جواداً كثير المعروف والصدقات. ووافق ذلك شدة الغلاء والجوع بحلب، حتى أكلوا الميتات، فأخرج غلة كثيرة، وتصدق بها على الناس وقيل: إنه كان يخرج في كل سنة صدقة وبرا ثلاثة آلاف مكوك غلة سوى ما يطلقه لمن يسأله معونته من الوفود والضيوف، وغير ما يطلقه من العين والورق وغير ما كان يعتمد من افتكاك الأسرى من المسلمين. المجن الفوعي وفيها قتل الملك رضوان رئيس حلب بركات بن فارس الفوعي المعروف بالمجن، وكان هذا المجن أولا من جملة اللصوص الشطار وقطاع الطريق الذعار فاستتابه قسيم الدولة أن سنقر، وولاه رئاسة حلب لشهامته وكفايته ومعرفته بالمفسدين، وكان في حال اللصوصية يصلي العشاء الآخرة بالفوعة، ويسري إلى حلب ويسرق منها شيئاً ويخرج، ويصلي الفجر بالفوعة فإذا اتهم بالسرقة أحضر من يشهد له أنه صلى العشاء بالفوعة والصبح فيبرئونه. واستمر على رئاسة حلب في أيام قسيم الدولة وأيام تاج الدولة وبعده في أيام رضوان، وامتدت يده وحكم على القضاة والوزراء ومن دونهم، وهو الذي قتل الوزير أبا نصر بن النحاس في أيام قسيم الدولة. وبلغني أنه حنق عليه بسبب حضر أراد شراءها فاشتراها المجن، فشق على أبي نصر، فسيرها المجن إليه، فردها عليه أبو نصر، وتكلم في حقه بكلام قبيح فحنق بسببها على ابن النحاس، فاعتقله بعد ذلك عنده وخنقه. وكان كثير السعاية في قتل النفوس وسفك الدماء وأخذ الأموال وارتكاب الظلم، فعصى على الملك رضوان، ثم ضعف واختفى بعد أن حصر رضوان في قلعة حلب في سنة تسعين وأربعمائة. فأمر رضوان منادياً نادى بالقلعة بأن الملك قد ولى رئاسة حلب صاعد بن بديع فانقلب الأحداث عنه لبغضهم إياه، ومضوا إلى صاعد فاختفى المجن، ثم ظهر عليه فعجل الله المكافأة له على قبيح فعله.

صنجيل في عزاز والبارة والمعرة وشيزر

وسلط عليه الملك رضوان فسجنه في ذي القعدة من سنة تسعين وعذبه عذاباً مديداً بأنواع شتى، وأراد بذلك أن يستصفي ماله، فمما عذبه به أنه أحمى الطست حتى صار كالنار، ووضعه على رأسه، ونفخ في دبره بكير الحذاد، وثقبت كعابه، ضرب فيها الرزز والحلق. ولما وضع التجار المثقب على كعبه قطع الجلد واللحم ولم يدر المثقب، فلطمه المجن وقال: ويلك لا تعرف، أحضر خشبة، وضعها على الكعب. فأحضر خشبة ووضعها على كعبه، فدار المثقب ونزل ونزل، وثقب الكعب. فلما فرخ قيل له: كيف تجد طعم الحديد، فقال: قولوا للحديد كيف يجد طعمي. ولم يقر المجن مع هذا كله بدرهم واحد، ولم يحصل للملك رضوان من ماله إلا ما أقربه غلام أو جارية، وذلك شيء يسير واستغنى جماعة من أهل حلب من ماله. ولما طال الأمر على رضوان أشير عليه بقتله، فأخرج إلى ظاهر باب الفرج من نحو الشرق، ومعه ابنان له شابان مقتبلا الشباب، فقتلا قبله، وهو ينظر إليهما ولا تتكلم. ثم قتل بعد ذلك في سنة إحدى وتسعين وسلمت رئاسة حلب إلى صاعد بن بديع ولما قدم المجن للقتل صاح بصوت عال: يا معشر أهل حلب، من كان لي عنده مال، فهو في حل منه. وكان ابن بديع من أولاد الديلم الذين كانوا في أيام سيف الدولة، وولد أبوه بحلب. صنجيل في عزاز والبارة والمعرة وشيزر وفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة عصى عمر والي عزاز على الملك رضوان فخرج عسكر حلب وحصره، فاستنجد بالفرنج، فوصل صنجيل بعسكر كبير، فعاد عسر حلب فنهب صنجيل ما قد عليه وعاد إلى أنطاكية، وأخذ ابن عمر رهينة،

فم عنده فوقع الملك رضوان على عمر إلى أن أخذه من تل هراق فسلم إليه عزاز وأقام عنده بحلب مدة، ثم قتله. وخرج صنجيل في ذي الحجة، وحصر البارة فقل الماء فأخذها بالأمان، وغدر بأهلها، وعاقب الرجال والنساء، واستصفى أموالهم وسبي بعضاً وقتل بعضاً، ثم خرج بقية الفرنج من أنطاكية والأرمن الذين في طاعتهم والنصارى، وانضموا إليه، ووصلوا إلى معرة النعمان لليلتين بقيتا من ذي الحجة في مائة ألف. وحصروا معرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين، وقطعوا الأشجار، واستغاث أهلها بالملك رضوان وجناح الدولة فلم ينجدهم أحد. وعمل الفرنج برجاً من خشب يحكم على السور وزحفوا إلى البلد، وقاتلوه من جميع نواحيه حتى لصق البرج بالسور فكشفوه وأسندوا السلالم إلى السور وثبت الناس في الحرب من الفجر إلى صلاة المغرب، وقتل على السور وتحته خلق كثير، ودخلوا البلد بعد المغرب ليلة الأحد الرابع والعشرين من محرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. ودخل عسكر الفرنج جميعه إلى البلد، وانهزم بعض الناس إلى دور حصينة، وطلبوا الأمان من الفرنج فأمنوهم، وقطعوا على كل دار قطيعة، واقتسموا الدور، وهجموها وناموا فيها، وجعلوا يهدئون الناس حتى أصبح الصبح، فاخترطوا سيوفهم، ومالوا على الناس، وقتلوا منهم خلقاً، وسبوا النساء والصبيان. وقتل فيها أكثر من عشرين آلف رجل وامرأة وصبي، ولم يسلم إلا القليل ممن كان في شيزر وغيرها من بني سليمان وبني أبي حصين وغيرهم، وقتلوا تحت العقوبة جمعاً كثيراً، فاستخرجوا ذخائر الناس، ومنعوا الناس من الماء، وباعوه منهم فهلك أكثر الناس من العطش، وملكوها ثلاثة وثلاثين يوماً بعد الهجمة، ولم يبقوا ذخيرة بها إلا استخرجوها

حلب والفرنج

وهدموا سور البلد وأحرقوا مساجده ودوره وكسروا المنابر، وعاد بيمند إلى أنطاكية وقمص الرها إليها وفي هذه السنة فتحوا بيت المقدس وفعلوا فيها كما فعلوا بالمعرة. وفي سنة ثلاث وتسعين، وصل مبارك بن شبل أمير بني كلاب في جمع كثير من العرب فحالف الملك رضوان، ورعوا زرع المعرة، وكفرطاب، وحماة، وشيزر، والجسر، وغير ذلك وخلت البلاد، ووقع الغلاء في بلد حلب، ولم يزرع شيء في بلدها، وسلط الله الوباء على العرب، فمات شبل ومبارك ولده، واضمحلت دولة العرب. حلب والفرنج وتوجه الملك رضوان في سلخ رجب من هذه السنة إلى الأثارب وأقام عليها أياما، وتوجه إلى " كلا " في الخامس والعشرين من شعبان لإخراج الفرنج منها، فاجتمع من كان في الجزر وزردنا وسرمين من الفرنج والتقوا، فانهزم رضوان، واستبيح عسكره، وقتل خلق وأسر قريب من خمسمائة نفس وفيهم بعض الأمراء، وعاد الفرنج إلى الجزر وأخذوا برج كفرطاب وبرج الحاضر، وصار لهم من كفرطاب إلى الحاضر، ومن حلب غرباً سوى تل منس فإن أصحاب جناح الدولة كانوا بها. وسار رضوان عقيب هذه النكبة إلى حمص مستنجداً بجناح الدولة فأجابه، وعاد إلى حلب ومعه جناح الدولة، وقد عاد الفرنج إلى أنطاكية، فأقام جناح الدولة بظاهر حلب أياماً، فلم يلتفت إليه رضوان فعاد عنه إلى حمص. وتجمع الفرنج بالجزر وسرمين وأعمال حلب وجمعوا العدد والغلال لحصار حلب، وعولوا على حصارها في سنة خمس وتسعين، وقيل قبلها، ووصل بيمند وطنكريد إلى قرب حلب فنزلوا المشرفة، من الجانب القبلي

تحرك جناح الدولة ومقتله

على نهر قويق لما بلغهم من ضغف رضوان وتمزيق عسكره، وعزموا أن يبنوا مشهد الجف، ومشهد الدكة، ومشهد قرنبياً حصوناً، وأن يقيموا على حلب ويستغلوا بلدها. فأقاموا في تدبير ذلك يوماً أو يومين فبلغه خروج أنوشتكين الدانشمند، وأنه قد نازل بعض معاقل الفرنج، وهي ملطية فعادوا للدفع عنها. فخرج الدانشمند فلقي بيمند وجمعاً من الفرنج بأرض مرعش فأسره، وقتل عسكره، ولم يفلت منهم أحد، فخيب الله ظن الفرنج، وهربوا من أعمال حلب، وتركوا جميع ما كانوا أعدوه، فخرج رضوان وأخذ الغلال التي جمعوها، ونزل سرمين. تحرك جناح الدولة ومقتله وسار جناح الدولة إلى أسفونا وبه جماعة من الفرنج فهجمه وقتل جميع من فيه، وسار إلى سرمين فكبس عسكر الملك رضوان ونهبه، وانهزم رضوان وأكثر عسكره وأسر الوزبر أبا الفضل بن الموصول وجماعة وحملهم إلى حمص. وطلب الحكيم المنجم الباطني فلم يظفز به، وكان هذا الحكيم قد أفسد ما بينه وبين رضوان واستمال رضوان إلى الباطنية جداً، وظهر مذهبهم في حلب، وشايعهم رضوان وحفظ جانبهم، وصار لهم بحلب الجاه العظيم والقدرة الزائدة، وصارت لهم دار الدعوة بحلب في أيامه، وكاتبه الملوك في أمرهم، فلم يلتفت ولم يرجع عنهم، فوصل هذا الحكيم حلب سالماً في جملة من سلم في هذه الوقعة. واستغل جناح الدولة سرمين ومعرة النعمان وكفرطاب وحماة، وفدى الوزير ابن الموصول نفسه من جناح الدولة بأربعة آلاف دينار، وفدى أصحاب الملك نفوسهم أيضاً بمال حملوه إليه ولم يبق في أيدي المسلمين في سنة خمس وتسعين إلا حصن بسرفوث، من عمل بني عليم.

الفرنج حول حلب

وتسلم دقاق الرحبة في سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان المقيم بها زوج آمنة بنت قيماز، وكان قيماز من أصحاب كربوقا فمات، وكانت الرحبة له، وكان جناح الدولة قد خرج إليها فوجد الأمر قد فات، فعاد ونزل النقرة وخرج إليه رضوان إلى النقرة واصطلحا، وأخذه معه إلى ظاهر حلب، وضرب له خياماً، وأقام في ضيافته عشرة أيام، ولم يصف قلب أحد منهما لصاحبه. وسار جناح الدولة إلى حمص فسير الحكيم المنجم الباطني ثلاثة أعجام من الباطنية فاغتالوه، وقد نزل يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب، لصلاة الجمعة فقتلوه، وقتلوا بعض أصحابه وقتلوا وقيل: إن ذلك كان بأمر رضوان ورضاه. وبقي المنجم الباطني بعده أربعة وعشرين يوماً ومات، وقام بعده بأمر الدعوة الباطنية بحلب رفيقه أبو طاهر الصائغ العجمي. ووصل صنجيل الفرنجي وترك حمص بعد قتل جناح الدولة بثلاثة أيام فسيرت زوجته خاتون أم الملك رضوان تستدعيه لتسلم إليه حمص ويدفع الفرنج، فكره المقدمون ذلك، وخافوا منه لسوء رأيه فيهم، وسيروا إلى بواب دقاق إلى دمشق، وكان دقاق بالرحبة فسار أيتكين الحلبي من دمشق ودخلها وطلع القلعة. ووصل رضوان إلى القبة فبلغه الخبر وعاد ورحل صنجيل عنها بعد أن قرر عليهم مالاً، ووصل دقاق فتسلم حمص وأحسن إلى أهلها ونقل أهل جناح الدولة وأولاده إلى دمشق، وسلم حمص إلى طغتكين. الفرنج حول حلب وسار والي عزاز وأغار على الجومة، وهي من عمل أنطاكية، فخرج عسكر

انتصارات رضوان وموت دقاق

أنطاكية وعسكر الرها فنزلوا المسلمية، وقتلوا بعض أهلها، وقطعوا على عدة مواضع قطائع أخذوها، وأقاموا ببلد حلب أياماً، وراسلوا الملك رضوان. واستقر الحال على سبعة آلاف دينار وعشرة رؤوس من الخيل، ويطلقون الأسرى ما خلا من أسروه على المسلمية من الأمراء، وذلك في سنة ست وتسعين ثم خرج الفرنج من تل باشر وأغاروا على بلد حلب الشمالي والشرقي، وأحرقوه، وتكرر ذلك منهم، ونزلوا على حصن بسرفوث، وفتحوه بالأمان، ووصلوا إلى كفرلاثا، فكبسهم بنو عليم فانهزموا إلى بسرفوث. ووقع بين الفرنج وبين سكمان وجكرمش وقعة عظيمة استظهر فيها المسلمون، وهلك الفرنج وأسر القمص، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة. انتصارات رضوان وموت دقاق وكان الملك رضوان قد سار إلى الفرات ينتظر ما يكون من خبر الفرنج، فلما وصله الخبر أنفذ إلى الجزر وغيره من أعمال حلب التي في أيدي الفرنج، فأمرهم بالقبض على من عندهم من الفرنج، فوثب أهل الفوعة وسرمين، ومعرة مصرين وغيرها، ففعلوا ذلك. وطلب بعض الفرنج الأمان من رضوان فأمنهم من القتل، وحملهم أسرى، ولم يبق بأيدي الفرنج غير الجبل و " هاب " وحصون المعرة، وكفرطاب، وصوران. فوصل شمس الخواص وفتح صوران، فهرب من كان بلطمين وكفرطاب وبلد المعرة والبارة إلى أنطاكية، وسلموها إلى رضوان وأصحابه ما خلا " هاب " واسترجع رضوان بالس والفايا ممن كان بهما من أصحاب جناح الدولة وجرى

نكبة المسلمين

بحماة خلف، وخافوا من شمس الخواص، فكاتبوا رضوان، وسلموها إليه وسلمية، فأمنت أعمال حلب وتراجع أهلها إليها وقوي جأش رضوان. واتصلت غارات عسكر حلب إلى بلد أنطاكية، وعرف بيمند ضعفه عن حفظ البلد، وأنه لم يفلت من وقعة سكمان إلا في نفر قليل، وخاف من المسلمين فصار لى بلاده في البحر يستنجد بمن يخرج بهم إلى البلاد، واستخلف ابن أخته طنكريد دبر أمر أنطاكية والرها. ومات الملك دقاق سنة سبع وتسعين في رمضان وأوصى بالملك لولد له صغير اسمه تتش، وجعل التدبير إلى أتابك طغتكين، فتوتجه الملك رضوان نحو دمشق، وحاصرها، وقرر له الخطبة والسكة، فلم تستتب أموره وعاد إلى حلب. نكبة المسلمين ثم إنه خرج في شهر رجب من سنة ثمان وتسعين، وجمع خلقاً كثيراً، وعزم على قصد طرابلس معونة لفخر الملك بن عمار على الفرنج النازلين عليه. وكان الأرمن الذين في حصن أرتاح قد سلموه إلى الملك رضوان لجور الأفرنج، فخرج طنكريد من أنطاكية لاستعادة أرتاح، وخرج جميع من في أعماله من الفرنج معه، ونزل عليها، فتوجه نحوه رضوان في عساكره وجموعه وجميع من أمكنه من عمل حلب والأحداث. فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل، ووقع القتل في الرجالة فلم يسلم منهم إلا من كتب الله سلامته، ووصل الفل إلى حلب، وقتل من المسلمين مقدار ثلاثة آلاف ما بين فارس وراجل، وهرب من بأرتاح من المسلمين. وقصد الفرنج بلد حلب فأجفل أهله، ونهب من نهب وسبى من سبى، وذلك في الثالث من شعبان.

الباطنية

واضطربت أحوال بلد حلب من ليلون إلى شيزر، وتبدل الخوف بعد الأمن والسكون، وهرب أهل الجزر وليلون إلى حلب، فأدركهم خيل الفرنج فسبوا أكثرهم، وقتلوا جماعة. وكانت هذه النكبة على أعمال حلب أعظم من النكبة الأولى على كلا. ونزل طنكريد على تل أغدي، من عمل ليلون، وأخذه وأخذ بقية الحصون التي في عمل حلب ولم يبق في يد الملك رضوان من الأعمال القبلية إلا حماة ومن الغربية إلا الأثارب، والشرقية والشمالية في يديه، وهي غير آمنة. الباطنية وسير أبو طاهر الصائغ الباطني جماعة من الباطنية من أهل سرمين إلى خلف ابن ملاعب بتدبير رجل يعرف بأبي الفتح السرميني، من دعاة الإسماعيلية، فقتلوه ووافقهم جماعة من أهل أفامية، ونقبوا سور الحصن، ودخلوا منه، وطلع بعضهم إلى القلة فأحس بهم، فخرج فطعنه أحدهم بخشت فرمى بنفسه، فطعن أخرى فمات، ونادوا بشعار الملك رضوان. ووصل أبو طاهر الصائغ إلى الحصن عقيب ذلك وأقام به، وسار طنكريد إلى أفامية، فقطع عليها مالاً أخذه، وعاد فوصله مصبح بن خلف بن ملاعب وبعض أصحابه، فأطمعوه في أفامية، فعاد ونزلها، وحاصرها فتسلمها في الثالث عشر من محرم من سنة خمسمائة بالأمان وقتل أبا الفتح السرميني بالعقوبة، ولم يف لأبي طاهر الصائغ بالأمان، وحمله معه أسيراً فاشترى نفسه بمال، ودخل حلب، وفي سنة إحدى وخمسمائة، عصى ختلع بقلعة عزاز، واستقر أن يسلمها إلى طنكريد، ويعوضه عنها موضعاً غيرها، فسار رضوان إليها فتسلم عزاز منه وبلغ رضوان، في، سنة احدى وخمسمائة، ما ذكر به من مشايعة الباطنية، وأنه

الفرنج بين مد وجذر

لعن بذلك في مجلس السطان محمد بن ملكشاه، فأمر أبا الغنائم ابن أخي أبي الفتح الباطني الذي عمل في قتل ابن ملاعب ما دبر الخروج من حلب فيمن معه، فانسل وخرج بجماعة من أصحابه بعد أن قتل أفراد منهم. الفرنج بين مد وجذر وفي سنة إحدى وقيل: اثنتين وخمسمائة اجتمع جاولي سقاوه وجوسلين الفرنجي، على حرب طنكريد صاحب أنطاكية، واستنجد طنكريد بالملك رضوان، فأمده بعكسر حلب والتقوا، فقتل من الفرنج جماعة. ووصل إلى جاولي من أخبره أن الفرنج يريدون الاجتماع عليه فمال على أصحابه من الفرنج وقتل فيهم، وهرب بعد أن قتلهم عن آخرهم وهلك جميع رجالة طنكريد وأكثر خيله. وعاد إلى أنطاكية وعاد عسكر حلب إلى رضوان، فتسلم بالس من أصحاب جاولي، وخرج بيمند من بلاده ومعه خلق عظيم، ثم عاد وتوفي سنة أربع إخمسمائة، وكفي المسلمون شره. وفي سنة ثلاث وخمسمائة، كاتب السلطان الأمير سكمان القطبي صاحب أرمينية ومودود صاحب الموصل، يأمرهما بالمسير إلى جهاد الفرنج، فجمعا وسارا، وصل إليهما نجم الدين إيلغازي بن أرتق في خلق كثير من التركمان، فرحلوا إلى الرها فنزلوا عليها وأحدقوا بها في شوال من هذه السنة. فاتفق الفرنج كلهم، وأزالوا ما كان بينهم من الشحناء، وكان المسلمون في جمع عظيم، فتصافى طنكريد وبغدوين وابن ضنجيل بعد النفار، وقصدوا إنجاد من بها من الفرنج، وأحجموا عن العبور إلى الجانب الجزري لكثرة من به من عساكر المسلمين. فاندفع المسلمون عن الرها إلى حران ليعبر الفرنج ويتمكنوا منهم ووصلهم عسكر دمشق فحين عبر الفرنج وبلغهم خبر المسلمين عادوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطىء الفرات، فنهض المسلمون في أثرهم، وأدركتهم خيول الإسلام، وقد عبر

الأجلاد منهم، فغنم المسلمون جل سوادهم وأكثر أثقالهم، واستباحوهم قتلاً وأسراً وتغريقاً في الماء، وأقام المسلمون بإزائهم على الفرات. ولما عرف الملك رضوان هزيمة الفرنج عن الرها خرج ليتسلم أعمال حلب التي كانت في أيدي الفرنج، وقاتل ما امتنع عليه منها، وأغار على بلد أنطاكية وغنم منها ما يجل قدره، وكان بينه وبينهم مهادنة نقضها. وكاتب الفرنج رضوان يوهنون رأيه في نقض الهدنة، فلما تحقق سلامة طنكريد وعوده رجع إلى حلب. وعاد الفرنج من الفرات فقصدوا بلد حلب من شرقيها، فقتلوا من وجدوا، وسبوا أهل النقرة، وأخذوا ما قدروا عليه من المواشي. وهرب الناس نحو بالس، وعاد طنكريد، فنزل على الأثارب، وطيب قلوب الفلاحين من المسلمين، وأمنهم، ونصب على الأثارب المناجيق وكبشاً عظيماً ينطح به شرفات الأسوار فيلقيها، فخرب أسوارها وكان يسمع نطحه من مسيرة نصف فرسخ. وبدل رضوان لطنكريد في الموضع عشرين آلف دينار على أن يرحل فامتنع، وقال: قد خسرت ثلاثين آلف دينار، فإن دفعتموها إلي وأطلقتم كل عبد بحلب منذ ملكت أنطاكية فأنا أرحل، فاستعظم ذلك واتكل على الحوادث. وكان الذي بقي في القلعة مائة دينار، وأخذها الخازن على وسطه، وهرب إلى الفرنج، وهرب جماعة أخر من المسلمين إليهم فكتبوا إلى الملك رضوان كتاباً على جناح طائر يخبرونه بما تجدد من قوة الحصار وقلة النفقة وقتل الرجال وأرسلوا الطائر فسقط في عسكر الفرنج، فرماه أحدهم بنشابة فقتله. وحمل الكتاب إلى طنكريد، ففرح وقويت نفسه، وبدل رضوان المال المطلوب له على أن يكون أقساطاً ويضع عليه رهائن فلم يفعل، ويئس من في الأثارب من نجدة تصل إليهم فسلموها إلى طنكريد في جمادى الآخرة منها، وأمن أهلها وخرجوا منها

ثم صالح رضوان على عشرين آلف دينار وعشرة رؤوس من الخيل، وقبضها وعاد إلى أنطاكية. ثم عاد وخرج إلى الأثارب، وقد أدركت الغلة، وضعفت حلب بأخذ الأثارب ضغفاً عظيماً، وطلب من حلب المقاطعة التي قررها حلب وأسرى من الأرمن كان رضوان أخذهم وقت إغارته على بلد أنطاكية، والفرنج على الفرات، فأعادهم إليه وطلب بعض خيل الملك رضوان فأعطاه، وطلب حرم الفلاحين المسلمين من الأثارب، وكانوا وقت نزول طنكريد على الأثارب حصلوا بحرمهم في حلب فأخرجهن إليه. وضاق الأمر بأهل حلب، ومضى بعضهم إلى بغداد واستغاثوا في أيام الجمع، ومنعوا الخطباء من الخطبة مستصرخين بالعساكر الإسلامية على الفرنج، وقلت المغلات في بلد حلب، فباع الملك رضوان في يوم واحد ستين خربة من بلد حلب لأهلها بالثمن البخس، وطلب بذلك استمالتهم، وأن يلتزموا بالمقام بها بسبب أملاكهم، وهي ستون خربة معروفة في دواوين حلب إلى يومنا هذا، غير ما باعه في غير ذلك اليوم من الأملاك. ولذلك يقال أن بيع الملك من أصح أملاك الحلبيين لأن المصلحة في بيعها كانت ظاهرة لاحتياج بيت المال إلى ثمنها، ولعمارة حلب ببقاء أهلها فيها بسبب أملاكهم. ولما استصرخ الحلبيون العساكر الإسلامية ببغداد وكسروا المنابر، جهز السلطان العساكر للذب عنهم، فكان أول من وصل مودود صاحب الموصل بعسكره إلى شبختان، ففتح تل قراد، وعدة حصون ووصل أحمديل الكردي في عسكر ضخم وسكمان القطبي، وعبروا إلى الشام فنزلوا تل باشر، وحصروها حتى أشرفت على الأخذ، وكان طنكريد قد أخذ

حصن بكسرائيل، وتوجه مغيراً على بلد شيزر ونازلها. وشرع في عمارة تل ابن معشر وضرب اللبن وحفر الجباب ليوعي بها الغلة، فلما بلغه نزول عساكر السلطان محمد على تل باشر رحل عنها وأما العساكر الإسلامية النازلة على تل باشر فإن سكمان مات عليها، وقيل: بعد الرحيل عنها، وأشرف المسلمون على أخذها فتطارح جوسلين الفرنجي صاحبها على أحمديل الكردي وحمل إليه مالاً، وطلب منه رحيل العسكر عنه فأجابه إلى ذلك، وكتب الملك رضوان إلى مودود وأحمديل وغيرهما: إنني قد تلفت وأريد الخروج من حلب فبادروا إلى الرحيل، فحسن لهم أحمديل الرحيل عنها بعد أن أشرفوا على أخذها، ورحلوا إلى حلب، فأغلق رضوان أبواب حلب في وجوههم، وأخذ إلى القلعة رهائن عنده من أهلها لئلا يسلموها. ورتب قوماً من الجند والباطنية الذين في خدمته لحفظ السور ومنع الحلبيين من الصعود إليه، وبقيت أبواب حلب مغلقة سبع عشرة ليلة. وأقام الناس ثلاث ليالي ما يجدون شيئاً يقتاتون به، فكثرت اللصوص من الضعفاء، وخاف الأعيان على أنفسهم. وساء تدبير الملك رضوان فأطلق العوام ألسنتهم بالسب له وتعييبه، وتحدثوا بذلك فيما بينهم، فاشتد خوفه من الرعية أن يسلموا البلدة وترك الركوب بينهم. وصفر إنسان من السور فأمر به فضربت عنقه ونزع رجل ثوبه ورماه إلى آخر. فأمر به فألقي من السور إلى أسفل، فعاث العسكر فيما بقي سالماً ببلد حلب بعد نهب الفرنج له وسبيهم أهله. وبث رضوان الحرامية يتخطف من ينفرد من العساكر فيأخذونه، فرحلوا إلى معرة النعمان في آخر صفر من سنة خمس وخمسمائة، وأقاموا عليها أياماً ووجدوا حولها ما ملأ صدورهم مما يحتاجون إليه من الغلات وما عجزوا عن حمله.

الخجندي والباطنية

وكان أتابك طغتكين قد حصل معهم، فراسل رضوان بعضهم حتى أفسد ما بينه وبينهم، فظهر لأتابك منهم الوحشة، فصار في جملة مودود صاحب الموصل، وثبت له مودود، ووفى له وحمل لهم أتابك هدايا وتحفاً من متاع مصر، وعرض عليهم المسير إلى طرابلس والمعونة لهم بالأموال، فلم يعرجوا، وسار أحمديل وبرسق بن برسق عسكر سكمان نحو الفرات، وبقي مودود مع أتابك، فرحلا من المعرة إلى العاصي فنزلا على الجلالي. فنزل الفرنج أفامية: بغدوين وطنكريد وابن صنجيل، وساروا لقصد المسلمين، فخرج أبو العساكر بن منقذ من شيزر بعسكره وأهله، واجتمعوا بمودود أتابك وساروا إليهم. ونزلوا قبلي شيزر والفرنج شمالي تل ابن معشر، ودارت خيول المسلمين حولهم ومنعوهم الماء، والأتراك حول الشرائع بالقسي تمنعهم الورد، فأصبحوا، هاربين سائرين، يحمي بعضهم بعضاً. الخجندي والباطنية ووصل إلى حلب في هذه السنة في شهر ربيع الأول من سنة خمس خمسمائة، رجل فقيه تاجر كبير يقال له أبو حرب عيسى بن زيد بن محمد خجندي، ومعه خمسمائة حمل عليها أصناف التجارات، وكان شديداً على الباطنية أنفق أموالاً جليلة على من يقاتلهم، وكان قد صحبه من خراسان باطني يقال له أحمد ابن نصر الرازي وكان أخوه قد قتله رجال الخجندي. فدخل أحمد إلى حلب، ومضى إلى أبي طاهر الصائغ العجمي رئيس الباطنية حلب، وكان متمكناً من رضوان، فصعد إلى رضوان، وأطمعه في مال الفقيه أبي حرب، وأراه أنه بريء من التهمة في شأنه، إذ هو معروف بعداوة الباطنية.

نهاية رضوان

فطمع رضوان في ماله وطار فرحاً، وبعث غلماناً له يتوكلون به، وسير أبو طاهر الباطني معه جماعة من أصحابه، فبينا أبو حرب الخجندي في غلمان له يستعرض أحماله وحوله جماعة من مماليكه وخدمه إذ هجم عليه أحمد بن نصر الرازي في جماعة من أصحاب أبي طاهر الباطني، فقال لغلمانه: أليس هذا رفيقنا، فقالوا: هو هو. فوقعوا عليه فقتلوه. وقتل الجماعة الذين معه من أصحاب أبي طاهر الباطني العجمي بأسرهم، ثم قال أبو حرب: الغياث بالله من هذا الباطني الغادر، أمنا المخاوف ورآنا إلى أن جئنا إلى الأمنة، فبعث علينا من يقتلنا. فأخبر رضوان بذلك فأبلس، وصار السنة والشيعة إلى هذا الرجل، وأظهروا إنكار ما تم عليه وعبث أحداثهم بجماعة من أحداث الباطنية فقتلوهم، ولم يتجاسر رضوان على إنكار ذلك. وكاتب الفقيه أبو حرب أتابك طغتكين وغيره من ملوك الإسلام فتوافت رسلهم إلى رضوان ينكرون عليه، فأنكر وحلف أنه لم يكن له في هذا الرجل نية. وخرج الرجل عن حلب مع الرسل فعاد إلى بلده، ومكث الناس يتحدثون بما جرى على الرجل ونقص في أعين الناس، فتوثبوا على الباطنية من ذلك اليوم. نهاية رضوان ثم إن رضوان حين ضعف أمره بحلب رأى أن يستميل طغتكين أتابك إليه ويستصلحه، فاستدعاه إلى حلب عندما أراد أن ينزل طنكريد على قلعة عزاز، وبذل له رضوان مقاطعة حلب عشرين آلف دينار وخيلاً وغير ذلك، فامتنع طنكريد من ذلك، فوصل طغتكين أتابك، وتعاهدا على مساعدة كل منهما لصاحبه بالمال والرجال. واستقر الأمر على أن أقام طغتكين الدعوة والسكة لرضوان بدمشق، فلم يظهر منه بعد ذلك الوفاء بما تعاهدا عليه. ومات طنكريد في سنة ست وخمسمائة، واستخلف ابن أخته روجار وأدى إليه رضوان ما كان يأخذه منه طنكريد وهو عشرة آلاف دينار.

ووصل مودود إلى الشام، واتفق مع طغتكين على الجهاد، وطلب نجدة من الملك رضوان فتأخرت إلى أن اتفق للمسلمين وقعة استظهروا فيها على الفرنج،، ووصل عقيبها نجدة للمسلمين من رضوان، دون المائة فارس، وخالف فيما كان قرره ووعد به، فأنكر أتابك ذلك، وتقدم بإبطال الدعوة والسكة باسم رضوان من دمشق في أول ربيع الأول من سنة سبع وخمسمائة. وكان رضوان يحب المال، ولا تسمح نفسه بإخراجه حتى كان أمراؤه وكتابه ينبزونه بأبي حبة، وهو الذي أفسد أحواله وأضعف أمره. ومرض رضوان بحلب مرضاً حاداً وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة. ودفن بمشهد الملك، فاضطرب أمر حلب لوفاته. وتأسف أصحابه لفقده، وقيل: إنه خلف في خزانته من العين والآلات والعروض والأواني ما يبلغ مقداره ستمائة آلف دينار.

القسم التاسع عشر حلب وابنا رضوان

القسم التاسع عشر حلب وابنا رضوان ألب أرسلان وسلطان شاه ألب أرسلان من أخويه إلى الباطنية وملك حلب بعده ابنه ألب أرسلان، ويعرف بالأخرس، وعمره ست عشرة سنة. وأمه بنت يغي سيان صاحب أنطاكية، وكان في كلامه حبسة وتمتمة، لذلك عرف بالأخرس، وكان متهوراً قليل العقل، ووضع عن أهل حلب ما كان والده جدده عليهم من الرسوم والمكوس. وقبض على أخويه ملك شاه ومبارك، وكان مبارك من جارية وملك شاه من أمه، فقتلهما. وكذلك فعل أبوه رضوان بأخويه، فانظر إلى هذه المقابلة العجيبة. وقبض جماعة من خواص والده فقتل بعضهم، وأخذ أموال الآخرين. وكان المتولي لتدبير أموره خادم لأبيه يقال له لؤلؤ اليايا، وهو الذي أنشأ خانكاه البلاط بحلب. وكان قبل وصوله إلى رضوان خادماً لتاج الروساء ابن الخلال، فدبر أسوأ تدبير مع سوء تدبيره في نفسه. وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب في أيام أبيه، وتابعهم خلق كثير على مذهبهم طلباً لجاههم، وصار كل من أراد أن يحمي نفسه من قتل أو ضيم التجأ إليهم.

ألب أرسلان وطغتكين

وكان حسام الدين بن دملاج وقت وفاة رضوان بحلب، فصاروا معه، وصار إبراهيم العجمي الداعي من نوابه في حفظ المليحة بظاهر بالس. فكتب السلطان محمد بن ملك شاه إلى ألب أرسلان وقال له: كان والدك يخالفني في الباطنية، وأنت ولدي فأحب أن تقتلهم ". وشرع الرئيس ابن بديع متقدم الأحداث في الحديث مع ألب أرسلان في أمرهم، وقرر الأمر معه على الإيقاع بهم، والنكاية فيهم، فساعده على ذلك. فقبض على أبي طاهر الصائغ وقتله، وقتل إسماعيل الداعي وأخا الحكيم المنجم والأعيان من أهل هذا المذهب بحلب، وقبض على زهاء مائتي نفس منهم. وحبس بعضهم واستصفى أموالهم، وشفع في بعضهبم فمنهم من أطلق ومنهم من رمي من أعلى القلعة، ومنهم من قتل. وأفلت جماعة منهم فتفرقوا في البلاد، وهرب إبراهيم الداعي من القليعة إلى شيزر، وخرج حسام الدولة بن دملاج عند القبض عليهم فمات في الرقة، وطلب الفرنج من ألب أرسلان المقاطعة التي لهم بحلب، فدفعها إليهم من ماله ولم يكلف أحداً من أهل حلب شيئاً منها. ألب أرسلان وطغتكين ثم إن ألب أرسلان رأى أن المملكة تحتاج إلى من يدبرها أحسن تدبير، وأشار خدمه وأصحابه عليه بأن كاتب أتابك طغتكين أمير دمشق، ورغب في استعطافه، وسأله الوصول إليه ليدبر حلب والعسكر، وينظر في مصالح دولته، فأجابه إلى ذلك، ورأى موافقته لكونه صبياً لا يخافه الكفار ولا رأي له، فدعا له على منبر دمشق بعد الدعوة للسلطان وضربت السكة باسمه، وذلك في شهر رمضان. وأوجبت الصورة أن خرج ألب أرسلان بنفسه في خواصه، وقصد أتابك إلى

رئاسة حلب وأمرها ومقتل ألب أرسلان

دمشق ليجتمع معه، ويوكد الأمر بينه وبينه، فلقيه أتابك على مرحلتين، وأكرمه ووصل معه وأنزله بقلعة دمشق. وبالغ في إكرامه وخدمته والوقوف على رأسه. وحمل إليه دست ذهب وطيراً مرصعاً وعدة قطع ثمينة، وعدة من الخيل، وأكرم من كان في صحبته. وأقام بدمشق أياماً وسار في أول شوال عائداً إلى حلب، ومعه أتابك وعسكره، فأقام عنده أياماً واستخلص كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره، وكان قد أشار عليه بعض أصحابه بقبضه، وقبض جماعة من أعيان عسكره وقبض الوزير أبي الفضل بن الموصول ففعل ذلك، فاستوهب أتابك منه كمشتكين فوهبه إياه. وقبض على رئيس حلب صاعد بن بديع، وكان وجيهاً عند أبيه رضوان، فصادره بعد التضييق عليه حتى ضرب نفسه في السجن بسكين ليقتل نفسه، ثم أطلقه بعد أن قرر عليه مالاً، وأخرجه وأهله من حلب، فتوجه إلى مالك بن سالم إلى قلعة جعبر. رئاسة حلب وأمرها ومقتل ألب أرسلان وسلم رئاسة حلب إلى إبراهيم الفراتي فتمكن ولقب ونوه باسمه، وإليه تنسب عرصة ابن الفراتي بالقرب من باب العراق بحلب. ثم رأى أتابك من سوء السيرة وفساد التدبير مع التقصير في حقه والإعراض عن مشورته ما أنكره، فعاد من حلب إلى دمشق، وخرجت معه أم الملك رضوان هرباً منه. وساءت سيرة ألب أرسلان، وانهمك في المعاصي واغتصاب الحرم والقتل. وبلغنا أنه خرج يوماً إلى عين المباركة متنزهاً، وأخذ معه أربعين جارية، ونصب خيمة، ووطئهن كلهن. واستولى لؤلؤ اليايا على الأمر، فصادر جماعة من المتصرفين، وأعاد الوزارة إلى أبي الفضل بن الموصول. وجمع ألب أرسلان جماعة من الأمراء، وأدخلهم إلى موضع بالقلعة شبيه بالسرداب لينظروه، فلما دخلوا إليه قال لهم. ايش تقولون

سلطان شاه

في من يضرب رقابكم كلكم ههنا. فقالوا: " نحن مماليكك وبحكمك ". وأخذوا ذلك منه بطريق المزاح، وتضرعوا له حتى أخرجهم. وكان فيهم مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر فلما نزل سار عن حلب وتركها خوفاً على نفسه. وخاف منه لؤلؤ اليايا فقتله بفراشه بالمركز بقلعة حلب، في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وخمسمائة، وساعده على ذلك قراجا التركي وغيره. سلطان شاه ولزم لؤلؤ اليايا قلعة حلب وشمس الخواص في العسكر، ونصب لؤلؤ أخاً له صغيراً عمره ست سنين، واسمه سلطان شاه بن رضوان، وتولى لؤلؤ تدبير مملكته، وجرى على قاعدته في سوء التدبير. وكاتب لؤلؤ ومقدمو حلب أتابك طغتكين وغيره يستدعونهم إلى حلب لدفع الفرنج عنهاً فلم يجب أحد منهم إلى ذلك. ومن العجائب أن يخطب الملوك لحلب فلا يوجد من يرغب فيها، ولا يمكنه ذب الفرنج عنها، وكان السبب في ذلك أن المقدمين كانوا يريدون بقاء الفرنج ليثبت عليهم ما هم فيه. وقل الربيع ببلد حلب لاستيلاء الفرنج على أكثر بلدها والخوف على باقيه، وقلت الأموال واحتيج إليها لصرفها إلى الجند، فباع لؤلؤ قرى كثيرة من بلد حلب، وكان المتولي بيعها القاضي أبا غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة قاضي حلب، ولولو يتولى صرف أثمانها في مصالح القلعة والجند والبلد. حلب بين لؤلؤ والزلازل وقبض لؤلؤ على الوزير أبي الفضل بن الموصول، واستأصل ماله، وسار إلى القلعة فأقام عند مالك بن سالم، واستوزر أبا الرجاء بن السرطان الرحبي مدة، ثم صادره وضربه، وطلب أبا الفضل بن الموصول فأعاده إلى الوزارة بحلب.

وجاءت زلزلة عظيمة ليلة الأحد ثامن وعشرين من جمادى الآخرة من سنة ثمان بحلب وحران وأنطاكية ومرعش والثغور الشامية، وسقط برج باب أنطاكية الشمالي وبعض دور العقبة وقتلت جماعة. وخربت قلعة عزاز، وهرب واليها إلى حلب، وكان بينه وبين لؤلؤ مواحشة، فحين وصل إلى حلب قتله وأنفذ إليها من تداركها بالعمارة والترميم، وخرب شيء يسير في قلعة حلب، وخرب أكثر قلعة الأثارب وززدنا. وقيل: إن مؤذن مسجد عزاز كان حارساً بالقلعة، فحرس ونام على برج المسجد بالقلعة، فلما جاءت الزلزلة ألقته على كتف الخندق وهو نائم لم يعلم بها، فاجتاز به جماعة فظنوه ميتاً، فأخذوا عنه اللحاف فانتبه وسألهم فأخبروه بما جرى. وصار شمس الخواص مقدم عسكر حلب، ومتولي أقطاع الجند، وكانت سيرته إذ ذاك صالحة، وكان لؤلؤ في أول أمره مقيماً بقلعة حلب لا ينزل منها ويدبر الأمور، فكتب إلى السلطان على سبيل المغالطة يبذل له تسليم حلب والخزائن التي خلفها رضوان وولده ألب أرسلان، ويطلب إنفاذ العساكر إليه. فوصل برسق بن برسق مقدم الجيوش وبكربسن وغيرهم من أمراء السلطان في سنة تسع وخمسمائة، فتغيرت نية لؤلؤ الخادم عما كان كتب به إلى السلطان، وكتب إلى أتابك طغتكين يستصرخه ويستجده، ووعده تسليم حلب إليه، وأن يعوضه طغتكين من أعمال دمشق، فبادر إلى ذلك. ووصل حلب، والعساكر السلطانية ببالس متوجهين إلى حلب فرحلوا منها إلى المعرة، ووصلهم الخبر أن ذلك اليوم وصل أتابك إلى حلب فأعرضوا عن حلب، وساروا إلى حماة فتسلموها. وتسلموا رفنية من أولاد علي كرد، وسلموها إلى خير خان بن قراجا،

خسارة المسلمين أمام الفرنج

فخاف طغتكين من عساكر السلطان أن يقصد دمشق، فأخذ عسكر حلب، وشمس الخواص، وإيلغازي بن أرتق، واستنجد بصاحب أنطاكية روجار وغيره من ملوك الفرنج ونزلوا أجمعين أفامية. خسارة المسلمين أمام الفرنج ونزلت العساكر السلطانية أرض شيزر، وجعل أتابك يريث الفرنج عن اللقاء خوفاً من الفرنج أن يكسروا العساكر السلطانية فيأخذوا الشام جميعه، أو ينكسروا فتستولي العساكر السلطانية على ما في يده. وخاف الفرنج وضاقت صدور أمراء عسكر السلطان من المصابرة، فرحلوا ونزلوا حصن الأكراد وأشرف على الأخذ، فاتفق أتابك والفرنج على عود كل قوم إلى بلادهم، ففعلوا ذلك. وتوجه أتابك إلى دمشق، وعاد عسكر حلب وشمس الخواص إلى حلب، فقبض عليه لؤلؤ الخادم واعتقله فعادت عساكر السلطان حينئذ عن حصن الأكراد، وساروا إلى كفر طاب، وحصروا حصناً كان الفرنج عمروه بجامعها وأحكموه، فأخذوه وقتلوا من فيه، ورحلوا إلى معرة النعمان. وأمن الترك وانتشروا في أعمال المعرة واشتغلوا بالشرب والنهب ووقع التحاسد فيما بينهم، ووصل رسول من بزاعا من جهة شمس الخواص يستدعيهم لتسليم بزاعا، ويقول إن شمس الخواص مقبوض عليه عند لؤلؤ الخادم، ولؤلؤ يكشف أخبار العساكر ويطالع بها الفرنج. ورحل برسق وجامدار صاحب الرحبة نحو دانيث يطلبون حلب، فنزل جامدار في بعض الضياع. ووصل برسق بالعسكر إلى دانيث بكرة الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الآخر، والفرنج يعرفون أخبارهم ساعة فساعة، فوصلهم الفرنج، وقصدوا العسكر

نهاية لؤلؤ الخادم

من ناحية جبل السماق، والعسكر على الحال التى ذكرناها من الانتشار والتفرق، فلم يكن لهم بالفرنج طاقة، فانهزموا من دانيث إلى تل السلطان. واستتر قوم في الضياع من العسكر فنهبهم الفلاحون وأطلقوهم، وغنم أهل الضياع مما طرحوه وقت هزيمتهم ما يفوت الإحصاء، وأخذ الكفار من هذا ما يفوت الوصف، وغنموا من الكراع والسلاح والخيام والدواب وأصناف الآلات والأمتعة ما لا يحصى، ولم يقتل مقدم ولا مذكور. وقتل من المسلمين نحو خمسمائة وأسر نحوها واجتمع العسكر على تل السلطان، ورحلوا إلى النقرة مخذولين مختلفين، ونزلوا النقرة، وكان أونبا قد طلع أصحابه إلى حصن بزاعا، وكان قد تقدم العسكر إليها، فلما بلغهم ذلك نزلوا ووصلوا إلى العسكر. وتوجهت العساكر إلى السلطان وإلى بلادهم، ووصل طغتكين من دمشق فتسلم رفنية فمن كانوا بها، وأطلق لؤلؤ شمس الخواص من الاعتقال، وسلم إليه ما كان أقطعه من بزاعا وغيرها، فوصل إلى طغتكين فرد عليه رفنية، وعاد إلى دمشق واستصحبه معه. نهاية لؤلؤ الخادم وأما لؤلؤ الخادم فأنه صار بعد ملازمة القلعة ينزل منها في الأحيان ويركب، فاتفق أنه خرج في سنة عشر وخمسمائة بعسكر حلب والكتاب إلى بالس، وهو في صورة متصيد، فلما وصل إلى تحت قلعة نادر قتله الجند. واختلف في خروجه، فقيل: أنه كان حمل مالاً إلى قلعة دوسر، وأودعه عند

ياروقتاش أتابك في حلب

ابن مالك فيها، وأراد ارتجاعه منه والعود إلى حلب، وكان السلطان قد أقطع حلب والرحبة أق سنقر البرسقي، فواطأ جماعة من أصحابه على أن أظهروا مفارقته، وخدموا لؤلؤاً وصاروا من خواصه، وواطأهم على قتل لؤلؤ، وأمل أنهم إذا قتلوه تصح له أقطاع حلب فقتلوه. وسار بعضهم إلى الرحبة فأعلمه، فأسرع أق سنقر البرسقي المسير إلى حلب من الرحبة، وانضاف بعض عسكره إلى بقية القوم الذين قتلوه، وطمعوا في أخذ حلب لأنفسهم، وساروا إليها فسبقهم ياروقتاش الخادم، أخذ خدم الملك رضوان، ودخل حلب. وقيل: إن لؤلؤاً كان قد خاف فأخذ أمواله، وخرج طالباً بلاد الشرق للنجاة بأمواله، فلما وصل إلى قلعة نادر قال سنقر الجكرمشي: تتركونه يقتل تاج الدولة ويأخذ الأموال ويمضي، وصاح بالتركية: أرنب أرنب، فضربوه بالسهام فقتلوه. ياروقتاش أتابك في حلب ولما خرج عن حلب أقامت القلعة في يد آمنة خاتون بنت رضوان يومين إلى أن وصل ياروقتاش الخادم مبادراً فدخل حلب ونزل بالقصر، وأخرج بعض عسكر حلب، وأوقع بالذين قتلوا لؤلؤاً، وارتجع ما كان أخذوه من عسكر حلب. وانهزم بعض من كان في التوبة فالتقوا أق سنقر في بالس في أول محرم سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ولم يتسهل للبرسقي ما أمل وراسل أهل حلب ومن بها في التسليم إليه فلم يجيبوه إلى ذلك. وكاتب ياروقتاش الخادم نجم الدين إيلغازي بن أرتق ليصل من ماردين ويدفع أق سنقر، وكاتب روجار صاحب أنطاكية أيضاً فوصل إلى بلد حلب، وأخذ ما قدر عليه من أعمال الشرقية، فحينئذ أيس البرسقي من حلب، وانصرف من أرض بالس إلى حمص فأكرمه خير خان صاحبها، وسار معه إلى طغتكين إلى دمشق فأكرمه، ووعده بإنجاده على حلب. وهادن ياروقتاش صاحب أنطاكية روجار، وحمل إليه مالاً وسلم إليه حصن

إيلغازي من حلب إلى ماردين

القبة، ورتب مسير القوافل من حلب إلى القبلة عليه، وأن يؤخذ المكس منهم له. ثم إن ياروقتاش طلع إلى قلعة حلب، وعزم على أن يعمل حيلة يوقها بالمقدمين ويملكها مثل لؤلؤ، فقبض عليه مقدمو القلعه بأمر بنات رضوان بعد تمام شهر من ولايته، وأخرجوه من حلب وولوا في القلعه خادماً من خدم رضوان. ورد أمر سلطان شاه وتقدمة العسكر وتدبير الأمور إلى عارض الجيش العميد أبي المعالي المحسن بن الملحى، فدبر الأمور وساسها، وضعفت حلب وقل ارتفاعها وخربت أعمالها. إيلغازي من حلب إلى ماردين ووصل إيلغازي بن أرتق إلى حلب فأنزلوه في قلعة الشريف، ومنعوه من القلعة الكبيرة، واستولى على تدبير الأمور وتربيه سلطان شاه في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وسلموا إليه بالس والقليعة. وقبض على أبي المعالي بن الملحى، وقصر ارتفاع حلب عما يحتاج إليه إيلغازي والتركمان الذين معه، ولم ينتظم له حال. واستوحش من أهل حلب وجندها فخرج عنها إلى ماردين. وبقيت بالس والقليعة في يده، وأخرج ابن الملحى من الإعتقال وأعيد إلى تدبير الأمور. وأفسد الجند الذين ببالس في أعمال حلب فاستدعوا الفرنج، وخرج بعض عسكر حلب ومعهم قطعة من الفرنج وحصروها، فوصل إيلغازي في جمع من التركمان إليها، فعاد عسكر حلب والفرنج عن بالس وباعها لابن مالك، وعاد إلى ماردين، وبقي تمرتاش ولده رهينة في حلب. ووصل في هذه السنة أتابك طغتكين وأق سنقر البرسقي إلى حلب، وراسل أهلها في تسليمها فامتنعوا من إجابته، وقالوا: ما نريد أحداً من الشرق وأنفذوا واستدعوا الفرنج من أنطاكية لدفعه عنهم، فعاد أق سنقر إلى الرحبة وأتابك إلى دمشق.

بلد حلب بين الغلاء والفرنج

بلد حلب بين الغلاء والفرنج واشتد الغلاء بأنطاكية وحلب، لأن الزرع عرق ولحقه هواء عند إدراكه أتلفه، وهرب الفلاحون للخوف، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص، فرتب الأمور بها، وحصنها، وسار إلى حلب، ونزل في القصر خوفاً من إيلغازي لما كان بينهما. وخرج أتابك إلى حمص، ونهب أعمالها وشعثها، وأقام عليها مدة، وعاد إلى دمشق لحركة الفرنج. وخرجت قافلة من حلب إلى دمشق فيها تجار وغيرهم، وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب. فلما وصلوا إلى القبة نزل الفرنج إليه، وأخذوا منهم المكس، ثم عادوا وقبضوهم وما معهم بأسرهم، ورفعوهم إلى القبة، وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية، ومعرة النعمان، وحبسوهم ليقروا عليهم مالاً. فراسلهم أبو المعالي بن الملحى ورغبهم في البقاء على الهدنة وأن لا ينقضوا العهد، وحمل إلى صاحب أنطاكية مالاً وهدية، فرد عليهم الأحمال والأثقال وغير ذلك، ولم يعدم منه شيء. وقوي طمع الفرنج في حلب لعدم النجد وضعفها، وغدروا ونقضوا الهدنة، وأغاروا على بلد حلب، وأخذوا مالاً لا يحصيه إلا الله، فراسل أهل حلب أتابك طغتكين، فوعدهم بالإنجاد، فكسره جوسلين وعساكر الفرنج، وراسلوا صاحب الموصل وكان أمره مضطرباً بعد عوده من بغداد. ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز، وضايقوها، وأشرفت على الأخذ، وانقطعت قلوب أهل حلب إذ لم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج، والشرقي خراب مجدب، والقوت في حلب قليل جداً، ومكوك الحنطة بدينار، وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك بمكوك حلب الآن، وما سوى ذلك مناسب له.

القسم العشرون حلب وإيلغازي

القسم العشرون حلب وإيلغازي استدعاء إيلغازي إلى حلب ويئس أهل حلب من نجدة تصلهم من أحد من الملوك، فاتفق رأيهم على أن سيروا الأعيان والمقدمين إلى إيلغازي بن أرتق، واستدعوه ليدفع الفرنج عنهم وظنوا أنه يصل في عسكر يفرج به عنهم، وضمنوا له مالاً يقسطونه على حلب يصرفه إلى العساكر فوصل في جند يسير والمدبر لحلب جماعة من الخدم، والقاضي أبو الفضل ابن الخشاب هو المرجوع إليه في حفظ المدينة والنظر في مصالحها فامتنع عليه البلد، واختلفت الآراء في دخوله، فعاد فلحقه القاضي أبو الفضل بن الخشاب وجماعة من المقدمين، وتلطفوا به ولم يزالوا به حتى رجع. ووصل إلى حلب، ودخلها، وتسلم القلعة، وأخرج منها سائر الجند وأصحاب رضوان وأنزل سلطان شاه بن رضوان وبنات رضوان في دار من دور حلب. وقبض على جماعة ممن كان يتعلق بالخدم ويخدمهم، وأخذ منهم ما كان صار إليهم من مال رضوان ومال الخدم الذين استولوا على حلب بعده. وراسل الفرنج في مال يحمله عن عزاز ليرحلوا عنها، فلم يلتفتوا لقوة أطماعهم في أمر الإسلام، وكان إيلغازي يعجز بحلب عن قوت الدواب، وحلب على حد التلف. فلما عرف من بعزاز ذلك ويئسوا من دفع الفرنج سلموها إلى الفرنج، وراسلهم من بحلب في صلح يستأنفونه معهم، فأجابوا إلى ذلك لطفاً من الله بهم، على أن يسلموا إلى الفرنج تل هراق ويؤدون القطيعة المستقرة على حلب

وقعة تل عفرين

عن أربعة أشهر، وهي ألف دينار، ويكون لهم من حلب شمالاً وغرباً. وزرعوا أعمال عزاز وقووا فلاحها وعادوا إلى أنطاكية وصار يدخل إلى حلب ما يتبلغون به القوت. وسار إيلغازي إلى الشرق ليجمع العساكر ويعود بها إلى حلب، فسار إليه أتابك طغتكين، والتقاه بقلعة دوسر، ووافقه على ذلك، وسارت الرسل إلى ملوك الشرق والتركمان يستنجدونهم. وكان ابن بديع رئيس حلب عند ابن مالك بقلعة دوسر، فنزل إلى إيلغازي ليطلب منه العود إلى حلب، فلما صار عند الزورق ليقطع الماء إلى العسكر وثب عليه اثنان من الباطنية فضرباه عدة سكاكين، ووقع ولداه عليهما فقتلاهما، وقتل ابن بديع وأحد ولديه وجرح الآخر، وحمل إلى القلعة فوثب آخر من الباطنية وقتله، وحمل الباطني ليقتل فرمى بنفسه في الماء وغرق. وقعة تل عفرين وتوجه إيلغازي إلى ماردين ومعه أتابك، وراسلا من بعد وقرب من عساكر المسلمين والتركمان، فجمعا عسكراً عظيما، وتوجه إيلغازي في عسكر يزيد عن أربعين ألفاً في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقطع الفرات من عبر بدايا وسنجة. وامتدت عساكره في أرض تل باشر وتل خالد وما يقاربهما، يقتل وينهب ويأسر، وغنموا كل ما قدروا عليه. ووصل من رسل حلب من يستحثه على الوصول لتواصل غارات الفرنج من جهة الأثارب وأياس أهلها من أتفسهم، فسار إلى مرج دابق ثم إلى المسلمية، ثم إلى قنسرين في أواخر صفر من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. وسارت سراياه في أعمال الروج والفرنج يقتلون ويأسرون، وأخذوا حصن قسطون في الروج، وجمع سرجال صاحب أنطاكية الفرنج والأرمن وغيرهم، وخرج إلى جسر الحديد، ثم رحلوا ونزلوا بالبلاط بين جبلين، مما يلي درب سرمداً،

شمالي الأثارب، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول. وضجر الأمراء من طول المقام، وإيلغازي ينتظر أتابك طغتكين ليصل إليه ويتفقا على ما يفعلانه، فاجتمعوا وحتوا إيلغازي على مناجزة العدو فجدد إيلغازي الأيمان على الأمراء والمقدمين أن يناصحوا في حربهم، ويصابروا في قتال العدو، وأنهم لا ينكلون ويبذلون مهجهم في الجهاد، فحلفوا على ذلك بنفوس طيبة. وسار المسلمون جرايد، وخلفوا الخيام بقنسرين، وذلك في يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول، فباتوا قريباً من الفرنج وقد شرعوا في عمارة حصن مطل على تل عفرين والفرنج يتوهمون أن المسلمين ينازلون الأثارب أو زردنا، فما شعروا عند الصبح إلا ورايات المسلمين قد أقبلت، وأحاطوا بهم من كل جانب. وأقبل القاضي أبو الفضل بن الخشاب يحرض الناس على القتال، وهو راكب على حجر وبيده رمح، فرآه بعض العسكر فازدراه وقال: إنما جئنا من بلادنا تبعاً لهذا المعمم! فأقبل على الناس، وخطبهم خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم. ودار طغان أرسلان بن دملاج من ورائهم ونزل في خيامهم، وقتل من فيها ونهبها، وألقى الله النصر على المسلمين، وصار من انهزم من الفرنج وقصد الخيام قتل. وحمل الترك بأسرهم حملة واحدة من جميع الجهات صدقوهم فيها، وكانت السهام كالجراد، ولكثرة ما وقع في الخيل والسواد من السهام عادت منهزمة وغلبت فرسانها، وطحنت الرجالة والأتباع والغلمان بالسهام، وأخذوهم بأسرهم أسرى. وقتل سرجال في الحرب، وفقد من المسلمين عشرون نفراً منهم سليمان بن مبارك بن شبل، وسلم من الفرنج مقدار عشرين نفراً لا غير، وانهزم جماعة من أعيانهم.

فتح الأثارب وزردنا وانتصار دانيث

وقتل في المعركة ما يقارب خمسة عشر ألفاً من الفرنج، وكانت الوقعة يوم السبت وقت الظهر، فوصل البشير إلى حلب بالنصر، والمصاف قائم، والناس يصلون صلاة الظهر بجامع حلب، سمعوا صيحة عظيمة بذلك من نحو الغرب، ولم يصل أحد من العسكر إلى نحو صلاة العصر. وأحرق أهل القرى القتلى من الفرنج، فوجد في رماد فارس واحد أربعون نصل نشاب، ونزل إيلغاوي في خيمة سرجال، وحمل إليه المسلمون ما غنموه، فلم يأخذ منهم إلا سلاحاً يهديه لملوك الإسلام، ورد عليهم ما حملوه بأسره. ولما حضر الأسرى بين يدي إيلغازي، كان فيهم رجل عظيم الخلقة مشتهراً بالقوة، وأسره رجل ضعيف قصير قليل السلاح، فلما حضر بين يدي إيلغازي قال له التركمان: أما تستحي يأسرك مثل هذا الضعيف وعليك مثل هذا الحديد. فقال. والله ما أخذني هذا، ولا هو مولاي وإنما أخذني رجل عظيم أعظم مني وأقوى، وسلمني إلى هذا وكان عليه ثوب أخضر وتحته فرس أخضر. وتفرقت عساكر المسلمين في بلد أنطاكية والسويدية وغيرهما يقتلون ويأسرون وينهبون، وكانت البلاد مطمئنة لم يبلغهم خبر هذه الوقعة، فأخذ المسلمون من السبي والغنائم والدواب ما يفوت الإحصاء. ولم يبق أحد من الترك إلا امتلأ صدره ويداه بالغنائم والسبي. ولقي بعض السرايا بغدوين الرويس وابن صنجيل في خيلهما بالقرب من جبلة، وقد توجها لنصرة سرجال صاحب أنطاكية، فأوقع بهم الترك، وقتلوا جماعة وغنموا ما قدروا عليه، وانهزم بغدوين وابن صنجيل، وتعلقوا بالحبال. ورحل إيلغازي إلى أرتاح، وبادر بغدوين فدخل أنطاكية، وسلمت إليه أخته زوجة سرجال خزائنه وأمواله، وقبض على أموال القتلى ودورهم، وأخذها وزوج نساء القتلى بمن بقي، وأثبت الخيل، وجمع وحشد واستولى على أنطاكية، ولو سبقه إيلغازي إلى أنطاكية لما امتنعت عليه. فتح الأثارب وزردنا وانتصار دانيث ووصل أتابك إلى نجم الدين بأرتاح، فعاد ونزل الأثارب وهجم الربض

ونهبه، وقتل من قدر عليه، وخرج أحداث من حلب ونهبوا حصنها فطلبوا الأمان منهم بعد أن استأخذت، وسيرهم إلى مأمنهم. ورحل منها إلى زردنا وكانوا قد حصنوها وأحكموا عمارتها، وقاتلها فطلبوا الأمان فأمنهم، وسيرهم إلى أنطاكية فلقيهم بعض التركمان، فنهبوهم وقتلوا بعضهم ومضوا إلى أهلهم. وكان صاحب ززدنا لما بلغه منازلتها حمل بغدوين والفرنج على الخروج لاستنقاذها، وقد عرفوا تفرق التركمان وعودهم إلى أهليهم، وأن إيلغازي في عدة قليلة، فبلغه ذلك فجد في قتالها حتى أخذها كما ذكرناه ورتب أصحابه بها، وتوجه بمن بقي معه واستصحب معه عسكر أتابك وطغان أرسلان بن دملاج جرايد إلى دانيث بعد أن رد الأثقال والخيام إلى قنسرين. ووصل إلى دانيث في يومه، فوجد الفرنج قد نزلوها يوم فتحه زردنا في مائتي خيمة وراجل كثير، وقيل إنهم كانوا يزيدون على أربعمائة فارس سوى الرجالة، وذلك في رابع جمادى الأولى، والتقوا فحمل صاحب زردنا وأكثر خيل الفرنج على عسكر دمشق وحمص وبعض التركمان، فكشفوهم وانهزموا بين أيديهم، وسار ليتدارك أمر زردنا، ويكبس الأثقال والخيام فعرف أخذها وتسيير الأثقال إلى قنسرين فعاد. وحمل بقية المسلمين على بغدوين ومن كان معه، فقتلوهم وردوهم على أعقابهم، فحينئذ حمل إيلغازي وطغتكين وطغان أرسلان فيمن بقي من الخواص على الفرنج، فكسروهم وقتلوا أكثر الرجالة وبعض الخيالة، وتبعوهم إلى أن دخلوا إلى حصن هاب، وغنموا أكثر ما كان معهم. وعاد نجم الدين وطغتكين وطغان أرسلان إلى دانيث، فوجدوا صاحب زردنا والفرنج قد عادوا بعد أن هزموا من كان بين أيديهم من المسلمين ومعرفة أخذ المسلمين زردنا فلقوهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة، وانهزم الباقون إلى هاب، وعاد الترك بالظفر والغنيمة.

غارات بغدوين وجوسلين

وحين بلغ من بقنسرين مع الأثقال هزيمة من كان في مقابلة صاحب زردنا رحلوا إلى حلب، وانزعج أهل حلب غاية الإنزعاج، فوصلهم البشير بعد ساعتين بما بدل غمهم سروراً وهمهم حبوراً. وكان البشير من الفرنج قد مضى إلى بلادهم وأخبر بكسرة صاحب زردنا للمسلمين، فزينوا بلادهم، وأظهروا فيها الجذل والمسرة فوصل ابن صنجيل من الكسرة بعد ذلك، فانقلب سرورهم حزناً وراحتهم تعباً وعناء. وكان صاحب زردنا، وهو القومصى الأبرص واسمه روبارد، قد سقط عن فرسه، فأدركه قوم من أهل جبل السماق من أهل مريمين، فقبضوه وحملوه إلى إيلغازي بظاهر حلب، فأنفذه إلى أتابك طغتكين، فقتله صبراً. ثم دخل إيلغازي إلى حلب، وأحضر الأسرى فأفرد أصحاب القلاع والمقدمين وابن بيمند صاحب أنطاكية ورسول ملك الروم ونفراً يسيراً ممن كان معه مال فأخذه وأطلقهم، وبقي من الأسرى نيف وثلاثون رجلاً بذلوا من المال ما رغب عنه، فقتلهم بأسرهم. وتوجه من حلب إلى ماردين في جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ليجمع من التركمان من يعود به إلى بلد حلب، وكانت حلب ضعيفة عن مقامه فيها، فخرج الفرنج إلى بلد المعرة، فسبوا جماعة، وأدركهم جماعة من الترك فرجعوا. غارات بغدوين وجوسلين ثم خرج بغدوين من أنطاكية في عسكره ونزل على زور، غربي البارة وهو حصن كان لابن منقذ وسلمه إليهم ولما جرت الوقعة الأولى على البلاط عاد وأخذه، فقاتله بغدوين، وأخذه في جمادى الأولى، وأطلق من كان فيه. ورحل إلى كفر روما فأخذ حصنها بالسيف، وقتل جميع من كان فيه، ووصلوا إلى كفر طاب، وقد أحرق ابن منقذ حصنها، وأخذ رجاله منه خوفاً منهم، فرمموه، ورتبوا رحالهم فيه، وساروا إلى سرمين ومعرة مصرين فتسلموها بالأمان، ثم نزلوا زردنا، ورحلوا عنها إلى أنطاكية.

ومع هذا فغارات عسكر حلب متواصلة على ما يقرب منهم، وتعود بالظفر والغنيمة. ووصل جوسلين إلى بغدوين خاله وقت أخذه سرمين، فأقطعه الرها وتل باشر، وسيره إليهما، فأسرى إلى وادي بطنان دفعتين، وإلى ما يلي الفرات من جهة الشام، وقتل وسبى ما يقارب ألف نفس. وأغار جوسلين على منبج والنقرة وأعمال حلب الشرقية، وأخذ كل ما وجده من دواب، وأسر رجالاً ونساء، وأسرى إلى الراوندان يتبع طائفة من التركمان كانت قطعت الفرات، فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم جماعة. وفي صفر من سنة أربع عشرة وخمسمائة، وقعت مشاحنة بين والي الأثارب بلاق بن اسحاق صاحب نجم الدين إيلغازي وبين الفرنج فأسرى ومعه جماعة من عسكر حلب إلى أنطاكية، فلقيهم عسكر أنطاكية فكسرهم، وعاد فتبعه الفرنج والتقوا ما بين ترمانين وتل اغدي، من فرضة ليلون. ووصل في هذه السنة إيلغازي بجمع كثير من التركمان، وقطع الفرات في الخامس والعشرين من صفر، وتوجه إلى تل باشر، وأقام أياماً ولم يقاتلها، ورحل إلى عزاز يريد أخذها، ولم يمكن أحداً من التركمان من تشعيث ضياعها، ورحل إلى أنطاكية وأقام عليها يوماً واحداً، وأقام في أعمال الروم أياماً يسيرة. ثم خرج إلى قنسرين فتشوشت قلوب التركمان لأنهم أملوا من الغنائم مثل السنة الخالية، ولم يقاتل بهم حصناً، ولا غنموا شيئاً، وباع الأسرى الذين أسرهم في الوقعة الأولى، فعادوا إلى بلادهم، وبالغوا في التشقي من المسلمين والقتل والسبي. وجرى من نجم الدين إساءة إلى بعض التركمان على شيء أنكره عليهم، فبالغ في هوانهم وحلق لحى بعضهم، وقطع أعصابهم، فتفرق عسكره وبقي نفر يسير متفرقين في أعمال حلب. فطمع الفرنج وخرجوا إلى دانيث، فوصل طغتكين وعسكر دمشق، واجتمعوا مع إيلغازي في عسكر يقاوم الفرنج، فساروا إلى الفرنج، وهم في ألف فارس وراجل كثير، فدار الترك حولهم فلم يخرج منهم أحد، وكرهوا أن يعودوا على

أعقابهم فتكون هزيمة، فساروا نحو معرة مصرين لا ينفرد منهم فارس ولا راجل. وأشرف الترك على أخذهم، ومن خرج منهم قتل، ومن وقفت دابته تركها وأخذت، ولا يقدرون على الماء وهم على حالة الهلاك، وإيلغازي وطغتكين يردان الناس عنهم بالعصا، فنزلوا بقرب معرة مصرين، وعاد الترك عنهم إلى حلب، وعادوا إلى أنطاكية. وصالحهم إيلغازي إلى آخر سنة أربع عشرة، على أن لهم المعرة وكفر طاب والجبل والبارة، وضياعاً من جبل السماق برسم هاب، وضياعاً من لبلون برسم تل أغدي، وضياعاً من بلد عزاز برسم عزاز. وسار نجم الدين إيلغازي إلى ماردين ليجمع العساكر. وهم إيلغازي زردنا في شهر ربيع الأول. وكان أهل حلب قد شكوا إليه تجديد رسوم جددت عليهم في أيام رضوان، لم تجر بها عادة، في دولة العرب. ولا دولة المصريين ولا في أيام أق سنقر، فأمر بكشف مقدارها، فأخبر أنها مبلغ اثني عشر ألف دينار في كل سنة، فرسم بحذفها، ووقع لهم بذلك، وكتب لوحاً بذلك، وسمره على باب الجامع وذلك في هذه السنة. وخرج الفرنج فقبضوا على الفلاحين الذين تحت أيديهم في هذه الأعمال من المسلمين وعاقبوهم وصادروهم، وأخذوا منهم من الأموال والغلات ما تقووا به، وكانت الضياع التي في أيدي المسلمين قد عمرت، واطمأنوا بالصلح، فغدر اللعين جوسلين، وخرج فأغار على النقرة والأحص، واحتج بأنه أسر له والي منبج أسيراً، وأنه كاتب في ذلك فلم ينصف، وذلك في شوال، وقتل وسبى وأحرق كل ما في النقرة والأحص، ونزل الوادي وعاث فيه. ثم سار إلى تل باشر، ثم عاد وحشد وخرج وعمل كفعله الأول، وأخذ في غارته الأولى المشايخ والعجايز والضعفاء، فنزع عنهم ثيابهم وتركهم في البرد عراة، فهلكوا بأجمعهم. فأنفذ والي حلب إلى بغدوين في ذلك، وقال: إن نجم الدين لم يترك هذه البلاد خالية من العساكر إلا ثقة بالصلح فقال: ما لي على جوسلين يد. وتتابعت من جوسلين غارات متعددة.

نائب حلب سليمان بن إيلغازي وعصيانه

ثم خرج الفرنج من أنطاكية عقيب ذلك، وأغاروا على بلد شيزر وأخذوا ما لا يحصى، وأسروا جمعاً، وطلبوا المقاطعة التي جرت عادتهم قبل الوقعة بأخذها، فبذل لهم ابن منقذ ذلك على أن يردوا ما أخذوه، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجعل لهم مالاً حمله، وصالحهم إلى آخر السنة. وهرب ملك العرب دبيس بن صدقة الأسدي من المسترشد والسلطان محمود، فوصل إلى قلعة جعبر، فأكرمه نجم الدولة مالك، وأضافه، ثم سار إلى إيلغازي إلى ماردين، وتزوج ابنته فاستد به وأجاره، ووصل معه الأموال العظيمة والنعمة الوافرة، وحمل إليه إيلغازي ما يفوت الإحصاء. فاشتغل إيلغازي بدبيس عن العبور إلى الشام، فخرب بلد حلب، واستولى الفرنج على معظمه، وأغار جوسلين إلى صفين، وسبى العرب والتركمان، ونزل بزاعا وقاتلها، وأحرق بعض جدارها، وصونع على شيء ودخل بلده. ثم هجم الفرنج، في صفر من سنة خمس عشرة وخمسمائة، الأثارب، وقتلوا جماعة وأحرقوها وأسروا من لم يعتصم بالقلعة. ثئم إنهم في ربيع الآخر من السنة، نزلوا نواز، زحفوا إلى الأثارب ثانية، وأحرقوا الدور والغلة. وسار بغدوين، وأغار على حلب، وأخذ الناس والدواب من حاضر حلب ومن الفنادق، وأخذ ما يجل قدره من الماشية، وأسر نحواً من خمسين أسيراً. وصاح الصائح فخرج نفز يسير من العسكر فظفروا بالفرنج وخلصوا المواشي، وعاد الفرنج إلى أعمالهم. نائب حلب سليمان بن إيلغازي وعصيانه وكان النائب بحلب شمس الدولة سليمان بن نجم إيلغازي. وكان إيلغازي قد

ولى رئاسة حلب، في سنة أربع عشرة في رجب، مكي بن قرناص الحموي، وجعله بين يديه، فكتب إلى ولده ونوابه يأمرهم بصلح الفرنج على ما يريدون، فصالحوهم على سرمين والجزر وليلون وأعمال الشمال على أنها للفرنج، وما حول حلب للفرنج منه النصف، حتى أنهم ناصفوهم في رحى العربية، وعلى أن يهدم تل هراق بحيث لا يبقى للفئتين فيه حكم، وطلبوا الأثارب فأجاب إيلغازي إلى ذلك، فامتنع من كان فيها من التسليم فبقيت في أيدي المسلمين. وكان الذي تولى الصلح جوسلين وجفري، وكان بغدوين في القدس، فلما وصل رضي بذلك، وشرع في عمارة دير خراب قديم، بالقرب من سرمدا، وحصنه ثم أطلقه لصاحب الأثارب سيرألان دمسخين. وأمر إيلغازي ولده باخراب قلعة الشريف المجددة بحلب وإخراج من كان فيها من جند رضوان، فأخرجهم شمس الدولة وابن قرناص بعذر الإغارة على أعمال الفرنج، وأغلقت أبواب حلب في وجوههم، وتولى الرئيس مكي بن قرناص خرابها في جمادى الآخرة. واستنجد الملك طغرل بإيلغازي بن أرتق على الكرج وملكهم داود، فسار إليه في عالم عظيم ومعه دبيس بن صدقة، فكسرهم المسلمون، ودخلوا وراءهم في الدرب، فكر الكرج عليهم في الدرب، فانهزم المسلمون وتبعهم الكرج قتلاً وأسراً. ونهب لدبيس ما مقداره ثلاثمائة ألف دينار، ووصل مع نجم الدين إيلغازي إلى ماردين سالماً. وأنفذ إيلغازي إلى ابنه سليمان بحلب يلتمس منه أشياء، فقبح ذلك عنده، وقيل له أشياء أوجبت عصيانه على والده، فعصى وأخرج الملوك سلطان شاه وابراهيم وغيرهما من حلب، فمضوا إلى قلعة جعبر، ومد يده في مصادرة أهل حلب وظلمهم والفساد. وقيل: إن دبيس بن صدقة لما سار مع إيلغازي إلى الكرج سأل إيلغازي في الطريق أن يهب له حلب وأن يحمل إليه دبيس مائة ألف دينار يجمع بها التركمان

ويعاضده حتى يفتح أنطاكية، فأجابه إيلغازي إلى ذلك، وأخذ يده على ذلك. فلما وقعت كسرة الكرج بدا له من ذلك، فأنفذ إلى ولده سليمان وكان خفيفاً، وقال له: أظهر أنك قد عصيت علي حتى يبطل ما بيني وبين دبيس. فحمله الجهل على أن عصى ونابذ أباه، ووافقه مكي بن قرناص والحاجب ناصر، وهو شحنة حلب وغيرها. وقبض سليمان حجاب أبيه فصفعهم وحلق لحاهم، ومد يده إلى أموال الناس وظلمهم، فطمع الفرنج وقربهم سليمان، فنزلوا زردنا وعمروها لابن صاحبها كليام بن الأبرص. ثم سار الفرنج إلى باب حلب، فكبسوا في طريقهم حاضر طيء وغيرها، فخرج إليهم الحاجب ناصر والعسكر فكسروهم وقتلوا منهم جماعة. وخرج بغدوين في جمادى الآخرة، فنازل خناصرة، وأخذها وخربها، وحمل باب حصنها إلى أنطاكية، ونزل برج سينا ففعل به كذلك، وكذلك فعل بغيرهما من حصون النقرة والأحمق، وسبى وأحرق ونهب. وعاد فنزل صلدع على نهر قويق، وخرج إليه اتزر بن ترك طالباً منه الصلح مع سليمان، فقال: على شرط أن يعطيني سليمان الأثارب حتى أحفظه، وأنا أذب عنه وأقاتل دونه. فقال له: " ما يجوز أن نسلم ثغراً من ثغور حلب في بدو مملكته، بل التمس غير هذا مما يمكن ليوافقك عليه فقال له: الأثارب لا يقدر صاحب حلب على حفظها، فإني قد عمرت عليها الحصون بما دارت، وأنا أعلمكم أنها اليوم تشبه فرساً لفارس قد عطبت يداها، وللفارس هري شعير يعلفها رجاء أن تبرأ ويكسب عليها، فنفد هري الشعير، وعطبت الفرس، وفاته الكسب. ثم رحل نحوها، فحصرها ثلاثة أيام، واتصل به ما أوجب رحيله إلى أنطاكية. ولما بلغ إيلغازي إصرار ولده على العصيان ضاقت عليه الأرض، وأعمل في الوصول إليه وأخذ حلب منه، فكاتبه أقوام وعرفوه أن ما بحلب من يدفعه عنها، فسار حتى وصل إلى قلعة جعبر فضعفت نفس ابنه سليمان على العصيان على أبيه،

مناورات إيلغازي والفرنج

فأنفذ إليه من استحلفه على الصفح عنه والإحسان إليه وإلى من حسن له العصيان مثل ابن قرناص وناصر الحاجب، واكد الأيمان على ذلك. ودخل حلب في أول شهر رمضان فخرج الناس للقائه، ودخل إلى القصر، وأحسن إلى أهل حلب، وسامحهم بشيء من المكوس، وصرف الشحنة الذي كان يؤذي الناس في البلد. وقبض على الرئيس مكي بن قرناص وعلى أهله، وشق لسانه وكحله وأخذ ما وجد له، وسلم أخاه إلى من يعذبه ويستصفي ماله. وكحل ناصر الحاجب، فعني به من تولى أمره فسملت إحدى عينيه، وعرقب طاهر بن الزائر، وكان من أعوان الرئيس مكي. وأعاد الملوك أولاد رضوان من قلعة جعبر إلى حلب، وخطب بنت الملك رضوان، وتزوج بها، ودخل بها بحلب. وولى رئاسة حلب سلمان بن عبد الرزاق العجلاني البالسي، وولى ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار نيابته في حلب، وصالح الفرنج مدة سنة كاملة، وأعطاهم من الضياع ما كان في أيديهم أيام مملكتهم الأثارب وزردنا. وسار في محرم من سنة ست عشرة وخمسمائة إلى الشرق ليجمع العساكر، فمات وزيره بحلب أبو الفضل بن الموصول في صفر وولي الوزارة أبو الرجاء بن السرطان. مناورات إيلغازي والفرنج وعبر إيلغازي وبلك في سابع عشر شهر ربيع الآخر الفرات وكان بلك غازي ابن أخيه بهرام بن أرتق، واستدعاه من أعمال الروم وبيده عدة قلاع بالقرب من ملطية وصحبتهما عدة من التركمان دون ما جرت عادته باستصحابه، فعزل أبا الرجاء بن السرطان عن الوزارة، وقبض عليه لسعاية سعي به إليه عليه.

ونزل إيلغازي زردنا، نزل عليها في العشرين من جمادى الأولى، وحصرها أياماً وأخذ حوشها. وكان صاحبها قد سمع حين عبر إيلغازي الفرات أنه ينزلها، فجمع أصحابه واستحلفهم على المصابرة من وقت نزولهم عليها مدة خمسة عشر يوماً، وحلف هو لهم على أن ينجدهم، ومضى على أن يستجيش، فإن جازت هذه المدة ولم يصلهم فإنه يبتاع دماءهم بكل ما يملكه. وقال لهم: والله لكم علي من الشاهدين، لئن لم يخلصكم إلا إسلامي إن قبله أسلمت على يديه لخلاصكم. وخرج حتى وصل إلى بغدوين صاحب أنطاكية، وهو بأكناف طرابلس في حكومة بينه وبين صاحبها، فأخبره بعبور إيلغازي وبما بلغه من قصده زردنا، فقال: مذ حلفنا له وحلف لنا ما نكثنا، وحفظنا بلده في غيبته ونحن شيوخ، وما أظنه يقدر، بل ربما قصد طرابلس أو قصدني في القدس، لأنني ما صالحته إلا على أنطاكية وأعمالها، بل يجب أن تعود إلى أفامية وكفر طاب وتكشف ما يتجدد. فعاد وكشف الأمر. وسير إلى بغدوين فأعلمه بنزوله على زردنا، فصالح صاحب طرابلس، وشرط عليه الوصول إليه. ووصل أنطاكية، واستدعى جوسلين، ونصب المسلمون مجانيق أربعة على زردنا، وأخذوا الفصيل الأول، فوصل الفرنج بعد أربعة عشر يوماً من منازلة المسلمين لها، فنزلوا تحت الدير. وبلغ الخبر إيلغازي، فترك زردنا وتوجه نحوهم، فنزل نواز، وطلب أن يخرج الفرنج من المضيق إلى السعة فلم يخرجوا، فرحل إلى تل السلطان، وأتابك طغتكين في صحبته، فخرج الفرنج فنزلوا على نواز وهجموا ربض الأثارب وأحرقوا البيدر والجدار. ودخل صاحبها يوسف بن ميرخان قلعتها، ونزلوا أبين، ورحلوا منها فنزلوا دانيث، وأقاموا عليها فلم يصلهم أحد، فعادوا إلى بلادهم، فعاد إيلغازي فنزل زردنا، وهجم الحوش الثاني، وقتل جماعة من الفرنج. فعاد الفرنج ونزلوا تحت الدير، فرحل إيلغازي إلى نواز، وأقام ثلاثة أيام يزاحف الفرنج وهم لا يخرجون إلى الصحراء.

مرض إيلغازي وموته

مرض إيلغازي وموته فاتفق أن أكل إيلغازي لحم قديد كثيراً وجوزاً أخضر وبطيخاً وفواكه، فانتفخ جوفه وضاق نفسه، واشتد به الأمر، فرحل إلى حلب، وتزايد به المرض، فسار طغتكين إلى دمشق وبلك غازي إلى بلاده. ودخل إيلغازي ليتدواى بحلب، فنزل القصر، ولم يخلص من علته. وخرج عسكر حلب في ألف فارس إلى تبل من عمل عزاز، ومعهم أمراء منهم دولب بن قتلمش، فنهبوا وعادوا فوقع عليهم عند حربل كليام في أربعين فارساً، فانهزم المسملون وقتل منهم جماعة. وفي شهر رجب من هذه السنة، ظفر بلك غازي باللعين جوسلين وابن خالته قلران بالقرب من سروج، فأسرهما وأسر ابن أخت طنكريد، وقد كان أسره في وقعة ليلون، واشترى نفسه بألف دينار وأسر ستين فارساً. وطلب من جوسلين وقلران أن يسلما ما بأيديهما من المعاقل فلم يفعلا، وقالا: نحن والبلاد كالجمال والحدج، متى عقر بعير حول رحله إلى آخرة والذي بأيدينا قد صار بيد غيرنا. فأخذهما ومضى إلى بلده. ووصل الفرنج بعد ذلك من تل باشر في شعبان، وكبسوا تل قباسين، فخرج النائب ببزاعا مع أهلها فالتقوا، وانهزم المسلمون وقتل منهم تسعون رجلاً. وأما إيلغازي فأقام أياماً، وصلح من مرضه، وسار إلى ماردين، ثم خرج منها يريد ميافارقين، فاشتد مرضه في الطريق، وتوفي بالقرب من ميافارقين بقرية يقال لها: عجولين، في أول شهر رمضان من سنة ست عشرة وخمسمائة.

القسم الحادي والعشرون حلب وبقية الأرتقيين

القسم الحادي والعشرون حلب وبقية الأرتقيين أولاً سليمان بن عبد الجبار بن أرتق وملك ابنه سليمان ميافارقين، وابنه تمرتاش ماردين، وابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق حلب. ولما سمع صاحب أنطاكية بوفاته حشد عسكره وجماعة من الأرمن، ونزل وادي بزاعا، وعاث فيه وأفسد ما قدر عليه، وحمل إليه أهل الباب من الوادي مالاً وخدموه. فرحل إلى بالس وقاتلها بالمنجنيقات، وقرروا على بالس مع ابن مالك مالاً يحمل إليه، فأسرف في الطلب وكان ببالس جماعة من التركمان ومن خيل حلب، فخرج أهلها والخيل التي عندهم واقتتلوا، فقتل من الفرنج جماعة من المقدمين، وظفر المسلمون أحسن ظفر. فرحل بغدوين إلى الوادي وقد وصل سليمان بن إيلغازي فحصر البيرة، وتسلم حصنها على أن يؤمن أهلها على أنفسهم، فأخذهم وسار بهم إلى أنطاكية، وتتابعت غارات الفرنج حول حلب إلى آخر سنة ست عشرة وخمسمائة. وولى بدر الدولة سليمان الوزارة بحلب أبا بالرجاء سعد الله بن هبة الله بن السرطان، في صفر، بعد ما قبض عليه إيلغازي كما تقدم ذكره. وجدد بدر الدولة المدرسة التي بالزجاجين بحلب، المعروفة ببني العجمي، بإشارة أبي طالب بن العجمي. وذكر لي أنه عزم على أن يقفها على الفرق الأربع، ونقل آلتها من كنيسة داثرة كانت بالطحانين بحلب. وفي العاشر من شهر صفر من سنة سبع عشرة وخمسمائة، استقر الصلح بين بدر الدولة صاحب حلب وبين بغدوين صاحب أنطاكية، على أن يسلم بدر الدولة

إليه قلعة الأثارب فتسلموها، وصارت لصاحبها أولاً سيرألان دمسخين، وبقيت في يده إلى أن مات، وكانت في يد الحاجب جبريل بن برق، فعوضه بدر الدولة عنها شحنكية حلب. وفي يوم الأربعاء تاسع عشر صفر، سار بغدوين صاحب أنطاكية ليقاتل نور الدولة بلك بن بهرام بن أرتق، وكان محاصراً قلعة كركر، فالتقيا على موضع اسمه اورش بالقرب من قنطرة سنجة، فكسره نور الدولة بلك، وأسره، وقتل معظم عسكره ومقدميه ونهب خيمه، وفتح الكركر بعد جمعه، وكان في دون عدة الفرنج. وجعل بغدوين في خرتبرت مع جوسلين وقلران. ثتم إن نور الدولة بلك عبر الفرات ونزل على حلب وضايقها، ونزل من قبلها، ثم انتقل إلى بانقوسا، وأقام أياماً، ورحل إلى أرض التيرب، وجبرين، وأمر بحرق الغلة وأخذ الدواب. ومضى قطعة من عسكره إلى حدادين، فأخذ أحدهما عنزاً، فرماه بعض فلاحي الضيعة بسهم فقتله فحصرت مغارتها وأخذت بعد أن امتنع أهلها من التسليم، فدخنوا على المغارة فاختنق بها مائة وخمسون. وخنق في مغارة تل عبود وتعجين جماعة وسبوا نساء عفر تنور وأولادها

ثانيا بلك بن بهرام بن أرتق

وباعوا بعضهم واستعبدوا بعضاً وأخذ لأهل حلب جشير خيل ثلاثمائة رأس، وكان حريق الزرع من رهقات بلك وكان سبباغً للغلاء العظيم. ثانيا بلك بن بهرام بن أرتق وفي صباح يوم الثلاثاء، غزة جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وخمسمائة، تسلم مدينة حلب سلمها إليه مقلد بن سقويق بالأمان ومفرج بن الفضل، ونودي بشعار بلك من عدة جهات، وكسر باب أنطاكية، وأخربت ثلمة من غربي باب اليهود. وفي يوم الجمعة رابع الشهر تسلم القلعة وجلس بها بعد ما نزل بدر الدولة منها بيوم، وقرر حالها، وأخرج سلطان شاه بن رضوان، وسيره إلى حران، وكان في فتحها في شهر ربيع الآخر خوفاً منه. ثم أنه سار إلى البارة وهجمها، وأسر الأسقف الذي بها وقيده، ووكل به، ورحل إلى كفر طاب فغفل الموكل به فهرب إلى كفر طاب، فعزم على قتال حصنها، واسترجاع الأسقف في يوم الثلاثاء الثاني عشر من جمادى الآخرة. فوصله من أخره أن بغدوين الرويس وجوسلين وقلران وابن اخت طنكريد وابن أخت بغدوين وغيرهم من الأسرى الذين كانوا مسجونين بجب خرتبرت عاملوا قوماً من أهل حصن خرتبرت فأطلقوهم، ووثبوا على الحصن فملكوه، وأخذوا كل ما كان لنور الدولة فيه وكان جملة عظيمة، فقال جوسلين: كنا قد أشرفنا على الهلاك والآن فقد خلصنا، والصواب أن نمضي ونحمل ما قدرنا عليه. فما سمحت نفس بغدوين بترك الحصن والخروج منه. فاتفق رأيهم على خروج جوسلين، وحلفوا على أنه لا يغير ثيابه ولا يأكل لحماً ولا يشرب إلا وقت القربان إلى أن يجمع جموع الفرنجة ويصل بهم إلى خرتبرت ويخلصهم.

وأما بلك فإنه سار حتى نزل على خرتبرت ففتحه بالسيف في ثالث وعشرين من رجب، وقتل كل من كان به من من من كان به من أصحابه الذين كفروا نعمته ومن كان فيه من الفرنج، ولم يستبق سوى بغدوين الملك وقلران وابن أخت بغدوين، وسيرهم إلى حران وحبسهم بها. واما جوسلين فمضى إلى القدس، واستنجد بالفرنج، ووصلوا تل باشر، فسمعوا خبر فتح خرتبرت بالسيف فسار إلى الوادي وقاتل بزاعا وأحرق بضع جدارها ثم أحرق الباب وقطع شجره، وأحرق الباب وقطع شجره، وأحرق ما سواه من الوادي. ثم نزل حيلان ثم حلب من ناحية مشهد الجف من الشمال، وخرب المشاهد والبساتين، وكسر الناس عند مشهد طرود بالقرب من بستان النقر، وقتل وسبى مقدار عشرين نفراً. ثم رحل ونزل الجانب الغربي في البقعة السوداء، وخرب مشاهد الجانب القبلي وبساتينه، ونبش الضريح الذي بمشهد الدكة فلم يجد فيه شيئاً فألقى فيه النار، والحلبيون في كل يوم يقاتلونه أشد قتال، ويخسر معهم في كل حركة. ثم رحل يوم الثلاثاء مستهل شهر رمضان، ونزل السعدي، وقطع شجره، وافترقوا منه وسار كل إلى بلده، ووجد في منازلهم التي نزلوها نيف وأربعون حصاناً موتى، ونبش الناس منهم موتى جماعة. فأمر القاضي ابن الخشاب بموافقة من مقدمي حلب أن تهدم محاريب الكنائس التي للنصارى بحلب، وأن يعمل لها محاريب إلى جهة القبلة وتغير أبوابها، وتتخذ مساجد: ففعل ذلك بكنيستهم العظمى، وسمي مسجد السراجين: وهو مدرسة الحلاويين الآن، وكنيسة الحدادين. وهي مدرسة الحدادين الآن، وكنيسة بدرب الحراف: وهي مكان مدرسة ابن المقدم. ولم يترك للنصارى بحلب سوى كنيستين لا غير، وهي الآن باقية.

هذا كله ونور الدولة بلك غائب عن مدينة حلب في بلاده. ثم إن جوسلين خرج في تاسع عشر شهر رمضان إلى الوادي والنقرة والأحص، وأخذ ما يزيد عن خمسمائة فرس كانت في الغريب، حتى لم يبق بحلب من الخيالة خمسون وفارساً لم خيل، وأخذ من الدوب البقر والغنم والجمال ما لايحصى، وقتل وسبى وخرب ما أمكنه وعاد إلى تل باشر. وخرج سير ألان في عسكر أنطاكية من الأثارب حتى وصل الحانوتة وحلفا، وأخذ ما كان بقي من خيل في الغريب في الجانب القبلي، وذلك مقدار ثلاثه صخرس ة وأخذ قافلة كانت واصلة من شيزر بغلة. ثم عبر جوسلين من الفرات إلى شبختان وأغار على تركمان وأكراد، فأخذ ص الغنم والخيل ما يزيد على عشرة الاف وسبى وقتل، ومن سلم له فرس من عسكر حلب يخرجون مع الحرامية ولا يقطعون الغارات على بلادهم، ويحضرون الأسارى مرة. بعد أخرى. ثم أغار جوسلين على الجبول، وما حولها، وأخذ دواب كثيرة وتوجه، إلىدير حافر، فخنق أهلها بالذخان في المغاير، وفتح المقابر، وسلب الموتى أكفانهم وفي يوم الأربعاء سادس عشرين من ذي القعدة، عبر بلك إلى الشام وقبض على نائب بهرام داعي الباطنية بحلب، وأمر بإخراجهم من حلب فباعوا أموالهم ورحالهم وخرجوا منها. ثم إن الأمير نور الذولة بلك جمع العساكر، ووصله أتابك طغتكين بعسكر دمشق عسكر أق سنقر - البرسقي، وعبروا حتى نزلوا على عزاز، وضايقوها بالحصار، وأخذوا عليها نقوبا إلى أن سهل أمرها، فتجمع الفرنج وقصدوا ترحيل المسلمين عنها فالتقىالجيشان، وهزم المسلمون، وتفرقوا بعد قتل من قتل وأسر من أسر. وعمر بلك حصن الناعورة بالئقرة وحصن المغارة - على شط الفرات - وتزويج فرخنده خاتون بنت رضوان، وعرس بها في ثالث وعشرين ذي الحجة من سنة سبع عشرة وخمسمائة.

وفي المحرم من سنة ثماني عشرة وخمسمائة، تنكر بلك على رئيس حلب سلمان العجلاني وجعل عليها رجلاً من أهل حران اسمه محمد بن سعدان، ويعرف بابن سعدانة، وكثر الأمن من الذعار وقطاع الطريق عند قدوم بلك حلب، وأقام الهيبة العظيمة، وتقدم بفتح أبواب حلب ليلاً ونهاراً، وحسم مادة أرباب الفساد. وقال للحارس: إن عدت سمعتك تصيح ضربت عنقك. ونقل بغدوين ومن كان معه من حبس حران، فحبسه في قلعة حلب. وتوجه في شهر صفر فرقة من أصحابه الأتراك إلى ناحية عزاز، فوقع بينهم وبين الفرنج وقعة عند مشحلا، وظفر بهم الأتراك، وقتلوا منهم أربعين رجلاً من الخيالة والرجالة وأخذوا أسلابهم، ووصل الباقون عزاز وما فيهم إلا من جرح جراحاً عدة. وانقطع المطر في كانونين ونصف شباط، ثم تدارك فأخصب الزرع واستغل الناس، وكان بحلب غلاء شديد. وفي صفر من سنة ثماني عشرة وخمسمائة، تنكر نور الدولة بلك على حسان بن كمشتكين صاحب منبج لشيء بلغه عنه، فأنفذ قطعة من عسكره مع ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، وتقدم إليهم أن يمروا على منبج، ويطلبوا من حسان أن يخرج معهم للإغارة على تل باشر فإذا خرج قبضوه، ففعلوا ذلك، ودخلوا منبج، وعصى عليهم الحصن ودخله عيسى أخو حسان. وسير حسان فحبس في حصن بالو بعد أن عوقب وعري، وسحب على الشوك فلم يسلمها أخوه. وكتب عيسى إلى جوسلين: إن وصلتني وكشفت عني عسكر بلك سلمت

ثالثا تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق

إليك منبج. وقيل: إنه نادى بشعار جوسلين بمنبج، فمضى إلى بيت المقدس وطرابلس وجميع بلاد الفرنج، وحشد ما يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل، ووصل نحو منبج ليرحل بلك عن منبج. فسار إليه بلك لما قرب من منبج، والتقيا يوم الإثنين ثامن عشر شهر ربيع الأول، واقتتل العسكران، وانهزم الفرنج، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى آخر النهار. وحمل فيهم بلك ذلك اليوم خمسين حملة يفتك فيهم ويخرج سالماً، يضرب بالسيوف ويطعن بالرماح ولا يكلم، وعاد إلى منبج فبات مصلياً مبتهلاً إلى الله تعالى لما جدده على يده الظفر بالفرنج. وأصبح يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول قتل كل أسير أسره في الوقعة، ثم زحف نحو الحصن ليختار موضعاً ينصب فيه المنجنيق، وعليه بيضة وبيده ترس. وكان قد عزم على أن يستخلف ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي على حصار منبج، ويطلع منجداً لأهل صولا، فإن الفرنج كانوا في مضايقتها. وفي تلك المضايقة أخذوها، فبينا كان بلك قائماً يأمر وينهى إذ جاءه سهم من الحصن. وقيل أنه كان من يد عيسى، فوقع في ترقوته اليسرى فانتزعه وبصق عليه، وقال: هذا قتل المسلمين كلهم. ومات لوقته. وقيل: بقي ساعات وقضى نحبه رحمه الله وحمل إلى حلب، ودفن بها قبلي مقام إبراهيم عليه السلام. ثالثاً تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق ووصل حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إلى حلب يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الأول، ودخل القلعة ونصب علمه، ونادى الناس بشعاره. وسار سليمان بن إيلغازي من ميافارقين إلى خرتبرت وحصون بلك، وهي نيف وخمسون موضعاً فتسلمها.

اطلاق سراح بغدوين

وسار داود بن سكمان، فأخذ حصن بالو وأطلق حسان بن كمشتكين فعاد إلى منبج. فأما تمرتاش فإنه لما ملك حلب ألهاه الصبا واللعب عن التشمير والجد والنظر في أمور الملك، ففسدت الأحوال، وضعف أمر المسلمين بذلك، واستوزر أبا محمد بن الموصول، ثم عزله وصادره في رجب من سنة ثماني عشرة واستوزر أبا الرجاء بن السرطان، وولى الرئاسة بحلب فضائل بن صاعد بن بديع. وسير إلى حران فحمل منها سلطان شاه بن رضوان، وكان بلك أسكنه بها فاعتقله في دار بقلعة ماردين وكان فيها طاقة فتدلى منها بحبل وهرب إلى دارا، ثم رحل منها إلى حصن كيفا إلى داود بن سكمان. وفي العشر الأواخر من ربيع الأول سار نائب جوسلين من الرها وأغار على ناحية شبختان ونهبها فسار إليه نائب تمرتاش عمر الخاص وكان نائبه وربيب أبيه إيلغازي وركب خلفه في ثلاثمائة فارس فلحقه على مرج اكساس، فقاتله وهزمه وقتله، وقتل أكثر من كان معه من الفرنج، وعاد غانماً، وأنفذ رؤوسهم وما غنمه إلى تمرتاش إلى حلب. وولاه تمرتاش شحنكية حلب وهو المدفون في القبة التي مقابل باب مشهد إبراهيم عليه السلام واسمه مكتوب على جهاتها الأربع. وولى قلعة حلب رجلاً يقال له عبد الكريم. اطلاق سراح بغدوين وفي غزة جمادى الأولى من هذه السنة استقر الأمر بين الملك بغدوين صاحب أنطاكية وكان في سجن بلك بحلب وبين تمرتاش بن إيلغازي على تسليم الأثارب

وزردنا والجزر وكفر طاب وعلى تسليم عزار وثمانين ألف دينار وقدم منها عشرين ألف دينار. وحلف على ذلك وعلى أن يخرج دبيس بن صدقة من الناس، وكان قد وصل دبيس منهزماً من المسترشد بعد أن كسره المسترشد، وقتل خلقاً من عسكره فترك بلاده، وحمل ما قدر عليه من العين والعروض على ظهور المطايا ووفد على ابن سالم بن مالك بن بدران إلى قلعة دوسر، واستجار به فأجاره، وغاضب المسترشد والسلطان محموداً في أمره. وكاتب دبيس قوماً من أهل حلب، وأنفذ لهم جملة دنانير، وسامهم تسليمها إليه، وكشف ذلك رئيسها فضائل بن صاعد بن بديع، فأطلع على ذلك تمرتالش بن إيلغازي، فأخذهم وعذبهم وشنق بعضهبم، وصادر بعضاً، وأحرق بعضاً. وكان المتوسط حديث بغدوين مع تمرتاش الأمير أبو العساكر سلطان بن منقذ، وسير أولاده وأولاد إخوته رهناً عن بغدوين إلى حلب. وفكت قيود بغدوين وأحضر إلى مجلس تمرتاش، وتواكلا وتشاربا وخلع عليه قباء ملكياً وقلنسوة ذهب وخفافاً وراناً، وأعيد عليه الحصان الذي كان أخذه منه بلك يوم أسره، فركبه، وسار إلى شيزر يوم الأربعاء رابع جمادى، فبقي عند أبي العساكر حتى أحضر جماعة رهناً على الوفاء بما شرطه لتمرتاش وهم: ابنته، وابن جوسلين، وغيرهما من أولاد الفرنج، وعدتهم اثنا عشر نفراً. وحمل العشرين ألف دينار التي عجلها. وقبض صاحب شيزر الرهائن، وأطلق بغدوين من سجن شيزر، في يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب، فخرج لعنه الله وغدر بتمرتاش وأنفذ إليه يقول: البطريرك الذي لا يمكن خلافه سألني عما بذلت، وما الذي استقر، فحين سمع حديث عزاز وتسليم حصنها مني أبى، وأمرني بالدفع عنها وقال إن خطيئتك تلزمني، ولا أقدر على خلافه. فترددت الرسل بينهما فلم يستقر على قاعدة. وخالط دبيس جوسلين وبغدوين، وصافاهم وصافوه بوساطة الأمير مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر، واتفق دبيس والفرنج على قواعد تعاهدوا عليها منها أن

أعمال الفرنج حول حلب وحصارها

تكون حلب لدبيس والأموال والأرواح للفرنج مع مواضع في بلد حلب تكون للفرنج، وتقدم دبيس إلى مرج دابق فخرج إليه حسام الدين تمرتاش فكسره. وسار تمرتاش من حلب عندما علم بغدر الفرنج به إلى ماردين، في الخامس والعشرين من شهر رجب، ليستنجد بأخيه سليمان بن إيلغازي وبجمع العساكر، وبقي بنو منقذ رهائن بقلعة حلب عند تمرتاش، وأولاد الفرنج رهائن عند أبي العساكر بن منقذ بشيزر. والرسل مع هذا تتردد بين تمرتاش وبغدوين إلى أن عادت الرسل في ثامن عشر شعبان مخبرة بنقض الهدنة، وبخروج بغدوين إلى أرتاح قاصداً النزول على حلب. أعمال الفرنج حول حلب وحصارها ورحل بغدوين من أرتاح حتى نزل على نهر قويق وأفسد كل ما كان عليه، ثم رحل فنزل على باب حلب، في يوم الاثنين السادس والعشرين من شعبان، وهو السادس من تشرين الأول. وخرج دبيس وجوسلين من تل باشر، وقصدا ناحية الوادي، وأفسدا القطن والدخن، وسائر ما كان به وقوم ذلك بمائة ألف دينار، ورحلا ونزلا مع بغدوين على حلب، ووصل إليهم الملك سلطان شاه بن رضوان. ونزل بغدوين مقدم الفرنج من الجانب الغربي من حلب في الحلبة، ونزل جوسلين على طريق عزاز وما يجاوره يمنة ويسرة. ونزل دبيس وسلطان شاه بن رضوان مما يلي جوسلين من الشرق، وفي صحبة دبيس عيسى بن سالم بن مالك. ونزل يغي سيان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب بالس مما يلي دبيس من الشرق، وكانت عدة الخيم ثلاثمائة، للفرنج مائتا خيمة وللمسلمين مائة خيمة. وأقاموا على حلب يزاحفونها، وقطعوا الشجر وخربوا مشاهد كثيرة، ونبشوا قبور موتى المسلمين، وأخذوا توابيتهم إلى الخيم وجعلوها أوعية لطعامهم، وسلبوا الأكفان، وعمدوا إلى من كان من الموتى لم تنقطع أوصاله، فربطوا في

أرجلهم الحبال، وسحبوهم مقابل المسلمين. وجعلوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وآخر يقول: هذا عليكم! وأخذوا مصحفاً من بعض المشاهد بظاهر حلب وقالوا: يا مسلم أبصر كتابكم. وثقبه الفرنجي بيده، وشده بخيطين، وعمله ثفراً لبرذونه، فظل البرذون يروث عليه، وكلما أبصر الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً. وأقاموا كلما ظفروا بمسلم قطعوا يديه ومذاكيره ودفعوه إلى المسلمين، والمسلمون يفعلون بمن يأسرونه من الفرنج كذلك. وربما شنق المسلمون بعضهم، ويخرج الغزاة من باب العراف، ويسرقونهم من المخيم، ويقطعون عليهم الطرق، ويقتلون ويأسرون. ويصيح المسلمون على دبيس من الأسوار: دبيس، يا نحيس! والرسل تتردد بينهم في الصلح، ولا يستتب إلى أن ضاق الأمر بالمسلمين جداً. وكان بحلب بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار والحاجب عمر الخاص، ومعهما مقدار خمسمائة فارس، والذي يتولى تدبيرها وهو في مقام الرئاسة القاضي أبو الفضل بن الخشاب وتولى حفظ المكان وبذل المال والغلال. فاتفقوا على أن سيروا جد أبي قاضي حلب القاضي أبا غانم محمد بن هبة الله ابن أبي جرادة ونقيب الأشراف وأبا عبد الله بن الجلي فخرجوا ليلاً، ومضوا إلى تمرتاش إلى ماردين مستصرخين إليه ومستغيثين به فوجدوه وقد مات أخوه سليمان ابن إيلغازي صاحب ميافارقين في شهر رمضان، وسار تمرتاش إلى بلاده ليملكها، واشتغل بملك تلك البلاد عن حلب. وكانت الرسل مترددة بينه وبين أق سنقر البرسقي صاحب الموصل في اتفاق الكلمة على قصد الفرنج وكشفهم عن حلب، فاشتغل بهذا الأمر عن هذا التقرير، والحلبيون عنده يفنيهم ويمطلهم. ولما خرج الحلبيون من حلب بلغ الفرنج ذلك فسيروا خلفهم من يلحقهم، فلم يدركهم وأصبحوا في صباح تلك الليلة وصاحوا إلى أهل حلب: أين قاضيكم؟ وأين شريفكم؟. فأسقط في أيديهم إلى أن وصل منهم كتاب بخبر سلامتهم.

رابعا أق سنقر البرسقي

وبقي الحلبيون عند تمرتاش يحثونه على التوجه إلى حلب، وهو يعدهم ولا يفعل، وهم يقولون له: نريد منك أن تصل بنفسك، والحلبيون يكفونك أمرهم. فضاق الأمر بالحلبيين إلى حد أكلوا فيه الكلاب والميتات، وقلت الأقوات، ونفد ما عندهم، وفشا المرض فيهم، فكان المرضى يئنون لشدة المرض، فإذا ضرب البوق لزحف الفرنج قام المرضى كأنما أنشطوا من عقال، وزحفوا إلى الفرنج وردوهم إلى خيامهم، ثم يعودون إلى مضاجعهم. فكتب جدي أبو الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم كتاباً إلى والده يخبره بما آل أمر حلب إليه من الجوع وأكل الميتات والمرض، فوقع كتابه في يد تمرتاش فغضب وقال: انظروا إلى هولاء يتجلدون علي، ويقولون إذا وصلت فأهل حلب يكفونك أمرهم، ويغررون بي حتى أصل في قلة، وقد بلغ بهم الضعف إلى هذه الحالة. رابعاً أق سنقر البرسقي ثم أمر بالتوكيل والتضييق عليهم، فشرعوا في إعمال الحيلة والهرب إلى أق سنقر البرسقي، ليستصرخوا به فاحتالوا على الموكلين بهم، حتى ناموا وخرجوا هاربين، فأصبحوا بدارا. وساروا حتى أتوا الموصل، فوجدوا البرسقي مريضاً مدنفاً، والناس قد منعوا من الدخول عليه إلا الأطباء، والفروج يدق له لشدة الضعف. ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك، فضرب البشارة في عسكره، وارتفع عنده التكبير والتهليل، ونادى بعض أصحابه أهل حلب: قد مات من أملتم نصره. فكادت أنفس الحلبيين تزهق. واستؤذن للحلبيين على البرسقي فأذن لهم، فدخلوا إليه، واستغاثوا به، وذكروا له ما أهل حلب فيه من الضر، فأكرمهم رحمه الله وقال لهم: ترون ما أنا فيه الآن من المرض، ولكن قد جعلت لله علي نذراً إن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم، والذب عن بلدكم، وقتال أعدائكم. قال القاضي أبو غانم قاضي حلب: فما مضى ثلاثة أيام بعد ذلك حتى فارقته الحمى، فأخرج خيمته، ونادى في العساكر بالتأهب للجهاد إلى حلب. وبقي أياماً وعمل العسكر أشغاله وخرج رحمه الله في عسكر قوي، فوصل

إلى الرحبة، وكاتب أتابك طغتكين صاحب دمشق، وصمصام الدين خيرخان بن قراجا صاحب حمص. ورحل إلى بالس، وسار منها إلى حلب فوصلها يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة من سنة ثماني عشرة. ولما قرب من حلب رحل دبيس ناشراً أعلامه البيض إلى الفرنج عند قرية من حلب، وتحولوا إلى جبل جوشن كلهم. وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنهبوها ونالوا منها ما أرادوا. وخرج أهل حلب والتقوا قسيم الدولة عند وصوله. وسار نحو الفرنج فانهزموا بين يديه من جبل جوشن، وهو يسير وراءهم على مهل حتى أبعدوا عن البلد. فأرسل الشالشية، وأمرهم أن يردوا العسكر، فجعل القاضي ابن الخشاب يقول له: يا مولانا لو ساق العسكر خلفهم أخذناهم، فإنهم منهزمون والعسكر محيطة بهم. فقال له: يا قاضي تعلم أن في بلدكم ما يقوم بكم وبعسكري لو قدر علينا والعياذ بالله كسرة؟ فقال: لا. فقال: ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويكسرونا، ويهلك المسلمون، ولكن قد كفى الله شرهم وندخل إلى البلد ونقويه وننظر في مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ونخرج إليهم بعد ذلك. ورجع ودخل البلد وتسلم قلعتها، ونظر في مصالح البلد وقواه، وأزال الظلم والمكوس وعدل فيهم عدلاً شاملاً وأحسن إليهم إحساناً كاملاً. وكتب لأهل حلب توقيعاً بإطلاق المظالم والمكوس، نسخته موجودة، بعدما كان الحلبيون منوا به من الطلم والمصادرة من عبد الكريم والي القلعة، وعمر الخاص والي البلد، وتسليطهما الجند والأتراك على مصادرة الناس بحيث أنهم استصفوا أموال جماعة من الأكابر والصدور وغيرهم في حالة الحصار.

وأما الفرنج فإنهم توجهوا إلى الأثارب ودخلوا أنطاكية. وشرع الناس في الزرع ببلد حلب في الثاني عشر من شباط وجعلوا يبلون الغلة بالماء، ويزرعونها فنبتت وتداركت عليها الأمطار فأخصبت، وجاءت الغلة من أجود الغلاء وأزكاها. وأطلق البرسقي بني منقذ من الاعتقال بقلعة حلب، ورحل إلى تل السلطان في سنة تسع عشرة وخمسمائة، في أواخر المحرم، وأقام به ثلاثة أيام، ورحل إلى أن وصل إلى شيزر في سابع صفر، وتسلم أولاد الفرنج من ابن منقذ، وباعهم بثمانين ألف دينار حملت إليه. وأقام بأرض حماة أياماً حتى وصل إليه أتابك طغتكين، فرحل في عساكره التي لا تحد كثرة، ونزل كفر طاب فسلمت إليه يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر، وسلمها إلى صمصام الدين خيرخان بن قراجا، وكان قد وصل إليه من حمص والتقاه بتل السلطان. وسار إلى عزاز وقاتلها، ونقبت قلعتها فقصدهم الفرنج، فالتقوا سادس عشر ربيع الآخر، وكسر البرسقي كسرة عظيمة، واستشهد جماعة من المسلمين من السوقة والعامة، ولم يقتل من الأمراء والمقدمين أحد. ووصل أق سنقر البرسقي سالماً إلى حلب، وأقام على قنسرين أياماً، وتفرقت العساكر إلى بلادهم، ووصل أمير حاجب صارم الدين بابك بن طلماس، فولاه البرسقي حلب وبلدها، وعزل عنها سوتكين والياً كان ولاه. ووقعت الهدنة بين البرسقي والفرنج على أن يناصفهم في جبل السماق وغيره مما كان بأيدي الفرنج، وسار البرسقي إلى الموصل فلم يزل الفرنج يعللون الشحن والمقطعين بالمحال في مغل ما وقعت الهدنة عليه إلى العشرين من شعبان من السنة. وسار بغدوين إلى بيت المقدس والرسول خلفه يعلمه بأن الفرنج لا يمكنون

أحداً من رفع شيء من الصيافي، وأخذ بعض متصرفي المسلمين بعض الارتفاع من بعض الأماكن والهدنة على حالها، فتجمع الفرنج ونزلوا رفنية. وخرج شمس الخواص صاحبها طالباً أق سنقر البرسقي مستصرخاً به، وسلمها إليهم ولده المستخلف فيها في آخر صفر من سنة عشرين وخمسمائة، وقصدوا بلد حمص فشعثوه. فجمع البرسقي العساكر وحشد، وسار نحو الشام لحربهم حتى وصل الرقة في أواخر شهر ربيع الآخر، وسار إلى أن نزل بالنقرة على الناعورة في الشهر المذكور، وأقام به أياماً والفرنج يراسلونه، فراسله جوسلين على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة وأن يكون الحرب بينهما على غير ذلك، فاستقر هذا الأمر. وكان بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار وشهريار بك ابن عمه، قد توجها مع جماعة من التركمان إلى المعرة فأوقعوا بعسكر الفرنج، وقتل المسلمون منهم مائة وخمسين، وأسروا جفري بلنك، صاحب بسرفوث، من جبل بني عليم، وأودع في سجن حلب. وكان قد سير البرسقي ولده عز الدين مسعوداً منجداً لصاحب حمص، فاندفع الفرنج عنها فعاد عز الدين إلى والده، فتركه بحلب، وعزل بابك، عن ولايتها وولاها كافور الخادم إلى أن ينظر فيمن يوليه إياها ولاية مستقلة. ورحل قسيم الدولة إلى الأثارب في الثامن من جمادى الآخرة من سنة عشرين، وسير بابك بن طلماس في جماعة من العسكر والنقابين إلى حصن الدير المجدد فرق سرمداً ففتحه سلماً. وقتل من الخيالة بعد ذلك خمسون فارساً، ونهب العساكر الغلال والفلاحين في سائر البلد الذي وصلت الغارات إليه، ورفعوا الغلة جميعها إلى حلب، وزحفوا إلى قلعة الأثارب، وخربوا الحوشين، ولم يتيسر فتحها. ووصل بغدوين من القدس في جموع الفرنج، ووصل إليه جوسلين، ونزلوا عم وأرتاح، وسيروا إلى البرسقي: ترحل عن هذا الموضع، ونتفق على ما كنا عليه

مقتل البرسقي

في العام الخالي، ونعيد رفينة عليك. فتجنب الحرب، وخشى أن يتم على المسلمين ما تم على عزاز فصالحهم إلى أن فرج الخناق عن الأثارب، وخرج صاحبها بماله ورجاله. فغدر الفرنج وقالوا: ما نصالح إلا على أن تكون الأماكن التي ناصفنا فيها في العام الماضي لنا دون المسلمين. فامتنع من ذلك وأقام على حلب أياماً والرسل تتردد بينهم، فلما لم تتفق حال عاد أق سنقر، ونزل قنسرين، ورحل إلى سرمين، وامتدت العساكر إلى الفوعة ودانيث. ونزل الفرنج على حوض معرة مصرين، فأقاموا كذلك إلى نصف رجب، ونفدت أزواد الفرنج، فعادوا إلى بلادهم، ثم عاد البرسقي وفي صحبته أتابك طغتكين، وكان وصل إليه وهو على قنسرين فدخلوا من العسكر ونزلوا باب حلب. ومرض أتابك فعملت له المحفات، وأوصى إلى البرسقي، وتوجه إلى دمشق، وسلم البرسقي حلب وتدبيرها إلى ولده عز الدين مسعود، فدخل حلب، وأجمل السيرة وتحلى بفعل الخير. مقتل البرسقي وسار أبوه إلى الموصل، فدخلها في ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة، وقصد الجامع بها ليصلي فيه يوم الجمعة تاسع ذي القعدة، وقصد المنبر، فلما قرب منه وثب عليه ثمانية نفر في زي الزهاد، فاخترطوا خناجر وقصدوه وعليه درع من الحديد، وحوله جمع عظيم وهو متحقظ منهم، فسبقبوا أصحابه إليه، فضربوه حتى أثخنوه وحمل جريحاً فمات من يومه. وقتل من كان وثب عليه من الباطنية غير شاب واحد كان من كفر ناصح ضيعة من عمل عزاز فإنه سلم، وكان له أم عجوز فلما سمعت بقتل البرسقي وقتل من وثب عليه وكانت قد علمت أن ابنها معهم فرحت واكتحلت وجلست مسرورة فوصلها ابنها بعد أيام سالماً فأحزنها ذلك، وجزت شعرها وسودت وجهها.

خامسا عز الدين مسعود ووفاته

وقيل: إن البرسقي قتل بيده منهم ثلاثة، وكان البرسقي رحمه الله قد رأى تلك الليلة في منامه عدة من الكلاب ثاروا به فقتل بعضها، ونال منه الباقون أذى شديداً، فقصق رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمعة لشيء أبداً. وكان من عادته أن يحضر الجمعة مع العامة رحمه الله وكان وزير البرسقي المؤيد بن عبد الخالق وكان قدم معه حلب حين قدمها. خامساً عز الدين مسعود ووفاته وملك عز الدين مسعود حلب عند ورود الخبر عليه بقتل أبيه في سنة عشرين، واستوزر المؤيد وزير أبيه وولى فيها من قبله الأمير تومان. وسار من حلب في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة إلى السلطان محمود وهو ببغداد، فسأله أن ينعم عليه ببلاد أبيه، فكتب له منشوراً بذلك، فوصل إلى الموصل وملكها، ثم نزل إلى الرحبة قاصداً إلى الشام، وكان يظن أن قاتل أبيه قوم من أهل حماة، فأضمر للشام وأهله شراً عظيماً. ورجع عما كان عليه من الأفعال المحمودة والإقبال على مجاهدة الفرنج، وبلغ طغتكين عنه أنه يقصده، فتأهب له فلما نزل بظاهر الرحبة امتنع واليها من تسليمها، فحاصرها أياماً فسلمها الوالي إليه، ونزل فوجده قد مات فجأة، وقيل: سقي سماً فمات. وندم الوالي على تسليم الرحبة، وكان قد وصلت قطعة من العسكر لتقوية حلب فمنعهم تومان من الدخول إليها. فوقع الشر بينه وبين رئيس حلب فضائل بن بديع، وداخلهم إلى حلب.

فوصل إلى حلب ختلغ أبه السلطاني غلام السلطان محمود، ومعه توقيع مسعود بن البرسقي بحلب، كتبه قبل وصوله إلى الرحبة فلم يقبله تومان والي حلب فعاد ختلغ أبه إلى الرحبة وقد جرى فيها ما ذكرناه من موت مسعود. فعاد ختلغ أبه على فوره إلى حلب فتسلمها من يد تومان، آخر جمادى الآخرة، وصعد إلى قلعتها بطالع اختاره له المنجمون، فأخذه الطمع في أموال الناس، وصادر جماعة من أهل حلب، واتهمهم بودائع المجن الفوعي، رئيس حلب المقتول في أيام رضوان. وقبض على شرف الدين أبي طالب بن العجمي وعمه أبي عبد الله، واعتقلهما بحلب. وثقب كعاب أبي طالب وصادره، فعاد فعله القبيح عليه بالبوار، وضل رأي منجمه في ذلك الاختيار. وقام أهل حلب عليه فحصروه، وقدموا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار، ونادى أهل حلب بشعار بدر الدولة، وساعده على ذلك رئيس حلب فضائل ابن صاعد بن بديع، وقبض على أصحاب ختلغ أبه، وذلك في الثاني من شوال. وقصد حلب في تلك الحال ملك أنطاكية وجوسلين فصانعوه على مال حتى رحل، وضايقوا القلعة وأحرقوا القصر، ودخل إليهم إلى المدينة الملك إبراهيم بن رضوان، ووصل إليهم حسان صاحب منبج، وصاحب بزاعا، ودام الحصار إلى النصف من ذي الحجة.

القسم الثاني والعشرون حلب وعماد الدين

القسم الثاني والعشرون حلب وعماد الدين عماد الدين زنكي في حلب وكان أتابك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة أقسنقر قد ملك الموصل بتواقيع السلطان محمود، فسير إليه شهاب الدين مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر وأعلمه بأحوال حلب وحصارها فسير أتابك إليها عسكراً مع الأمير سنقر، دراز والأمير الحاجب صلاح الدين حسن ودخل الأمير صلاح الدين فأصلح الحال، ووفق بينهما على أن استدعيا أتابك زنكي من الموصل، فتوجه بالجيوش إلى حلب، وقيل، إن بدر الدولة وختلغ سارا إليه. وقيل (*) : إن ختلغ أبه لم يزل بالقلعة حتى وصل أتابك فنزل إليه، وصعد أتابك إلى القلعة يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة، من سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وارتاد موضعاً ينقل أباه قسيم الدولة إليه ويدفنه به، وكان مدفوناً بالقبة التي على جبل قرنبيا. فعرض عليه بدر الدولة نقل أبيه إلى المدرسة التي أنشأها بالزجاجين. وقيل: إن أبا طالب بن العجمي طلب منه ذلك، فنقله ورفعه في الليل من سور حلب، ودفنه في البيت الشمالي من المدرسة، واتخذه تربة لمن يموت من أولاده

التوقيع له بجميع البلاد الشامية

ووقف على المقرئين على تربة والده القرية المعروفة بشامر. وأما الملك إبراهيم بن رضوان فإنه هرب منه إلى نصيبين، وكانت في أقطاعه إلى أن مات. وأما ختلغ أبه فإنه سلمه إلى فضائل بن بديع فكحله بداره، ثم قتله أتابك بعد ذلك. وقيل: إن بدر الدولة هرب منه عند ذلك، وهرب فضائل بن بديع إلى قلعة ابن مالك خوفاً من أتابك. وولى أتابك رئاسة حلب الرئيس صفي الدين أبا الحسن علي بن عبد الرزاق العجلاني البالسي، فسلك أجمل طريقة مع الناس. التوقيع له بجميع البلاد الشامية وخرج أتابك من حلب، وسار حتى نزل أرض حماة، فوصله صمصام الدين خيرخان بن قراجا وتأكدت بينهما مودة لم تحمد عاقبتها فيما نذكره بعد وكذلك وصله سونج ابن تاج الملوك. ثم سار أتابك بعد ذلك، فوطىء بساط السلطان، في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وعاد بالتواقيع السلطانية بملك الغرب كله، ودخل الموصل، ثم فتح قلعة السن، وتوجه إلى حلب، ورعى عسكره زرع الرها. وعبر أتابك الفرات إلى حلب بتوقيع السلطان محمود، وقد كان السلطان آثر أن تكون البلاد لدبيس، فقبح المسترشد ذلك، وكاتب السلطان وقال له فيما قال: إن هذا أعان الفرنج على المسلمين وكثر سواد الكفار، فبطل هذا التدبير.

زواج وطلاق

واستقر ملك أتابك بالموصل، والجزيرة، والرحبة، وحلب، والتوقيع له بجميع البلاد الشامية وغيرها. زواج وطلاق وتزوج أتابك خاتون بنت الملك رضوان، وبنى بها في دير الزبيب، وكانت معه إلى أن فتح الخزانة بحلب، واعتبر ما فيها، فرأى الكبر الذي كان على أبيه أق سنقر، حين قتله تتش جدها، وهو ملوث بالدم، فهجرها من ذلك اليوم. وقيل: إنه هدم المشهد الذي على قبر رضوان، عند ذلك. ودام أتابك مهاجراً لها إلى أن دخلت على القاضي أبي غانم قاضي حلب، وشكت حالها، فصعد إليه وكان جباراً إلا أنه ينقاد إلى الحق، وإذا خوف بالله خاف، فخرج ليركب، فلما ركب ذكر له القاضي ما ذكرته خاتون، فساق دابته أتابك، ولم يرد عليه جواباً، فجذب القاضي أبو غانم بلجام دابته، فوقفت، وقال له: يا مولانا، هذا الشرع لا ينبغي العدول عنه. فقال له أتابك: اشهد علي أنها طالق. فأرسل اللجام وقال: أما الساعة فنعم. سيف الدين سوار واستوحش الأمير سوار بن أيتكين من تاج الملوك بوري صاحب دمشق، وكان في خدمته، فورد إلى حلب إلى خدمة أتابك، في سنة أربع وعشرين، فأكرمه، وشرفه، وخلع عليه، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة، وأعطاه ولاية حلب وأعمالها، واعتمد عليه في قتال الفرنج، وكان له بصيرة بالحرب وتدبير الأمور وله وقعات كثيرة مع الفرنج ومواقف مشهورة أبان فيها عن شجاعة وإقدام، وصار له بسببها الهيبة في قلوب الكفار الأغتام. من حماة إلى حمص

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: من هنا إلى آخر الكتاب، الترقيم غير موافق للمطبوع وعز أتابك في السنة على الجهاد، وكتب إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين

أنطاكية

صاحب دمشق، يلتمس منه المساعدة، فأجابه إلى ذلك وتحالفا على الصفاء. وكتب تاج الملوك إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة، يأمره بالخروج بعسكره، وجهز إليه من دمشق خمسمائة فارس، وجماعة من الأمراء مقدمهم شمس الخواص، فخرجوا حتى وصلوا إلى مخيم أتابك على حلب، فأكرمهم وتلقاهم، وأقاموا عنده ثلاثاً. ثم أظهروا الغارة على عزاز، وركبوا وعطفوا على سونج، وغدر به وبأصحابه، ونهب خيامهم وأثقالهم وكراعهم، وهرب بعضهم، وقبض على سونج والباقين، وحملهم إلى حلب، واعتقلهم فيها. وسار من يومه إلى حماة فأخذها يوم السبت ثامن شوال، وأقام بها أياماً، وطلبها خير خان بن قراجا صاحب حمص، وبذل عليها مالاً، فسلمها إليه بكرة الجمعة رابع عشر شوال، وضربت بوفاته عليها، وخطب له الخطيب على المنبر. فلما كان وقت العصر من ذلك اليوم قبض عليه ونهب خيامه وجميع ما فيها. وسار فنزل حمص، فقاتلها أربعين يوماً لم يظفر فيها بطائل غير الربض، وكان يربط خير خان على غراير التبن، ويعاقبه ويعذبه أنواع العذاب، وانتقم الله منه ببعض ظلمه في الدنيا، وهو كان يحرض أتابك على الغدر بسونج، فكافأه الله. وهجم الشتاء فعاد أتابك إلى حلب في ذي الحجة. أنطاكية وملكت أنطاكية زوجة البيمند بنت بغدوين، وحالفت جماعة من الفرنج على

خبر دبيس ومقتله

قتال أبيها، ووقع بين الفرنج شر. وهجم المسلمون ربض الأثارب، وربض معرة مصرين، فوصل بغدوين من البيت المقدس، وأغار على أنطاكية وأخذ قوماً من أصحاب ابنته، فقطع أيديهم وأرجلهم. وفتح قوم من السرجندية باب أنطاكية، فدخلها في سنة خمس وعشرين، فطرحت ابنته نفسها عليه، فصفح عن ذنبها، وأخذ أنطاكية، ووهبها جبلة واللاذقية. وعاد إلى القدس. وتوجه أتابك إلى الموصل في سنة خمس وعشرين وخمسمائة، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك، وبعض المقدمين من عسكر دمشق، وترك الباقين بحلب، وترددت المراسلات في إطلاقهم، فلم يفعل، والتمس عنهم خمسين ألف دينار أجاب تاج الملوك إلى تحصيلها وحملها. ووقع في هذه السنة وقعة جوسلين وسوار، بناحية حلب الشمالية، فكانت الغلبة لجوسلين، وقتل من المسلمين جماعة، وخرج سوار بعد ذلك فهجم ربض الأثارب ونهبه. خبر دبيس ومقتله ووصل دبيس في هذه السنة منهزماً من المسترشد، وكان قد كسره عسكر المسترشد في هذه السنة، فانهزم وخفي خبره عن كل أحد، فظهر بعد مدة أنه وصل إلى قلعة جعبر، وأودع ابن السلطان عند مالك صاحبها، وسار جوسلين، واستند إلى الفرنج فلم ير ما يعجبه.

وكاتب تمرتاش ثم خاف من غدره، وأن يفادي به خير خان، فسار إلى بلد دمشق، فنزل ضالاً على مكتوم بن حسان. وقيل: كان سائراً إلى صاحبة صرخد ليتزوجها، فضل في الطريق، ولم يكن معه دليل عارف بالمناهل. وقيل: كان قاصداً حلة مزين، فهلك أكثر أصحابه. وحصل في حلة حسان كالمنقطع الوحيد في نفر يسير من أصحابه، فأنهض تاج الدولة بوري العسكر إليه حينما سمع به، فأسره، ووصلوا به إلى دمشق، لست خلون من شعبان سنة خمس وعشرين، وأنزله في دار بقلعة ثمشق، وأكرمه وأضافه، وحمل إليه من الملبوس والمفروش ما يليق به، واعتقله اعتقال كرامة. وكاتب المسترشد في أمره فرد عليه الجواب بالإحتياط عليه إلى أن يصل من يحمله إلى بغداد. فلفا عرف أتابك زنكي ذلك، أنفذ رسوله إلى تاج الملوك يطلب تسليم دبيس إليه، وأن يطلق له الخمسين ألف دينار المقررة عن ولده سونج وبقية العسكر، فأجاب إلى ذلك، وتقرر الشرط عليه. ووصل أتابك زنكي إلى قريب قارا بسونج والمعتقلين، وتوجه أصحاب تاج الملوك بدبيس فتسلمه زنكي، وحمله في محلة مقيداً وسلم سونج بن تاج الملوك وجماعته إلى أصحابه. وكان يظن دبيس أن أتابك زنكي يهلكه، فلما وصل إلى حلب أطلقه وأكرمه، وأنزله بحلب في دار لاجين، وأعطاه مائة ألف دينار، وخلع عليه خلعاً فاخرة. وكان عرض لدبيس في طريقه وهو مكبل بالحديد شاعر امتدحه بأبيات ولم يكن معه ما يجيزه، فكتب له في رقعة هذين البيتين، ودفعهما إليه: الجود فعلي ولكن ليس لي مال ... وكيف يصنع من بالقرض يحتال

فهاك خطي إلى أيام ميسرتي ... ديناً علي فلي في الغيب آم ال فجاءه الشاعر بحلب، وقد خرج مسيراً في ميدان الحصا، فقال له: يا أمير لي عليك دين! فقال: " والله ما أعرف لأحد علي ديناً فقال: بلى، وشاهده منك، وأخرج له خطه، فلما وقف عليه قال: إي والله دين وأي دين وأمره أن يأتي إليه إذا نزل، فأتاه فأعطاه ألف دينار والخلعة التي خلعها أتابك زنكي عليه، وكانت جبة أطلس وعمامة شرك. وحصل دبيس بعد ذلك عند السلطان مسعود، في سنة تسع وعشرين، حتى كسر مسعود المسترشد وأسره على باب مراغة. وسير السلطان إلى أتابك زنكي يستدعيه، وعزم على الفتك به، واطلع دبيس على ذلك، فكتب إلى أتابك يعلمه ويحذره من المجيء فامتنع. وكان السلطان قد سير دبيساً إلى الحلة، واطلع بعد ذلك على فعل دبيس، فرده. وحذره الناس فلم يفعل فوصل. فلما وصل إلى الخيمة قام السلطان عن السرير، وقال، هذا جزاء من يخون مولاه. وضرب رأسه فأطاره، فبلغ ذلك زنكي فقال: فديناه بالمال وفدانا با لروح. ووصل سديد الدولة بن الأنباري كاتب الإنشاء للمسترشد إلى تاج الملوك، في أواخر ذي القعدة لتسليم دبيس إلى من يحمله إلى بغداد، فوجد الأمر قد فات، فعاد فصادفته خيل أتابك زنكي بناحية الرحبة فأوقعوا به، وقبضوه، ونهبوا ما كان معه حتى نهبوا القافلة اتتي كانت معه، وقتل بعض غلمانه، ولقي شدة عظيمة من الاعتقال إلى أن أطلق، وعاد إلى بغداد. وفي سنة ست وعشرين وخمسمائة، فتح الملك كليام رام حمدان، وسار أتابك ودبيس إلى بغداد، مباينين للمسترشد، وعزما على أن يهجما بغداد، فبذل لهما الحلة، وأن يدخل نائبهما بغداد، فأبيا فخرج إليهما المسترشد بنفسه، والتقوا في

بين المسلمين والفرنج

شعبان على عقرقوف فكسرهما. وعاد أتابك زنكي إلى الموصل، وسار دبيس إلى السلطان سنجر. بين المسلمين والفرنج ووقع بين الفرنج، في هذه السنة، فتن. وقتل بعضهم بعضاً، وقتل صاحب زردنا، ونزل التركمان على بلد المعرة وكفر طاب، وقسموا المغلات، فاجتمع الفرنج وهزموهم عن البلد، وفتحوا حصن قبة ابن ملاعب، وأسروا منه بنت سالم بن مالك وحريم ابن ملاعب، وخربوا الموضع. وأوقع الأمير سيف الدين سوار بفرنج تل باشر، وقتل منهم خلقاً كثيراً، ووثب قوم من أهل الجبل على حصن القدموس، فأخذوه وسلموه إلى سيف الملك بن عمرون، فاشتراه أبو الفتح الداعي الباطني منه. ووصل صاحب القدموس إلى أنطاكية، وجمع وخرج إلى نواز، وسار إلى قنسرين في جموع الفرنج، والتقوا بعسكر حلب وسوار، في سنة ثمان وعشرين في ربيع الأول، فكسروا المسلمين وقتلوا أبا القاسم التركماني، وكان شجاعاً، وقتلوا القاضي أبا يعلى بن الخشاب، وغيرهما. وتحول الفرنج إلى النقرة، فصالحهم سوار والعسكر، فأوقعوا بسرية منهم، فقتلوهم، وعادوا برؤوسهم وأسرى منهم، فسر الناس بذلك بعد مساءتهم بالأمس.

حروب داخلية وخارجية

وأغارت خيل الرها من الفرنج ببلد الشمال، وهي عابرة إلى عساكر الفرنج، فأوقع بهم سوار وحسان صاحب منبج وقتلوهم بأسرهم وحملوا الرؤوس والأسرى إلى حلب. حروب داخلية وخارجية وفتح شمس الملوك اسماعيل ابن تاج الملوك حماة من يد نائب صلاح الدين، وكان قد عزم على ذلك، فتحصن واليها، فانتهى ذلك إلى شمس الملوك، فخرج في العشر الأواخر من شهر رمضان، وعزم على قصدها والناس بها غافلون. وهجم يوم العيد على من فيها وزحف في الحال فتحضنوا منه، فعاد في ذلك اليوم، وقد نكا أصحابه في أهلها، ثم زحف عليها زحفاً قوياً، فانهرموا بين يديه، وهجم البلد فطلبوا الأمان فأمنهم، وحلفه والي القلعة على أشياء اقترحها، وأجابه إليها وسلمها إليه، فسلمها إلى شمس الخواص. وحصر المسترشد الموصل، وثارت الحروب بين السلاطين، فبلغ المسترشد ما أزعجه، فعاد عنها، فوصل حسام الدين تمرتاش إلى خدمة أتابك زنكي، فسار معه إلى لقاء داود بن سكمان بن أرتق، فكسره أتابك بباب آمد، وانهزم داود وأسر ولده، وقتل جماعة من أصحابه، وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة. ونزل على آمد وحصرها، وقطع شجرها، فصانعه صاحبها بمال، فرحل عنها إلى قلعة الصور ففتحها، وفتح البارعية، وجبل جور، وذا القرنين، ووهب

مقتل شمس الملوك وتسلم شهاب الدين

ذلك كله لحسام الدين تمرتاش، وفتح طنزة فاستبقاها لنفسه. وتزوج أتابك صاحبة خلاط ابنة سقمان القطبي. واستولى أتابك على العقر وشوش وغير ذلك من قلاع الأكراد، وأغار في هذه السنة سوار على الجزر وحصن زردنا، وأوقع بالفرنج على حارم، وشحن على بلد المعرتين، وعاد بالغنائم إلى حلب. واستوزر زنكي في هذه السنة ضياء الدين أبا سعد الكفرتوثي، وكان مشهوراً بحسن الظريفة والكفاية وحب الخير والمذهب الحميد، وقدم معه إلى حلب، وعزم على قصد دمشق ومضايقتها. وذكر العظيمي في تاريخه: أنه حصرها، في هذه السنة مدة، ثم رحل إلى حلب، ثم شرق إلى الموصل. والصحيح: أنه حصرها في سنة تسع وعشرين وخمسمائة. مقتل شمس الملوك وتسلم شهاب الدين وذلك أن صاحبها شمس الملوك أبا الفتح إسماعيل بن بوري، انهمك في المعاصي والقبائح، وبالغ في الظلم، وأعرض عن مصالح الدين والنظر في أمور المسلمين، بعد اهتمامه أولاً بذلك. واستخدم بين يديه رجلاً كردياً يعرف ببدران الكافر جاءه من بلد حمص، وكان قليل الدين متنوعاً في أبواب الظلم، ليس في قلبه لأحد رحمة، فسلطه على ظلم المسلمين ومصادرة المتصرفين بأنواع قبيحة من الظلم، وظهر منه بخل عظيم وسفت نفسه إلى تناول الدنايا وغير ذلك من الأفعال الذميمة. وعزم على مصادرة كتابه وحجابه وأمرائه، فخاف منه أصحابه، واستشعروا منه، ووقعت الوحشة بينهم.

وعرف عزم أتابك زنكي على قصد دمشق، وأنه متى وصلها سلمت إليه، فكاتب أتابك زنكي وحثه على سرعة الوصول إليها ليسلمها إليه طوعاً، وشرط عليه أن يمكنه من الإنتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان، وكرر المكاتبة إليه في ذلك، وقال: إن أهلمت هذا الأمر استدعيت الفرنج وسلمت دمشق إليهم، وكان إثم المسلمين في عنقك. وشرع في نقل أمواله وأحواله إلى صرخد، فظهر هذا الأمر لأصحابه، فأشفقوا من الهلاك وأعلموا والدته زمرد خاتون بذلك، فقلقت له، وحسنوا لها قتله، وتمليك أخيه شهاب الدين محمود فرجح ذلك فى نظرها، وعزمت عليه، فانتظرت وقت خلوته من غلمانه وسلاحيته، وأدخلت عليه من أصحابها من قتله. وأخرجته فألقي في ناحية من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه فسروا بذلك. وذلك في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقيل: أنه اتهم يوسف بن فيروز حاجب أبيه بوالدته، فهرب منه إلى تدمر، فأراد قتل أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفاً منه. وأجلست والدته مكانه أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، وحلف الناس له. وتوجه أتابك زنكي من الموصل مجداً ليتسلم دمشق من شمس الملوك، فوصل إلى الرقة وقال: أشتهي أن أدخل الحمام. فأحضر صلاح الدين مسيب بن مالك صاحب الرقة، وقال له: أتابك يشتهي دخول الحمام، وهذه خمسمائة دينار تسلمها واعمل له بها دعوة فلم يشك في ذلك، ودخلوها، فلما حصلوا بها أخذوها منه، وذلك في العشرين من شهر ربيع الآخر. وبلغه ما جرى بدمشق، فلم يقطع طمعه فيها، وسار فنزل العبيدية، وراسل أهل دمشق، فلم يجيبوه إلى مطلوبه وردوا عليه جواباً خشناً، يتضمن أن الكلمة قد

زنكي في حماه وحلب وحمص وبغداد

اتفقت على حفظ الدولة والذب عنها، فلم يحفل بذلك. وسار إلى حماة فخرج إليه شمس الخواص بعد أن توثق منه بالأيمان. ورحل إلى دمشق، وسار إليها، فنزل على دمشق في عسكر عظيم، وزحف عليها مراراً متعددة، فلم يظفر فيها بطائل، واشتد الغلاء في العسكر، وعدموا القوت، وقفز جماعة من العسكر إلى دمشق، ووقعت المراسلة في حديث الصلح. وكان قد وصل مع أتابك بعض أولاد السلطان فطلب أن يخرج شهاب الدين محمود لوطء بساط ولد السلطان، فلم يفعل. واتفق الأمر على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه، واتفق عند ذلك وصول بشر بن كريم بن بشر رسولاً من المسترشد إلى زنكي بخلع هيئت له، وتقدم إليه بالرحيل عن دمشق والوصول إلى العراق، ليوليه أمره وتدبيره، وأن يخطب للسلطان ألب أرسلان داود بن محمود المقيم بالموصل وكان قد وصل هارباً من بين يدي عمه السلطان مسعود فأكرمه أتابك. فدخل الرسول وبهاء الدين بن الشهرزوري إلى دمشق، وقررا هذه القاعدة وأخمدا الفتنة، وأكدا الأيمان، وخطب يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الأولى بجامع دمشق بحضورهما، على القاعدة التي وصل فيها الرسول. زنكي في حماه وحلب وحمص وبغداد وعاد أتابك من دمشق، فلما وصل حماه قبض على شمس الخواص صاحبها، وأنكر عليه أمراً ظهر منه، وشكا أهلها من نوابه فتسلمها منه، وأطلقه فهرب، ورد حماة إلى صلاح الدين ورحل من حماة. وسار إلى بلد حلب، فنزل على الأثارب، ففتحها أول رجب، ثم فتح زردنا، ثم تل أغدي، ثم فتح معرة النعمان، ومن على أهلها بأملاكهم، ثم فتح كفر طاب ونزل على شيزر فخرج إليه أبو المغيث بن منقذ نائباً عن أبيه، ثم نزل بارين وأظهر

توسع عماد الدين وتحرك الروم

أنه يحاصرها، ثم سار، وأهل حمص غادون، فشن عليهم الغارة، واستاق كل ما كان في بلدها ونهبهم. ووصل ابن الفنش الفرنجي من بيت المقدس وخرج في جموع الفرنج، فنزل قنسرين، فسار إليهم أتابك فأحسن التدبير، وما زال بالمسلمين حولهم حتى عادوا إلى بلادهم. وسار زنكي إلى حمص فأحرق زرعها، وقاتلها في العشر الأواخر من شوال، ثم سار إلى الموصل في ذي القعدة من هذه السنة. وسار منها في المحرم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى بغداد، ومعه داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه الواصل إليه إلى الموصل، فأنزله في دار السلطنة ببغداد، وأتابك في الجانب الغربي، والخليفة إذ ذاك الراشد بعد قتل المسترشد. فوصل السلطان مسعود إلى بغداد فحصرهم بها فوقع الوباء في عسكره، فسار إلى أرض واسط ليعبر إلى الجانب الغربي، فاغتنم أتابك غيبته، وسار إلى الموصل، وسار داود إلى مراغة. وبلغ الخبر السلطان مسعود فعاد، فهرب الراشد، ولحق أتابك بالموصل. ودخل مسعود بغداد، فبايع محمد المقتفي، وخطب له ببغداد وأعمال السلطان، وبقيت الخطبة بالشام والموصل على حالها إلى أن اتفق أتابك زنكي والسلطان مسعود واصطلحا، وخطب بالشام والموصل للمقتفي ولمسعود. وفارق الراشد إذ ذاك زنكي، وسار عن الموصل إلى خراسان في سنة إحدى وثلاثين. توسع عماد الدين وتحرك الروم وسار سيف الدين سوار في سنة ثلاثين وخمسمائة في جمع من التركمان يبلغ

ثلاثة آلاف إلى بلد اللاذقية، وأغار على الفرنج على غرة وقلة احتراز، فعادوا ومعهم ما يزيد على سبعة آلاف أسير، ما بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف رأس من البقر والغنم والخيل والحمير، والذي نهبوه على ما ذكر مائة قرية وامتلأت حلب من الأسارى والدواب، واستغنى المسلمون بما حصل لهم من الغنائم. ووصل أتابك زنكي من الموصل إلى حلب، في رابع وعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين، وسير صلاح الدين في مقدمته، فنزل حمص وسار أتابك إلى حماة، وعيد عيد الفطر في الطريق، وأخذ من حلب معه خمسمائة راجل لحصار حمص. ورحل أتابك من حماة إلى حمص في شوال وبها أنز من قبل صاحب دمشق، فحصرها مدة. وخرج الفرنج نجدة لحمص وغيلة لزنكي. فرحل عن حمص، ولقيهم تحت قلعة بارين، فكسرتهم طلائع زنكي مع سوار، فأفنوا عامتهم قتلاً وأسراً، وقتل أكثر من ألفين من الفرنج، ونجا القليل منهم، فدخل إلى بارين مع ملكهم كندياجور صاحب القدس، وأقام الحصار على بارين بعشر مجانيق ليلاً ونهاراً، ثم تقرر الصلح في العشر الأواخر من ذي القعدة على التسليم بعد خراب القلعة. وخلع على الملك وأطلق، وخرج الفرنج منها، وتسلمها زنكي، وعاد إلى حلب. واستقر الصلح بين أتابك وصاحب دمشق، وتزوج أتابك خاتون بنت جناح الدولة حسين، على يد الإمام برهان الدين البلخي، ودخل عليها بحلب في هذه السنة.

ووصل في هذه السنة ملك الروم كالياني من القسطتطينية في جموعه، ووصل إلى أنطاكية فخالفه الفرنج لطفاً من الله تعالى وأقام إلى أن وصلته مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال، فاعتمد لاون بن روبال صاحب الثغور في حقه فتحاً عظيماً. وتخوف أهل حلب منه فشرعوا في تحصينها وحفر خنادقها، فعاد إلى بلاد لاون فافتتحها جميعها، فدخل إليه لاون متطارحاً، فقال: أنت بين الفرنج والأتراك لا يصلح لك المقام. فسيره إلى القسطنطينية، وأقام في عين زربة وأذنة والثغور، مدة الشتاء. وكان في عوده عن أنطاكية إلى ناحية بغراس في الثاني والعشرين من ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين، أنفذ رسوله إلى زنكي، وظفر سوار بسرية وافرة العدد من عسكره، فقتل وأسر، ودخل بهم إلى حلب. ووصل الرسول إلى زنكي، وهو متوجه إلى القبلة فرده ومعه هدية إلى ملك الروم فهود وبزاة وصقور على يد الحاجب حسن، فعاد إليه ومعه رسول منه وأخبره بأنه يحاصر بلاد لاون، فسار إلى حماة، ورحل إلى حمص فقاتلها. ثم سار في نصف المحرم من سنة اثنتين وثلاثين فنزل بعلبك، وأخذ منها مالاً، وسار إلى ناحية البقاع فملك حصن المجدل من أيدي الدمشقيين، ودخل في طاعته إبراهيم بن طرغت والي بانياس. وشتى أتابك زنكي بأرض دمشق، وورد عليه رسول الخليفة المقتفي والسلطان مسعود بالتشريف، ثم رحل أتابك عن دمشق في شهر ربيع الآخر، وعاد إلى حماة، ثم رحل عنها إلى حمص، فخيم عليها، وجرد من حلب رجالاً لحصارها، وجمع عليها جموعاً كثيرة، وهجم المدينة، وكسر أهلها ونال منهم منالاً عظيماً.

الروم حول حلب وشيزر

ونقض الفرنج الهدنة التي كانت بينهم وبين زنكي على حلب، وأظهروا العناد، وقبضوا على التجار بأنطاكية والسفار من أهل حلب، في جمادى الأولى من السنة، بعد إحسانه إليهم واصطناعه لمقدميهم، حين أظفره الله بهم، وانضافوا إلى ملك الروم كالياني. وظهر ملك الروم بغتة من طريق مدينة البلاط، يوم الخميس الكبير من صومهم، ونزل يوم الأحد يوم عيد النصارى، وهو الحادي والعشرون من شهر رجب، على حصن بزاعا. وانتشرت الخيل بغتة فلطف الله بالمسلمين، فرأوا رجلاً من كافر ترك ومعه جماعة منهم، وقد تاهوا عن عسكر الروم، وأظهروا أنهم مستأمنة وأنذروا من بحلب با لروم. فتحرز الناس وتحفظوا، وكاتبوا أتابك زنكي بذلك، فوصله الخبر وهو على حمص، فسير في الحال الأمير سيف الدين سوار والرجالة الحلبيين وخمسمائة فارس، في أربعة من الأمراء الأصفهسلارية منهم زين الدين علي كوجك، فقويت قلوب أهل حلب بهم، ووصلوا في سابع وعشرين من رجب. وأما الروم فإنهم حصروا حصن بزاعا، وقاتلوها سبعة أيام، فضعفت قلوب المسلمين، وكان الحصن في يد امرأة فسلموه إلى البروم بالأمان، بعد أن توثقوا منهم بالعهود والأيمان، فغدروا بهم، وأسروا من بزاعا ستة آلاف مسلم أو يزيدون، وأقام الملك بالوادي يدخن على مغاير الباب عشرة أيام، فهلكوا بالدخان. الروم حول حلب وشيزر ثم رحل فنزل يوم الأربعاء الخامس من شعبان، بأرض الناعورة، ثم رحل يوم الخميس سادس شعبان، ومعه ريمند صاحب أنطاكية وابن جوسلين، فنزل على

حلب ونصب خيمته من قبليها على نهر قويق، وأرض السعدي، وقاتل حلب يوم الثلاثاء من ناحية برج الغنم، وخرج إليهم أحداث حلب، فقاتلوهم وظهروا عليهم، وقتل من الروم مقدم كبير ورجعوا إلى خيمهم خائبين. ورحل يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلاً إلى صلدي، فخاف من بقلعة الأثارب من الجند المسلمين، فهربوا منها يوم الخميس تاسع شعبان، وطرحوا النار في خزائنهم. وعرف الروم ذلك فخفت منهم سرية وجماعة من الفرنج، ومعهم سبي بزاعا والوادي، فملكوا القلعة، وألجأوا السبي إلى خنادقها وأحواشها، فهرب جماعة منهم إلى حلب، وأعلموا الأمير سيف الدين سوار بن أيتكين بذلك، وأن الروم انعزلوا عنها. فنهض إليهم سوار في لمة من العسكر، فصابحهم وقد انتشروا بعد طلوع الشمس، فوقع عليهم واستخلص السبي جميعه إلا اليسير منهم، وأركب الضعفاء منهم خلف الخيالة حتى أنه أخذ بنفسه جماعة من الصبيان، وأركبهم بين يديه ومن خلفه، ووصل بهم إلى حلب، ولم يبق من السبي إلا القليل، ووصل بهم إلى حلب في يوم السبت الحادي عشر من شعبان، فسر أهل حلب سروراً عظيماً. وكان أتابك قد رحل من حمص إلى حماة ثم رحل إلى سلمية، ورحل ملك الروم إلى بلد معرة النعمان، ورحل عنها يوم الإثنين ثالث عشر شعبان إلى جهة شيزر، ونزلوا كفر طاب ورموها بالمجانيق، فسلمها أهلها في نصف شعبان. وهرب أهل الجسر، وتركوه خالياً فوصله الروم، وجلسوا فيه ورحلوا عنه إلى شيزر، يوم الخميس سادس عشر شعبان، فوصلوها في مائة ألف راكب ومائة

ألف راجل، ومعهم من الكراع والسلاح ما لا يحصيه إلا الله، فنزلوا الرابية المشرفة على بلدة شيزر، وأقاموا يومهم ويوم الجمعة إلى آخر النهار. وركبوا وهجموا البلد، فقاتلهم الناس وجرح أبو المرهف نصر بن منقذ، ومات في رمضان من جرحه ذلك. ثم انهزم الروم، وخرجوا، ونزل صاحب أنطاكية في مسجد سمون، وجوسلين في المصلى، وركب الملك يوم السبت، وطلع إلى الجبل المقابل لقلعة شيزر المعروف بجريجس، ونصب على القلعة ثمانية عشر منجنيقاً وأربع لعب تمنع الناس من الماء. ودام القتال عشرة أيام، ولقي أهل قلعة شيزر بلاء عظيماً، ثم اقتصروا في القتال على المجانيق، وأقاموا إلى يوم السبت تاسع شهر رمضان. وبلغهم أن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق عبر الفرات في جموع عظيمة تزيد عن خمسين ألفاً من التركمان وغيرهم، فأحرقوا آلات الحصار، ورحلوا عن شيزر، وتركوا مجانيق عظاماً رفعها أتابك إلى قلعة حلب بعد رحيلهم، وساروا بعد أن هجموا ربض شيزر دفعات عدة، ويخرجهم المسلمون منها. فوصل صلاح الدين من حماة يوم السبت تاسع الشهر، وبلغه أن الفرنج هربوا من كفر طاب فسار إليها، وملكها، ووصل أتابك يوم الأحد عاشر الشهر، وسار إلى الجسر يوم الإثنين، فوجد الفرنج قد هربوا منه نصف الليل ونزل أهله من أبي قبيس، فمنعوهم ودخل الروم مضيق أفامية إلى أنطاكية، وطلبها من الفرنج فلم يعطوه إياها، فرحل عنها إلى بلاده، وسير أتابك خلفهم سرية من العسكر تتخطفهم. هذا كله وأتابك لم يستحضر قرا أرسلان بن داود، ولم يجتمع به، بل بعث إليه يأمره بالعود إلى أبيه، وأنه مستغن عنه وانحاز عنهم فنزل أرض حمص، وكتب إلى شهاب الدين محمود بن بوري يطلبها. وترددت الرسل بينهم على أن يسلم إلى أتابك حمص، ويعوض أنر واليها

زلازل عام 533 هجرية

ببارين، واللكمة، والحصن الشرقي، وأن يتزوج أتابك أمه زمرد خاتون بنت جاولي، ويتزوج محمود ابنة أتابك، وتسلم أتابك حمص، ويسلم الدمشقيون المواضع المذكورة. وسارت زمرد خاتون من دارها إلى عسكر زنكي مع أصحابه المندوبين لإيصالها إليه في أواخر شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وقد اجتمع عنده رسول الخليفة المقتفي، وألبسه التشريف الواصل إليه، ورسول السلطان، ورسول مصر، والروم، ودمشق. ورحل أتابك عن حمص، وسار إلى حلب، ثم خرج منها إلى بزاعا وفتحها بالسيف، يوم الثلاثاء تاسع عشر محرم من سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقتل كل من كان بها على قبر شرف الدولة مسلم بن قريش، وكان ضرب عليها بسلم في عينه فمات. زلازل عام 533 هجرية وعاد منها إلى حلب، وسار إلى الأثارب، ففتحها، في ثالث صفر. وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر، حدثت زلزلة شديدة ثم اتبعتها أخرى، وتواصلت الزلازل، فهرب الناس من حلب إلى ظاهر البلد وخرجت الأحجار من الحيطان إلى الطريق، وسمع الناس دوياً عظيماً، وانقلبت الأثارب فهلك فيها ستمائة من المسلمين، وسلم الوالي ومعه نفر يسير. وهلك أكثر البلاد من شيح، وتل عمار، وتل خالد، وزردنا، وشوهدت الأرض تموج، والأحجار عليها تضطرب كالحنطة في الغربال. وانهدم في حلب دور كثيرة، وتشعث السور، واضطربت جدران القلعة، وسار أتابك مشرقاً فنزل القلعة فأخذها، وسار منها إلى القلعة، ثم إلى الموصل. وتواترت الزلازل إلى شوال، وقيل: إن عدتها كانت ثمانين زلزلة.

زنكي يفتح بعلبك ويحاصر دمشق

وكان في سنة اثنتين وثلاثين قد عول أتابك على قبض أملاك الحلبيين التي استحدثوها من أيام رضوان إلى آخر أيام إيلغازي، ثم قرر عليهم عشرة آلاف دينار، فأدوا من ذلك ألف دينار، وجاءت هذه الزلازل، فهرب أتابك من القلعة إلى ميدانها حافياً، وأطلق القطيعة. وفي هذه السنة، نهض سوار الفرنج فغنم من بلادهم، ولحقوه فاستخلصوا ما غنم، وانهزم المسلمون فغنم الفرنج، وأخذوا منهم ألفاً ومائتي فارس، وأسروا صاحب الكهف ابن عمرون، وكان قد سلمها إلى الباطنية. وفي شهر رمضان منها، استحكم الفساد بين أتابك وتمرتاش، فنزل أتابك زنكي دارا، وحصرها وافتتحها في شوال، وأخذ رأس عين وجبل جور وذا القرنبن. ومات سوتكين الكرجي بحران، فأنفذ أتابك زنكي وأخذها. زنكي يفتح بعلبك ويحاصر دمشق وقتل شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك على فراشه، ليلة الجمعة الثالثة والعشرين من شوال من السنة، قتله البغش ويوسف الخادم، وفراش، وكان قد قربهم واصطفاهم. وسير أنر إلى محمد أخيه صاحب بعلبك، فأجلسه في منصب أخيه وأخرج

أخاه بهرام شاه فمضى إلى حلب وشرق إلى أتابك زنكي. وعلمت والدته زمرد خاتون، فأرسلت إلى زوجها زنكي، وهو بالموصل تستدعيه لطلب الثأر بولدها، وتحثه على الوصول، فأقبل وفي مقدمته الأمير الحاجب صلاح الدين، فسار إلى حماة. ووصل زنكي حتى عبر الفرات، ونزل بالناعورة، ودخل حلب، ورحل إلى حماة في سابع ذي الحجة، ورحل إلى حمص، ثم إلى بعلبك، فحصرها أول محرم من سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وضربها بالمجانيق إلى أن فتحها يوم الإثنين رابع عشر صفر. وفتح القلعة يوم الخميس خامس وعشرين منه، وأقام بها إلى منتصف شهر ربيع الآخر، وكان قد حلف لأهل القلعة بالأيمان المغلظة والمصحف والطلاق، فلما نزلوا غدر بهم، وسلخ واليها، وشنق الباقين. وكانوا سبعة وثلاثين رجلاً، وغدر بالنساء، وأخذهم. وسار في نصف ربيع الآخر إلى دمشق لمضايقتها، فنزل! على داريا، وزحف إلى البلد، وراسل محمد بن بوري في تسليمها، وأخذ بعلبك وحمص، وما يقترح معهما عوضاً عنها، وأراد إجابته إلى ذلك فمنعه أصحابه، وخوفوه الغدر به، فمات محمد بن بوري، في ثامن شعبان، ونصب ولده عضب الدولة أبق مكانه. وكاتب أنر الفرنج في نجدته، وتسليم بانياس من إبراهيم بن طرغت إليهم،

فتجمعوا لذلك، فرحل أتابك عن دمشق، في خامس شهر رمضان، للقاء الفرنج إن قربوا منه إلى ناحية بصرى وصرخد من حوران، وأقام مدة، ثم عاد إلى الغوطة فنزل عذراء وأحرق عدة ضياع من الغوطة. ووصل الفرنج فنزلوا بالميدان، فرحل أتابك إلى ناحية حمص. وأسر ريمند صاحب أنطاكية إبراهيم بن طرغت صاحب بانياس، وقتله. ونزل معين الدين أنر عليها فحصرها وتسلمها، وسلمها إلى الفرنج، وعادت خاتون إلى حلب في العشرين من ربيع الأول. وعاد أتابك إلى حلب في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، واستقر الحال بين زنكي وأبق على أن خطب لزنكي بدمشق. ومات قاضي حلب أبو غانم محمد بن أبي جرادة في شهر ربيع الآخر من سنة أربع ثلاثين وخمسمائة، فولى أتابك قضاء حلب ولده أبا الفضل هبة الله بن محمد بن أبي جرادة، ولما استحضره وولاه القضاء قال له: هذا الأمر قد نزعته من عنقي، وقلدتك إياه، فينبغي أن تتقي الله وأن تساوي بين الخصمين، هكذا، وجمع بين أصابعه. وكثر عيث التركمان وفسادهم، وامتدت أيديهم إلى بلاد الفرنج، فأرسلوا رسولاً إلى أتابك يشكونهم، فعاد الرسول متنصلاً، فلقيه قوم من التركمان فقتلوه، فأغار الفرنج على حلب، فأخذوا من العرب والتركمان ما لا يحصى. وعاد أتابك في سنة ست وثلاثين على الحلبيين بالقطيعة التي كان قررها على الأملاك، وأرسل إليهم علي الفوتي العجمي، فعسف الناس في استخراج القطيعة، وأخرف بهم، ومات ابن شقارة بحلب، وصارت أملاكه إلى بيت المال فرد على الناس ما كان وظف على أملاكه من القطيعة وأخذه منهم.

غارات الفرنج والمسلمين

غارات الفرنج والمسلمين وأغار الفرنج في سنة ست وثلاثين وخمسمائة على بلد سرمين، وأخربوا ونهبوا، ثم إلى جبل السماق، وكذلك فعلوا بكفر طاب، وتفرقوا فأغار علم الدين ابن سيف الدين سوار مع التركمان إلى باب أنطاكية، وعادوا بالغنائم والوسيق العظيم. وأغار لجة التركي وكان قد نزح عن دمشق إلى خدمة زنكي على بلد الفرنج، في جمادى، فساق وسبى وقتل. وذكر أن عدة المقتولين سبعمائة رجل. واتفق في هذه السنة خلف شديد بين أتابك زنكي وقرا أرسلان بن داود بن سكمان بناحية بهمرد، فالتقيا فكسره أتابك، وفتح بهمرد، وعاد إلى الجزيرة، ثم إلى الموصل فشتى بها. وفي هذه السنة تقرر الصلح بين أتابك والأرتقية ووصل أولادهم إلى الخدمة ثم عادوا. وفي خامس شعبان مات وزير أتابك ضياء الدين بن الكفرتوثي ووزر موضعه أبا الرضا بن صدقة، ثم عزله في سنة ثمان وثلاثين. ونهض سوار في شهر رمضان إلى بلد أنطاكية، وعند الجسر جمع عظيم وخيم مضروبة من الفرنج، فخاض التركمان إليهم العاصي، وكسروا الجميع هناك، وقتلوا كل من كان بالخيم، ونهبوا وسبوا، وعادوا إلى حلب بالوسيق العظيم، والأسرى والرؤوس. وفتح أتابك قلعة أشب المشهورة بالحصانة، في ثالث وعشرين من شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين.

فتح الرها وسروج

وخرج ملك أنطاكية إلى وادي بزاعا، فخرج سوار فردهم إلى بلد الشمال واجتمع سوار وجوسلين بين العسكرين فاتفق الصلح بينهما. وفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فتح أتابك قلعة انيرون، وبعدها قلعة حيران ومما كان أيضاً بيد الفرنج جملين، والموزو وتل موزن، وغيرهما. وخرج عسكر حلب فظفروا بفرقة كبيرة من التجار والأجناد وغيرهم خرجت من أنطاكية تريد بلاد الفرنج، ومعها مال كثير ودواب ومتاع، فأوقعوا بهم، وقتلوا جميع الخيالة من الفرنج الخارجين لحمايتهم، وأخذوا ما كان معهم، وعادوا إلى حلب، وذلك قي جمادى الأولى من السنة. وفي يوم الأربعاء خامس وعشرين من ذي القعدة، وقعت خيل تركمان نهضت من بلد حلب، فأوقعت بخيل خارجة من باسوطا فقتلوهم، وأسروا صاحب باسوطا وجاؤوا به إلى حلب، فسلموه إلى سوار فقيده. وعزل أتابك وزيره جلال الدين أبا الرضا بالموصل، واستوزر أبا الغنائم حبشي ابن محمد الحلي. فتح الرها وسروج وكان أتابك زنكي لا يزال يفكر في فتح الرها، ونفسه في كل حين تطالبه بذلك، إلى أن عرف أن جوسلين صاحبها قد خرج منها في معظم عسكره، في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، لأمر اقتضاه، فسارع أتابك إلى النزول عليها في عسكر عظيم وكاتب التركمان بالوصول إليه، فوصل خلق عظيم.

وأحاط المسلمون بها من كل الجهات، وحالوا بينها وبين من يدخل إليها بميرة أو غيرها، ونصب عليها المجانيق، وشرع الحلبيون فنقبوا عدة مواضع عرفوا أمرها إلى أن وصلوا تحت أساس أبراج السور، فعلقوه بالأخشاب، واستأذنوا أتابك في إطلاق النار فيه، فدخل إلى النقب نفسه وشاهده ثم أذن لهم، فألقوا النار فيه، فوقع السور في الحال. وهجم المسلمون البلد، وملكوه بالسيف يوم السبت سادس عشر جمادى الآخرة، وشرعوا في النهب والقتل والأسر والسبي، حتى امتلأت أيديدهم من الغنائم. ثم أمر أتابك برفع السيف عن أهلها، ومنع السبي، ورده من أيدي المسلمين، وأوصى بأهلها خيراً، وشرع في عمارة ما انهدم منها وترميمه. وكان جمال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان رئيس حران هو الذي يحث أتابك في جميع الأوقات على أخذها، ويسهل عليه أمرها، فوجد على عضادة محرابها مكتوب: أصبحت صفراً من بني الأصفر ... أختال بالأعلام والمنبر دان من المعروف حال به ... ناء عن الفحشاء والمنكر مطهر الرحب على أنني ... لولا جمال الدين لم أطهر فبلغ ذلك رئيس حران، فقال: انحوا جمال الدين، واكتبوا عماد الدين. فبلغ ذلك زنكي، فقال: صدق الشاعر لولاك ما طمعنا فيها. وأمر عماله بتخفيف الوطأة عليهم في الخراج، وأن يأخذوه على قدر مغلاتها. ثم رحل إلى سروج ففتحها، وهرب الفرنج منها، ثم رحل فنزل على البيرة، في هذه السنة فحاصرها في هذه السنة. وجاءه الخبر من الموصل أن نصير الدين جقر نائبه بالموصل قتل، فخاف

نهاية عماد الدين

عليها، وترك البيرة بعد أن قارب أخذها، وسار حتى دخل الموصل، وأخذ فرخانشاه ابن السلطال الذي قتل جقر، عزم على تملك الموصل، فقتله بدم جقر، وولى الموصل مكانه الأمير زين الدين علي كوجك. ثتم شرع زنكي في الجمع والاحتشاد، والاستكثار من عمل المجانيق، وآلة الحرب، في أوائل سنة أربعين وخمسمائة، ويظهر للناس أن ذلك لقصد الجهاد. وبعض الناس يقول: أنه لقصد دمشق ومنازلتها. وكان ببعلبك مجانيق فحملت إلى حمص، في شعبان من هذه السنة. وقيل: إن عزمه انثنى عن الجهاد في هذه السنة، وأن جماعة من الأرمن بالرها عاملوا عليها، وأرادوا الإيقاع بمن كان فيها من المسلمين واطلع على حالهم، وتوجه أتابك من الموصل نحوها، وقوبل من عزم على الفساد بالقتل والصلب. نهاية عماد الدين وسار ونزل على قلعة جعبر بالمرج الشرقي تحت القلعة، يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، فأقام عليها إلى ليلة الأحد. سادس شهر ربيع الآخر نصف الليل من سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فقتله يرنقش الخادم، كان يهدده في النهار، فخاف منه فقتله في الليل في فراشه. وقيل: إنه شرب ونام، فانتبه فوجد يرنقش الخادم وجماعة من غلمانه يشربون فضل شرابه، فتوعدهم. ونام فأجمعوا على قتله، وجاء يرثقش إلى تحت القلعه، فنادى أهل القلعه: شيلوني فقد قتلت أتابك. فقالوا له: اذهب إلى لعنة الله، فقد قتلت المسلمين كلهم بقتله. وقد كان أتابك ضايق القلعة، فقل الماء فيها جداً، والرسل من صاحبها علي

ابن مالك تتردد بينه وبين أتابك، فبذل علي بن مالك له ثلاثين ألف دينار ليرحل عنها، فأجابه إلى ذلك. ونزل الرسول، وقد جمع الذهب حتى قلع الحلق من آذان أخواته، وأحضر الرسول، وقال لبعض خواصه: امض بفرسه وقربه إلى قدر اليخني فإن شرب منه فأعلمني. ففعل ذلك، فشرب الفرس مرقة اليخني، فعلم أن الماء قد قل عندهم، فغالط الرسول ودافعه، ولم يجبه إلى ملتمسه، فأسقط في يد علي بن مالك. وكان في القلعة عنده بقرة وحش، وقد أجهدها العطش، فصعدت في درجة المئذنة حتى علت عليها، ورفعت رأسها إلى السماء، وصاحت صيحة عظيمة، فأرسل الله سحابة ظللت القلعة، وأمطروا حتى رووا، فتقدم حسان البعلبكي صاحب منبج إلى تحت القلعة، ونادى علي بن مالك، وقال له: يا أمير علي، ايش بقى يخلصك من أتابك فقال له، يا عاقل، يخلصني الذي خلصك من حبس بلك له. يعني حين قتل بلك على منبج وخلص حسان، فصدق فأله وكان ما ذكرناه. وأخبرني والدي رحمه الله أن حارس أتابك كان يحرسه في الليلة التي قتل فيها بهذين البيتين: يا راقد الليل مسروراً بأوله، ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا! لا تأمنن بليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أجج النارا! وكان أتابك جباراً عظيماً ذا هيبة وسطوة. وقيل: إن الشاووش كان يصيح خارج باب العراق، وهو نازل من القلعة. وكان إذا ركب مشى العسكر خلفه كأنهم بين خيطين مخافة أن يدوس العسكر شيئاً من الزرع، ولا يجسر أحد من هيبته أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أحد من أجناده أن يأخذ لفلاح علاقة تبن إلا بثمنها أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية، وإن تعدى أحد صلبه. وكان يقول: ما يتفق أن يكون أكثز من ظالم واحد يعني نفسه فعمرت البلاد في أيامه بعد خرابها وأمنت بعد خوفها. وكان لا يبقي على مفسد، وأوصى ولاته وعماله بأهل حران، ونهى عن الكلف والسخر والتثقيل على الرعية. هذا ما حكاه أهل حران عنه.

وأما فلاحو حلب فإنهم يذكرون عنه ضد ذلك. وكانت الأسعار في السنة التي توفي فيها رخية جدا. الحنطة ست مكايك بدينار، والشعير اثنا عشر مكوكاً بدينار والعدس أربع مكايك بدينار، والجلبان خمسة مكايك بدينار، والقطن ستون رطلاً بدينار، والدينار هو الذي جعله أتابك دينار الغلة، وقدره خمسون قرطيساً برساً وذلك لقلة العالم. ولما قتل افترقت عساكره فأخذ عسكر حلب ولده نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي، وطلبوا حلب فملكوه إياها، وأخذ نور الدين خاتمه من إصبعه قبل إلى حلب. وسار أجناد الموصل بسيف الدين غازي إلى الموصل وملكها. وبقي أتابك وحده، فخرج أهل الرافقة فغسلوه بقحف جرة، ودفنوه على باب مشهد علي رضي الله عنه في جوار الشهداء من الصحابة رضوان الله عليهم وبنى بنوه عليه قبة، فهي باقية إلى الآن.

القسم الثالث والعشرون حلب ونور الدين زنكي

القسم الثالث والعشرون حلب ونور الدين زنكي نور الدين زنكي في حلب والرها وملك الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن أق سنقر حلب، عند ذلك في شهر ربيع الآخر يوم الثلاثاء عاشر الشهر، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ووصل إليه صلاح الدين الياغيسياني يدبر أموره ويقوم بحفظ دولته، فحينئذ راسل جوسلين الفرنجي أهل الرها وعامتهم من الأرمن، وحملهم على العصيان وتسليم البلد، فأجابوه إلى ذلك، وواعدوهم يوماً يصل إليهم فيه. وسار إليها فملك البلد، وامتنعت القلعة فقاتلها، فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي، وهو بحلب، فسار إليها في عسكره، فخرج جوسلين هارباً إلى بلده. ودخلها نور الدين فنهبها وسبى أهلها، وخلت منهم، فلم يبق بها منهم إلا القليل. وأرسل نور الدين من سبيها جارية في جملة ما أهداه إلى زين الدين علي كوجك، نائب أبيه بالموصل، فلما رآها دخل إليها، وخرج من عندها وقد اغتسل،

نصر المسلمين في العريمة ويغري

وقال لمن عنده: تعلمون ما جرى لي يومنا هذا؟ لا، قال: لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع بيدي من النهب جارية رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب، وكان مهيباً مخوفاً، فرددتها وقلبي متعلق بها، فلما كان الآن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن تلك الجارية، فوطئتها خوفاً أن يقع مثل تلك الدفعة. نصر المسلمين في العريمة ويغري وشرع نور الدين رحمه الله في صرف همته إلى الجهاد، فدخل في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، إلى بلد الفرنج، ففتح أرتاح بالسيف، ونهبها. وفتح حصن ما بولة، وبسرفوث، وكفرلاثا وهاب. وكان الفرنج بعد قتل والده قذ طمعوا وظنوا أنهم يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين الجد في أول أمره، علموا بعدما أملوه. وخرج ملك الألمان ونزل على دمشق، في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وسار لنجدتها سيف الدين غازي من الموصل، ونور الدين محمود، فوصلا إلى حمص. وتوجه نور الدين إلى بعلبك، واجتمع بمعين الدين أنر بها، ورحل ملك الألمان عن دمشق، وكان صحبته ولد الفنش، وكان جده قد أخذ طرابلس من المسلمين. فأخذ ولد الفنش هذا حصن العريمة من الفرنج، وعزم على أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين إلى بعلبك يقول له في قصد حصن العريمة وأخذه من ولد الفنش.

بناء المدارس

فسار نور الدين ومعين الدين آنر معه، وسيرا إلى سيف الدين غازي إلى حمص، يستنجدانه فأمدهما بعسكر كثير مع الدبيسي صاحب الجزيرة، فنازلوا الحصن، وحصروه وبه ولد الفنش. فزحف المسلمون إليه مراراً، ونقب النقابون السور فطلب من به من الفرنج الأمان، فملكه المسلمون، وأخذوا كل من به من فارس وراجل، وصبي، وامرأة، وفيهم ابن الفنش، وأخربوا الحصن، وعادوا إلى حمص. ثم عاد سيف الدين غازي إلى الموصل. وتجمع الفرنج ليقصدوا أعمال حلب، فخرج إليهم نور الدين بعسكره والتقاهم بيغري، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الفرنج، وأسر منهم جماعة وقتل خلق، ولم ينج إلا القليل. وفي هذه الوقعة يقول الشيخ أبو عبد الله القيسراني من قصيدة: وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود مكارم لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود بناء المدارس وشرع نور الدين في تجديد المدارس والرباطات بحلب، وجلب أهل العلم والفقهاء إليها، فجدد المدرسة المعروفة بالحلاويين، في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، واستدعى برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلخي الخفي وولاه تدريسها، فغير الأذان بحلب، ومنع المؤذنين من قولهم: حي على خير العمل وجلس تحت المنارة ومعه الفقهاء، وقال لهم: من لم يؤذن الأذان المشروع فألقوه

اقتسام مناطق النفوذ

من المنارة على رأسه. فأذنوا الأذان المشروع، واستمر الأمر من ذلك اليوم. وجدد المدرسة العصرونية على مذهب الشافعي، وولاها شرف الدين بن أبي عصرون، ومدرسة النفري، وولاها القطب النيسابوري، ومسجد الغضائري وقف عليه وقفاً، وولاه الشيخ شعيب، وصار يعرف به. وبقي برهان الدين البلخي بحلب مدرساً بالحلاوية إلى أن أخرجه مجد الدين بن الداية، لوحشة وقعت بينهما، ووليها علاء الدين عبد الرحمن بن محمود الغزنوي ومات ووليها ابنه محمود، ثم وليها الزضي صاحب المحيط، ثم وليها علاء الدين الكاشاني. وتوفي سيف الدين غازي بن زنكي بالموصل في سنة أربع وأربعين وترك ولداً صغيراً، فرباه عمه نور الدين، وعطف عليه. اقتسام مناطق النفوذ واتفق الوزير جمال الدين وزين الدين علي على أن ملكوا قطب الدين مودود ابن زنكي الموصل، وكان نور الدين أكبر منه، وكاتبه جماعة من الأمراء وطلبوه. وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد، وكان بسنجار، فكتب إليه يستدعيه ليتسلم سنجار. فسار جريدة في سبعين فارساً من أمراء دولته فوصل سنجار مجدا، ونزل بظاهر البلد، وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله، فرآه الرسول وقد سار إلى الموصل، وترك ولده شمس الدين محمداً بالقلعة، فسير من لحق أباه في الطريق، وأعلمه بوصول نور الدين، فعاد إلى سنجار، وسلمها إليه، وأرسل إلى قرا أرسلان

انتصارات نور الدين وضم دمشق

صاحب الحصن يستدعيه لمودة كانت بينهما، فوصل إليه. ولما سمع قطب الدين والوزير جمال الدين، وزين الدين بالموصول، جمعوا العساكر، وعزموا على قصد سنجار وساروا إلى تل أعفر، فأشار الوزير جمال الدين بمداراته، وقال: إننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان، وجعلنا محلنا دونه، وهو فيعظمنا عند الفرنج، ويظهر أنه تبع لنا، ويقول: إن كنتم كما نحب وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل، وحينئذ يفعل بكم ويصنع، فإن هزمناه طمع فينا السلطان ويقول: إن الذي كانوا يعظمونه، ويخوفوننا به أضعف منهم، وقد هزموه، وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج، ويقولون: إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه، وبالجملة فهو إبن أتابك الكبير، وأشار بالصلح. وسار إلى نور الدين بنفسه، فوفق بينهما على أن يسلم سنجار إلى قطب الدين، ويتسلم الرحبة، ويتسلم نور الدين بالشام جميعه، وقطب الدين بالجزيرة ما خلا الرها، فإنها لنور الدين. انتصارات نور الدين وضم دمشق وعاد نور الدين إلى الشام، وأخذ ما كان قد ادخره أبوه أتابك من الخزائن، وكانت كثيرة جداً. فغزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الفرنج من ناحية أنطاكية، وقصد حصن حارم وهو للفرنج، فحصره، وخرب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى حصن إنب فحصره أيضاً. فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم، وتلك الأعمال، وساروا إلى نور الدين ليرحلوه عن إنب، فلقيهم يوم الأربعاء حادي وعشرين من صفر، سنة أربع وأربعين وخمسمائة، واقتتلوا قتالاً عظيماً، وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم،

فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم جمع كثير، وأسر مثله. وكان ممن قتل ذلك اليوم البرنس صاحب أنطاكية، وكان من عظماء الفرنج وأقويائهم. ويحكى عنه أنه كان يأخذ الركاب الحديد بيده، فيطبقه بيده الواحدة، وأنه مر يوماً وهو راكب حصاناً قويا تحت قنطرة فيها حلقة أو شيء مما يتعلق به، فتعلق بيديه وضم فخذيه على الحصان فمنعه الحركة. فلما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند، وتزوجت أمه بابرنس آخر، ليدبر البلد إلى أن يكبر ابنها، وأقام معها بأنطاكية، فغزاهم نور الدين غزوة ثانية، فاجتمعوا ولقوه فهزمهم، وقتل منهم خلقاً وأسر كذلك، وأسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، واستقل بيمند بأنطاكية. وفي ذلك يقول الشيخ أبو عبد الله القيسراني من قصيدة أولها: هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب أغرت سيوفك بالأفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يحب ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب وقال ابن منير في ذلك: صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سبا خشباته وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة ... بالروج مما قد جنت غدراته تمشي القناة برأسه وهو الذي ... نظمت مدار النيرين قناته وسار نور الدين محمود إلى أفامية، في سنة خمس وأربعين، فالتجأ الفرنج إلى حصنها فقاتله، واجتمع الفرنج وساروا إليه ليرحلوه عنه، فوجدوه قد ملكه وملأه من

الرجال والذخائر، فسار في طلبهم، فعدلوا عن طريقه، ودخلوا بلادهم. وجمع نور الدين العساكر وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي ليملكها وكان جوسلين من أشجع الفرنج وأسدهم رأياً، فجمع الفرنج وأكثر، وسار إلى نور الدين والتقيا، وفانهرم المسلمون وقتل منهم وأسر. وكان سلاحدار نور الدين ممن أسر، فأخذ جوسلين سلاحه، فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك. فعظم ذلك على نور الدين، وهجر الراحة إلى أن يأخذ بثأره، وجعل يفكر في حيلة يحتال بها على جوسلين، وعلم أنه إن قصده احتمى في حصونه. فأحضر أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن ظفروا بجوسلين، فجعلوا عليه العيون، فخرج إلى الصيد فظفر به طائفة من التركمان، فصانعهم على مال يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا أحضر المال، وأرسل في إحضاره. فمضى بعض التركمان إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وكان ابن داية نور الدين، واستنابه في حلب، وسلم أمورها إليه، فأحسن الولاية فيها والتدبير، فأعلم ذلك التركماني ابن الداية بصورة الحال، فسير مجد الدين معه عسكراً، فكبسوا أولئك التركمان، وأخذوا جوسلين أسيراً، وأحضروه إلى ابن الداية، في محرم هذه السنة. فسار نور الدين عند ذلك إلى قلاع جوسلين، ففتح عزاز بعد الحصار، في

ثامن عشر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وفتح تل باشر، وتل خالد وفتح عين تاب سنة خمسين، وفتح قورس والراوندان وبرج الرصاص، وحصن البيرة وكفرسود ومرعش ونهر الجوز. وتجمع الفرنج وساروا إليه وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن فتحها، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فلما قربوا منه رجع إليهم، ولقيهم عند دلوك، فاقتتلوا فانهرم الفرنج، وقتل منهم وأسر كثير، وعاد إلى دلوك ففتحها. وأما تل باشر فإنه تسلمها منهم بعد فتحه دمشق، لأنهم لما علموا أنه فتح دمشق، وأنه يقصدهم ولا طاقة لهم به راسلوه، وبذلوا له تسليمها إليه، فسير إليهم الأمير حسان صاحب منبج لقربها من منبج فتسلمها منهم، وحصنها. وكان فتحه دمشق في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة لأن الفرنج أخذوا عسقلان من المصريين في سنة ثمان وأربعين، ولم يكن له طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان. وطمع الفرنج في دمشق، وجعلوا عليها قطيعة يأخذونها منهم في كل سنة، فخاف نور الدين أن يملكها الفرنج، فاحتال في أخذها لعلمه أن أخذها بالقهر يصعب

لأنه متى نارلها راسل صاحبها الفرنج مستنجداً بهم، وأعانوه خوفاً من نور الدين أن يملكها فيقوى بها عليهم. فراسل مجير الدين أبق بن محمد بن محمد بن بوري صاحبها، واستماله وهاداه، وأظهر له المودة حتى وثق به، فكان يقول له في بعض الأوقات: " إن فلانا قد كاتبني في تسليم دمشق يعني بعض أمراء مجير الدين فكان يبعد ذلك عنه، ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده أحد من الأمراء قدم أميراً يقال له عطاء بن حفاظ الخادم، وكان شجاعاً وفوض إليه أمور دولته، فكان نور الدين لا يتمكن من أخذ دمشق منه، فقبض عليه مجير الدين وقتله. فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب أهلها واستمالهم، وكان الناس يميلون إليه، لما هو عليه من العدل والديانة والإحسان، فوعدوه بالتسليم إليه. فلما حصر دمشق أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم، لينجدوه ويرحلوا نور الدين عنه، فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم لذلك. فتسلم نور الدين دمشق، وخرج الفرنج وقد قضي الأمر فعادوا خائبين، وسلمها إليه أهلها من باب شرقي، والتجأ مجير الدين إلى القلعة، فراسله وبذل له عوضاً عنها حمص، وغيرها، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم أنه راسل أهل دمشق، فعلم نور الدين، فخاف منه، فأخذ منه حمص، وعوضه ببالس، فلم يرض بذلك، وسار إلى بغداد فمات بها. وسار نور الدين إلى حارم، وهي لبيمند صاحب أنطاكية، وحصرها في سنة إحدى وخمسين، وضيق على أهلها، فتجمع الفرنج وعزموا على قصده فأرسل والي

الزلازل في بلاد الشام

حارم إلى الفرنج، وقال: لا تلتقوه فإنه إن هزمكم أخذ حارم وغيرها، ونحن في قوة والرأي مطاولته فأرسلوا إلى نور الدين، وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، ورجع نور الدين إلى حلب. الزلازل في بلاد الشام ووقعت الزلازل في شهر رجب في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، بالشام، فخربت حماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وحمص، وحصن الشميمس عند سلمية، وغير ذلك من بلاد الفرنج وتهدمت أسوار هذه البلاد فجمع نور الدين العساكر، وخاف على البلاد من الفرنج، وشرع في عمارتها حتى أمن عليها. وأما شيزر، فانقلبت القلعة على صاحبها وأهله، فهلكوا كلهم، وكان قد ختن ولداً له وعمل وليمة، وأحضر أهله في داره، وكان له فرس يحبه ولا يكاد يفارقه، وإذا كان في مجلس أقيم ذلك الفرس على بابه، فكان ذلك اليوم على الباب، فجاءت الزلزلة فقام الناس ليخرجوا من الدار فخرج واحد من الباب فرمحه ذلك الفرس فقتله، فامتنع الناس من الخروج، فسقطت الدار عليهم فهلكوا. وبادر نور الدين، ووصل إلى شيزر، وقد هلك تاج الدولة بن متقذ وأولاده، ولم يسلم منهم إلا الخاتون أخت شمس الملوك زوجة تاج الدولة، ونبشت من تحت

الردم سالمة، فتسلم القلعة وعمر أسوارها ودورها، وكان نور الدين قد سأل أخت شمس الملوك عن المال وهددها، فذكرت له أن الدار سقطت عليها وعليهم، ونبشت هي دونهم، ولا تعلم بشيء، وإن كان لهم شيء فهو تحت الردم. وكان شرف الدولة إسماعيل غائباً، فلما حضر وعاين قلعة شيزر، ورأى زوجة أخيه في ذلك الذل بعد العز، عمل قصيدة أولها: ليس الصباح من المساء بأمثل ... فأقول لليل الطويل ألا انجلى قال فيها: يا تاج دولة هاشم بل يا أبا الت ... يجان بل يا قصد كل مؤمل لو عاينت عيناك قلعة شيزر ... والستر دون نسائها لم يسبل لرأيت حصناً هائل المرأى غدا ... متهلهلاً مثل النقا المتهيل لايهتدي فيه السعاة لمساك ... فكأنما تسري بقاع مهول ذكر فيها زوجة أخيه، فقال: نزلت على رغم الزمان ولو حوت ... يمناك قائم سيفها لم تنزل فتبدلت عن كبرها بتواضع ... وتعوضت عن عزها بتذلل وأقامت الزلازل تتردد في البلاد سبع سنين، وهلك فيها خلق كثير. وفي هذه السنة أبطل الملك العادل نور الدين، وهو بشيزر، مظالم ومكوساً ببلاده كلها مقدارها مائة وخمسون ألف دينار. ثم إن نور الدين تلطف الحال مع ضحاك البقاعي، وراسله، وهو ببعلبك، وكان قد عصى فيها بعد فتح دمشق، ولم ير أن يحصره بها لقربه من الفرنج، فسلمها إلى نور الدين في هذه السنة. وجرت وقعة بين نور الدين وبين الفرنج بين طبرية وبانياس، فكسرهم نور الدين كسرة عظيمة في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.

مرض وعافية

مرض وعافية ثم عاد نور الدين إلى حلب، فمرض بها في سنة أربع وخمسين مرضاً شديداً، بقلعتها، وأشفى على الموت، وكان بحلب أخوه الأصغر نصر الدين أمير أميران محمد بن زنكي، وأرجف بموت نور الدين، فجمع أمير أميران الناس، واستمال الحلبيين، وملك المدينة دون القلعة، وأذن للشيعة أن يزيدوا في الأذان: حي على خير العمل محمذ وعلي خير البشر، على عادتهم من قبل، فمالوا إليه لذلك. وثارت فتنة بين السنة والشيعة، ونهب الشيعة مدرسة ابن عصرون وغيرها من أدر السنة، وكان أسد الدين شيركوه بحمص، فبلغه ذلك فسار إلى دمشق ليغلب عليها، وكان بها أخوه نجم الدين أيوب فأنكر عليه ذلك، وقال: أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان مات فأنا في دمشق، وتفعل ما تريد. فعاد مجدا إلى حلب، فوجد نور الدين وقد ترجح إلى الصلاح، فأجلسه في طيارة مشرفة إلى المدينة، بحيث يراه الناس كلهم، وهو مصفر الوجه من المرض، ونادوا إلى الناس: هذا سلطانكم. فقال بعضهم: ما هذا نور الدين، بل هو فلان يعنون رجلاً كان يشبهه وقد طلى وجهه بصفرة، ليخدعوا الناس بذلك ولما تحقق أمير أميران عافية أخيه خرج من الدار التي كان بها تحت القلعة، وبيده ترس يحميه من النشاب، وكان الناس قد تفرقوا عنه، فسار إلى حران، فملكها. وسير نور الدين إلى قاضي حلب، جدي أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة، وكان يلي بها القضاء والخطابة والإمامة، وقال له: تمضي إلى الجامع، وتصلي بالناس، ويعاد الأذان إلى ما كان عليه.

تحرك الفرنج وانتصارهم في البقيعة

فنرل جدي، وجلس بشمالية الجامع تحت المنارة، واستدعى المؤذنين، وأمرهم بالأذان المشروع على رأي أبي حنيفة، فخافوا فقال لهم: ها أنا أسفل منكم ولي أسوة بكم. فصعد المؤذنون وشرعوا في الأذان، فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة وغوغائهم خلق كثير فقام القاضي إليهم، وقال: يا أصحابنا، وفقكم الله، من كان على طهارة فليدخل وليصل، ومن كان محدثاً فليجدد وضوءه ويصلي، فإن المولى نور الدين بحمد الله في عافية، وقد تقدم بما يفعل، فانصرفوا راشدين. فانصرفوا وقالوا: ايش نقول لقاضينا! ونزل المؤذنون وصلى بالناس، وسكنت الفتن. فلما عوفي نور الدين قصد حران، فهرب نصرة الدين أمير أميران، وترك أولاده بالقلعة بحران فتسلمها، وأخرجهم منها، وسلمها إلى زين الدين علي كوجك، نائب أخيه، قطب الدين. ثم سار إلى الرقه وبها أولاد أميرك الجاندار، وقد مات أبوهم، فشفع إليه بعض الأمراء في إبقائها عليهم، فغضب، وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي، وأخذها منهم. تحرك الفرنج وانتصارهم في البقيعة وخرج مجد الدين ابن الداية من حلب إلى الغزاة، في شهر رجب من سنة خمس وخمسين، فلقي جوسلين بن جوسلين، فكسره، وأخذه أسيراً، ودخل به إلى قلعة حلب. ثم إن الفرنج أغاروا على بلد عين تاب، فأخذوا التركمان، ونهبوا أغنامهم، وعادوا يريدون أنطاكية، فخرج إليهم مجد الدين، ولقيهم بالجومة، وكسرهم،

وقتل منهم خلقاً عظيماً، وأسر البرنس الثاني وخلقاً معه، ودخل بهم إلى حلب في مستهل ذي الحجة من سنة ست وخمسين وخمسمائة. وفي سنة سبع، ولى نور الدين كمال الدين أبا الفضل محمد بن الشهرزوري قضاء ممالكه كلها، وأمر القضاة ببلاده أن يكتبوا في الكتب بالنيابة عنه، وكان قد حلف له على ذلك وعاهده عليه، وكان ذلك بدمشق في السنة المذكورة، فامتنع زكي الدين قاضي دمشق، فعزل، وكتب إلى جدي أبي الفضل بحلب، فامتنع أيضاً. ووصل نور الدين ومعه مجد الدين ابن الداية، واستدعاه نور الدين إلى القلعة، وقال: كنا قد عاهدنا كمال الدين، وحلفنا له على هذا الأمر، وما أنت إلا نائبي، وله اسم قضاء البلاد لا غير فامتنع وقال: لا أنوب عن مكانين فولى قضاء حلب محيي الدين أبا حامد ابن كمال الدين، وأبا المفاخر عبد الغفور بن لقمان الكردي، وذلك بأشارة مجد الدين لوحشه كانت بينه وبين جدي. ثم إن نور الدين جمع العساكر بحلب، في سنة سبع، وسار إلى حارم، وقاتلها، فجمع الفرنج جموعهم، وساروا إليه. فطلب منهم المصاف فلم يجيبوه، وتلطفوا معه حتى عاد إلى حلب. ثم جمع العساكر في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ودخل إلى بلاد الفرنج، ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد محاصراً له، وعازماً على أن يقصد طرابلس. فاجتمع الفرنج، وخرج معهم الدوقس الرومي، وكان قد خرج في جمع كثير من الروم واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونون آمنين، فركبوا لوقتهم ولم يتوقفوا، وساروا مجدين إلى أن قربوا من يزك المسلمين، فلم يكن

لهم بهم طاقة وأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال فرهقهم الفرنج بالحملة عليهم فلم يثبت المسلمون وعادوا منهزمين إلى نور الدين والفرنج في ظهورهم، فوصلوا جميعاً إلى عسكر نور الدين، ولم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح، حتى خالطهم الفرنج، فقتلوا، وأسروا، قتلاً عظيماً وأسراً كبيراً. وكان الدوقس أشدهم على المسلمين، فلم يبق أصحابه على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين، وقد ركب فيها فرسه، فنجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنرل إنسان كردي، وفداه بنفسه، فقطع الشبحة، ونجا نور الدين، وقتل الكردي فأحسن إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف. ووصل نور الدين إلى بحيرة قدس، وبينه وبين المعركة نحو أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، فقال له بعضهم: المصلحة أن نسير، فإن الفرنج ربما طمعوا وجاؤوا إلينا، ونحن على هذه الحال، فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس التقيتهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى أخذ بثأري وثأر الإسلام. وأرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال الثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى الناس عوضاً عما أخذ منهم بقولهم، وأصبح عسكره كأن لم يهزم ولم ينكب، وكل من قتل أعطى أولاده أقطاعه. ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعض صحابة السوء: إن لك في بلادك إدرارات وصلات ووقوفاً كثيرة على الفقهاء، والفقراء، والقراء،

نور الدين وشيركوه

والصوفية وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال: والله إنني لا أرجو النصر إلا بدعاء أولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطىء، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم!. وقيل: إن برهان الدين البلخي قال لنور الدين: أتريدون أن تنصروا وفي عسكركم الخمور والطبول والزمور، كلا والله. فلما سمع نور الدين كلامه عاهد الله على التوبة، ونزع عنه ثيابه تلك التي كان يلبسها، والتزم بلبس الخشن، وبطل جميع ما كان بقي في بلاده من الأعشار والمكوس والضرائب، ومنع من ارتكاب الفواحش، وكتب إلى البلاد إلى زهادها وعبادها يذكر لهم ما نال المسلمين من القتل والأسر، ويستمد منهم الدعاء، وإن يحثوا المسلمين على الغزاة، وكاتب الملوك الإسلامية يطلب منهم النجد والإستعداد، وامتنع من النوم على الوطيء وعن جميع الشهوات. نور الدين وشيركوه وراسله الفرنج في طلب الصلح فامتنع، فبينا هو في الاستعداد للجهاد إذ ورد عليه في شهر ربيع الأول، من سنة تسع وخمسين وخمسمائة، شاور وزير العاضد بمصر إلى دمشق، ملتجئاً إليه، ومستجيراً به على ضرغام، وكان قد نازعه في الوزارة وغلب عليها. وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون نائبه مقيماً بعساكره في مصر،

ويتصرف بأمر نور الدين واختياره، فبقي متردداً بين أن يفعل ذلك وبين أن يجعل جل قصده إلى الفرنج. ثم قوي عزمه وسير أسد الدين شيركوه بن شادي، في عسكر معه، في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين، وتقدم إلى أسد الدين أن يعيد شاور إلى منصبه. وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق، بما بقي من العساكر ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين وشاور في طريقهما، فاشتغل الفرنج بحفظ بلادهم من نور الدين عن التعرض لهما، ووصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين، ولقيهم فانهزم وعاد إلى القا هرة. ووصل أسد الدين إلى القاهرة، فنزل عليها قي آخر جمادى الآخرة، فخرج ضرغام فقتل، وقتل أخوه، وخلع على شاور وأعيد إلى الوزارة. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر شاور، وعاد عما كان قرره مع نور الدين. وأمر أسد الدين بالعود إلى الشام فامتنع، وطلب ما كان استقر فلم يجبه إليه، فأرسل أسد الدين نوابه فتسلموا بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية. فأرسل شاور إلى الفرنج، واستنجد بهم، وخوفهم من نور الدين إن ملك مصر، فسارعوا إلى تلبيته، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وساروا إلى بلبيس، وسار نور الدين إلى طرف بلادهم ليمنعهم عن المسير، فلم يلتفتوا، وتركوا في بلادهم من يحفظها. وسار ملك القدس في الباقين إلى بلبيس، واستعان بجمع كثير كانوا خرجوا إلى زياره القدس، وأقام أسد الدين ببلبيس، وحصره الفرنج، والعسكر المصري ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويروحهم، فلم يظفروا منه بطائل، مع أن سور بلبيس قصير، وهو من طين.

من أمهات المعارك

من أمهات المعارك فعند ذلك خرج نور الدين لقصد بلاد الفرنج، ونزل إلى حلب وجمع العساكر وأرسل إلى أخيه قطب الدين صاحب الموصل، وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، والي نجم الدين ألبى صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف واستنجد بهم. فسار قطب الدين ومقدم عسكره زين الدين علي كوجك، وسير صاحب ماردين عسكره، وأما صاحب الحصن فقال له خواصه وندماؤه: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي نفسه ومن معه في المهالك. فلما جاء الغد أمر العسكر أن يتجهز للغزاة فسألوه عما صدفه عن رأيه، فقال: إن نور الدين إن لم أنجده خرجت بلادي عن يدي، فإنه قد كاتب زهادها والمنقطعين عن الدنيا يستمد منهم الدعاء، ويطلب منهم أن يحثوا المسلمين على الغزاة، وقد قعد كل واحد منهم ومعه أتباعه وأصحابه، وهم يقرؤون كتب نور الدين، ويبكون، فأخاف أن يجتمعوا على لعنتي والدعاء علي ثم تجهز وسار بنفسه. ولما اجتمعت العساكر خرج نور الدين إلى حارم، وحصرها، ونصب المجانيق عليها، وزحف إليها، فخرج البرنس بيمند، والقمص صاحب طرابلس، وابن جوسلين والدوك مقدم كبير من الروم. وابن لاون ملك الأرمن، وجمعوا جميع من بقي من الفرنج بالساحل، وقصدوا نور الدين. فرحل إلى أرتاح ليتمكن منهم إن طلبوه ويبتعدوا عن البلاد إن لقوه، وسير أثقاله إلى تيزين، فساروا فنزلوا على الصفيف، ثم عادوا إلى حارم، فتبعهم نور الدين على تعبئة الحرب، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فحمل الفرنج على ميمنة

المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون حتى وصلوا إلى جدارهم، ونور الدين واقف بازائهم على تل هناك يتضرع إلى الله، وهو مكشوف الرأس. وبقي راجل الفرنجك فوق عم، مما يلي حارم بالصفيف، فعطف عليهم زين الدين علي كوجك، في عسكر الموصل، وكان نور الدين قد جعله كميناً في طرف العمق، وآجام القصب، فقتلهم عن آخرهم. ورجعت الخيالة من الفرنج خوفاً على الراجل أن يتبعوا المسلمين، فيقع المسلمون عليهم، فوجدوا الأمر على ما قدروه، فرأوا الرجالة منهم قتلى وأسرى، واتبعهم نور الدين مع من انهزم من المسلمين، فأحاطوا بهم من جميع الجهات، فاشتد الحرب، وكثر القتل في الفرنج، فوقعت عليهم الغلبة. وعدل المسلمون إلى الأسر، فأسروا صاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، ولم يسلم إلا مليح بن لاون، قيل إن الياروقية أفرجوا له حتى هرب، لأنه كان خالهم. وكان عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف. وسار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبث سراياه في أعمال أنطاكية، فنهبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من المسلمين. ثم ساروا في هذه السنة إلى دمشق، بعد أن أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، ثم خرج إلى بانياس، فحصرها وقاتلها. وكان معه أخوه نصرة الدين أمير أميران وكان قد رضي عنه وسامحه وهو على حارم، بعد أن دخل إلى الفرنج، فأصابه سهم أذهب إحدى عينيه، فقال له: لو كشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى. وجد في حصارها وفتحها، وملأ

موقعة البابين

القلعة بالذخائر والرجال، وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرروا له على ما سوى ذلك مالاً في كل سنة. ووصل خبر فتح حارم وبانياس إلى الفرنج النازلين على بلبيس، فأرادوا العود إلى بلادهم، فراسلوا أسد الدين في الصلح رجاء أن يلحقوا بانياس، فاتفق الحال معهم على أن يعود إلى الشام، ويسلم ما بيده من أعمال مصر إلى أهلها، ولم يكن عنده علم بما جرى لنور الدين بالشام، وكانت الذخائر قد قلت عنده ببلبيس. وخرج من الديار المصرية إلى الشام، وجاء الفرنج ليدركوا بانياس، فوجدوا الأمر قد فات، وكشف أسد الدين الديار المصرية، واستصغر أمر من بها. ودخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة، فسار نور الدين إلى المنيطرة جريدة في قلة من العسكر، على غفلة من الفرنج، وحصر حصنها، وأخذه عنوة، وقتل من به، وسبى وغنم غنيمة كثيرة، وأيس الفرنج من استرجاعه بعد أن تجمعوا له وتفرقوا. موقعة البابين وتحدث أسد الدين مع نور الدين، في عوده إلى الديار المصرية، فلما رأى جده سيره إليها في ألفي فارس من خيار العسكر، في سنة اثنتين وستين وخمسمائة. فسار على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، وعبر النيل إلى الجانب الغربي عند أطفيح، وحكم على البلاد الغربية، ونزل بالجيزة مقابل مصر، فأقام نيفاً وخمسين يوماً. فأرسل شاور واستنجد بالفرنج، فسار أسد الدين إلى الصعيد، وبلغ إلى موضع يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنجية خلفه، فوصلوا إليه وهو على تعبئة وقد جعل أثقاله في القلب ليتكثر بها، وجعل ابن أخيه صلاح الدين في القلب، وأوصاهم متى حملوا عليه أن يندفع بين أيديهم قليلاً، فإذا عادوا فارجعوا في أعقابهم.

توسع نور الدين

واختار من يثق بشجاعته، ووقف بهم في الميمنة، فحمل الفرنج على القلب، فاندفع بين أيديهم غير مفرقين، فحمل أسد الدين بمن معه على من بقي منهم، فهزمهم ووضع السيف فيهم، وأكثر القتل والأسر، وعاد الذين حملوا على القلب فوجدوا أصحابهم قد مضوا قتلاً وأسراً فانهزموا. وسار أسد الدين إلى الاسكندرية، ففتحها باتفاق من أهلها، واستناب بها صلاح الدين، وعاد إلى الصعيد، وجبى أمواله. وتجمع الفرنج والمصريون، وحصروا صلاح الدين با لاسكندرية، فصبروا على الحصار إلى أن عاد أسد الدين، فوقع الصلح على أن بذلوا لأسد الدين خمسين ألف دينار، سوى ما أخذ من البلاد، وأن الفرنج لا يقيمون في البلاد، فاصطلحوا على ذلك، وعاد إلى الشام، وتسلم المصريون الاسكندرية. توسع نور الدين وأما نور الدين فإنه جمع العساكر في هذه السنة، ودخل من حمص إلى بلاد الفرنج، فنازل عرقة، ونهب بلدها، وخرب بلادهم، وفتح صافيتا والعريمة، وعاد إلى حمص، وخرج إلى بانياس، وخرج إلى هونين، فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه، فوصل إليه نور الدين من الغد، فخرب سوره وعاد. وكان حسان صاحب منبج قد مات، وأقطع نور الدين منبج ولده غازي بن حسان، فعصى عليه في هذه السنة، فسير إليه عسكراً، وأخذوها منه فأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وهو ائذي ابتنى المدرسة الحنفية بمنبج. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة، نزل شهاب الدين مالك بن علي بن مالك صاحب قلعة جعبر ليتصيد، فأخذه بنو كلاب أسيراً وحملوه إلى نور الدين في رجب، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في الأقطاع فلم يجبه، فعدل إلى الشدة والعنف. ثم سير إليها عسكراً فلم يقدر على فتحها، فعدل إلى اللين مع صاحبها،

قتل شاور وموت أسد الدين

إلى أن اتفق الحال على أن عوضه عنها بسروج وبزاعا والملوحة، وسلم إليه القلعة في سنة أربع وستين، وقيل لمالك: " أيما أحب إليك سروجاً أو القلعة؟ فقال: هذه أكثر مالاً، وأما العز ففارقناه بالقلعة. وفي هذه السنة أطلق نور الدين في بلاده بعض ما كان قد بقي من المظالم والمؤن. ثم إن الفرنج طمعوا في الديار المصرية فصعدوا إليها في سنة أربع وستين وخمسمائة، وأخذوا بلبيس وساروا إلى القاهرة فقاتلوها، وسير العاضد يستغيث إلى نور الدين، وسير شعور نسائه في الكتب، فوصله الرسول وهو بحلب، وبذل له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم. قتل شاور وموت أسد الدين وكتبوا إلى أسد الدين بمثل ذلك، فوصل إلى نور الدين إلى حلب من حمص وقد عزم على الايفاد إليه، فأمره بالتجهز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والسلاح والدواب، وحكمه في العسكر والخزائن فاختار ألفي فارس، وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء. وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: عز الدين جورديك وغرس الدين قلج، وشرف الدين برغش، وعين الدولة بن ياروق، وقطب الدين ينال بن حسان، وصلاح الدين ابن أخيه. وسار أسد الدين، فلما قارب مصر رحل عنها الفرنج إلى بلادهم، ووصل أسد الدين إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامه، وفي نفس شاور منه ما فيها، ولا يتجاسر على إظهاره.

وزارة صلاح الدين

وكان شاور يخرج في الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به، فخرج في بعض الأيام على عادته فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فلقيه صلاح الدين، وجورديك، في جمع من العسكر وخدموه، وأعلموه أن أسد الدين قد مضى للزيارة فقال: نمضي إليه فساروا جميعاً، فساوره صلاح الدين وجورديك، وألقياه إلى الأرض، فهرب عنه أصحابه وأخذ أسيراً. وأرسلوا إلى أسد الدين فحضر في الحال، وجاءه التوقيع في الحال بالوزارة على يد خادم خاص، ويقول: لا بد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزرائهم أن الذي يقوى على الآخر يقتله. فقتل وأنفذ رأسه إلى العاضد. وأنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة، فسار ودخل القصر، وترتب وزيراً في سابع عشر شهر ربيع الآخر، ودام آمراً ناهياً إلى أن عرض له خوانيق، فمات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة. وزارة صلاح الدين وفوض الأمر بعده إلى ابن أخيه، وكان جماعة من الأمراء الذين كانوا مع أسد الدين قد تطاولوا إلى الوزارة، منهم: عين الدولة بن ياروق، وسيف الدين المشطوب، وشهاب الدين محمود الحارمي خال السلطان صلاح الدين وقطب الدين ينال بن حسان. فأرسل العاضد إلى صلاح الدين، وأحضره، عنده، وولاه الوزارة بعد عمه، وخلع عليه، ولقبه بالملك الناصر، فاستتبت أحواله، وبذل المال، وتاب عن شرب الخمر، وأخذ في الجد والتشمير في أموره كلها، وكان الفقيه عيسى الهكاري معه، فميل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقياد إليه، فأجابوا سوى عين الدولة بن ياروق، فإنه امتنع، وعاد إلى نور الدين إلى الشام. فاستمر الملك الناصر بالديار المصرية وزيراً، وهو نائب عن نور الدين، وكان إذا كتب إليه كتاباً يكتب: الأمير الاسفهسلار، وكافة الأمراء بالديار

من الزلازل إلى وفاة قطب الدين

المصرية يفعلون كذا. وتكتب العلامة على رأس الكتاب، ولا يذكر اسمه. وسير الملك الناصر، وطلب أباه نجم الدين وأهله، فسيرهم نور الدين إليه مع عسكر، واجتمع معهم من التجار خلق عظيم، وذلك في سنة خمس وستين. وخاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار في عساكره إلى الكرك فحصره ونصب عليه المجانيق، فتجمع الفرنج، وساروا إليه وتقدمهم ابن الهنفري، وابن الدقيق، فرحل نور الدين نحوهما قبل أن تلحقهما بقية عساكر الفرنج فرجعا خوفاً منه واجتمعا ببقية الفرنج. وسلك نور الدين وسط بلادهم، وأحرق ما في طريقه إلى أن وصل إلى بلاد الاسلام، فنزل على عشترا على عزم الغزاة، فأتاه خبر الزلازل الحادثة بالشام، فإنها خربت حلب خراباً شنيعاً، وخرج أهلها إلى ظاهرها. من الزلازل إلى وفاة قطب الدين وتواترت الزلازل بها أياماً متعددة، وكانت في ثاني عشر شوال من السنة يوم الاثنين طلوع الشمس، وهلك من الناس ما يريد على خمسة آلاف نفر ذكر وأنثى، وكان قد احترق جامع حلب وما يجاوره من الأسواق قبل ذلك في سنة أربع وستين وخمسمائة، فاهتم نور الدين في عمارته وإعادته والأسواق التي تليه إلى ما كانت عليه. وقيل: إن الاسماعيلية أحرقوه. وبلغه أيضاً وفاة مجد الدين ابن دايته، أخيه من الرضاعة بحلب، في شهر رمضان سنة خمس وستين وخمسمائة، فتوجه نور الدين إلى حلب، فوجد أسوارها وأسواقها قد تهدمت. ونزل على ظاهر حلب حتى أحكم عمارة جميع أسوارها، وبنى الفصيل الدائر على البلد، وهو سور ثان. ورمم نوابه ما خرب من الحصون والقلاع مثل بعلبك، وحمص وحماة، وبارين، وغيرها.

وخرج نور الدين إلى تل باشر، فوصله الخبر بوفاة أخيه قطب الدين بالموصل في ذي الحجة، وكان أوصى بالملك لابنه الأكبر عماد الدين زنكي، وكان طوع عمه نور الدين لكثرة مقامه عنده، ولأنه زوج ابنته. ثم إن فخر الدين عبد المسيح وخاتون ابنة تمرتاش بن إيلغاري زوجة قطب الدين، وهي والدة سيف الدين غازي بن قطب الدين اتفقا على صرف قطب الدين عن وصيته لابنه عماد الدين إلى سيف الدين غازي. فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك له، فسار نور الدين في سنة ست وستين وخمسمائة، وعبر الفرات عند قلعة جعبر في مستهل المحرم، وقصد الرقة فحصرها وأخذها، ثم سار في الخابور، فملكه جميعه، وملك نصيبين، وأقام بها يجمع العساكر، وكانت أكثر عساكره في الشام في مقابلة الفرنج. فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيق، وفتحها فسلمها إلى عماد الدين زنكي ابن أخيه، وجاءته كتب الأمراء بالموصل يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل. وكان سيف الدين غازي وعبد المسيح قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز صاحب أذربيجان وأصبهان، يستنجدانه على نور الدين، فأرسل إيلدكز إليه رسولاً ينهاه عن التعرض للموصل فقال نور الدين: قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلا تدخل بيننا، وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون لي معك الحديث على باب همذان، فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة، وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد بليت أنا ولي مثل ربع بلادك بالفرنج، فأخذت معظم بلادهم، وأسرت ملوكهم. وأقام على الموصل فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة عبد المسيح بالعصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم بذلك، فأرسل إلى نور الدين في تسليم

انتقال الخطبة من الفاطميين إلى العباسيين

البلد على أن يقره بيد سيف الدين، وطلب الأمان لنفسه وعلى أن يمضي صحبته إلى الشام، ويقطعه ما يرضيه فتسلم البلد، وأبقى فيه سيف الدين غازي. وعاد إلى حلب فدخلها في شعبان من هذه السنة. انتقال الخطبة من الفاطميين إلى العباسيين وكتب إلى الملك النصر صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية العباسية، فامتنع واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار المصرية عليه، وكان يؤثر أن لا يقطع الخطبة للمصريين في ذلك الوقت، خوفاً من نور الدين أن يدخل إلى الديار المصرية فيأخذها منه، وإذا كان العاضد معه امتنع وأهل مصر معه، فلم يقبل عذره نور الدين، وألح عليه. وكان العاضد مريضاً فخطب للمستضيء في الديار المصرية. وتوفي العاضد، ولم يعلم بقطع الخطبة. وقيل: أنه علم قبل موته، وكان ذلك في سنة سبع وستين وخمسمائة. وفي هذه السنة تتبع نور الدين رسوم المظالم والمؤن في جميع البلاد التي بيده، فأزالها وعفى رسومها ومحا آثار المنكرات والفواحش، بعدما كان أطلق من ذلك في تواريخ متقدمة، وكان مبلغ ما أطلقه أولاً وثانياً خمسمائة ألف وستة وثمانين ألفاً وأربعمائة وستين ديناراً. وكان رأى وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني في المنام كأنه يفضل ثياب نور الدين، ففسر ذلك عليه، ففكر في ذلك ولم يرد عليه جواباً، فخجل وزيره وبقي أياماً واستدعاه، وقال: تعالى يا خالد، اغسل ثيابي، وأمره فكتب توقيعاً بإزالة ما ذكرناه. تراجع صلاح الدين الأيوبي وسار الملك الناصر من مصر غازياً، فنازل حصن الشوبك وحصره، فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فلما سمع نور الدين بذلك سار عن دمشق، فدخل

بلاد الفرنج من الجهة الأخرى، فقيل للملك الناصر: إن دخل نور الدين من جانب وأنت من هذا الجانب ملك بلاد الفرنج، فلا يبقى لك معه بديار مصر مقام، وإن جاء وأنت ههنا فلا بد لك من الإجتماع به، وببقى هو المتحكم فيك بما شاء، والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك إلى مصر، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال أمور الديار المصرية وأن شيعتها عزموا على الوثوب بها، فلم يقبل نور الدين عذره، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى الديار المصرية. فسمع الملك الناصر، فجمع أباه نجم الدين وخاله شهاب الدين، وتقي الدين عمر، وغيرهم من الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من حركة نور الدين واستشارهم، فلم يجبه أحد، فقام تقي الدين، وقال: إذا جاءنا قاتلناه. ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب والد الملك الناصر، وأقعد تقي الدين، وقال للملك الناصر: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى، ووالله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا، وكل من نراه عندك، فهو كذلك، وهذه البلاد لنور الدين، ونحن مماليكه ونوابه فيها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب كتاباً مع نجاب وتقول له: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، ولا حاجة إلى ذلك بل يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً، ويأخذني إليك. وتفرقوا. فلما خلا نجم الدين أيوب بالملك الناصر قال له: كيف فعلت مثل هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا نقوى به، وأما إذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا والأقدار بيد الله، ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل ما

التراجع الثاني

أشار به عليه والده فترك نور الدين قصده، واشتغل بغيره. وخرج نور الدين بالعساكر، ففتح حصن عرقة، وصافيتا، وعريمة، ونهب وخرب بلاد الفرنج ثم هادنهم. ثم إن الفرنج ساروا إلى بلد حوران في سنة ثمان وستين للغارة، فسار نور الدين إليهم، فنزل عشترا، وسير عسكره إلى أعمال طبرية، فغنموا غنائم عظيمة، وعادوا. وكان نور الدين قد استخدم مليح بن لاون، ملك الأرمن، وأقطعه أقطاعاً من بلاد الإسلام، وحضر معه حروباً متعددة فأنجده في هذه السنة بطائفة من عسكره، فدخل مليح إلى أذنة وطرسوس والمصيصة، وفتحها من يد ملك الروم، وأرسل إلى نور الدين كثيراً من غنائمهم وثلاثين أسيراً من أعيانهم. وقصد قلج أرسلان ذا النون بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس، وأخذ بلاده، وأخرجه عنها طريداً، فاستجار بنور الدين، ووصل إليه فأكرمه، وسير إلى قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاده إليه، فلم يفعل، فسار نور الدين إليه في هذه السنة فابتدأ بكيسوم، وبهسنى، ومرعش، ومرزبان، وما يليها. وكان ملكه مرعش، وفي أوائل ذي القعدة، والباقي بعدها. وسير طائفة من عسكره إلى سيواس، فملكها وراسله قلج أرسلان في الصلح، وأتاه من أخبار الفرنج ما أزعجه فصالحه، وأعطى سيواس ذا النون، وجعل معه قطعة من عسكره، وشرط على قلج أرسلان إنجاده بعساكره إلى الغزاة. التراجع الثاني واتفق نور الدين وصلاح الدين على أن يصل كل واحد منهما من جهته، وتواعدا على يوم معلوم على أن يتفقا على قتال الفرنج، وأيهما سبق أقام للآخر

موت والد صلاح الدين ثم موت نور الدين

منتظراً، إلى أن يقدم عليه، فسبق صلاح الدين ووصل إلى الكرك وحصره. وسار نور الدين فوصل إلى الرقيم وبينه وبين الكرك مرحلتان فخاف صلاح الدين، واتفق رأيه ورأي أهله على العود إلى مصر لعلمهم بأنهما متى اجتمعما كان نور الدين قادراً على أخذ مصر منه. فعاد إلى مصر وأرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر، وأنه بلغه أنه مريض، ويخاف أن يحدث به حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، ولم يكن مريضاً، وأرسل مع الفقيه عيسى من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف، فجاء إليه فأعلمه برسالة صلاح الدين، فعظم ذلك عليه ولم يظهر التأثر بذلك، وقال: حفظ مصر أهم عندنا. موت والد صلاح الدين ثم موت نور الدين واتفق أن صلاح الدين وصل إلى مصر فوجد أباه قد سقط عن الفرس، وبقي أياماً ومات، وهو غائب عنه، في السابع والعشرين من ذي الحجة من سنة ثمان وستين وخمسمائة. وخاف صلاح الدين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرع في تحصيل مملكة أخرى لتكون عدة له بحيث أن نور الدين إن غلبه إلى الديار المصرية سار هو وأهله إليها وأقاموا بها. فسير أخاه الأكبر تورانشاه بإذن نور الدين له في ذلك، وسيره قاصداً عبد النبي ابن مهدي، وكان دعا إلى نفسه، وقطع خطبة بني العباس، فمضى إليها، وفتح زبيد وعدن ومعظم بلاد اليمن.

وصلاح الدين على ما كان عليه من الطاعة في الظاهر لنور الدين إلى أن اتفق أن مرض نور الدين بعلة الخوانيق بدمشق، وتوفي بها يوم الأربعاء حادي عشر شوال من سنة تسع وستين وخمسمائة، وكان قد شرع في التأهب للدخول إلى الديار المصرية وختن ولده الملك الصالح اسماعيل بدمشق، في خامس شوال، وأخرج صدقات كثيرة وكسوات للأيتام الدين ختنهم معه. واتسع ملكه بحيث خطب له بالحرمين الشريفين وبلاد اليمن التي افتتحهما شمس الملوك، وانعمر بلد حلب في زمانه لعدله وحسن سيرته حتى لم تبق مزرعة في جبل ولا واد إلا وفيها سكان ولها مغل. وصار على ظاهر حلب من العمارة والمساكن أكثر من المدينة، مثل الحاضر السليماني، وخارج باب الأربعين، وغير ذلك من الأبواب جميعها. وارتفعت الأسعار مع كثرة المغلات لكثرة العالم، حتى كانت الأسعار في السنة التي مات فيها بعد ذلك الرخص في السنة التي مات فيها والده: الحنطة مكوك ونصف بدينار، والشعير مكوكان ونصف بدينار، والعدس مكوك ونصف بدينار، والجلبان كذلك، والقطن ستة أرطال جوز بدينار.

القسم الرابع والعشرون الخطبة والحداد

القسم الرابع والعشرون الخطبة والحداد وقام الملك الصالح بالملك بعده. وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء بدمشق. وخطب له الملك الناصر صلاح الدين بمصر، وأرسل إليه رسولاً يعزيه، ومعه دنانير مصرية عليها اسمه، ويعلمه أنه في طاعته، وأن الخطبة أقيمت له بمصر. وأما حلب فكان الوالي بقلعتها جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي، عتيق نور الدين وهو الذي بنى المدرسة، لأصحاب أبي حنيفة بحلب، وقبر بها، فوصله كتاب الطير بوفاة نور الدين، فأمر في الحال بضرب الدبادب، والكوسات، والبوقات. وأحضر المقدمين والأعيان بحلب، والفقهاء والأمراء، وقال: قد وصل كتاب الطائر، يخبر أن مولانا الملك العادل قد ختن ولده، وولاه العهد بعده، ومشى بين يديه. فأظهروا السرور بذلك، وحمدوا الله تعالى، فقال لهم: تحلفون لولده الملك الصالح، كما أمر الملك العادل بأن حلب له، وأن طاعتكم له وخدمتكم، كما كانت لأبيه. فحلف الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، في ذلك اليوم، ولم يترك أحداً منهم يزول من مكانه.

استقلال سيف الدين غازي ببلاد الجزيرة

ثم قام إلى مجلس آخر، ولبس ثياب الحداد، وخرج إليهم وقال: يحسن الله عزاءكم في الملك العادل، فإن الله قد نقله إلى جنات النعيم. وتوجه المؤيد بن العميد، وعثمان زردك، وهمام الدين إلى حلب، لإثبات ما في الخزائن بحلب، وختمها بخاتم الملك الصالح. وكان وزير الملك العادل نور الدين: موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني، رسولاً عنه بمصر. فاتفق رأي الجماعة على أن ولوا وزارة الملك الصالح: شهاب الدين أبا صالح عبد الرحيم بن أبي طالب بن العجمي، وكان عدلاً على خزائن نور الدين. وكان شمس الدين علي، ابن داية نور الدين، أخو مجد الدين لأمه، من أكبر الأمراء النورية، وأمر حلب راجع إليه وإلى إخوته في أيام نور الدين. وكان بحلب عند موت نور الدين، وسابق الدين عثمان وبدر الدين حسن أخواه، فتولى شمس الدين علي تدبير حلب، وصعد إلى القلعة، وحصل بها مع شاذبخت، والأمير بدر الدين حسن متولي الشحنكية بالمدينة. استقلال سيف الدين غازي ببلاد الجزيرة وكان نور الدين قد سير إلى الموصل وغيرها من البلاد يستدعي العساكر، بحجة الغزاة، ومقصوده الطلوع إلى مصر، فسار سيف الدين غازي بعسكر الموصل، وعلى مقدمته سعد الدين كمشتكين الخادم، وكان قد جعله نور الدين والياً من قبله بالموصل. فلما كانوا ببعض الطريق، وصلتهم الأخبار بموت نور الدين فهرب سعد الدين كمشتكين إلى حلب جريدة. وأما سيف الدين فإنه أخذ بلاد الجزيرة جميعها، سوى قلعة جعبر، فأرسل

حصار بانياس الداخل

شمس الدين علي ابن الداية يطلب الملك الصالح إلى حلب، ليمنع سيف الدين ابن عمه من البلاد الجزرية. فلم يمكنه الأمراء الذين معه بدمشق من الانتقال إلى حلب خوفاً أن يغلبهم عليه شمس الدين علي. وكان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم قد صار متولي تدبيره بدمشق، وكمال الدين بن الشهزروري وجماعة من الأمراء معه. وكان قد أشار كمال الدين على الأمراء بمشاورة الملك الناصر فيما يفعلونه، لئلا يجعل ذلك حجة عليهم، فخافوا منه ولم يفعلوا. حصار بانياس الداخل وخرج الفرنج، وحصروا قلعة بانياس فراسلهم ابن المقدم، وبذل لهم مالاً، وخوفهم بالاستنجاد بصلاح الدين وسيف الدين، فعادوا. وبلغ ذلك كله الملك الناصر صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إلى الملك الصالح، وعتب عليه حيث لم يعلمه بما تجدد من سيف الدين في أخذ الجزيرة ليحضر ويكفه. وأنكر صلح الفرنج وبذل المال لهم، وبذل من نفسه قصد الفرنج، وكفهم عن التطاول إلى شيء من بلاد الملك الصالح. وكتب إلى كمال الدين وابن المقدم، والأمراء، وقال: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي، أو يثق بي مثلي لسلم إليه مصر، ولو لم يعجل عليه الموت لعهد إلي بتربية ولده. وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني،

المراسلات في شأن الملك الصالح

وسوف أصل إلى خدمته، وآكافي إنعام أبيه، وأجازي كلا منكم على فعله. المراسلات في شأن الملك الصالح وكثر خوف شمس الدين علي ابن الداية من سيف الدين غازي، وأن يعبر الفرات إلى حلب فيملكها، فأرسل سعد الدين كمشتكين إلى دمشق، ليحضر الملك الصالح، فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين بن المقدم عسكراً، فنهبوه، وعاد منهزماً إلى حلب، فأخلف عليه شمس الدين علي ابن الداية، عوضاً عما أخذ منه. ثم إن الأمراء بدمشق، اتفقوا على إرسال الملك الصالح إلى ابن الداية بحلب لأنها أم البلاد، فأنفذوا إليه يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح، فوصل إليهم سعد الدين كمشتكين، واتفقوا على أن يكون شمس الدين علي أتابكاً للملك الصالح. وحلف شمس الدين وجمال الدين شاذبخت للأمراء على أقطاعهم، ونفذت النسخة مع سابق الدين عثمان إلى دمشق. وسار الملك الصالح وأمه مع سعد الدين كمشتكين والأمراء الذين أقطاعهم بحلب، ولما وصلوا ما بين حماه وحلب وصل من جمال الدين شاذبخت من خوف الأمراء من بني الداية، فقبضوا سابق الدين عثمان، بقنسرين، وكتموا الحال، ووصلوا إلى باب حلب، فخرج بدر الدين حسن، فقبضوه، ودخلوا من باب الميدان وقد عمل به الخوان، فلم يلتفتوا إليه، وبادروا بالملك الصالح، وصعدوا به إلى القلعة. وكان بشمس الدين علي نقرس، فحمل في محفة، وحضر بين يدي الملك الصالح، فزندوا يديه، وقيدوا أخويه، وجعلوا الجميع في المطمورة، بالمركز.

الفتنة الطائفية

وكان شاذبخت قد احتاط، واستخدم جماعة من الأجناد، فصار في مقدار خمسمائة راجل، وشمس الدين في مقدار مائة، وأمر اسباسلار باب القلعة أبا بكر بن مقبل: أن يمنع من يصعد إلى القلعة من أصحابه وأصحاب إخوته، ما خلا سابق الدين وبدر الدين. فكانا يصعدان، ومع كل واحد منهما غلام واحد ووكل بباب شمس الدين ثلاثين رجلاً كل ليلة، فعتب على شاذبخت فقال له: أنا أبعث الرجال إليك، ليقوموا في الخدمة. وكان يوكل بالأجناد الدين خالفوه حفظة يمنعون من يدخل منهم أو يخرج، وكان هذا حال القلعة، في غيبة الملك الصالح. الفتنة الطائفية وأما حال المدينة فإن السنة من أهل البلد مالوا إلى المجدية، لتعصبهم للسنة على الشيعة، وجمعهم بدر الدين حسن شحنة حلب، واستخلصهم في الليل. وكان فيهم بنو العجمي، والشيخ أبو يعلى بن أمين الدولة، وبنو قاضي بالس على ما ذكر وطلب القاضي أبا الفضل بن الخشاب وبني الطرسوسي، فأبوا أن يحضروا. وكان أهل حلب من الشيعة، يتوالون أبا الفضل بن الخشاب ويقدمونه عليهم، فوافقوه على حفظ البلد للملك الصالح، وعلى مخالفة بني الذاية. فسير بدر الدين حسن إلى ابن الخشاب، وقال له: إن جماعة عندي قذفوك، وتحدثوا بأنك تطعن في الدولة، وأنك تريد أن تملك حلب. وكان بدر الدين وأخواه أرادوا أن تقع الفتنة بحلب بين السنة والشيعة، ليستقيم أمرهم، فثار الغوغاء من الشيعة ونهبوا دار قطب الدين بن العجمي بالقرب من الزجاجين، ودار أبي يعلى بن أمين الدولة، بالجرن الأصفر. وكان فيها أموال الأيتام. وانتقل ابن العجمي بعد ذلك إلى البلاط، وابن أمين الدولة إلى تحت القلعة بالقرب من مسجد السيدة. وقتل في ذلك اليوم في مدرسة الزجاجين الشيخ أبو العباس المغربي، وكان مقرئاً محدثاً. وثارت الفتنة بين الطائفتين، وطلب الفقراء دور الأغنياء فنهبت دار أبي جعفر ابن المنذر بالعقبة، فجمع بدر الدين حسن جماعة من الأجناد ومن أهل البلد السنة ومن العسكر، وألبسهم السلاح، وصعد إلى شاذبخت، وقال له: إن أبا الفضل بن

الخشاب يريد أن يملك البلد وقد مال إليه الشيعة وبعض السنة، فتعينني بنقابين وزراقين حتى أقبض عليه، وأعتقله، إلى أن يحضر الملك الصالح. فأمر الأجناد بلبس السلاح والخروج معه، وصار بهم إلى تل فيروز وهو موضع سوق الصاغة الآن وكان إذ ذاك تلا. وأخذوا الفلايج والأبواب، وسدوا بها الدروب، وزحفوا من الطرق والأسطحة، إلى دار ابن الخشاب. ووقع قتال شديد، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وانتهى إلى الدار، فأحرقها ونهبها، ونهب أدر جماعة من المجاورين له. وانهزم القاضي أبو الفضل، واختفى في دار فخرا وابن كياعميد بالقرب من حمام شراحيل، فأقام بها إلى أن وصل الملك الصالح في المحرم، من سنة سبعين وخمسمائة، وصعد إلى القلعة، وقبض على بني الداية كما ذكرنا وصار الأمر والتدبير إلى سعد الدين كمشتكين الخادم، وهو الذي بني الخانكاه المنسوبة إليه بحلب، في جوارنا، وهي كانت دار أبي الطيب المتنبي، بحلب. وكان شمس الدين علي قد عزم على أن الملك الصالح إذا قدم أخذه بمفرده، وصعد به إلى القلعة. ولا يمكن أحداً من الأمراء من الصعود، ويطردهم، ويستقل بالأمور. فسير شاذبخت من أسر ذلك إلى الأمراء الدين كانوا في صحبة الملك الصالح فاتفق رأيهم في قنسرين على قبض أولاد الداية، وتحالفوا على أن قدموا كمشتكين، فلما رحلوا من قنسرين، بدأوا بسابق الدين، وكان قد وجه إلى دمشق في تقرير الأمور، فقبضوه، وحفظوا الطرق لئلا يصل إلى حلب من يخبر أخويه، إلى أن صعدوا إلى القلعة كما ذكرنا. وأما أبو الفضل بن الخشاب، فإن الملك الصالح أمنه، وسير له خاتماً، وركب إلى القلعة، ومعه خلق كثير من أهل حلب، وعوامها، يمشون في خدمته، وأكد أمره، وقرر على أن يقتل. فلما دخل إلى القلعة، ووصل قدام الفرن بالقلعة، ضربه علي أخو عز الدين جورديك فرماه. وجاء بعض أجناد القلعة فاحتز رأسه، وجعلوه على باب القلعة. ثم رفع على رمح إلى برج بالقلعة، يقال له برج الزيت وتفرق أصحابه من تحت القلعة، عند ذلك. واستو لى على دولة الملك الصالح أمير لالا المجاهد ياقوت، وهو الحاكم

استدعاء صلاح الدين الأيوبي إلى دمشق

عليه، وهو الذي رباه، وجمال الدين شاذبخت الهندي وهو والي القلعة والحاكم بها، وسعد الدين كمشتكين مقدم العساكر ومتولي إقطاعهم، وشهاب الدين أبو صالح بن العجمي، وزير الملك الصالح، فخاف. وولوا رئاسة حلب الريس صفي الدين طارق ابن الطريرة، وعزلوا أبا محمد الحكم، وكان يتولى الرئاسة في أيام نور الدين. فخاف ابن المقدم والأمراء، الدين بدمشق، أن يستقر أمر كمشتكين بحلب، فيأخذ الملك الصالح، ويسير إلى دمشق، ويفعل كما فعل بأولاد الداية. فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل، ليصل إليهم، ويسلموا إليه دمشق، فخاف أن تكون مكيدة منهم، فامتنع من ذلك. وراسل سعد الدين كمشتكين والملك الصالح، وصالحهما على الجزيرة، وإبقائها في يده. استدعاء صلاح الدين الأيوبي إلى دمشق فخات الأمراء، بدمشق من اتفاق سيف الدين والملك الصالح عليهم، فكاتبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستدعوه من مصر ليملكوه عليهم، فسار من مصر في سمبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبال بهم. فخرج إليه صاحب بصرى وكان ممن كاتبه. ولما وصل إلى دمشق خرج كل من كان بها من العسكر، والتقوه ودخل البلد، ونزل في دار أبيه المعروفة بدار العقيقي، وعصى عليه في القلعة خادم اسمه ريحان، فأعلمه أنه إنما جاء في خدمة الملك الصالح، فسلم إليه القلعة، وصعد الملك الناصر إليها، وأخذ ما فيها من الأموال، فاستعان به، وتزوج خاتون بنت معين الدين، وكانت زوجة نور الدين، واستخلف أخاه طغتكين سيف الإسلام.

مسيره إلى حمص وحماه وحلب

مسيره إلى حمص وحماه وحلب وسار إلى حمص وحماة، وهما في أقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني. وكان ظالماً، فسار منها بعد موت نور الدين، فملك الملك الناصر في حادي عشر جمادى الأولى، من سنة سبعين، مدينة حمص. وبقيت القلعة، وكان الولاة في القلاع من جهة نور الدين، فترك في البلد من يحفظه، ويمنع من في القلعة من النزول. وسار إلى حماة، فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة، وكان بالقلعة عز الدين جورديك، فأرسل إليه، وقال له: إني في طاعة الملك الصالح، والخطبة له في البلاد التي في يدي على حالها، والمقصود اتفاق الكلمة على طاعة الملك الصالح، وأن تسعد البلاد الجزرية وتحفظ بلاده. فاستحلفه جورديك على ذلك، وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة، وفي إطلاق شمس الدين علي وأخويه من السجن، وكان إقطاعهم قد قبض من نوابهم، ولم يبق في أيديهم غير شيزر وقلعة جعبر. واستخلف جورديك بقلعة حماة أخاه ليحفظها، فلما وصل جورديك قبض عليه كمشتكين، وسجنه، فعلم أخوه بذلك، فسلم قلعة حماه إلى الملك الناصر. وسار الملك الناصر إلى حلب، فوصلها في ثالث جمادى الآخرة من سنة سبعين، وحصرها. فركب الملك الصالح، وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة، وجمع أهل حلب، وقال لهم: أنا يتيمكم، وقد عرفتم إحسان أبي إليكم، وقد جاء هذا الظالم ينترع ملكي. وقال أقوالاً كثيرة. وبكى فأبكى الناس، وبذلوا أنفسهم وأموالهم له، واتفقوا على القتال دونه، والذب عنه. فجعل الحلبيون يخرجون، ويقاتلون الملك الناصر عند جبل جوشن فلا يقدر أن يتقرب إلى البلد وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية،

من بعلبك إلى قرون حماة

وبذل له أموالاً كثيرة ليقتل الملك الناصر، فقفزوا عليه، فحماه الله منهم، وقتلوا. وبقي محاصراً حلب إلى سلخ جمادى الآخرة، وكان كمشتكين قد أرسل إلى سيف الدين غازي يستنجده، وكان ريمند صاحب طرابلس الذي أسره نور الدين قد أطلقه كمشتكين بمائة ألف وخمسين ألفا صورية، في هذه السنة. وصار موضع مري ملك الفرنج، فأرسل من بحلب إليه يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد الملك الناصر، ليرحل عنهم، فسار إلى حمص ونازلها، فرحل الملك الناصر عن حلب، مستهل شهر رجب. فلما نزل الرستن رحل الفرنج عن حمص، ووصل الملك الناصر إليها، وحصر قلعتها إلى أن تسلمها. من بعلبك إلى قرون حماة وسار إلى بعلبك، فتسلمها وقلعتها، فى رابع شهر رمضان، من سنة سبعين وخمسمائة. وأما سيف الدين غازي فإنه جمع عساكره، وكاتب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، لينزل إليه بعساكره ليجتمعا على نصرة الملك الصالح، فامتنع. وكان الملك الناصر قد كاتبه، وأطمعه في ملك الموصل، لأنه الكبير من أولاد أبيه، فمضى سيف الدين إلى سنجار محاصراً لها، وسير عسكراً كثيراً إلى حلب مع أخيه عز الدين مسعود، مع أكبر أمرائه زلفندار، فوصل عز الدين إلى حلب،

بعد صلح تحرك صاحب الموصل

واجتمعت عساكر حلب معه، وساروا إلى حماه، فقاتلوها. فأرسل الملك الناصر، وبذل لهم تسليم حمص وحماة، وأن يقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً عن الملك الصالح، فلم يجيبوه إلى ذلك. وقالوا. لا بد من تسليم جميع ما أخذه من الشام، وعوده إلى مصر. فسار الملك الناصر إلى عز الدين وزلفندار، فالتقوا في تاسع عشر شهر رمضان، على قرون حماة. فانهزم عسكر الموصل، وثبت عز الدين بعد الهزيمة، فقال الملك الناصر: إما أن يكون هذا أشجع الناس، أو أنه لا يعرف الحرب. وأمر أصحابه فحملوا عليه حتى أزالوه عن موقفه، وتمت الهزيمة، وتبعهم الملك الناصر، وغنموا غنائم كثيرة، وأسر جماعة كثيرة، فأطلقهم. بعد صلح تحرك صاحب الموصل ونزل الملك الناصر على حلب، محاصراً لها، وقطع حينئذ خطبة الملك الصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح، على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، ولهم ما بأيديهم، وأخذ المعرة، وكفر طاب، وانتظم الحال بينهم على ذلك. ورحل عن حلب، في العشر الأول من شوال، إلى حماة، فوصلته خلع الخليفة بها مع رسوله. ووصل خبر الكسرة إلى سيف الدين، وهو محاصر سنجار، فصالح عماد الدين على ما بيده، ورحل إلى الموصل، وشرع في جمع العساكر. وسار الملك الناصر من حماة إلى بارين، وفيها نائب عز الدين ابن الزعفراني، ولم يبق بيده غيرها، فحصرها إلى أن سلمها واليها إليه بالأمان، فعاد إلى حماة، وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصر الدين محمد ابن عمه أسد الدين، وعاد إلى دمشق.

وخرج سيف الدين غازي صاحب الموصل، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وسار إلى نصيبين، واستنجد صاحب حصن كيفا وصاحب ماردين، فاجتمع معه عسكر كثير بلغت عدتهم ستة آلاف فارس. وأقام بنصيبين حتى خرج الشتاء، فضجرت العساكر وفنيت نفقاتهم. ثم سار إلى حلب، فعبر ب البيرة وخيم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح، لتستقر قاعدة يصل عليها إليهم. ووصل كمشتكين إليه، وجرت مراجعات كثيرة، عزم فيها على العود مرارا، حتى استقر اجتماعه بالملك الصالح، وسمحوا به، فسار ووصل إلى حلب. وخرج الملك الصالح للقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه، وضمه إليه، وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد، وسار هو، فنزل بعين المباركة، وأقام بها مدة، وعسكر حلب تخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد إلى قلعة حلب جريدة، وأكل فيها شيئاً، ونزل، وسار منها إلى تل السلطان، ومعه عسكر حلب، مضافاً إلى العساكر الواصلة معه. وخرج رجل ادعى أنه المنتظر، وادعى النبوة بجبل ليلون، واستغوى أهل تلك الناحية، وأظهر لهم زخارف، ومحالاً، وقال لهم: إذا جاء العسكر إليكم، فسوف أرميهم بكف من تراب فأهلكهم وأغاروا على تركمان بجبل سمعان وكان مقيماً بأتباعه بكفرند، فخرج طمان من العسكر، وسعد الدين كمشتكين بجماعة من العسكر، ووصلوا إليهم، فجعل أتباعه يصيحون: وعدك يا مولانا! والسيف يعمل فيهم، فألقى التراب، فزحف إليه العسكر، وقتل الرجال وسبى

صلاح الدين وسيف الدين في تل السلطان

النساء، والتجأ جماعة إلى المغاير، فاستخرجوهم ولم يبقوا إلا على من أسلم منهم، ودخنوا على جماعة في المغاير، فماتوا، ثم عاد العسكر إلى تل السلطان، بعد أن قتل وصلب. وكان الملك الناصر بدمشق في قل من العسكر، لانه كان قد سيرها إلى مصر، وأنفذ إليها يستدعيها، فلو عاجله سيف الدين لبلغ منه غرضاً لكنه تأخر، فوصل عسكر مصر إلى الملك الناصر. صلاح الدين وسيف الدين في تل السلطان فسار من دمشق إلى ناحية حلب، ليلقى سيف الدين، فالتقاه بتل السلطان، وكان سيف الدين قد سبقه إلى تل السلطان، فوصل الملك الناصر العصر، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة. فأشير على سيف الدين بلقائهم في تلك الحالة، فقال زلفندار: ما بنا حاجة إلى القتال في هذه الساعة، وغداً بكرة نأخذهم كلهم. فترك القتال إلى الغد، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال، فجعل زلفندار الأعلام في وهدة من الأرض، لا يراها إلا من هو قريب منها. فلما التقى الفريقان، ظن أكثر الناس أن سيف الدين قد انهزم، لأنهم لم يروا الأعلام، فانهزموا بعد أن كان مظفر الدين بن زين الدين وهو في الميمنة قد كسر ميسرة الملك الناصر. وولوا الأدبار، وأسر منهم جماعة فأطلقهم الملك الناصر، منهم: فخر الدين عبد المسيح، وأمسك عن تتبع العسكر، فلم يقتل غير رجل واحد، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال، سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

بزاعا ومنبج وعزاز ومحاولة قتل صلاح الدين

ونزل الملك الناصر وعسكره، في بقية ذلك اليوم في خيم القوم، واستولوا على جميع ما فيها، وفرق الاصطبلات والخزائن، ووهب خيمة سيف الدين عز الدين فروخشاه. ووصل سيف الدين إلى حلب، وترك أخاه عز الدين في جماعة من العسكر، وعبر الفرات، وسار إلى الموصل. بزاعا ومنبج وعزاز ومحاولة قتل صلاح الدين ووصل الملك الناصر إلى حلب، يوم الأحد ثالث عشر شوال، فأقام عليها أربعة أيام، ورحل عنها، يوم الجمعة ثامن عشر شوال، فنزل بزاعا فحصرها وتسلمها يوم الاثنين العشرين من شوال. ورحل فنزل منبج، فحصرها، في التاسع والعشرين من شوال، وبها قطب الدين ينال بن حسان، وكان شديد العداوة للملك الناصر، وكان قد حنق عليه لذلك، فملك المدينة، ونقبت القلعة، فحصره بها، ونقبها النقابون، وملكها عنوة، وأخذ كل ما كان فيها، وأخذ صاحبها أسيراً، ثم أطلقه، فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين الرقة. ورحل الملك الناصر إلى عزاز فنازلها ثالث ذي القعدة وحصرها ونصب عليها المنجنيقات. وجلس يوماً في خيمة بعض أمرائه، ويقال له جاولي مقدم الأسدية، فوثب عليه باطني، فجرحه بسكين في رأسه، فرد المغفر عنه، وأمسك الملك الناصر يدي الباطني بيديه، إلا أنه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية، بل يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقي الباطني يضربه بالسكين في رقبته، وكان عليه كراغند، فكانت

حصار حلب والصلح

الضربات تقع في ريقه، والزرد يمنعها من الوصول. وجاء سيف الدين يازكج فأمسك السكين، فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل. وجاء باطنيان آخران فقتلا. وركب الملك الناصر إلى خيمته، ولازم حصار عزاز، حتى تسلمها بعد قتال شديد، في بكرة الأربعاء، ثاني عشر ذي الحجة. ورحل عنها إلى مرج دابق. حصار حلب والصلح ثم سار فنزل حلب، يوم الجمعة، منتصف ذي الحجة، وحصرها، وبها جماعة من العسكر، ومنع أهل البلد الملك الناصر من التقرب إلى البلد، وكانوا يخرجون إلى خيم المعسكر فيقاتلوه، وإذا مسك واحد منهم شرحت قدماه، فيمتنع من المشي، ولا يكفون عن القتال، وقام في نصرته السنة والشيعة من الحلبيين، وأعطي الشيعة الشرقية في المسجد الجامع، فكانوا يجتمعون بها للصلاة. واتفق أن الحلبيين اجتمعوا تحت القلعة، شاكين في السلاح، يستأذنون الملك الصالح في الخزوج إلى قتال العسكر، فدخل رسول من الملك الناصر، يقال له سعد الدين أبو حامد العجمي الكاتب، فصاح عوام الحلبيين: ما نصالح يا رسول، رح، ودع عنك الفضول. ورجموه بالحجارة، فخرج، واتبعوه إلى قريب من الخيام. ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح بين الملك الصالح، وسيف الدين صاحب الموصل، وصاحب الحصن، وصاحب ماردين، وبين الملك الناصر. وتحالفوا، واستقرت على أن يكونوا كلهم عوناً على الناكث الغادر، واستقر الصلح. ورحل الملك الناصر، في السادس عشر من محرم، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.

أخبار الإسماعيلية

ولما تقرر الصلح، أخرج الملك الصالح إلى الملك الناصر أخته بنت نور الدين، وكانت طفلة صغيرة، فأكرمها، وحمل لها شيئاً كثيراً، وقال لها ما تريدين؟ قالت: أريد قلعة عزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها إليهم. أخبار الإسماعيلية ورحل إلى بلد الإسماعيلية، وحصرهم، ثم صالحهم بوساطة خاله محمود بن تكش، وسار بعساكره إلى مصر. وكان في شروط الصلح أن يطلق عز الدين جورديك، وشمس الدين علي ابن الداية، وأخواه سابق الدين، وبدر الدين. فسار أولاد الداية إلى الملك الناصر، فأكرمهم، وأنعم عليهم. وأما جورديك، فأقام في خدمة الملك الصالح، وعلم الجماعة براءته مما ظنوا به. وعصىغزس الدين قلج في تل خالد لأنه نسب إليه أمر أوجب وحشته، فحصل فيها بماله، وحصنها، فخرج إليه سعد الدين كمشتكين بالعسكر، ومعه طمان، فحصره مدة، فسير، واستشفع بالملك الناصر، فشفع فيه إلى الملك الناصر، فقبل الشفاعة وأمنه، فخرج بماله وأهله، وحاشيته، ومضى إلى منبج، فنزل بها عند الدويل، وكان الملك الناصر قد أقطعه إياها، وكان ذلك في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفي هذه السنة، أظهر أهل جبل السماق الفسق والفجور، وتسموا بالصفاة، واختلط النساء والرجال في مجالس الشرب، ولا يمتنع أحدهم من أخته ولا بنته، ولبس النساء ثياب الرجال، وأعلن بعضهم بأن سناناً ربه. فسير الملك الصالح إليهم عسكر حلب، فهربوا من الجبل وتحصنوا في رؤوس الجبال، فأرسل سنان، وسأل فيهم، وأنكر حالتهم، وكانوا قد نسبوا ذلك إليه، وأنهم فعلوا ذلك بأمره، فأشار سعد الدين بقبول شفاعته فيهم، وعاد العسكر عنهم.

وشرع سنان في تتبع المقدمين منهم، فأهلكهم، وكان في الباب منهم جماعة فثار بهم البنوية من أهل ذلك البلد، وقاتلوهم من التركمان، فانهزموا واختبئوا في المغاير، فنهبوا دورهم، وعروا نساءهم، ودخنوا عليهم في المغاير، وقتلوا من أمكنهم قتله. ثم إن الاسماعيلية قزروا على الوزير شهاب الدين أبي صالح بن العجمي، يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان السبب في ذلك أن أبا صالح كان يواطىء المجاهد اللالا وجمال الدين شاذبخت، على سعد الدين كمشتكين، ويحاولون حطه عن مرتبته. فعلم كمشتكين ذلك، فكتب كتاباً إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالحصون، على لسان الملك الصالح، يلتمس منه قتل أبي صالح، واللالا، وشاذبخت. وكان قد أحضر الكتاب إلى الملك الصالح، وهو خارج إلى الصيد، وطلب خطه، وهو أبيض، لم يكتب فيه شيء أصلاً، وقال له: المولى خارج، ويحتاج أن يكتب كتاباً في أمر كذا وكذا، فيكتب المولى علامته. فكتب ثقة بأن الأمر كما ذكر. فكتب كمشتكين إلى سنان بالأمر الذي أراده، وسيره إليه، فلم يشك سنان في أن الأمر وقع من الملك الصالح، ليستقل بأموره وملكه. فندب جماعة لقتل المذكورين، فوثبوا على شهاب الدين أبي صالح، عندما خرج من باب الجامع الشرقي، بالقرب من داره، وقتل الإسماعيليان اللذان وثبا عليه. ثم وثب بعد ذلك بمدة ثلاثة منهم على اللالا، بالقرب من خانكاه القصر،. وتعلق بذيل بغلتاقه ليضربه بالسكين، فرفس اللالا الفرس، وخرج من البغلتاق!، فنجا. وأحاط الناس بالجماعة الذين قفزوا عليه، وفيهم اثنان كانا يترددان إلى ركابدار اللالا، فقتل أحدهما وصلب، وصلب الركابدار أيضاً، وكتب على صدره: هذا جزاء من يؤوي الملحدة.

تحرك الفرنج بغياب صلاح الدين

وأما الآخر، فصعدوا به إلى القلعة، فضرب ضرباً عنيفاً، وثقب كعبه، ليقرر على السبب الذي أوجب وثوبهم، فقال للملك الصالح: أنت تبعث كتبك إلى مولانا سنان بقتل من أمرنا بقتله، ثم تنكر فعل ذلك؟ فقال: ما أمرت بشيء. وكتب إلى سنان يعتب عليه فيما فعل بأبي صالح واللالا. فقال: أنا ما فعلت شيئاً إلا بأمرك وخطك. وسير إليه كتاباً فيه علامته بقتل الثلاثة المذكورين، فعلم أن ذلك كان ميكدة من كمشتكين. وكان الإسماعيلية قد اجتهدوا في قتل شاذبخت، فلم يقدروا على الوثوب عليه، لشدة احترازه في القلعة، فعند ذلك وجد أعداء كمشتكين طريقاً للطعن عليه، وقالوا: لا إنما أراد قتل هؤلاء ليستقل بملكك، ويفعل فيه ما لا يقدر أن يفعله معهم، وأنه قد استصغرك، واحتقر أمرك. تحرك الفرنج بغياب صلاح الدين وكانت حارم لسعد الدين كمشتكين، أقطعه إياها الملك الصالح، حين أخذها من بدر الدين حسن، فأنهي إلى الملك الصالح أن سعد الدين يريد أن يسلمها إلى الفرنج، لأن أصله فرنجي، وأنه قد قرر معهم أن يبيعها عليهم بمال وافر. والدليل على صدق ذلك أنه أطلق من كان بالقلعة، من أسرى الفرنج، من أيام نور الدين، وأطلق البرنس أرناط، فقطع الطريق بالكرك، وسير أمواله من حلب وغيبها. وكتب إليه رجل من الفرنج يقال له، الفارس بدران بشيء من ذلك، وبعث بعدة كتب من سعد الدين إلى الفرنج، تشهد بما أنهاه، ولعله وضع ذلك كله عليه، حتى نالوا غرضهم منه. فقبض الملك الصالح على سعد الدين، في التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث وسبعين، وكان قد جاء يطلب دستوراً إلى حارم، وطلب تسليمها منه، فامتنع. فحمل إليها تحت الحوطة، وجيء به إلى تحت قلعتها، وعذب،

فاستدعى بعض من يثق إليه من المستحفظين بالقلعة، وأسر إليهما أنهم لا يسلمونها، ولو قطع، ثم قال لهما جهراً: بعلامة كذا وكذا، سلموا. فصعد إلى القلعة، وأظهر من فيها العصيان والمقاتلة، فعذب عذاباً شديداً، وعلق برجليه، وسقط بالخل، والكلس. والدخان، وعصر، وأصحابه يشاهدونه، ولا يجيبون إلى التسليم. وخرج الفرنج من أنطاكية، يطلبون حارم، فتقدم الملك الصالح بخنق كمشتكين، فخنق بوتر، وأصحابه يشاهدونه ولا يسلمون، وكسروا يديه وعنقه، ورموه إلى خندق حارم، فحين علم الفرنج ذلك ساروا إلى شيزر. ودخل الملك الصالح إلى حلب، وخلف العسكر بأرض عم وجاشر، حول حارم، يمنعونها من الفرنج، ويباكرونها كل يوم لطلب التسليم، ومقدم العسكر طمان بن غازي وكان من أكبر الأمراء. وعاد الفرنج إلى حماة فحصروها، ولم يظفروا بطائل، وطمعوا في حارم، لعصيان أصحاب كمشتكين بها، وظنوا أن الملك الصالح صبي، وعسكره قليل، والملك الناصر بمصر، فلا ينجدهم إلا بعد أن يأخذوا حارم، فنزلوا عليها، ومعهم كند كبير من الفرنج، كان قد خرج من البحر إلى الساحل، يقال له كند قلنط لماني، ومعهم البرنس، وابن لاون، والقومص صاحب طرابلس، فندم من بحارم، حيث لم يسلموها إلى الملك الصالح. وحصرها الفرنج، وضايقوها بالمجانيق والسلالم، فصاح من فيها: صلاح الدين يا منصور! فأحضروا خيمة، كانوا أخذوها من خيم الملك الناصر في كسرة الرملة في هذه السنة، وأخبروهم بالكسرة ليضعفوا عزيمتهم، وعسكر حلب بإزائهم من عم إلى تيزين. ودخلت سنة أربع وسبعين: والفرنج مجدون على قتال حارم، ونقبوا في تل

القلعة، من جهة القبلة نقباً، ومن جهة الشمال آخر. فانهد السور على من تحته، وهو موضع البغلة، التي جددها السلطان الملك الظاهر قدس الله روحه. وامتنع القتال من تلك الناحية، خوفاً من وقوع شيء آخر. فأخرج المسلمون رجلاً من عندهم إلى طمان، يطلب الأمان من الملك الصالح والنجدة، فسير إلى الملك الصالح، وأعلمه. فانتخب الملك الصالح رجالاً أجلاداً من الحلبيين، وأعطاهم مالاً جزيلاً، وقال لهم: أريد منكم أن تدخلوا قلعة حارم، فجاءوا، والفرنج محدقون بها، في الليل، فسلكوا خيامهم مفرقين، حتى جاوزوها. وصاحوا بالتكبير والتهليل، وصعدوا القلعة، وصار فيها شوكة من المقاتلة، بعد أن كان قتل من المسلمين بها رجال عدة. والمسلمون أعني عسكر حلب إذ ذاك حول الفرنج جرايد، وأثقالهم بدير سمعان، وهم يتخطفون من يمكنهم أخذه من الفرنج ويحفظون أطراف البلد. وسار العسكر عند ذاك إلى دير أطمة، وصادفوا الفرنج في وطأة أطمة، فحملوا عليهم، فانهزموا وقتل من الفرنج، وأسر جماعة، فدام حصار الفرنج أربعة أشهر. وأرسل الملك الصالح إليهم، وقال: إن الملك الناصر واصل إلى الشام، وربما يسلم من بحارم إلى قلعتها، ويضحي في جواركم. وبذل لهم مالاً بمقدار ما أنفقوا مدة حصارهم لها. وانتظم الصلح، ورحلوا. وخرج الملك الصالح، فنزل على حارم، فسلمها إليه أصحاب كمشتكين، وصفح عن جرمهم، وولى فيها سرخك جمدار أبيه نور الدين. ودخل حلب وطالب نواب كمشتكين بماله، واعتقل ابن التنبي وزيره، فأحضر بعض المال، وعذب حتى أحضره، ثم هرب من الاعتقال. وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة، سعى جماعة بالقاضي محي الدين أبي حامد بن الشهرزوري، قاضي حلب، وقدحوا فيه عند جمال الدين شاذبخت،

وفاة إسماعيل بن نور الدين زنكي

وأوهموه أنه يميل إلى الملك الصالح، ووضعوا على لسانه أشعاراً نسبوها إليه، فأوجب ذلك استيحاشه، وتوجه إلى الموصل. وعرض القضاء على عمي أبي غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة فامتنع. فقلد والدي القضاء بحلب وأعمالها، وبقي على قضائها إلى أن مات الملك الصالح، وفي دولة عز الدين، وعماد الدين، ومدة من دولة السلطان الملك الناصر. وقبض الملك الصالح قرية للإسماعيلية تعرف بحجيرا من ضياع نقرة بني أسد، فكتب سنان إلى الملك الصالح كتباً عدة في إطلاقها، فلم يطلقها، فأرسل جماعة من الرجال معهم النفط والنار، فعمدوا إلى الدكان التي في رأس الزجاجين من الشرق في القرنة، فألقوا فيها النار. فنهض نائب رئيس البلد بمن معه في المربعة، والجماعة المرتبون لحراسة الأسواق، وأخذوا السقائين ليطفئوا الحريق، فأتى الإسماعيلية من أسطحة الأسواق، وألقوا النار والنفط في الأسواق، فاحترق سوق البز الكبير، وسوق العطارين، وسوق مجد الدين، المعد للبز، وسوق الخليع، وسوق الشراشين وهو الآن يعرف الكتانيين وسوق السراجين، والسوق الذي غربي الجامع، جميعه، إلى أن انتهى الحريق إلى المدرسة الحلاوية. واحترق للتجار والسوقية، من القماش والآلات شيء كثير، وافتقر كثير منهم بسبب ذلك، ولم يظفروا من الإسماعيلية بأحد، وذلك في سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ومات سيف الدين غازي، صاحب الموصل، ووليها أخوه عز الدين مسعود، وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة. وفاة إسماعيل بن نور الدين زنكي وكان الملك الصالح في هاتين السنتين رخي البال، مستقرا في مملكته، سالكاً في الإحسان إلى أهل حلب طريق أبيه. عفيف اليد والفرج واللسان، فقدر الله تعالى

أن حضر أجله، وله نحو من تسع عشرة سنة، فمرض بالقولنج، واشتد مرضه. فدخل إليه طبيبه ابن سكرة اليهودي، وقال له سرا: يا مولانا شفاؤك في الخمر، فإن رأيت أن تأذن لي في حمله في كفي، بحيث لا يطلع اللالا، ولا شاذبخت، ولا أحد من خلق الله على ذلك. فقال: يا حكيم، كنت والله أظنك عاقلاً. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " وما يؤمنني أن أموت عقيب شربها فألقى الله، والخمر في بطني، والله لو قال لي ملك من الملائكة: إن شفاءك في الخمر لما استعملته. حكي لي ذلك والدي عن ابن سكرة الطبيب. ولما أيس من نفسه أحضر الأمراء والمستحفظين، وأوصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال لهم بعضهم: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً، وهو زوج أختك، وكان والدك يحبه ويؤثره، وهو تولى تربيته، وليس له غير سنجار، فلو أعطيته البلد لكان أصلح، وعز الدين له من البلاد من الفرات إلى همذان، ولا حاجة له إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغب عني، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين، قد تغلب على البلاد الشامية، سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها، وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده. فاستحسنوا هذا القول منه، وعجبوا من حسن رأيه مع شدة مرضه، وصغر سنه. ثم مات يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رجب، من سنة سبع وسبعين وخمسمائة. ودفن بقلعة حلب، إلى أن ابتنت والدته الخانكاه تجاه القلعة، ونقل إليها في أيام، فسير الأمراء: جورديك، والبصيري وبرغش، وجمال الدين شاذبخت، النوريون، مع جماعة المماليك النورية، إلى عز الدين، يستدعونه، وجددوا الأيمان فيما بينهم له.

القسم الخامس والعشرون دخول عز الدين حلب

القسم الخامس والعشرون دخول عز الدين حلب وأما علم الدين سليمان بن جندر، وحسام الدين طمان بن غازي، وأهل الحاضر، فإنهم راسلوا عماد الدين صاحب سنجار، وكتموا أمرهم، وشاذبخت هو الوالي بالقلعة، والحافظ لخزانتها، والمدبر للأمور مع النورية، فسير إلى علم الدين سليمان، وحسام الدين طمان، وطلب منهما الموافقة في اليمين لعز الدين، فماطلا، ودافعا. فلما تأخر وصول عماد الدين عليهما، وافقا على اليمين لعز الذين. ولما وصل رسول الأمير إلى عز الدين، سار هو ومجد الدين قايماز إلى الفرات، فنرل على البيرة ووصجل شهاب الدين أخو عماد الدين مختفياً واجتمع بطمان وابن جندر، وأعلمهما أن عماد الدين في بعض الطريق، فأخبروه بأخذ اليمين عليهم، وأن تربصه بالحركة أحوجهم إلى ذلك، فعاد إليه أخوه وعرفه، فعاد إلى بلاده. وأما عز الدين، فحين وصل إلى البيرة أرسل إلى الأمراء الدين بحلب، واستدعاهم إليه. فخرجوا والتقوه بالبيرة، وساروا معه إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان. واستقبله مقدموها ورؤساؤها، وصعد إلى القلعة. وكان تقي الدين عمر، ابن أخي الملك الناصر بمنبج، فعزم على أن يحول بين عز الدين وحلب، حين وصل إلى البيرة لأنه وصل جريدة، وتخلف عنهم الغلمان والحشد، ثم إنه تثاقل هو وأصحابه عن ذلك. ولما وصل عز الدين إلى حلب، سار تقي الدين من منبج إلى حماة، وثار

أهل حماة، ونادوا بشعار عز الدين فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصدها، وقصد دمشق، وأطمعوه فيها وفي غيرها من الشام، وأعلموه محبة أهل الشام لأهل بيته. وكان الملك الناصر بالديار المصرية، فلم يفعل، وقال: بيننا يمين، ولا نغدر به. ولما بلغ الملك الناصر أخذ عز الدين حلب قال: خرجت حلب عن أيدينا، ولم يبق لنا فيها طمع. وأقام عز الدين بحلب، فسير إليه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود، وقال كيف: تختص أنت ببلاد عمي وابنه وبأمواله، دوني. وهذا أمر لا صبر لي عنه. وطلب منه تسليم حلب إليه، وأن يأخذ منه سنجار عوضاً عنها. فامتنع عز الدين، ولم يجبه إلى ما أراد، فأرسل إليه وهدده بأن يسلم سنجار إلى الملك الناصر فيضايق الموصل بها. فأشار عليه طائفة من الأمراء بأخذ سنجار منه وإعطائه حلب. وكان أشد الناس في ذلك مجاهد الدين، وهو الذي كان يتولى تدبيره. وكان أمراء حلب لا يلتفتون إلى مجاهد الدين، ولا يسلكون معه ما يسلكه عسكر الموصل، فلذلك ميل عز الدين إلى ذلك. وشرع عز الدين في الميل إلى الأمراء، الدين حلفوا له أولاً، والإعراض عن الذين مالوا إلى أخيه عماد الدين، وأحسن إلى أهل حلب، وخلع عليهم، وأجراهم على عادتهم في أيام عمه نور الدين، وابنه الملك الصالح، وأبقى قاضيها والدي، وخطيبها عمي، ورئيسها صفي الدين طارق ابن الطريرة لما على ولاياتهم، وولى بقلعة حلب شهاب الدين إسحاق بن أميرك الجاندار، صاحب الرقة. وأبقي شاذبخت في القلعة ناظراً معه، وولى مدينة حلب والديوان مظفر الدين بن زين الدين.

وكان الصلح قد انفسخ، بموت الملك الصالح، بين الفرنج والمسلمين. وكانت شيح الحديد مناصفة بين المسلمين والفرنج، فأضافها عسكر حلب، قبل وصول عز الدين إلى الدربساك واختصوا بها دون الفرنج، وحضر أهلها إلى طمان، فأعطاهم الأمان. فلما وصل عز الدين، سير العساكر إلى ناحية لاحارم، وحاولوا نهب العمق فانحاز أهله كلهم إلى شيح لعلمهم بأن طماناً أمنهم، فأراد عسكر الموصل أن ينهبوها، فقال لهم: إن شيح لحلب، وإنهم في أماني. فلم يتلفتوا إلى قوله، وسار واليها ليلاً، فسبقهم إلى المخاض، ووقف في وجوههم يردهم، فقتل منهم جماعة. ثم تكاثروا وعبروا، فسبقهم طمان إلى شيح، وأمرهم أن يجعلوا النساء في المغاير ودربها. فوصل عسكر الموصل، فرأوا ذلك، فعزموا على القتال، فصاح طمان: إذا كنتم تخفرون ذمتي، فأنا أرحل إلى الفرنج. وسار فى أصحابه إلى أن قرب من يغرا فوصله من أخبره بأنهم عادوا عنها، ولم ينالوا منها طائلاً. وخافوا من ملامة عز الدين، فعاد طمان، ونزل كل منهم في خيامه بحارم. وكاتب المواصلة عز الدين، يطعنون على طمان، وإنه وافق أهل شيح، في العصيان، وأراد اللحاق بالفرنج، فأحضر طمان والمواصلة، وتقابلوا بين يديه. فقال لعز الدين: الحق مع حسام الدين، ولا يجور نقض العهد لواحد من المسلمين. وكان ذلك في شهر رمضان من السنة. وبقيت المواحشة بين أمراء حلب والمواصلة، والحلبيون لا يرون التغاضي لمجاهد الدين. ومجاهد الدين يحاول أن يكونوا معه كأمراء الموصل. والأمراء الحلبيون يمنون عليه بأنهم اختاروه لهذا الأمر، ويطلبون منه الزيادة، ويختلق المواصلة عليهم الأكاذيب. فهرب الأمير علم الدين سليمان بن جندر، قاصداً الملك الناصر إلى مصر.

فقالوا لعز الدين: إن طماناً سيهرب بعده، فأمر عز الدين مظفر الدين بن زين الدين، وبني الغراف، والجرايحي وغيرهم أن يميدوا من السعدي إلى المباركة في طريقه، وأن يقف جماعة حول دار طمان وكان يسكن خارج المدينة. فلما لم يجر من طمان شيء من ذلك، جاؤوا إليه نصف الليل، وطلبوه، فخرج إليهم، فوجد ابن زين الدين وبني الغراف، فسألهم عما يريدون، فقالوا. إنه أنهي إلىعز الدين بأنك تريد الهرب، وقد أمرنا بأن نعوقك فقال: والله ما لهذا صحة، ولو أردت المسير عن حلب لمضيت لا على وجه الخفية، ولا أخاف من أحد. فجعلوا لهم طريقاً آخر إلى نيل غرضهم، وأصبحوا، وعز الدين منتظر ما يكون، فقالوا له: كان قد عزم على الهرب، فلما علم أن الطريق قد أخذ عليه، وأن الدار قد أحيط بها آخر ذلك إلى وقت ينتهز فيه الفرصة، والمصلحة قبضه قبل هربه. فأمرهم بأن يقبضوه محترماً، ويحضروه إليه. فجاؤه ليلاً، من أعلى الدار وأسفلها، وأزعجوه، وكان نائماً، فخرج إلى الباب، فوجد مظفر الدين بن زين الدين مع بني الغراف، فقالوا له: إن المولى عز الدين قد أمرنا بالقبض عليك. فقال لهم: السمع والطاعة، فشأنكم وما أمرتم به، فأركبوه، وحملوه، والرجال محيطة به، وفتحوا باليل باب القلعة، واعتقلوه بها غير مضيق عليه. وأحضره عز الدين، ووانسه، وقال: لم أفعل ما فعلت إلا لشدة رغبتي فيك، وافتقاري إلى مثلك، فعرفه ما ينطوي عليه، وأن ما نقل عنه لم يخطر بباله. فقال: إن وقيعة أعدائك فيك، لم تردك عندي إلا حظوة. وبقي معتقلاً في القلعة أسبوعاً، ثم خلع عليه، وأطلقه وزاد في أقطاعه الأخترين. وأقام عز الدين حتى انقضت مدة الشتاء، ثم تزوج أم الملك الصالح، في خامس شوال من السنة، ثم سيرها إلى الموصل، واستولى على جميع الخزائن التي

دخول عماد الدين حلب بعد المقايضة

كانت لنور الدين وولده بقلعة حلب، وما كان فيها من السلاح، والزرد والقسي، والخوذ، والبركسطونات، والنشاب، والآلات، ولم يترك فيها إلا شيئاً يسيراً من السلاح العتيق، وسير ذلك كله إلى الرقة. وترك في قلعة حلب ولده نور الدين محموداً طفلاً صغيراً، ورد أمره إلى الوالي بالقلعة: شهاب الدين إسحاق، وسلم البلد والعسكر إلى مظفر الدين بن زين الدين. وسار إلى الرقة، سادس عشر شوال، فأقام بها فصل الربيع. دخول عماد الدين حلب بعد المقايضة وراسل أخاه عماد الدين، في المقايضة بسنجار، ليتوفر على حفظ بلاده، ويضم بعضها إلى بعض، ولعلمه أنه يحتاج إلى الإقامة بالشام، لتعلق أطماع الملك الناصر بحلب. وقدم عليه أخوه. واستقرت المقايضة على ذلك، وتحالفا على أن تكون حلب وأعمالها لعماد الدين وسنجار وأعمالها لعز الدين. وأن كل واحد منهما ينجد صاحبه، وأن يكون طمان مع عماد الدين، فسير طمان، وصعد إلى قلعة حلب، وكان معهم علامة من عز الدين، فتسلمها، وسير عز الدين من تسلم سنجار. وفي حال طلوع طمان، ونقل الوالي متاعه، طمع مظفر الدين بن زين الدين بأن يملك القلعة، ووافقه جماعة من الحلبيين كانوا بقربه، في الدار المعروفة بشمس الدين علي ابن الداية وجماعة من الأجناد، ولبس هو رردية، تحت قبائه، وألبس جماعة من أصحابه الزرد تحت الثياب، ومع كل واحد منهم سيف. وأرسل إلى شهاب الدين، وقال: له إنه وصلني كتاب من أتابك عز الدين، وأمرني أن أطلع في جماعة إليك، فأمره بالصعود. وكان جمال الدين شاذبخت، في حوش القلعة الشرقي، الذي هدمه الملك العادل وكان بين الجسرين اللذين جددهما السلطان الملك الظاهر رحمه الله وعمل مكان ذلك الحوش بغلة فرأى الجند مجتمعين تحت القلعة، فسير شاذبخت، وأحضر بواباً كان للقلعة، يقال له علي بن منيعة وكان جلداً يقظاً، وأمره بالاحتراز.

فلما أن أراد أن يدخل من باب القلعة، تقدم إليه، وقال له: لا تدخل إلا أنت وحدك. وكان في ركابه جماعة فمنعوهم. فلم يتتم له ما أراد. وعاد ابن زين الدين إلى داره، وقيل إن ابن مقبل الاسباسلار، قال له: أنت تصعد إلى القلعة، فما هذا الزرد عليك؟ فعاد، وجعل يعتذر عما شاع في الناس من فعله. وكتب شهاب الدين الوالي وجمال الدين شاذبخت إلى عز الدين كتاباً بخط حسين بن يلدك، إمام المقام. وأخذ تحته خطوط الأجناد، والنقيب، والاسباسلار. فلم يمكن عز الدين مكاشفته في ذلك، لقرب الملك الناصر من البلاد. وبعث مظفر الدين إلى عز الدين يعتذر، ويقول: إن الإسماعيلية أوعدوني القتل، وما أمكنني إلا الاحتراز بالسلاح، أنا، ومن معي، وأنكر الحفظة بالقلعة ذلك علي، ولم يكن ذلك لأمر غير ما ذكرته. فلم يقابله على ذلك. وأما طمان، فإنه قبض على الجماعة الذين كانوا معه، وحبسهم في القلعة، واطلع على ما كانوا أضمروه، وأطلقهم في اليوم الثاني، وستر هذا الأمر. ثم وصل قطب الدين بن عماد الدين إلى حلب، ثم ورد أبوه عماد الدين، فوصل بأهله، وماله، وأجناده، زوجته بنت نور الدين. ووصل على البرية من جهة الأحمص. والتقاه الأكابر من الحلبيين. وصعد إلى قلعة حلب، في ثالث عشر المحرم، من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وقيل في مستهله. وولى القلعة عبد الصمد بن الحكاك الموصلي، والعسكر، والخزائن، والنظر في أحوال القلعة إلى مجاهد الدين بزغش. وأنرل شاذبخت من القلعة. والقضاء، والخطابة والرئاسة، على ما كان عليه، في أيام أخيه وابن عمه. وولى الوزارة بهاء الدين أبا الفتح نصر بن محضد بن القيسراني، أخا موفق الدين خالد، وزير نور الدين واستمر الشيعة في أيامه، وأيام أخيه، على قاعدتهم، قي أقرهم عليها الملك الصالح، من إقامة شعارهم بالشرقية، بالمسجد الجامع. وأبقي سرخك في حارم على ما كان عليه. وحكم شاذبخت في عزاز

صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام

وقلعتها وهو وكيل عن ابنة نور الدين التي أطلقها الملك الناصر لها وصالح الفرنج. وجرى في الإحسان إلى أهل حلب، على قاعدة عمه وابن عمه وأخيه. ولما بلغ الملك الناصر حديث حلب وأخذ عماد الدين إياها، قال: أخذنا والله حلب. فقيل له: كيف قلت في عز الدين أخذها خرجت حلب عن أيدينا، وقلت: حين أخذها عماد الدين، أخذنا حلب. فقال: لأن عز الدين ملك صاحب رجال ومال، وعماد الدين، لا مال ولا رجال. صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام وخرج الملك الناصر، من مصر في خامس المحرم من هذه السنة. وخرج الناس يودعونه، ويسيرون معه ويتأسفون على فراقه، وكان معه معلم لبعض أولاده، فالتفت إلى بعض الحاضرين، وأنشد: تمتع من شميم عرار " نجد " ... فما بعد العشية من عرار فانقبض السلطان، وتطير. فقدر أنه لم يعد إلى مصر، إلى أن مات، مع طول مدته، واتساع ملكه في غيرها. وسار على أيلة وأغار على بلاد الفرنج في طريقه. ووصل دمشق في صفر. ثم خرج منها إلى ناحية الغور، فأغار على ناحية طبرية وبيسان، وعاد إلى دمشق. ثم خرج إلى بيروت، ونارلها، واجتمع الفرنج فرحلوه عنها. فدخل إلى دمشق. وبلغه أن المواصلة كاتبوا الفرنج على قتاله، فجعل ذلك حجة عليهم.

صلاح الدين في أرض الجزيرة

وسار حتى نزل على حلب، في ثامن عشر من جمادى الأولى، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ونزل على عين أشمونيت، وامتد عسكره حولها شرقاً، وأقام ثلاثة أيام، فقال له عماد الدين: امض إلى سنجار، وخذها وادفعها إلي، وأنا أعطيك حلب. وكان عماد الدين قد ندم على مقايضة أخيه بحلب وسنجار، حيث وصل ووجد خزائنها صفراً من المال، وقلعتها خالية من العدد والسلاح والآلات، وأنه يجاور مثل الملك الناصر فيها. فعند ذلك سار لا الملك الناصر إلى عبر البيرة، وكان صاحبها شهاب الدين ابن أرتق قد صار في طاعته. فعبر إليه مظفر الدين بن زين الدين إلى الناحية الشامية، وحران، إذ ذاك في يده، كان أقطعه إياهاعز الدين صاحب الموصل. وحصلت بينه وبينه وحشة من الوقت الذي عزم فيه على أخذ قلعة حلب، فكانت رسله تتردد إلى الملك الناصر، تطمعه في البلاد، وتحثه على الوصول. وعاد ابن زين الدين معه حتى عبر الفرات في جسر البيرة، وكان عز الدين قد وصل بعساكر الموصل إلى دارا، ليمنع الملك الناصر من حلب، فلما عبر الفرات عاد إلى الموصل. صلاح الدين في أرض الجزيرة وعبر الملك الناصر، فأخذ الرها من ابن الرعفراني، وسلمها إلى ابن زين الدين، وأخذ الرقة من ابن حسان، ودفعها إلى ابن الرعفراني. وكاتب ملوك الشرق فأطاعوه، وقصد نضيبين، فأخذها. وسار إلى الموصل، وفيها عسكر قوي، فقوتل قتالاً شديداً، ولم يظفر منها

بطائل، فرحل عنها إلى سنجار، فأنفذ مجاهد الدين إليها عسكراً، فمنعه الملك الناصر من الوصول. وحاصر سنجار، فسلمها إليه أمير من الأكراد الزرزارية، وكان في برج من أبراجها فسلم إليه تلك الناحية وصارت الباشورة معه فضعفت نفس واليها أمير أميران أخي عز الدين، فسلمها بالأمان، في ثاني شهر رمضان من السنة، وقرر الملك الناصر أمورها، وعاد إلى حران. ولما قصد الملك الناصر البلاد الشرقية، رأى عماد الدين أن يخرب المعاقل المطيفة ببلد حلب، فشن الغارات على شاطىء الفرات، وهدم حصن بالس، وحصر قليعة ناعر ففتحها، ثم هدمها بعد ذلك، وأغار على قرى الشط، فأخربها واستاق مواشيها، وأحرق جسر قلعة جعبر. ثم وصل إلى منبج وقاتلها، وأغار على بلدها، ووصلت الغارة إلى قلعة نجم، وعبر الفرات، فأغار على سروج. ثم عاد إلى حلب، ثم خرج وهدم حصن الكرزين وخرب حصن بزاعا وقلعة عزاز، في جمادى الآخرة، وخرب حصن كفرلاثا بعد أخذه من صاحبه بكمش، وكان قد استأمن إلى الملك الناصر، وضاق الحال عليه، فشرع في قطع جامكية أجناد من القلعة، وقتر على نفسه في النفقات. وأما الملك الناصر، فرحل من حران فنرل بحرزم تحت قلعة ماردين. فلم ير فيها طمعاً، فسار إلى آمد، في ذي الحجة. وكان قد وعد

نور الدين محمد بن قرا أرسلان بأخذها من ابن نيسان، وتسليمها إليه، وحلف له على ذلك، فتسلمها في العشر الأول، من المحرم من سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وكان فيها من المال شيء عظيم. فسلم ذلك كله مع البلد إلى نور الدين، وقيل له في أخذ الأموال وتسليم البلد، فقال: ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع.

القسم السادس والعشرون صلاح الدين يحاصر حلب

القسم السادس والعشرون صلاح الدين يحاصر حلب ثم إن الملك الناصر عبر إلى الشام، فمر بتل خالد فحصرها، فسلمها أهلها بالأمان في المحرم. ثم سار منها إلى عين تاب، وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الخزندار، فدخل في طاعته، فأبقاها عليه. ولما علم عماد الدين ذلك، وتحقق قصده لحلب، أخذ رهائن الحلبيين، وأصعد جماعة من أولادهم وأقاربهم، خوفاً من تسليم البلد، وقسم الأبراج والأبواب على جماعة من الأمراء. وكان الأمراء الياروقية بها في شوكتهم. وجاء الملك الناصر، ونزل على حلب في السادس والعشرين من محرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وامتد عسكره من بابلى إلى النهر ممتداً إلى باسلين، ونزل هو على الخناقية، وقاتل عسكر حلب قتالاً عظيماً، في ذلك اليوم، وأسر حسام الدين محمود بن الختلو، بالقرب من بانقوسا، وهو الذي تولى شحنكية حلب، فيما بعد. وهجم تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو الملك الناصر، على عسكر حلب، فضرب بنشاب زنبورك فأصاب ركبته، فوقع في الأكحل، فبقي أياماً، ومات بعد

فتح حلب، ودفن بتربة شهاب الدين الحارمي، بالمقام، ثم نقل إلى دمشق. وجد الملك الناصر، بسبب أخيه على محاصرة حلب أياماً، فاجتمع إليه الأجناد من العسكر والرجال، وطلبوا منه قرارهم فمطلهم، فقالوا: قد ذهبت أخبارنا، ونحتاج لغلاء الأسعار إلى ما لا بد منه، وشح بماله، فقال لهم: أنتم تعلمون حالي، وقلة مالي، وأنني تسلمت حلب صفراً من الأموال، وضياعها في أقطاعكم. فقال له بعضهم: من يريد حلب يحتاج إلى أن يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه، فأحضر أواني من الذهب والفضة، وغيرها، وباع ذلك، وأنفقه فيهم. وكان الحلبيون يخرجون على جاري عادتهم، ويقاتلون أشد قتال بغير جامكية، ولا قرار، نخوة على البلد، ومحبة لملكهم، فأفكر عماد الدين، ورأى أنه لا قبل له بالملك الناصر، وأن ماله ينفد ولا يفيده شيئاً، فخلا ليلة بطمان، وقال له: ما عندك في أمرنا. هذا الملك الناصر، قد نزل محاصراً لنا، وهو ملك قوي، ذو مال. والظاهر أنه يطيل الحصار، وتعلم أنني أخذت حلب خالية من الخزائن، والجند يطالبونني وليس لي من المال ما يكفيني لمصابرته. ولا أدري عاقبة هذا الأمر إلى ما ينتهي. فأحس طمان عند ذلك بما قد حصل في نفسه، فقال له: أنا أذكر لك ما عندي، على شريطة الكتمان والاحتياط بالمواثيق والأيمان، على أن لا يطلع أحد على ما يدور بيننا، فإن هؤلاء الأمراء إن اطلعوا على شيء مما نحن فيه أفسدوه، وانعكس الغرض. فتحالفا على كتمان ذلك، فقال له طمان: أرى من الرأي في حلب أن تسلمها إلى الملك الناصر، بجاهها، وحرمتها، قبل أن تنتهك حرمتها، ويضعف أمرها، وتفنى الأموال، وتضجر الرجال، ويستغل بلدها فيتقوى هو وعسكره به، ونحن لا نزداد إلا ضعفاً. والآن فنحن عندنا قوة، ونأخذ منه ما نريد من الأموال والبلاد.

التهيئة للتسليم والاستلام

نستريح من الأجناد وإلحاحهم في الطلب. ثم قد أصبح ملكاً عظيماً، وهو صاحب مصر، وأكثر الشام، وملوك الشرق فقد أطاعوه ومعظم الجزيرة في يده. فقال له: والله هذا الذي قلته كله رأيي، وهو الذي وقع لي، فاخرج إليه، تحدث معه على أن يعطيني: الخابور، وسنجارة وأي شيء قدرت على أن ترداده فافعل، واطلب الرقة لنفسك. ثم إن طمان كتم ذلك الأمر، وباكر القتال، وأظهر أن بداره واصطبله بالحاضر خشباً عظيماً، وأنه يريد نقضها، كيلا يحرقها العسكر، فكان يبيت كل ليلة في داره، خارج المدينة. ويجتمع بالسلطان الملك الناصر، خالياً، ويرتب الأمور معه، ويجيء إلى عماد الدين ويقرر الحال معه، وينزل، ويصعد إلى القلعة من برج المنشار، وكان عند باب الجبل الآن متصلاً بالمنشار إلى أن قرر مع الملك الناصر: أن يأخذ حلب وعملها، ولا يأخذ معها شيئاً من أموالها، وذخائرها، وجميع ما فيها من الآلات والسلاح، وأن يعطي عماد الدين عوضاً عنها: سنجار، والخابور، ونصيبين، وسروج، وأن يكون لطمان الرقة، ويكون مع عماد الدين. وشرط عليه أن تكون الخطابة والقضاء للحنفية بحلب، في بني العديم، على ما هي عليه، كما كان في دولة الملك الصالح، وأن لا ينقل إلى الشافعية. هذا كله يتقرر، والقتال في كل يوم بين العسكرين على حاله. وليس عند الطائفتين علم بما يجري. ويخرج من الحلبيين في كل يوم عشرة آلاف مقاتل أو أكثر، يقاتلون أشد قتال. التهيئة للتسليم والاستلام ولم يعلم أحد من الأمراء ولا من أهل البلد، حتى صعدت أعلام الملك الناصر على القلعة، بعد أن توثق كل واحد من الملكين من صاحبه بالأيمان. فأسقط في أيدي أهل حلب والأمراء من الياروقية، وغيرهم. وخاف الياروقية على أخبارهم، والحلبيون على أنفسهم، تكرر منهم من قتال الملك الناصر، مرة بعد أخرى، في أيام الملك الصالح. وصرح العوام بسبه، وحمل رجل من الحلبيين يقال له سيف بن المؤذن

إجانة الغسال. وصار بها إلى تحت الطيارة بالقلعة، وعماد الدين جالس بها يشير إليه أن يغسل فيها كالمخانيث، ونادى إليه: يا عماد الدين، نحن نقاتل بلا جامكية ولا جراية، فما حملك على أن فعلت ما فعلت. وقيل: إن بعضهم رماه بالنشاب، فوقع في وسط الطيارة، وعمل عوام حلب أشعاراً عامية، كانوا يغنون بها، ويدقون على طبيلاتهم بها، منها: أحباب قلبي لاتلوموني ... هذا عماد الدين مجنون قايض بسنجار لقلعة حلب ... وزاده المولى نصيبين ودق آخر على طبله، وقال مشيراً إلى عماد الدين: وبعت بسنجار قلعة حلب ... عدمتك من بايع مشتري خريت على حلب خرية ... نسخت بها خرية " الأشعري " وصعد إليه صفي الدين رئيس البلد ووبخه على ما فعل، وهو في قلعة حلب لم يخرج منها بعد، فقال له عماد الدين: فما فات، فاستهزأ به. وأنفذ عسكر حلب وأهلها، إلى السلطان الملك الناصر: عز الدين جورديك، وزين الدين بلك، فاستحلفوه للعسكر ولأهل البلد، في سابع عشر صفر، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وخرجت العساكر ومقدمو حلب إليه إلى، الميدان الأخضر، وخلع عليهم، وطيب قلوبهم. ولما استقر أمر الصلح، حضر الملك الناصر صلاح الدين عند أخيه تاج الملوك، الخناقية يعوده وقال له: هذه حلب، قد أخذناها، وهي لك فقال: لو كان وأنا حي، ووالله، لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي. فبكى الملك الناصر والحاضرون. وأقام عماد الدين بالقلعة، يقضي أشغاله، وينقل أقمشته، وخزائنه،

دخول صلاح الدين قلعة حلب

والسلطان الملك الناصر مقيم بالميدان الأخضر، إلى يوم الخميس ثالث وعشرين من صفر. فنرل عماد الدين من القلعة ورتب فيها طمان مقيماً بها، إلى أن يتسلم نواب عماد الدين ما اعتاض به عن حلب، واستنابه في بيع جميع ما كان في قلعة حلب، حتى باع الأغلاق والخوابي، واشترى الملك الناصر منها شيئاً كثيراً. ونرل عماد الدين، في ذلك اليوم إلى السلطان الملك الناصر وعمل له السلطان وليمة واحتفل وقدم لعماد الدين أشياء فاخرة من الخيل والعدد، والمتاع الفاخر. وهم في ذلك إذ جاءه بعض أصحابه وأسر إليه بموت أخيه تاج الملوك لما، فلم يظهر جزعاً ولا هلعاً، وكتم ذلك عن عماد الدين، إلى أن انقضى المجلس، وأمرهم بتجهيزه. دخول صلاح الدين قلعة حلب فلما انقضى أمر الدعوة، وعلم عماد الدين بعد ذلك عزاه عن أخيه، وسار السلطان الملك الناصر معه مشيعاً في ذلك اليوم، فسار حتى نرل مرج قراحصار فنرل به، والسلطان في خيمته إلى أن وصل عماد الدين رسل أصحابه يخبرونه بأنهم تسلموا سنجار، والمواضع التي تقررت له معها، فرفعت أعلام الملك الناصر، عند ذلك على القلعة. وصعد إليها في يوم الاثنين السابع والعشرين، من صفر، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة. حارم وتل خالد وعزاز وامتنع سرخك، والي حارم، من تسليمها إلى السلطان الملك الناصر، فبذل له ما يجب من الإقطاع، فاشتط في الطلب. وراسل الفرنج، ليستنجد بهم، فسمع بعض الأجناد، بقلعة حارم، ذلك، فخافوا أن يسلمها إلى الفرنج، فوثبوا عليه، وحبسوه، وأرسلوا إلى السلطان، يعلمونه ذلك، ويطلبون منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ذلك وتسلمها.

صلاح الدين والفرنج

وأقر عين تاب بيد صاحبها، وسلم تل خالد إلى بدر الدين دلدرم، صاحب تل باشر، وكان من كبار الياروقية. وأقطع عزاز الأمير علم الدين سليمان بن جندر. وولى الملك الناصر قلعة حلب سيف الدين يازكج الأسدي. وولى شحنكية حلب حسام الدين تميرك بن يونس، وولى ديوان حلب ناصح الدين ابن العميد الدمشقي. وأبقى الرئيس صفي الدين طارق بن أبي غانم ابن الطريرة، في منصبه على حاله، وزاد إقطاعه. وكان الفقيه عيسى كثير التعصب، فما رال به، حتى نقل الخطابة عن الحنفية إلى الشافعية، وعزل عنها عمي أبو المعالي. ووليها أبو البركات سعيد بن هاشم. وفعل في القضاء كذلك، فسير إلى القاضي محيي الدين محمد بن زكي الدين علي إلى دمشق، بسفارة القاضي الفاضل، فأحضر إلى حلب وولي قضاءها، وعزل والدي عن القضاء، وامتدحه محيي الدين بن الزكي، بقصيدة بائية، قال فيها: وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب فاتفق من أحسن الإتفاقات، وأعجبها، فتح القدس في شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وأقام محيي الدين في القضاء بحلب مدة، ثم استناب القاضي زين الدين أبا البيان نبأ بن البانياسي في قضاء حلب، وطار إلى بلده دمشق. ثم إن السلطان الملك الناصر أقام بحلب، ورحل منها في الثاني والعشرين من ربيع الآخر، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وجعل فيها ولده الملك الظاهر غازي وكان صبياً وجعل تدبير أمره إلى سيف الدين يازكج. صلاح الدين والفرنج وسار إلى دمشق، ثم خرج إلى الغزاة في جمادى الآخرة، وسار إلى

بيسان، وقد هرب أهلها، فخربها، ونهبها، وخرب حصنها. ثم سار إلى عفر بلا، فخربها، وجرد قطعة من العسكر، فخربوا الناصرة والفولة وما حولهما من الضياع. وجاء الفرنج فنزلوا عين الجالوت، ودار المسلمون بهم، وبثوا السرايا في ديارهم، للغارة والنهب، ووقع جورديك، وجاولي الأسدي، وجماعة من النورية على عسكر الكرك والشوبك، سائرين في نجدة الفرنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا مائة نفر، وعادوا. وجرى للمسلمين مع الفرنج وقعات، ولم يتجاسروا على الخروج للمصاف، وعاد السلطان إلى الطور في سابع عشر جمادى الآخرة. فنرل تحت الجبل، مترقباً رحيلهم ليجد فرصة، فأصبحوا، ورحلوا راجعين على أعقابهم. ورحل نحوهم، وناوشهم العسكر الإسلاي، فلم يخرجوا إليهم، والمسلمون حولهم، حتى نزلوا الفولة راجعين. وفرغ أزواد المسلمين. فعادوا إلى دمشق، ودخل السلطان دمشق، في رابع وعشرين من جمادى الآخرة ثم عزم علىغزو الكرك، فخرج إليها في رجب، وكتب إلى أخيه الملك العادل، وأمره أن يلتقيه إلى الكرك، وسار السلطان إلى الكرك، وحاصرها، ونهب أعمالها، وهجم ربضها، في رابع شعبان. وهدم سورها بالمنجنيقات،

حلب وأبو بكر بن أيوب

وأعجزه طم خندقها. ووصلت الفرنج لنجدتها فلما اجتمعوا بالجليل، رحل عنها، ونزل بإزائها. حلب وأبو بكر بن أيوب ووصل أخوه الملك العادل، من مصر، وعقد لابن أخيه تقي الدين عمر، على ولايتها. فسار إليها في نصف شعبان. وعاد السلطان الملك الناصر إلى دمشق، والملك العادل أخوه معه، فعقد له على ولاية حلب، وسار إليها في ثاني شهر رمضان، فوصلها، وصعد قلعتها في يوم الجمعة، ثاني وعشرين من شهر رمضان. وخرج السلطان الملك الظاهر منها ومعه يازكجا، فوصل إلى والده في شوال. ويقال إن الملك العادل دفع إلى السلطان، لأجل حلب، ثلاثمائة ألف دينار مصرية، وقيل دون ذلك. وكان السلطان محتاجاً إليها لأجل الغزاة، فلذلك سلم إليه حلب، وأخذها من ولده ولما دخلها الملك العادل، ولى بقلعتها صارم الدين بزغش، وولى الديوان والأقطاع والجند، واستهداء الأموال، وشحنكية البلد: شجاع الدين محمد بن بزغش البصراوي، واستكتب الصنيعة ابن النخال وكان نصرانياً فأسلم على يديه. وولى وقوف الجامع فخر الدين أحمد بن عبد الله بن القصري، وأمره بتجديد المساجد الداثرة بحلب، والقيام بمصالحها، وتوفير أوقافها عليها، وأن لا يتعرض بوقف المسجد الجامع، بل يوفر وقفه على مصالحه، ولا يرفع إلى الزردخاناه إلا ما فضل عن ذلك كله. وجدد في أيامه مساجد متعددة كانت قد تهدمت. ووقع في أيامه وقعة بين الحنفية والشافعية، وصار بينهم جراح، فصنع لهم الملك العادل دعوة في الميدان الأخضر، وأصلح بين الفريقين، وخلع على الأكابر من الفقهاء والمدرسين. وهدم الحوش. القبلي الشرقي الذي كان للقلعة، وهو ما بين

خبر شيخ الشيوخ

الجسرين تحت المركز، ورأى أن يسفحه، فسفحه السلطان الملك الظاهر بعده، وكتب عليه اسمه بالسواد إلى أن غاب في أيام ابنه الملك العزيز فجدد، وزالت الكتابة، وبقي بعضها. خبر شيخ الشيوخ ووصل رسول الخليفة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل، إلى السلطان الملك الناصر، في الإصلاح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل وورد معه في الموصل القاضي محيي الدين أبو حامد بن الشهرزوري، الذي كان قاضي حلب ثم تولى قضاء الموصل، القاضي بهاء الدين أبو المحاسن بن شداد، الذي صار قاضي عسكر السلطان الملك الناصر، وولي قضاء حلب في أيام ابنه الملك الظاهر. ولم يتفق الصلح بينهما. وحضرني حكاية جرت لشيخ الشيوخ مع محي الدين، في هذه السفرة، وذلك أن شيخ الشيوخ كان قد وصل إلى السلطان الملك الناصر، وهو محاصر للموصل، ليصلح بينه وبين عز الدين، في المحاصرة الأولى، فلم يتفق الصلح، واتهم أهل الموصل شيخ الشيوخ بالميل مع الملك الناصر، فعمل محيي الدين فيه أبياتاً منها: بعثت رسولاً أم بعثت محرضاً ... على القتل تستجلي القتال وتستحلي؟ وقال فيها مخاطباً للإمام الناصر: فلا تغترر منه بفضل تنمس ... فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي فبلغت الأبيات شيخ الشيوخ. فلما اجتمعا في هذه السفرة وتباسطا، قال له شيخ الشيوخ: كيف تلك الأبيات التي عملتها في. فغالطه عنها، فأقسم عليه بالله أن يتشده إياها، فذكرها له، حتى أنشده البيت الذي ذكرناه أولاً، فقال: والله لقد ظلمتني، وإنني والله، اجتهدت في الإصلاح فما اتفق، فأنشده تمامها، حتى بلغ إلى قوله: فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي. فقال: والله لقد صدقت، فما هكذا كان الجنيد ولا الشبلي، أدور على أبواب الملوك من باب هذا إلى باب هذا.

غزو الكرك ونابلس وسبسطية وجنين

ثم إن الرسل ساروا عن غير زبدة، وتوجه الملك العادل من حلب في ذي الحجة، وعيد عند أخيه بدمشق، ثم عاد إلى حلب. غزو الكرك ونابلس وسبسطية وجنين واهتم السلطان الملك الناصر، في سنة ثمانين وخمسمائة، لغزاة الكرك، فوصل إليه نور الدين بن قرا أرسلان، واجتاز بحلب، فأكرمه الملك العادل، وأطلعه إلى قلعتها في صفر، ثم رحل معه إلى دمشق، فخرج السلطان، والتقاه على عبر الجسر، بالبقاع. ثم تقدم إلى دمشق ولحقاتا وتأهب للغزاة، وخرج إلى الكرك، واستحضر العساكر المصرية، فوصل تقي الدين ابن أخيه، ومعه بيت الملك العادل، وخزائنه، فسيرهم إلى حلب. ونازل الكرك، وأحدقت العساكر بها، وهجموا الربض، وبينه وبين القلعة خندق وهما جميعاً على سطح جبل، وسدوا أكثر الخندق، وقاربوا فتح الحصن، وكانت للبرنس أرناط فكاتب من فيها الفرنج، فوصلوا في جموعهم إلى موضع يعرف ب " الواله "، فسير الملك الناصر الأثقال، ورحل بعد أن هدم الحصن بالمنجنيقات. ورحل عنها في جمادى الآخرة، وأمر بعض العسكر فدخلوا إلى بلاد الفرنج، فهجموا نابلس، ونهبوها، وخربوها، واستنقذوا منها أسرى من المسلمين، وفعلوا في سبسطية وجينين مثل ذلك، وعادوا ودخلوا دمشق مع السلطان.

نحو حران والموصل وميافارقين

نحو حران والموصل وميافارقين ووصل إليه: شيخ الشيوخ بالخلع، من الخليفة الناصر، له ولأخيه الملك العادل، ولابن عمه ناصر الدين، فلبسوها، ثم خلع السلطان، بعد أيام خلعته الواردة من الخليفة على نور الدين بن قرا أرسلان. وورد إليه رسول مظفر الدين بن زين الدين، يخبره أن عسكر لا الموصل، وعسكر قزل نزلوا على إربل، وأنهم نهبوا وأخربوا، وأنه انتصر عليهم، ويشير عليه بقصد الموصل، ويقوي طمعه، وبذل له إذا سار إليه خمسين ألف دينار، فعند ذلك هادن الفرنج مدة. ورحل من دمشق في ذي القعدة من سنة ثمانين، فوصل حلب وأقام بها إلى أن خرجت السنة. وسار منها إلى حران، والتقاه مظفر الدين بالبيرة، في المحرم سنة إحدى وثمانين، وعاد معه إلى حران، وطالبه بما بذل له من المال، فأنكر ذلك فأحضر رسوله العلم بن ماهان، فقابله على ذلك، فأنكر، فقبض عليه، ووكل به. ثم أخذ منه مدينتي حران والرها، وأقام في الإعتقال إلى مستهل شهر ربيع الأول، ثم أطلقه خوفاً من انحراف الناس عنه، لأنهم علموا أنه الذي ملكه البلاد الجزرية، وأعاد عليه حران، ووعده بإعادة الرها، إذ عاد من سفرته، فأعادهما عليه. وسار الملك الناصر إلى الموصل، فوصل بلد، فنزلت إليه والدة عز الدين، ومعها ابنة نور الدين، وغيرها من نساء بني أتابك، يطلبن منه المصالحة، والموافقة، فردهن خائبات، ظناً منه أن عز الدين أرسلهن عجزاً عن حفظ الموصل، واعتذر بأعذار ندم عليها بعد ذلك.

الشفاء وإعادة التوزيع

ورحل، حتى صار بينه وبين الموصل مقدار فرسخ فكان يجري القتال بين العسكرين، وبذل أهل الموصل نفوسهم في القتال لرده النساء، وندم السلطان على ردهن، وافتتح تل عفر، فأعطاها عماد الدين صاحب سنجار. وأقام على حصار الموصل شهرين، ثم رحل عنها، وجاءه الخبر بموت شاه أرمن، وكاتبه جماعة من أهل خلاط، فترك الموصل طمعاً في خلاط فاصطلح أهل خلاط مع البهلوان صاحب أذربيجان، فنرل السلطان على ميافارقين، وكان صاحبها قطب الدين ايلغاري بن ألبي بن تمرتاش، وملك بعده حسام الدين يولق أرسلان، وهو طفل، فطمع في أخذها، ونازلها، فتسلمها من واليها، وزوج بعض بنيه ببنت الخاتون بنت قرا أبى سلان، ثم عاد إلى الموصل عند إياسه من خلاط، فوصل إلى كفرزمار، في شعبان، من سنة إحدى وثمانين، فأقام بها مدة، والرسل تتردد بينه وبين عز الدين. فمرض السلطان بكفرزمار، فسار عائداً إلى حران، وأتبعه عز الدين بالقاضي بهاء الدين بن شداد، وبهاء الدين الربيب، رسولين إليه في موافقته على الخطبة والسكة، وأن يكون معه عسكر من جهته، وأن يسلم إليه شهرزور، وأعمالها، وما وراء الزاب. الشفاء وإعادة التوزيع واشتد مرض السلطان بحران في شوال، وأيس منه، وأرجف بموته، ووصل إليه الملك العادل من حلب، ومعه أطباؤها، واستدعى المقدمين من الأمراء من

البلاد، فوصلوا إليه. وعزم الملك العادل على استحلاف الناس لنفسه. وسار ناصر الدين صاحب حمص طمعاً في ملك الشام، وقيل إنه إجتاز بحلب، ففرق على أحداثها مالاً، وسار إلى حمص، وجرى من تقي الدين بمصر حركات من يريد أن يستبد بالملك. وتماثل السلطان، وبلغه ذلك كله، وأركب، فرآه الناس، وفرحوا، وابتنى داراً ظاهر حران فجلس فيها حين عوفي، فسميت دار العافية. ولما عوفي رد على مظفر الدين الرها، وأعطاه سنجقا، وأحضر رسولي الموصل، وحلف لهما على ما تقرر في يوم عرفة. وبلغه موت ابن عمه ناصر الدين، صاحب حمص، ورحل عن حران إلى حلب، وصعد قلعتها يوم الأحد، رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. وأقام بها أربعة أيام، ثم رحل إلى دمشق، فلقيه أسد الدين شيركوه، ابن صاحب حمص، فأعطاه حمص، وسار إلى دمشق. وسير إلى الملك العادل، وطلبه إليه إلى دمشق، فخرج من حلب جريدة، ليلة السبت الرابع والعشرين، من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين. فوصل إليه إلى دمشق، وجرت بينهما أحاديث ومراجعات استقرت على أن الملك العادل يطلع إلى مصر، ومعه الملك العزيز، ويكون أتابكه، ويسلم حلب إلى الملك الطاهر غازي، وينزل الأفضل إلى دمشق من مصر، وينزل تقي الدين أيضاً منها. وكان الذي حمله على إخراج الملك العادل من حلب أن علم الدين سليمان ابن جندر كان بينه وبين الملك الناصر صحبة قديمة، قبل الملك، ومعاشرة، وانبساط. وكان الملك العادل وهو بحلب لا يوفيه ما يجب له، ويقدم عليه غيره. فلما عوفي الملك الناصر سايره يوماً سليمان، وجرى حديث مرضه، وكان قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد، فقال له سليمان بن جندر: بأي

رأي كنت تظن أن وصيتك تمضي كأئك كنت خارجا إلى الصيد، وتعود فلا يخانفونك، أما تستحيي أن يكون الطائر أهلى منك إلى المصلحة قال وكيف ذلك " وهو يضحك قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشا لفراخه، قصد أعالي الشجرة، ليحمي فراخه، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب وهي أتم البلاد بيد أخيك ث وحماة بيد تقيئ الذين، وحمص بيد ابن أسد الدين، وابنك الأفضل مع تقي الذين بمصر بخرجه متى شاء، وابنك الآخر مع أخيك في خيمته يفعل به ما أراد. فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر.

القسم السابع والعشرون غازي في حلب

القسم السابع والعشرون غازي في حلب ثم أخذ حلب من أخيه، وأعطاها ابنه الملك الظاهر، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حران، والرها، وميافارقين، ليخرجه من الشام، ويتوفر الشام عاى أولاده. فكان ما كان، وأخرج تقي الدين من مصر، فشق عليه ذلك وامتنع االقدوم، ثم خاف، فقدم عليه. وسير الملك العادل الصنيعة لإحضار أهله من حلب، وسار الملك الظاهر قدس الله روحه - إلى حلب، وسير في خدمته شجاع الدين عيسى بن بلاشوا وولاه قلعة حلب، وأوصاه بتربية الملك الطاهر، وأخيه الملك الزاهر، وحسام الدين بشارة صاحب بانياس وولاه المدينة، وجعل الديوان بينهما. وجعل قرار الملك الظاهر في السنة ثمانية وأربعين ألف دينار بيضا، كل شهر أربعة الاف دينار. وكل يوم قباء وكمه، وعليق دوابه من الأهراء، وخبزه من الأهراء، واستمزت هذه الوظيفة، إلى سنة ست وثمانين إلى رجب. فورد كتاب الملك الئاصر إلى ولده الملك الظاهر، يأمره بأن يأمر وينهى وأن يقطع الإقطاعات، وأن البلد بلده. وكان القاضي الزبداني يكتب له، فلم يعجبه فانصرف على حال غير محمودة. تذكر حكايه وعلى ذكر علم الدين سليمان بن جندر، تذكرت حكاية مستملحة عنه، فأثبت.

العساكر الإسلامية والفرنج

أخبرني الزكي أحمد بن مسعود الموصلي المقرىء، قال: كنت أوم بعلم الدين سليمان بن جندر، فاتفق أن خرجت معه إلى حارم، في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وجلست معه تحت شجرة. هناك. فقال: كنت ومجد الدين أبو بكر ابن الداية والملك الناصر صلاح الدين، تحت هذه الشجرة، ونور الدين إذ ذاك يحاصر حارم، وهي في أيدي الفرنج. فقال مجد الدين: كنت أتمنى أن نور الدين يفتح حارم، ويعطيني إياها، فقال صلاح الدين: أتمنى على الله مصر. ثم قالا لي: تمن أنت شيئاً، فقلت: إذ كان مجد الدين صاحب حارم وصلاح الدين صاحب مصر، ما أضيع بينهما. فقالا: لا بد من أن تتمنى شيئاً. فقلت: إذا كان ولا بد من ذلك فأريد عم. فقذر الله أن نور الدين كسر الفرنج، وفتح حارم، وأعطاها مجد الدين، وأعطاني عم. فقال صلاح الدين: أخذت أنا مصر والله، فاننا كنا ثلاثة، وتمنى مجد الدين حارم، وأخذها. وتمنى علم الدين عم وأخذها. وقد بقيت أمنيتي. فقدر الله تعالى: أن فتح أسد الدين مصر، ثم آل الأمر إلى أن ملكها صلاح الدين. وهذا من أغرب الإتفاقات. وزوج السلطان الملك الناصر ولده الملك الظاهر، في هذه السنة، بابنة أخيه غازية خاتون بنت الملك العادل. ودخل بها يوم الأربعاء سادس وعشرين من شهر رمضان. العساكر الإسلامية والفرنج ثم إن السلطان عزم قصد الكرك مرة أخرى فبرز من دمشق، في النصف من محرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وسير إلى حلب يستدعي عسكرها، فاعتاق عليه، لاشتغاله بالفرنج بأرض أنطاكية، وبلاد ابن لاون، وذلك أنه كان قد مات، وأوصى لابن أخيه بالملك. وكان الملك المظفر تقي الدين بحماة، فسير إليه السلطان، وأمره بالدخول إلى بلاد العدو، فوصل إلى حلب في سابع عشري محرم، ونزل في دار عفيف الدين بن زريق، وأقام بها إلى ثالث صفر، وانتقل إلى داري الآن، وكانت إذ ذاك في ملك الأمير طمان.

ثم خرج إلى حارم، وأقام بها إلى أن صالحهم في العشر الآواخر من شهر ربيع الأول، ثم سار حتى لحق السلطان، وأما السلطان فإنه سار إلى رأس الماء، واجتمعت إليه العساكر الإسلامية من الموصل، والشرق، ومصر، والشام، بعشترا، بعد أن أتته الأخبار أن البرنس أرناط أيريد الخروج على الحاج، فأقام قريباً من الكرك مشغلاً خاطره، ليلزم مكانه إلى أن وصل الحاج، وتقدم إلى الكرك، وبث سراياه، فنهبوا بلدها وبلد الشوبك، وخربوه. وأرسل إلى ولده الملك الأفضل، فأخذ قطعة من العسكر، فدخل إلى بلد عكا، فأخربوا ونهبوا، وخرج إليهم جمع من الداوية والاسبتارية، فظفروا بهم، وقتل منهم جماعة، وأسر الباقون، وقتل مقدم الاسبتار. وعاد السلطان إلى العسكر، وعرض العسكر قلباً وجناحين، وميمنة وميسرة، وجاليشية وساقة، وعرف كلاً منهم موضعه، وسار على تعبئة، فنرل بالأقحوانة بالقرب من طبرية. وكان القمص صاحبها قد انتمى إلى السلطان، لخلف جرى بينه وبين الفرنج. فأرسل الفرنج إليه البطرك والقسوس والرهبان، وتهددوه بفسخ نكاح زوجته، وتحريمه، فاعتذر، وتنصل، ورجع عن السلطان إليهم. ثم ساروا كلهم بجموعهم إلى صفورية.

حطين وأنهزام الفرنج ونهاية أرناط

فرحل السلطان، يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، وخلف طبرية وراء ظهره، وصعد جبلها، وتقدم إلى الفرنج، فلم يخرجوا من خيمهم، فنرل، وأمر العسكر بالنزول، فلما جنه اليل، جعل في مقابلة الفرنج من يمنعهم من القتال. ونزل إلى طبرية جريدة، وقاتلها، وأخذها في ساعة من نهار، ونهبوا المدينة وأحرقوها. فلما سمع الفرنج بذلك، تقدموا إلى عساكر المسلمين، فعاد السلطان إلى عسكره، والتقى الفريقان، وجرى بينهما قتال، وفرق بينهما اليل. وطمع المسلمون فيهم، وباتوا يحرض بعضهم بعضاً. فلما كان صباح السبت لخمس بقين من الشهر، طلب كل من الفريقين موضعه، وعلم المسلمون أن الأردن من ورائهم، وبلاد القوم بين أيديهم، فحملت العساكر الإسلامية من الجوانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة واحدة، فهرب القمص في أوائل الأمر نحو صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا وحده، فلم يزل سقيماً حتى مات في رجب. حطين وأنهزام الفرنج ونهاية أرناط وأحاط المسلمون بالباقين من كل جانب، فانهزمت منهم طائفة، فتبعها المسلمون فلم ينج منهم أحد. واعتصمت الطائفة الأخرى بتل حطين، وحطين: قرية عندها قبر شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون على التل، وأوقدوا النيران حولهم، فقتلهم العطش. وضاق الأمر بهم حتى استسلموا للأسر، فأسر مقدموهم وهم الملك جفري، والبرنس أرناط صاحب الكرك وأخو الملك، وابن الهنفري، وأولاد الست، وصاحب جبيل، ومقدم الداوية، ومقدم

الاسبتار، وأمم لا يقع عليها الإحصاء، حتى كان الرجل المسلم يقتاد منهم عشرين فرنجياً، في حلقهم حبل. وأسروا من المصاف، ومن بلاد الفرنج أكثر من ثلاثين ألفاً من الفرنج، ما بين رجل، وامرأة، وصبي. وقتل من المقدمين وغيرهم خلق لا يحصى. ولم يجر على الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل مثل هذه الوقعة. وكان من جملة الغنيمة في يوم المصاف صليب الصلبوت، وهو قطعة خشب مغلفة بالذهب، مرصعة بالجوهر، يزعمون أن ربهم صلب عليها، وضربت في يديه المسامير، أحضروه معهم يوم المصاف تبركاً به، ورفعوه على رمح عال. فأما مقدم الدواية والأسبتار، فاختار السلطان قتلهم فقتلوا، وأما الملك جفري، فإنه أكرمه، وجلس له في دهليز الخيمة، واستحضره، وأحضر معه البرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من جلاب بثلج، فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش. ثم ناول الملك بعضها برنس أرناط، فقال السطان للترجمان: قل للملك: أنت الذي سقيته، وإلاما سقيته أنا. وأراد بذلك عادة العرب أن الأسير إذ أكل أو أشرب ممن أسره أمن. وكان السلطان قد نذر مرتين إن أظفره الله به أن يقتله. إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، وبعثرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. والمرة الأخرى أن السلطان كان قد هادنه، وتحالفا على أمن القوافل المترددة من الشام إلى مصر. فاجتاز به قافلة عظيمة، غزيرة الأموال، كثيرة الرجال، ومعها جماعة من الأجناد، فغدر بهم الملعون، وأخذهم وأموالهم وقال لهم: قولوا لمحمد يجيء ينصركم. فبلغ ذلك السلطان سير إليه، وهدده،

فتح طبرية وعكا وبيروت وغيرها

ولامه، وطلب منه ردها فلم يجب، فنذر أن يقتله متى ظفر به. فالتفت السلطان إلى أرناط، ووافقه على ما قال، وقال له: هل أنا أنتصر لمحمد. ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل. فسل السيف، وضربه به، فحل كتفه، وتمم عليه من حضر. وأخذ ورمي على باب الخيمة. فلما رآه الملك على تلك الصورة لم يشد في أنه يثني به، فاستحضره، وطيب قلبه، وقال: لم تجر عادة الملوك أنهم يقتلون الملوك. ولكن هذا طغى، وتجاوز حده فجرى ما جرى. فتح طبرية وعكا وبيروت وغيرها ثم إن السلطان أصبح يوم الأحد، الخامس والعشرين، فنزل على طبرية، وتسلم قلعتها بالأمان من صاحبتها ثم رحل منها يوم الثلاثاء إلى عكا، فنرل عليها يوم الأربعاء سلخ الشهر. وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذها، واستنقذ منها أربعة آلاف أسير من المسلمين، وأخذ جميع ما فيها، وتفرق العسكر. وفتح بعده قيسارية ويالس، وحيفا، وصفورية، والناصرة، والشقيف، والفولة، فأخذوها، واستولوا على سكانها، وأموالها. ورحل السلطان من عكا إلى تبنين، وقاتلها، منها إلى صيدا فتسلمها يوم الأربعاء العشرين منه. ثم سار إلى بيروت، ففتحها في التاسع والعشرين منه. ثم سلمت جبيل، إلى أصحابه وهو على بيروت.

تسلم القدس من الفرنج

ثم سار إلى عسقلان، ونازلها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة، وتسلمها يوم السبت سلخ جمادى الآخرة، بعد أن تسلم في طريقه مواضع كالرملة وينبا والداروم. وأقام على عسقلان، وتسلم أصحابه غزة، وبيت جبرين، والنطرون، وبيت لحم، ومسجد الخليل عليه السلام. تسلم القدس من الفرنج وسار إلى بيت المقدس، فنزل عليه يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين، فنزل بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة. وكان عليه من المقاتلة ما يريد على ستين ألفاً غير النساء والصبيان. ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، يوم الجمعة العشرين من شهر رجب ونصب عليه المنجنيقات، وضايقه بالزحف، والقتال، وكثرة الرماة، حتى أخذ النقب في السور، مما يلي وادي جهنم، في قرنة شمالية. ولما رأوا ذلك وعلموا أن لا ناصر لهم، وأن جميع البلاد التي افتتحها السلطان صار من بقي من أهلها إلى القدس، خرج عند ذلك إليه ابن بارزان، ملقياً بيده، ومتوسطاً لأمر قومه، حتى استقر مع السلطان خزوج الفرنج عنها بأموالهم وعيالهم، وأن يؤدوا عن كل رجل منهم عشرة دنانير، وعن كل امرأة خمسة دنانير، وعن كل طفل لم يبلغ الحلم دينارين. ومن عجز عن ذلك استرق، فبلغ الحاصل من ذلك عن من خرج منهم مائتين وستين ألف دينار صورية، واسترق بعد ذلك منهم نحو ستة عشر ألفا. وكان السلطان قد رتب في كل باب أميراً أميناً لأخذ ما استقر عليهم، فخانوا، ولم يؤدوا الأمانة، فإنه كان فيه، على التحقيق، العدة التي ذكرناها. وأطلق ابن

هونين وطرطوس وجبلة واللاذقية وصهيون

بارزان ثمانية عشر ألف رجل من الفقراء، وزن عنهم ثلاثين ألف دينار. وتسلم القدس في يوم الجمعة السابع والعشرين، من شهر رجب، وأقيمت صلاة الجمعة فيه، في الجمعة التي تلي هذه، وهي رابع شعبان. وخطب بالناس محيي الدين بن زكي الدين، وهو يومئذ قاضي حلب وأزيلت الصلبان من قبة الصخرة، ومحراب داود، وأزيل ما كان بالمسجد الأقصى من حوانيت الخمارين، وهدمت كنائسهم والمعابد، وبنيت المحاريب والمساجد. وأقام السلطان على القدس، ثم رحل عنه، في الخامس والعشرين من شعبان، فنرل على صور بعد أن قدم عليه ولده الملك الظاهر، من حلب في ثامن عشر شهر رمضان، قبل وصوله إليها. وكان نروله على صور في ثاني عشرين من شهر رمضان، وضايقها، وقاتلها. واستدعى أسطول مصر، فكانت منه غزة في بعض الليالي، وظنوا أنه ليس في البحر من يخافونه، فما راعهم إلا ومراكب الفرنج من صور قد كبستهم، وأخذوا منهم جماعة، وقتلوا جماعة، فانكسر نشاط السلطان، ورحل عنها في ثاني ذي القعدة، وأعطى العساكر دستوراً، وساروا إلى بلادهم. هونين وطرطوس وجبلة واللاذقية وصهيون وأقام هو بعكا، إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكان من بهونين قد أرسلوا إلى السلطان، وهو بصور، فأمنهم، وسير من تسلمها. وسار السلطان، فنرل على حصن كوكب في أوائل المحرم من السنة. وكان قد جعل حولها جماعة يحفظونها من دخول قوة، فأخذ الفرنج عزتهم ليلاً، وكبسوهم

بعفربلا، وقتلوا مقدمهم سيف الدين أخا الجاولي. فسار السلطان، ونزل عليها بمن كان قد بقي من خواصه بعكا، وكان ولده الملك الظاهر قد عاد عنه إلى حلب، وعاد أخوه الملك العادل إلى مصر، فحصره، ثم رأى أنه حصن منيع، فرحل عنه وجعل عليه قايماز النجمي محاصراً. وسار إلى دمشق، ثم سار من دمشق في النصف من ربيع الأول إلى حمص، فنرل على بحيرة قدس، ووصل إليه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وتلاحقت به العساكر، واجتمعت عنده، فنرل على تل قبالة حصن الأكراد، في مستهل ربيع الآخر، وسير إلى الملك الظاهر إلى حلب وإلى الملك المظفر، بأن يجتمعا وينرلا بتيزين قبالة إنطاكية لحفظ ذلك الجانب، فسارا حتى نرلا تيزين في شهر ربيع الآخر وتواصلت إليه العساكر في هذه المنزلة. ثم رحل يوم الجمعة رابع جماى الأولى، على تعبئة لقاء العدو، ودخل إلى بلاد العدو، وأغار على صافيتا والعريمة وغير ذلك من ولاياتهم. ووصل إلى انطرسوس في سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها، ونظر إليها، وسير من رد الميمنة، وأمرها بالنزول على جانب البحر، وأمر الميسرة بالنزول على البحر، من الجانب الآخر، ونزل في موضعه، وأحدقت العساكر بها من البحر إلى البحر، وزحف عليها، فما استتم نصب الخيم حتى صعد الناس السور، وأخذها بالسيف، وغنم العسكر جميع ما بها، وخرب سور البلد. وسار إلى حلب، فوصل إليه ولده الملك الظاهر في أثناء الطريق، بالعساكر

التي كانت بتيزين. ووصل إلى جبلة في ثامن عشر يوم الجمعة، فما استتم نزول العسكر حتى تسلم البلد، سلمها إليه قاضيها وأهلها، وكانوا مسلمين تحت يد الفرنج، فعملوا عليها وسلموها وبقيت القلعة ممتنعة. وقاتل القلعة، فسلمت بالأمان يوم السبت تاسع عشر الشهر. وسار عنها إلى اللاذقية، فنرل عليها يوم الخميس رابع عشري جمادى الأولى، ولها قلعتان، فقاتلها، وأخذ البلد، وغنموا منه غنيمة، وفرق الليل بين الناس. وأصبح المسلمون يوم السبت، واجتهدوا في قتال القلعتين، ونقبوا في السور مقدار ستين ذراعاً. فأيقن الفرنج بالعطب، فطلبوا الأمان، يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وسلموها يوم السبت. ورحل عن اللاذقية، يوم الأحد، فنرل على صهيون، ونزل عليها يوم الثلاثاء تاسع عشري جمادى الأولى، واستدار العسكر حولها، واشتد القتال عليها من جميع الجوانب، فضربها منجنيق ولده الملك الظاهر، حتى هدم قطعة من سورها تمكن الصاعد الصعود منها. وزحف عليها السلطان بكرة الجمعة، ثاني جمادى الآخرة، فما كان إلا ساعة حتى ارتقى المسلمون على أسوار الربض، فهجموه، فانضم أهله إلى القلعة، فاتلهم المسلمون فصاحوا الأمان. وسلموها على صلح القدس. وأقام السلطان بها حتى تسلم عدة قلاع، كالغيد وقلعة الجماهريين وحصن بلاطنش. ثم رحل ونزل على بكاس، وهي قلعة حصينة، من أعمال حلب على جانب العاصي، ولها نثر يخرج من تحتها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة على شاطىء العاصي.

بكاس والشغر وسرمانية وبرزية

بكاس والشغر وسرمانية وبرزية وصعد السلطان جريدة إلى القلعة، وهي على جبل مطل على العاصي، فأحدق بها من كل جانب، وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات والزحف. وفتحها يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة عنوة، وأسر من كان بقي فيها، وغنم جميع ما كان فيها. وكان لها قلعة تسمى الشغر قريباً منها يعبر من إحداهما إلى الأخرى بجسر، فضربها بالمنجنيقات إلى أن طلبوا الأمان، ثم سلمها أهلها بعد ثلاثة أيام، يوم الجمعة سادس عشر الشهر. ثم عاد السلطان إلى الثقل، وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة تسمى سرمانية يوم السبت، فقاتلها قتالاً شديداً، وتسلمها يوم الجمعة ثالث عشري الشهر المذكور. واتفق له هذه الفتوحات المتتابعة كلها في أيام الجمع. وكذلك القدس يوم الجمعة. ثم سار السلطان جريدة إلى حصن برزية وهو الذي يضرب به المثل في الحصانة، ويحيط به أودية من سائر جوانبه، وعلوها خمسمائة ذراع ونيف وسبعون ذراعاً، فتأمله وقوى عزمه على حصاره، واستدعى الثقل وبقية العسكر، يوم السبت رابع عشري جمادى الآخرة. فنزل الثقل تحت الجبل. وفي بكرة الأحد صعد السلطان جريدة، مع المقاتلة، والمنجنيقات، وآلات الحصار إلى الجبل، فأحدق بالقلعة، وركب المنجنيقات عليها فقاتلها ليلاً ونهاراً. ثم قسم العسكر على ثلاثة أقسام، يوم الثلاثاء. ورتب كل قسم يقاتل شطراً من النهار، بحيث لا يفتر القتال عليها. وحضرت نوبة السلطان، فتسلمها بنفسه، وركب، وصاح في الناس، فحملوا حملة الرجل الواحد، وطلعوا إلى الأسوار، وهجموها عنوة، ونهبوا جميع ما فيها،

درب ساك وبغراس وصفد والكرك

وأسروا من كان فيها. وعاد السلطان إلى الثقل. وأحضر صاحبها ومعه من أهله سبعة عشر نفراً، فرق له السلطان، وأطلقه مع جماعته، وأنفذهم إلى صاحب انطاكية، إستمالة له. فإنهم كانوا من أهله. درب ساك وبغراس وصفد والكرك ثم سار السلطان حتى نزل على درب ساك، يوم الجمعة ثامن شهر رجب من السنة، فقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات. وأخذ النقب تحت برج منها، فوقع، وحماه الفرنج بالرجال، ووقفوا فيه يحمونه على كل من يروم الصعود فيه، وجعلوا كلما قتل منهم واحد أقاموا غيره مقامه، عوضاً عن السور. ثم طلبوا الأمان على أن ينزلوا بأنفسهم وثيابهم لا غير، بعد مراجعتهم أنطاكية، وتسلمها السلطان، يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب، وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر. وسار عنها بكرة السبت، ثالث عشري الشهر، ونزل في مرج بغراس، وأحدق بعض العسكر ببغراس، وأقام يزكا على باب أنطاكية بحيث لا يشد عنه من يخرج منها. وقاتل البلد مقاتلة شديدة حتى طلبوا الأمان، وشرطوا إستئذان أنطاكية. وتسلمها في ثاني شعبان من السنة. وفي ذلك اليوم عاد إلى الخيم، وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم، لشدة ضجر العسكر، وقلق عماد الدين صاحب سنجار لطلب العود إلى بلاده. واستقر الصلح بينه وبين صاحب أنطاكية على أنطاكية لا غير، دون غيرها من بلاد الفرنج، على أن يطلقوا جميع أسرى المسلمين الدين عندهم. وأن يكون ذلك إلى سبعة أشهر، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان.

فتح كوكب وشقيف أرنون

وطلبه ولده الملك الظاهر أن يتوجه معه إلى حلب، فسار معه إليها، ودخلها في حادي عشر شعبان، وأقام بقلعتها ثلاثة أيام في ضيافة الملك الظاهر، وأنعم الملك الظاهر على جماعة كثيرة من عسكره، فأشفق السلطان عليه. وسار من حلب في رابع عشر شعبان، فوصل دمشق قبل دخول شهر رمضان. فسار في أوائل شهر رمضان حتى نزل صفد، ونصب عليها المناجيق، وداومها بالقتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال. وكان أصحابه الدين جعلهم على حصار الكرك لازموا الحصار هذه المدة العظيمة، وصابرهم من بها من الفرنج، حتى فنيت أزوادهم وذخائرهم، وأكلوا دوابهم. فراسلوا أخا السلطان الملك العادل وكان قريباً منهم، منارلاً بعض القلاع فطلبوا منه الأمان فأمنهم، وتسلمها. وتسلم أيضاً الشوبك، وغيرها من القلاع التي تجاورها. فتح كوكب وشقيف أرنون ثم سار السلطان من صفد إلى كوكب، ف نزل على سطح الجبل، وأحدق العسكر بالقلعة، وضايقها بالقتال، حتى تمكن النقب من سورها، فطلب أهلها الأمان فتسلمها في النصف من ذي القعدة. وسار بعد ذلك بمدة إلى بيت المقدس فدخله يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، وسار إلى عسقلان مودعاً أخاه الملك العادل وكان متوجها إلى مصر، فأخذ من أخيه عسقلان، وأعطاه الكرك. وتوجه لتفقد البلاد الساحلية ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة وهو بعكا. وتوجه إلى دمشق فدخلها مستهل صفر. ثم توجه في الثالث من شهر ربيع الأول، إلى مرج فلوس محاصراً لشقيف أرنون، ورحل من مرج فلوس، فأتى مرج عيون، وهو قريب من شقيف أرنون في سابع عشر ربيع الأول.

وضاق على الفرنج المجال، وقلت أزوادهم. فنزل أرناط صاحب الشقيف إليه وكان عظيماً فيهم ذا رأي ودهاء، فأظهر الطاعة والمودة للسلطان، ووعده بتسليم المكان وقال: أريد أن تمهلني حتى أخلص أولادي وأهلي من الفرنج، وأسلم إليك الحصن، وتعطيني موضعاً أسكن فيه بدمشق، وأقطاعاً تقوم بي وبأهلي وتمكنني الآن من الإقامة بالشقيف، حتى أخلص أولادي. فأجابه السلطان إلى ذلك. وجعل يتردد إلى خدمته. وكانت الهدنة بين أنطاكية وبينه قد قرب وقتها، وخاطره مشغول بذلك. وقد سير إلى تقي الدين أن يجمع من يقارب تلك الناحية من العساكر، ويكون بإزاء أنطاكية. وبلغه أيضاً أن الفرنج قد تجمعوا بصور في جموع عظيمة، وكان الأمر قد استقر مع أرناط أن يسلم إليه الشقيف، في جمادى الآخرة، وهو مقيم بمرج عيون ينتظر الميعاد، وأرناط في هذه المدة يشتري الأقوات من سوق المسلمين، ويقوي الشقيف، والسلطان يحسن الظن به، ولا يسمع فيه قول من يعلمه بغدره ومكره. فلما بقي من المدة ثلاثة أيام وحضر عنده أرناط قال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه، وطلب التأخير مدة أخرى. فعلم السلطان مكره، فأخذه وحبسه، فأجاب إلى التسليم، فسير مع جماعة من العسكر إلى تحت الشقيف، فأمرهم بالتسليم، فامتنعوا، وطلب قسيساً حدثه بلسانه وعاد بما قال إليهم، فاشتدوا في المنع. فعلم حينئذ أن ذلك كان تأكيداً مع القسيس، فأعادوه إلى السلطان، وسيره إلى بانياس، وتقدم إلى الشقيف فحصره، وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه،

القتال حول عكا

إلى أن سلمها من بها بعد أن عذب صاحبها أشد العذاب، واشترطوا إطلاق صاحبها، في يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول من سنة ست وثمانين. وأما بقية الفرنج، فإن ملكهم كان وعده السلطان أنه متى سلم عسقلان أطلقه، فاتفق أنه أطلقه بأنطرسوس، حين فتح تلك الناحية، واشترط عليه أن لا يشهر في وجهه سيفاً أبداً، فنكث، واتفق مع المركيس صاحب صور وعسكراً مع جموع الفرنج على باب صور. واتفق بينهم وبين المسلمين حروب وغارات كانت النكاية فيها سجالاً بين الفريقين، بحيث تحاجز الفريقان في آخر تلك الأيام من جمادى الآخرة من هذه السنة. القتال حول عكا وسار الفرنج إلى حصار عكا، فنزلوا عليها في يوم الأربعاء ثامن شهر رجب. وسار السلطان فنزل عليهم بظاهر عكا، ومنعهم من الإحاطة بسورها فكان نازلاً على قطعة منها تلي الشمال، ومعه الباب الشمالي من عكا مفتوحاً والمسلمون يدخلون إليها ويخرجون، والفرنج على الجانب الجنوبي، وقد أغلق في وجوههم الباب المعروف بباب عين البقر، وكان الفرنج يقومون بمحارب المسلمين، من جانب المدينة ومن جانب العسكر. وجرت بينهم وبين الفرنج وقعات متعددة، من أعظمها وقعة اتفقت يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان، خرج الفرنج واصطفوا على تعبئة القتال، والملك في القلب وبين يديه الإنجيل، فوقف المسلمون أيضاً على تعبئة، وتحركت ميسرة الفرنج على ميمنة المسلمين، وفيها الملك المظفر، فتراجع عنهم، وأمده السلطان بأطلاب عدة من القلب، فخف القلب، وعادت ميسرة الفرنج فطمعت فيه فحملوا على القلب، فانكسر، وانكسر معه معظم الميمنة، وبلغت هزيمتهم إلى الأقحوانة، ومنهم من دخل دمشق. ووصل الفرنج إلى خيم السلطان، فقتلوا ذلك اليوم أبا علي الحسين بن عبد الله بن رواحة. وكان قد مدح النبي صلى الله عليه وسلم ووقف بإزاء قبره، وأنشد قصيدته.

وقال: يا رسول الله إن لكل شاعر جائزة وقرى، وإني أطلب جائزتي الشهادة، فاستجاب الله دعاءه. وقتل ذلك اليوم مكبس السلطان وطشت داره، وثبتت ميسرة المسلمين، وصاح السلطان فيمن بقي من المسلمين: يال الإسلام. وعادت ميسرة الفرنج إلى عسكره، فتكاثر الناس وراءهم، وحملوا عليهم، فانهزموا، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم زهاء سبعة آلاف. ولم يقتل من المسلمين غير مائة وخمسين نفراً. ثم إن الحرب إتصلت بينهم ليلاً ونهاراً، وكثر القتل بينهم، وأقبل الشتاء، فلقي المسلمون منه شدة. وحضروا إلى السلطان، وأشاروا عليه بالرحيل عن عكا إلى الخروبة، لينفسخ ما بين العسكرين. وكان ذلك للضجر من تلك المواقفة، وملازمة القتال، حتى أوهم السلطان وقالوا له: إنك قد ضيقت على الفرنج مجال الهرب، وحلت بينهم وبين صور، وطرابلس، ولو أفرجت لهم عن الطريق لما وقفوا بين يديك. فرحل السلطان إلى الخروبة. فأصبح الفرنج وقد انبسطوا على عكا، وأحاطوا بها من سائر جهاتها، واتصل ما بينهم وبين صور، وجاءت مراكبهم منها، فحصرت عكا من جانب البحر، وضعفت قلوب المسلمين بعكا، وعادوا يقتاتون من الحواصل المدخورة، بعد أن كان من المير المجلوبة. وتوفر الفرنج على قتال أهل عكا بعد أن كانوا مشغولين بالعسكر، وشرع الفرنج في إدارة خندق على عساكرهم، كاستدارتهم بعكا، وجعلوه شكلاً هلالياً: طرفاه متصلان بالبحر، وأقاموا عليه سوراً مما يليهم، وشرفوه بالجنويات والطوارف، والتراس. واتصلت الأمداد إليهم من البحر، بالأقوات والرجال والأسلحة، حتى كان

تحرك الصليبيين الألمان

ينقل إليهم البقول الرطبة، والخضراوات من جزيرة قبرس فتصبح عندهم في اليوم الثاني. تحرك الصليبيين الألمان وسير السلطان إلى الخليفة، وإلى ملوك الإسلام، يستنفر ويستصرخ، واتصلت الأخبار بوصول ملك الألمان إلى القسطنطينية، في ستمائة ألف رجل، منهم ثلاثمائة ألف مقاتل، وثلاثمائة ألف سوقة، وأتباع وصناع. وحكي أنه كان في عسكره خمسة وعشرون ألف عجلة تنقل الأسلحة والعلوفات، فأسقط في أيدي المسلمين، واستولى اليأس عليهم، وتعلقت آمالهم أنه ربما مانعه من في طريقه من الأرج ومن قلج أرسلان، فلم يتفق شيء من ذلك، بل سار، وقطع البلاد، حتى وصل إلى قونية. وأرسل الله عليهم وباء عظيماً وحراً عظيماً، ومجاعة أحوجتهم إلى نحر دوابهم، وذبح البقر الذي يجر العجل، فكان يموت في كل يوم ألوف من الرجال، ويسابقون الموتان إلى ما معهم من الدواب الحاملة للأثقال، حتى وصلوا إلى أنطاكية ولم يبق منهم إلا دون العشر. وكان في جملة من مات منهم ملكهم الذي غزا الشام، في سنة أربع وأربعين، وحاصر دمشق، مات غريقاً في نهر بطرسوس يقال له الفاتر، نزل، وسبح فيه فغرق. وقيل بأنه سبح فيه وكان الماء بارداً، فمرض ومات. وأخذ وسلق في خل، وجمعت عظامه، ليدفن في البيت المقدس. وأوصى بالملك لابنه مكانه، واتفقت الكلمة عليه، فمرض بالثنيات، وأقام بها، وسير كند أكرا على عسكره، ووصل إلى أنطاكية، فمات ذلك الكند بها. وخرج البرنس إلى الملك، واستدعاه إلى أنطاكية طمعاً في أنه يموت ويأخذ

الأساطيل البحرية

ماله. وكان قد فرق عسكره ثلاث فرق لكثرته، فالفرقة الأولى: اختارت تحت بغراس مع الكند المذكور. فوقع عليه عسكر حلب فأخذ منهم مائتي رجل، ووقع أيضاً على جمع عظيم خرجوا للعلوفة، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأسروا زهاء خمسمائة نفر. ولما وصل ملك الألمان إلى أنطاكية أخذها من صاحبها، وأودع فيها خزائنه، وسار منها يوم الأربعاء خامس وعشرين من شهر رجب، سنة ست وثمانين وخمسمائة، متوجهاً إلى عكا، وفشا فيهم الوباء حتى لم يسلم من كل عشرة واحد. ولم يخرجوا من أنطاكية حتى ملؤوها قبوراً. ووصل الملك إلى طرابلس، في نحو ألفي فارس، لو صادفهم مائة من المسلمين لأخذوهم، ووصلوا إلى عكا رجالة ضعفاء، لا ينفعون. ومات ابن ملك الألمان على عكا في ذي الحجة، من سنة ست. الأساطيل البحرية ووصل إلى المسلمين بعكا الأسطول المصري في خمسين شينياً غنم في طريقه إليها بطس ومراكب فرنجيه، أسر رجالها وغنم أموالها. وجرى له مصادمات مع مراكب الفرنج المحاصرة لعكا، كانت الغلبة فيها للمسلمين، فدخلوا إلى عكا، وتماسكت بما دخل فيها من الأقوات والسلاح، وكان دخولها في يوم الإثنين رابع عشر شعبان، من سنة ست وثمانين. وفي هذا الشهر، جهز الفرنج بطساً متعددة، لمحاصرة برج الذبان وهو على باب ميناء عكا فجعلوا على صواري البطس برجاً، وملؤوه حطباً ونفطاً، على أنهم يسيرون بالبطس، فإذا قاربت برج الذبان ولاصقته، أحرقوا البرج الذي على الصاري، وألصقوه ببرج الذبان، ليلقوه على سطحه، ويقتل من عليه من المقاتلة ويأخذونه.

جعلوا في البطسة وقوداً كثيراً، ليلقوه في البرج إذا اشتعلت النار فيه. وعبؤوا بطساً ملؤوها حطباً، على أنهم يدفعونها لتدخل بين بطس المسلمين، ثم يلهبونها لتحرق بطس المسلمين. وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة، تحت قبو، بحيث لا يصل إليهم نشاب، ويكونون تحت القبو، ويقدمون البطسة إلى البرج، فأوقدوا النار، وضربوا النفط، فانعكس الهواء عليهم، فاحترقت البطسة، وهلك من فيها، واحترقت البطسة الثانية، وأخذها المسلمون، وانقلبت الثالثة التي فيها القبو بمن فيها. وفي هذه السنة، في ربيع الأول، أحرق المسلمون ما كان صنعه الفرنج من آلات الحرب والزحف إليهم، وهي أبرجة عظيمة المقدار، يزحف بها على عجل، وفيها المقاتلة، والجروخ، والمجانيق، فعمد لها رجل دمشقي يعرف بعلي بن النحاس، فرماها من السور، بقدور نفط متتابعة، وصار فيها ريح غريبة، كانت سبباً لإحراق تلك الآلات وما فيها ومن فيها. واشتد حصار الفرنج على عكا، ومل من بها من الأجناد المقام، ووصل إليهم من مصر مراكب فيها غلة، فأتلفوها بالإضاعة وبالتغريق، تبرماً بالمقام. وفي ربيع الأول، وصلت من بلاد الفرنج مراكب كثيرة، فيها ألوف من مقاتلة الفرنج من أكبرهم ملكان: يعرف أحدهما بملك الفرنسيس والآخر بملك انكتير، فاشتدت وطأتهما على عكا، وعظمت نكايتهما، في سورها. وقل ما بها من الميرة والسلاح. فأمر السلطان بأن أوسق مركب عظيم من بيروت، واستكثر فيه من السلاح والأقوات والمقاتلة، وأظهر عليه زي الفرنج وشعارهم، وأخذ قوم من أساري الفرنج الذين في قبضة المسلمين، فتركوا على ظاهر المركب، وأنزل معهم في المركب جماعة من المسلمين ممن يعرف لغة الفرنج، وتزيوا بزي الفرنج، وحلقوا شعورهم، وأخذوا معهم خنازير، ورفعوا على قلع المركب صليباً. وأوهموا الفرنج

أنهم واصلون إليهم نجدة من بلادهم، وأقلعوا داخلين إلى مرسى عكا، مسلمين على الفرنج بلغتهم، مبشرين لهم بأن وراءهم من المدد، من تثدد به منتهم وتعز به نصرتهم، فلم يرتب المحاصرون بذلك، وأفرجوا لهم عن المرسى. فدخلوا إلى عكا، وأوصلوا إلى المسلمين بها، ما كان معهم من الميرة والسلاح والرجال، وتمت هذه الحيلة. وكانت من الفرص التي لا ينبغي أن تعاود فركن المسلمون إليها، وطمعوا في أخرى مثلها، فجهزوا مركباً عظيماً من بيروت أيضاً، وأودعوه مثل ما كان قبله من الآلات والسلاح والأقوات بما مبلغ قيمته خمسة آلاف دينار. وجعل فيه سبعمائة من مقاتلة المسلمين. وكان خبرهم قد وصل إلى الفرنج، فأخذوا عليهم الأرصاد، فمكثوا أياماً يلججون في البحر، ويقاربون عكا، فلا يجدون في الدخول مطمعاً، حتى صادفتهم مراكب الإنكتير في حال قدومه من بلاده، في إحدى وعشرين مركباً فقاتلوا ذلك المركب الإسلامي يومين، وثبت لهم مع قلته، فغرق المسلمون من مراكب الفرنج ثلاثة. ولما رأوا أنهم قد يئسوا من النجاة، وأن الفرنج إن ظفروا بالمركب حصل لهم به قوة عظيمة، وحصلوا في الأسر والذلة، عمد رجل حلبي حجار من أهل باب الأربعين، يقال له يعقوب وكان مقدم الجماعة إلى سفل المركب وأخذ قطاعته، وخسف المركب، ودخل فيه الماء، وغرق. ولم يظفر الكفار منه بشيء، سوى رجلين تخطفهما الفرنج من رأس الماء، واحتملوهما في مراكبهم، فأخبرا بهذه الكائنة. ولما وصل هذا الخبر إلى عكا قطع قلوب من بها، وأسقط في أيديهم، وهرب جماعة من الأمراء منها، فألقوا أنفسهم في شخاتير صغار، فأضعف ذلك قلوب من بقي بها. وعظمت النكاية في سور المدينة، وفشلوا، وكاتبوا السلطان، فأذن لهم في مصالحة الفرنج عن أنفسهم بالبلد.

عودة الفرنج إلى عكا وهدم عسقلان

عودة الفرنج إلى عكا وهدم عسقلان فصالحوا الفرنج على تسليم البلد، وجميع ما فيه من الآلات، والعدد والأسلحة، والمراكب، وغير ذلك، وعلى مائتي ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير، مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معينين من جانبهم يختارونهم، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا سالمين بأنفسهم، وذراريهم، وأموا لهم، وقماشهم، وضمنوا للمركيس، عشرة آلاف دينار، لأنه كان الواسطة، ولأصحابه أربعة آلاف. وحلف الفرنج لهم على ذلك، وتسلموا عكا، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ونكثوا ذلك العهد، وأسروا كل من كان بها من المسلمين، وفرقوا بنيهم، واستصفوا أموالهم، وسلبوهم ثيابهم وأسلحتهم، ثم قتلوا منهم ألفين ومائتين صبراً، على دم واحد، في يوم واحد، حيث توهموا فيهم أنهم فقراء، ليس لهم مفاد، وأسروا من رجوا منه أن يفتدى بمال، أو يكون من السلطان على بال. وأقاموا بعكا نحو أربعين يوماً، والملك الناصر على حصارهم، ثم خرجوا منها متوجهين إلى عسقلان، فسار في عراضهم، ليمنعهم أن يخرجوا من ساحل البحر، فساروا من عكا إلى يافا، وهي مسيرة يوم واحد، في شهر كامل، لمضايقة السلطان لهم، وجرى بينهم وبين المسلمين مناضلة ومطاردة، فلما أشفق السلطان من أخذهم عسقلان سبق إليها فهدمها، وأخرج أهله منها، في شهر رمضان من سنة سبع. فأقام الفرنج بيافا، وانتقل السلطان إلى الرملة، وشرع الفرنج في بناء يافا وتحصينها، ثم ساروا عنها، فنزلوا بعسقلان، وشرعوا في عمارتها. ثم ساروا إلى الداروم، فحصروها ثلاث مرات، أخذوها في المرة الثالثة بالأمان. وعاد السلطان، في ثالث ذي الحجة، بالعساكر، إلى البيت المقدس

الصلح مع الفرنج

وعمره، وحصنه، ووعر طريقه، وعمق خندقه. وجعل الملك العادل، بإزاء الفرنج بالرملة. وتوفي الملك المظفر تقي الدين، على منازكرد، وهو محاصر لها، بعد أن جرى له مصاف مع بكتمر صاحب خلاط، وكسره تقي الدين. ودخلت سنة ثمان وثمانين والسلطان بالبيت المقدس، والملك العادل في الرملة، وقد صار بيد الفرنج مما كان بيد المسلمين من الفتوح، ما بين عكا والداروم، ولم يمكنهم مفارقة الساحل، خوفاً من أن يحول المسلمون بينهم وبين مراكبهم، فتنقطع مادتهم. وعصى فيها الملك المنصور بن تقي الدين على السلطان بميافارقين، وحني، وحران، والرها، وسميساط، والموزر، فسير إليه ابنه الملك الأفضل وأقطعه تلك البلاد الشرقية، فسار إلى حلب ومعه أخوه الملك الظافر، ووصلا إلى حلب. فأرسل السلطان أخاه الملك العادل، جريدة، في عشرين فارساً من مماليكه، وأمره أن يرد الملك الأفضل، ويطيب قلب الملك المنصور، ويعطيه ما يريد، فوصل الملك العادل، واجتمع بالملك المنصور، وقرر أمره. الصلح مع الفرنج ثم أن السلطان جرت له أحوال مع الفرنج، ووقعات، ومراسلات، يطول الكتاب بتعدادها، إلى أن انتظم الصلح بينه وبين الفرنج، في حادي وعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين، لمدة ثلاث سنين وخمسة أشهر، على أن سلموا إلى المسلمين عسقلان، وغزة، والداروم. واقتصروا من البلاد الساحلية على ما بين صور، ويافا بعد أن فتح السلطان يافا،، وبقي القلعة. اتفق ملوك الجزائر من الفرنج على تمليك الساحل رجلاً منهم يعرف

بالكندهري، وزوجوه بنت ملكهم القديم، التي قد استقر عندهم أن يجعلوها على كل من ملكوه. وسار السلطان من القدس إلى بيروت في شوال، ووصل إلى خدمته صاحب أنطاكية الابرنس وولده قومص طرابلس خلع عليهم، وجدد بينه وبينهما الهدنة والعقد. وفي سادس عشري ذي القعدة، دخل إلى دمشق، بعد مدة تقارب أربع سنين. وكان الملك الظاهر قد ودعه من القدس، ورحل إلى حلب في شهر رمضان. وأخبرني القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم: أنه ودعه، ثم سير إليه، واستأذنه في مراجعته في أشياء فأدخله عليه وكنت، حاضراً ثم قال للملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل خير: وأمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاتك. وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام. وأوصيك بحفظ قلوب الرعية، والنظر في أحوالهم، فأنت أميني وأمين الله عليهم. وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدولة والأكابر. فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس. ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره بتوبتك إليه، فإنه كريم وفي شهر ذي القعدة، سلم إلى الملك المنصور ما كان لأبيه بالشام، وهو منبج، وحماة، وسلمية، ومعرة النعمان وانقضت سنة ثمان وثمانين. والهدنة مع الفرنج مستمرة، والملك الناصر بدمشق، والملك الظاهر بحلب، والملك العزيز بمصر، والملك الأفضل، وهو أكبر ولد السلطان، معه بدمشق. فمرض السلطان، في اليوم الخامس عشر، من صفر، بحمى حادة، واختلط ذهنه في السابع، وحبس كلامه، وانجذبت مادة المرض إلى دماغه. وتوفي رحمه الله في الثالث عشر من مرضه، في وقت الفجر، من يوم الأربعاء، السابع والعشرين من صفر، في سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

ليس في خزانته من المال يوم وفاته سوى دينار واحد صوري، وسبعة وأربعين درهماً نقرة. ودعوته على المنابر من أقصى حضرموت في الجنوب إلى أوائل بلاد أراينه في الشمال عرضاً، ومن طرابلس الغرب إلى باب همذان طولاً. ونقودها من الدراهم والدنانير مضروبة باسمه، وعساكرها مطيعة لأمره، سائرة تحت لوائه. ومن جملة ملكه ديار مصر، والشام جميعه، والجزيرة وديار بكر، واليمن. تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وكان وزيره القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، صاحب البلاغة في الكتابة. واستقر ملك ابنه السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب لحلب، والبيرة، وكفر طاب، وعزاز، وحارم، وشيزر، وبارين، وتل باشر. واستقل بملك حلب، وأنعم على رعيته، واستمال قلوبهم بالإحسان، وعمل بوصية أبيه في الأفعال الحسان. وشارك أهل حلب في سرورهم والحزن، وقلد أعناقهم أطواق الأنعام والمنن، وجالس الكبير منهم والصغير. واستمال الجليل والحقير. وكان رحمه الله مع طلاقة وجهه، من أعظم الملوك هيبة، وأشدهم سطوة، وأسدهم رأياً، وأكثرهم عطاء. وكانت الوفود في كل عام تزدحم ببابه من الشعراء، والقراء، والفقراء، وغيرهم. وكان يوسعهم فضلاً وإنعاماً. ويوليهم مبرة وإكراماً. ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد سيف الدولة بن حمدان ما اجتمع ببابه رحمه الله وزاد على سيف الدولة في الحباء والفضل والعطاء.

القسم الثامن والعشرون التنافر والاتفاق

القسم الثامن والعشرون التنافر والاتفاق وخرج صاحب الموصل عز الدين،، باتفاق عماد الدين وصاحب ماردين لاستنقاذ حران والرها، من يد الملك العادل، في شهر ربيع الآخر من هذ السنة، ونزل بدنيسر. ونزل الملك العادل بحران، واستنجد بعساكر الملك الظاهر والملك الأفضل، فسير الملك الظاهر عسكره ومقدمه الملك المنصور بن تقي الدين، ونزل الملك العادل على سروج فافتتحها. ومرض عز الدين، وعاد إلى الموصل عن غير لقاء. ثم نرل الملك العادل على الرقة، فأخذها، وأعطاها ابن أخيه الملك الظاهر وسار بالعساكر إلى نصيبين، وأقطع الخابور وبلد القنا، ثم اصطلحوا في شهر شعبان. وكان الياروقية ومقدمهم دلدرم صاحب تل باشر، قد تكبروا وتحامقو على الملك الظاهر، وقصروا في خدمته، في حياة أبيه. وكانوا يعالمون بدر الدين دلدرم، ويركبون كلهم في خدمته حتى كأنه السلطان، وكان بأيديهم من الأقطاع خيم ضياع جبل السماق وغيرها وملك الملك الظاهر حلب، فسلكوا معه من الحماقة، ما كانوا يسلكونه من قبل، فاعتقل مقدمهم دلدرم في قلعة حلب، وقيده، وأخرج الباقين عن حلب، وقبض أقطاعهم، وطلب من دلدرم تسليم تل باشر فامتنع، وذلك في سنة تسعين وخمسمائة.

واتفق أن وقع خلف بين الأفضل والملك العزيز، بسبب أميرين من الناصرية، أحدهما ميمون القصري، والآخر سنقر الكبير، وكان بأيديهما عدة من القلاع، فاستشعرا من الملك الأفضل أن يقبضهما، فسارا إلى مصر، وكاشفا الأفضل بالعصيان. وطلبا من العزيز الكون في خدمته على أن يذب عما في أيديهما، فأقطع الملك الأفضل بلادهما، وأقطعهما الملك العزيز نابلس وكانت مقطعة مع ابن المشطوب فامتنع من تسليمها إليهما، وسار إلى الملك الأفضل فوقع الشر بينهما بسبب ذلك. ونزل الملك العزيز إلى دمشق، في جمادى الآخرة، وأقطع بلدها، وقاتلها، فسير الملك الأفضل إلى عمه، وأعلمه بذلك، فسار الملك العادل من بلاده شرقي الفرات جريدة، واجتمع بالملك الظاهر غازي بحلب، وأصعده إلى قلعة حلب، وأنزله في الدار، التي فيها ابنة الملك العادل غازية خاتون، زوجة السلطان الملك الظاهر. وطلب من الملك الظاهر موافقته على المسير إلى نصرة الملك الأفضل، وإصلاح ما في قلوب الملكين من المضاغنة، فوافقه على ذلك. ثم قال له الملك العادل: أنا ضيفك، ولا بد للضيف من قرى، وأطلب أن تكون ضيافتي منك دلدرم. فأجابه إلى ذلك وأطلقه. وكان العلم بن ماهان في خدمة السلطان الملك الظاهر، في محل الوزارة، فأشار عليه بقبض عمه الملك العادل، فامتنع، وقال: هذا عمي، ومحله محل الوالد. ونزل الملك بدلدرم من القلعة، فمضى في يومه إلى تل باشر. وصعد الملك العادل والملك الظاهر، إلى نصرة الملك الأفضل، بعد أن سلم الملك الأفضل إلى الملك الظاهر جبلة، واللاذقية، وبلاطنش وأعمال ذلك كله، لينصره على أخيه. واجتمع الملك العادل والملك الظاهر بالملك الأفضل، وتأخر الملك العزيز عن دمشق. وجرت بين الملوك الثلاثة مراسلات أفضت إلى الاتفاق والصلح، على أن

التنافر الثاني وخروج الأفضل عن دمشق

تكون بلاد الملك الأفضل بحالها، وما كان بيد ميمون وسنقر، على حاله، ويكونان في خدمة الملك العزيز. ووقعت الأيمان والعهود على ذلك. في شعبان من سنة تسعين وخمسمائة. وعاد الملك العزيز إلى مصر والملك الظاهر إلى حلب، والملك العادل إلى الشرق. وفي سنة إحدى وتسعين اتصل القاضي بهاء الدين أبو المحاسن، يوسف بن رافع بن تميم بخدمة الملك الظاهر، وقدم إليه إلى حلب، وولاه قضاء حلب ووقوفها، وعزل عن قضائها، زين الدين أبا البيان بنا نائب محيي الدين بن الزكي، وحل عنده بهاء الدين في رتبة الوزارة والمشورة. التنافر الثاني وخروج الأفضل عن دمشق ثم إن الملك الأفضل استشعر من أخيه الملك العزيز أن ينزل إلى دمشق، ويحاصرها، في سنة إحدى وتسعين، كما فعل في السنة الخالية، فسار إلى قلعة جعبر، واجتمع بعمه الملك العادل بها، وفاوضه في الوصول إليه إلى دمشق، لينصره على الملك العزيز إن وصل إلى دمشق، إما بصلح أو بغيره، فوافقه على ذلك. وتوجه الملك العادل إلى دمشق، ثم عدل الملك الأفضل إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر، ووصل إليه إلى حلب، وفاوضه في إنجاده على الملك العزيز، فلم يجد عنده نية صادقة في الحركة معه إلى دمشق. واشترط عليه شرائط من جملتها أن صاحب حماة الملك المنصور محمد بن تقي الدين، وعز الدين بن المقدم صاحب بارين، وبدر الدين دلدرم بن ياروق، صاحب تل باشر، كانوا كلهم في طاعته، ومضافين إليه، وبلادهم من جملة بلاد الملك الظاهر، وأنهم كانوا من جملة أصحابه، فانحرفوا عنه، وانضافوا إلى عمه الملك العادل. وكان الملك العادل قد شفع إليه في دلدرم، وأطلقه لأجله، وضمن له عنه الطاعة والقيام بما يجب، فانضات إلى عمه.

وطلب الملك الظاهر أن الملك العادل يقوم له، بما جرى بينه وبينه من الشرط، وأن لا يعرض لأتباعه المذكورين. وسار الملك الأفضل إلى دمشق، على أن يقرر مع عمه ما التمسه الملك الظاهر. فلم يتفق للملك الظاهر شيء مما التمسه. فعاد بالكلية عنهما، وأرسل إلى الملك العزيز، يحضه، ويحرضه على قصدهما لأن الملك الأفضل مال إلى الملك العادل، وألقى أموره كلها إليه. ووصلت رسل الملك العزيز إلى الملك الظاهر، بموافقته معه، ومعاضدته. وحلف له الملك الظاهر، في شهررجب من السنة. ونزل الملك العزيز، من مصر، في شهر رمضان، والأسدية والأكراد مخامرون عليه، والملك العادل والملك الأفضل، قد كاتباهم، فمالوا إليهما لتقدمة الملك العزيز الناصرية عليهم. وخرج الملك الظاهز، فنزل بقنسرين، وعيد بها عيد الفطر، وعيد الملك العزيز بالفوار، وعزم الملك العزيز على الرحيل إلى دمشق، والنزول عليها، ورحل أبو الهيجاء السمين والمهرانية، والأسدية في رابع شوال. وساروا إلى دمشق. ورحل الملك الظاهر من قنسرين إلى قراحصار قاصداً حصار منبج وهي في يد الملك المنصور صاحب حماة فلما وصل الملك الظاهر إلى بزاعا، وصله الخبر بأن العسكر خامر على الملك العزيز، وأنه رجع عن دمشق، وسار الملك العادل والأفضل خلفه إلى مصر، فعاد الملك الظاهر إلى قرا حصار حتى انسلخ شوال، ودخل حلب. ووصله الخبر بأن الملك العادل والأفضل، سارا خلف الملك العزيز إلى مصر، ونزلا على بلبيس، ودخل الملك العزيز إلى مصر، واسقر أمره بها، وعلم الملك العادل بأنه لا يتمشى أمرهما مع الملك العزيز، فكتب إلى القاضي الفاضل، وطلب الاجتماع به، فألزمه الملك العزيز بالخروج إليه، فاجتمع به،

وأصلح حاله مع الملك العزيز، وشرط عليه أن يعفو عن الأسدية. وقال للملك الأفضل: أنا كان مقصودي الإصلاح بينكم، وأن لا يقع على دولتكم خلل، وقد حصل ذلك. وتحالفوا، وعاد الملك الأفضل، ومعه أبو الهيجاء السمين، وبقي السلك العادل مع الملك العزيز بمصر، ووافقه، فانحرف الملك الظاهر عن الملك العزيز بذلك السبب، ومال إلى الملك الأفضل وكان الملك العادل قد احتوى على الملك العزيز، وأوقع في نفسه أن السلطنة تكون له في بلاد الإسلام، والخطبة والسكة. وكان يبلغه عن الملك الأفضل كلمات توجب الحنق عليه، فاتفق مع الملك العزيز على أن ينزلا جميعاً إلى الشام، لتقرير هذه القاعدة في جميع بلاد الإسلام. فسير الملك الظاهر أخاه الملك الزاهر داود، والقاضي بهاء الدين قاضي حلب، وسابق الدين عثمان، صاحب شيزر في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى الملك العزيز، لتسكين الفتنة، والرجوع إلى ما فيه صلاح النية والموافقة بين الأهل. فوصلوا والملك العادل، والملك العزيز، قد خرجا مبرزين إلى البركة في ربيع الأول من السنة. وعادوا الرسل بغير زبدة، فعرفوا الملك الأفضل في احتيازهم عليه، بما قد عزم الملك العزيز، والملك العادل عليه، من إقامة الخطبة والسكة للملك العزيز، وتعجب من نقضهما الهدنة معه. ولما وصلوا إلى حلب، راسل الملك الظاهر أخاه الأفضل، في تجديد الصلح بينهما، وتحالفا على المعاضدة والمناصرة. ووصل إلى الملك الظاهر من الأمراء: علم الدين قيصر الناصري، أمير جاندار أبيه الملك الناصر، فأقطعه اللاذقية، وأخذها من ابن السلار. وسير العلم بن ماهان، ليعتبر ما في قلعتها ويسلمها إلى قيصر، ويجعل الأجناد فيها على حالهم، ويحلفهم للسلطان الملك الظاهر. وكان العلم بن ماهان، إذ ذاك عند الملك الظاهر في محل الوزارة، فلما وصل

تحرك الظاهر غازي حول حلب

إليها، ودخل قلعتها طمع باللاذقية، وحدثته نفسه بالعصيان، واستحلف الأجناد لنفسه، وخالفه بعضهم، وامتنعوا، وكتبوا إلى الملك الظاهر، وقبضوا على ابن ماهان. فسارع الملك الظاهر، وخرج إلى اللاذقية، وصعد إلى القلعة، وأحضر ابن ماهان، وقطع يده، وقلع عينه، وقتل غلاماً من خواصه، وقطع لسان البدر بن ماهان قرابته وأذنيه، وسلخ العامل النصراني الذي كان بها. واحتوى على جميع ما كان لابن هامان، وفرقه، ودخل إلى حلب وهو معه، فأركبه حماراً مقلوباً، وعلى رأسه خف امرأة، ويده معلقة في عنقه. وطيف به على تلك الحال، ولطم بالدرة. ثم صعدوا به إلى القلعة، فالتقاه ابن منيفة بوابها، وقال له: أريد حقي منك. وأخذ نعله من رجله، ولطمه به لطماً كثيراً. وحبس في القلعة. وتحدث بعض الناس أن الملك الظاهر أراد أن يرجع عن إقطاع قيصر اللاذقية، فكتب إلى ابن ماهان يأمره بالعصيان، ثم التزم بما فعل، ولم يظهر صحة ذلك. ولما دخل السلطان الملك الظاهر من اللاذقية، سير عسكراً من عسكر حلب، نجدة لأخيه الملك الأفضل، ووصل الملك العزيز والملك العادل، فنزلا على دمشق، وحصراها، وتسلمها الملك العزيز بمخامرة أوجبت دخول الملك العادل! من باب توما والملك العزيز من باب الفرج. وخرج الملك الأفضل من القلعة، وعوض عن دمشق بصرخد، فسار إليها ووصل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الظاهر إلى حلب، فأكرمه، واحتفل به، وذلك في شعبان من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وشرع الملك الظاهر في حفر الخنادق بحلب وتحصينها، وسير القاضي بهاء الدين، وغرس الدين قلج، إلى الملك. العزيز، يطلب موافقته. وكان قد رحل إلى مصر، وأبقى الملك العادل بدمشق. تحرك الظاهر غازي حول حلب وخرج الملك الظاهر إلى مرج دابق وأقام بها، وأظهر أن صاحب

مرعش عاث في بلد رعبان، وسير يقدمه عسكره إلى عين تاب فخاف صاحبها حسام الدين بن ناصر الدين، وحفظ القلعة. ونزل العسكر في الربض مظهرين أن لاغرض لهم في حصار القلعة، بل لشدة البرد والثلج. ثم أظهر أن صاحب مرعش سير إلى الملك الظاهر، واعتذر، وانقاد إلى طاعته، وحلف له. فرحل السلطان إلى الراوندان، وأقام بها ثلاثة أيام، ورحل إلى عزاز ليلاً، وهي في أيدي نواب الأمير سيف الدين بن علم الدين علي بن سليمان بن جندر، وكان مريضاً بحلب، فأراد السلطان أن يصعد إلى القلعة من شدة المطر، فمنعه من في القلعة أن يطلع إلا بإذن سيف الدين، فسار إلى دربساك وبها ركن الدين الياس ابن عم سيف الدين، فقبض عليه. وعاد إلى حلب مغضباً، ودخل إلى دار سيف الدين بنفسه، وأخذه في محفة، وسيره إلى عزاز ليسلمها، ووكل به حسام الدين عثمان بن طمان، فوصل معه إليها وسلمها إلى نواب السلطان الملك الظاهر، وعادوا به إلى حلب. ولما جرى على سيف الدين ذلك، وكانت دربساك معه، وفيها ماله ونوابه، وبها جماعة من أسرى الفرنج، فأعملوا الحيله، وكسروا القيود، وفتحوا خزانة السلاح، ولبسوا العدد، وقاموا في القلعة، فاحتمى الوالي في القلعة مع جماعة من الأجناد، والقتال عليهم. فعلم الملك الظاهر، بذلك، فخرج مجداً في السير حتى وصل درب ساك، فوجد الوالي قد انتصر على الأسرى، وقتلهم. وعاد السلطان إلى حارم، ثم دخل إلى حلب، فأقام حتى تقضت سنة اثنتين وتسعين. ووصله القاضي وقلج بجواب الملك العزيز بانتظام الصلح بينه وبينه. ورحل الملك العادل إلى بلاده الشرقية، ووصل ابنه الملك الكامل محمد إلى حلب، زائراً ابن عمه الملك الظاهر، وكان قد طلبه من أبيه ليزوره، فالتقاه الملك الظاهر، وأحسن ضيافته ثم سار إلى أبيه. وعصي سربك برعبان على الملك الظاهر، وقد كانت في يده، عوضه بهما عن حارم وكان من مماليك أبيه الشجعان، فأظهر الملك الظاهر أنه يخرج إلى الغزاة، وخرج إلى قنسرين، ثم عطف من غير أن يعلم أحد حتى وصل إلى رعبان، فنزل

الخوف من الفرنج

عليها، وأقام أياماً لا يقاتلها، في شهر رمضان، في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. واستغل بلدها، فلبس سربك سلاحه، وركب وحوله جماعة، قد لبسوا، وفتح باب القلعة، ونزل إلى السلطان، والتمس منه العفو فعفا عنه. ورد رعبان إليه، وسار إلى حلب، فأقام بها إلى أول ذي الحجة من سنة ثلاث وتسعين. الخوف من الفرنج وكان الملك العادل قد سار إلى الغور لحركة الفرنج، واستصحب معه نجدة من الملك الظاهر، فوصلت رسله إلى السلطان الملك الظاهر، يخبره أن الفرنج قد عزموا على قصد جبلة واللاذقية فخرج الملك الظاهر إلى الأثارب، وسير الحجارين والزراقين. لهدم، حصني جبلة واللاذقية. وسار المبارز أقجا لهدم جبلة، فهدموا سورها ودورها، وأجلى أهلها منها. وسارغرس الدين قلج، وابن طمان، لهدم اللاذقية، فنقبوا القلعة، وعلقوها، ورفعوا ذخائرها، وهدموا المدينة، وذهب أهلها، وبقي العسكر منتظراً وصول العدو، ليلقوا النار في الأخشاب المحشوة في الأنقاب، فلم يصل أحد منهم. وجاء البرنس في البحر تحت المرقب وطلب غرس الدين وابن طمان فوصلا إليه، وكلماه على جانب البحر، فأشار عليهما بأن لا تهدم اللاذقية، وأخبرهما أن الفرنج فتحوا صيدا وبيروت وعادوا إلى صور. فسيرا وأعلما السلطان وهو بريحا، فأمر ببناء ما استهدم منها، وسار إلى حارم، فوصلها في محرم سنة أربع وتسعين. وأقام بها مدة، ثم رحل إلى اللاذقية، فعمرها وعمر ضياعها، وتوجه إلى حلب. وتوفي غرس الدين قلج، فعصى أولاده بالقلاع التي كانت بيده، وهي: دركوش، والشغر، وبكاس، وشقيف الزوج، وامتنعوا من تسليمها

من نتائج موت العزيز بمصر

إلى الملك الظاهر. فخرج إليها، ونازلها، وأخذ عليها النقوب، واستنزلهم منها، وصفح عن جرمهم، وأجرى لهم المعيشة السنية، وتقدم عنده منهم: سيف الدين علي بن قلج. من نتائج موت العزيز بمصر ومات الملك العزيز بمصر، واختلف أمراؤها، فمال الأسدية إلى الملك الأفضل. والناصرية إلى الملك العادل. وانقاد الناصرية على نيات غير موافقة، واستدعوا الملك الأفضل، فسار من صرخد إلى مصر ودخلها. وتلقاه إخوته على مرحلتين منها، واستوثقوا منه بالأيمان، على أن يكون كافلاً للملك المنصور محمد ابن الملك العزيز ومربياً له. وخرج الجحاف، وجهاركس، إلى ميمون، إلى القدس، فقيد الملك الأفضل أخاه الملك المؤيد وجماعة من الأمراء كاتبوا الملك العادل، وأرسل الملك الظاهر وزيره نظام الدين أبا المؤيد محمد بن الحسين، إلى أخيه الملك الأفضل، مهنئاً له بولاية مصر، فأقام عنده مدة، والرسل تترد إليه من الملك الظاهر في الاتفاق على الملك. وكان الملك العادل، إذ ذاك محاصراً ماردين، وقد أشرف على أخذها، فسار الملك الأفضل إلى دمشق، وخرج الملك الظاهر إلى حارم، لغدر وقع من الفرنج بناحية العمق، أغاروا على التركمان، في تلك الناحية. وسير بعض العسكر إلى خناصرة ليقطع الطريق على الملك العادل إن توجه إلى دمشق. وصالح الملك الظاهر الفرنج ورحل إلى مرج قراحصار في سلخ رجب من سنة خمس وتسعين

حصار دمشق وفشل الحصار

حصار دمشق وفشل الحصار وسار الملك العادل حتى بلغ إلى تدمر، وسار في البرية إلى دمشق، ونزل الملك الأفضل على دمشق، في نصف شعبان من السنة. ونزل بعض عسكره في الميدان، وهجم بعض العسكر المدينة بمخامرة من أهلها، ونادوا بشعار الملك الأفضل. وكان مجد الدين أخو الفقيه عيسى هو الذي دخل منها حتى بلغ السوق، وشربوا الفقاع، فخرج الملك العادل، من القلعة، وأخرجهم في البلد. وخامر بعض العسكر على الملك الأفضل، ودخلوا في الليل إلى دمشق، فاختل الأمر عند ذلك، وتأخر الملك الأفضل إلى جسر الخشب. وسار الملك الظاهر إلى حماة، فالتقى سيف الدين طغرل الظاهري قطعة من عسكر حماة سائرة إلى منبج فظفر بها طغرل وأسر رجالها، وأحضرهم إلى الملك الظاهر، فأطلقهم بعدتهم ودوابهم. ولما وصل الملك الظاهر إلى حماة، منعه عسكرها من العبور على الجسر فعبر قهراً، ونزل عليها، وقاتلها، فهادنه الملك المنصور صاحبها، وأخرج إليه تقدمة سنية، وسير عسكره في خدمته، فأقطعه الملك الظاهر بارين وكانت في يد ابن المقدم، فخرج صاحب حماة إليها محاصراً لها. وسير الملك الظاهر إلى الموصل رسولاً يأمر صاحبها بإنجاد ماردين، وترحيل الملك الكامل والملك العادل عنها، ووصل الملك الظاهر إلى دمشق، واجتمع بالملك الأفضل في منزلته، وخيموا بأرض داريا ثم إنهم زحفوا على المدينة، وقاتلوها.

وبلغ الملك الظاهر أن جهاركس وأسامة وسراسنقر وغيرهم، قد عزموا على الدخول إلى دمشق، نجدة للملك العادل، فسير الملك الظاهر عسكراً مقدمه سيف الدين بن علم الدين، ليمنعوهم من الدخول، فاختلفوا في الطريق، ودخل المذكورون إلى الملك العادل، فاشتد بهم أزره، ولم يكن ينصح في القتال، وقت الحصار غير العسكر الحلبي، فأما المصري فأكثره منافق. ووصل المواصلة إلى ماردين، ورحلوا الملك الكامل عنها، ونهبوا ما كان لعسكره بها، فضربت البشائر خارج دمشق في العسكر. وسير الملك الظاهر عسكراً، مقدمه سيف الدين المذكور إلى الشرق ليجتمعوا مع المواصلة، ويحصروا بلاد الملك العادل بالشرق، وأقطع سيف الدين سروج، وكان الأمر قد استقر مع المواصلة، أن يرد إليهم سروج والرقة. فلما علموا بأن السلطان أقطع سيف الدين سروج انحرفوا عنه، وعادوا، وخرج عسكر الرها، فوقعوا على سيف الدين فانهزم عن سروج. وفتح الملك المنصور صاحب حماة بارين في ذي القعدة من ابن المقدم وعوضه عنها بمنبج، بعد ذلك على ما سنذكره فيما بعد. ووصلت رسل الشرق إلى الملك الظاهر وهو على دمشق واتفقوا على أن يكون لصاحب الموصل حران، والرها، والرقة، وسروج، وأن يكونوا يداً واحدة على من خالفهم، وتحالفوا على ذلك، في ذي الحجة من سنة خمس وتسعه وخمسمائة. ودخلت سنة ست وتسعين، والحصار على دمشق على حاله، وأكثر الأجناد يحملون الأزواد في الليل، ويبيعونه على أهل البلد، فأخرج الملك العادل خزائته جميعها، ثم اقترض من التجار جملة كبيرة، وأمر بعمل الروايا والقرب، للصعود إلى مصر، واستدعى ابنه الملك الكامل من البلاد الشرقية، فجمع وحشد. وسير الملك الظاهر إلى سيف الدين بن علم الدين، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، فاجتمعوا على سلمية ليمنعوا الملك الكامل من العبور، فعبر في جيش عظيم، لم يكن لهما به طاقة، فانحازوا إلى حماة وساق سيف الدين بن علم الدين، وأعلم السلطان الملك الظاهر بذلك.

الملك العادل في مصر

ووصل الملك الكامل إلى دمشق، فرحل الملك الظاهر، والملك الأفضل، إلى مرج الصفر، ثم إلى رأس الماء. ورحل الملك الظاهر، وأخفى نفسه جريدة إلى ناحية صرخد ومعه الملك المجاهد صاحب حمص، وسار إلى طرف السماوة، وخرجوا إلى تدمر. وسار الملك الظاهر إلى حلب، ووصل بعده بغال الثقل، دون الحمال على البرية، حتى وصلوا إلى القريتين، ولحقهم الملك الكامل بالقريتين، وهو مسرع إلى الشرق، ووقع عسكر حلب على قطعة من أصحابه، فظفروا بهم. فلما وصل الملك الكامل، وقد دخل ثقل السلطان إلى القريتين، سير إلى مقدم عسكر حلب علم الدين قيصر الناصري، واستدعاه، وقال له: ما بيننا وبينكم إلا الخير، وما جئنا لنتبعكم، فردوا علينا ما أخذتم لنا. ففعل ذلك، وسار الملك الكامل إلى الشرق، ووصلت البغال إلى حلب، في تاسع عشر شهر ربيع الأول. وأما الملك الأفضل، فإنه توجه من رأس الماء إلى مصر وتوجه ثقل الملك وخزانته معه إلى مصر. وخرج الملك العادل من دمشق، وسار خلفه إلى مصر، فدخلها، وهرب الملك إلى صرخد. الملك العادل في مصر واستولى الملك العادل على الديار المصرية، في صورة الكافل، والمربي، للملك المنصور محمد بن العزيز، وسير خزانة الملك الظاهر، وبقية ثقله جميعه إليه، وخفر أصحابه حتى وصلوا إلى حلب، في نصف جمادى الأولى، والسلطان بتل السلطان، فدخل إلى حلب.

الملكان الأفضل والظاهر يحاصران دمشق

ووصلته رسل الملك العادل تطلب منه الموافقة، فلم يجبهم إلى ذلك، وخرج إلى بكاس وحارم فمرض. ودخل حلب، واشتد مرضه، وطلب إليه القلعة الزهاد الذين كانوا بحلب، مثل أبي الحسن الفاسي، وعمي أبي غانم، وعبد الرحمن ابن الأستاذ، وسألهم الدعاء، وتبرك بهم، وأزال مظالم كثيرة. ثم أبل من مرضه ذلك، في ذي الحجة من سنة ست وتسعين. وانفصل عنه صاحب حمص وصاحب حماة، وصارا مع عمه الملك العادل، وعوض صاحب حماة عز الدين بن المقدم بمنبج عن بارين، بإشارة الملك العادل. ومات ابن المقدم بأفامية، وصار فيها أخ له صغير. واستقل الملك العادل بملك مصر، وقطع الخطبة والسكة للملك المنصور بن العزيز، واختلف جندها، فمنهم من مال إلى تمليك الملك العادل، وأقام في خدمته، ومنهم من كان يريد ابن العزيز، فانفصل منهم جهاركس، والجحاف، وغيرهما، فإنهم انفصلوا عن مصر، واتفقوا مع الملك الأفضل. الملكان الأفضل والظاهر يحاصران دمشق فوصل الملك الأفضل إلى أخيه السلطان الملك الظاهر إلى حلب، في عاشر جمادى الأولى من سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ووصل معه الجحاف، وأخبرا أأن جهاركس بالغور، مع العسكر. واتفقوا على محاصرة دمشق. وسير الملك الظاهر إلى الموصل بطلب نجدة تصله، وبرز مع أخيه الأفضل، وقصدا منبج، ففتحها الملك الظاهر، وقبض على ابن المقدم وحبسه، وأقطعها الجحاف، بعد أن خرب حصنها. وكان ابن فاخر سعد الدين مسعود بقلعة نجم، نائباً عن ابن المقدم، وأخته معه، فسلمها إلى الملك الظاهر، وعوضه، بمائز قرية من بلد عزاز وسلمها الملك الظاهر إلى الأفضل. وسار إلى أفامية، ومعه ابن المقدم، فعاقبه تحتها ليسلموا إليه، فلم يسلموا

فسيره، وحبسه بحلب، وأقام بكفر طاب، واستولى على بلدها، ونزل بمعرة النعمان، ونهب بلدها، وأخذ ما فيها لبيت المال، وسار إلى حماة، فنزل عليها، في شعبان، وقاتلها إلى أن صالحه الملك المنصور صاحبها، ووزن له ثلاثين ألف دينار، ووافقه. وسار إلى حمص، فصالح الملك المجاهد صاحبها، ووافقه، وسار إلى دمشق فنازلها، واستدعى جهاركس وقراجا من الغور، فدافعا عن الوصول، فسار السلطان الملك الظاهر إليهما بنفسه، ولاطفهما حتى رحلا معه، بعد أن أعطى الملك الأفضل قراجا صرخد، وأخرج أمه وعياله منها، ونزلوا على دمشق، وعزموا على قتالها، ففند جهاركس عن ذلك، وكان قد صار في الباقين مع الملك العادل، وقال: المصلحة أننا نلقى الملك العادل، فإذا كسرناه تم لنا ما نريد. وكان الملك العادل قد نزل من مصر إلى الكرك، ثم توجه إلى نابلس، فلما رأى جهاركس جد الملك الظاهر على حصار دمشق، هرب من العسكر إلى الملك العادل إلى نابلس، وهرب قراجا إلى صرخد، وعصى بها، وتركا خيامهما على حالها وبركتهما، فأنهب السلطان الملك الظاهر ذلك جميعه، ثم زحف بالعساكر على دمشق، وقاتلوها قتالاً شديداً، وأحرقوا العقيبة ونهبوا الخانات. وراسل الملك العادل صاحب الموصل، فاتفق معه، ورجع عن الملك الظاهر، بعد أن وصل إلى رأس عين. وسار الملك الفائز بن العادل من البلاد الشرقية، طالباً تشعيث بلاد

الأفضل والظاهر يختلفان

السلطان الملك الظاهر، وشغل خاطره عن حصار دمشق، فسير الملك الظاهر المبارز أقجا وكان من أكبر أمراء حلب ومعه بعض العسكر، فنزل على بالس ونهبها، وسار إلى منبج فنزلها، فوصل الملك الفائز إليها، فانهزم بمن كان معه من العسكر إلى بزاعا، ودخلها الفائز، وبنى قلعتها وحصنها، وسار منها طالباً عسكر حلب إلى بزاعا، فاندفعوا بين يديه إلى حلب، وأقام على بزاعا أياماً، وجفل بلد حلب خوفاً منه، وهرب فلاحوه. ورحل إلى أبيه إلى نابلس، فسير الملك العادل نجدة تدخل إلى دمشق، فبلغ حديثها الملك الظاهر، وقد أحدقت العساكر بدمشق، فكمن لهم كميناً، فوقعوا عليهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وانهزم بعضهم، ولم يدخل إلى المدينة إلا القليل. ونكث صاحب حماة، وخرج إلى ناحية الروج، وأغار عليه، ونهب رستاق شيزر. وسار عسكر حلب إلى منبج، فلم يجد فيها مطمعاً، واستدعاهم الملك الظاهر، فمضوا إليه إلى دمشق، وطال الحصار، وضجر العسكر، وهرب شقير، والجحاف، بعد استيلاء الفائز على منبج، وكان خير الجحاف. الأفضل والظاهر يختلفان ووقع الخلف بين الملك الأفضل والملك الظاهر على دمشق، فالملك الظاهر يريدها لنفسه، لأنه أخرج الخزائن، وبذل الأموال، وحصرها بعسكره، والملك الأفضل يريدها لنفسه لأنها بلده، وأنه أخرج صرخد من يده بسببها. وحصل بينهما منافرة أوجبت رحيل الملك الظاهر، ومعه ميمون القصري، وسراسنقر، وأيبك فطيس، والبكي الفارس، والقبيسي. ورحل الملك الأفضل فنزل حمص، عند صاحبها الملك المجاهد، وزوج ابنه الملك المنصور إبراهيم بابنة الملك الأفضل. وسار الملك الظاهر إلى حماة، فأغار عليها، وشعث بلدها، وصانع صاحبها

الملك المنصور، على مال أخذه منه، وسار إلى منبج، وعزم على أن يهجمها بالسيف، ويقتل جميع من بها، لأنهم قاموا مع الملك الفائز، فشفع إليه الأمراء في أن يسلموها طائعين، ويعفو عنهم، فتسلمها، وأقطعها ابن المشطوب، في المحرم من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. ثم دخل إلى حلب، وأقطع ميمون القصري عزاز، وشيح، وبلد الخوار، وأقطع أيبك فطيس أقطاعاً أرضاه، وعاد عنه سراسنقر، وتسلم السلطان أفامية من ابن المقدم، وعوضه عنها بالراوندان. وتوفي وزير السلطان الملك الظاهر جمال الدين أبو غالب عبد الواحد بن الحصين البغدادي في شعبان سنة سبع وتسعين، وكان في خدمة أبيه الملك الناصر، فانتقل بعد موته إلى حلب، ووزر له، وصار وزيره بعده نظام الدين أبو المؤيد محمد ابن الحسين. ووصل الملك العادل إلى دمشق، فتوجه إليه الملك المجاهد صاحب حمص، ومعه الملك الأفضل، وترقق إليه، فأعطى الملك الأفضل شيحتان وجملين والموزر وقلعة السن وسميساط. وسار إليها الملك الأفضل، ونزل الملك العادل إلى حماة، وراسل الملك الظاهر، حتى استقر الصلح بينه وبينه، على أن خطب له الملك الظاهر بحلب، وضرب السكة باسمه مع اسمه، في شهر جمادى الآخرة، من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وصعد الرسول شمس الدين بن التنبي إلى المنبر، وقت إقامة الدعوة له، يوم الجمعة، ونثر ذهباً كثيراً على الناس. وبلغ الملك الظاهر، عن ابن المشطوب، أنه كان قد عزم على المخامرة، فسير إلى منبج العسكر، وأخذها منه، وعفا عنه، وهدم قلعتها وسورها، فمضى ابن المشطوب إلى الشرق. وجمع الملك الظاهر العرب في دابق، لأخذ العداد منهم، وخاف ابن المقدم منه، فهرب إلى الراوندان، ليعصي بها، فسار الملك الظاهر خلفه، ولم يمهله،

من حوادث سنة 600 هجرية

فلم يبت في قلعتها غير ليلة واحدة. ومضى إلى بدر الدين دلدرم، بتل باشر، منهزماً من السلطان. فوصل السلطان إليها ونزل عليها محاصرا لها، فسلمها من كان بها إليه، وحار جميع ما كان فيها من الذخائر والأموال، ورتب أمورها. وسار منها إلى منبج وسير نجدة للملك الكامل ابن عمه العادل، وكان نازلاً على ماردين لأن صاحبها صار مع ركن الدين بن قلج رسلان، ونزل السلطان في بدايا، واتفق الأمر بينه وبين صاحب ماردين وابن الملك على الصلح، فعاد إلى حلب بعد أن توجه إلى البيرة. وخرج من البحر جمع كبير من الفرنج، في سنة تسع وتسعين وخمسمائة. ووصلت طائفة منهم إلى جهة انطاكية، مجتازة على اللاذقية في البر، وكان مقطع اللاذقية إذ ذاك، سيف الدين بن علم الدين. وعبروا في أرض اللاذقية، على كره من المسلمين، وفي عزمهم إن رأوا لهم طمعاً في اللاذقية يأخذوها. فخرج سيف الدين بعسكره، والتقوا، ونصره الله عليهم، وأسر ملوكهم ومقدميهم وكان ملكهم أعور وقتل منهم جمعاً كثيراً، ووصل الأسرى، والملك، والرؤوس، والخيل والسلاح، إلى حلب وكانت غنيمة عظيمة. وعصى الملك الأفضل على عمه الملك العادل، في البلاد التي كان أعطاه إيا ها، فسير، واستعاد منه شيحتان، وجملين، والموزر، وسروج، والسن، وسار الملك الظاهر إلى قلعة نجم فأخذها من الملك الأفضل، خوفاً أن يستولي عليها عمه، وكان الملك الظاهر قد سلمها إلى الأفضل، فوصلت أم الملك الأفضل إلى حلب، تسأل الملك الظاهر، سؤال عمه فيه، وفي رد البلاد عليه، فسير معها إلى دمشق سيف الدين بن علم الدين في ذلك، فلم يجب إلى ترك شيء من البلاد عليه، سوى سميساط. وشرط عليه أن لا تكون له حركة بعد ذلك. من حوادث سنة 600 هجرية ووصلت الأخبار بحركة الفرنج إلى جبلة واللاذقية، فسير السلطان إليها العساكر، وأمرهم بخراب جبلة واللاذقية فلم يكن للفرنج حركة. وخربت قلعة

غارات ابن ليون الأرمني

اللاذقية والعتيقة وكانت من جهة الشمال وذلك بعد أن أخذت اللاذقية من ابن جند، وسيف الدين بن علم الدين. وولد للسلطان الملك الظاهر ولده، الملك الصالح أحمد في صفر، وسر به سروراً عظيماً، وزين البلد والقلعة، ولبس العسكر في أجمل هيئة وزي. ولبس السلطان، ولعب العسكر معه في ميدان باب الصغير. وفي محرم سنة إحدى وستمائة، هجم ملك الأرمن ابن لاون، وهو من ولد بردس الفقاس، الذي كان في زمن سيف الدولة صاحب أنطاكية فسير الملك الظاهر عسكراً من حلب، لنجدة البرنس صاحبها. فلما وصلوا إلى العاصي، ضعف أمر ابن لاون عندهم، وقاموا عليه، وأخرجوه منها، وقتلوا جماعة كبيرة من أصحابه، فعاد عسكر حلب إليها، ففسخ ابن لاون الهدنة، وأغار على بلد العمق، واستاق مواشيها، وشرع في عمارة حصن داثر في الجبل، بالقرب من دربساك، ليضيق به عليها. وأرسل إلى السلطان، وسأله أن يخلي بينه وبين أنطاكية. وأن يعيد جميع ما أخذه من العمق، فأجابه إلى ذلك، وهادنه على هذا الأمر. ونزل على أنطاكية، وخرب رستاقها، ووقع فيها غلاء عظيم، فكان الملك الظاهر يمد أهل أنطاكية بالغلال، حتى قويت. غارات ابن ليون الأرمني فجرد ابن لاون في جمادى الأولى، في الليل، عسكراً في ليلة الميلاد، وجاء على غفلة إلى ربض دربساك، فلم ينكروا وقود النار في ليلة الميلاد، فقاتلهم أهل الربض ومن به من الأجناد، في بيوت الربض، فلم يظفروا منهم بطائل، وطلع الفجر، فانتشروا في أرض العمق، ونهبوا من كان فيه من التركمان، وداموا إلى صحوة ذلك النهار، ورجعوا. وابتدرت عساكر تلك الناحية من المسلمين فلم يدركوهم، ودخل الأرمن إلى جبل اللكام، فجاءهم في الليل ثلج عظيم، وهلك ما معهم من الخيل والمواشي،

فكانوا يسلخون الشاء ويلبسون جلودها، لشقة البرد. فسير الملك الظاهر عسكرا من عسكر حلب يقدمه ميمون القصري، ومعه أيبك فطيس، فنرلوا على حارم، وقطعة من العسكر مع ابن طمان بدربساك وسيف الدين بن علم الدين نازل بعسكره على تيزين وكانت جارية في أقطاعه وفي أكثر الأيام تجري وقعات بين العسكر المقيم بدربساك، وبين عسكر ابن لاون ببغراس. وخرج السلطان إلى مرج دابق، في شعبان من هذه السنة، للدخول إلى بلد لاون، وجمع العساكر، وسير إليه عمه الملك العادل، وغيره من ملوك الإسلام النجد، فأقام بدابق إلى أن انسلخ شهر الصيام. فسار ابن لاون من الثنيات، وجاء على غير طريق البرك في الليل، فأصبح في العمق غائراً على غزة من العسكر، وكبس العسكر الذي كان مع ميمون، حتى حصلوا معهم في الخيام، وقابلوهم على غير أهبة فقاتلهم المسلمون، فقتل منهم جماعة، ولم يلبث إلا قليلاً، وعاد، وساق سيف الدين من تيزين، فوجده قد رجع. وبلغ الخبر إلى السلطان، وهو بدابق، فسار بالجيوش التي معه فنزل بالعمق، واجتمع من العساكر والتركمان ما لا يحد كثرة، فسير ابن لاون يبذل الطاعة، وأن يهدم الحصن الذي بناه بقرب دربساك. فأعرض عنه، ورد فلاحي العمق، وعمر ضياعه، وكمل استغلال ذلك البلد، والرسل تتردد في إصلاح الحال، إلى أن استقرت القاعدة: على أن يهدم لاون الحصن الذي بناه، ويرد جميع ما أخذ في الغارة، ويرد جميع أسارى المسلمين الدين في يده، وأن لا يعرض لأنطاكية. وقرر الصلح إلى ثماني سنين، وخرب الحصن، ورد ما استقر الأمر عليه. ودخل السلطان حلب، في سنة ثلاث وستمائة، وأمر جماعة من مماليكه وأصحابه. وعاد الفرنج على بلد حماة، في سنة خمس وستمائة، فسير الملك الظاهر من حلب، نجدة من عسكره.

الرد على الفرنج وظهور كيخسرو

الرد على الفرنج وظهور كيخسرو ونزل الملك العادل على قدس، وغارت خيله على طرابلس، وخربوا حصونها، وشتى بحماة إلى أن انقضى فصل الربيع. وعاد إلى دمشق، وعاد ابنه الأشرف، إلى بلاده من خدمة أبيه، فعبر في حلب، فالتقاه الملك الظاهر، واحتفل به، وأنزله في داره بقلعة حلب، وقدم له تحفاً جليلة من السلاح، والخيل، والذهب، والجوهر، والمماليك، والجواري، والثياب، بما قيمته خمسون ألف دينار، وودعه بعد سبعة أيام، إلى قراحصار، وعاد إلى حلب. وقصد كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد ابن لاون، وطلب نجدة من السلطان الملك الظاهر، فأرسل إليه عسكراً مقدمه سيف الدين بن علم الدين، وفي صحبته أيبك فطيس، فاجتمعوا بمرعش، ونزلوا على برنوس في سنة خمس وستمائة، فافتتحوها، وافتتحوا حصوناً عدة من بلد ابن لاون. فراسل لاون الملك العادل، والتجأ إليه، فأرسل الملك العادل إلى كيخسرو وإلى الملك الظاهر، فابتدر كيسخرو، وصالح ابن لاون على أن يرد حصن بغراس إلى الداوية، وأن لا يعرض لأنطاكية، وأن يرد ماله الذي تركه عنده، في حياة أخيه ركن الدين. وكان قد خاف من أخيه، فقدم حلب، وأقام عند الملك الظاهر مدة، وخاف الملك الظاهر من أخيه ركن الدين، أن يتغير قلبه عليه بسببه، وأنه ربما يطلبه منه، فلا يمكنه تسليمه إليه، فأعرض عنه. فدخل إلى ابن لاون، ثم خاف منه، فانهزم، وترك عنده مالاً وافراً، فاحتوى عليه فرده عليه، عند هذه الهدنة. ودفع إليه جميع الأسرى من المسلمين، الذين كانوا في بلاده، وأن لا يعرض لبلاد السلطان الملك الظاهر. ووصلت نجدة حلب إلى حلب. العادل في الجزيرة وخرج العادل من دمشق، في سنة ست وستمائة، وطلب من الملك الظاهر

نجدة، تكون معه إلى الشرق، ليمضي إلى خلاط، لدفع الكرج عنها، فسير إليه نجدة، وعبر الفرات. فلما وصل إلى رأس عين، رحل الكوج عن خلاط، ووصل إليه صاحب آمد، فسار في العسكر إلى سنجار، وأقطع بلد الخابور، ونصيبين. ونزل على سنجارمحاصراً لها، وشفع إليه مظفر الدين بن زين الدين، في صاحب سنجار، فلم يقبل شفاعته. وقال: لا يجوز لي في الشرع، تمكين هؤلاء من أخذ أموال بيت المال في الفساد وترك خدمة الأجناد، في مصلحة الجهاد، وضايق سنجار، وقاتلها في شهر جمادى الآخرة. وقام نور الدين بن عز الدين صاحب الموصل في نصرة ابن عمه صاحبها، واتفق مع مظفر الدين، وتحالفا، وأفسدا جماعة من عسكر الملك العادل، وراسلا الملك الظاهر، على أن يجعلاه الس لطان، ويخطبوا له، ويضربوا السكة باسمه. وجعل الملك الظاهر يداري الجهتين، والرسل تتواتر إليه من البلدان، وهو في الظاهر في طاعة عمه وعسكره معه، وفي الباطن في النظر في حفظ سنجار، ومداخلة المواصلة، وهو يظهر لعمه أنه متمسك بيمينه له، إلى أن أرسل أخاه الملك المؤيد، ووزيره نظام الدين الكاتب إلى عمه، معلماً له أن رسول الموصل، ومظفر الدين، وصلا يطلبان منه الشفاعة إليه، في إطلاق سنجار، وتقرير الأمر على حالة يراها. وتوسط الحال عند قدومه، على أن شفع فيهم الملك الظاهر، وأطلق لهم سنجار، واستنزلهم عن الخابور ونصيبين. وعاد الملك المؤيد، من حضرة عمه بالبر الوافر. فلما وصل رأس عين، دخل إليها في ليلة باردة كثيرة الثلج، فنزل في دار فيها منرل مجصص، فستر بابه،

زواج الظاهر وعنايته بالعمران

وسد ما فيه من المنافس، وأوقد فيه نار من منقل، وعنده ثلاثة من أصحابه، فاختنق، وواحد من أصحابه، وحمل إلى حلب ميتاً في شعبان، من سنة ست وستمائة. وجرى على الملك الظاهر منه ما لا يوصف من الحرن والأسف. ووصل الملك العادل إلى حران، وخافه صاحب الموصل والجريرة، فراسل الملك الظاهر، وطلب منه أن يخلي بينه وبين ملوك الشرق، وأن يحتكم في ما يطلبه منه، وراسله صاحب الموصل، وصاحب إربل، وصاحب الجزيرة، يعتضدون به وهو لا يؤيسهم. فخرج السلطان إلى حيلان بعسكره، ثم رحل إلى السموقة وراسل عمه في مهادنتهم وتطييب قلوبهم، وهو مخيم على لا السموقة على نهر قويق وطلب منه أن تكون كلمة المسلمين كلهم متفقة. وكذلك تدخل في الصلح ملك الروم، وأن يقصدوا الفرنج بجملتهم، فإن الفرنج في نية التحرك، وخامر جماعة من عسكر الملك العادل. ووصل ابن كهدان إلى السلطان الملك الظاهر، فأكرمه، فتخاذل عسكر الملك العادل، فاتفق الحال بينهم على الصلح، ودخول ملوك الإسلام فيه. زواج الظاهر وعنايته بالعمران وتمت المصاهرة بين الملك العادل والملك الظاهر على ابنته الخاتون الجليلة ضيفة خاتون بنت الملك العادل وشرع السلطان في عمل قناة حلب وفرقها على الأمراء، والخواص. وحرر عيونها، وكلس طريقها جميعه، حتى كثر الماء بحلب. وقسم الماء فى جميع محال حلب. وابتنى القساطل في

المحال. ووقف عليها وقفاً لإصلاحها، وذلك في سنة سبع وستمائة. وتوفي وزير السلطان الملك الظاهر نظام الدين محمد بن الحسين بحلب، بعلة الدوسنطاريا، في صفر سنة سبع وستمائة. وكان رحمه الله وزيراً صالحاً مشفقاً، ناصحاً، واسطة خير عند السلطان، لا يشير عليه إلا بما فيه مصلحة رعيته والإحسان إليهم. وقام بعمه بكتابة الإنشاء والأسرار شرف الدين أبو منصور بن الحصين، وشمس الدين بن أبي يعلى كان مستوفي الدواوين. فلما مات أبو منصور بن الحصين استقل بالوزارة، وأضيف إليه ديوان الإنشان مع الاستيفاء. وعمر السلطان باب قلعة حلب، والدركاه، وأوسع خندقها وعمل البغلة من الحجارة الهرقلية، وعمق الخندق، إلى أن نبع الماء في سنة ثمان وستمائة. وخرجت من مصر، في هذه السنة، الملكة الخاتون، ضيفة خاتون بنت الملك العادل إلى حلب، مع شمس الدين بن التنبي. والتقاها الملك الظاهر بالقاضي بهاء الدين من دمشق، ثم بالعساكر الحلبية بعد ذلك بتل السلطان واحتفل في اللقاء، وبالغ في العطاء. ووصلت إلى حلب في النصف من المحرم من سنة تسع وستمائة. وملك ابن التنبي قرية من قرى حلب، من ضياع الأرتيق يقال لها تلع وأعطاه عطاء وافراً، وحظيت عنده حظوة، لم يسمع بمثلها. ووقعت النار في مقام إبراهيم عليه السلام وهو الذي فيه المنبر، ليل الميلاد، وكان فيه من الخيم والآلات والسلاح ما لا يوصف، فاحترق الجميع، ولم يسلم غير الجرن الذي فيه رأس يحيى بن زكريا عليه السلام واحترقت السقوف والأبواب، فجدده السلطان الملك الظاهر، في أقرب مدة أحسن مما كان. وتوفي شرف الدين عبد الله بن الحصين كاتب السلطان، واستقل شمس الدين عبد الباقي بن أبي يعلى بالوزارة، في سنة تسع وستمائة. وشرع الملك الظاهر في هدم باب اليهود وحفر خندقه وتوسعته. وبناه بناء حسناً، وغيره عن صورته التي كان عليها، وبنى عليه برجين عظيمين، وسماه باب النصر. وأتم بناءه، في سنة عشر وستمائة.

وولد للسلطان الملك الظاهر ولده الملك العزيز، من ابنة عمه الخاتون ضيفة خاتون،، في يوم الخميس خامس ذي الحجة من سنة عشر وستمائة فضربت البشائر، وزينت مدينة حلب، وعقدت القباب. وفي اليوم السابع عشر، من ميلاده، ختن السلطان أخاه الملك الصالح، واحتفل بختانه، ونصب الزورق، من قلعة حلب إلى المدينة، ونزل فيه الرجال، وعملوا من الآلات والتماثيل التي ركبوها، حالة النرول أنواعاً وطهر أولاد الأكابر من أهل المدينة، وشرفهم، وخلع عليهم. فجدد السلطان الملك الظاهر باشورة حلب، من باب الجنان إلى برج الثعابين، وبنى لها سوراً قوياً ظاهراً عن السور العتيق، وجدد فيه أبرجة كالقلاع، وعزم على أن يفتتح بالقرب من برج الثعابين باباً للمدينة، ويسميه باب الفراديس، وكان يباشر الإشراف على العمارة بنفسه. وأمر قي هذه السنة بتجديد ربض الظاهرية، خارج باب قنسرين، فيما بينه وبين النهر، فنسب إليه لذلك، وخربت الياروقية، وانتقل معظم أهلها إليه. ووثب الإسماعيلية على ابن الإبرنس، بكنيسة انطرسوس، فقتلوه، فجمع البرنس جموع الفرنج، ونزل على حصونهم، وقتل وسبى، وحصر حصن الخوابي فكتبوا إلى السلطان، يستغيثون به، ويستنجدونه، فاستخدم السلطان مائتي راجل. وسير جماعة من عسكر حلب، يحفظونه، ليدخلوا إلى حصن الخوابي، ويمنعوا الفرنج من الاستيلاء عليه. وجرد عسكراً من حلب، مع سيف الدين بن علم الدين، ليشغل الفرنج من جهة اللاذقية ليتمكن الرجالة من الدخول إلى الحصن. فلما سمع الفرنج بذلك، كمنوا كميناً للرجالة والخيالة، الذين يحفظونهم، فأسروا الرجالة، وقتلوهم، وقبضوا ثلاثين من الخيالة، وذلك في حادي عشر شهر رجب. فعند ذلك خرج الملك المعظم ابن العادل، من دمشق، بعسكره، ودخل غائراً في بلد طرابلس، فلم يترك في بلدها قرية إلا نهبها، وخربها، واستاق الغنائم والأسرى، فرحلوا عن الخوابي، وأطلقوا الأسرى الدين أسروهم من أصحاب السلطان الملك الظاهر،، وراسلوه، معتذرين، متلطفين، وافترقوا عن غير زبدة حصلت لهم.

ولاية العهد وموت الظاهر

وتمت الباشورة، والباب والأبرجة، في سنة اثنتي عشر وستمائة. ولم يتم فتح الباب، وسده طغرل الأتابك، مات الملك الظاهر، إلى أن فتحه السلطان الملك الناصر أعز الله نصره على ما نذكره، في سنة اثنتين وأربعين وستمائة. ولاية العهد وموت الظاهر ووقعت المراسلة بين السلطان الملك الظاهر،، وبين السلطان كيكاوس بن كيخسرو واتفقا على أن يمضي السلطان إلى خدمته، ويتفق معه خوفاً من عمه فأجابه كيكاوس إلى ذلك، وخرج بنفسه إلى أطراف البلاد. وندم السلطان على ما كان منه، ورأى أن حفظ بيته أولى، وأن اتفاقه مع عمه أجمل، فسير القاضي بهاء الدين قاضي حلب إلى عمه إلى مصر برسالة، تتضمن الموافقة: أنه قد جعل ابنه الملك العزيز محمداً، ابن ابنة الملك العادل، ولي عهده وطلب من الملك العادل أن يحلف له على ذلك. فسار إلى مصر، فرتب السلطان خيل البريد، تطالعه بما يتجدد من أخبار عمه لينظر في أمره، فإن وقع منه ما يستشعر منه، خرج بنفسه إلى كيكاوس، وهو مع هذا كله في همه تجهيز الجيوش، والاستعداد للخزوج إلى كيكاوس، والاجتماع معه على قصد بلد ابن لاون أولاً. وكان ابن لاون قد ملك أنطاكية، وضاق ذرع السلطان بمجاورته، لعلمه بانتمائه إلى عمه. فوصلت الأخبار من القاضي من مصر، أن الملك العادل أجاب الملك الظاهر إلى كل ما اقترحه، وسارع إلى تحصيل أغراضه، ولم يتوقف في أمر من الأمور. وجعل كيكاوس يحث السلطان على الخروج، ويذكر أنه ينتظره، ونشب السلطان به، وضاق صدره، وبقي مفكراً في أن عمه قد وافقه، ولا يرى الرجوع عنه إلى ملك الروم، فيفسد ما بينه وبين عمه، ويغض من قدره بالخزوج إليه، ويفكر في حاله مع ملك الروم، وفي كونه وعده بالخروج إليه والاجتماع به إذا خرج، وأنه إن رجع عن ذلك فسد ما بينه وبين ملك الروم، والعسكر قد برز، وهو مهتم في ذلك الأمر. وطلب الاعتذار إلى ملك الروم بوجه يجمل.

فلشدة فكره، وضيق صدره، هجم عليه مرض حاد في جمادى الآخرة في سنة ثلاث عشرة وستمائة. واعترته أمراض شتى. واشتد به الحال. وجمع مقدمي البلد وأمراءه، واستحلفهم لابنه الملك العزيز محمد، ثم من بعده لابنه الملك الصالح أحمد، ثم من بعده لابن أخيه، وزوج ابنته: الملك المنصور محمد بن الملك العزيز. وجعل الأمير سيف الدين بن علم الدين مقدم العسكر وشهاب الدين طغرل الخادم والي القلعة. ومتولي الخزانة، وتربية أولاده، والنظر في مصالح الدار والنساء. وأ نزل بدر الدين أيدمر والي قلعة حلب منها، وأقطعه زيادة على ما كان في يده من الأقطاع قلعة نجم، بذخائرها وعددها، وزردنا أمع تسع ضياع آخر من أمهات الضياع. وحلف إخوة السلطان على ذلك. واستشعر السلطان من أخيه الملك الظاهر خضر وكان مقيماً بالياروقية فأقطعه كفر سوذ، وتقدم إليه بالتوجه إليها، فسار إليها، فسبقه الملك الزاهر، فاستولى عليها، وعلى البيرة وحروص والمرزبان ونهر الجوز والكرزين والعمق. ومات السلطان الملك الظاهر رحمه الله بقلعة حلب، في الخامس والعشرين، من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكتم خبر موته

ذلك اليوم، حتى دفن في الحجرة، إلى جنب الدار الكبيرة، التي أنشأها بقلعة حلب. ثم أركب في اليوم الثاني من موته ولداه: الملك العزيز، والملك الصالح وأنزلا بالثياب السود إلى أسفل جسر القلعة، وصعد أكابر البلد إليهما. وأصيب أهل حلب بمصيبة فتت في أعضادهم. وكان له رحمه الله في كل دار بها مأتم وعزاء، وفي كل قلية نكبة وبلاء: والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير

القسم التاسع والعشرون اتفاق الأمراء

القسم التاسع والعشرون اتفاق الأمراء ووصل القاضي بهاء الدين من الرسالة، في اليوم الثالث، والوزير ابن أبي يعلى، قد استولى على التدبير، وحكم على الصغير والكبير، فصعد إلى القلعة، واجتمع بشهاب الدين طغرل، وصرفه عن اضافة الأمور إلى الوزير. وقرر أن الأمراء يجتمعون، ويتشاورون فيما يدبرونه، وأن لا يخرج الأمر عن رأي شهاب الدين أيضاً، فاجتمعوا بدار العدل، واتفقت أراؤهم على أن يكون الملك المنصور بن العزيز أتابك العسكر، وأمر الأقطاع إليه، وأمر المناصب الدينية يكون راجعاً إلى شهاب الدين طغرل، وحلفوه على ذلك، وركب، والأمراء كلهم في خدمته. ونزل الملك العزيز، والملك الصالح، وجلسا في دار العدل، والملك العزيز في منصب أبيه، وأخوه إلى جانبه، والملك المنصور، إلى جانبهما ثم اضطربت الحال، ولم يرض إخوة الظاهر، بولاية المنصور. ووصل في أثناء ذلك رسول الملك الرومي كيكاوس وكان مخيماً بالقرب من البلاد ينتظر وصول السلطان الملك الظاهر إليه فسير رسولاً معزياً، ومشيراً بالموافقة معه، وأن يكون الملك الأفضل أتابك العسكر، فإنه عم الملك العزيز، وهو أولى بتربيته وحفظ ملكه. ومال الأمراء المصريون مثل: مبارز الدين يوسف بن خطلخ، ومبارز الدين سنقر الحلبي، وابن أبي ذكرى الكردي، وغيرهم، إلى هذا الرأي، وقالوا: إن هذا ملك كبير، ولا ينتظم حفظ الملك إلا به، وإذا صار أمر حلب راجعاً إليه كان قادراً على أخذ ثأره من عمه، وأخذ الملك به

ورأى القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج، وغيرهما، غير ذلك، وقالوا: إن هذا إذا فعل، كان الملك العزيز على خطر من الجانبين، لأن الملك العادل ملك عظيم، وصاحب الديار المصرية، فإذا قبلنا ذلك خرج من أيدينا، فإن كانت الغلبة له انتزع الملك من أيدينا. وإن كانت عليه فلا نأمن أن الملك الأفضل، يتغلب على ابن أخيه وينتزع الملك منه، ويستقل به، كما فعل الملك العادل بابن العزيز، والملك العادل قد حلف للملك الظاهر،، ولابنه الملك العزيز من بعده، وهو ابن ابنته، وابنته بقلعة حلب، ونحن نطالبه بالوفاء بالعهد، وهو يذب عن حلب كما يذب عن غيرها من ممالكه، وأمور الخزائن هي راجعة إلى شهاب الدين طغرل، وهو متولي القلعة. والرأي أن يقع الاتفاق عليه، فإن المال عنده بالقلعة، وهو فيها ينتصف ممن خالفه، وقد وقع اعتماد الملك الظاهر عليه. فاتفق رأيهم كلهم عليه. وعملت نسخة يمين، حلف بها جماعة والمقدمين من أهل البلد، على الموالاة، والطاعة للملك العزيز، ثم من بعده لأخيه الملك الصالح، وعلى الموالاة لأتابكه شهاب الدين طغرل، وانقاد الجميع له طائعين ومكرهين. وأبعد الوزير ابن أبي يعلى، وصرف، واستقر الأمر على ذلك، في أواخر شعبان، في السنة. وسار ابن أبي يعلى عن حلب، في شهر رمضان من السنشة، واستقل طغرل بترتيب البلاد والقلاع وتفريق الأموال والأقطاع، ولا يخرج في ذلك كله، عن رأي القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج. وأقطع علم الدين قيصر دربساك، وابن أمير التركمان اللاذقية، وسير علم الدين إلى الملك الزاهر، أولاً، يعاتبه على استيلائه على البلاد، فاعتقله، وقال: أنا أحق بذلك، فإنني كنت ولي العهد لأخي، وقد حلف لي الناس. وطمع بملك حلب، ثم انقاد إلى الطاعة والخطبة، وشرط أن تبقى البلاد، التي استولى عليها بيده، فأجيب إلى ذلك.

تحرك الفرنج وملك الروم

ولما استقر أمر الأتابكية لشهاب الدين طغرل، كره ذلك جماعة من الممالكيك الظاهرية، فعمد عز الدين أيبك الجمدار الظاهري، واستضاف إليه جماعة من المماليك الظاهرية، والأجناد. وكاتب الأسد أقطغان، وكان والي حارم واتفق معه على أن يأتي إليه، إلى حارم بالجماعة الذين وافقهم، ويفتح له القلعة، فإذا حصلوا بها انضم إليهم جماعة غيرهم، وكان لهم شأن حينئذ. وكان العسكر المقيم بحارم قد أصعد إلى القلعة، ورتب بها، وفيها المبارز أيوب ابن المبارز أقجا، فأحسوا باختلاف أمر الأسد الوالي، وأنكروا عليه أشياء، فاستيقظوا لأنفسهم، واتفقوا على حفظ القلعة، والإحتياط عليها. وسار أيبك الجمدار إلى حارم، ووقف تحت القلعة، ورام الصعود إليها، فمنعه الأجناد والأمراء، الذين في القلعة من ذلك، ولم يمكنوا الوالي من التحرك فيها بحركة، واحتاطوا عليه. فسار أيبك إلى دربساك، وطمع أن يتم له فيها حيلة أيضاً، فلم يستتب له ذلك، وعصى ألطنبغا بقلعة بهسنى، وانضاف إلى ملك الروم كيكاوس. وانتظم الأمر بعد ذلك، وسكنت الفتنة، في أواخر شوال من السنة. ونزل الملك العادل من مصر إلى الشام، وأرسل إلى أتابك بما يطيب نفسه، وسير خلعة للملك العزيز، وسنجقاً، وحلف له على ما أوجب السكون والثقة. تحرك الفرنج وملك الروم واتفق خروج الفرنج من البحر، وتجمعوا في أرض عكا، وأغاروا على الغور، واندفع الملك العادل بين أيديهم، إلى عجلون، ثم إلى حوران، ثم نازل الفرنج الطور، وزحفوا عليه، فكانت النصرة للمسلمين، وقتل منهم جمع كثير، وانهزموا عنها، وهدمها الملك العادل.

وسار الفرنج إلى دمياط، ونزلوا عليها، وبينها وبينهم التيل، والملك الكامل في مقابلتهم، واستدعى الملك العادل ابنه الملك الأشرف، فسار في عسكره إلى حمص، ودخل بلاد الفرنج، ليشغلهم عن محاصرة دمياط. فدخل إلى صافيتا، فخربوا ربضها، ونهبوا رستاقها، وهدموا ما حولها من الحصون، ودخلوا إلى ربض حصن الأكراد، فنهبوه، وحاصروا القلعة، حتى أشرفت على الأخذ، والملك العادل مقيم في عالقين. وتحرك ملك الروم كيكاوس، ومعه الملك الأفضل، طالباً أن يملك حلب، ويطمع الأفضل أن يأخذها له، ليرغب الأمراء في تمليكه عليهم، وكاتب جماعة من الأمراء، وكتب لهم التواقيع، ومن جملة من كاتبه علم الدين قيصر. وكتب له توقيعاً بأبلستان. واغتنما شغل قلب الملك العادل بالفرنج، ووافقهما الملك الصالح صاحب آمد وكان كيكاوس يريد الملك لنفسه، ويجعل الأفضل ذريعة لتوصل إليه، وكاتبه أمراء حلب الذين كانوا يميلون إلى الأفضل. فجمع العساكر، واحتشد، واستصحب المناجيق، وسار في شهر ربيع الأول، فنزل رعبان وحصرها، وفتحها. فسير الأتابك شهاب الدين زين الدين بن الأستاذ رسولاً إلى الملك العادل، يستصرخه على الرومي، والأفضل. فكتب إلى ولده الملك الأشرف، يأمره بالرحيل إلى إنجاد حلب بالعساكر، وسير إليه خزانة، وجعل الملك المجاهد صاحب حمص في مقابلة الفرنج. وسار الملك الأشرف، حتى نزل حلب بالميدان الأخضر. وخرج الأمراء إلى خدمته، واستحلفهم، وخلع عليهم، وأتاه مانع أمير العرب بجموعه المتوافرة، وعاث العرب في بلد حلب، والملك الأشرف يداريهم لحاجته إليهم.

وسار علم الدين قيصر إلى ملك الروم من دربساك، وجاهر بالعصيان، ونزل نجم الدين ألطنبغا إليه من بهسنى، وتسلم الرومي المرزبان، وسار إلى تل باشر وهي في يد ولد بدر الدين دلدرم فنازلها، وحصرها، وفتحها. ولم يعط الملك الأفضل شيئاً من البلاد التي افتتحها. فتحقق الملك الأفضل فساد نيته، وسار إلى منبج، ففتحها بتسليم أهلها، وكان قد صار في جملته رجل يقال له الصارم المنبجي، وله اتباع بمنبج فتولى له أمر منبج، وشرع في ترميم سورها، واصلاحه. وسار الملك الأشرف نحوه من حلب إلى وادي بزاعا على عزم لقائه، وجماعة من الأمراء المخامرين في صحبته، فنزل في وادي بزاعا. وسير الرومي ألف فارس، هم نخبة عسكره، ومقدمهم سوباشي سيواس، فوصلوا إلى تل قباسين فوقع عليهم العرب، واحتووا عليهم، وعلى سوادهم. وركب الملك الأشرف، فوصل إليهم، وقد استباحوهم قتلاً وأسراً، وسيروا الأسرى إلى حلب، ودخلوا بهم والبشائر تضرب بين أيديهم، وأودعوا السجن. ولما سمع كيكاوس ذلك، سار عن منبج هارباً، ورحل الملك الأشرف من منزلته، واتبعه يتخطف أطراف عسكره، حتى وصل إلى تل باشر، فنزل عليها، وحاصرها حتى افتتحها، وسلمها إلى نواب الملك العزيز، وقال: هذه كانت، أولاً، للملك الظاهر رحمه الله وكان يؤثر ارتجاعها إليه، وأنا أردها إلى ولده. وذلك في جمادى الأولى، من سنة خمس وعشرة وستمائة. ثم إنه ملكها للأتابك شهاب الدين طغول، في سنة ثمان عشرة وستمائة، بجميع قراها.

موت العادل وملك الكامل

ثم سار الملك الأشرف إلى رعبان وتل خالد فافتتحهما وافتتح برج الرصاص، وأعطى الجميع الملك العزيز. وأقطعت رعبان لسيف الدين بن قلج. وعاد منكفئاً إلى حلب، ونزل على بانقوسا. موت العادل وملك الكامل وكان الخبر قد ورد بموت الملك العادل رحمه الله وكان مرض على عالقين، فرحل إلى دمشق، فمات في الطريق، في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة. فكتب الأتابك شهاب الدين بذلك إلى الأمراء، والملك الأشرف قد قارب مدينة حلب، فأعلموه بذلك، فجلس في خيمته للعزاء، وخرج أكابر البلد والأمراء إلى خدمته، وأنشده الشعراء مرائي الملك العادل، وتكلم الوعاظ بين يديه. ولما انفصل العزاء، سير الأتابك شهاب الدين إلى الملك الأشرف، وتحدث معه في أن يكون هو السلطان موضع أبيه، وأن يخطب له في البلاد، وتضرب السكة باسمه، وأن تكون العساكر الحلبية في خدمته. فقال: لا والله لا أغير قاعدة قررها أبي، بل يكون السلطان أخي الملك الكامل، ويكون قائماً مقام أبي. فاتفق الحال بين أتابك وبينه، برأي القاضي بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج، على أن خطب بحلب وأعمالها للملك الكامل، وبعده للملك الأشرف، ثم للملك العزيز. وضرب اسم الملك الكامل، والملك العزيز، على السكة. وجعل أمر الأجناد والأقطاع في عسكر حلب إلى الملك الأشرف، وأخليت له دار الملك الظافر بالياروقية، فنزل فيها، ورتب له برسم المعونة، من أعمال حلب سرمين وبزاعا والجبول.

إنجاد دمياط وتحرك ابن المشطوب

ووصلت إليه رسل البلاد، من جميع الجهات، ومالوا إليه، وصاروا أتباعاً له، وأمر ونهى ببلد حلب، في الأجناد والأقطاع لا غير. وتردد أكابر الحلبيين إلى خدمته، وخلع عليهم، وانقضى فصل الشتاء. إنجاد دمياط وتحرك ابن المشطوب فأقطع الأقطاع لأجناد حلب، ورتب أمور أمرائها، ولا يفعل شيئاً من ذلك إلا بمراجعة الأتابك شهاب الدين، وبدا من الأمراء المصريين تحرك في أمره، وكرهو أمره ونهيه في حلب، وخافوا من استيلائه عليها، وانتقامه منهم لميلهم إلى الملك الأفضل. وبلغه عنهم أشياء عزموا عليها، وهو ثابت لذلك كله. ووصلته رسل أخيه الملك الكامل، يطلب منه النجدة إلى دمياط. وكان ابن المشطوب قد أراد الوثوب عليه وتمليك الفائز أخيه، فأخرجه من الديار المصرية، بعد أن رحل من منزلته، التي كان بها في قبالة الفرنج، وعبور الفرنج إليها، ونهب الخيم ومنازلة دمياط، وقطعهم المادة عنها. فاتفق رأي الملك الأشرف على تسيير الأمراء، الذين كانوا يضمرون الغدر، فسيرهم نجدة إلى أخيه، وهم المبارزان: ابن خطلخ وسنقر الحلبيان، وابن كهدان، وغيرهم. وخاف ابن خطلخ منه، فاستحلفه على أن لا يؤذيه، فحلف له، وسيرهم إلى أخيه الملك الكامل فأقاموا عنده بالكلية. وتوفي نور الدين صاحب الموصل في هذه السنة. وترك ابناً صغيراً قام بدر الدين لؤلؤ، مملوك جده بتربيته. وخطب للكامل والأشرف. وقام زنكي بن عز الدين، فأخذ العمادية وهي قلعة حصينة فيها أموال الموصل بمواطأة من أجنادها، وعزم على أخذ الموصل، وقال: أنا أولى بكفالة ابن أخي. وساعده مظفر الدين صاحب إربل على ذلك، فسير لؤلؤ رسولاً إلى الملك الأشرف إلى حلب، يطلب إنجاده، فسير إليه عز الدين أيبك الأشرفي.

وكان عماد الدين بن سيف الدين علي المشطوب، لما نفي من الديار المصرية، قد وصل إلى حماة، وأقام عند صاحبها، وكاتب الملك الأفضل، وجمع جموعاً كثيرة من الأكراد، وأرباب الفساد، وساعده الملك المنصور صاحب حماة بالمال والرجال على ذلك وعزم على أن يمضي، بمن جمعه من العساكر إلى الأفضل، وأن يقوم معه، ويساعده صاحب حماة، وسلطان الروم. ثم سار ابن المشطوب، بغتة، وخاض بلد حلب، وكان الزمن زمن الربيع، وخيول الأجناد متفرقة في الربيع، فوصل إلى قنسرين ونفذ منها إلى تل أعون، وبلغ الساجور، واستاق في طريقه ما وجد من الخيل، وغيره. وبلغ خبره إلى الملك الأشرف، فأركب من كان بحضرته من العساكر، خلفه، وكان فيهم ابن عماد الدين صاحب قرقيسيا، فلحقوه على الساجور، وفي صحبته نجم الدين بن أبي عصرون، فقبضوا عليه وأتوا به إلى الملك الأشرف، فعفا عنه، وعن ابن أبي عصرون، وأقطع ابن المشطوب رأس عين وأقام عنده مخيماً بالياروقية، إلى أن دخل شعبان، من السنة المذكورة. وسار الملك الأشرف، إلى بلاده الشرقية، لإصلاح أمر الموصل، وكان صاحب إربل وزنكي، قد كسرا لؤلؤ وأيبك الأشرفي، على الموصل. فنزل الملك الأشرف على حران، وفي صحبته عسكر حلب. ومات كيكاوس ملك الروم، وملك بعده أخوه كيقباذ، فراسل الملك ألأشرف، واتفق معه. وخربت القدس في أوائل هذه السنة. وخرج إلى الفرنج المنازلين دمياط نجدة من البحر، ووقع الوباء في أهل دمياط، وضعفوا عن حفظها، فهجمها الفرنج على غفلة من أهلها، في عاشر شهر رمضان، والملك الكامل، مرابط حولها بالعساكر، وابتنى مدينة سماها المنصورة، أقام فيها في مقابلة الفرنج.

تحرك الأشرف إلى الموصل ومصر

والملك الأشرف في حران، وابن المشطوب في اقطاعه رأس عين، وقد داخل صاحب ماردين، وقرر الأمر معه على العصيان على الملك الأشرف، وجمع جماعة من الأكراد، فنمي الخبر إلى الملك الأشرف. وخاف ابن المشطوب، فسار إلى سنجار، فاعترضه والي نصيبين، من جهة الملك الأشرف، وقاتله فهزمه، واستباح عسكره، وسار إلى سنجار، فأجاره قطب الدين صاحبها. وأرسل الملك الأشرف إليه، في طلبه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار الملك الأشرف نحوه، فترك سنجار، ومضى إلى تلعفر، فعصى بها، فوصل إليه ابن صبره وعسكر الموصل. ووصل الملك الأشرف إلى سنجار، وفتحها، وعوض صاحبها بالرقة عنها، وفتح لؤلؤ تلعفر، وسلمها إلى الملك الأشرف، واستجار ابن المشطوب بلؤلؤ، فأجاره على حكم الملك الأشرف، فيها، وسلمه إلى الملك الأشرف، فقيده وسجنه بسنجار. تحرك الأشرف إلى الموصل ومصر وسار الملك الأشرف إلى الموصل، ومعه عسكر حلب، فأقام مخيماً على ظاهرها، حتى أصلح أمرها مع صاحب إربل، وهادنه. ووصل الملك الفائز من الديار المصرية، مستصرخاً، وطالباً للنجد، ووصل إلى حلب، وأنزل بالميدان الأخضر، وسار إلى الموصل، إلى أخيه الملك الأشرف، فأقام عنده، بظاهر الموصل، شهراً ومات. وانفصل الملك الأشرف عن الموصل، بعد إصلاح أمورها، وشتى بسنجار، وقبض على حسام الدين بن خشترين وكان أميراً من أمراء حلب لغدر بلغه عنه، وقيده، وسيره، وابن المشطوب إلى قلعة حران، فحبسهما فيها إلى أن ماتا. وقبض على ابن عماد الدين صاحب قرقيسيا، وأخذها، وعانة

والبلاد التي كانت معه من يده، وقدم حران، فوصل إليه أخوه الملك المعظم في محرم سنة ثمان عشرة من دمشق، فوافقه على الصعود إلى الديار المصرية، لإزاحة الفرنج عنها، فجهز العساكر، واستدعى عسكر حلب، وعبر الفرات، والتقى بعسكر حلب. وسار إلى دمياط، مع أخيه الملك المعظم، وخرج الفرنج عن دمياط،، ونزلوا في مقابلة المسلمين، فأرسلوا الماء عليهم، فمنعهم من العود إلى دمياط، ولم يبق لهم طريق إليها وزحف المسلمون عليهم، واستداروا حولهم، فطلبوا الأمان وتسليم دمياط، فتسلمها المسلمون في العشرين من شهر رجب سنة ثمان عشرة وستمائة. وكان الملك المنصور صاحب حماة قد توفي في ذي القعدة، سنة سبع عشرة وستمائة. وكان ابنه الكبير الملك المطهر، في نجدة خاله بدمياط، فاستولى ابنه الملك الناصر، على حماة، وسير إلى الأتابك شهاب الدين، يطلب الإعتضاد به، والسفارة بينه وبين خاله الملك الأشرف، على أن ينتمي إليه، ويخطب له، على أن يمنع عنه من يقصده، وروسل في ذلك، فأجاب، وحلف له على ذلك. ونزل الملك الأشرف في الديار المصرية، ووصل إلى بلاده، وسير كتاباً إلى الأتابك شهاب الدين، يتضمن أنه: لما وقع الاتفاق في الابتداء، وعرض علي الجبول وبزاعا وسرمين أجبت إلى ذلك، ليعلم المخالف والعدو، أن البلاد قد صارت واحدة، والكلمة متفقة، والآن فقد تحقق الناس كلهم ذلك، وأوثر الآن التقدم إلى نواب المولى الملك العزيز في قبضها، وإجرائها على العادة، وصرفها في مصالح بلاده فأجبت إلى ذلك. ورفع الملك الأشرف أيدي نوابه عنها. وتوجه الملك الصالح ابن الملك الظاهر إلى الشغر وبكاس، وأضيف

خبر الملك المعظم

إليه الروج ومعرة مصرين. ورتب جماعة من الحجاب والمماليك في خدمته وذلك في جمادى الأولى. خبر الملك المعظم وفي ذي الحجة من سنة تسع عشرة وستمائة خرج الملك صاحب حماة إلى الصيد، فبلغ ذلك الملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، فخرج مجدا من دمشق ليسبق صاحبها إليها فيملكها، فانتهى الخبر إلى الناصر، فسبق إليها. ووصل إلى الملك المعظم إلى حماة، فوجد الملك الناصر قد وصلها، وفاته ما أراد، فسار إلى معرة النعمان واحتوى على مغلاتها، وسير أتابك شهاب الدين إليه، تقدمة مع مظفر الدين بن جرديك، إلى المعرة، فقبلها، واعتذر بأنه إنما جاء لكتاب، وصله من الملك الكامل، يأمره أن يقبض على خادم هرب منه، وأنه خرج خلفه ليدركه، فلما قرب من حماة، بدا من صاحبها من الامتهان، وعدم النزل والإقامة ما لا يليق. وتجنى عليه ذنوباً لا أصل لها، والملك الكامل، والملك الأشرف، حينئذ بمصر. فرحل الملك المعظم إلى سلمية، بعد أن رتب بالمعرة والياً، ورتب السلمية والياً من قبله، وعزم على حصار حماة، واستعد صاحبها للحصار، ووكل الملك المعظم العرب، لقطع الميرة عن حماة، ومنع من يقصدها من الأجناد للإنجاد، وحول طريق القافلة على سلمية. وأرجف الناس بأن حسام الدين ابن أمير تركمان، قد وافق الملك المعظم وأنه قد صاهر صاحب صهيون، وكان سيف الدين بن قلج، هو الذي أشار بترتيبه في اللاذقية وضمنه، فسار إليه، فلم يمتنع من تسليمها ولم يكن لما ذكر عنه صحة، فترك سيف الدين بن قلج بها أخاه عماد الدين، واستصحب حسام الدين معه إلى حلب، فأقام إلى أن زال الإستشعار من جهة الملك المعظم، وردت إليه. ووصل حسام الدين الحاجب علي نائب الملك الأشرف في بلاده إلى حلب واجتمع بأتابك شهاب الدين، وأعلمه أن الملك الأشرف، كتب إليه أن يرحل إلى الملك المعظم، ويرحله عن بلاد الناصر، ويعلم أتابك، أن هذا الذي وقع، لم يكن بعلم الملك الكامل، ولا الملك الأشرف، وأنهما لا يوافقانه على ذلك وسار الحاجب إليه في هذا المعنى.

عودة الأشرف من مصر وعصيان المظفر

ووصل الناصح أبو المعالي الفارسي أحد أمراء حلب برسالة الملك الكامل من مصر، وكان قد صعد إليها إلى خدمته الملك الأشرف، وكان هو الحاجب بين يديه إذ ذلك، والأمور كلها راجعة إليه، فقال له الناصح: الملك الكامل يأمر المولى بالرحيل، وترك الخلاف، فأجاب إلى ذلك، وقرر الصلح بين صاحب حماة وبينه، ورحل إلى دمشق، وعاد الناصح إلى مصر. ونقل السلطان الملك الظاهر، من الحجرة التي دفن بها بالقلعة، إلى القبة بالمدرسة التي ابتناها له أتابك، ودفنه بها في أول شعبان من سنة عشرين وستمائة. عودة الأشرف من مصر وعصيان المظفر ونزل الملك الأشرف من مصر، ووصل إلى حلب في شوال من سنة عشرين، والتقاه الملك العزيز، ونزل في خيمته، قبلي المقام وشرقيه، بالقرب من قرنبيا، وكان قد صحبه خلعة للملك العزيز من الملك الكامل وسنجق. وخرج الملك العرير، وأهل البلاد، في خدمته، بعد ذلك، ودخل الناس إلى الخيمه، في خدمة السلطان الملك العزيز. ومد الملك الأشرف السماط، في ذلك اليوم للناس، فلما أكلوا، وخرج الناس من الخيمة، أحضر الخلع الكاملية وأفاضها على الملك العزيز. ووقف قائماً في خدمته. ثم أحضر المركوب فأركبه. وحمل الغاشية بين يديه، حتى خرج من الخيمة، وركب إلى القلعة. وأقام الملك الأشرف، فقدار عشرة أيام، واتفق رأيه مع الأمراء على إخراب قلعه اللاذقية، فسار العسكر إليها، وخربوها في هذه السنة. وتوجه الملك الأشرف إلى حران، وعصى الملك المظفر شهاب الدين غازي أخوه، عليه ب أخلاط، وكان أخوه الملك المعظم، هو الذي حمله على ذلك، وحسنه له، لأجل ما سبق من الملك الأشرف، فى نصرة صاحب حماة.

فاستدعى الملك الأشرف عسكراً من حلب، فسار إليه عسكر قوي فيهم. سيف الدين بن قلج، وعلم الدين قيصر، وحسام الدين بلدق، في سنة إحدى وعشرين وستمائة. وسار إلى أخلاط، واتفق مظفر الدين صاحب إربل والملك المعظم صاحب دمشق، على أن يخرج هذا إلى جهة الموصل، وهذا إلى جهة حمص، ليشغلا الملك الأشرف عن أخلاط، فسير الملك الأشرف، وطلب طائفة من عسكر حلب ليقيم بسنجار، خوفاً من أن يغتالها صاحب إربل وخرج الملك المعظم، وأغار على بلد حمص، وبارين، ووصل إلى بحيرة قدس، وعاد. ووصل الملك الأشرف إلى أخلاط، فخرج أخوه، وقاتله، فهزمه إلى أخلاط، وفتحها أهلها للملك الأشرف. واحتمى الملك المظفر بالقلعة، حتى عفا عنه أخوه الملك الأشرف، وخرج إليه، وأبقى عليه ميافارقين. وعاد عسكر حلب والملك الأشرف، في رمضان، وشتى الملك الأشرف بسنجار. وانهدم في هذه السنة من سور قلعة حلب الأبراج التي تلي باب الجبل، من حد المركز، وهي عشرة أبراج، وتساقطت مع أبدانها، في سلخ ذي القعدة. ووافق ذلك شدة البرد في الأربعينيات، فاهتم أتابك شهاب الدين بعمارتها، وتحصيل آلاتها، من غير أن يستعين فيها بمعاونة أحد، ولازمها بنفسه، حتى أتمها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

من الحرب إلى الاتفاق فالموت

ومات الملك الأفضل، بسميساط، في هذه السنة في صفر، وحمل إلى حلب، فدفن في التربة، التي دفن فيها أمه قبلي المقام. ووصل محيي الدين أبو المظفر بن الجوري، إلى حلب بخلعة من الإمام الظاهر، إلى الملك العزيز، وكان قد تولى الخلافة، في سنة اثنتين وعشرين، بعد موت أبيه الإمام الناصر، فألبسها السلطان الملك العزيز، وركب بها، وكانت خلعة سنية، واسعة الكتم، سوداء، بعمامة سوداء، وهي مذهبة، والثوب بالزركش. وكان قد أحضر إلى الملك الأشرف خلعة، ألبسه أياها، وسار بخلعة أخرى إلى الملك المعظم، وخلعة أخرى، إلى الملك الكامل. من الحرب إلى الاتفاق فالموت وكاتب الملك المعظم خوارزمشاه، وأطمعه في بلاد أخيه الملك الأشرف، ونزل الملك المعظم من دمشق، ونازل حمص، وكان سير جماعة من الأعراب، فنهبوا قراها ووصل مانع، في جموع العرب لإنجاد حمص، من جهة الملك الأشرف، فانتهبوا قرى المعرة وحماة، وقسموا البيادر، ولم يؤدوا عداداً، في هذه السنة، لأحد. ولما وصل الملك المعظم إلى حمص، اندفع مانع وعرب حلب، والجزيرة، إلى قنسرين، ثم نزلوا قرا حصار، ثم تركوا أظعانهم، بمرج دابق، وساروا جريدة إلى نحو حمص، فتواقع مانع وعرب دمشق، وقعات، وجرد عسكر من حلب إلى حمص، فوصلوا إليها، قبل أن ينازلها الملك المعظم، فحين وصلوها اتفق وصول عسكر دمشق، فاقتتلوا، ثم دخلوا إلى مدينة حمص. وكان الملك الأشرف، على الرقة، فجاءه الخبر بحركة كيقباذ، وخروجه إلى بلاد صاحب آمد، وأخذه حصن منصور، والكختا، فسير الملك

الأشرف نجدة إلى آمد، فالتقاهم جيش الرومي، وهزمهم، فعاد الملك الأشرف إلى حران، وخرج من بقي من عسكر حلب إلى حاضر قنسرين لإنجاد صاحب حمص. ووقع الفناء في عسكر الملك المعظم، وماتت دوابهم، وكثر المرض في رجالهم، فرحل عن حمص، في شهر رمضان من السنة. وسار الملك الأشرف، عند ذلك بنفسه إلى دمشق، واجتمع بأخيه الملك المعظم قطعاً لمادة شره، وزينت دمشق لقدوم الملك الأشرف، وعقدت بها القباب. وأظهر الملك المعظم السرور بقدومه، وحكمه في ماله، وباطنه ليس كظاهره، ورسله تتردد إلى خوارزمشاه في الباطن، وجاءته خلعة من خوارزمشاه فلبسها. وكانا لما انقضى شهر رمضان، قد خرجا عن دمشق، إلى المرج، وورد عليهما رسولا حلب: القاضي زين الدين ابن الأستاذ نائب القاضي بهاء الدين، ومظفر الدين بن جورديك، يطلبان تجديد الأيمان للملك العزيز، وأتابك. فوجد الملك الأشرف، وقد أصبح مع الملك المعظم، بمنرلة التبع له، ويطلب مداراته بكل طريق، وهو لا يتجاسر أن ينفرد بهما في حديث، دون الملك المعظم. والملك المعظم يشترط شروطاً كثيرة، والمراجعات بينهما وبين أتابك إلى حلب مستمرة مدة شهرين. إلى أن وردت الأخبار بنرول خوارزمشاه على أخلاط، ومحاصرتها، وفيها الحاجب علي نائب الملك الأشرف فهجم بعض عسكره أخلاط، وقام من بهما من أهلها وجندها، وأخرجوهم منها، كرهاً. فوافق الملك الأشرف أخاه، على ما طلبه منه، واستدعى رسولي حلب، وحلفا لهما، ورحل خوارزمشاه عن خلاط.

وشتى الملك المعظم، والملك الأشرف بالغور. وأضحى الملك الأشرف كالأسير في يدي أخيه الملك المعظم، لا يتجاسر على أن يخالفه في أمر من الأمور، وهو يتلون معه، وكلما أجابه الملك الأشرف إلى قضية، رجع عنها إلى غيرها، وأقام عنده، إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة. وانقطعت مراسلة الملك الأشرف إلى حلب، لكثرة عيون أخيه عليه، وكونه لا يأمن من جهة أمر يكرهه، لأنه أصبح في قبضته. واتفق وصولي من الحج، في صفر من هذه السنة، فاستدعاني الملك الأشرف، وحملني رسالة إلى أتابك شهاب الدين، مضمونها ما قد وقع فيه مع أخيه. وأنه يتلون معه، تلون الحرباء، ولا يثبت على أمر من الأمور، وإن آخر ما قد وقع بيني وبينه، أنه التمس مني أن يحلف له أتابك على مساعدته ومعاضدته، وأن لا يوافق الملك الكامل عليه، وأنه متى قصده الملك الكامل، كان عوناً له على الملك الكامل. فلما أبلغت أتابك ما قال، امتنع من الموافقة على ذلك، وقال: أنا حلفني الملك الأشرف للملك الكامل، وفي جملة يمينه: أنني لا أهادن أحداً من الملوك على قضية إلا بأمره، فإذا أراد هذا مني فليأتني بأمر من الملك الكامل، حتى أساعده على ذلك. وحين رأى الملك الأشرف وقوعه في أنشوطة أخيه، وأن لا مخلص له إلا بما يريده، ساعده على كل ما طلبه منه، واستحلفه على الملك الكامل، وصاحبي حماة وحمص، فاطمأن الملك المعظم إلى ذلك، ومكن الملك الأشرف من الرحيل، فسار إلى الرقة، في جمادى الآخرة من السنة. فرجع الملك الأشرف عن جميع ما قرره مع أخيه، وتأول في أيمانه التي حلفها، بأنه كان مكرهاً عليها، وأنه علم أنه لا ينجيه من يدي أخيه إلا موافقته فيما طلب. وندم الملك المعظم على تمكينه من الإنفصال عنه، وسير العربان إلى بلد حمص وحماة، فعاثوا فيهما، ونهبوا. وخرج عسكر الأنبرور ملك الفرنج إلى عكا، في جموع عظيمة، فطمع صاحب حماة، وصاحب حمص في الملك المعظم حينئذ، وأرسلا إليه يطلبان العوض عما أخذه من بلادهما، فلاطف حينئذ أخاه الملك الأشرف،

وأرسل إليه يطلب موافقته، فعنفه على أفعاله التي عامله بها، وقرعه على ما اعتمد في حقه وحق أهله. ومرض الملك المعظم بدمشق ومات سلخ ذي القعدة. وملك دمشق بعده الملك الناصر ولده. وفي هذه السنة، سلمت عين تاب، والراوندان والزوب، إلى الملك الصالح ابن الملك الظاهر، وأخذ منه الشغر وبكاس، وما كان في يده معها. ودخل الحاجب، في هذه السنة، وجمع من قدر عليه من العساكر، إلى بلد أذربيجان، وافتتح خوي، وسلماس، وأخذ زوجة أربك وكانت في خوى وهي التي سلمت خوى إليه، وكانت قد تزوجت بخوارزمشاه. وخرج الملك الكامل من مصر حين سمع بموت أخيه. وسير الملك الناصر، إلى عمه الملك الأشرف، يعتضد به، ويستمسك بذيله، مع ابن موسك. فوصل إليه إلى سنجار وطلبه ليأتي إلى دمشق، فسار إليه إلى دمشق. ونزل الملك الكامل، فخيم بتل العجول في مقابلة الفرنج، وسير الملك الأشرف إليه، سيف الدين بن تلج يطلب منه ابقاء دمشق على ابن أخيه، ويقول له: إننا كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن موافقتك. فخاطبه بما أطمع الملك الأشرف في دمشق.

القسم الثلاثون التنازل عن القدس

القسم الثلاثون التنازل عن القدس وأما الملك العزيز، فإنه في هذه السنة، جلس في دار العدل في منصب أبيه، ورفعت إليه الشكاوي، فأجاب عنها، وأمر ونهى، وكان يحضر عنده الفقهاء، في ليالي الجمع ليلاً، ويتكلمون في المسألة بين يديه. وحضر عيد الفطر، فخلع على كافة الأمراء، ومقدمي البلد، وأرباب المناصب، وعمل عيداً عظيماً، احتفل فيه، ولم يعمل بحلب عيد، منذ مات الملك الظاهر،، قبل هذه السنة. ووصل الأنبرور إلى عكا، وخيم الملك الكامل بالعوجا. وتوجه الملك الأشرف، إليه من دمشق، فجدد الأيمان فيما بينهما، وسارت النجدة من حلب، في آخر المحرم سنة ست وعشرين وستمائة، فنزلت في الغور. وصالح الملك الكامل الفرنج على أن أعطاهم مدينة القدس سوى الصخرة والمسجد الأقصى وليس لهم في ظاهرها حكم، وأعطاهم بيت لحم، وضياعاً في طريقهم إلى القدس، من عكا. الأشرف والكامل يقتسمان وعاد الملك الأشرف، واجتمع بعسكر حلب، وبالملك الناصر ابن الملك المعظم، فقال له: إنني قد اجتهدت في أمرك بالملك الكامل، فلم يرجع عن قصد دمشق، وكان آخر ما انتهى إليه أن قال: يعطى الملك الناصر البلاد الشرقية، وتأخذ أنت دمشق.

فعلم الملك الناصر، أئهما قد توافقا على أخذ دمشق، وكال أيبك المعظمي معه فأشار عليه بالرحيل إلى دمشق، فقوض خيامه، وسار، ولم يمكن الملك الأشرف منعه، ومضى إلى دمشق، وشرع في تحصينها. فسار الملك الأشرف بجيوش حلب، ونزل على دمشق، وقطع عنها الماء، فخرج عسكر دمشق، وقاتلوا أشد القتال، حتى أعادوا الماء إليها، ووصل الملك الكامل، في جمادى الأولى، بالعساكر المصرية، وخيموا جميعاً على دمشق. وسار القاضي بهاء الدين، وفي صحبته أكابر حلب وعدولها إلى دمشق، لعقد المصاهرة بين الملك العزيز والملك الكامل. ووصل إلى ظاهر دمشق من ناحية ضمير. وخرج الملك الكامل من المخيم، والتقاه، وأنزله في المخيم، بالقرب من مشهد القدم. وأحضره إلى خيمته، وقدم ما وصل على يده، للملك الكامل. ثم نقله بعد ذلك إلى جوسق الملك العزيز بالمزة. وكان يتردد إليه الملك الكامل، في بعض الأوقات، إلى أن اتفق الأمر، على أن حمل الذهب الواصل، لتقدمة المهر، والجواري، والخدم، والدراهم، والمتاع. وعقد العقد بحضور الملك الأشرف، في مسجد خاتون. وتولى عقد النكاح عماد الدين ابن شيخ الشيوخ عن الملك الكامل، لابنته فاطمه خاتون، على صداق، مبلغه خمسون ألف دينار. وقبل القاضي بهاء الدين العقد عن الملك العزيز، وذلك في سحرة يوم الأحد سادس عشر شهر رجب. وخلع الملك الكامل على القاضي، وعلى جميع أصحابه، وعلى الحاجي بشر أمير لالا الملك العزيز، بعد أن فتحت دمشق. وعاد القاضي ومن كان في صحبته إلى حلب. واستقر أن يأخذ الملك الكامل من الملك الأشرف، عوضاً عن دمشق: حران، والرها، والرقة، وسروج، ورأس عين. وسار الملك الأشرف إلى بعلبك، فحضرها إلى أن أخذها من صاحبها.

خبر خلاط وتحرك الفرنج

وسار العسكر إلى حماة، بأمر الملك الكامل، فحصرها ليسلمها صاحبها إلى الملك المظفر ابن الملك المنصور، فنزل إليه صاحبها الملك الناصر وكان نازلاً بمجمع المروج فحبسه عنده إلى أن سلمها إلى أخيه، وأعطاه بارين. وسار الملك الكامل إلى الرقة. خبر خلاط وتحرك الفرنج ونزل خوارزمشاه على أخلاط ووافقه ابن زين الدين، في الباطن، وصاحب آمد في الظاهر، وخطب له، وضاق الأمر بأهل أخلاط، فطلبوا الأمان فلم يجبهم إلى ذلك. وافتتحها في ثامن وعشرين من جمادى الأولى، من سنة سبع وعشرين وستمائة. ووضع السيف في أهلها، وسبى النساء والصبيان. وفي ثامن جمادى الأولى، ولد للسلطان الملك العزيز، مولود من جارية. وسماه باسم أبيه، ولقبه بلقبه الملك الظاهر غازي. وزين المدينة، وعقد القباب، ولبس العسكر في أتم زينة وهيئة، وعمل الزورق من القلعة إلى المدينة، ونزل الناس فيه، وانقطعت بكرة برجل منهم، فوقع في سفح القلعة، فمات، فبطل الملك العزيز الزورف. وولد له أيضاً في هذه السنة، ولد آخر لقبه بالملك العادل. وولد له أيضاً في هذه السنة، السلطان الملك الناصر وهو الذي أوصى له بالملك، بعد أن مات الولدان المتقدمان. واتفق الملك الكامل، والملك الأشرف، وملك الروم كيقباذ، على خوارزمشاه. وطلب الملك الأشرف نجدة من حلب، فسير الملك العزيز وأتابك، عسكراً يقدمه عز الدين بن مجلي.

ممارسة العزيز صلاحياته

فدخل الملك الأشرف، واجتمع بملك الروم، وسار إلى ناحية أرزنكان، واصطفت العساكر للقتال، فكسر الخوارزمي في التاسع والعشرين من شهر رمضان، وهبت ريح عاصفة في وجه عساكره، وانهزموا، وصادفوا شقيفاً، في طريقهم، فوقع فيه أكثر الخوارزمية فهلكوا. وصار الملك الأشرف إلى أخلاط، فاستعادها، وهادن لخوارزمي. وكان للفرنج حركة، وخرج عسكر حلب مع بدر الدين بن الوالي، وأغاروا على ناحية المرقب، ونهبوا حصن بانياس، وخربوه، وسيروا أسرى إلى حلب، ثم تواقع المسلمون والفرنج وقعة أخرى، قتل من الفريقين فيها جماعة، وكان الربح فيها للمسلمين. وسيرت العساكر من حلب في النصف من شهر ربيع الآخر. واحتبس الغيث في حلب، وارتفعت الأسعار فيها، وخرج الناس، واستسقوا على بانقوسا، فجاء مطر يسير، بعد ذلك، وانحطت الأسعار قليلاً. واستقرت الهدنة بين عسكر حلب والداوية، والأسبتار، في العشرين من شعبان من السنة. ممارسة العزيز صلاحياته واستقل السلطان الملك العزيز بملكه، في هذه السنة، وتسلم خزائنه من أتابك شهاب الدين، ورتب الولاة في القلاع، واستحلف الأجناد لنفسه، وخرج بنفسه، ودار القلاع والحصون. وركب أتابك شهاب الدين، في نصف شهر رمضان، من هذه السنة، ونزل من قلعة، وركب الناس في خدمته، ولم ينزل منها، منذ توفي الملك الظاهر،، إلا هذه المرة. ثم عاد إلى القلعة، وكان يركب منها في الأحايين، إلى أن دخل السلطان

الملك العزيز بابنة الملك الكامل، وبقي أتابك مدة في القلعة، ثم نزل منها، وسكن في داره، التي كانت تعرف بصاحب عين تاب، تجاه باب القلعة. واستوزر الملك العزيز، في هذه السنة، خطيب القلعة وابن خطيبها زين الدين عبد المحسن بن محمد بن حرب، ومال إليه بجملته. وسير الملك العزيز القاضي بهاء الدين، في هذه السنة في شوال، إلى مصر، لإحضار زوجته بنت الملك الكامل، فأقام بمصر مدة، إلى أن قدم في صحبتها والدها الملك الكامل، إلى دمشق، وسيرها من دمشق صحبته، وأصحبها من جماعته: فخر الدين البانياسي، والشريف قاضي العسكر. وخرج وزيره، وأعيان دولته، فالتقوها من حماة، وأكابر أهل حلب أيضاً، والتقتها والدة السلطان عمتها من جباب التركمان، والتقاها بقية العساكر، بتل السلطان، والتقاها أخو السلطان الملك الصالح، في عسكره، وتجمله. وعادت العساكر في تجملها، واصطفت أطلاباً طلباً بعد طلب، في الوضيحي. وخرج السلطان إلى الوضيحي، ودخل مع زوجته، ليلاً، إلى القلعة المنصورة، في شهر رمضان، من سنة تسع وعشرين وستمائة. وكانت العامة بحلب، قد ثاروا على محتسبها مجد الدين بن العجمي، لأن السعر كان مرتفعاً، وقد بلغ الرطل من الخبر إلى عشرة قراطيس، ثم انحط السعر كان في تقاديم الغلة، إلى أن بيع الرطل بخمسة ونصف. فركب نائب المحتسب وسعره في البلد بستة قراطيس، فهاجت العامة عليه، وقصدوا دكة المحتسب، وهموا بقتل نائبه، وخربوا الدكة، ومضوا إلى دار المحتسب، لينهبوها. فنزل والي البلد، والأمير علم الدين قيصر، وسكنوا الفتنة، بعد أن صعد جماعة إلى السلطان، واستغاثوا على المحتسب، فظفروا بأخيه نائب الحشر الكمال ابن العجمي، فرجموه بالحجارة، فانهزم، واحتفى في بعض دروب حلب، ثم هرب إلى المسجد الجامع، فهموا به مرة ثانية، في الجامع، فحماه مقدم الأحداث، وكان ذلك، في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان، من سنة تسع وعشرين وستمائة. وداوم الملك العزيزالخروج إلى الصيد، ورمي البندق بنواحي العمق

وغيرها، وحسن له جماعة من أصحابه، أن يسير إلى قلعة تل باشر، ويستولي عليها، وينزعها من نواب أتابكه شهاب الدين طغرل، وأن يبقي عليه رستاقها، وأن لا يكون شيء من القلاع إلا بيده، فنمى الخبر إلى أتابك، فسير إلى الوالي، وأمره أن لا يعارضه في القلعة، وأن يسلمها إليه، وكان له بها خزانة، فاستدعاها. وخرج السلطان إلى عزاز، وكانت في يد والدة أخت الملك الصالح، وأولادها بني ألطنبغا، عوضهم بها أتابك عن بهسنى، بعد قتل الرومي كيكاوس الطنبغا، فصعد إلى قلعتها، وولى بها والياً من قبله، وأبقى عليهم ما كان في أيديهم من بلدها. ثم سار السلطان من عزاز، إلى تل باشر، وصعد إلى القلعة، وولى فيها والياً من جهته، وانترعها من أيدي نواب أتابكه. وبلغه أخذ الخزانة، من تل باشر، فسير من اعترض أصحاب أتابك في الطريق، فأخذ الخزانة منهم، وكان يظن أن بها مالاً طائلاً، فلم يجد الأمر كما ذكر، فأعادها على أتابك، فامتنع من أخذها، وقال: أنا ما ادخرت المال إلا لك. ثم دخل السلطان إلى حلب، وكان ذلك كله، في شهر رمضان، من سنة تسع وعشرين وستمائة. ثم إن السلطان الملك العزيز، خرج في خرجاته، لرمي البندق إلى حارم، وتوجه منها إلى دركوش ثم إلى أفامية، في سنة ثلاثين وستمائة،

فلم يحتفل به صاحب شيزر شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين، وأنفذ إليه إقامة يسيرة وهي شيء من الشعير على حمير، سخرها من بلد شيزر فشق عليه ذلك. فلما دخل حلب استدعى سيف الدين علي بن قلج الظاهري، وسيره إلى الملك الكامل، ليستأذنه في حصار شيزر، وأخذها، وكانت مضافة إلى حلب، وإنما خاف أن يلقي صاحبها نفسه على الملك الكامل، فيشفع إليه في أمره، فلا يتم له ما يريد. فصعد سيف الدين إلى دمشق، وقرر مع الملك الكامل، الأمر على ما يختاره الملك العزيز، وسير إلى السلطان الملك العزيز، وأعلمه بذلك، فأخرج العسكر، والزردخاناه، ونزل العسكر على شيزر، واحتاط الديوان، على ما في رستاق شيزر من المغلات. ووصل سيف الدين بن قلج من دمشق، وخرج السلطان بنفسه، فنصب عليها المناجيق، من جهة الجبل، وترك المنجنيق المغربي، قبالة بابها. وسير إلى صاحبها، وقال له: والله لئن قتل واحد من أصحابي، لأشنقتك بدله. فقتدم إلى الجرخية بالقلعة، أن لا يرمي أحد بسهم، وتبلد، وأسقط في يده. وأرسل الملك الكامل إلى السلطان نجابين، ومعهما خمسة آلاف دينار مصرية، ليستخدم بها رجالة، يستعين بهم على حصار شيزر. وقدم إليه إلى شيزر الملك المظفر محمود صاحب حماة وأرسل إليه صاحب شيزر، يبذل له تسليمها، على أن يبقي عليه أمواله، التي بها، ويحلف له على أملاكه، بحلب. فأجابه إلى ذلك. ونزل من شيزر إلى خدمة السلطان، وسلمها إليه، ووفى له السلطان بما اشترطه، وصعد السلطان إلى القلعة، وأقام أياماً بشيزر، ثم دخل إلى مدينة حلب.

الحرب ضد كيقباذ

ومرض أتابك شهاب الدين طغرل بن عبد الله في أواخر هذه السنة، ودام مرضه، إلى أن مات، ليلة الاثنين الحادية عشرة، من محرم سنة إحد وثلاثين وستمائة، وحضر السلطان الملك العزيز، محمد ابن الملك الظاهر، جنازته، صبيحة الليلة المذكورة. ومشى خلف جنازته، من داره إلى أن صلى عليه خارج باب الأربعين. ودفن بتربته، التي أنشأها بتل قيقان، ووقفها مدرسة على أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبكى السلطان عليه بكاء عظيماً، وحضر عزاءه، يومين بعد موته، بالمدرسة التي أنشأها أتابك، وجعل فيها تربة للسلطان الملك الظاهر رحمهم الله. الحرب ضد كيقباذ وفي هذه السنة: نزل الملك الكامك، من مصر، واتفق مع أخيه الملك الأشرف، على قصد بلاد السلطان كيقباذ بن كيخسرو، للوحشة التي تجددت بينهم، بسبب استيلاء كيقباذ على بلاد أخلاط، وانتزاعها من أيدي نواب الملك الأشرف. وسارا من دمشق، وخرج معهما الملك المجاهد، صاحب حمص، والملك المظفر، صاحب حماة، ووصل معهم الملك الناصر، صاحب الكرك، ووصلوا إلى منبج بإذن السلطان الملك العزيز. وسير الملك العزيز، إليه إلى منبج، الإقامة العظيمة، والزردخاناه، وعسكره، ومقدمه عمه الملك المعظم، وساروا من ناحية تل باشر، فنزل إليه الملك الزاهر داود ابن الملك الناصر. وقدم إليه صاحب سميساط الملك المفضل موسى، وصاحب عين تاب الملك عالح ابن الملك الظاهر، والملك المظفر شهاب الدين ابن الملك العادل، والملك الحافظ أخوه، وغيرهم، من الملوك. حتى اجتمع في عسكره ستة عشر أميراً.

وسير ملك الروم إلى الملك العزيز، وقال له: أنا راض منك بأن تمد بالأجناد والأموال، على أن لا تنرل إليه أبداً. وأعفاه الملك الكامل، من مثل ذلك. ورضي كل واحد من الملكين بفعله. وسار الملك الكامل في جيوشه، في أوائل سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، إلى أن نزل على نهر الأزرق، في طرف بلاد الروم، وجاء عسكر الروم حتى نزل قبلي زلى بينها وبين الدربند والسلطان معهم، وصعد الرجالة إلى فم الدربند، بالقرب من نور كغال، وبنوا عليه سوراً، وقاتلوا منه، ومنعوا من يطلع إليه، وقلت الأقوات على العسكر الشامي. فرجع الملك الكامل، وخرج إلى طرف بلد بهسنى، ونزل على بحير انرنيت، ووصل إليه صاحب خرتبرت، ودخل في طاعته، وأشار عليه بالدخول من جهته، فسار إلى ناحية خرتبرت ووقعت طائفة من عسكر الروم، على طائفة من عسكر الملك الكامل وفيهم الملك المظفر صاحب حماة وشمس الدين صواب، فكسر العسكر الكااملي، واعتصم من نجا منهم بخرتبرت، فحاصرهم ملك الروم إلى أن نزلو بالأمان، وأطلقهم، واستولى كيقباذ على خرتبرت، وعفا عن صاحبها، وعوضه عنها بأقطاع في بلاده. ومرض الملك الزاهر في العسكر، فحمل مريضاً إلى البيرة، وقوي مرضه، وطمع بعض أولاده بملكها، وشرع في تحصينها وتقويتها، وبلغ الملك الزاهر ذلك، فسير إلى السلطان الملك العزيز، واستدعاه إليه، وأصعده إلى

القلعة، وأوصى إليه بالقلاع التي في يده، والخزائن وعين لأولاده شيئاً من ماله، وتوفي بالبيرة، والسلطان بها عنده، في أوائل صفر، من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وأقام السلطان بها يرتب أحوالها، وأقام فيها والياً من قبله، فاتفق وفاة القاضي بهاء الدين بحلب، في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وطلب الكمال بن العجمي قضاء حلب، وكاتب السلطان في ذلك، فلم يجبه إلى ذلك. وسار السلطان من البيرة إلى حارم، فخرج ابن العجمي إليه، إلى حارم، فمنعه الدخول إليه، وبذل له في قضاء حلب ستين ألف درهم، وأن يحمل في كل سنة، للسلطان، من فواضل أوقاف الصدقة، ومن كتابة الشروط، خمسين ألف درهم، فلم يصغ السلطان إلى شيء من ذلك. وكتب إلى القاضي زين الدين، كتاباً يأمره بأن يحكم بين الناس، على جاري عادته، إلى أن يدخل إلى المدينة. فلما دخل السلطان اجتهد ابن العجمي في قبول ما بذله، وبذل شيئاً كثيراً غير ذلك، لخواص السلطان، وحسنوا للسلطان قبول ما بذله، وإجابته إلى ما سأله، فجرى على مذهب أبيه وجده في الإحسان، ولم يبع منصب النبي صلى الله عليه وسلم بالأثمان ونظر في مصلحة الرعية، وأرضى الله ونبيه، وقلد القضاء بمدينة حلب وأعمالها، في يوم الجمعة، الرابع عشر، من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، القاضي زين الدين أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن علوان المعروف بابن الأستاذ وكان نائب القاضي بهاء الدين في الحكم. وأما الملك الكامل، فإنه عاد في تلك الجيوش العظيمة، ولم يحظ بطائل، ودخل فصل الشتاء، وحال بين الفريقين، وعاد كل إلى بلاده. ولما خرج فضل الشتاء، خرج علاء الدين كيقباذ إلى الجزيرة، والرها،

موت العزيز محمد بن غازي

والرقة، وسبى عسكره أهل البلاد كما يسبى الكفار، وذلك في ذي الحجة، من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وسار الملك الكامل نحوها، فاندفع ملك الروم، فعاد الملك الكامل واستولى على البلاد، وخرب قلعة الرها وبلدها، وسير إليه السلطان العسكر إلى الشرق، والزردخاناه، وذلك في الجماديين، سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. ودام الملك العزيز، في ملكه بحلب، وسمت همته إلى معالي الأمور، ومال إلى رعيته، وأحسن إليهم إلى أن دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة. فغضب على وزيره زرين الدين بن حرب، وألزمه داره بقلعة حلب، وولى الديوان مكانه، الوزير جمال الدين الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف القفطي الشيباني. موت العزيز محمد بن غازي وخرج في أواخر شهر صفر إلى النقرة، ثم توجه منها إلى حارم، وحضر في الحلقة، لرمي البندق، واحتاج إلى أن اغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى حلب، فالتقاه الناس، وهو موعوك، ودامت به الحمى، إلى أن قوي مرضه واستحلف الناس لولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز. وسيرني إلى أخيه الملك الصالح إلى عين تاب، يستحلفه له، ولابنه الملك الناصر، وعدت، وقد مات، في شهر ربيع الأول، من سنة أربع وثلاثين وستمائة

القسم الثاني والثلاثون تدبير الدولة وتولى تدبير دولته الأميران: شمس الدين لؤلؤ الأميني، وعر الدين عمر بن محلى ووزير الدولة القاضي جمال الدين الأكرم وجمال الدولة إقبال الخاتوني، يحضر بينهم في المشورة. وإذا اتفق رأيهم على شيء، دخل جمال الدولة إقبال الخاتوني، إلى جده السلطان الملك الناصر، والدة الملك العزيز، وعرفها ما اتفق رأي الجماعة عليه، فتأذن لهم في فعله، والعلامات على التواقيع، والمكاتبمات إلى الستر العالي الخاتوني، والدة الملك العزيز. فاتفق رأيهم، على أن سيروا القاضي زين الذين - قاضي حلب - والأمير بدر الدين بدر بن أبي الهيجاء، إلى مصر، رسولين إلى الملك الكامل، ليحلفاه للملك الناصر، ويتوثقا من جهته، واستصحبا معهما كزاغند السلطان الملك العزيز، وزرد يته، وخوذته، ومركو به. فلما وصلا إليه، أظهر الألم والحزن لموته، وقصر في إكرامهما وعطائهما وحلف للملك الناصر، على الوجه الني اقترح عليه، خاطب الرسولين بمأ يشيران به، عنه، من تقدمة الملك الصالح ابن الملك الظاهر "، على العسكر، وأن تكون تربية الملك الناصر إليه، فلم ير الجماعة ذلك. واتفق بعد ذلك بمدة، أن سيّر الملك الكامل خلعة للملك الناصر، بغير مركوب، وسير عدة خلع لأمراء الدولة، وسير مع رسول مفرد خلعة " للملك الصالح"، على أن يجيء إليه إلى "عين تاب"، فاستشعر أرباب الدولة التدبير

خلافة الأخوين

من ذلك، وحصل عند جده السلطان وحشة من ذلك. واتفق رأيهم، على أن لبس السلطان خلعته، ولم يخلع على أحد من الأمراء شيء، مما سيره لهم، وردوا الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته، ولم يمكنوه من الوصول إليه، واستوحشوا من جهة الملك الكامل. خلافة الأخوين وكان الملك الأشرف، قد تتابعت من أخيه، الملك الكامل أفعال أوجبت ضيق صدره، وكان يغض على نفسه، ويحتملها، فمنها أنه أخذ بلاده الشرقية، حين أعطاه دمشق، وأخذ من مضافات دمشق، مواضع متعددة. واتفق أن كيقباذ ملك الروم، أخذ خلاط، فضاق ما في يد الملك الأشرف جداً، وكان ينزل إليه في كل سنة إلى دمشق، في عبوره إلى الشرق، فيقيم بدمشق مدة، فيحتاج الملك الأشرف، في ضيافتة إلى جملة. وقبض على أملاكه التي كانت له بحران، والرقة، وسروج، والرها، ورأس عين، وعلى جميع تمليكاته التي ملكها بتلك الناحية، وفتح آمد، وهو في صحبته، فلم يطلق له من بلادها شيئاً، وخذله في انتزاع خلاط من يد الرومي. فاتفق هو، والملك المجاهد صاحب حمص والملك المظفر صاحب حماة وعزموا على الخروج عليه، وعين لكل واحد منهم شيء من بلاده، وأرسل إلى الملكة الخاتون والأمراء بحلب، وطلبوا موافقتهم على ذلك، وخوفوهم من جهته، وذكروا ما تمتد أطماعه إليه فوافقوهم. وتحالفوا عليه، وسيروا رسلاً من جهتهم إلى ملك الروم كيقباذ، يطلبون منه مثل ذلك. فوصلوا إليه ومات كيقباذ، قبل اجتماعهم به فذكروا رسالتهم لابنه كيخسرو، فحلف لهم على ذلك. واتفقوا كلهم على أن أرسلوا رسلاً من جهتهم، إلى الملك الكامل، إلى مصر، ومعهم رسول من حلب، وقالوا له: إننا قد اتفقنا كلنا، ونطلب منك أنك لا تعود تخرج من مصر، ولا تنزل إلى الشام.

فقال لهم: مبارك، أنتم قد اتفقتم، فما تطلبون من يميني، احلفوا أنتم أيضاً لي: أن لا تقصدوا بلادي، ولا تتعرضوا لشيء مما في يدي وأنا أوافقكم على ما تطلبون. ونزل رسوله، ومرض الملك الأشرف، واشتغل بمرضه، وطال إلى أن مات على ما نذكره. ومما تجدد في حلب، في سنة أربع وثلاثين وستمائة: أن شهاب الدين صاحب شيزر، وكمال الدين عمر بن العجمي، اتفقا، على أن سيرا من جهتهما رجلاً، يقال له العز بن الأطفاني إلى دمشق إلى الملك الأشرف، وحدثاه في أن يقصد حلب، وأنهما يساعدانة بأموالهما. وأوهمه صاحب شيزر أن معظم الأمراء بحلب، يوافقونه على ذلك، وأوهمه ابن العجمي أن أقاربه، وجماعة كبيرة من الحلبيين، يتابعونه، ويشايعونه، ويوافقونه، على ذلك، واشترط على الملك الأشرف، أن يوليه قضاء حلب. فمضى رسولهما إلى الملك الأشرف، واجتمع ببعض خواصه، وذكر له الأمر الذي جاء فيه، فلم يحضره إليه، وأجابهما بأنه: لا تتصور أن يبدر مني غدر، ولا قبيح في حق أحد من ذرية الملك الظاهر. وأخبرني فلك الدين بن المسيري أنه هو الذي كان المتكلم بين الملك الأشرف، وبين رسولهما. ونمي هذا الخبر إلى الملكة، والأمراء، فسيروا من يوقف الرسول واتفق وصوله إلى حلب فقبض في باب العراق وأصعد إلى القلعة، وسئل عن ذلك، فأخبرهم بالحديث على فضه، فحبس الرسول، وحلقت لحيته، وسير إلى دربساك وحبس بها. وأصعد ابن العجمي، وصاحب شيزر، واعتقلا بالقلعة، وأخذت أموال صاحب شيزر جميعها، ولم يتعرض لأموال ابن العجمي، تطييباً لقلوب أهله. وداما في الاعتقال، من جمادى، من سنة أربع وثلاثين إلى أن مات الملك الكامل، في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأطلقا.

تحرك الفرنج

ومما حدث أيضاً، في سنة أربع وثلاثين، أن أميراً من التركمان، يقال له قنغر، جمع إليه جمعاً من التركمان، بعد موت الملك العزيز وعاث في أطراف بلاد حلب، من ناحية قورس، وغيرها. ونهب ضياعاً متعددة، وكان يغير ويدخل إلى بلد الروم، فخرج إليه عسكر من حلب، فكسر ذلك العسكر، ونهبه. وتخوف أمراء حلب، أن يكون ذلك بأمر ملك الروم، فسيروا رسولاً إلى ملك الروم، في معناه، فأنكر ذلك، وأمر برد ما أخذه، من بلد حلب، فرد بعضه، وانكف عن العيث والفساد. وبذل ملك الروم من نفسه الموافقة، والنصرة للملك الناصر، وكف من يقصد بلاده بأذى، فسير له تقدمة سنية، من حلب، على يد شرف الدين ابن أمير جاندار، فأكرم الرسول إكراماً كثيراً. وسير إليه رسول في الباطن، وهو أوحد الدين قاضي خلاط فاستحلفه على الموالاة للملك الناصر، والذب عن بلاده، ودفع من يقصدها. تحرك الفرنج واتفق أيضاً، في هذه السنة، تحرك الداوية، من بغراس، وأغاروا في بلد العمق واستاقوا أغناماً للتركمان، ومواشي لغيرهم كثيرة. فخرج الملك المعظم ابن الملك الناصر يقدم عسكر حلب، ونزلوا على بغراس، وحصروها مدة، حتى ثغروا مواضع من سورها، ونفد ما فيها من الذخائر، وأشرفت على الأخذ، فسير البرنس صاحب أنطاكية وشفع فيهم، بعد أن كان مغاضباً لهم. فرأوا المصلحة، في إجابته إلى ذلك، وعقدوا الهدنة مع الداوية، على بغراس، ورحلوا عنها، ولو أقاموا عليها يومين آخرين، استطاع من فيها الصبر على المدافعة.

وفاة كيقباذ والأشرف

وسار العسكر عن بغراس، بعد أن أخربوها، وبلدها، خراباً شنيعاً. ونزل العسكر الإسلامي بالقرب من دربساك،، فجمع الداوية جموعهم، واستنجدوا بصاحب جبيل وغيره، من الفرنج، وجمعوا راجلاً كثيراً، وساروا من جهة حجر شغلان إلى دربساك، ظناً منهم أن يكبسوا الربض، على غرة من أهله، وأن ينالوا منه غرضاً، فاستعد لهم من بالربض من الأجناد. ونزل جماعة من أجناد القلعة، وقاتلوهم في الربض، قتالاً شديداً، وحموه منهم، واشتغلوا بقتالهم، إلى أن وصل الخبر إلى عسكر حلب، فركبوا، ووصلوا إليهم، وقد تعب الفرنج، وكلت خيولهم، فوقعوا عليهم، فانهزم الفرنج هزيمة شنيعة، وقتل منهم خلق عظيم. واستولى المسلمون على فارسهم وراجلهم، وكان فيهم جماعة من المقدمين واختبأ منهم جماعة من الخيالة، وغيرهم، خلف الأشجار في الجبل، فأخذوا، ولم ينج منهم إلا القليل، ودخلوا بالرؤوس والأسرى إلى حلب، وكان يوماً مشهوداً وحبسوا في القلعة، ثم أنزلوا إلى الخندق. وفتت هذه الوقعة في أعضاد الداوية، بالساحل، ولم ينتعشوا بعدها، وكانوا قد استطالوا على المسلمين والفرنج. وفاة كيقباذ والأشرف ومات في هذه السنة علاء الدين كيقباذ ملك الروم بقيصرية، في أوائل شوال، من سنة أربع وثلاثين وستمائة. وسيرت رسولاً إلى ابنه غياث الدين كيخسرو، القائم في الملك بعده، بالتعزية، وتجدد الأيمان عليه، على القاعدة التي كانت مع أبيه، فحلفته على ذلك، في ذي القعدة. وكان قد قبض هلى قيرخان مقدم الخوارزمية فهرب من بقي منهم، من بلاد الروم، ونهبوا في طريقهم ما قدروا عليه، وعبروا الفرات، واستمالهم الملك الصالح ابن الملك الكامل، وأقطعهم مواضع في الجزيرة.

الملك الكامل في دمشق ووفاته فيها

وتوفي الملك الأشرف بدمشق، لأربع خلون من المحرم، من سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأوصى بها لأخيه الملك الصالح إسماعيل، وجدد الأيمان مع الجماعة، الذين كانوا وافقوا أخاه الملك الأشرف. الملك الكامل في دمشق ووفاته فيها فخرج الملك الكامل من مصر، وقصد دمشق، وسير من حلب نجدة إلى دمشق وكذلك سير الملك المجاهد ولده المنصور إليها، ونزل الملك الكامل على دمشق، وحصرها مدة فرجع الملك المظفر صاحب حماة عن موافقة الجماعة وداخل الملك الكامل، وأطلعه على جميع الأحوال، ووقع بينه وبين صاحب حمص اختلاف. وطلب من صاحب حمص سلمية، لتجري الموافقه على ما كان عليه. فسيرت من حلب، ومعي الأمير علاء الدين طبيغا الظاهري، ليوفق بين صاحب حمص وصاحب حماة، فأبى كل واحد منهما، أن يجيب صاحبه إلى ما يريد. وكان مطلوب صاحب حماة أن يعطيه صاحب حمص سلمية والقلعة التي جددها الملك المجاهد المعروفة بشميميش. فقال الملك المجاهد: هذه ثمينة لي، وقد حلف لي على كل ما بيدي،، وأبى أن يجيبه إلى ذلك. فعدنا إلى حماة، وذكرنا لصاحبها مقالة الملك المجاهد، وأن في ما يحاوله نقضاً للعهد، فقال: هو قد نقض عهدي، وأنفذ ليفسد جماعة من عسكري، وعدد له ذنوباً لا أصل لها، وقال: لا بد من قصده، وإذا نزل الملك الكامل على حمص، نزلت معه عليها وفعلت ما يصل إليه جهدي. ولكن حلب، أبذل نفسي ومالي دون الوصول إلى قرية منها، ولا أرجع عن اليمين التي حلفت بها للستر العالي، والملك الناصر.

فقلت: فالمولى يعلم ما جرى بيننا وبين صاحب حمص، من الأيمان، وما نقض منها عهداً، وإذا قصده قاصد إلى حمص يتعين إنجاده ونصرته. وإذا وصل عسكر من حلب لنجدته، فكيف يفعل المولى؟ فتلجلج، وقال: أنا قاتله، ومن قاتلني قاتلته. فكتبنا بذلك إلى حلب، فجاء الأمر بالتوجه إلى حلب، فسرنا في الحال من غير توديع، حتى وصلنا العبادي ليلة الاثنين، مستهل جمادى الأولى، من سنه خمس وثلاثين وستمائة، فلحقنا المهماندار بالخلع والتسفير، فلم نقبل منه شيئاً. ووصلنا إلى حلب يوم الثلاثاء، فتحقق أنه قد داخل الملك الكامل، وأنه يطالعه بالمتجددات جميعها. وأما دمشق، فإن الملك الكامل، لازم حصارها، حتى صالحه الملك الصالح، على أن أبقى له بعلبك، وبصرى، وأخذ منه دمشق، في تاسع عشر جمادى الأولى، من السنة، ولم يتعرض لنجدة حلب، وحمص، بسوء. وخرجوا من دمشق إلى مستقرهم. ووصل الناصح، وعسكر حلب، إلى حلب، واستدعى الملك المعظم وأقارب السلطان والأمراء، وحلفوا للسلطان الملك الناصر وللخاتون المملكة على طبقاتهم. ثم حلف بعد ذلك أكابر البلد، ورؤساوها. ثم حلف الأجناد والعامة. واستعد الناس للحصار بالذخائر، والأقوات، والحطب، وما يجري مجراه ونقلت أحجار المناجيق إلى أبواب البلد، واستخدم جماعة من الخوارزمية وغيرهم. ووصل قنغر التركماني، فاستخدم بحلب، وقدم على التركمان. وقفز جماعة من العسكر الكاملي إلى حلب، فاستخدموا. وتتابعت الرسل إلى ملك الروم لطلب نجدة، تصل إلى حلب، من

زواج الملك الناصر وفتح معرة النعمان

جهته، فسير نجدة من أجود عساكره، وعرض عليهم أن يسير غيرها، فاكتفوا بمن سيره. وسير ملك الروم رسولاً إلى الملك الكامل، يخاطبه في الامتناع عن قصد حلب، فأمر بالتبريز من دمشق، لقصد حلب، وأخرج الخيم والأعلام، فمرض، ومات بدمشق، في قلعتها، في حادي وعشرين، شهر رجب، من سنة خمس وثلاثين وستمائة. ووصل خبر موته، فعمل له العزاء بحلب، وحضره، السلطان الملك الناصر، يومين، وأمر العسكر، في الحال، بالخروج إلى معرة النعمان فخرج، ونازل معرة النعمان، مع الملك المعظم، ووصل رسول الملك المظفر صاحب حماة يتلطف الحال، فلم يلتفت إليه، ولم يستحضر. وسيرت المجانيق، ونصبت على قلعة المعرة. زواج الملك الناصر وفتح معرة النعمان ووصل في أثناء ذلك، رسول من السلطان غياث الدين كيخسرو، يطلب الوصلة إلى الخاتون الملكة، بأن تزوجه بنت السلطان الملك العزيز، أخت السلطان الملك الناصر، وأن يزوج السلطان الملك الناصر، أخت السلطان غياث الدين. واستقر الأمر على ذلك، واجتمع الناس في دار السلطان، بالقلعة، وعقد عقد السلطان غياث الدين على الست غازية خاتون. وتوليت عقد النكاح على مذهب الإمام أبى حنيفة رضي الله عنه لصغر الزوجة، على خمسين ألف دينار. وقبل النكاح، عن السلطان غياث الدين الرسول الواصل من جهته، عز الدين قاضي دوقات، حينئذ ونثر الذهب، عند الفراغ من العقد. ووصل، عند ذلك، الخبر بفتح معرة النعمان، في تلك الساعة، على جناح طائر وضربت البشائر للأمرين، وذلك في سنة خمس وثلاثين وستمائة.

ابن العديم رسول السلطان

وسار العسكر فنازل حماة، وابتنى صاحبها سوراً من اللبن، على حاضرها، من جهة القبلة، ونهب عسكر حلب بلد حماة ورستاقها. ووصل رسول من الملك الصالح ابن الملك الكامل، يشفع في صاحب حماة، فلم يجب إلى سؤاله فيه، واعتذر إليه بما بدا منه، وطلب الرسول، عن صاحبه، الموافقة والمعاضدة، وأن يسفروا في الصلح، بينه وبين ملك الروم، فأجيب جواباً، لم يحصل منه على طائل. ووردت الرسل من مصر، من الملك العادل، والملك الكامل، يطلبون منه الموافقة، بينه وبين صاحب حلب، وأن يجروا منه، على عادة أبيه، في الصلح، وقامة الدعوة له بحلب، فلم يجب إلى شيء عن ذلك، ورجعت الرسل بغير طائل. وفي هذه السنة، قبض على قنغر التركماني، وحبس بقلعة حلب، ونهبت خيمه ودوابه. ابن العديم رسول السلطان وسيرت من حلب، في الرابع من شوال، سنة خمس وثلاثين وستمائة، إلى بلاد الروم، لعقد الوصلة بين السلطان الملك الناصر، والسلطان غياث الدين كيخسرو، على أخت السلطان كيخسرو، وهي ابنة خالة الملك العزيز، والد الملك الناصر. وسمع السلطان كيخسرو بوصولي، وكان في عزم كيخسرو التوجه إلى ناحية قونية، فتعوق بسببي، وسير بولقا إلى أقجا دربند، قبل وصولي ابلستان يستحثني على الوصول، ويعرفني تعويقه بسببي، ثم سير بولقا آخر، فوصل إلى تحت سمندو يستحثني على الوصول.

قوة الخوارزمية

فأسرعت السير، حتى وصلت إلى قيصرية، والسلطان في الكيقباذية، فاستدعاني إليه، ولم أنزل بقيصرية، واجتمعت به، عند وصولي، يوم الثلاثاء، سادس عشر شوال، من سنة خمس وثلاثين وستمائة. ووقعت الإجابة إلى عقد العقد. ووكل السلطان كمال الدين كاميار، على عقد العقد معي، على أخته ملكة خاتون بنت كيقباذ. ودخلنا في تلك الساعة إلى قيصرية، وأحضر قاضي البلدة، والشهود، وعقدت العقد مع كاميار، على خمسين ألف دينار سلطانية، مثل صداق كيخسرو، الذي كتب عليه لأخت السلطان الملك الناصر. وأظهر في ذلك اليوم من التجمل، وآلات الذهب، والفضة، ما لا يمكن وصفه. ونثرت الدنانير الواصلة، صحبتي، وكانت ألف دينار. ونثر في دار السلطان من الذهب، والدراهم، والثياب، والسكر، شيء كثير. وضربت البشائر في دار السلطان، وأظهر من السرور والفرح، ما لا يوصف. وسيرت، في الحال، بعض أصحابي إلى حلب، مبشراً بذلك كله، فضربت البشائر بحلب، وأفيضت الخلع على المبشر. وعدت إلى حلب، فدخلتها يوم الخميس، تاسع ذي القعدة، والتقاني السلطان الملك الناصر أعز الله نصره يوم وصولي. هذا كله، والعسكر الحلبي محاصر حماة. وكان قبل هذا العقد، سير السلطان كيخسرو الأمير قمر الدين الخادم ويعرف بملك الأرمن رسولاً إلى حلب، وعلى يده توقيع من السلطان الملك الناصر، بالرها، وسروج. واتفق الأمر، معه، على أن خطب له الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل وأقطعه حران، وأقطع الملك المنصور صاحب ماردين سنجار، ونصيبين، والملك المجاهد صاحب حمص عانة، وغرباً من بلد الخابور. وكانت هذه البلاد في يد الملك الصالح ابن الملك الكامل. واتفق الأمر، على أن يأخذ السلطان كيخسرو آمد، وسميساط، وأعمالها. قوة الخوارزمية وكان الخوارزمية، قد خرجوا على الملك الصالح، واستولوا على البلاد

وهرب الملك الصالح منهم. فأنعم على الرسول الواصل إلى حلب، وأعطي عطاء وافراً، وقبل التوقيع منه. ولم تر الملكة الخاتون مضايقة ابن أخيها في البلاد، ولم تتعرض لشيء منها. وبلغه ذلك فسير إليها، وعرض عليها تلك البلاد، وغيرها، وقال: البلاد كلها بحكمك، وإن شئت إرسال نائب يتسلم هذه البلاد، وغيرها، فأرسليه لأسلم إليه ما تأمرين بتسليمه. فشكرته، وطيبت قلبه. واتفق بعد ذلك مع الخوارزمية وأقطعهم: حران، والرها، وغيرهما، بعد أن كانوا اتفقوا مع الملك المنصور صاحب ماردين وقصدوا بلاد الملك الصالح أيوب، وأغاروا عليها، ونزلوا على حران، وأجفل أهلها. وخاف الملك الصالح، فاختفى، ثم ظهر بسنجار، وحصره بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان قد ترك ولده الملك المغيث، بقلعة حران، فخاف من الخوارزمية، وسار مختفياً نحو قلعة جعبر، فطلبوه، ونهبوه ومن معه، وأفلت في شرذمة من أصحابه. ووصل إلى منبج مستجيراً بعمته. فسير إليه من حلب، ورد عن الوصول إليها بوجه لطيف، وقيل له: نخاف أن يطلبك منا سلطان الروم، ولا يمكننا منعك فعاد إلى حران، ووصله كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية والوصول إليه بهم لدفع لؤلؤ، ففعل ذلك، وسار بالخوارزمية، طالبين عسكر الموصل،

الدعوة للسلطان كيخسرو

فانهزموا وأفرجوا عن سنجار، وأدركهم الخوارزمية فقتلوا منهم ونهبوا أثقالهم، وقوي الملك الصالح بهم. ووصل عسكر الروم إلى آمد، ونازلها، وأخذ بعض قلاعها، وتوجه عسكر الخوارزمية إلى جهتهم، فرحلوا عن آمد. ولم ينالوا منها زبدة. الدعوة للسلطان كيخسرو ووصل رسول السلطان كيخسرو، عز الدين، قاضي دوقات، إلى حلب في هذه السنة، وتحدث في إقامة الدعوة للسلطان كيخسرو، وضرب السكة باسمه. وكان الأمراء والعسكر محاصرين حماة، فتوقفت الملكة في ذلك، وأشير عليها بموافقته على ما طلب، فأجابت وخطب له في يوم الجمعة من سنة خمس وثلاثين وستمائة، على منبر حلب. وحضر في ذلك اليوم، الأمير جمال الدولة إقبال، وصعد الرسول إلى المنبر، ونثر الدنانير عند إقامة الدعوة. ونثر جمال الدولة دنانير ودراهم، وخلع على الدعاء، وأظهر من السرور، والاحتفال في ذلك اليوم، شيء عظيم، في مقابلة ما أظهر بقيصرية من الاحتفال يوم عقد الملك الناصر. وطال الحصار على حماة، ولم تكن الملكة الخاتون، توثر أخذها من ابن أختها، وإنما أرادت التضييق عليه، لينزل عن طلب معرة النعمان. وضجر العسكر، فاستدعي إلى حلب المحروسة، فوصل إليها في سنة ست وثلاثين وستمائة. دمشق بين الملوك الجواد والصالح والصالح إسماعيل وكان الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، بعد موت الملك الكامل، قد استولى على دمشق، وعلى الخزائن، التي كانت في صحبة الملك

الكامل، وأظهر الطاعة للملك العادل وأرسل إلى حلب، رسولاً يطلب منهم معاضدته، وانتماءه، فلم يصغوا إلى قوله، وامتنعوا أن يدخلوا بينه وبين الملك العادل. وخاف من الملك العادل، فراسل الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، واتفقا على أن يسلم إلى الملك الصالح دمشق، ويعوضه عنها بالرقة سنجار وعانة، فسار الملك الصالح، من الشرق، والخوارزمية في صحبته في جمادى الأولى. وتقدم الملك الصالح إلى دمشق، وتسلمها من الملك الجواد، في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين. وأرسل إلى عمته إلى حلب، يعرفها بذلك، ويبذل من نفسه الموافقة على ما تريده، ويطلب المساعدة له، والمعاضدة على أخذ مصر، فأجابته بأنها: لا تدخل بينه وبين أخيه، وأنكما ولد أخي، ولم تجبه إلى ما اقترح. وسار الملك الجواد إلى الرقة، فأخرجه الخوارزمية منها، وسار إلى سنجار، فأقام بها مئة، وخرج إلى عانة، فسار بدر الدين لؤلؤ إلى سنجار بعملية كانت له فيها، فاستولى عليها، في شهر ربيع الأول، من سنة سبع وثلاثين. وأما الملك الصالح، فإنه صعد إلى نابلس، وأقام بها، وكاتب الأمر المصريين، وعثر الملك العادل على قضيتهم، فقبض الذين كاتبوه، ولم يتفق للملك الصالح ما أراد. وساق عمه الملك الصالح إسماعيل، من بعلبك والملك المجاهد صاحب حمص منها، ودخلا دمشق، وملكها الملك الصالح، وحصر القلعة يوماً أو يومين، وفتحها، وذلك في شهر ربيع الأول، من سنة سبع وثلاثين وستمائة وقبض على الملك المغيث ابن الملك الصالح، وسجنه بقلعة دمشق.

تحرك الخوارزمية

سمع الملك الصالح بن الكامل بذلك، فتوجه نحو دمشق، حتى وصل إلى العقبة، فلم يجد معه من عسكره من ينصحه، فعاد إلى نابلس، فسير الملك الناصر صاحب الكرك وقبض عليه، وحمله مقيداً إلى الكرك وسجنه بها. وتجددت الوحشة بين الملك الناصر، وبين الملك الصالح، عمه، بسبب استيلائه على دمشق. واتفق الملك العادل وعمه الملك الصالح. فاستوحش الملك الناصر من الملك العادل لذلك، حتى آل الأمر به إلى أن أخرج الملك الصالح بن الكامل من سجن الكرك، وخرج معه، وكاتب الأمراء بمصر، فقبضوا على الملك العادل ببلبيس، في ليلة الجمعة، الثامنة من ذي القعدة، من سنة سبع وثلاثين وستمائة. ووصل الملك الصالح أيوب، فدخل القاهرة، بكرة الأحد الرابع والعشرين من الشهر المذكور. وكنت إذ ذاك بالقاهرة، رسولاً إلى الملك العادل، أهنئه بكسر عسكره الإفرنج على غزة، وأطلب أن يسير عماته بنات الملك العادل، معي إلى أختهن الملكة إلى حلب، فاستحضرني الملك الصالح أيوب، يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة، وقال لي: تقبل الأرض بين يدي الستر العالي، وتعرفها أنني مملوكها، وإنها عندي في محل الملك الكامل، وأنا أعرض نفسي لخدمتها، وامتثال أمرها فيما تأمر به، وحملني مثل هذا القول إلى السلطان الملك الناصر. ونزلت في مصر، فاجتمعت بالملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، في رابع محرم سنة ثمان وثلاثين، وحملني رسالة إلى الملكة الخاتون، يطلب منها معاضدته، ومساعدته على الملك الصالح صاحب مصر إن قصده، فلم تجبه إلى ذلك في ذلك الوقت. تحرك الخوارزمية وكان الخوارزمية، في سنة سبع وثلاثين، قد وضعوا أيديهم على أوشين، من بلد البيرة وطمعوا في أطراف باب البيرة، واستولوا على قلعة حران،

حين كان الملك الصالح محبوساً بالكرك، وامتدت أطماعهم إلى البلاد المجاورة لهم، وكثر تثقيلهم على الملك الحافظ أرسلان ابن الملك العادل، بناحية قلعة جعبر، وهو يداريهم، ويبذل لهم الأموال، وأطماعهم تشتد. واتفق أنه فلج، وخاف من ولده، فأرسل إلى أخته الملكة بحلب يطلب منها أن تقايضه بقلعة جعبر وبالس، إلى شيء تعمل له، بمقدار قلعة جعبر، وبالس. فاتفق الأمر على أن تعوضه بعزاز، ومواضع تعمل بمقدار ذلك. وسير من حلب من تسلم قلعة جعبر، في صفر من سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ووصل الملك الحافظ إلى حلب، في هذا الشهر، وصعد في المحفة ألى القلعة، واجتمع بأخته الملكة، وأنزل في الدار المعروفة بصاحب عين تاب تحت القلعة وسلمت إلى نوابه قلعة عزاز. فخرج الخوارزمية، عند ذلك، وأغاروا على بلد قلعة جعبر، ووصلوا بالس، فأغاروا عليها، ونهبوها، ولم يسلم منها إلا من كان خرج عنها إلى حلب وإلى منبج. وفي هذا الشهر، توفي القاضي. جمال الدين أبو عبد الله، محمد بن عبد الرحمن بن علوان قاضي حلب وولي قضاءها بعده نائبه ابن أخيه كمال إلا أبو العباس، أحمد ابن القاضي زين الدين أبي محمد. وخرج عسكر حلب إلى جهة الخوارزمية، ومقدمهم الملك المعظم تورانشاه، ابن الملك الناصر، فنزلوا بالنقرة، ورحلوا منها إلى منبج، وأقاموا بها مدة. وتجمع الخوارزمية في حران، والحلبيون غير محتفلين بأمرهم وعسكر حلب بعضه في نجدة ملك الروم في مقابلة التتار، وبعضهم في قلعة

جعبر، وبعضهم مفرقون في القلاع، مثل شيزر، وحارم، وغيرهما. وسار الخوارزمية، بجملتهم، في جمع عظيم، ومعهم الملك الجواد بن مودود ابن الملك الحافظ، والملك الصالح ابن الملك المجاهد صاحب حمص، وكان جمعهم يريد على اثني عشر ألفا، وانضم إليهم الأمير علي بن حديثة في جموعه من العرب، وكان استوحش من أهل حلب، لتقريبهم الأحلاف. وعبروا بجملتهم من جسر الرقة، وساروا، حتى وصلوا نهر بوجيار، وسمع بهم من بمنبج، من عسكر حلب، فرحلوا من منبج، ونزلوا في وادي بزاعا، وأصبح كل واحد من الفريقين، يطلب صاحبه، وعسكر حلب لا يزيدون عن ألف وخمسمائة فارس. وتعبأ كل فريق لقتال صاحبه. وأقبل الخوارزمية ومقدمهم بركة خان، ومعه صاروخان، وبردي خان، وكشلوخان. وغيرهم، من أمرائهم، والملك الجواد، وابن الملك الحافظ، وابن صاحب حمص، وعسكر ماردين، نجدة معهم وعبروا نهر الذهب. والتقى الفريقان، على البيرة قرية بالوادي في يوم الخميس رابع عشر، من شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فصدمهم عكسر حلب على قلته، صدمة، تزحزحوا لها، وتكاثر الخوارزمية عليهم. وجاء علي بن حديثة لما، وخرج من بين البساتين، وجاء من وراء عسكر حلب، ووقع في الغلمان، والركابدارية، وأحاطوا بهم، من جميع الجهات، وانهزموا وهم مطبقون عليهم، وجعلوا طريقهم على رصيف الملكة، الذي يأخذ من بزاعا إلى حلب، حتى خرجوا فيما بين ربانا، وتلفيتا.

والخوارزمية في آثارهم يقتلون، ويأسرون، ونزلوا من جهة الإعرابية، وفرفارين، وهم في آثارهم، فقبضوا على الملك المعظم، بعد أن ثبت في المعركة، وجرح جراحات مثخنة، وعلى أخيه نصرة الدين، وقبضوا على عاقة الأمراء، ولم يسلم من العسكر إلا القليل. وقتل في المعركة الملك الصالح، ابن الملك الأفضل، وابن الملك الزاهر، وجماعة كثيرة. واستولوا على ثقل العسكر، ونهب الأحلاف من العرب أكثر ثقل العسكر، وكانوا أشد ضرراً على العسكر، في انتهاب أموالهم من أعدائهم. ونزل الخوارزمية حول حيلان، وامتدوا على النهر، إلى فافين، وقطعوا على جماعة من العكسر أموالاً أخذوها منهم، وابتاعوا بها أنفسهم، وشربو تلك الليلة، وقتلوا جماعة من الأسرى صبراً، فخاف الباقون، وقطعوا أموالاً على أنفسهم، وزنوها فمنهم من خلص، ومنهم من أخذوا منه المال، وغدروا به، ولم يطلقوه. واحتيط بلد حلب، وتقدم إلى مقدمي البلدة بحفظ الأسوار، والأبواب وجفل أهل الحاضر، ومن كان خارج المدينة إلى المدينة، بما قدروا على نقله من أمتعتهم. وبقي في البلد الأميران: شمس الدين لؤلؤ، وعز الدين بن مجلى، في جماعة، لا تبلغ مائتي فارس يركبون، ويخرجون إلى ظاهر المدينة، يتعرفون أخبارهم، وبثوا سراياهم، في أعمال حلب يشنون الغارة فيها، فبلغت خيلهم إلى بلد عزاز، وتل باشر، وبرج الرصاص، وجبل سمعان، وبلد الحوار طرف العمق. وجاؤوا أهل هذه النواحي على غفلة، فلم يستطيعوا أن يهربوا بين أيديهم، ومن أجفل منهم لحقوه، فأخذوا من المواشي والأمتعة، والحرم، والصبيان، ما لا

النجدات ضد الخوارزمية

يحد ولا يوصف وارتكبوا من الفاحشة مع حرم المسلمين، ما لم يفعله أحد من الكفار، إلا ما سمع عن القرامطة. ثم رحلوا إلى بزاعا، والباب،، فعقبوا أهل الموضعين، واستقروهم على أموالهم التي أخذوها، واستصفوها منهم. وقتلوا منهم جماعة ونهبوا ما كان فيها من المتاع والمواشي، وكان بعضهم، قد هرب إلى حلب، وقت الوقعة، بما خف معه من الحرم، والمتاع، فسلم. ثم رحلوا إلى منبج، وقد استعصم أهلها بالسور، ودربوا المواضع التي لا سور لها، فهجموها بالسيف، في يوم الخميس الحادي والعشرين، من شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وثلاثين. وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، وخربوا دورها، ونبشوها، فعثروا فيها على أموال عظيمة، وسبوا أولادهم ونساءهم، وجاهروا الله تعالى بالمعاصي في حرمهم. والتجأ لمة من النساء إلى المسجد الجامع، فدخلوا عليهن، وفحشوا ببعضهن في المسجد الجامع، وكان الواحد منهم يأخذ المرأة، وعلى صدرها ولدها الرضيع، فيأخذه منها، ويضرب به الأرض، ويأخذها، ويمضي. النجدات ضد الخوارزمية ووصل الخبر بكسرة عسكر حلب إلى حمص إلى الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد، وقد عزم على الدخول إلى بلد الفرنج للغارة، وعنده من عسكره وعسكر دمشق مقدار ألف فارس، فساق بمن معه من العسكر ووصل إلى حلب في يوم السبت الثالث والعشرين، من شهر ربيع الآخر. وخرج السلطان وأهل البلد، والتقوه إلى السعدي، ونزل الهزازة، ثم أخليت له في ذلك اليوم دار علم الدين قيصر الظاهري. بمصلى العبد العتيق خارج باب الرابية فأقام بها، واستقر الأمر معه على أن يستخدم

العساكر وتجمع، ووقع التوثق منه، وله، بالأيمان والعهود. وسيرت رسولاً إلى الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل لتحليفه فسرت، ووصلت إلى دمشق، وحلفته في جمادى الآخرة من السنة، وطلبت منه نجدة من عسكره، زيادة على من كان منهم بحلب، فسير نجدة أخرى، وأطلق الأسرى الداوية، الذين كانوا بحلب استكفاء لشرهم. وحين سمع الخوارزمية تجمع العساكر بحلب، عادوا من أقطاعاتهم وتجمعوا بحران، وعزموا على العبور إلى جهة حلب، ومعاجلتهم قبل أن يكثر جمعهم، وظنوا أنهم يبادرون إلى صلحهم. وكان علي بن حديثة، قد انفصل عن الخوارزمية وظاهر بن غنام، قد خدم بحلب، وأمر على سائر العرب، وزوجته الملكة الخاتون بعض جواريها، وأقطعته أقطاعاً ترضيه. فسار الخوارزمية، من حران، في يوم الاثنين سادس عشر شهر رجب، من سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتتابعوا في الرحيل، ووصلوا إلى الرقة، وعبروا الفرات، وبلغ خبرهم إلى حلب، فبرز الملك المنصور خيمته، وضربها شرقي حلب، على أرض النيرب وجبرين، وخرجت العساكر، بخيمها حوله. ووصل الخوارزمية إلى الفايا ثم إلى دير حافر ثم إلى الجبول وامتدوا في أرض النقرة. وأقام الملك المنصور، والعسكر معه، في الخيم ويزك الخوارزمية في تل عرن ويزك الملك المنصور على بوشلا والعربان يناوشون الخوارزمية. وعاث الخوارزمية في البلد، وأحرقوا الأبواب التي في القرى، وأخذوا ما قدروا عليه، وكان الفساد في هذه المرة، أقل من المرة الأولى. وكان البلد قد

أجفل، فلم ينتبهوا إلا ما عجز أهله عن حمله، وتأخر لقاء العسكر الخوارزمية، لأنهم لم يتكملوا العدة. ورحل الخوارزمية، فنزلوا بقرب الصافية، ومضوا إلى سرمين، ونهبوها، ودخلوا دار الدعوة، وكان قد اجتمع فيها أمتعة كثيرة للناس، ظناً منهم أنهم لا يجسرون على قربانها، خوفاً من الإسماعيلية، فدخلوها قهراً، ونهبوا جميع ما كان فيها، ورحلوا إلى معرة النعمان، ونزل العسكر مع الملك المنصور على تل السلطان ثم رحلوا إلى الحيار. ورحل الخوارزمية إلى كفر طاب، وجفل البلد بين أيديهم، وأحرقوا كفر طاب، وساروا إلى شيزر، وتحيز أهلها إلى المدينة التي تحت القلعة، فهجموا الربض، واحتمت المدينة التي تحت القلعة يوماً، ثم هجموها في اليوم الثاني، ونهبوا ما أمكنهم نهبه. وأرسل عليهم أهل القلعة بالجروخ، والحجارة، فقتلوا منهم جماعة وافرة، وبلغهم استعداد عسكر حلب، للقائهم، وأنهم قد وقفوا بينهم وبين بلادهم، للقائهم، فطلبوا ناحية حماة، وجاوزوها إلى جهة القبلة. فسارت العساكر الحلبية، لقصدهم، فقصدوا ناحية سلمية، ثم توجهوا إلى ناحية الرصافة، وبلغ خبرهم عسكر حلب، فركبوا، وطلبوا مقاطعتهم. ووقع جمع من العرب بهم، بقرب الرصافة، وقد تعبت خيولهم، وضعفت لقوة السير، وقلة الزاد والعلف، فألقوا أثقالهم كلها، والغنائم التي كانت معهم من البلاد، وأرسلوا خلفاً ممن كانوا أسروه من بلد حلب، وشيزر، وكفر طاب، وساروا طالبي الرقة مجدين في السير، واشتغل العرب، ومن كان معهم من الجند، بنهب ما ألقوه. ووصل الخوارزمية، إلى الفرات، مقابل الرقة غربي البليل وشماليه بكرة الاثنين خامس شعبان.

خسارة الخوارزمية

وأما الملك المنصور وعسكر حلب، فإنهم وصلوا إلى صفين، وساقوا سوقاً قوياً، ليسبقوا الخوارزمية إلى الماء، ويحولوا بينهم وبين العبور إلى الرقة. فوصلوا بعد وصول الخوارزمية بساعة، فوجدوا الخوارزمية قد احتموا بستان البليل، وأخذوا منها الأبواب، وجعلوها ستائر عليهم، وحفروا خندقاً عليهم، فقاتلوهم إلى بعد العشاء، وأخذوا من الأغنام، التي لهم، شيئاً كثيراً، ولم يكن عندهم علوفة لدوابهم، ولا زاد لأنفسهم، فعادوا في الليل إلى منرلتهم بصفين. ونام جماعة من الرجالة في البليل، فوقع عليهم الخوارزمية فقتلوهم. وعبر الخوارزمية إلى الرقة، وقد هلكت دوابهم إلا القليل، وأكثرهم رجالة، وسروا إلى حران، وأحضروا لهم دواب ركبوها، وتوجهوا إلى حران. وأراد الملك المنصور العبور من جسر قلعة جعبر، فلم يمكنه لقلة العلوفة، فسار بالعساكر إلى البيرة، وعبر من عبرها بالعسكر والجموع. وسار حتى نزل ما بين سروج والرها. ووصل الخوارزمية ليكبسوا اليزك، فعلموا بهم، وناموا في الليل، وركب العسكر، فعادوا والعسكر في آثارهم، إلى سروج، ولم ينالوا زبدة، ووصلوا إلى حران، وجمعوا جمعاً كثيراً، حتى أخذوا عوام حران، وألزموهم بالخروج معهم، ليكثروا بهم السواد. ووصلوا إلى قرب الرها إلى جبل يقال له جلهمان واجتمعوا عليه ورتبوا عسكرهم، وكثروا سوادهم بالجمال، وعملوا رايات من القصب، على الجمال، ليلقوا الرعب في قلوب العسكر، بتكثير السواد. خسارة الخوارزمية وركب العسكر من منزلته، بعد أن وصل رسول، من عسكر الروم، يخبر بوصوله في النجدة، بعد حط الخيم للرحيل، فلم يتوقفوا. وساروا إلى أن وصلوا

إلى الخوارزمية، يوم الأربعاء الحادي والعشرين، من شهر رمضان، سنة ثمان وثلاثين وستمائة. والتقوا، وكسر الخوارزمية، واستبيح عسكرهم، وهربوا، والعساكر في آثارهم، إلى أن حال الليل بينهم وبينهم، فعاد العسكر، ووصل الخوارزمية إلى حران، وأخذوا نساءهم، وهربوا، ورتبوا في قلعة حران والياً من جهة بركة خان وساروا، ووصل الملك المنصور والعساكر إليها، فوكل بالقلعة من يحصرها. وساروا خلف الخوارزمية إلى الخابور، والخوارزمية منهزمون، وألقوا أثقالهم، وبعض أولادهم، ونزلوا في طريقهم على الفرات، فجاءهم السيل في الليل، فأغرق منهم جمعاً كثيراً، ودخلوا إلى بلد عانة واحتموا فيه لأنه بلد الخليفة. وزينت مدينة حلب أياماً لهذه البشرى. وضربت البشائر، ووصلت أعلامهم وأسراؤهم، إلى حلب. واعتصمت القلعة بحران أياماً، ثم سلمت إلى الحلبيين، وأخرج من كان بها من الأمراء، من أمراء حلب وأقارب السلطان. وبادر بدر الدين لؤلؤ إلى نصيبين، وإلى دارا فاستولى عليهما، واستخلص من دارا عم السلطان الملك المعظم تورانشاه، واستدعاه إلى الموصل، وقدم له مراكب، وثياباً، وتحفاً، كثيرة، وسيره إلى العسكر. واستولى العكسر الحلبي، على حران، وسروج، والرها، ورأس عين، وجملين والموزر، والرقة، وأعمال ذلك، واستولى الملك المنصور على بلد الخابور وقرقيسيا. واستولى نواب صاحب الروم على السويداء، بعد استيلاء عسكر حلب عليها، لكونها من أعمال آمد. ووصل نجدة ملك الروم، بعد الكسرة، فسيرت إليهم الخلع، والنفقات.

وساروا إلى آمد، والتقوا بعساكر الروم، وحاصروها إلى أن اتفقوا مع صاحبها ولد الملك الصالح على أن أبقوا بيده حصن كيفا وأعماله، وسلم إليهم آمد. وأقام الخوارزمية. ببلاد الخليفة، إلى أن دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة. وخرجوا إلى ناحية الموصل، واتفقوا مع صاحبها، إلى أن أظهر إليهم المسالمة، وسلم إليهم نصيبين. واتفقوا مع الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل صاحب ميافارقين وسير إلى حلب، وأعلمهم بذلك، وطلب موافقته، واليمين له، على أنه إن قصده سلطان الروم، دافعوا عنه. وكان قد استشعر من جهته، فلم يوافقه الحلبيون على ذلك. ووصل إليه الخوارزمية، واتفقوا على قصد آمد، فبرزت العساكر من حلب، ومقدمها الملك المعظم تورانشاه، وخرجت إلى حران، في صفر، من سنة تسع وثلاثين. وساروا بأجمعهم إلى آمد، ودفعوا الخوارزمية عنها، ورحلوا عنها إلى ميافارقين، فأغاروا على رستاقها، ونهبوا بلدها، واعتصم الخوارزمية بحاضرها، خارج البلد. ووصلت العساكر وأقامت قريباً من ميافارقين، وجرت لهم معهم وقعات، إلى أن تهادنوا، على أن يقطع ملك الروم الخوارزمية، ما كان أقطاعاً لهم في

بلاده، وأنهم يكونون مقيمين في أطراف بلاده، وعلى أن الملكة الخاتون بحلب، تعطي أخاها الملك المظفر، ما تختاره، من غير اشتراط عليها، وعلى أن يكونوا وشهاب الدين غازي سلماً، لمن هو داخل في هدنتهم وكان صاحب ماردين قد حلف للملك الناصر. ورجع العسكر الحلبي، فلم ينتظم من الأمر الذي قرروه شيء، ووصل رسل الملك المظفر، ورسل الخوارزمية. وعادوا عن غير اتفاق. وأطلق أسرى الخوارزمية من حلب. وخرج الملك المظفر والخوارزمية، ووصلوا إلى بلد الموصل. وعاد صاحب ماردين إلى موافقتهم، ونزلوا على الموصل، ونهبوا رستاقها، واستاقوا مواشيها، ثم توجهوا إلى ناحية االخابور، واتفق الأمر على أن ورد الملك المنصور صاحب حمص إلى حلب. وخرج السلطان الملك الناصر، وأكابر المدينة، والتقوه إلى الوضيحي. ووصل إلى ظاهر حلب، ونزل بدار علم الدين قيصر، وجمع العساكر، وتوجه إلى بلاد الجزيرة. ووصل الملك المظفر والخوارزمية بعد أن عبر الملك المنصور الفرات إلى رأس عين، واعتصم أهلها، مع العسكر الذي كان بها، وكان معهم جماعة، من الرماة، والجرخية، من الفرنج، فأفنوا أهلها، ودخلوها، وأخذوا من كان بها من العسكر. ورحل الملك المنصور والعسكر من الفرات إلى حران، فعاد الملك المظفر والخوارزمية إلى ميافارقين، وأطلقوا من كان بها، في صحبتهم، من العسكر الدين أخذوهم من رأس عين.

موقعة المجدل

ثم توجه الملك المنصور والعسكر إلى آمد، واجتمعوا بمن كان بها من عسكر الروم، وأقاموا ينتظرون وصول عساكر الروم، مع الدهليز، لمنازلة ميافارقين. وتوفي الملك الحافظ أرسلان شاه، ابن الملك العادل، بقلعة عزاز ونقل تابوته إلى مدينة حلب. وخرج السلطان إلى الملك الناصر وأعيان البلدة، وصلوا عليه، ودفن في الفردوس، في المكان الذي أنشأته أخته الملكة الخاتون. وتسلم نواب الملك الناصر قلعة عزاز، من نوابه من غير ممانعة، وذلك كله، في ذي الحجة، من سنة تسع وثلاثين وستمائة. موقعة المجدل واتفق أن خرج التتار إلى أرزن الروم، واشتغل الروم بهم، أغاروا إلى بلد خرتبرت، وخاف الملك المنصور والعسكر، من إقامتهم في تلك البلاد، وأنهم لا يأمنون من كبسة تأتي من جهة التتار فعادوا إلى رأس عين فخرج الملك المظفر والخوارزمية، إلى دنيسر، فخرج الملك المنصور إلى الجرجب، وساروا إلى جهتهم. فوصلهم الخبر أنهم قد نزلوا الخابور. فساروا إلى جهتهم، ونزلوا المجدل.

وكان قد انضاف إلى الخوارزمية جمع عظيم، من التركمان، يقدمهم أمير يقال له ابن دودي، حتى بلغ من أمره أنه قال للملك المظفر: أنا أكسرهم بالجوابنة الذين معي. وكان عدتهم سبعين ألف جوبان غير الخيالة من التركمان. ورحل الملك المظفر، حتى نزل قريباً من المجدل، فعلم به الملك المنصور، فأشار الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني بمبادرتهم، والرحيل إليهم في تلك الساعة، فرحلوا ووافوهم، وقد نزلوا، في يوم الخميس، الثالث والعشرين، من صفر، من سنة أربعين وستمائة. فركبوا، والتقى الصفان، فما هو إلا أن التقوا، وولى الملك المظفر منهزماً، والخوارزمية، وحالت الخيم بينهم وبينهم، فسلموا، وقتل منهم جماعة، ووقع العسكر في الخيم، والجركاهات، وبها الأقمشة والنساء، فنهبوا جميع ما في العسكر، وأخذوا النساء وجميع ما كان معهن من الأموال، والحلي، والذهب، ولم يفلت من النساء أحد. ونزل الملك المنصور، في خيمة الملك المظفر، واستولى على خزانته، وعلى جميع ما كان في وطاقه، وغنم العسكر من الخيل، والبغال، والجمال، والآلات، والأغنام، ما لا يحصى. وبلغت الأغنام المنهوبة إلى الموصل وحلب وحماة وحمص، بحيث بيع الرأس من الغنم في العسكر، بأبخس الأثمان، وضربت البشائر بحلب، وزينت أياماً سبعة. وتوجه الملك المنصور، والعساكر إلى حلب، وخرج السلطان الملك

حوادث متفرقة

الناصر إلى قلعة جعبر. وتوجه إلى منبج للقائهم، واجتمع بهم، فوصلوا إلى حلب، يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى، من سنة أربعين وستمائة. وطلع للخاتون الملكة قرحة في مراق البطن، وازداد ورمها، وحدث لها حمى بسببها. وسار الملك المنصور ليلة الجمعة ثالث الشهر. وتوجه في صحبته نجدة من حلب، لتقصد بلاد الفرنج بناحية طرابلس. وقوي مرض الملكة الخاتون، إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى، ليلة الجمعة الحادية عشرة، من جمادى الأولى، من سنة أربعين وستمائة. ودفنت في الحجرة بالقلعة، تجاه الصفة، التي دفن فيها ولدها الملك العزيز رحمهما الله. وكان مولدها بقلعة حلب، حين كانت في ولاية أبيها الملك العادل، إما في سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة، وبلغني أنه كان عنده ضيف، فلما أخبر بولادتها، سماها ضيفة لذلك. حوادث متفرقة وأمر السلطان الملك الناصر في ملكه، ونهى بإشارة وزيره جمال الدين الأكرم والأمير جمال الدولة اقبال الخاتوني. وعلم السلطان في التواقيع، وأشهد عليه بتمليك الأمير جمال الدولة نصف الملوحة، والحصة الجارية في ملك بيت المال بالناعورة. وأقر على نفسه بالبلوغ، وملك الوزير الحصة التي بأيدي نواب بيت المال تقيل ورحاها. وجعل يجلس في دار العدل، في كل يوم اثنين وخميس، بعد الركوب وترفع إليه المظالم. وخلع على أمرائه وكبراء البلد، وأقطع الأمير جمال الدولة عزاز وقلعتها وما كان في يد الملك الحافظ ابن الملك العادل، وجميع ما كان من الحواصل، في

الأماكن المذكورة، وذلك في الحادي والعشرين، من جمادى الأولى من سنة أربعين وستمائة. وعاثت الخوارزمية والتركمان على بلاد الجزيرة، فخرج عسكر حلب، ومقدمهم الأمير جمال الدولة في جمادى الآخرة، وساروا، واجتمعوا في رأس عين. فتجمع الخوارزمية، وانضووا إلى صاحب ماردين، واحتموا بالجبل، فوصل عسكر حلب، ونزلوا مقابلتهم، تحت الجبل، وخندقوا حولهم، وجرت لهم معهم وقعات. وتضرر عسكر حلب، بالمقام، لقلة العلوفة، إلى أن ورد نائب المملكة بالروم وهو الأمير شمس الدين الأصبهاني إلى شهاب الدين غازي والي صاحب ماردين والخوارزمية، وأصلح بينهم على أن يعطى صاحب ماردين رأس عين. وأرضى ملك الروم الخوارزمية بخرتبرت، وشيء من البلاد، والملك المظفر غازي بخلاط. وتوجهت العساكر، والنائب الأصبهاني، في جملتها وخرج السلطان الملك الناصر، وتلقاهم إلى منبج، ودخل النائب إلى حلب، يوم السبت التاسع عشر من شوال. ودخل السلطان والعسكر، يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شوال، وورد مع النائب أموال عظيمة، لتستخدم بها العساكر للقاء التتار وبطلب نجدة من البلاد عليهم، فسير من حلب نجدة، ومقدمها الناصح الفارسي، في ذي الحجة، من سنة أربعين وستمائة. فالتقاهم السلطان غياث الدين، بسيواس، أحسن لقاء، وأعطاهم عطاء سنياً، وفوض تدبير العسكر إلى الناصح أبي المعالي الفارسي، وفرح أهل بلاد الروم وقويت قلوبهم بنجدة حلب. وسار السلطان من سيواس إلى أقشهر، ووصله الخبر بوصول

التتار فسير بعض أمرائه، وعسكر حلب، ليكشفوهم. فوصلوا إليهم، ونشب القتال بينهم. ووقعت بينهم حملات، فانهزم التتار، بين أيديهم، ثم تكاثروا، وحملوا عليهم، فانكسر عسكر الروم وثبت الحلبيون، وجرى بينهم كرات، وخرج عليهم كمينان، من اليمين واليسار فأحدقوا بهم، فلم يسلم منهم إلا من حمل، وخرج من بينهم، وذلك، في يوم الخميس، الثالث عشر من المحرم، سنة إحدى وأربعين وستمائة. وانهزم ملك الروم في الليل، ليلة الجمعة، وأجفل أهل بلاد الروم، إلى حلب وأعمالها، وعاث التركمان في أطراف الروم، ونهبوا من خرج إلى الشام.

§1/1